اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

ملكه «حكيم» مصيب في أحكامه وأفعاله.

قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) الآية.

قال الفراء : «أم» من الاستفهام الذي يتوسط الكلام ، ولو أريد به الابتداء لكان ب «الألف» أو ب «هل».

فصل

هذا ترغيب في الجهاد قيل : هذا خطاب للمنافقين ، وقيل : للمؤمنين الذي شق عليهم القتال ، فقال : أحسبتم أن تتركوا فلا تأمروا بالجهاد ، ولا تمتحنوا ، ليظهر الصادق من الكاذب ، (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ) أي يرى الله الذين جاهدوا منكم ، وذكر العلم والمراد منه : المعلوم ، فالمراد أن يصدر الجهاد عنهم ، إلّا أنه لما كان وجود الشيء يلزمه أن يكون معلوم الوجود عند الله ، لا جرم جعل علم الله بوجوده كناية عن وجوده.

قوله (وَلَمْ يَتَّخِذُوا) يجوز في هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنّها داخلة في حيّز الصلة ، لعطفها عليها ، أي : الذين جاهدوا ولم يتّخذوا.

الثاني : أنّها في محلّ نصب على الحال من فاعل : «جاهدوا» أي : جاهدوا حال كونهم غير متخذين وليجة.

و : «وليجة» مفعول ، و (مِنْ دُونِ اللهِ) إمّا مفعول ثان ، إن كان الاتخاذ بمعنى التّصيير ، وإمّا متعلق بالاتخاذ ، إن كان على بابه ، والوليجة : فعيلة ، من الولوج ، وهو الدّخول ، و «الوليجة» من يداخلك في باطن أمورك ، وقال أبو عبيدة : «كلّ شىء أدخلته في شيء وليس منه ، والرجل في القوم وليس منهم ، يقال له وليجة» ويستعمل بلفظ واحد ، للمفرد ، والمثنى ، والمجموع ، وقد يجمع على «ولائج» وولج ، ك : صحيفة ، وصحائف ، وصحف وأنشدوا لعبادة بن صفوان الغنوي : [الطويل]

٢٧٧٠ ـ ولائجهم في كلّ مبدى ومحضر

إلى كلّ من يرجى ومن يتخوّف (١)

فصل

معنى الآية : (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) بطانة ، وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم.

وقال قتادة : «وليجة» خيانة (٢). وقال الضّحّاك. «خديعة» (٣). والمقصود من ذكر

__________________

(١) البيت من شواهد البحر ٥ / ٢٠ ، والدر المصون ٣ / ٤٥٣.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٩٠) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر. وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٧٣).

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٧٣).

٤١

هذا الشّرط : أنّ المجاهد قد يجاهد ولا يكون مخلصا ، بل يكون منافقا باطنه خلاف ظاهره ، فبيّن أنّه لا بد وأن يأتوا بالجهاد مع الإخلاص خاليا عن الرياء ، والنفاق ، والتّودّد إلى الكفار.

والمقصود : بيان أنّه ليس الغرض منه إيجاب القتال فقط ، بل الغرض أن يؤتى به انقيادا لأمر الله ، ولحكمه وتكليفه ، ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان الله فحينئذ يحصل به الانتفاع.

قوله : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) قرأ الحسن (١) «بما يعملون» بالغيبة على الالتفات ، وبها قرأ يعقوب في رواية سلّام ، أي : عالم بنياتهم ، وأغراضهم ، لا يخفى عليه منها شيء.

قال ابن عبّاس : إنّ الله لا يرضى أن يكون الباطن خلاف الظّاهر ، ولا الظّاهر خلاف الباطن ، وإنّما يريد من خلقه الاستقامة ، كما قال (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) [فصلت : ٣٠] ، قال : ولمّا فرض القتال ، تميّز المنافق من غيره ، وتميّز من يوالي المؤمنين ممّن يعاديهم (٢).

قوله تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)(١٨)

قوله تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) الآية.

اعلم أنّه تعالى بدأ السّورة بذكر البراءة من الكفّار ، وبالغ في ذلك ، وذكر من أنواع قبائحهم ما يوجب تلك البراءة ، ثمّ إنّه تعالى حكى عنهم شبها احتجوا بها في أنّ هذه البراءة غير جائزة ، وأنّه يجب مخالطتهم ومناصرتهم ، فأولها هذه الآية ، وذلك أنّهم ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدة توجب مخالطتهم ومعاونتهم ، ومناصرتهم ، ومن جملة تلك الصّفات ، كونهم عامرين للمسجد الحرام.

قال ابن عبّاس : لمّا أسر العبّاس يوم بدر ، وعيّره المسلمون بالكفر ، وقطيعة الرّحم ، وأغلظ له عليّ القول ، فقال العبّاس : ما لكم تذكرون مساوئنا ، ولا تذكرون محاسننا؟ فقال له عليّ : ألكم محاسن؟ فقال : نعم ، إنّا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحاجّ ، ونفكّ العاني ؛ فأنزل الله تعالى ردّا على العبّاس : (ما كانَ

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٠ ، الدر المصون ٣ / ٤٥٣.

(٢) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١٦ / ٦) عن ابن عباس.

٤٢

لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) أي : ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله ، أوجب على المسلمين منعهم من ذلك ؛ لأنّ المساجد تعمر لعبادة الله وحده (١).

واعلم أنّ عمارة المسجد قسمان :

إمّا بلزومها وكثرة إتيانها ، يقال : فلان يعمر مجلس فلان إذا كثر غشيانه ، وإمّا بالعمارة المعروفة بالبناء ، فإن كان المراد هو الثاني كان المعنى أنّه ليس للكافر أن يقدم على مرمّة المسجد ، لأنّ المسجد موضع العبادة ، فيجب أن يعظم ، والكافر يهينه ، وأيضا فالكافر نجس في الحكم ، لقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة : ٢٨] ، وتطهير المسجد واجب ، لقوله تعالى : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ) [البقرة : ١٢٥] ، وأيضا فالكافر لا يحترز من النّجاسة ، فدخوله المسجد تلويث للمسجد ، وقد يؤدّي إلى فساد عبادة المصلين.

وأيضا إقدامه على مرمة المسجد يجري مجرى الإنعام على المصلين ، ولا يجوز أن يصير الكافر صاحب المنّة على المسلمين ، وقد ذهب جماعة منهم الواحديّ ؛ إلى أنّ المراد منه : العمارة المعروفة من بناء المسجد ، ومرمته عند الخراب ، فيمنع منه الكافر ، حتى ولو أوصى بها لم تقبل ، ويمنع من دخول المساجد ، وإن دخل بغير إذن استحق التعزير ، وإن دخل بإذن لم يعزر ، والأولى تعظيم المساجد ، ومنعهم منها ، وقد أنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد ثقيف في المسجد وهم كفّار ، وشد ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد ، وهو كافر ، وحمل بعضهم العمارة على المسجد على الوجه الأول.

(أَنْ يَعْمُرُوا) اسم «كان». قرأ ابن (٢) السميفع «يعمروا» بضم الياء وكسر الميم ، من : «أعمر» رباعيا ، والمعنى : أن يعينوا على عمارته. وقرأ (٣) ابن كثير ، وأبو عمرو «مسجد الله» بالإفراد ، وهي تحتمل وجهين ، أن يراد به مسجد بعينه ، وهو المسجد الحرام ، لقوله (وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [التوبة : ١٩] ، وأن يكون اسم جنس ، فيندرج فيه سائر المساجد ، ويدخل المسجد الحرام دخولا أوليّا وقرأ (٤) الباقون : «مساجد» بالجمع ، وهي أيضا محتملة للأمرين ، ووجه الجمع إمّا لأنّ كلّ بقعة من المسجد الحرام يقال لها : مسجد ، وإمّا لأنه قبلة سائر المساجد ، فصحّ أن يطلق عليه لفظ الجمع لذلك.

