اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

٣٠٢٩ ب ـ نحن قوم ملجنّ في زيّ ناس

فوق طير لها شخوص الجمال

يريد : من الجنّ. قال التبريزي في شرح الحماسة : وهذا مقيس ، وهو أن لام التعريف ، إذا ظهرت في الاسم حذف الساكن قبلها ؛ لأن الساكن لا يدغم في الساكن ؛ تقول : أكلت مالخبز ، وركبت ملخيل ، وحملت ملجمل.

وقد ردّ بعضهم قول الفرّاء بأنّ نون «من» لا تحذف إلّا ضرورة ، وأنشد : [المنسرح]

٣٠٣٠ ـ .........

 ......... ملكذب(١)

الثالث : أنّ أصلها «لما» بالتّخفيف ، ثمّ شددت ، وإلى هذا ذهب أبو عثمان ، قال الزّجّاج : «وهذا ليس بشيء ؛ لأنّا لسنا نثقّل ما كان على حرفين ، وأيضا فلغة العرب على العكس من ذلك يخفّفون ما كان مثقّلا نحو : «رب» في «ربّ». وقيل في توجيهه : إنّه لمّا وقف عليها شدّدها ، كما قالوا : رأيت فرجّا ، وقصبّا ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، وفي هذا نظر ؛ لأنّ التّضعيف إنّما يكون في الحرف إذا كان آخرا ، والميم هنا حشو ؛ لأنّ الألف بعدها ، إلّا أن يقال : إنّه أجرى الحرف المتوسط مجرى المتأخّر ؛ كقوله : [الرجز]

٣٠٣١ ـ مثل الحريق وافق القصبّا (٢)

يريد : القصب ، فلمّا أشبع الفتحة تولّدت منها ألف ، وضعّف الحرف ؛ وكذلك قوله : [الرجز]

٣٠٣٢ ـ ببازل وجناء أو عيهلّي

كأنّ مهواها على الكلكلّ (٣)

شدّد اللام مع كونها حشوا بياء الإطلاق ، وقد يفرّق بأنّ الألف والياء في هذين البيتين في حكم الطّرح ؛ لأنّهما نشآ من حركة بخلاف ألف : «لمّا» فإنّها أصلية ثابتة ، وبالجملة فهو وجه ضعيف جدّا.

الرابع : أنّ أصلها «لمّا» بالتنوين ثم بني منه «فعلى» فإن جعلت ألفه للتّأنيث ، لم تصرفه ، وإن جعلتها للإلحاق صرفته ، وذلك كما قالوا في «تترى» بالتنوين وعدمه ، وهو مأخوذ من قولك : لممته : أي جمعته ، والتقدير : وإن كلّا جميعا ليوفينّهم ، ويكون «جميعا» فيه معنى التوكيد ك «كل» ، ولا شكّ أنّ «جميعا» يفيد معنى زائدا على «كل» عند

__________________

(١) تقدم.

(٢) البيت لرؤبة. ينظر : ملحقات ديوانه ص ١٦٩ وشرح شافية ابن الحاجب ٢ / ٣١٨ ولربيعة بن صبح في شرح شواهد الإيضاح ص ٢٦٤ ولأحدهما في شرح التصريح ٢ / ٣٤٦ والمقاصد النحوية ٤ / ٥٤٩ وبلا نسبة في أوضح المسالك ٤ / ٣٥٣ وخزانة الأدب ٦ / ١٣٨ وشرح الأشموني ٣ / ٧٨١ وشرح ابن عقيل ص ٦٧٣ وشرح المفصل ٣ / ٩٤ ، ١٣٩ ، ٩ / ٦٨ ، ٨ والدر المصون ٤ / ١٣٩.

(٣) البيت لمنظور بن مرثد. ينظر : الكتاب ٤ / ١٧٠ وشرح شواهد الشافية ٤ / ٢٤٦ وشرح المفصل لابن يعيش ٩ / ٦٨ والخصائص ٢ / ٢٥٩ واللسان (عهل) والدر المصون ٤ / ١٣٩.

٥٨١

بعضهم. قال : ويدلّ على ذلك قراءة من قرأ : «لمّا» بالتنوين.

الخامس : أنّ الأصل «لمّا» بالتنوين أيضا ، ثمّ أبدل التنوين ألفا وقفا ، ثم أجري الوصل مجرى الوقف. وقد منع من هذا الوجه أبو عبيد قال : لأنّ ذلك إنّما يجوز في الشعر يعني إبدال التنوين ألفا وصلا إجراء له مجرى الوقف ، وسيأتي توجيه قراءة «لمّا» بالتنوين.

وقال ابن الحاجب : «استعمال «لمّا» في هذا المعنى بعيد ، وحذف التنوين من المنصرف في الوصل أبعد ، فإن قيل : «لمّا» فعلى من اللّمّ ، ومنع الصرف لأجل ألف التأنيث ، والمعنى فيه مثل معنى «لمّا» المنصرف فهو أبعد ، إذ لا يعرف «لمّا» فعلى بهذا المعنى ولا بغيره ، ثم كان يلزم هؤلاء أن يميلوا كمن أمال ، وهو خلاف الإجماع ، وأن يكتبوها بالياء ، وليس ذلك بمستقيم».

السادس : أنّ «لمّا» زائدة كما تزاد «إلا» قاله أبو الفتح وغيره ، وهذا وجه لا اعتبار به ، فإنّه مبنيّ على وجه ضعيف أيضا ، وهو أنّ «إلّا» تأتي زائدة.

السابع : أنّ «إن» نافية بمنزلة «ما» ، و «لمّا» بمعنى «إلّا» ، فهي كقوله : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) [الطارق : ٤] أي : ما كلّ نفس إلّا عليها (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ) [الزخرف : ٣٥] أي : ما كل ذلك إلا متاع.

واعترض على هذا الوجه بأنّ «إن» النافية لا تنصب الاسم بعدها ، وهذا اسم منصوب بعدها وأجاب بعضهم عن ذلك بأنّ «كلّا» منصوب بإضمار فعل ، فقدّره قوم منهم أبو عمرو ابن الحاجب : وإن أرى كلّا ، وإن أعلم ونحوه ، قال : ومن هنا كانت أقلّ إشكالا من قراءة ابن عامر لقبولها هذا الوجه الذي غير مستبعد ذلك الاستبعاد وإن كان في نصب الاسم الواقع بعد حرف النّفي استبعاد ، ولذلك اختلف في مثل : [الوافر]

٣٠٣٣ ـ ألا رجلا جزاه الله خيرا

يدلّ على محصّلة تبيت (١)

هل هو منصوب بفعل مقدّر ، أو نوّن ضرورة؟ فاختار الخليل إضمار الفعل ، واختار يونس التنوين للضّرورة. وقدّره بعضهم بعد «لمّا» من لفظ : «ليوفّينّهم» ، والتقدير : وإن كلا إلّا ليوفّينّ ليوفّينّهم. وفي هذا التقدير بعد كبير أو امتناع ؛ لأنّ ما بعد «إلّا» لا يعمل فيما قبلها ، واستدل على مجيء : «لمّا» بمعنى : «إلّا» بنصّ الخليل وسيبويه على ذلك ونصره الزّجّاج. قال بعضهم : وهي لغة هذيل ، يقولون : سألتك بالله لمّا فعلت أي : إلّا فعلت.

