اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

«رجس نجس» ، فإذا أفرد قيل «نجس» بفتح النون وكسر الجيم» وقرأ (١) ابن السّميفع «أنجاس» بالجمع ، وهي تحتمل أن تكون جمع قراءة الجمهور ، أو جمع قراءة أبي حيوة ، وأراد به نجاسة الحكم ، لا نجاسة العين ، سمّوا نجسا على الذّم.

وقال ابن عبّاس وقتادة «سماهم نجسا ؛ لأنّهم يجنبون ، فلا يغتسلون ، ويحدثون فلا يتوضؤون» (٢) ونقل الزمخشري عن ابن عباس «أنّ أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير» وعن الحسن «من صافح مشركا توضّأ» (٣) وهذا قول الهادي من أئمة الزّيدية.

وأمّا الفقهاء : فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم ، وهذا خلاف ظاهر القرآن ، فلا يرجع عنه إلا بدليل منفصل ، ولا يمكن ادعاء الإجماع فيه لما بينا من الخلاف.

واحتج القاضي على طهارتهم بما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرب من أوانيهم ، وأيضا لو كان نجسا ، لما تبدل ذلك بالإسلام ، وأجاب القائلون بالنجاسة : بأنّ القرآن أقوى من خبر الواحد وبتقدير صحّة الخبر ؛ يجب أن يعتقد أن حل الشرب من إنائهم كان متقدما على نزول هذه الآية من وجهين :

الأول : أنّ هذه السّورة من آخر ما نزل من القرآن ، وأيضا كانت المخالطة مع الكفّار جائزة فحرّمها الله تعالى ، وكانت المعاهدة حاصلة معهم ، فأزالها الله ؛ فلا يبعد أن يقال أيضا : الشرب من أوانيهم ، كان جائزا فحرمه الله.

الثاني : أنّ الأصل حل الشرب من أي إناء كان ، فلو قلنا إنه حرم بحكم الآية ، ثم حل بحكم الخبر ، فقد حصل نسخان ، أما لو قلنا إنّه كان حلالا بحكم الأصل ، والرسول شرب من آنيتهم بحكم الأصل ، ثم جاء التّحريم بهذه الآية ، لم يحصل النّسخ إلّا مرة واحدة ؛ فوجب أن يكون هذا أولى.

وأما قولهم : لو كان الكافر نجس العين ، لما تبدّلت النجاسة بالطّهارة بسبب الإسلام. فهذا قياس في معارضة النّص الصّريح ، وأيضا فالخمرة نجسة العين ، فإذا انقلبت بنفسها خلّا طهرت ، وأيضا إنّ الكافر إذا أسلم ؛ وجب عليه الاغتسال ، إزالة للنجاسة الحاصلة بحكم الكفر ، وهذا ضعيف ؛ فإنّ الأعيان النجسة لا تقبل التّطهير بالغسل ، إنما يطهر بالغسل ما ينجس.

فصل

قالت الحنفيّة : أعضاء المحدث نجسة نجاسة حكمية (٤) ، وبنوا عليه أنّ الماء المستعمل

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٩ ، الدر المصون ٣ / ٤٥٨.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٤٥) وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٨١) عن قتادة.

(٣) أخرجه الطبري (٦ / ٣٤٥) عن الحسن.

(٤) وضابط النجاسة الحكمية : ألّا يكون لها جرم ولا طعم ولا لون ولا ريح ينظر : الباجوري على شرح ابن القاسم ١ / ١٠٦.

٦١

في رفع الحدث نجس ، ثم روى أبو يوسف عن أبي حنيفة : أنّه نجس نجاسة خفيفة ، وروى الحسن بن زياد : أنّه نجس نجاسة غليظة ، وهذه الآية تدلّ على فساد هذا القول ؛ لأن كلمة «إنّما» للحصر ، فاقتضى أن لا نجس إلّا المشرك ، فالقول بأنّ أعضاء المحدث نجسة ، يخالف هذا النّص ، والعجب أن هذا النص صريح في أن المشرك نجس ، وفي أنّ المؤمن ليس بنجس ، ثم إنّ قوما قلبوا القضية ، وقالوا : المشرك طاهر ، والمؤمن حال كونه محدثا نجس ، وزعموا أنّ المياه التي يستعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهرة ، والمياه التي يستعملها أكابر الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة ، مع مخالفة قوله عليه الصلاة والسّلام : «المؤمن لا ينجس حيّا ، ولا ميتا» وأجمعوا على أنّ إنسانا لو حمل محدثا في صلاته لم تبطل صلاته ، ولو كان يده رطبة فوصلت إلى يد محدث لم تنجس يده ، ولو عرق المحدث ووصل العرق إلى ثوبه لم ينجس الثوب ، والقرآن ، والخبر ، والإجماع ، تطابقت على القول بطهارة وأعضاء المحدث ، فكيف يمكن مخالفته؟.

فصل

قيل المراد بالمسجد الحرام : نفس المسجد ، وقيل : جميع الحرم ، وهو الأقرب لقوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وذلك لأن موضع التجارات ليس هو عين المسجد ؛ فلو كان المقصود من هذه الآية المنع من المسجد خاصة ، لما خافوا بسبب هذا المنع من العيلة ، وإنّما يخافون العيلة إذا منعوا من حضور الأسواق والمواسم ، ويؤكد هذا قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الإسراء : ١] مع أنّهم أجمعوا على أنه إنّما رفع الرسول من بيت أم هانىء ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسّلام «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» (١) وهي من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق طولا ، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشّام عرضا ، واعلم أنّ جملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام :

أحدها : الحرم ، فلا يجوز للكافر أن يدخله بحال ذمّيّا كان أو مستأمنا ، لظاهر هذه الآية ، وإذا جاء رسول من دار الكفر إلى الإمام ، والإمام في الحرم ، لا يأذن له في دخول الحرم ، بل يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم ، وإن دخل مشرك الحرم متواريا فمرض فيه ، أخرجناه مريضا ، وإن مات ودفن ولم نعلم نبشناه ، وأخرجنا عظامه إذا أمكن ، وجوّز أهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم.

والقسم الثاني من بلاد الإسلام : الحجاز ، فيجوز للكافر دخولها بالإذن ، ولكن لا يقيم أكثر من ثلاثة أيّام ، مقام السفر ، لما روي عن عمر بن الخطاب ، أنه سمع رسول الله

__________________

(١) أخرجه البيهقي (٩ / ٢٠٨) وعبد الرزاق في «المصنف» (٩٣٥٩) وأخرجه مالك (٢ / ٨٩٣) عن الزهري مرسلا وأخرجه البخاري كتاب الجزية والموادعة : باب إخراج اليهود من جزيرة العرب ومسلم كتاب الوصية : باب ترك الوصية لمن ليس له شيء من حديث ابن عباس.

٦٢

صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لئن عشت إن شاء الله لأخرجنّ اليهود والنّصارى من جزيرة العرب ، حتى لا أدع إلّا مسلما» فمضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأوصى فقال : «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» فلم يتفرّغ لذلك أبو بكر ، وأجلاهم عمر في خلافته ، وأحل لمن يقدم منهم تاجرا ثلاثا (١).

والقسم الثالث : سائر بلاد الإسلام ؛ فيجوز للكافر أن يقيم فيها بذمّة أو أمان ، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم.

فصل

والمراد بقوله (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) يعني العام الذي حجّ فيه أبو بكر بالنّاس ، ونادى علي بالبراءة ، وهو سنة تسع من الهجرة.

قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً). العيلة : الفقر ، يقال : عال الرّجل يعيل عيلة : إذا افتقر. والمعنى : إن خفتم فقرا بسبب منع الكفار : (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) قال مقاتل «أسلم أهل جدة وصنعاء وحنين ، وحملوا الطعام إلى مكّة ، فكفاهم الله ما كانوا يخافون» (٢).