[قال الفرّاء : ربما ذهب العرب بالواحد إلى الجمع ، وبالجمع إلى الواحد ألا ترى إلى الرجل يركب البرذون ؛ فيقول : أخذت في ركوب البراذين ، وفلان يجالس الملوك ، وهو لا يجلس إلا مع ملك واحد ، ويقال : فلان كثير الدرهم والدينار يريد : الدراهم والدنانير](٥).

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٧٣) والرازي في «التفسير الكبير» (١٦ / ٧) عن ابن عباس.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٠ ، الدر المصون ٣ / ٤٥٣.

(٣) ينظر : السبعة ص (٣١٣) ، الحجة ٤ / ١٧٨ ـ ١٨٠ ، حجة القراءات ص (٣١٦) ، إعراب القراءات ١ / ٢٣٦ ، النشر ٢ / ٢٨٧ ، إتحاف ٢ / ٨٨.

(٤) انظر السابق.

(٥) سقط في ب.

٤٣

قوله : «شاهدين» الجمهور على قراءته بالياء نصبا على الحال من فاعل : «يعمروا» أراد : وهم شاهدون. وقرأ زيد (١) بن علي : «شاهدون» بالواو رفعا على خبر ابتداء مضمر ، والجملة حال أيضا.

قوله (عَلى أَنْفُسِهِمْ) الجمهور على «أنفسهم» جمع «نفس» وقرىء (٢) «أنفسهم» بضم الفاء ، ووجهها أن يراد ب «الأنفس» ـ وهو الأشرف الأجل من النّفاسة ـ : رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قيل : لأنه ليس بطن من بطون العرب إلّا وله فيهم ولادة ، وهذا المعنى منقول في تفسير قراءة الجمهور أيضا ، وهو مع هذه القراءة أوضح.

فصل

قال الحسن : «لم يقولوا نحن كفار ، ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر» (٣).

وقال الضحاك عن ابن عبّاس : «شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام ، فكانوا يطوفون بالبيت عراة ، وكانت أصنامهم منصوبة بخارج البيت الحرام عند القواعد ، وكلّما طافوا شوطا سجدوا لأصنامهم ، ولم يزدادوا بذلك من الله إلّا بعدا» (٤).

وقال السدي : «شهادتهم على أنفسهم بالكفر ، هو أن النصراني يسأل من أنت؟ فيقول: أنا نصراني ، واليهودي يقول أنا يهودي ، ويقال للمشرك ما دينك؟ فيقول : مشرك»(٥).

وقيل : إنّهم كانوا يقولون : لبيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه وما ملك ، ونقل عن ابن عباس أنه قال : «المراد أنهم يشهدون على الرسول بالكفر ، قال : وإنّما جاز هذا التفسير ، لقوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ)(٦) [التوبة : ١٢٨].

قال القاضي «هذا عدول عن الحقيقة ، وإنما يجوز المصير إليه لو تعذّر إجراء اللفظ على حقيقته ، أمّا لما بيّنا أنّ ذلك جائز لم يجز المصير إلى هذا المجاز».

قوله (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) لأنها لغير الله ، ثم قال : (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) هذه جملة مستأنفة و (فِي النَّارِ) متعلق بالخبر ، وقدّم للاهتمام به ، ولأجل الفاصلة.

وقال أبو البقاء (٧) : «وهم خالدون في النّار ، وقد وقع الظرف بين حرف العطف

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢١ ، الدر المصون ٣ / ٤٥٣.

(٢) انظر السابق.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٧٤) عن الحسن.

(٤) انظر المصدر السابق.

(٥) انظر المصدر السابق وذكره أيضا الرازي في «التفسير الكبير» (١٦ / ٨).

(٦) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١٦ / ٨) عن ابن عباس.

(٧) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ٢ / ١٣.

٤٤

والمعطوف» وفيه نظر ، من حيث إنّه يوهم أنّ الجملة معطوفة على ما قبلها ، عطف المفرد على مثله تقديرا ، وليس كذلك ، بل هي مستأنفة ، وإذا كانت مستأنفة فلا يقال فيها : فصل الظّرف بين حرف العطف والمعطوف ، وإنّما ذلك في المتعاطفين المفردين ، أو ما في تأويلهما ، وقد تقدّم تحقيقه في قوله تعالى : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) [البقرة : ٢٠١] وفي قوله: (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء : ٥٨].

وقرأ زيد (١) بن علي خالدين بالياء ، نصبا على الحال من الضمير المستتر في الجارّ قبله ، لأنّ الجارّ صار خبرا ، كقولك : في الدار زيد قاعدا ، فقد رفع زيد بن علي «شاهدين» ، ونصب «خالدون» عكس قراءة الجمهور فيها.

فصل

احتج أهل السّنّة بهذه الآية على أنّ الفاسق من أهل الصّلاة ، لا يخلد في النار من وجهين:

الأول : أن قوله (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) يفيد الحصر ، أي : هم فيها خالدون لا غيرهم ؛ لأنّ هذا الكلام إنّما ورد في حق الكفار.

الثاني : أنّه تعالى جعل الخلود في النار للكافر جزاء على كفره ، ولو كان هذا الحكم ثابتا لغير الكفار ، لما صحّ تهديد الكافر به.

قوله : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ) جمهور القراء على الجمع ، وقرأ الجحدريّ (٢) ، وحماد بن أبي سلمة عن ابن كثير بالإفراد ، والتّوجيه يؤخذ ممّا تقدّم ، والظّاهر أن الجمع هنا حقيقة ؛ لأن المراد : جميع المؤمنين العامرين لجميع مساجد أقطار الأرض.

فصل

اعلم أنّه تعالى لمّا بيّن أنّ الكافر ليس له أن يشتغل بعمارة المسجد ، بيّن أنّ المشتغل بهذا العمل يجب أن يكون موصوفا بصفات أربع ، فقال : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) فبين أنه لا بدّ من الإيمان بالله ؛ لأن المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبد الله فيه ، والكافر يمتنع منه ذلك ، وأمّا كونه مؤمنا باليوم الآخر ، لأنّ عبادة الله إنّما تفيد في القيامة ، فمن أنكر القيامة ، لم يعبد الله ، ومن لم يعبد الله ، لم يبن بناء لعبادة الله.

فإن قيل : لم لم يذكر الإيمان بالرّسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ؟.

فالجواب : من وجوه :

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢١ ، الدر المصون ٣ / ٤٥٣.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٥٤ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٥ ، البحر المحيط ٥ / ٢١ ، الدر المصون ٣ / ٤٥٤.

٤٥

الأول : أنّ المشركين كانوا يقولون : إنّ محمدا إنّما ادّعى الرّسالة طلبا للرئاسة ، فذكر ههنا الإيمان بالله واليوم الآخر ، وترك ذكر النّبوة ، كأنه يقول : مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلّا الإيمان بالمبدأ والمعاد ، فذكر المقصود الأصليّ ، وحذف ذكر النبوة ، تنبيها للكفار على أنّه لا مطلوب له من الرسالة إلّا هذا القدر.

الثاني : أنه لمّا ذكر الصّلاة ، والصلاة لا تتم إلّا بالأذان والإقامة والتشهد ، وهذه الأشياء مشتملة على ذكر النبوة ، فكان كافيا.