وأنكر الفرّاء (٢) ، وأبو عبيد ورود : «لمّا» بمعنى : «إلّا» قال أبو عبيد : «أمّا من شدّد «لمّا» بتأويل «إلّا» فلم نجد هذا في كلام العرب ، ومن قال هذا لزمه أن يقول : قام القوم

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٩.

٥٨٢

لمّا أخاك ، يريد : إلّا أخاك ، وهذا غير موجود» وقال الفرّاء (١) : «وأمّا من جعل «لمّا» بمنزلة «إلّا» فهو وجه ضعيف ، وقد قالت العرب في اليمين : بالله لمّا قمت عنا ، وإلّا قمت عنا ، فأمّا في الاستثناء فلم تقله في شعر ، ولا في غيره ، ألا ترى أنّ ذلك لو جاز لسمعت في الكلام : ذهب النّاس لمّا زيدا». فأبو عبيد أنكر مجيء «لمّا» بمعنى «إلّا» مطلقا ، والفراء جوّز ذلك في القسم خاصة ، وتبعه الفارسي في ذلك ، فقال ـ في تشديد «لمّا» ههنا ـ : «لا يصلح أن تكون بمعنى «إلّا» ، لأنّ «لمّا» هذه لا تفارق القسم» وردّ النّاس قوله بما حكاه الخليل وسيبويه ، وبأنّها لغة هذيل مطلقا ، وفيه نظر ، فإنّهم لمّا حكوا لغة هذيل حكوها في القسم كما تقدّم من نحو : نشدتك بالله لمّا فعلت ، وأسألك بالله لمّا فعلت. وقال أبو علي أيضا مستشكلا لتشديد : «لمّا» في هذه الآية على تقدير أنّ «لمّا» بمعنى «إلّا» لا تختص بالقسم ما معناه : أنّ تشديد «لمّا» ضعيف سواء شدّدت «إن» أم خفّفت ، قال : «لأنّه قد نصب بها «كلا» ، وإذا نصب بالمخفّفة كانت بمنزلة المثقلة ، وكما لا يحسن : إنّ زيدا إلّا منطلق ؛ لأنّ الإيجاب بعد نفي ، ولم يتقدّم هنا إلّا إيجاب مؤكد ، فكذا لا يحسن : إنّ زيدا لمّا منطلق ، لأنّه بمعناه ، وإنّما ساغ : نشدتك الله إلّا فعلت ، ولمّا فعلت ؛ لأنّ معناه الطّلب ، فكأنّه قال : ما أطلب منك إلّا فعلك ، فحرف النّفي مراد مثل (تَاللهِ تَفْتَؤُا) [يوسف : ٨٥] ، ومثّل ذلك أيضا بقولهم : «شرّ أهرّ ذا ناب» أي : ما أهرّه إلّا شرّ ، قال : «وليس في الآية معنى النّفي ولا الطّلب».

وقال الكسائي : لا أعرف وجه التّثقيل في «لمّا». قال الفارسيّ : ولم يبعد فيما قال وروي عن الكسائي أيضا أنّه قال : الله عزوجل أعلم بهذه القراءة ، لا أعرف لها وجها.

الثامن : قال الزّجّاج : قال بعضهم قولا ، ولا يجوز غيره : أنّ «لمّا» في معنى «إلّا» مثل (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) [الطارق : ٤] ، ثمّ أتبع ذلك بكلام طويل مشكل حاصله يرجع إلى أنّ معنى «إن زيد لمنطلق : ما زيد إلّا منطلق» ، فأجريت المشددة كذلك في المعنى إذا كانت اللام في خبرها ، وعملها النّصب في اسمها باق بحالة مشددة ومخففة ، والمعنى نفي ب «إن» وإثبات باللّام التي بمعنى «إلّا» ، و «لمّا» بمعنى «إلّا» ، وقد تقدّم إنكار أبي عليّ على جواز «إلّا» في مثل هذا التركيب ، فكيف يجوز «لمّا» التي بمعناها؟.

وأمّا قراءة ابن عامر وحمزة وحفص ففيها وجوه :

أحدها : أنّها «إنّ» المشددة على حالها ، فلذلك نصب ما بعدها على أنّه اسمها ، وأمّا «لمّا» فالكلام فيها كما تقدّم من أنّ الأصل (لِمَنْ ما) بالكسر ، أو (لِمَنْ ما) بالفتح ، وجميع تلك الأوجه المذكورة تعود هنا ، والقول بكونها بمعنى «إلّا» مشكل كما تقدّم تحريره عن أبي علي وغيره.

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٩.

٥٨٣

الثاني : قال المازنيّ : «إنّ» هي المخففة ثقلت ، وهي نافية بمعنى «ما» كما خففت «إنّ» ومعناها المثقلة ، و «لمّا» بمعنى «إلّا» ، وهذا قول ساقط جدّا لا اعتبار به ، لأنّه لم يعهد تثقيل «إن» النافية ، وأيضا ف «كلّا» بعدها منصوب ، والنافية لا تنصب.

الثالث : أنّ «لمّا» هنا هي الجازمة للمضارع حذف مجزومها لفهم المعنى.

قال أبو عمرو بن الحاجب ـ في أماليه ـ : «لمّا» هذه هي الجازمة فحذف فعلها للدّلالة عليه ، لما ثبت من جواز حذف فعلها في قولهم : «خرجت ولمّا ، وسافرت ولمّا» وهو سائغ فصيح ، ويكون المعنى : وإنّ كلا لمّا يهملوا أو يتركوا لما تقدّم من الدّلالة عليه من تفصيل المجموعين بقوله : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) ، ثمّ فصّل الأشقياء والسّعداء ، ومجازاتهم ثمّ بيّن ذلك بقوله : (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) ، قال : «وما أعرف وجها أشبه من هذا ، وإن كانت النفوس تستبعده من جهة أنّ مثله لم يرد في القرآن» ، قال : «والتّحقيق يأبى استبعاده».

قال شهاب الدّين : وقد نصّ النّحويون على أنّ «لمّا» يحذف مجزومها باطّراد ؛ قالوا : لأنّها لنفي قد فعل ، وقد يحذف بعدها الفعل ؛ كقوله : [الكامل]

٣٠٣٤ ـ أفد التّرحّل غير أنّ ركابنا

لمّا تزل برحالنا وكأن قد (١)

أي : وكأن قد زالت ، فكذلك منفيه ، وممّن نصّ عليه الزمخشريّ ، على حذف مجزومها ، وأنشد يعقوب على ذلك في كتاب «معاني الشّعر» قول الشّاعر : [الوافر]

٣٠٣٥ ـ فجئت قبورهم بدءا ولمّا

فناديت القبور فلم يجبنه (٢)

قال : «قوله : «بدءا» أي : سيّدا ، وبدء القوم سيّدهم ، وبدء الجزور خير أنصبائها».