وقال الحسن والضحاك وقتادة : «عوّضهم الله عنها بالجزية» وقيل : أغناهم بالفيء (٣). وقال عكرمة : «أنزل الله عليهم المطر ، وكثر خيرهم» (٤).

فإن قيل : الغرض بهذا الخبر ، إزالة الخوف بالعيلة ، وقوله (إِنْ شاءَ اللهُ) يمنع من فائدة هذا المقصود.

فالجواب من وجوه :

الأول : ألّا يحصل الاعتماد على حصول هذا المطلوب ؛ فيكون الإنسان أبدا متضرّعا إلى الله تعالى في طلب الخيرات ، وفي دفع الآفات.

الثاني : أنّ المقصود من ذكر هذا الشّرط تعليم رعاية الأدب ، كقوله : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ) [الفتح : ٢٧].

الثالث : المقصود : التّنبيه على أنّ حصول هذا المعنى لا يكون في كلّ الأوقات ،

__________________

(١) أخرجه أحمد (٣ / ١١٧) وابن ماجه (١ / ٥١٧) كتاب الجنائز : باب ما جاء في ذكر مرض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٦٢٥) بلفظ أخرجوا اليهود من جزيرة العرب.

وقال البوصيري في «الزوائد» (١ / ٥٤٠) : هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين فقد احتجا بجميع رواته.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٨٢) عن مقاتل وذكره أيضا الرازي في «التفسير الكبير» (١٦ / ٢٢).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٤٧ ـ ٣٤٨) عن الضحاك ومجاهد وقتادة.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٨٢).

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٨٢) والرازي في «التفسير الكبير» (١٦ / ٢٢).

٦٣

وفي جميع الأمكنة ؛ لأنّ إبراهيم عليه الصلاة والسّلام ـ قال في دعائه : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ) [البقرة : ١٢٦] وكلمة «من» للتبعيض ، فقوله ههنا (إِنْ شاءَ اللهُ) المراد منه ذلك التبعيض.

ثم قال : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بأحوالكم ، «حكيم» أي : لا يعطي ولا يمنع إلّا عن حكمة وصواب.

قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية.

لمّا بيّن تعالى حكم المشركين في إظهار البراءة عنهم في أنفسهم ، وفي وجوب مقاتلتهم ، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام ، ذكر بعده حكم أهل الكتاب ، وهو أن يقاتلوا حتى يعطوا الجزية.

قال مجاهد «نزلت حين أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتال الرّوم ، فغزا بعدها غزوة تبوك» (١) وقال الكلبيّ «نزلت في قريظة والنّضير من اليهود ، فصالحهم ، فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام ، وأول ذلّ أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين» (٢).

فإن قيل : أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر ، فكيف أمر بقتالهم؟.

فالجواب : لا يؤمنون كإيمان المؤمنين ؛ فإنّهم إذا قالوا : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، لا يكون ذلك إيمانا بالله.

قوله : (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) أي : لا يحرّمون ما حرّم الله في القرآن ، وبينه الرسول ، وقال أبو زيد : لا يعملون بما في التوراة والإنجيل ، بل حرفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم.

قوله (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) أي : لا يدينون الدّين الحق ، أضاف الاسم إلى الصّفة وقال قتادة : «الحقّ» هو الله ـ عزوجل ـ ؛ أي : لا يدينون دين الله ، ودينه الإسلام (٣). قال أبو عبيدة : معناه : لا يطيعون الله طاعة أهل الحقّ.

قوله : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) بيان للموصول قبله ، والمراد : اليهود والنصارى (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) وهي الخراج المضروب على رقابهم ، و «الجزية» : «فعلة» ، لبيان الهيئة ، ك «الرّكبة». قال الواحديّ : «الجزية : ما يعطى المعاهد على عهده ، وهي «فعلة» من جزى يجزي إذا قضى ما عليه».

قوله : (عَنْ يَدٍ) حال ، أي : يعطوها مقهورين أذلّاء ، وكذلك : (وَهُمْ صاغِرُونَ).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٤٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤١٠) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٨٢).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٨٢).

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٨٢).

٦٤

قال الزمخشريّ «قوله : (عَنْ يَدٍ) إمّا أن يراد به عن يد المعطي ، أو يد الآخذ ، فإن كان المراد به المعطي ففيه وجهان :

أحدهما : عن يد غير ممتنعة ؛ لأنّ من أبى وامتنع لم يعط عن يده ، بخلاف المطيع المنقاد.

وثانيهما : حتى يعطوها عن يد إلى يد نقدا غير نسيئة ، ولا مبعوثا على يد أحد ، ولكن عن يد المعطي إلى يد الآخذ.

وإن كان المراد به : يد الآخذ ، ففيه وجهان :

الأول : حتى يعطوا الجزية عن يد قاهرة مستولية للمسلمين عليهم ، كما تقول : اليد في هذا لفلان.

وثانيها : أنّ المراد : عن إنعام عليهم ؛ لأنّ قبول الجزية منهم ، وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم».

قوله (وَهُمْ صاغِرُونَ) أي : تؤخذ الجزية منهم على الصغار والذل والهوان ، يأتي بها بنفسه ماشيا لا راكبا ، ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس ، ويؤخذ بلحيته ويقال له أدّ الجزية.

وقال الكلبيّ : «إذا أعطى يصفع في قفاه» (١). وقيل : يكتب ويجرّ إلى موضع الإعطاء.

وقيل : إعطاؤه إيّاها هو الصّغار ؛ وقال الشافعيّ «الصّغار : جريان أحكام الإسلام عليهم».

فصل

الكفار فريقان ، منهم عبدة الأوثان وعبدة ما استحسنوا ، فهؤلاء لا يقرّون على دينهم بأخذ الجزية ؛ ويجب قتالهم حتى يقولوا : لا إله إلّا الله ، ويصيروا مؤمنين.

والثاني : أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ؛ فهؤلاء يقرون بالجزية ، والمجوس أيضا سبيلهم سبيل أهل الكتاب ، لقوله عليه الصلاة والسّلام : «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» (٢) ، وأخذه الجزية من مجوس هجر.

فصل

اتّفقت الأمة على جواز أخذ الجزية من أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى (٣) إذا

__________________

(١) انظر المصدر السابق.

(٢) أخرجه مالك (١ / ٢٧٨) والشافعي (٢ / ١٣٠) وعبد الرزاق (٦ / ٦٨ ـ ٦٩) رقم (١٠٠٢٥) وابن أبي شيبة (١٢ / ٢٤٣) وأبو عبيد في «الأموال» رقم (٧٨) والبيهقي (٩ / ١٨٩ ـ ١٩٠) كلهم من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن عمر به قال الحافظ في «الفتح» (٦ / ٢٦١) هذا منقطع مع ثقة رجاله.

(٣) ثبتت مشروعية عقد الذمة بالكتاب والسنة والإجتماع.

أما الكتاب : فقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) ففي هذه ـ

٦٥

لم يكونوا عربا ، واختلفوا في أهل الكتاب العرب وفي غير أهل الكتاب من كفار العجم ؛

__________________

الآية جعل الله نهاية قتالهم إعطاءهم الجزية والتزامها.

وأما السّنة : فما رواه الإمام أحمد عن المغيرة بن شعبة أنه قال لعامل كسرى من حديث طويل «أمرنا نبيّنا رسول ربّنا أن نقاتلكم حتّى تعبدوا الله وحده أو تؤدّوا الجزية» وهذا الحديث يبين أن القتال غايته الإسلام ، أو إعطاء الجزية وما رواه مسلم عن بريدة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أمّر أميرا على سريّة أو جيش أوصاه في خاصّته بتقوى الله ، وبمن معه من المسلمين خيرا ، وقال له : وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال ، فأيّتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم ، ثمّ قال : فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم ، وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم» الحديث ـ وهذا الحديث أيضا يفيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأمر أمراء الجيوش بدعوة الكفار إلى إعطاء الجزية وجعل قبولهم لها سببا في ترك القتال.