الثالث : أنّه ذكر الصّلاة ، والمفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق ، والمعهود عند المسلمين هي الأعمال التي كان يأتي بها محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ فكان ذكر الصّلاة دليلا على النبوة ، وأمّا قوله (وَأَقامَ الصَّلاةَ) فلأنّ المقصود الأعظم من بناء المسجد إقامة الصلاة ، وأمّا قوله (وَآتَى الزَّكاةَ) فلأنّ الإنسان إذا كان مقيما للصلاة ، فإنّه يحضر في المسجد ، وفي المسجد طوائف الفقراء والمساكين ، لطلب أخذ الزّكاة ، فتحصل عمارة المسجد ، وإن حملنا العمارة على البناء ، فلأن الظّاهر أنّ الإنسان إذا لم يؤدّ الزكاة لا يعمر مسجدا.

وأما قوله (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) أي : لا يبني المسجد لأجل الرّياء والسمعة ، ولكن يبنيه لمجرد طلب رضوان الله.

روي أنّ أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ بنى في أول الإسلام على باب داره مسجدا ، فكان يصلي فيه ، ويقرأ القرآن ، والكفار يؤذونه بسببه ، فيحتمل أن يكون المراد منه تلك الحالة ، ولمّا حصر عمارة المساجد فيمن كان موصوفا بهذه الصفات الأربع ، نبّه بذلك على أنّ المسجد يجب صونه عن غير العبادة فيدخل فيه فضول الحديث ، وإصلاح مهمات الدنيا. قال عليه الصلاة والسّلام «يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقا ، ذكرهم الدّنيا ، وحبّ الدّنيا ، لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة» (١) وقال عليه الصلاة والسّلام «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش» (٢) ، وقال عليه الصلاة والسّلام ، قال الله تعالى : «إن بيوتي في الأرض المساجد ، وإنّ زوّاري فيها عمّارها ، فطوبى لعبد تطهّر في بيته ثمّ زارني في بيتي ، فحقّ على المزور أن يكرم زائره» (٣) ، وقال عليه الصلاة والسّلام «من ألف المساجد ألفه

__________________

(١) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٤ / ٣٢٣) من حديث أنس بن مالك ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(٢) ذكره الغزالي في «الإحياء» (١ / ١٥٢) بهذا اللفظ وقال الحافظ العراقي لم أقف له على أصل.

وذكره الشيخ علي القاري في «الأسرار المرفوعة» رقم (٤٢٢) وأقر قول العراقي.

(٣) أخرجه الطبراني كما في «مجمع الزوائد» (٢ / ٢٥) وقال الهيثمي : وفيه عبد الله بن يعقوب الكرماني وهو ضعيف.

٤٦

الله» (١) ، وقال عليه الصلاة والسّلام «إذا رأيتم الرّجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان» (٢) ، وقال عليه الصلاة والسّلام «من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضؤوه» (٣) ، وهذه الأحاديث نقلها الزمخشريّ.

قوله (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) قال المفسرون : «عسى» من الله واجب ، لكونه متعاليا عن الشّك والتردد.

وقال أبو مسلم : «عسى» ههنا راجع إلى العباد ، وهو يفيد الرجاء ، فكان المعنى : إنّ الذين يأتون بهذه الطاعات ، إنّما يأتون بها على رجاء الفوز بالاهتداء ، لقوله تعالى : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) [السجدة : ١٦] والتحقيق فيه : أنّ العبد عند الإتيان بهذه الأعمال ، لا يقطع على الفوز بالثّواب ؛ لأنه يجوز من نفسه أنه قد أخلّ بقيد من القيود المعتبرة في حصول القبول ، وقال الزمخشريّ «المراد منه تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء ، وحسم لأطماعهم من الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها». فبيّن تعالى أنّ الذين آمنوا وضمّوا إلى إيمانهم العمل بالشرائع ، والخشية من الله فهؤلاء صار حصول الاهتداء لهم دائرا بين «لعلّ» و «عسى» ، فما بال هؤلاء المشركين ، يقطعون بأنّهم مهتدون ، ويجزمون بفوزهم بالخير من عند الله تعالى.

قوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(٢٢)

قوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) الآية.

الجمهور على قراءة «سقاية» ، و «عمارة» مصدرين على «فعالة» ، ك : الضّيافة ، والوقاية والتّجارة ، ولم تقلب الياء همزة ، لتحصّنها بتاء التأنيث ، بخلاف «رداءة ،

__________________

(١) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٢ / ٢٦) وقال : رواه الطبراني في الأوسط وفيه ابن لهيعة وفيه كلام.

(٢) أخرجه الترمذي (٢٦٢٠) وابن ماجه (٨٠٢) وأحمد (٣ / ٧٦) وابن خزيمة (٢ / ٣٧٩) رقم (١٥٠٢) والحاكم (٢ / ٣٣٢) والدارمي (١ / ٢٧٨) وابن حبان (٣١٠ ـ موارد) وأبو نعيم (٨ / ٣٢٧) والخطيب في «تاريخ بغداد» (٥ / ٤٥٩) من طريق دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٩٤) وعزاه لسليم الرازي في الترغيب عن أنس مرفوعا.

٤٧

وعباءة» ، لطروء تاء التأنيث فيهما ، قاله الزمخشريّ. واعلم أنّ : السّقاية فعل ، وقوله من (آمَنَ بِاللهِ) إشارة إلى الفاعل ، فظاهر اللفظ يقتضي تشبيه الفعل بالفاعل ، والصفة بالموصوف ، وإنّه محال ، وحينئذ فلا بدّ من حذف مضاف ، إمّا من الأول ، وإمّا من الثّاني ، ليتصادق المجعولان ، والتقدير : أجعلتم أهل سقاية الحاجّ ، وعمارة المسجد الحرام كمن آمن ، أو أجعلتم السقاية والعمارة كإيمان من آمن ، أو كعمل من آمن ، ونظيره : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) [البقرة : ١٧٧] ، وقيل : السّقاية والعمارة يعني : السّاقي والعامر ، وهذا كقوله : (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) ، أي : للمتقين ، والمعنى : أجعلتم ساقي الحاج وعامر المسجد الحرام ك من (آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). ويدلّ عليه قراءة أبي وابن الزبير والباقين كما يأتي قريبا.

وقرأ ابن الزّبير (١) ، والباقر ، وأبو وجزة «سقاة ... وعمرة» بضمّ السين ، وبعد الألف تاء التأنيث ، و «عمرة» بفتح العين والميم دون ألف ، وهما جمع «ساق» ، و «عامر» ، كما يقال : قاض وقضاة ، ورام ورماة ، وبارّ وبررة ، وفاجر وفجرة.

والأصل : سقية ، فقلبت الياء ألفا ، لتحركها وانفتاح ما قبلها ، ولا حاجة هنا إلى تقدير حذف مضاف ، وإن احتيج إليه في قراءة الجمهور.

وقرأ سعيد (٢) بن جبير كذلك ، إلّا أنه نصب «المسجد الحرام» ب «عمرة» ، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين ؛ كقوله : [المتقارب]

٢٧٧١ ـ .........