قال : وقوله : «ولما» أي : ولمّا أكن سيّدا إلّا حين ماتوا ، فإنّي سدت بعدهم ؛ كقول الآخر : [الكامل]

٣٠٣٦ ـ خلت الدّيار فسدت غير مسوّد

ومن العناء تفرّدى بالسّؤدد

ما نلت ما قد نلت إلّا بعدما

ذهب الكرام وساد عير السّيّد (٣)

قال : ونظير السّكوت على «لمّا» دون فعلها السكّوت على «قد» دون فعلها في قول النابغة : [الكامل]

٣٠٣٧ ـ أفد التّرحّل ..........

 ......... (٤)

قال شهاب الدّين (٥) : وهذا الوجه لا خصوصية له بهذا القراءة ، بل يجيء في قراءة من شدّد «لمّا» سواء شدّد «إن» أو خففها.

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٤١ ـ ١٤٢.

٥٨٤

وأمّا قراءة أبي عمرو ، والكسائي فواضحة جدّا ، فإنّها «إنّ» المشدّدة عملت عملها ، واللّام الأولى لام الابتداء الدّاخلة على خبر «إنّ» ، والثانية جواب قسم محذوف ، أي : وإنّ كلّا للذين والله ليوفّينّهم ، وقد تقدّم وقوع «ما» على العقلاء مقرّرا ، ونظير هذه الآية : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) [النساء : ٧٢] غير أنّ اللّام في «لمن» داخلة على الاسم ، وفي «لمّا» داخلة على الخبر. وقال بعضهم : «ما» هذه زائدة زيدت للفصل بين اللامين ، لام التّوكيد ، ولام القسم ، وقيل : اللّام في «لمّا» موطئة للقسم مثل اللّام في قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الرمز : ٦٥] ، والمعنى : وإنّ جميعهم والله ليوفّينّهم ربّك أعمالهم من حسن وقبح وإيمان وجحود.

وقال الفرّاء (١) ـ عند ذكر هذه الآية ـ : جعل «ما» اسما للنّاس كما جاز (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣] ثم جعل اللّام التي فيها جوابا ل «إنّ» ، وجعل اللّام التي في «ليوفّينّهم» لاما دخلت على نيّة يمين فيما بين «ما» وصلتها ، كما تقول : هذا من ليذهبنّ ، وعندي ما لغيره خير منه ، ومثله : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) [النساء : ٧٢].

ثم قال بعد ذلك ما يدلّ على أنّ اللّام مكررة فقال : إذا عجّلت العرب باللّام في غير موضعها أعادوها إليه ، نحو : إنّ زيدا لإليك لمحسن ؛ ومثله : [الطويل]

٣٠٣٨ ـ ولو أنّ قومي لم يكونوا أعزّة

لبعد لقد لاقيت لا بدّ مصرعا (٢)

قال : أدخلها في «بعد» وليس بموضعها ، وسمعت أبا الجرّاح يقول : «إنّي ليحمد الله لصالح».

وقال الفارسيّ (٣) ـ في توجيه هذه القراءة ـ : «وجهها بيّن وهو أنّه نصب «كلّا» ب «إنّ» وأدخل لام الابتداء في الخبر ، وقد دخلت في الخبر لام أخرى ، وهي التي يتلقّى بها القسم ، وتختصّ بالدّخول على الفعل ، فلمّا اجتمعت اللّامان فصل بينهما كما فصل بين «إنّ» واللّام فدخلتها وإن كانت زائدة للفصل ، ومثله في الكلام : إن زيدا لينطلقنّ».

فهذا ما تلخّص من توجيهات هذه القراءات الأربع ، وقد طعن بعض النّاس في بعضها بما لا تحقق له ، فلا ينبغي أن يلتفت إلى كلامه.

قال المبرد ـ وهي جرأة منه ـ «هذا لحن» يعنى تشديد «لمّا» ؛ قال : «لأنّ العرب لا تقول : إنّ زيدا لمّا خارج». وهو مردود عليه.

قال أبو حيان : وليس تركيب الآية كتركيب المثال الذي قال وهو : إنّ زيدا لمّا

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٨.

(٢) ينظر البيت في رصف المباني ص ٢٤١ ، ٢٤٨ وسر صناعة الإعراب ١ / ٣٩٣ ومعاني الفراء ٢ / ٣٠ وجامع البيان ١٦ / ٤٩٨ والدر المصون ٤ / ١٤٢.

(٣) ينظر : الحجة ٤ / ٣٨٥.

٥٨٥

خارج ، هذا المثال لحن. قال شهاب الدّين : إن عنى أنّه ليس مثله في التركيب من كل وجه فمسلّم ، ولكن ذلك لا يفيد فيما نحن بصدده ، وإن عنى أنه ليس مثله في كونه دخلت «لمّا» المشددة على خبر «إنّ» فليس كذلك ، بل هو مثله في ذلك ، فتسليمه اللّحن في المثال المذكور ليس بصواب ؛ لأنه يستلزم ما لا يجوز أن يقال.

وقال أبو جعفر : القراءة بتشديدهما عند أكثر النّحويين لحن ، حكي عن محمد بن يزيد أنه قال : إنّ هذا لا يجوز ، ولا يقال : إنّ زيدا إلا لأضربنّه ، ولا «لما لأضربنه» قال : وقال الكسائي : «الله أعلم لا أعرف لهذه القراءة وجها». وقد تقدم ذلك ، وتقدم أيضا أنّ الفارسي قال : كما لا يحسن : إنّ زيدا إلّا لمنطلق ؛ لأنّ «إلّا» إيجاب بعد نفي ، ولم يتقدّم هنا إلّا إيجاب مؤكّد ، فكذا لا يحسن : إنّ زيدا لما منطلق ، لأنه بمعناه ، وإنّما ساغ نشدتك بالله لمّا فعلت .. إلى آخر كلامه. وهذه أقوال مرغوب عنها ؛ لأنّها معارضة للمتواتر القطعي.

وأمّا القراءات الشّاذة فأوّلها قراءة أبي ومن تبعه «وإن كل لما» بتخفيف «إن» ورفع «كل» على أنّها «إن» النافية و «كل» مبتدأ ، و «لمّا» مشددة بمعنى «إلّا» ، و «ليوفّينّهم» جواب قسم محذوف ، وذلك القسم وجوابه خبر المبتدأ. وهي قراءة جليّة واضحة كما قرؤوا كلّهم (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ) [يس : ٣٢] ومثله (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ) [الزخرف: ٣٥] ، ولا التفات إلى قول من نفى أنّ «لمّا» بمنزلة «إلّا» فقد تقدّمت أدلته.

وأما قراءة اليزيدي وابن أرقم «لمّا» بالتشديد منونة ف «لمّا» فيها مصدر من قولهم : «لممته ـ أي : جمعته ـ لمّا» ومنه قوله تعالى : (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا) [الفجر : ١٩] ، ثم في تخريجه وجهان :

أحدهما : ما قاله أبو الفتح ، وهو أن يكون منصوبا بقوله : «ليوفّينّهم» على حدّ قولهم : قياما لأقومنّ ؛ وقعودا لأقعدنّ ، والتقدير : توفية جامعة لأعمالهم ليوفينهم ، يعني أنه منصوب على المصدر الملاقي لعامله في المعنى دون الاشتقاق.