وأما الإجماع : فقد أجمع المسلمون على جواز عقد الذمة مع الكفار في الجملة.

وشرع عقد الذمة في السنة الثامنة أو التاسعة من الهجرة وشرعت الذمة في الإسلام لما اشتملت عليه من فوائد كثيرة لعقد الصلات السلمية بين المسلمين وغيرهم ، وقد وضع الإسلام لها قواعد وافية إذا روعيت نشأ عنها صلح دائم فيه الطمأنينة والسلامة والأمن ، فإذا عقد الحربي ذمة مع المسلمين أصبح آمنا على نفسه وولده وماله بعد أن كان دمه مهدرا وولده مسبيّا وماله مغنوما وحماه مستباحا.

ومن فوائدها أنها تعطي الحربي فرصة للاتصال بالمسلمين يعرضون أمامه كتاب الله ، وسنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعاليم دينهم ، ومحاسنه وآدابه ، ورفقه ، وقلة تكاليفه وسهولتها فربما مال قلبه لدين الحق فآمن به وكان من الفائزين ، وقد دخل كثير من الناس في الإسلام عن هذا الطريق فهو في الواقع سبيل سلمي من سبل الدعوة إلى الدين.

واتفق الفقهاء على أن الذمة تعقد لأهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى ، ومن دان بدينهم لقوله تعالى : «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ».

وتعقد للمجوس لما رواه البخاري ، وأبو داود ، والترمذي ، وأحمد عن عمر أنه لم يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذها من مجوس هجر ، وفي رواية أن عمر رضي الله عنه ذكر المجوس فقال ما أدري كيف أصنع في أمرهم ، فقال له عبد الرحمن بن عوف أشهد لسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» رواه الشافعيّ.

واختلفوا في عبدة الأوثان فعند الشافعي ، وأحمد في ظاهر المذهب ، وابن حزم أن غير اليهود ، والنصارى ، والمجوس لا يقبل منهم إلّا الإسلام أو السّيف.

وذهب الحنفية إلى أن عقد الذمة جائز مع جميع الكفار ما عدا مشركي العرب والمرتدين.

وذهب الإمام مالك ، والأوزاعي وفقهاء الشام إلى أنه جائز مع جميع الكفار ما عدا المرتدين.

واستدل الإمام الشافعي بعموم قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) فإنه عام في قتل كل مشرك خص منه أهل الكتاب بقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية ، والمجوس بقوله عليه الصلاة والسّلام «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» فبقي من عداهم داخلا في العموم.

وأما ما ورد في حديث بريدة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإذا لقيت عدوّك من المشركين إلى قوله فسلهم الجزية» فمنسوخ أو محمول على أهل الكتاب.

واستدل الحنفية على جواز عقدها مع غير مشركي العرب والمرتدين بقياس أخذ الجزية على استرقاقهم بجامع أن كلّا فيه استسلام المأخوذ منهم ، ودخولهم في حوزة الإسلام وكف المسلمين عن قتلهم.

٦٦

فذهب الشافعيّ إلى أنّ الجزية على الأديان لا على الأنساب ، فتؤخذ من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ، ولا يؤخذ من أهل الأوثان بحال ؛ لأنّ النبي ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ أخذها من أكيدر دومة ـ وهو رجل من العرب يقال : غسان ـ ، وأخذ من أهل دومة اليمن وعامتهم عرب ؛ وذهب مالك والأوزاعي إلى أنّها تؤخذ من جميع الكفّار.

وقال أبو حنيفة : تؤخذ من أهل الكتاب على العموم ، وتؤخذ من مشركي العجم ، ولا تؤخذ من مشركي العرب. وقال أبو يوسف : لا تؤخذ من العربي كتابيا كان أو مشركا وتؤخذ من العجمي كتابيّا كان أو مشركا ، وأمّا المجوس فاتفقت الصّحابة على أخذ الجزية منهم ؛ لقوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» (١).

فصل

قال القاضي (٢) : قسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كل محتلم دينارا ، وقسم عمر على الفقراء من أهل الذمة اثني عشر درهما ، وعلى الأوساط أربعة وعشرين ، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين ، ولمّا بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معاذا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كلّ حالم دينارا ، أي : بالغ ، ولم يفرّق بين الغني والفقير والوسط ، وذلك دليل على أنها لا تجب على الصبيان ، وكذلك لا تجب على النساء ، إنّما تؤخذ من الأحرار البالغين العقلاء من الرجال.

فصل

تؤخذ الجزية عند أبي حنيفة في أوّل السنة ، وعند الشافعي وغيره في آخرها. وتسقط الجزية بالإسلام والموت عند أبي حنيفة وغيره لقوله عليه الصلاة والسّلام «ليس على المسلم جزية» (٣) وعند الشافعي ـ رضي الله عنه ـ لا تسقط.

فصل

قال بعض العلماء : هؤلاء إنّما أقرّوا على دينهم الباطل بأخذ الجزية حرمة لآبائهم

__________________

واستدلوا على عدم جواز عقدها مع مشركي العرب والمرتدين بأن كفرهم قد تغلظ ، أمّا مشركو العرب فلأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم نشأ بينهم ، والقرآن نزل بلغتهم فالمعجزة في حقهم أظهر ، وأما المرتدون فلأنهم كفروا بربهم بعدما هدوا إلى الإسلام ووقفوا على محاسنه فلا يقبل من الفريقين إلّا الإسلام أو السيف.

واستدل الإمام مالك ، ومن معه بما رواه مسلم عن بريدة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى الإسلام ، إلى أن قال فإن هم أبوا فسلهم الجزية» ، فقد أمره بأخذ الجزية من المشركين من غير فرق بن عربي وعجميّ.

واستدل على عدم جواز أخذها من المرتدين بمثل ما تقدم للحنفية.

(١) تقدم.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٦ / ٢٦.

(٣) أخرجه أبو داود (٢ / ١٨٧) كتاب الخراج والفيء والإمارة : باب في الذمي يسلم على بعض السنة هل عليه جزية الحديث (٣٠٥٣) من طريق قابوس عن أبيه عن ابن عباس.

٦٧

الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل ، وأيضا فكتابهم في أيديهم ، فربّما يتفكرون فيه فيعرفون صدق محمد ونبوته ، فأمهلوا لهذا المعنى.

فصل

طعن ابن الراوندي في القرآن وقال : إنه ذكر في تعظيم كفر النصارى ، قوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) [مريم : ٩٠ ـ ٩١] فبيّن أنّ إظهارهم لهذا القول بلغ إلى هذا الحدّ ، ثم إنّه أخذ منهم دينارا واحدا وأقرهم عليه ، وما منعهم منه.

والجواب : ليس المقصود من أخذ الجزية تقريره على الكفر ، بل المقصود حقن دمه وإمهاله مدّة ، رجاء أنه ربما وقف في هذه المدة على محاسن الإسلام وقوّة دلائله ؛ فينتقل من الكفر إلى الإيمان.

قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(٣٣)

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) الآية.