ولا ذاكر الله إلّا قليلا (٣)

وقوله (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ). وقرأ الضحاك (٤) «سقاية» ، «عمرة» ، وهما جمعان أيضا ، وفي جمع «ساق» على «فعالة» نظر لا يخفى ، والذي ينبغي أن يقال : أن يجعل هذا جمعا ل «سقي» و «السّقي» هو الشيء المسقي ك «الرّعي ، والطّحن». و «فعل» يجمع على «فعال» ، قالوا : ظئر وظؤار ، وكان من حقه ألا تدخل عليه تاء التأنيث ، كما لم تدخل في : «ظؤار» ، ولكنه أنّث الجمع ، كما أنّث في قولهم : «حجارة ، وفحولة» ، ولا بدّ حينئذ من تقدير مضاف ، أي : أجعلتم أصحاب الأشياء المسقيّة كمن آمن؟.

فصل

روى النّعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رجل : لا أبالي ألّا

__________________

(١) ينظر : إتحاف ٢ / ٨٨ ، الكشاف ٢ / ٢٥٦ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٦ ، البحر المحيط ٥ / ٢٢ ، الدر المصون ٣ / ٤٥٤.

(٢) ينظر : السابق.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : إتحاف ٢ / ٨٨ ، الكشاف ٢ / ٢٥٦ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٦ والبحر المحيط ٥ / ٢٢ ، الدر المصون ٣ / ٤٥٤.

٤٨

أعمل عملا بعد الإسلام ، إلا أن أسقي الحاج ، وقال آخر : ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام ، وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل ممّا قلتم ، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يوم الجمعة ـ ولكن إذا صلّيت دخلت واستفتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أختلفتم فيه ، فدخل ، فأنزل الله عزوجل هذه الآية إلى قوله: (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(١).

وقال ابن عبّاس «إنّ عليّا أغلظ الكلام للعبّاس حين أسر يوم بدر ، فقال العبّاس : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام ، والهجرة ، والجهاد ، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونسقي الحاج ، فأنزل الله هذه الآية. وأخبر أنّ عمارتهم المسجد الحرام ، وقيامهم على السقاية ، لا ينفعهم مع الشرك بالله ، وأنّ الإيمان بالله ، والجهاد مع نبيه خير ممّا هم عليه» (٢).

وقال الحسن والشعبيّ ومحمد بن كعب القرظيّ «نزلت في عليّ بن أبي طالب ، والعباس ، وطلحة بن أبي شيبة ، افتخروا ، فقال طلحة : أنا صاحب البيت ، بيدي مفتاحه ، ولو أردت بتّ فيه ، وقال العبّاس : أنا صاحب السّقاية ، والقائم عليها ، وقال علي : لا أدري ما تقولون ، لقد صلّيت إلى القبلة ستة أشهر قبل النّاس ، وأنا صاحب الجهاد ، فأنزل الله هذه الآية» (٣).

وقيل : إنّ عليّا قال للعباس بعد إسلامه : يا عم ألا تهاجرون ، ألا تلحقون برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : ألست في أفضل من الهجرة؟ أسقي الحاج ، وأعمر البيت الحرام؟ فنزلت هذه الآية ، فقال العباس : ما أراني إلّا تارك سقايتنا ، فقال عليه الصلاة والسّلام : «أقيموا على سقايتكم فإنّ لكم فيها خيرا».

__________________

(١) أخرجه مسلم (٣ / ١٤٩٩) كتاب الإمارة : باب فضل الشهادة في سبيل الله (١١١ / ١٨٧٩) وأحمد (٤ / ٢٦٩) والطبري (٦ / ٣٣٦) والبغوي في «تفسيره (٢ / ٢٧٥) عن النعمان بن بشير.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٩٤) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وأبي الشيخ وابن مردويه.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٣٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٩٥) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) أثر الشعبي :

أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٣٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٩٥) وعزاه إلى عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.

أثر الحسن :

أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٣٦ ـ ٣٣٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٩٥) وعزاه إلى عبد الرزاق.

أثر محمد بن كعب القرظي :

أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٣٧).

وهذه الآثار ذكرها البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٧٥).

٤٩

وقيل : إنّ المشركين قالوا لليهود : نحن سقاة الحجيج ، وعمار المسجد الحرام ، فنحن أفضل أم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه؟ فقالت اليهود لهم : أنتم أفضل.

قال ابن الخطيب (١) : «هذه المفاضلة تحتمل أن تكون جرت بين المسلمين ، ويحتمل أن تكون جرت بين المسلمين والكفار ، أمّا كونها جرت بين المسلمين ، فلقوله تعالى بعد ذلك (أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ ،) وهذا يقتضي أن يكون للمرجوح درجة أيضا عند الله ، وذلك لا يليق إلّا بالمؤمنين ، وأمّا احتمال كونها جرت بين المؤمنين والكفار ، فلقوله تعالى (كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ) وهذا يدل على أنّ هذه المفاضلة وقعت بين من لم يؤمن بالله وبين من آمن بالله».

وهذا هو الأقرب ؛ لأن المفسرين نقلوا في تفسير قوله تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) أنّ العباس احتجّ على فضائل نفسه ، بأنّه عمر المسجد الحرام ، وسقي الحاج ، فأجاب الله عنه بوجهين :

الأول : ما تقدّم في الآية الأولى : أنّ عمارة المسجد الحرام توجب الفضيلة إذا كانت صادرة عن المؤمن ، أمّا إذا صدرت عن الكافر ، فلا فائدة فيها ألبتة.

والثاني : هذه الآية ، وهو أن يقال : سلّمنا أنّ عمارة المسجد الحرام ، وسقي الحاج ، يوجب نوعا من الفضيلة ، إلّا أنها بالنسبة إلى الإيمان والجهاد كمقابلة الشيء الشّريف الرفيع جدّا بالشّيء الحقير التافة جدّا ، وإنّه باطل ، وبهذا الطريق حصل النظم الصحيح لهذه الآية بما قبلها.

فصل

روى عكرمة عن ابن عبّاس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء إلى السّقاية فاستسقى ، فقال العبّاس : يا فضل اذهب إلى أمك فأت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشراب من عندها ، فقال : اسقني. فقال يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّهم يجعلون أيديهم فيه ، قال : اسقني ، فشرب منه ، ثم أتى زمزم وهم يستقون ويعملون فيها ، فقال : اعملوا فإنّكم على عمل صالح ، ثم قال : لو لا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذا ، يعني : عاتقه (٢) وأشار إلى عاتقه.

وعن بكر بن عبد الله المزنيّ : قال : كنت جالسا مع ابن عبّاس عند الكعبة فأتاه أعرابيّ فقال : ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ؟ أمن حاجة بكم؟ أمن بخل؟ فقال ابن عبّاس : الحمد لله ما بنا من حاجة ولا بخل ، إنّما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على راحلته ، وخلفه أسامة ، فاستسقى ، فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب ، وسقى فضله

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٦ / ١٠.

(٢) أخرجه البخاري (٣ / ٥٧٤) كتاب الحج : باب سقاية الحاج حديث (١٦٣٤) والبيهقي (٥ / ١٤٧) من طريق عكرمة عن ابن عباس.

٥٠

أسامة ، فقال : أحسنتم وأجملتم ، كذا فاصنعوا ، فلا نريد تغيير ما أمر به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) قال الحسن : «كانت السّقاية بنبيذ الزبيب» (٢).

وعن عمر أنه وجد نبيذ السقاية من الزبيب شديدا ، فكسر منه بالماء ثلاثا ، وقال : إذا اشتد عليكم فاكسروا منه بالماء. وأمّا عمارة المسجد الحرام فهي تجهيزه وتحسين صورة جدرانه (٣).

قوله (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) في الجملة وجهان :

أظهرهما : أنّها مستأنفة ، أخبر تعالى بعدم تساوي الفريقين.