والثاني : ما قاله أبو علي الفارسي وهو : أن يكون وصفا ل «كلّ» ، وصفا بالمصدر مبالغة ، وعلى هذا فيجب أن يقدّر المضاف إليه «كل» نكرة ، ليصحّ وصف «كل» بالنّكرة ، إذ لو قدّر المضاف معرفة لتعرّفت «كل» ، ولو تعرّفت لامتنع وصفها بالنّكرة ، فلذلك قدّر المضاف إليه نكرة ، ونظيره قوله تعالى : (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا) فوقع «لمّا» نعتا ل «أكلا» وهو نكرة.

قال أبو علي : ولا يجوز أن يكون حالا ؛ لأنه لا شيء في الكلام عامل في الحال. وظاهر عبارة الزمخشري أنّه تأكيد تابع ل «كلّا» كما يتبعها أجمعون ، أو أنّه منصوب على النّعت ل «كلّا» ، فإنه قال : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) كقوله : (أَكْلاً لَمًّا) والمعنى : وإن كلّا ملمومين بمعنى : مجموعين ، كأنه قيل : وإن كلّا جميعا كقوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ

٥٨٦

كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [الحجر : ٣٠]. انتهى. لا يريد بذلك أنّه تأكيد صناعيّ ، بل فسّر معنى ذلك وأراد : أنّه صفة ل «كلّا» ولذلك قدّره : بمجموعين ، وقد تقدّم في بعض توجيهات «لمّا» بالتّشديد من غير تنوين ، أنّ المنون أصلها ، وإنّما أجري الوصل مجرى الوقف ، وقد عرف ما فيه. وخبر «إن» على هذه القراءة هي جملة القسم المقدّر وجوابه سواء في ذلك تخريج أبي الفتح وتخريج شيخه.

وأمّا قراءة الأعمش فواضحة جدّا ، وهي مفسّرة لقراءة الحسن المتقدّمة ، لو لا ما فيها من مخالفة سواد الخط.

وأمّا قراءة ما في مصحف أبي كما نقلها أبو حاتم ف «إن» فيها نافية ، و «من» زائدة في النّفي ، و «كل» مبتدأ ، و «ليوفّينّهم» مع قسمه المقدّر خبرها ، فتؤول إلى قراءة الأعمش التي قبلها ، إذ يصير التقدير بدون «من» : «وإن كلّ إلّا ليوفّينّهم». والتنوين في «كلا» عوض من المضاف إليه. قال الزمخشري (١) : يعنى : وإنّ كلّهم ، وإنّ جميع المختلفين فيه. وقد تقدّم أنّه على قراءة «لمّا» بالتنوين في تخريج أبي عليّ له ، لا يقدّر المضاف إليه «كل» إلّا نكرة لأجل نعتها بالنّكرة.

وقد تضمّنت هذه الآية الكريمة تأكيدات ، فمنها :

التوكيد ب «إنّ» وب «كلّ» وبلام الابتداء الدّاخلة على خبر «إنّ» وبزيادة «ما» على رأي ، وبالقسم المقدّر وباللّام الواقعة جوابا له ، وبنون التوكيد ، وبكونها مشددة ، وإردافها بالجملة التي بعدها من قوله (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فإنّه يتضمّن وعيدا شديدا للعاصي ، ووعدا صالحا للطّائع.

وقرأ العامّة : «يعملون» بياء الغيبة ، جريا على ما تقدّم من المختلفين ، وقرأ ابن (٢) هرمز «بما تعملون» بالخطاب ، فيجوز أن يكون التفاتا من غيبة إلى خطاب ، ويكون المخاطبون الغيب المتقدّمين ، ويجوز أن يكون التفاتا إلى خطاب غيرهم.

فصل

معنى الآية : أنّ من عجلت عقوبته ، ومن أخرت ومن صدّق الرّسل ، ومن كذّب فحالهم سواء في أنّه تعالى يوفيهم أجر أعمالهم في الآخرة ، فجمعت الآية الوعد ، والوعيد فإنّ توفية جزاء الطاعات وعد عظيم ، وتوفية جزاء المعاصي وعيد عظيم ، وقوله : (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) توكيد للوعد والوعيد ، فإنّه لمّا كان عالما بجميع المعلومات كان عالما بمقادير الطّاعات والمعاصي ، فكان عالما بالقدر اللّائق بكل عمل من الجزاء ، فحينئذ لا يضيع شيء من الحقوق وذلك نهاية البيان.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٣٢.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٦٨ والدر المصون ٤ / ١٤٣.

٥٨٧

قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) الآية.

لمّا شرح الوعد والوعيد قال لرسوله (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) وهذه كلمة جامعة لكلّ ما يتعلّق بالعقائد والأعمال ، سواء كان مختصّا به ، أو متعلقا بتبليغ الوحي وبيان الشّرائع ، ولا شكّ أنّ البقاء على الاستقامة الحقيقيّة مشكل جدّا.

قال ابن الخطيب : وأنا أضرب لذلك مثلا يقرب صعوبة هذا المعنى إلى العقل السّليم ، وهو أنّ الخطّ المستقيم الفاصل بين الظّلّ وبين الضّوء جزء واحد لا يقبل القسمة في العرض ، وذلك الخط ممّا لا يدركه الحس ، فإنّه إذا قرب طرف الظل من طرف الضّوء اشتبه البعض بالبعض في الحسّ ، فلم يقع الحس على إدراك ذلك الخط بعينه بحيث يتميز عن كلّ ما سواه.

وإذا عرفت هذا في المثال فاعرف مثاله في جميع أبواب العبودية.

فأولها : معرفة الله وتحصيل هذه المعرفة على وجه يبقى العقل مصونا في طرف الإثبات عن التّشبيه ، وفي طرف النّفي عن التّعطيل في غاية الصعوبة ، واعتبر سائر مقامات المعرفة من نفسك ، وأيضا فالقوّة الغضبية والقوّة الشهوانية حصل لكل واحدة منهما طرف إفراط وتفريط ، وهما مذمومان ، والفاصل هو المتوسط بينهما بحيث لا يميل إلى أحد الجانبين ، والوقوف عليه صعب ؛ فثبت أنّ معرفة الصّراط المستقيم في غاية الصّعوبة ، وبتقدير معرفته فالبقاء عليه والعمل به أصعب ، ولما كان هذا المقام في غاية الصعوبة ، لا جرم قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : ما نزلت على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف وكرم وبجّل ومجّد وعظّم ـ في جميع القرآن آية أشق من هذه ، ولهذا قال عليه الصلاة والسّلام : «شيّبتني هود وأخواتها» (١) وروي عن بعضهم قال : رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام ، فقلت له : روي عنك أنك قلت : «شيّبتني هود وأخواتها» فقال «نعم» قلت : وبأي آية؟ فقال قوله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ)(٢).

قوله : (كَما أُمِرْتَ) الكاف في محلّ النصب ، إمّا على النّعت لمصدر محذوف ، كما هو المشهور عند المعربين. قال الزمخشريّ : أي : استقم استقامة مثل الاستقامة الّتي

__________________

(١) أخرجه الترمذي في «الشمائل» رقم (٤١) وأبو يعلى (٢ / ١٨٤) رقم (٨٨) والبغوي في «شرح السنة» (٧ / ٣٧٥) والطبراني في «المعجم الكبير» (٢٢ / ١٢٣) رقم (٣١٨) من حديث أبي جحيفة.