قرأ عاصم (١) والكسائيّ بتنوين «عزير» ، والباقون من غير تنوين ، فأمّا القراءة الأولى فيحتمل أن يكون اسما عربيا مبتدأ ، و «ابن» خبره ، فتنوينه على الأصل ، ويحتمل أن يكون أعجميا ، ولكنه خفيف اللّفظ ، ك «نوح» ، و «لوط» ، فصرف لخفّة لفظه ، وهذا قول أبي عبيد ، يعني : أنّه تصغير «عزر» ، فحكمه حكم مكبّره ، وقال : هذا ليس منسوبا إلى أبيه ، إنّما هو كقولك : زيد ابن الأمير ، وزيد ابن أخينا ، و «عزير» مبتدأ وما بعده خبره ، وردّ هذا بأنّه ليس بتصغير ، إنّما هو أعجمي ، جاء على هيئة التّصغير في لسان العرب ، ك «سليمان» ، جاء على مثال «عثيمان ، وعميران».

وأمّا القراءة الثانية ؛ فيحتمل حذف التنوين ثلاثة أوجه :

__________________

(١) ينظر : السبعة ص (٣١٣) ، الحجة للقراء السبعة ٤ / ١٨١ ، إعراب القراءات ١ / ٢٣٧ ـ ٢٣٦ ، النشر ٢ / ٢٧٩ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٨٩.

٦٨

أحدها : أنّه حذف التنوين لالتقاء الساكنين على حدّ قراءة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ). قال الفرّاء : نون التنوين في «عزير» ساكنة ، والباء في قوله (ابْنُ اللهِ) ساكنة ، فالتقى ساكنان ، فحذف نون التنوين للتخفيف ؛ وأنشد : [المتقارب]

٢٧٧٦ ـ وألفيته غير مستعتب

ولا ذاكر الله إلّا قليلا (١)

وهو اسم منصرف مرفوع بالابتداء ، و «ابن» خبره.

الثاني : أنّ تنوينه حذف ، لوقوع الابن صفة له ، فإنّه مرفوع بالابتداء ، و «ابن» صفته ، والخبر محذوف ، أي : عزير ابن الله نبّينا ، أو إمامنا ، أو رسولنا ، وقد تقدّم أنّه متى وقع «الابن» صفة بين علمين ، غير مفصول بينه وبين موصوفه ، حذفت ألفه خطّا ، وتنوينه لفظا ، ولا تثبت إلّا ضرورة ، وتقدم الاستشهاد عليه آخر المائدة. ويجوز أن يكون «عزير» خبر مبتدأ مضمر ، أي : نبيّنا عزير ، و «ابن» صفة له ، أو بدل ، أو عطف بيان.

الثالث : أنه إنّما حذف ، لكونه ممنوعا من الصّرف ، للتعريف والعجمة. ولم يرسم في المصحف إلّا بإثبات الألف ، وهي تنصر من يجعله خبرا.

وقال الزمخشري (٢) : (عُزَيْرٌ ابْنُ) مبتدأ وخبره ، كقوله : (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) و «عزير» اسم أعجمي ، ك «عزرائيل ، وعيزار» ولعجمته وتعريفه امتنع صرفه ، ومن صرفه جعله عربيا. وقول من قال بسقوط التنوين ؛ لالتقاء الساكنين ، كقراءة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ) [الاخلاص : ١ ، ٢] ولأنّ «الابن» وقع وصفا ، والخبر محذوف ، وهو «معبودنا» فتمحّل عن مندوحة».

فصل

لمّا حكم تعالى في الآية المتقدّمة على اليهود والنّصارى بأنهم لا يؤمنون بالله ، شرح ذلك في هذه الآية ، بأن نقل عنهم أنهم أثبتوا لله ابنا ومن جوّز ذلك في حق الإله ، فقد أنكر الإله في الحقيقة ، وأيضا بيّن تعالى أنهم بمنزلة المشركين في الشرك وإن كانت طرق القول بالشرك مختلفة ، إذ لا فرق بين من يعبد الصّنم وبين من يعبد المسيح وغيره ، لأنه لا معنى للشرك إلّا أن يتّخذ الإنسان مع الله معبودا ، وهذا معنى الشّرك ، بل لو تأمّلنا لعلمنا أن كفر عابد الوثن أخفّ من كفر النصارى ؛ لأنّ عابد الوثن لا يقول : إنّ هذا الوثن خالق للعالم ، بل يجريه مجرى الشيء الذي يتوسّل به إلى طاعة الله ، والنّصارى يثبتون الحلول والاتحاد وذلك كفر قبيح ؛ فثبت أنّه لا فرق بين هؤلاء الحلولية وبين سائر المشركين.

فإن قيل : اليهود قسمان : منهم مشبهة ، ومنهم موحدة ، كما أنّ المسلمين كذلك ، فهب أنّ المشبهة منهم منكرون لوجود الإله ، فما قولكم في موحدة اليهود؟.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : تفسير الكشاف ٢ / ٢٦٣.

٦٩

فالجواب : أولئك لا يكونوا داخلين تحت هذه الآية ، وإنما وجبت الجزية عليهم ؛ لأنّه لمّا ثبت وجوب الجزية على بعضهم ؛ وجب القول به في حق الكلّ ؛ لأنه لا قائل بالفرق.

وأما النّصارى فيقولون بالأب والابن وروح القدس ، والحلول والاتحاد ، وذلك ينافي الإلهيّة.

وإنّما خصّ الله الطائفتين بقبول الجزية منهم ؛ لأنّهم في الظاهر ألصقوا أنفسهم بموسى وعيسى ـ عليهما الصّلاة والسّلام ـ ، وادّعوا أنهم يعملون بالتوراة والإنجيل ؛ فلأجل تعظيم هذين الرسولين المعظمين ، وكتابيهما المعظمين ، ولتعظيم أسلاف هؤلاء اليهود والنصارى ، لأنهم كانوا على الدّين الحق ، حكم الله بقبول الجزية منهم ، وإلّا ففي الحقيقة لا فرق بينهم وبين المشركين.

فصل

في قوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) أقوال :

أحدها : قال عبيد بن عمير : إنّما قال هذا رجل واحد من اليهود اسمه : فنحاص بن عازوراء ، وهو الذي قال (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ)(١) [آل عمران : ١٨١].

وثانيها : روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال «أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جماعة من اليهود سلام بن مشكم ، والنعمان بن أبي أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ، ولا تزعم أنّ عزيرا ابن الله؟ فنزلت هذه الآية» (٢). وعلى هذين القولين ، فالقائل بهذا بعض اليهود ، وإنما نسب ذلك إلى اليهود بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد ، يقال : فلان ركب الخيول وجالس السّلاطين ، ولعله لم يركب ولم يجالس إلا واحدا.

وثالثها : لعلّ هذا المذهب كان فاشيا فيهم ثمّ انقطع ، فحكى الله ذلك عنهم ، ولا عبرة بإنكار اليهود ذلك ، فإنّ حكاية الله عنهم أصدق ، والسّبب في ذلك ما روى عطية العوفي عن ابن عباس أن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق ، فأنساهم الله التوراة ، ونسخها من صدورهم ، فتضرّع عزير إلى الله وابتهل إليه ، فعاد حفظ التوراة إلى قلبه ؛ فأنذر قومه به فلمّا جرّبوه وجدوه صادقا فيه ، ثم إنّ التابوت نزل بعد دعائه منهم ، فلمّا رأوا التّابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان يعلمهم عزير ؛ فوجدوه مثله ، فقالوا : ما أوتي عزير هذا إلّا أنه ابن الله (٣).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٥٠) وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٨٤).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٥٠) من طريق سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤١٣) وزاد نسبته إلى ابن أبي إسحاق وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٥٠ ـ ٣٥١) وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٨٤).