والثاني : أن يكون حالا من المفعولين للجعل ، والتقدير : سوّيتم بينهم في حال تفاوتهم ، ولمّا نفى المساواة بينهما ، وذلك لا يفيد من هو الرّاجح ؛ فنبّه على الرّاجح بقوله (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي : إنّ الكافرين ظلموا أنفسهم ، لأنهم تركوا الإيمان ، ورضوا بالكفر فكانوا ظالمين ، لأنّ الظّلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه ، وأيضا ظلموا المسجد الحرام ، فإنّه تعالى جعله موضعا لعبادة الله تعالى ، فجعلوه موضعا لعبادة الأوثان.

قوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية.

لمّا ذكر ترجيح الإيمان ، والجهاد على السّقاية وعمارة المسجد الحرام على طريق الرمز ؛ أتبعه بذكر هذا التّرجيح بالتّصريح ، أي : من كان موصوفا بهذه الصّفات الأربعة كان أعظم درجة عند الله ممّن اتّصف بالسّقاية والعمارة ، والسّبب فيه ؛ لأن الإنسان ليس له إلّا الروح ، والبدن ، والمال ، فأمّا الرّوح فإنه لمّا زال عنه الكفر ، وحصل فيه الإيمان ، فقد وصل إلى مراتب السعادات وأما البدن والمال ، فبالهجرة والجهاد صارا معرّضين للهلاك ، ولا شكّ أنّ النفس والمال محبوب الإنسان ، والإنسان لا يعرض عن محبوبه إلّا عند الفوز بمحبوب أكمل من الأوّل ، فلو لا أنّ طلب الرضوان أتمّ عندهم من النفس والمال ؛ وإلّا لما رجّحوا جانب الآخرة على النفس والمال طلبا لمرضاة الله تعالى ، وأي مناسبة بين هذه الدرجة وبين الإقدام على السّقاية والعمارة بمجرد الاقتداء بالآباء ، وطلب الرياسة والسّمعة؟.

قوله (أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) لم يقل : أعظم درجة من المشتغلين بالسقاية والعمارة ؛ لأنّه لو ذكرهم ، أوهم أن تلك الفضيلة بالنسبة إليهم ، فلمّا ترك ذكر المرجوح ، دلّ ذلك على أنّهم أفضل من كل من سواهم على الإطلاق.

__________________

(١) أخرجه مسلم (٢ / ٩٥٣) كتاب الحج : باب وجوب المبيت بمنى ليالي أيام التشريق والترخيص في تركه لأهل السقاية (٣٤٧ ـ ١٣١٦).

(٢) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١٦ / ١١) عن الحسن.

(٣) انظر المصدر السابق.

٥١

فإن قيل : لمّا أخبرتم بأن هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين ، فكيف قال في وصفهم : (أَعْظَمُ دَرَجَةً)؟.

فالجواب من وجوه :

الأول : أنّ هذا ورد على ما قدّروا لأنفسهم من الدّرجة والفضيلة عند الله ، ونظيره قوله تعالى : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) [النمل : ٥٩] ، وقوله (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) [الصافات : ٦٣].

الثاني : أنّ المراد : أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفا بهذه الصفات ، تنبيها على أنّهم لمّا كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى.

الثالث : أن المراد ، أنّ المؤمن المهاجر المجاهد أفضل ممّن على السقاية والعمارة ، والمراد منه: ترجيح تلك الأعمال على هذه الأعمال ، ولا شك أنّ السّقاية والعمارة من أعمال الخير ، وإنّما بطل ثوابها في حقّ الكفار ؛ لأن الكفر منع من ظهور ذلك الأثر ، ثم بيّن تعالى أنهم : (هُمُ الْفائِزُونَ) وهذا للحصر ، والمعنى : أنهم هم الفائزون بالدرجة العلية المشار إليها بقوله : (عِنْدَ اللهِ) وليس المراد منه العندية بحسب الجهة والمكان.

وقد تقدّم اختلاف القراء في : «يبشّرهم» وتوجيه ذلك في «آل عمران» وكذلك في الخلاف في (وَرِضْوانٍ) [آل عمران : ١٥].

وقرأ الأعمش (١) «رضوان» بضمّ الراء والضّاد ، وردّها أبو حاتم ، وقال : «لا يجوز». وهذا غير لازم للأعمش فإنه رواها ، وقد وجد ذلك في لسان العرب ، قالوا : «السّلطان» بضم السين واللام.

قوله (لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ) يجوز أن تكون هذه الجملة صفة ل «جنّات» وأن تكون صفة ل «رحمة» ؛ لأنّهم جوّزوا في هذه الهاء أن تعود للرّحمة ، وأن تعود للجنات. وجوّز مكي أن تعود على البشرى المفهومة من قوله : «يبشّرهم» ، كأنّه قيل : لهم في تلك البشرى. وعلى هذا فتكون الجملة صفة لذلك المصدر المقدّر إن قدّرته نكرة ، وحالا إن قدّرته معرفة. ويجوز أن يكون «نعيم» فاعلا بالجارّ قبله ، وهو أولى ، لأنّه يصير من قبيل الوصف بالمفرد ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، وخبره الجار قبله ، وقد تقدّم تحقيق ذلك مرارا [الأنفال : ٧٢]. قوله «خالدين» حال من الضمير في «لهم».

واستدل أهل السّنّة بهذه الآية على أنّ الخلود يدلّ على طول المكث ، ولا يدل على التأبيد ، قالوا : لأنّه لو كان الخلود يفيد التّأبيد ، لكان ذكر التأبيد بعد ذكر الخلود تكرارا ، وإنه لا يجوز.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٧ ، البحر المحيط ٥ / ٢٣ ، الدر المصون ٣ / ٤٥٥.

٥٢

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٢٤)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ) الآية.

والمقصود من هذه الآية : أن تكون جوابا عن شبهة أخرى ، ذكروها في أن البراءة من الكافر غير ممكنة ، فإنّ المسلم قد يكون أبوه كافرا أو ابنه والكافر قد يكون أبوه أو أخوه مسلما والمقاطعة بين الرّجل وأبيه وابنه وأخيه كالمتعذر ، فأزال الله تعالى هذه الشبهة بهذه الآية. ونقل المفسّرون عن ابن عبّاس «أنّه تعالى لمّا أمر المسلمين بالهجرة قبل فتح مكّة ، فمن لم يهاجر لم يقبل الله إيمانه ، حتى يجانب الآباء والأقرباء إن كانوا كفارا».

قال ابن الخطيب «وهذا مشكل ؛ لأنّ الصحيح أنّ هذه السورة إنّما نزلت بعد فتح مكة ، فكيف يمكن حمل هذه الآية على ما ذكروه؟ وإنّما الأقرب أنّه تعالى أمر المؤمنين بالتبرّي عن المشركين بسبب الكفر ، لقوله : (إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) أي : اختاروا الكفر على الإيمان ، والاستحباب : طلب المحبة ، يقال استحب له ، بمعنى : أحبه ، كأنه طلب محبته».

ولمّا نهى الله عن مخالطتهم ، وكان النّهي يحتمل أن يكون نهي تنزيه وأن يكون نهي تحريم ، ذكر ما يزيل الشبهة فقال : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). قال ابن عباس «يريد: مشركا مثلهم ، لأنه رضي بكفرهم ، والرّضى بالكفر كفر ، كما أنّ الرضا بالفسق فسق»(١).