وله شاهد من حديث أبي بكر :

أخرجه أبو يعلى (١ / ١٠٢) رقم (١٠٧) وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ٣٧) وقال : رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح ورواه أبو يعلى إلّا أن عكرمة لم يدرك أبا بكر.

وله شاهد آخر من حديث ابن عباس :

أخرجه الترمذي (٣٢٩٣) والحاكم (٢ / ٤٧٦) وصححه.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٧٨) وعزاه إلى البيهقي في شعب الإيمان.

٥٨٨

أمرت بها على جادّة الحقّ غير عادل منها. وإمّا على الحال من ضمير ذلك المصدر.

واستفعل هنا للطّلب ، كأنه قيل : اطلب الإقامة على الدّين ، كما تقول : استغفر أي : اطلب الغفران.

قوله : (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) في «من» وجهان ، أحدهما : أنّه منصوب على المفعول به ، كذا ذكره أبو البقاء (١) ، ويصير المعنى : استقم مصاحبا لمن تاب مصاحبا لك ، وفي هذا المعنى نبوّ عن ظاهر اللفظ.

والثاني : أنّه مرفوع فإنّه نسق على المستتر في «استقم» ، وأغنى الفصل بالجارّ عن تأكيده بضمير منفصل في صحّة العطف ، وقد تقدّم هذا البحث في قوله : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ)،وأنّ الصحيح أنّه من عطف الجمل لا من عطف المفردات ، ولذلك قدّره الزمخشريّ فاستقم أنت ، وليستقم من تاب معك ، فقدّر الرافع له فعلا لائقا برفعه الظّاهر.

وقال الواحدي : محلها ابتداء تقديره : ومن تاب معك فليستقم.

فصل

معنى الآية : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) على دين ربّك ، والعمل به ، والدّعاء إليه ، كما أمرت ، (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) أي : من آمن معك فليستقيموا ، قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنّهي ، ولا تروغ روغان الثّعلب (٢).

روى هشام بن عروة عن أبيه عن سفيان بن عبد الله الثّقفي ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك ، قال : «قل آمنت بالله ثم استقم»(٣).

فصل

هذه الآية أصل عظيم في الشّريعة ، وذلك أنّ القرآن لمّا ورد بترتيب الوضوء في اللفظ وجب اعتبار الترتيب فيه ، لقوله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ،) ولمّا ورد الأمر في الزّكاة بأداء الإبل من الإبل ، والبقر من البقر وجب اعتبارها ، وكذا القول في كل ما ورد أمر الله به.

قال ابن الخطيب : وعندي أنه لا يجوز تخصيص النصّ بالقياس ؛ لأنّه لمّا دلّ عموم النّص على حكم وجب العمل بمقتضاه ، لقوله تعالى ـ : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) فالعمل بالقياس انحراف عنه.

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ٢ / ٤٧.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٠٤).

(٣) أخرجه مسلم ١ / ٦٥ كتاب الإيمان باب جامع أوصاف الإسلام (٦٢ / ٣٨). وأخرجه أحمد في المسند ٣ / ٤١٣ وابن ماجه ٢ / ٣١٤ بزيادة في آخره : قلت يا رسول الله ما أكثر ما تخاف علي فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلسان نفسه ثم قال : هذا (٣٩٧٢) والترمذي بالزيادة المذكورة ٤ / ٥٢٤ ـ ٥٢٥ (٢٤١٠). وقال : هذا حديث صحيح. وقد روي عن غير وجه عن سفيان بن عبد الله الثقفي.

٥٨٩

ثم قال : (وَلا تَطْغَوْا) أي : لا تجاوزوا أمري ولا تعصوني. وقيل : لا تغلوا فتزيدوا على ما أمرت ونهيت. والطّغيان : تجاوز الحدّ. وقيل : لا تطغوا في القرآن فتحلّوا حرامه وتحرّموا حلاله. وقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : «تواضعوا لله ولا تتكبروا على أحد» (١). (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) قرأ العامّة «تعملون» بالتّاء جريا على الخطاب المتقدم.

وقرأ الحسن والأعمش (٢) وعيسى الثقفيّ بياء الغيبة ، وهو التفات من خطاب لغيبة عكس ما تقدّم في (بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

قوله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا). قرأ العامّة بفتح التّاء والكاف ، والماضي من هذا «ركن» بكسر العين ك : علم ، وهذه الفصحى ، كذا قال الأزهريّ. وقال غيره : «وهي لغة قريش». وقرأ أبو عمرو في رواية : «تركنوا» بكسر حرف المضارعة ، وقد تقدّم ذلك في قوله : «نستعين»(٣).

وقرأ قتادة ، وطلحة ، والأشهب ، ورويت عن أبي عمرو «تركنوا» بضمّ العين وهو مضارع «ركن» بفتحها ك : قتل يقتل ، وقال بعضهم : هو من التّداخل ، يعني من نطق ب «ركن» بكسر العين قال : «يركن» بضمها ، وكان من حقّه أن يفتح ، فلمّا ضمّ علمنا أنه استغنى بلغة غيره في المضارع عن لغته ، وأمّا في هذه القراءة فلا ضرورة بنا إلى ادّعاء التّداخل ، بل ندّعي أنّ من فتح الكاف أخذه من : «ركن» بالكسر ، ومن ضمّها أخذه من «ركن» بالفتح ، ولذلك قال الراغب : «والصحيح أن يقال : ركن يركن وركن يركن بالكسر في الماضي مع الفتح في المضارع ، وبالفتح في الماضي مع الضمّ في المضارع». وشذّ أيضا قولهم : ركن يركن بالفتح فيهما ، وهو من التداخل ؛ فتحصّل من هذا أنّه قال : «ركن» بكسر العين وهي اللغة العالية كما تقدّم ، و «ركن» بفتحها ، وهي لغة قيس وتميم ، وزاد الكسائيّ : «ونجد» وفي المضارع ثلاث : الفتح ، والكسر ، والضمّ. وقرأ ابن أبي (٤) عبلة : «تركنوا» مبنيا للمفعول من : أركنه إذا أماله ، فهو من با ب «لا أرينك هاهنا» و (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ) [الأعراف : ٢] وقد تقدم.

والرّكون : الميل ، ومنه الرّكن للاستناد إليه.

قوله : «فتمسّكم» منصوب بإضمار «أن» في جواب النهي. وقرأ ابن وثاب (٥) ، وعلقمة ، والأعمش في آخرين «فتمسّكم» بكسر التّاء.

قوله : (وَما لَكُمْ) هذه الجملة يجوز أن تكون حالية ، أي : تمسّكم حال انتفاء ناصركم.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ٥٧).

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢١٢ والبحر المحيط ٥ / ٢٦٨ والدر المصون ٤ / ١٤٤.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢١٢ والبحر المحيط ٥ / ٢٦٨ والدر المصون ٤ / ١٤٤.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٣٣ والبحر المحيط ٥ / ٢٦٨ والدر المصون ٤ / ١٤٤ ، ١٤٥.

(٥) قرأ بها أيضا يحيى وحمزة ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢١٢ والبحر المحيط ٥ / ٢٦٩ ولم يذكر يحيى وينظر : الدر المصون ٤ / ١٤٥.