٧٠

وقال الكلبيّ : «لمّا قتل بختنصّر علماءهم ، فلم يبق فيهم أحد يعرف التوراة ، وكان عزير إذ ذاك صغيرا ؛ فاستصغره فلم يقتله ، فلمّا رجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله عزيرا ، ليجدّد لهم التوراة ، ويكون لهم آية بعد ما أماته مائة عام ، يقال : أتاه ملك بإناء فيه ماء ؛ فسقاه ، فمثلت التوراة في صدره ، فلمّا أتاهم وقال : أنا عزير فكذّبوه وقالوا : إن كنت كما تزعم فأمل علينا التوراة فكتبها لهم ، ثمّ إنّ رجلا قال : إنّ أبي حدّثني عن جدّي أنّ التوراة جعلت في خابية ودفنت في كرم ، فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعرضوها على ما كتب عزير ، فلم يغادر حرفا ، فقالوا : إنّ الله لم يقذف التوراة في قلب رجل إلّا أنه ابنه ، فقالوا : عزير ابن الله» (١).

فصل

وأمّا قول النّصارى المسيح ابن الله ، فظاهر ، وفيه إشكال ، وهو أنّا نقطع أن المسيح عليه الصلاة والسّلام كان مبرأ من دعوة النّاس إلى الأبوة والبنوة ؛ فإنّ هذا أفحش أنواع الكفر ، فكيف يليق بأكابر الأنبياء؟ وإذا كان كذلك ، فكيف يعقل إطباق محبي عيسى من النصارى عليه ، ومن الذي وضع هذا المذهب الفاسد؟.

وأجاب المفسّرون عن هذا : بأنّ أتباع عيسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كانوا على الحقّ بعد ما رفع عيسى حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود ، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له : بولص قتل جماعة من أصحاب عيسى ، ثم قال لليهود : إن كان الحقّ مع عيسى ؛ فقد كفرنا ، والنّار مصيرنا ، ونحن مغبونون إن دخلوا الجنّة ودخلنا النار ، وإني أحتال ؛ فأضلهم حتى يدخلوا النّار ، وكان له فرس يقال له : العقاب ، يقاتل عليه ، فعرقب فرسه ، وأظهر الندامة ، ووضع التراب على رأسه ، فقالت له النّصارى : من أنت؟ قال : بولص عدوكم ، تبت ، فنوديت من السّماء ليس لك توبة إلّا أن تتنصّر ؛ وقد تبت ، فأدخلوه الكنيسة ، ومكث سنة لا يخرج ليلا ولا نهارا ، حتّى تعلّم الإنجيل وقال : نوديت أنّ الله قبل توبتك ؛ فصدقوه وأحبوه.

ثم مضى إلى بيت المقدس ، واستخلف عليهم رجلا اسمه : نسطور ، وعلمه أنّ عيسى ، ومريم والإله كانوا ثلاثة ، وتوجه إلى الرّوم وعلّمهم اللاهوت والنّاسوت ، وقال : ما كان عيسى إنسانا ، ولا جسما ولكنه ابن الله ، وعلّم رجلا يقال له : يعقوب ذلك ، ثم دعا رجلا يقال له ملكا فقال له : إنّ الإله لم يزل ، ولا يزال عيسى ، ثم دعا هؤلاء الثلاثة وقال لكلّ واحد منهم أنت خالصتي فادع النّاس إلى إنجيلك ، ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عنّي ، وإنّي غدا أذبح نفسي لمرضاة عيسى ، ثم دخل المذبح ، فذبح نفسه ، فلمّا كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم النّاس إلى مذهبه ؛ فتبع كلّ واحد منهم طائفة ، فاختلفوا واقتتلوا ، هذا ما حكاه الواحديّ وغيره.

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٨٤) والرازي في «تفسيره» (١٦ / ٢٨).

٧١

قال ابن الخطيب (١) : «والأقرب عندي أن يقال : لعلّه ورد لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التّشريف ، ثم إنّ القوم لأجل عداوة اليهود ؛ ولأجل أن يقاتلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بغلو فاسد في الطّرف الثاني ، فبالغوا وفسّروا لفظ الابن بالبنوة الحقيقية ، والجهال قبلوا ذلك ، وفشا هذا المذهب الفاسد في أتباع عيسى ، والله أعلم بحقيقة الحال».

قوله : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) واعلم أنّ كلّ قول إنّما يقال بالفم ، فما معنى تخصيصهم بهذه الصفة؟ والجواب من وجوه :

أحدها : أنّ معناه قول لا يعضده برهان ، وإنّما هو لفظ يفوهون به فارغ من معنى معتبر لحقه ؛ لأن إثبات الولد للإله مع أنه منزّه عن الحاجة والشهوة ، والمضاجعة ، والمباضعة قول باطل ، ليس له تأثير في العقل ، ونظيره قوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [آل عمران : ١٦٧].

وثانيها : أنّ الإنسان قد يختار مذهبا إمّا على سبيل الكناية ، وإمّا على سبيل الرّمز ، وأمّا إذا صرّح بلسانه فهو الغاية في اختيار ذلك المذهب ، والمعنى على هذا : أنّهم يصرّحون بهذا المذهب ولا يخفونه ألبتة.

وثالثها : أنّ المعنى : أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت هذه المقالة في الأفواه والألسنة والمراد : مبالغتهم في دعوة الخلق إلى هذا المذهب.

قال أهل المعاني : لم يذكر الله قولا مقرونا بالأفواه والألسن إلّا كان ذلك زورا.

قال ابن العربي : «في هذه الآية دليل من قول ربنا تبارك وتعالى على أنّ من أخبر عن كفر غيره الذي لا يجوز لأحد أن يبتدىء به لا حرج عليه ؛ لأنّه إنّما ينطق به على سبيل الاستعظام له والرّد عليه ، ولو شاء ربنا ما تكلم به أحد ، فإذا أمكن من إطلاق الألسنة به فقد أذن بالإخبار عنه ، على معنى إنكاره بالقلب واللسان ، والردّ عليه بالحجّة».

قوله «يضاهئون» قرأ العامة «يضاهون» بضمّ الهاء ، بعدها واو ، وعاصم (٢) بهاء مكسورة ، بعدها همزة مضمومة ، بعدها واو ، فقيل : هما بمعنى واحد ، وهو المشابهة ، وفيه لغتان: «ضاهأت وضاهيت» بالهمز والياء ، والهمز لغة ثقيف.

وقيل : الياء فرع عن الهمزة ، كما قالوا : قرأت وقريت ، وتوضّأت وتوضّيت ، وأخطأت وأخطيت. وقيل : بل «يضاهئون» بالهمز مأخوذ من «يضاهيون» ، فلمّا ضمّت

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٦ / ٢٨.

(٢) ينظر : السبعة ص (٣١٤) ، الحجة للقراء السبعة ٤ / ١٨٦ ، حجة القراءات ص (٣١٦ ـ ٣١٧) ، إعراب القراءات ١ / ٢٤٦ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٩٠.

٧٢

الياء قلبت همزة ، وهذا خطأ ؛ لأنّ مثل هذه الياء لا تثبت في هذا الموضع حتى تقلب همزة ، بل يؤدي تصريفه إلى حذف الياء ، نحو : يرامون ، من «الرمي» ، ويماشون ، من «المشي» وزعم بعضهم : أنّه مأخوذ من قولهم : «امرأة ضهيا» بالقصر ، وهي التي لا ثدي لها ، أو الّتي لا تحيض ، سمّيت بذلك ، لمشابهتها الرجال ، يقال : امرأة ضهيا ، بالقصر وضهياء ، بالمد ، ك : حمراء ، وضهياءة ، بالمدّ وتاء التأنيث ، ثلاث لغات ، وشذّ الجمع بين علامتي تأنيث في هذه اللّفظة ، حكى اللغة الثالثة الجرميّ ، عن أبي عمرو الشيباني.

قيل : وقول من زعم أنّ المضاهأة بالهمز مأخوذة من : امرأة ضهياء ، في لغاتها الثلاث ، فقوله خطأ ، لاختلاف المادتين ، فإنّ الهمزة في «امرأة ضهياء» زائدة في اللّغات الثلاث ، وهي في «المضاهأة» أصلية.