قال القاضي : «هذا النّهي لا يمنع أن يتبرأ المرء من أبيه في الدّنيا ، كما لا يمنع من قضاء دين الكافر ، ومن استعمله في الأعمال».

قوله : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ) «آباؤكم» وما عطف عليه اسم «كان» ، و «أحب» خبرها ، فهو منصوب ، وكان الحجاج بن يوسف يقرها بالرفع ، ولحّنه يحيى بن يعمر فنفاه.

قال أبو حيّان «إنّما لحّنه باعتبار مخالفة القراء النّقلة ، وإلّا فهي جائزة في العربية ، يضمر في «كان» اسما ، وهو ضمير الشأن ، ويرفع ما بعدها على المبتدأو الخبر ، وحينئذ تكون الجملة خبرا عن «كان».

__________________

(١) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١٦ / ١١) عن الحسن.

٥٣

قال شهاب الدّين (١) : فيكون كقول الشاعر : [الطويل]

٢٧٧٢ ـ إذا متّ كان النّاس صنفان شامت

وآخر مثن بالذي كنت أصنع (٢)

وهذا في أحد تأويلي البيت.

والآخر : أنّ «صنفان» خبر منصوب ، وجاء به على لغة بني الحارث ، ومن وافقهم.

والحكاية التي أشار إليها الشّيخ من تلحين يحيى للحجّاج هي : أنّ الحجاج كان يدّعي فصاحة عظيمة ، فقال يوما ليحيى بن يعمر وكان يعظّمه : هل تجدني ألحن؟ فقال : الأمير أجلّ من ذلك ، فقال : عزمت عليك إلّا ما أخبرتني ، وكانوا يعظّمون عزائم الأمراء ، فقال : نعم ، فقال : في أي شيء؟ فقال : في القرآن ، فقال : ويلك!! ذلك أقبح بي ، في أيّ آية؟ قال : سمعتك تقر : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ) إلى أن انتهيت إلى «أحبّ» فرفعتها ، فقال : إذن لا تسمعني ألحن بعدها ، فنفاه إلى «خراسان» فمكث بها مدة ، وكان بها حينئذ يزيد بن المهلب بن أبي صفرة ، فجاءهم جيش ، فكتب إلى الحجاج كتابا ، وفيه : «وقد جاءنا العدوّ فتركناهم بالحضيض ، وصعدنا عرعرة الجبل» ، فقال الحجاج : ما لابن المهلب ولهذا الكلام ، فقيل له : إنّ يحيى هناك ، فقال : إذن ذاك.

وقرأ الجمهور «عشيرتكم» بالإفراد ، وأبو بكر (٣) عن عاصم «عشيراتكم» جمع سلامة. [ووجه الجمع أنّ لكلّ من المخاطبين عشيرة ، فحسن الجمع ، وزعم الأخفش أنّ «عشيرة» لا تجمع بالألف والتاء ، وإنّما تكسيرا على «عشائر» ، وهذه القراءة حجة عليه ، وهي قراءة أبي عبد الرحمن (٤) السلمي وأبي رجاء.

وقرأ الحسن (٥) «عشائركم» قيل : وهي أكثر من «عشيراتكم»](٦).

و «العشيرة» : هي : الأهل الأدنون. وقيل : هم أهل الرّجل الذين يتكثّر بهم ، أي : يصيرون له بمنزلة العدد الكامل ، وذلك أنّ العشيرة هي العدد الكامل ، فصارت العشيرة اسما لأقارب الرّجل الذين يتكثّر بهم ، سواء بلغوا العشرة أم فوقها.

وقيل : هي الجماعة المجتمعة بنسب ، أو وداد ، لعقد العشرة.

فصل

هذه الآية هي تقرير الجواب المذكور في الآية الأولى ، وذلك لأنّ جماعة

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٥٥.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : السبعة ص (٣١٣) ، الحجة ٤ / ١٨٠ ، حجة القراءات ص (٣١٦) ، النشر ٢ / ٢٧٨ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٨٩.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٢ / ٢٥٧ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٨ ، البحر المحيط ٥ / ٢٤ ، الدر المصون ٣ / ٤٥٦.

(٥) ينظر : السابق.

(٦) سقط في أ.

٥٤

المؤمنين ، قالوا : يا رسول الله كيف يمكن البراءة منهم بالكلّية؟ وهذه الآية توجب انقطاعنا عن آبائنا وإخواننا وعشيرتنا ، وإن نحن فعلنا ذلك ، ذهبت تجارتنا ، وهلكت أموالنا ، وخربت ديارنا ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها) أي : تستوطنونها راضين بسكناها (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا) فانتظروا (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ). قال عطاء : «بقضائه»(١).

وقال مجاهد ومقاتل : «بفتح مكّة» (٢).

وهذا أمر تهديد ، فبيّن تعالى أنّه يجب تحمل جميع هذه المضارّ في الدّنيا ، ليبقى الدّين سليما. ثم قال (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي : الخارجين عن الطاعة ، وهذه الآية تدلّ على أنّه إذا وقع التّعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدّين ، وبين مهمات الدّنيا ؛ وجب ترجيح الدّين على الدنيا.

قوله تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٧)

قوله تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) الآية.

لمّا ذكر في الآية المتقدمة أنه يجب الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء ، والإخوان ، والعشيرة ، وعن الأموال ، والتجارات ، والمساكن ، رعاية لمصالح الدّين ، وعلم أنّ ذلك يشقّ على النفوس ، ذكر ما يدلّ على أنّ من ترك الدّنيا لأجل الدّين ، فإنّه تعالى يوصله مطلوبه.

وضرب لهذا مثلا ، وذلك أنّ عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وقعة حنين ، كانوا في غاية الكثرة والقوّة ، فلمّا أعجبوا بكثرتهم ، صاروا منهزمين ، فلمّا تضرّعوا في حال الانهزام إلى الله تعالى قوّاهم حتّى هزموا عسكر الكفّار ، وذلك يدلّ على أنّ الإنسان متى اعتمد على الدّنيا ، فاته الدّين والدنيا ، ومتى أطاع الله ، ورجّح الدّين على الدّنيا ، آتاه الله الدّين

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٧٧).

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٠٣) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

وقد أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٣٩).

وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٧٧) عن مجاهد ومقاتل.

٥٥

والدّنيا على أحسن الوجوه فكان هذا تسلية لأولئك المأمورين بمقاطعة الآباء والأبناء ، لأجل مصلحة الدّين ، وعدا لهم بأنهم إن فعلوا ذلك أوصلهم الله تعالى إلى أقاربهم وأموالهم ومساكنهم على أحسن الوجوه.