٥٩٠

ويجوز أن تكون مستأنفة. و (مِنْ أَوْلِياءَ) «من» فيه زائدة ، إمّا في الفاعل ، وإمّا في المبتدأ ، لأنّ الجارّ إذا اعتمد على أشياء ـ أحدها النّفي ـ رفع الفاعل.

قوله : (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) العامّة على ثبوت نون الرّفع ؛ لأنه فعل مرفوع ، إذ هو من باب عطف الجمل ، عطف جملة فعلية على جملة اسمية. وقرأ زيد بن علي (١) ـ رضي الله عنهما ـ بحذف نون الرفع ، عطفه على «تمسّكم» ، والجملة على ما تقدّم من الحالية أو الاستئناف ، فتكون معترضة ، وأتى ب «ثمّ» تنبيها على تباعد الرّتبة.

فصل

معنى الآية : قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : «ولا تميلوا» (٢).

والرّكون : هو المحبّة والميل بالقلب. وقال أبو العالية : لا ترضوا بأعمالهم (٣).

وقال السدي : لا تداهنوا الظّلمة (٤).

وعن عكرمة : لا تطيعوهم (٥) وقيل لا تسكنوا إلى الذين ظلموا «فتمسّكم» ، فتصيبكم (النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) أي : ليس لكم أولياء ولا أعوان يخلصونكم من عذاب الله ، ثمّ لا تجدوا من ينصركم.

قوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) الآية.

لمّا أمره بالاستقامة أردفه بالأمر بالصّلاة ، وذلك يدلّ على أنّ أعظم العبادات بعد الإيمان بالله هو الصلاة.

قوله : (طَرَفَيِ النَّهارِ) ظرف ل «أقم» ويضعف أن يكون ظرفا للصلاة ، كأنه قيل : أي أقم الصّلاة الواقعة في هذين الوقتين ، والطرف ، وإن لم يكن ظرفا ، ولكنّه لمّا أضيف إلى الظّرف أعرب بإعرابه ، وهو كقولك : أتيته أول النّهار ، وآخره ونصف الليل ، بنصب هذه كلها على الظرف لمّا أضيفت إليه ، وإن كانت ليست موضوعة للظّرفية.

وقرأ العامّة «زلفا» بضمّ الزاي ، وفتح اللام ، وهي جمع «زلفة» بسكون اللام ، نحو : غرف في جمع غرفة ، وظلم في جمع ظلمه. وقرأ أبو جعفر (٦) ، وابن أبي إسحاق بضمها ، وفي هذه القراءة ثلاثة أوجه :

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٦٩ والدر المصون ٤ / ١٤٥.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٢٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦٣٧) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٢٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦٣٧) وعزاه إلى أبي الشيخ.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٠٤).

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦٣٧) وعزاه إلى أبي الشيخ عن عكرمة.

(٦) قرأ به أيضا طلحة بن مصرف وابن محيصن وعيسى ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢١٢ والبحر المحيط ولم يقرأ بها ابن محيصن ٥ / ٢٧٠ وينظر القراءة في الدر المصون ٤ / ١٤٥.

٥٩١

أحدها : أنّه جمع «زلفة» أيضا ، والضّمّ للإتباع ، كما قالوا : بسرة وبسر بضم السين إتباعا لضمّة الباء.

الثاني : أنّه اسم مفرد على هذه الزّنة ك : عنق.

الثالث : أنه جمع «زليف» قال أبو البقاء : «وقد نطق به» ، يعنى أنّهم قالوا زليف ، و «فعيل» يجمع على «فعل» نحو : رغيف ورغف ، وقضيب وقضب.

وقرأ مجاهد وابن محيصن بإسكان اللّام (١) ، وفيها وجهان :

أحدهما : أنّه يحتمل أن تكون هذه القراءة مخفّفة من ضمّ العين فيكون فيها ما تقدّم.

والثاني : أنّه سكون أصل من باب اسم الجنس نحو : بسرة وبسر من غير إتباع.

وقرأ مجاهد وابن (٢) محيصن أيضا في رواية : «وزلفى» بزنة : «حبلى» جعلوها على صفة الواحدة المؤنثة اعتبارا بالمعنى ؛ لأنّ المعنى على المنزلة الزّلفى ، أو الساعة الزّلفى ، أي : القريبة.

وقد قيل : إنّه يجوز أن يكون أبدلا التنوين ألفا ثم أجريا الوصل مجرى الوقف فإنّهما يقرآن بسكون اللّام وهو محتمل.

وقال الزمخشريّ : والزّلفى بمعنى الزّلفة ، كما أنّ القربى بمعنى القربة يعنى : أنه ممّا تعاقب فيه تاء التّأنيث وألفه.

وفي انتصاب : «زلفا» وجهان :

أظهرهما : أنه نسق على «طرفي» فينتصب الظّرف ، إذ المراد بها ساعات الليل القريبة.

والثاني : أن ينتصب انتصاب المفعول به نسقا على الصّلاة.

قال الزمخشريّ (٣) ـ بعد أن ذكر القراءات المتقدمة ـ : وهو ما يقرب من آخر النّهار ومن الليل ، وقيل : زلفا من الليل وقربا من الليل ، وحقّها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة ، أي : أقم الصلاة طرفي النّهار ، وأقم زلفا من اللّيل على معنى صلوات تتقرّب بها إلى الله تعالى في بعض الليل.

والزّلفة : أول ساعات الليل ، قاله ثعلب. وقال الأخفش وابن قتيبة : «الزلف : ساعات الليل وآناؤه ، وكلّ ساعة منه زلفة» فلم يخصصاه بأوّل الليل ؛ وقال العجاج : [الرجز]

٣٠٣٩ ـ ناج طواه الأين ممّا وجفا

طيّ اللّيالي زلفا فزلفا

سماوة الهلال حتّى احقوقفا (٤)

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢١٢ والبحر المحيط ٥ / ٢٧٠ والدر المصون ٤ / ١٤٥.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢١٢ والبحر المحيط ٥ / ٢٧٠ والدر المصون ٤ / ١٤٥.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٣٥.

(٤) تقدم.

٥٩٢

وأصل الكلمة من «الزّلفى» ، والقرب ، يقال : أزلفه فازدلف ، أي : قربّه فاقترب قال تعالى : (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) [الشعراء : ٦٤] ، وفي الحديث : «ازدلفوا إلى الله بركعتين»(١).

وقال الرّاغب (٢) : والزّلفة : المنزلة والحظوة ، وقد استعملت الزّلفة في معنى العذاب كاستعمال البشارة ونحوها ، والمزالف : المراقي ، وسمّيت ليلة المزدلفة لقربهم من منى بعد الإفاضة. وقوله : (مِنَ اللَّيْلِ) صفة ل «زلفا».

فصل

معنى (طَرَفَيِ النَّهارِ) أي : الغداة والعشي. قال مجاهد ـ رحمه‌الله ـ : طرفا النهار الصبح ، والظهر ، والعصر. (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) يعنى : صلاة المغرب والعشاء.