فإن قيل : لم لم يدّع أنّ همزة «ضهياء» أصلية وباؤها زائدة؟.

فالجواب : أنّ «فعيلا» بفتح الياء لم يثبت.

فإن قيل : فلم لم يدّع أنّ وزنها «فعلل» ، ك : «جعفر»؟.

فالجواب : أنه قد ثبت زيادة الهمزة في «ضهياء» بالمدّ ، فثبت في اللّغة الأخرى ، وهذه قاعدة تصريفية ، والكلام على حذف مضاف تقديره : يضاهي قولهم قول الذين ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فانقلب ضمير رفع بعد أن كان ضمير جرّ.

والجمهور على الوقف على «بأفواههم» ، ويبتدئون ب «يضاهئون».

وقيل : الباء تتعلّق بالفعل بعدها ، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حذف هذا المضاف. واستضعف أبو البقاء قراءة عاصم ، وليس بجيّد لتواترها ، وقال أحمد بن يحيى : لم يتابع أحد عاصما على الهمز.

والمضاهاة : المشابهة ، في قول أكثر أهل اللّغة. وقال شمر : «المضاهاة : المتابعة ، يقال : فلان يضاهي فلانا ، أي : يتابعه».

فصل

قال مجاهد : «يضاهئون» قول المشركين من قبل ، كانوا يقولون : اللّات والعزّى بنات الله» (١).

وقال قتادة والسديّ : «ضاهت النصارى قول اليهود من قبل ، فقالوا : المسيح ابن الله ، كقول اليهود من قبل عزير ابن الله ؛ لأنهم أقدم منهم» (٢) وقال الحسن : «شبّه كفرهم

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٨٥).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٥٢) عن قتادة والسدي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤١٥) عن قتادة وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

٧٣

بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة» كما قال في مشركي العرب : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ)(١) [البقرة : ١٢٨].

وقال القتيبي : «يريد من كان في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليهود والنصارى ، يقولون ما قال أسلافهم».

قوله (قاتَلَهُمُ اللهُ) قال ابن عبّاس : لعنهم الله (٢). وقال ابن جريج : قتلهم الله (٣).

وقيل : هذا بمعنى التّعجب من شناعة قولهم ، كما يقال : ركبوا شنيعا ، قاتلهم الله ما أعجب فعلهم ، وهذا التعجب إنّما هو راجع إلى الخلق ، والله لا يتعجّب من شيء ، ولكن هذا الخطاب على عادة العرب في مخاطبتهم ، والله عجب منهم في تركهم الحق وإصرارهم على الباطل.

(أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي : كيف يصرفون عن الحق بعد قيام الأدلة عليه.

قوله (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ).

الأحبار : العلماء. قال أبو عبيد : «الأحبار : الفقهاء قد اختلفوا في واحده ، فقال بعضهم : «حبر» ، وقال بعضهم «حبر». وقال الأصمعيّ : لا أدري أهو الحبر أو الحبر». وكان أبو الهيثم يقول : «واحد «الأحبار» «حبر» بالفتح لا غير ، وينكر الكسر» وكان الليث ، وابن السّكيت يقولان «حبر» و «حبر» للعالم ذمّيّا كان أو مسلما ، بعد أن يكون من أهل الكتاب». وقال أهل المعاني : «الحبر» : العالم الذي صناعته تحبير المعاني بحسن البيان عنها ، وإتقانها ، ومنه : ثوب محبر ، أي : جمع الزينة ، والرّاهب : الذي تمكنت الخشية والرهبة في قلبه ، وظهرت آثار الرهبة على وجهه ولباسه. وفي عرف الاستعمال ، صار الأحبار مختصا بعلماء اليهود من ولد هارون.

والرّهبان : علماء النّصارى أصحاب الصّوامع. ومعنى اتخاذهم أربابا : أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم ، واستحلّوا ما أحلوا ، وحرموا ما حرموا.

قال أكثر المفسرين : «ليس المراد من الأرباب أنّهم اعتقدوا إلهيتهم ، بل المراد : أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم».

قال عدي بن حاتم : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي عنقي صليب من ذهب وهو يقرأ سورة براءة ، فقال : «يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك» فطرحته ، ثم انتهى إلى قوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) فقلت : إنّا لسنا نعبدهم ، فقال : «أليس

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٨٥).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٥٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤١٥) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٨٥).

٧٤

يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ويحلون ما حرّم الله ؛ فتستحلّونه؟» قال قلت : بلى ، قال : «فتلك عبادتهم» (١).

وقال الربيع : قلت لأبي العالية : كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال : إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان ؛ فكانوا يأخذون بأقوالهم ويتركون حكم كتاب الله تعالى. فإن قيل : إنّه تعالى لمّا كفرهم بسبب طاعتهم للأحبار والرّهبان ، فالفاسق يطيع الشيطان ؛ فوجب الحكم بكفره على ما هو قول الخوارج.

فالجواب : أنّ الفاسق إن كان يطيع الشيطان إلّا أنّه لا يعظّمه ، لكنه يلعنه ، فظهر الفرق.

فصل

قوله (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) عطف على «رهبانهم» ، والمفعول الثّاني محذوف ، والتقدير : اتخذ اليهود أحبارهم أربابا ، والنصارى رهبانهم والمسيح ابن مريم أربابا ، وهذا لأمن اللّبس خلط الضمير في «اتّخذوا» ، وإن كان مقسما لليهود والنّصارى ، وهذا مراد أبي البقاء في قوله : «أي : واتخذوا المسيح ربّا ، فحذف الفعل وأحد المفعولين». وجوّز فيه أيضا أن يكون منصوبا بفعل مقدر أي : وعبدوا المسيح ابن مريم.

ثم قال : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : سبحانه أن يكون له شريك في الأمر والتكليف ، وفي كونه معبودا ، وفي وجوب نهاية التعظيم.

قوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) الآية.

ذكر عن رؤساء اليهود والنصارى نوعا ثالثا من أفعالهم القبيحة ، وهو سعيهم في إبطال أمر محمد عليه الصلاة والسّلام. والمراد من «النور» قال الكلبيّ : هو القرآن (٢) ، أي : يردّوا القرآن بألسنتهم تكذيبا. وقيل : النور : الدّلائل الدّالة على صحة نبوته وشرعه وقوة دينه. وسمى الدلائل نورا ؛ لأنّ النور يهتدى به إلى الصّواب.

قوله : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ أَنْ يُتِمَّ) مفعول به ، وإنّما دخل الاستثناء المفرغ في الموجب ؛ لأنّه في معنى النفي ، فقال الأخفش الصغير «معنى يأبى : يمنع» وقال الفرّاء (٣) : «دخلت «إلّا» لأن في الكلام طرفا من الجحد» وقال الزمخشريّ : «أجرى «أبى» مجرى «لم يرد» ، ألا ترى كيف قوبل : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا) بقوله : (وَيَأْبَى اللهُ) ، وأوقع موقع : ولا يريد الله إلا أن يتمّ نوره؟».

__________________

(١) تقدم.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٨٦).

(٣) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٤٣٣.

٧٥

والتقدير : لا يريد إلا أن يتمّ نوره ، إلّا أنّ الإباء يفيد زيادة عدم الإرادة ، وهي المنع والامتناع.

والدليل عليه قوله عليه‌السلام : «وإذا أرادوا ظلمنا أبينا» (١) فامتدح بذلك ، ولا يجوز أن يمتدح بأنّه يكره الظلم ؛ لأنّ ذلك يصح من القوي والضعيف.