قال الواحديّ : «النّصر : المعونة على العدوّ خاصة» و «المواطن» : جمع «موطن» بكسر العين ، وكذا اسم مصدره ، وزمانه ، لاعتلال فائه ك : «الموعد» ، قال : [الطويل]

٢٧٧٣ ـ وكم موطن لو لاي طحت كما هوى

بأجرامه من قنّة النّيق منهوي (١)

و «حنين» : اسم واد بين مكة والطائف ، فلذلك صرفه ، وبعضهم جعله اسما للبقعة ، فمنعه في قوله : [الكامل]

٢٧٧٤ ـ نصروا نبيّهم وشدّوا أزره

بحنين يوم تواكل الأبطال (٢)

وهذا كما قال الآخر في «حراء» : اسم الجبل المعروف ، اعتبارا بتأنيث البقعة في قوله : [الوافر]

٢٧٧٥ ـ ألسنا أكثر الثّقلين رجلا

وأعظمهم ببطن حراء نارا (٣)

فصل

المراد بالمواطن الكثيرة : غزوات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقال : إنها ثمانون موطنا ، فأعلمهم أنه تعالى هو الذي تولّى نصر المؤمنين ، ومن نصره الله فلا غالب له ، ثم قال

__________________

(١) البيت ليزيد بن الحكم في الأزهيّة ص ١٧١ ؛ وخزانة الأدب ٥ / ٣٣٦ ، ٣٣٧ ، ٣٤٢ ؛ والدرر ٤ / ١٧٥ ؛ وسرّ صناعة الإعراب ص ٣٩٥ ؛ وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٠٢ ؛ وشرح المفصل ٣ / ١١٨ ، ٩ / ٢٣ ؛ والكتاب ٢ / ٣٧٤ ؛ ولسان العرب (جرم) ، (هوا) ؛ والانصاف ٢ / ٦٩١ ؛ والجنى الداني ص ٦٠٣ ؛ وجواهر الأدب ص ٣٩٧ ؛ ورصف المباني ص ٢٩٥ ؛ وشرح الأشموني ٢ / ٢٨٥ ؛ وشرح ابن عقيل ص ٣٥٣ ؛ والبحر المحيط ٥ / ٢٤ والممتع في التصريف ١ / ١٩١ ؛ والمنصف ١ / ٧٢ ، والدر المصون ٣ / ٤٥٧ ، والبحر المحيط ٥ / ٢٤.

وفي البيت شاهدان : أوّلهما قوله : «لو لاي» حيث جاء بضمير الخفض بعد «لو لا» ، وهي من حروف الابتداء. قال سيبويه في باب ما يكون مضمرا فيه الاسم متحوّلا عن حالة إذا أظهر بعده : «وذلك «لو لاك» و «لو لاي» إذا أضمرت الاسم فيه جرّ ، وإذا أظهرت رفع ، ولو جاءت علامة الإضمار على القياس لقلت : لو لا أنت» (الكتاب ٢ / ٣٧٣).

والشاهد الثاني قوله : «منهوي» حيث جاء الوزن «انفعل» من «فعل» اللازم ، والقياس أن يأتي من «فعل» المتعدّي.

(٢) البيت لحسان ينظر : ديوانه (٣٩٣) الإنصاف ٢ / ٤٩٤ الفراء ١ / ٤٢٩ الصحاح [حنن] اللسان [حنن] الطبري ١٤ / ١٧٨ البحر المحيط (٥ / ٢٥) الدر المصون ٣ / ٤٥٧.

(٣) البيت لجرير وهو هكذا في الكتاب ٣ / ٢٤٥ ستعلم أينا خير قديما .... وأعظمنا ....

واللسان [حرى] والدر المصون ٣ / ٤٥٧ والمذكر والمؤنث لابن الأنباري ٢٤٩ والفراء ١ / ٤٢٩ ، ٢ / ١٧٥.

٥٦

(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) أي : واذكر يوم حنين من جملة تلك المواطن حال ما أعجبتكم كثرتكم ، و «حنين» واد بين مكة والطائف.

وقيل : إلى جنب ذي المجاز. قال الرواة : لمّا فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكّة ، وقد بقيت أيام من شهر رمضان ، خرج متوجها إلى حنين ، لقتال هوازن وثقيف ، في اثني عشر ألفا ، عشرة آلاف من المهاجرين ، وألفان من الطلقاء.

وقال عطاء : عن ابن عباس «كانوا ستة عشر ألفا» (١).

وقال الكلبيّ «كانوا عشرة آلاف». وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف ، وعلى هوازن : مالك بن عوف النضري ، وعلى ثقيف : كنانة بن عبد ياليل الثقفي ، فلما التقى الجمعان ، قال رجل من الأنصار يقال له : سلمة بن سلامة بن وقش : لن نغلب اليوم عن قلّة ، وهو المراد من قوله (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) ، فساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلامه ، ووكلوا إلى كلمة الرجل (٢) ، وفي رواية : لم يرض الله قوله ، ووكلوا إلى أنفسهم ، فاقتتلوا قتالا شديدا ؛ فانهزم المشركون وتخلّوا عن الذراري ، ثم نادوا يا حماة السواد اذكروا الفضائح ، فتراجعوا ، وانكشف المسلمون.

قال قتادة : وذكر لنا أنّ الطّلقاء انجفلوا يومئذ بالنّاس (٣).

قوله (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) فيه أوجه :

أحدها : أنّه عطف على محلّ قوله : (فِي مَواطِنَ) عطف ظرف الزمان من غير واسطة «في» على ظرف المكان المجرور بها ، ولا غرو في نسق ظرف زمان على مكان ، أو العكس ، تقول : سرت أمامك ويوم الجمعة ، إلّا أنّ الأحسن أن يترك العاطف في مثله.

الثاني : زعم ابن عطية : أنّه يجوز أن يعطف على لفظ «مواطن» بتقدير : «وفي يوم» ، فحذف حرف الخفض ، وهذا لا حاجة إليه.

الثالث : قال الزمخشريّ (٤) : «فإن قلت : كيف عطف الزمان على المكان ، وهو (يَوْمَ حُنَيْنٍ) على «مواطن»؟.

قلت : معناه : ومواطن يوم حنين ، أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين».

الرابع : أن يراد ب «المواطن» : الأوقات ، فحينئذ إنّما عطف زمان على زمان.

قال الزمخشريّ ـ بعد ما تقدّم عنه ـ : «ويجوز أن يراد ب «المواطن» : الوقت ، ك :

__________________

(١) ذكرى الرازي في «التفسير الكبير» (١٦ / ١٨).

(٢) انظر التفسير الكبير (١٦ / ١٨).

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٨٠) عن قتادة.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٥٩.

٥٧

مقتل الحسين ، على أنّ الواجب أن يكون : (يَوْمَ حُنَيْنٍ) منصوبا بفعل مضمر ، لا بهذا الظّاهر ، وموجب ذلك أنّ قوله : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ) بدل من (يَوْمَ حُنَيْنٍ) ، فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر ، لم يصحّ ؛ لأنّ كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن ، ولم يكونوا كثيرين في جميعها ، فبقي أن يكون ناصبه فعلا خاصا به».

قال شهاب الدّين (١) : «لا أدري ما حمله على تقدير أحد المضافين ، وعلى تأويل «المواطن» بالوقت ، ليصحّ عطف زمان على زمان ، أو مكان على مكان ، إذ يصحّ عطف أحد الظرفين على الآخر؟ وأمّا قوله : «على أنّ الواجب أن يكون» إلى آخره ؛ كلام حسن ، وتقريره أنّ الفعل مقيد بظرف المكان ، فإذا جعلنا «إذ» بدلا من «يوم» كان معمولا له ؛ لأنّ البدل يحلّ محلّ المبدل منه ؛ فيلزم منه أنه نصرهم إذ أعجبتهم كثرتهم في مواطن كثيرة ، والفرض أنّهم في بعض هذه المواطن لم يكونوا بهذه الصفة ، إلّا أنّه قد ينقدح ، فإنّه ـ تعالى ـ لم يقل في جميع المواطن ، حتّى يلزم ما قاله».

ويمكن أن يكون أراد بالكثرة : الجميع ، كما يراد بالقلة العدم.