وقال الحسن : طرفا النّهار : الصبح ، والظهر والعصر. (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) المغرب والعشاء وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : طرفا النهار الغداة والعشي ، يعني صلاة الصبح والمغرب (٣).

فصل

قال ابن الخطيب (٤) ـ رحمه‌الله ـ : «الأشهر أنّ الصلوات التي في طرفي النهار هي الفجر والعصر ، وذلك لأنّ أحد طرفي النهار طلوع الشّمس ، والطّرف الثاني غروب الشمس.

فالأول : هو صلاة الفجر.

والطرف الثاني لا يجوز أن يكون صلاة المغرب ؛ لأنها داخلة تحت قوله : (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) فوجب حمل الطّرف الثاني على صلاة العصر.

وإذا تقرّر هذا كانت الآية دليلا على قول أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ في أنّ التنوير بالفجر أفضل ، وفي أنّ تأخير العصر أفضل ؛ لأنّ ظاهر الآية يدلّ على وجوب إقامة الصّلاة في طرفي النهار ، وبينا أنّ طرفي النهار هما الزمان الأول لطلوع الشمس ، والزّمان الثّاني لغروب الشمس ، وأجمعت الأمة على أنّ إقامة الصّلاة في ذلك الوقت من غير ضرورة غير مشروعة فقد تعذّر العمل بظاهر الآية ، فوجب حمله على المجاز ، وهو أن يكون المراد : إقامة الصلاة في الوقت الذي يقرب من طرفي النهار ؛ لأنّ ما يقرب من الشّيء يجوز أن يطلق عليه اسمه ، وإذا كان كذلك فكل وقت كان أقرب لطلوع الشمس ،

__________________

(١) ينظر : المفردات ٤ / ٢.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٢٥).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٢٥) عن الحسن وابن زيد وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٠٥) عن ابن عباس.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ١٧ / ٥٨.

٥٩٣

وإلى غروبها كان أقرب إلى ظاهر اللفظ ، وإقامة صلاة الفجر عند التنوير أقرب إلى وقت الطّلوع من إقامتها عند التغليس ، وكذلك إقامة صلاة العصر عند ما يصير ظل كل شيء مثليه ، أقرب إلى وقت الغروب من إقامتها عند ما يصير ظلّ كل شيء مثله ، والمجاز كلّما كان أقرب إلى الحقيقة ، كان حمل اللفظ عليه أولى.

فصل

قال أبو بكر الباقلاني ـ رضي الله عنه ـ : إنّ الخوارج تمسّكوا بهذه الآية في إثبات أنّ الواجب ليس إلّا الفجر والعشاء من وجهين :

الأول : أنّهما واقعان على طرفي النهار ؛ فوجب أن يكون هذا القدر كافيا.

فإن قيل : قوله (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) يوجب صلوات أخرى.

قلت : لا نسلّم ، فإنّ طرفي النهار موصوفان بكونهما زلفا من اللّيل ، فإن ما لا يكون نهارا يكون ليلا غاية ما في الباب أنّ هذا يقتضي عطف الصفة على الموصوف ، وذلك كثير في القرآن والشعر.

الوجه الثاني : أنه تعالى قال : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) وهذا يقتضي أنّ من صلّى طرفي النّهار كان إقامتهما كفارة لكلّ ذنب ، فبتقدير أن يقال : إنّ سائر الصلوات واجبة إلّا أنّ إقامتها يجب أن تكون كفارة لترك سائر الصلوات ، وهذا القول باطل بإجماع الأمّة فلا يلتفت إليه.

فصل

قيل في قوله تعالى : (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) أنه يقتضي الأمر بإقامة الصلاة في ثلاث زلف من الليل ؛ لأنّ أقلّ الجمع ثلاثة ، والمغرب والعشاء وقتان ؛ فيجب الحكم بوجوب الوتر.

قوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) قال ابن عبّاس : إنّ الصّلوات الخمس كفارة لسائر الذّنوب بشرط اجتناب الكبائر (١). وروي عن مجاهد ـ رحمه‌الله ـ : «إنّ الحسنات هي قول العبد : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر (٢).

وروي أنّها نزلت في أبي اليسر ، قال : أتتني امرأة تبتاع تمرا ، فقلت لها إنّ في بتي تمرا أطيب من هذا ؛ فدخلت معي في البيت ، فأهويت إليها فقبّلتها ، فأتيت أبا بكر ـ رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين ـ فذكرت ذلك له فقال : استر على نفسك وتب ، فأتيت عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال : استر على نفسك وتب فلم أصبر ، فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت ذلك ، فقال : «أخلفت غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا؟» حتّى تمنّى أنّه لم يكن أسلم إلّا تلك السّاعة حتّى ظنّ أنّه من أهل النّار. فأطرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٠٥).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٣١).

٥٩٤

أوحي إليه (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) الآية ، فقال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ قال : «بل للنّاس عامّة» (١). وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «الصّلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان مكفّرات ما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر» (٢).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أرأيتم لو أنّ نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كلّ يوم خمس مرّات ، هل يبقى من درنه شيء»؟ قالوا : لا ، قال : «فذلك مثل الصّلوات الخمس ، يمحو الله بهنّ الخطايا» (٣).

فصل

احتجّ من قال إنّ المعصية لا تضرّ مع الإيمان بهذه الآية ؛ لأنّ الإيمان أشرف الحسنات ، وأجلها ، وأعظمها ، ودلّت الآية على أنّ الحسنات تذهب السيئات ، والإيمان يذهب الكفر الذي هو أعلى درجة في العصيان ؛ فلأن يذهب المعصية التي هي أقل درجة أولى ، فإن لم يفد إزالة العقاب بالكلية فلا أقلّ من أن يفيد إزالة العقاب الدّائم المؤبّد.

ثم قال تعالى : (ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) أي : ذلك الذي ذكرناه ، وقيل : إشارة إلى القرآن «ذكرى» موعظة ، «للذّاكرين» أي : لمن ذكره. (وَاصْبِرْ) يا محمّد على ما تلقى من الأذى.

وقيل : على الصّلاة ، نظيره : قوله تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [طه : ١٣٢]. (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ،) في أعمالهم ، وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «يعني المصلّين» (٤).

قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٧٢ ـ ٢٧٣) كتاب التفسير : سورة هود حديث (٣١١٥) والنسائي في الكبرى (٦ / ٣٦٦) رقم (١١٢٤٨) والطبري في «تفسيره» (٧ / ١٣٤).

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦٣٨) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن مردويه.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٢) أخرجه مسلم ١ / ٢٠٩ ، كتاب الطهارة : باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة (١٦ / ٢٣٣) والترمذي ١ / ٤١٨ ـ ٤١٩ كتاب الصلاة : باب ما جاء في فضل الصلوات الخمس (٢١٤) وأحمد ٢ / ٤٨٤.

(٣) أخرجه البخاري ٢ / ١١ ، كتاب مواقيت الصلاة باب الصلوات الخمس كفارة (٥٢٨) ، ومسلم ١ / ٤٦٢ ـ ٤٦٣ كتاب المساجد ومواضع الصلاة : باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا ويرفع به الدرجات (٢٨٣ / ٦٦٧) والترمذي ١ / ٤١٨ ، كتاب الصلاة : باب ما جاء في فضل الصلوات الخمس (٢١٤) ، وأحمد ٢ / ٤٨٤.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٩ / ٧٥).