وقال الزّجاج (٢) «إنّ المستثنى منه محذوف ، تقديره : ويأبى أي : ويكره كلّ شيء إلّا أن يتمّ نوره» وقد جمع أبو البقاء بين مذهب الزجاج ، ومذهب غيره فجعلهما مذهبا واحدا فقال(٣): «يأبى بمعنى : يكره ، ويكره بمعنى يمنع ، فلذلك استثنى ، لما فيه من معنى النّفي ، والتقدير : يأبى كلّ شيء إلّا إتمام نوره». أي : يعلي دينه ويظهر كلمته ، ويتم الحق الذي بعث به محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ). يعني : الذي يأبى إلّا إتمام دينه ، هو الذي أرسل رسوله محمدا : «بالهدى» ، أي : القرآن ، وقيل : ببيان الفرائض (وَدِينِ الْحَقِّ) وهو الاسلام ، «ليظهره» ليعليه وينصره ، (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) على سائر الأديان كلها (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) فإن قيل : ظاهر قوله (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) يقتضي كونه غالبا لجميع الأديان ، وليس الأمر كذلك ، فإن الإسلام لم يصر غالبا لسائر الأديان في أرض الهند والصين وسائر أراضي الكفرة.

فالجواب من وجوه :

أحدها : قال ابن عباس «الهاء في «ليظهره» عائدة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : ليعلمه شرائع الدّين كلها ، فيظهره عليها حتى لا يخفى عليه منها شيء» (٤).

وثانيها : قال أبو هريرة والضحاك : هذا وعد من الله تعالى بأنه يجعل الإسلام عاليا على جميع الأديان وتمام هذا يحصل عند خروج عيسى عليه الصّلاة والسّلام.

وروى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نزول عيسى قال : «ويهلك في زمانه الملل كلّها إلّا الإسلام» (٥).

وروى المقداد قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلّا أدخله الله كلمة الإسلام ، بعزّ عزيز ، أو بذلّ ذليل ، إمّا أن يعزّهم الله فيجعلهم من أهله فيعزّوا به ، وإمّا أن يذلّهم فيدينون له» (٦).

__________________

(١) أخرجه البخاري (٧ / ٤٦١) كتاب المغازي : باب غزوة الخندق وهي الأحزاب حديث (٤١٠٦) من حديث البراء.

(٢) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٢ / ٤٩٢.

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ٢ / ١٤.

(٤) انظر المصدر السابق.

(٥) أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (٢ / ٤٣٧).

(٦) أخرجه أحمد (٦ / ٤) والحاكم (٤ / ٤٣٠) والبيهقي (٩ / ١٨١) والبخاري في «التاريخ الكبير» (٢ / ١٥١) ـ

٧٦

وقال السديّ : ذلك عند خروج المهدي ، لا يبقى أحد إلّا دخل في الإسلام ، أو أدّى الخراج (١).

وثالثها : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) في جزيرة العرب ، وقد حصل ذلك ، فإنّه تعالى ما أبقى فيها أحدا من الكفّار.

ورابعها : أنّه لا دين يخالف دين الإسلام ، إلّا وقد قهرهم المسلمون ، وظهروا عليهم في بعض المواضع ، وإن لم يكن ذلك في جميع مواضعهم ، فقهروا اليهود ، وأخرجوهم من بلاد العرب ، وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما والاها إلى ناحية الرّوم والغرب ، وغلبوا المجوس على ملكهم ، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم ممّا يلي الترك والهند.

وخامسها : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) بالحجّة والبيان ، وهذا ضعيف ؛ لأنّ هذا وعد بأنه تعالى سيفعله ، والقوة بالحجّة والبيان كانت حاصلة من أوّل الأمر. ويمكن أن يجاب عنه ، بأنّه في مبدأ الأمر كثرت الشبهات ، بسبب ضعف المؤمنين ، واستيلاء الكفّار ، ومنعهم للنّاس من التأمل في تلك الدلائل ، وأمّا بعد قوة الإسلام ، وعجز الكفّار ، ضعفت الشبهات فقوي دلائل الإسلام.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)(٣٥)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) الآية.

لمّا وصف اليهود والنصارى بالتكبّر وادعاء الربوبية ، وصفهم في هذه الآية بالطّمع والحرص على أخذ أموال الناس بالباطل. فقوله : «كثيرا» يدلّ على أنّ هذه طريقة بعضهم ، لا طريقة الكل ، فإنّ العالم لا يخلو عن الحق ، وإطباق الكل على الباطل ،

__________________

ـ وابن حبان (١٦٣١ ـ موارد) والطبراني في «الكبير» (٢٠ / ٢٥٤ ـ ٢٥٥) رقم (٦٠١) عن المقداد بن الأسود.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره الهيثمي في «المجمع» (٦ / ١٧) وقال : .... ورجال الطبراني رجال الصحيح. وله شاهد من حديث تميم الداري :

أخرجه أحمد (٤ / ١٠٣) والطبراني (٢ / ٥٨) رقم (١٢٨٠) والبيهقي (٩ / ١٨١).

وذكره الهيثمي في «المجمع» (٦ / ١٧) وقال : رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح.

(١) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١٦ / ٣٣).

٧٧

كالممتنع ، وهذا يدلّ على أنّ إجماع هذه الأمة على الباطل ، لا يحصل ؛ فكذلك في سائر الأمم ، وعبّر عن أخذ الأموال ب «الأكل» ؛ إمّا لأنّ المقصود الأعظم من جمع الأموال الأكل ، فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده ، وإمّا لأنّ من أكل شيئا ، فقد ضمّه إلى نفسه ، ومنع غيره من الوصول إليه ؛ وإمّا لأنّ من أخذ أموال الناس ، إذا طولب بردّها ، قال : أكلتها ، فلهذه الوجوه سمى الأخذ بالأكل.

واختلفوا في تفسير هذا «الباطل». فقيل : كانوا يأخذون الرشا في تخفيف الأحكام ، والمسامحة في الشرائع ، وقيل : كانوا يدّعون عند العوام منهم ، أنّه لا سبيل إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلّا بخدمتهم وطاعتهم ، وبذل الأموال في مرضاتهم ، والعوام كانوا يغترّون بتلك الأكاذيب ، وقيل : كانوا يغيّرون الآيات الدّالة على مبعث محمد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، وعلى صدقه ، ويذكرون في تأويلها وجوها فاسدة ، ويطيّبون قلوب عوامهم بهذا السّبب ، ويأخذون الرشوة عليها ، وقيل : كانوا يحرّفون كتاب الله ، ويكتبون كتبا ويقولون هذه من عند الله ، ويأخذون بها ثمنا قليلا من سفلتهم.

قوله (وَيَصُدُّونَ) يحتمل أن يكون متعديا ، أي : يصدّون النّاس ، وأن يكون قاصرا ، كذا قال أبو حيان (١) ، وفيه نظر ؛ لأنّه متعدّ فقط ، وإنّما يحذف مفعوله ، ويراد ، أو لا يراد ، كقوله (كُلُوا وَاشْرَبُوا) [البقرة : ٦٠].

قوله (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ) الجمهور على قراءته بالواو ، وفيها تأويلان :

أحدهما : أنّها استئنافية ، و «الذين» مبتدأ ضمّن معنى الشرط ، ولذلك دخلت الفاء في خبره.

الثاني : أنّه من أوصاف الكثير من الأحبار والرّهبان ، وهو قول عثمان ومعاوية.

قال زيد بن وهب : مررت بأبي ذر بالربذة ، فقلت : يا أبا ذرّ ما أنزلك هذه البلاد؟ فقال : كنت بالشام ، فقرأت : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) فقال معاوية : هذه الآية في أهل الكتاب ، فقلت : إنها فيهم وفينا ، فصار ذلك سببا للوحشة بين وبينه ، فكتب إليّ عثمان أن أقبل إليّ ، فلمّا قدمت المدينة انحرف النّاس عنّي ؛ كأنهم لم يروني من قبل ، فشكوت ذلك إلى عثمان ، فقال لي : تنح قريبا ، فقلت : والله إنّي لم أدع ما كنت أقول (٢).