قوله : (بِما رَحُبَتْ) «ما» مصدرية ، أي : رحبها وسعتها. وقرأ زيد (٢) بن علي في الموضعين «رحبت» بسكون العين ، وهي لغة تميم ، يسكنون عين «فعل» فيقولون : في «شرف» «شرف». و «الرّحب» بالضمّ : السّعة ، وبالفتح : الشيء الواسع ، يقال : رحب المكان يرحب رحبا ورحابة ، وهو قاصر. فأمّا تعدّيه في قولهم : رحبتكم الدار» فعلى التضمين ، لأنه بمعنى «وسعتكم».

فصل

قوله (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) الإغناء : إعطاء ما يدفع الحاجة ، أي : فلم يعطكم شيئا يدفع حاجتكم. والمعنى : أنه تعالى أعلمهم أنّهم لا يغلبون بكثرتهم ، وإنما يغلبون بنصر الله ، فلمّا أعجبوا بكثرتهم ، صاروا منهزمين ، ثم قال : (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي : مع رحبها ، و «ما» ههنا مع الفعل بمنزلة المصدر ، والمعنى : إنكم لشدّة ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرض ، فلم تجدوا فيها موضعا يصلح لفراركم من عدوكم.

قال البراء بن عازب : كانت «هوازن» رماة ، فلما حملنا انكشفوا وأكببنا على الغنائم ، فاستقبلونا بالسهام ، وانكشف المسلمون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبق معه إلا العباس وأبو سفيان بن الحارث. قال [البراء](٣) : والذي لا إله إلّا هو ما ولّى رسول الله

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٥٧.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٥ ، الدر المصون ٣ / ٤٥٧.

(٣) سقط في ب.

٥٨

صلى‌الله‌عليه‌وسلم قط ، قال : رأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب ، والعباس آخذ بلجام دابته البيضاء وهو يقول : «أنا النّبيّ لا كذب ، أنا ابن عبد المطّلب» (١) وطفق يركض بغلته نحو الكفار ، ثم قال للعبّاس : ناد المهاجرين والأنصار ـ وكان العباس رجلا صيّتا ـ فجعل ينادي : يا عباد الله ، يا أصحاب الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة ، فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقا واحدا ، وأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده كفا من الحصى ، فرماهم بها ، وقال : «شاهت الوجوه» فما زال أمرهم مدبرا ، وحدهم كليلا حتى هزمهم الله ، ولم يبق منهم أحد يومئذ إلّا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب ، فذلك قوله : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

والمراد بالسّكينة : ما يسكن إليه القلب ، ويوجب الأمنة ، ووجه الاستعارة فيه : أنّ الإنسان إذا خاف فرّ وفؤاده متحرك ، وإذا أمن ؛ سكن وثبت ؛ فلمّا كان الأمن موجبا للسكون جعل لفظ السّكينة كناية عن الأمن. ثم قال تعالى : (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) والمراد : أنزل الملائكة ، وليس في هذه الآية ما يدلّ على عدّة الملائكة ، كما هو في قصة بدر ، فقال سعيد بن جبير : «أيّد الله نبيه بخمسة آلاف من الملائكة». ولعله إنّما قاسه على يوم بدر (٢).

وقال سعيد بن المسيب : حدّثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال : لمّا كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم ، فلمّا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء ، تلقانا رجال بيض الوجوه ، فقالوا : شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا ، واختلفوا في أنّ الملائكة هل قاتلوا ذلك اليوم (٣)؟ فالذي روي عن سعيد بن المسيب يدلّ على أنهم قاتلوا ، وقال آخرون : إن الملائكة ما قاتلوا إلا يوم بدر ، وفائدة نزولهم في هذا اليوم : هو إبقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين.

ثم قال تعالى : (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) والمراد من هذا التّعذيب : قتلهم وأسرهم ، وأخذ أموالهم وسبي ذراريهم.

وهذه الآية تدلّ على أنّ فعل العبد خلق لله تعالى ؛ لأنّ المراد من هذا التّعذيب ليس إلا الأخذ والأسر ، وقد نسب تلك الأشياء إلى نفسه.

قوله : (وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) تمسّك الحنفيّة في مسألة الجلد مع التعزير بقوله (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) [النور : ٢] قالوا : الفاء تدلّ على كون الجلد جزاء ، والجزاء اسم للكافي ، وكون الجلد كافيا يمنع كون غيره مشروعا معه ، وأجيبوا بأن الجزاء ليس اسما للكافي ؛ لأنه

__________________

(١) أخرجه البخاري (٦ / ١٠٥) كتاب الجهاد : باب من قاد دابة غيره في الحرب (٢٨٦٤) ومسلم ٣١ / ١٤٠٠ كتاب الجهاد : باب غزوة حنين حديث (١٧٧٦) عن البراء بن عازب.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٤٣).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٤٣ ـ ٣٤٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٠٧) وعزاه إلى مسدد في مسنده والبيهقي وابن عساكر.

٥٩

تعالى سمّى هذا التعذيب جزاء مع أنّ المسلمين أجمعوا على أنّ العقوبة الدائمة في القيامة مدّخرة لهم ، فدلت هذه الآية على أنّ الجزاء ليس اسما لما يقع به الكفاية.

قوله (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ) أي : أنّ الله تعالى مع كل ما جرى عليهم من الخذلان يتوب عليهم ، بأن يزيل عن قلبهم الكفر ، ويخلق فيه الإسلام ، وقال القاضي: «معناه : أنّه بعد ما جرى عليهم ما جرى ، إذا أسلموا وتابوا فإنّ الله يقبل توبتهم» وهذا ضعيف ؛ لأنّ قوله : (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ) ظاهره يدلّ على أنّ تلك التوبة إنّما تحصل لهم من قبله تعالى ، وتقدّم الكلام على المعنى في البقرة عند قوله (فَتابَ عَلَيْهِ) [البقرة : ٣٧] ثم قال : (وَاللهُ غَفُورٌ) أي : لمن تاب «رحيم» لمن آمن وعمل صالحا.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ)(٢٩)

قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) الآية.

اعلم أنه عليه الصّلاة والسّلام ، لمّا أمر عليّا أن يقرأ على مشركي مكّة أول سورة براءة ، وينبذ إليهم عهدهم ، وأنّ الله بريء من المشركين ورسوله ، قال أناس : يا أهل مكّة ستعلمون ما تلقونه من الشّدّة لانقطاع السبل وفقد الحمولات ؛ فنزلت هذه الآية ، لرفع الشّبهة ، وأجاب الله تعالى عنها بقوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) أي : فقرأ وحاجة ، (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) قال الأكثرون : لفظ المشركين يتناول عبدة الأوثان ، وقال قوم : يتناول جميع الكفّار ، وقد تقدم ذلك.

قال الضحاك وأبو عبيدة : «نجس» قذر (١).

وقيل : خبيث ، وهو مصدر يستوي فيه الذكر والأنثى ، والتثنية والجمع. جعلوا نفس النّجس ، على المبالغة ، أو على حذف مضاف.

وقرأ أبو حيوة (٢) «نجس» بكسر النّون وسكون الجيم ، ووجهه أنّه اسم فاعل في الأصل على «فعل» مثل : «كتف وكبد» ثم خفّف بسكون عينه بعد إتباع فائه ، ولا بدّ من حذف موصوف حينئذ قامت هذه الصفة مقامه ، أي : فريق نجس ، أو جنس نجس ، فإذا أفرد قيل «نجس» بفتح النون.

قال البغوي «ولا يقال على الانفراد ، بكسر النّون وسكون الجيم ، إنّما يقال :

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٨١).

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٦١ ، المحرر الوجيز ٣ / ٢٠ ، البحر المحيط ٥ / ٢٩ ، الدر المصون ٣ / ٤٥٨.

٦٠