ويجوز أن يكون «الّذين» منصوبا بفعل مقدر ، يفسّره «فبشّرهم» وهو أرجح ، لمكان الأمر.

وقرأ طلحة (٣) بن مصرف «الّذين» بغير واو ، وهي تحتمل الوجهين المتقدمين ، ولكنّ

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٨.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٦١) وذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ٣٥).

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٧ ، البحر المحيط ٥ / ٣٨ ، الدر المصون ٣ / ٤٦٠.

٧٨

كونها من أوصاف الكثير من الأحبار والرّهبان أظهر من الاستئناف ، عكس التي بالواو.

و «الكنز» الجمع والضّم ، ومنه : ناقة كناز ، أي : منضمّة الخلق. ولا يختص بالذهب والفضة ، بل يقال في غيرهما ، وإن غلب عليهما ؛ قال : [البسيط]

٢٧٧٧ ـ لا درّ درّي إن أطعمت جائعهم

قرف الحتيّ وعندي البرّ مكنوز (١)

وقال آخر : [الرجز]

٢٧٧٨ ـ على شديد لحمه كناز

بات ينزّيني على أوفاز (٢)

قوله : (وَلا يُنْفِقُونَها) تقدّم شيئان وعاد الضمير مفردا ، فقيل : إنه من باب ما حذف ، لدلالة الكلام عليه ، والتقدير : والذين يكنزون الذهب ولا ينفقونه. وقيل : يعود على المكنوزات ، ودلّ على هذا جزؤه المذكور ؛ لأنّ المكنوز أعمّ من النقدين وغيرهما ، فلمّا ذكر الجزء دلّ على الكل ، فعاد الضمير جمعا بهذا الاعتبار ؛ ونظيره قول الآخر : [الطويل]

٢٧٧٩ ـ ولو حلفت بين الصّفا أمّ عامر

ومروتها بالله برّت يمينها (٣)

أي : ومروة مكة ، عاد الضمير عليها لمّا ذكر جزؤها ، وهو الصّفا ، كذا استدل به ابن مالك ، وفيه إحتمال ، وهو أن يكون الضمير عائدا على «الصّفا» ، وأنّث حملا على المعنى ، إذ هو في معنى البقعة والحدبة.

وقيل : الضمير يعود على الذهب ؛ لأنّ تأنيثه أشهر ، ويكون قد حذف بعد الفضة أيضا.

وقيل : إنّ كلّ واحد منهما جملة وافية ، دنانير ودراهم ، فهو كقوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩].

وقيل : التقدير : ولا ينفقون الكنوز.

وقال الزجاج «ولا ينفقون تلك الأموال» وقيل : يعود على الزّكاة.

وقال القرطبيّ «قال ابن الأنباريّ : قصد الأغلب والأعم وهي الفضة ، ومثله قوله : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة : ٤٥].

ردّ الكناية إلى الصلاة ؛ لأنّها أعم ، ومثله : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] فأعاد الهاء إلى التجارة ؛ لأنها الأهم». وردّ هذا بعضهم ، قال : ليس هذا نظيره ؛ لأنّ «أو» فصلت التجارة عن اللهو ، فحسن عود الضمير على أحدهما».

__________________

(١) البيت للمتنخل الهذلي في ديوان الهذليين ٢ / ١٥ شرح أشعار الهذليين ٣ / ٢٦٣ الكتاب ٢ / ٨٩ جمهرة اللغة ٦٧ سمط اللآلي (١٥٧) شرح أبيات سيبويه ١ / ٥٥٠ المعاني الكبير (٣٨٤) ولسان العرب [برر][كنز] وللهذلي في الكتاب ٢ / ٨٩ ولأبي ذؤيب في الحيوان ٥ / ٢٨٥ شرح شواهد الشافية ٤٨٨.

(٢) ينظر الشطر الثاني في اللسان ٦ / ٤٨٨٢ [وفز] البحر المحيط ٥ / ٣٧.

ورواية اللسان :

أسوق عيرا مائل الجهاز

صعبا ينزيني على أوفاز

(٣) البيت في الدر المصون ٣ / ٤٦٠.

٧٩

وإنّما خصّ الذهب والفضة بالذّكر من بين سائر الأموال ؛ لأنهما الأصل المعتبر في الأموال ، وهما اللذان يقصدان بالكنز ، ثم قال : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي : فأخبرهم على سبيل التّهكم لأنّ الذين يكنزون الذّهب والفضة ، إنّما يكنزوهما ، ليتوسّلوا بهما إلى تحصيل الفرج يوم الحاجة فقيل : هذا يوم الفرج ، كما يقال : تحيتهم ليس إلّا الضرب ، وإكرامهم ليس إلا الشتم وأيضا : فالبشارة : عبارة عن الخير الذي يؤثر في القلب ؛ فيتغير بسببه لون بشرة الوجه وهذا يتناول ما إذا تغيّرت البشرة بسبب الفرح أو بالغم.

قوله : (يَوْمَ يُحْمى) منصوب بقوله : (بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

وقيل : بمحذوف يدلّ عليه «عذاب» أي : يعذّبون يوم يحمى ، وقيل : هو منصوب ب «أليم». وقيل : الأصل : عذاب يوم ، و «عذاب» بدل من «عذاب» الأوّل ، فلمّا حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه. وقيل : منصوب بقول مضمر ، وسيأتي بيانه.

و «يحمى» يجوز أن يكون من : حميت أو أحميت ثلاثيا ورباعيا ، يقال : حميت الحديدة ، وأحميتها ، أي : أوقدت عليها ، لتحمى ، والفاعل المحذوف هو «النّار» تقديره : يوم تحمى النار عليها ، فلما حذف الفاعل ، ذهبت علامة التأنيث ، لذهابه كقولك : رفعت القضية إلى الأمير ، ثم تقول : رفع إلى الأمير.

وقيل : لأنّ تأنيث «النّار» مجازي ، والفعل غير مسند في الظّاهر إليه ، بل إلى قوله «عليها» فلهذا حسن التّذكير والتأنيث.

وقيل : المعنى : يحمى الوقود. وقرأ (١) الحسن «تحمى» بالتّاء من فوق ، أي : النّار ، وهي تؤيد التأويل الأوّل.

وقرأ أبو حيوة (٢) «يكوى» بالياء من تحت ؛ لأنّ تأنيث الفاعل مجازيّ.

وقرأ الجمهور : «جباههم» بالإظهار وقرأ أبو عمرو (٣) في بعض طرقه بالإدغام ، كما أدغم (سَلَكَكُمْ) [المدثر : ٤٢] ، و (مَناسِكَكُمْ) [البقرة : ٢٠٠] ، ومثل «جباهم» ، (وُجُوهُهُمْ) [آل عمران : ١٠٦] ، والمشهور الإظهار.

قوله : (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) معمول لقول محذوف أي : يقال لهم ذلك يوم يحمى. وقوله : (ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) أي : جزاء ما كنتم ؛ لأنّ المكنوز لا يذاق و «ما» يجوز أن تكون بمعنى «الذي» ، فالعائد محذوف ، وأن تكون مصدرية. وقرىء (٤) «تكنزون» بضم عين المضارع ، وهما لغتان ، يقال : كنز يكنز ، ويكنز ، ك : يقتل.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٦٨ ، المحرر الوجيز ٣ / ٢٩ ، البحر المحيط ٥ / ٣٩ ، الدر المصون ٣ / ٤٦١.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٦٨ ، البحر المحيط ٥ / ٣٩ ، الدر المصون ٣ / ٤٦١.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٩ ، البحر المحيط ٥ / ٣٩ ، الدر المصون ٣ / ٤٦١.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٠ ، الدر المصون ٣ / ٤٦١.

٨٠