٥٩٥

(١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)(١٢٠)

قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ) من الآية.

لمّا بيّن أنّ الأمم المتقدمين حلّ بهم عذاب الاستئصال ، بيّن أنّ السبب فيه أمران :

الأول : أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض ، فقال : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ ،) «لو لا» تحضيضية دخلها معنى التّفجّع عليهم ، وهو قريب من مجاز قوله تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) [يس : ٣٠] ، وما يروى عن الخليل ـ رحمه‌الله ـ أنه قال : كل ما كان في القرآن من «لو لا» فمعناه «هلّا» إلّا التي في الصافات (فَلَوْ لا أَنَّهُ) ، لا يصحّ عنه لورودها كذلك في غير الصافات (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ) [القلم : ٤٩] ، (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) [الإسراء : ٧٤] ، (وَلَوْ لا رِجالٌ) [الفتح : ٢٥].

و (مِنَ الْقُرُونِ) يجوز أن يتعلّق ب «كان» ؛ لأنّها هنا تامّة ، إذ المعنى : فهلّا وجد من القرون ، أو حدث ، أو نحو ذلك ، ويجوز أن يتعلّق بمحذوف على أنّه حال من : (أُولُوا بَقِيَّةٍ) لأنه لو تأخّر عنه لجاز أن يكون نعتا له ، و (مِنْ قَبْلِكُمْ) حال من «القرون» و «ينهون» حال من (أُولُوا بَقِيَّةٍ) لتخصّصه بالإضافة ، ويجوز أن يكون نعتا ل (أُولُوا بَقِيَّةٍ) وهو أولى.

ويضعف أن تكون «كان» هذه ناقصة لبعد المعنى من ذلك ، وعلى تقديره يتعيّن تعلّق (مِنَ الْقُرُونِ) بالمحذوف على أنّه حال ؛ لأنّ «كان» النّاقصة لا تعمل عند جمهور النّحاة ، ويكون «ينهون» في محلّ نصب خبرا ل «كان».

وقرأ العامّة «بقيّة» بفتح الباء وتشديد الياء ، وفيها وجهان :

أحدهما : أنّها صفة على «فعيلة» للمبالغة ، بمعنى «فاعل» ؛ ولذلك دخلت التّاء فيها ، والمراد بها حينئذ جند الشيء وخياره ، وإنّما قيل لجنده وخياره : «بقيّة» في قولهم : فلان بقية النّاس ، وبقية الكرام ؛ لأنّ الرّجل يستبقي ممّا يخرجه أجوده وأفضله والرجل يبقى بعده ذكر جوده وفضله ؛ وعليه حمل بيت الحماسة : [البسيط]

٣٠٤٠ ـ إن تذنبوا ثمّ تأتيني بقيّتكم

 ......... (١)

وفي المثل : «في الزّوايا خبايا ، وفي الرّجال بقايا».

__________________

(١) تقدم.

٥٩٦

والثاني : أنّها مصدر بمعنى البقوى. قال الزمخشريّ ويجوز أن تكون البقيّة بمعنى البقوى كالتقيّة بمعنى التّقوى ، أي : فهلا كان منهم ذوو إبقاء على أنفسهم ، وصيانة لها من سخط الله وعقابه. والمعنى : فهلّا كان منهم أولوا مراقبة وخشية من انتقام الله.

وقرأت (١) فرقة «بقية» بتخفيف الياء ، وهي اسم فاعل من بقي ك : شجية من شجي ، والتقدير أولوا طائفة بقية أي : باقية. وقرأ أبو جعفر (٢) ، وشيبة «بقية» بضمّ الفاء وسكون العين.

وقرىء «بقية» على المرّة من المصدر. و (فِي الْأَرْضِ) متعلق بالفساد ، والمصدر المقترن ب «أل» يعمل في المفاعيل الصريحة فكيف في الظروف؟ ويجوز أن يتعلّق بمحذوف على أنه حال من «الفساد».

فصل

المعنى : فهلّا (كانَ مِنَ الْقُرُونِ) التي أهلكناهم ، (مِنْ قَبْلِكُمْ) أولوا تمييز وقيل : أولوا طاعة. وقيل : أولوا خير ، يقال : فلان على بقيّة من الخير إذا كان على خصلة محمودة. و (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) أي : يقومون بالنّهي عن الفساد ، ومعناه جحدا ، أي : لم يكن فيهم أولوا بقية.

قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون استثناء منقطعا ؛ وذلك أن يحمل التحضيض على حقيقته ، وإذا حمل على حقيقته تعين أن يكون الاستثناء منقطعا لئلّا يفسد المعنى.

قال الزمخشريّ (٣) : معناه : ولكن قليلا ممّن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد ، وسائرهم تاركون النّهي ثم قال : فإن قلت : هل لوقوع هذا الاستثناء متصلا وجه يحمل عليه؟ قلت : إن جعلته متّصلا على ما هو عليه ظاهر الكلام كان المعنى فاسدا ؛ لأنّه يكون تحضيضا لأولي البقية على النّهي عن الفساد إلّا للقليل من النّاجين منهم ، كما تقول : هلا قرأ قومك القرآن إلّا الصلحاء منهم ، تريد استثناء الصّلحاء من المحضّضين على قراءة القرآن. فيئول الكلام إلى أنّ الناجين لم يحضّوا على النّهي عن الفساد ، وهو معنى فاسد.

والثاني : أن يكون متّصلا ، وذلك بأن يؤوّل التحضيض على قراءة القرآن بمعنى النّفي ، فيصحّ ذلك ؛ إلّا أنّه يؤدّي إلى النصب غير الموجب ، وإن كان غير النصب أولى.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢١٤ والبحر المحيط ٥ / ٢٧١ والدر المصون ٤ / ١٤٦ ، ٢ / ١٤٧.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢١٤ والبحر المحيط ٥ / ٢٧١ والدر المصون ٤ / ١٤٧.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٣٧.

٥٩٧

قال الزمخشري (١) : فإن قلت : في تحضيضهم على النّهي عن الفساد معنى نفيه عنهم ، فكأنّه قيل : ما كان من القرون أولو بقية إلّا قليلا كان استثناء متصلا ومعنى صحيحا ، وكان انتصابه على أصل الاستثناء ، وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل.

ويؤيد أنّ التحضيض هنا في معنى النّفي قراءة زيد بن عليّ «إلا قليل» بالرفع ، لاحظ معنى النّفي فأبدل على الأفصح ، كقوله : (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) [النساء : ٦٦].

وقال الفراء : المعنى : فلم يكن ؛ لأنّ في الاستفهام ضربا من الجحد سمّى التّحضيض استفهاما.

ونقل عن الأخفش أنه كان يرى تعيّن اتصال هذا الاستثناء كأنّه لحظ النّفي. و «من» في: (مِمَّنْ أَنْجَيْنا) للتبعيض. ومنع الزمخشريّ أن تكون للتبعيض بل للبيان فقال : حقّها أن تكون للبيان لا للتبعيض ؛ لأنّ النّجاة إنّما هي للنّاهين وحدهم ، بدليل قوله : (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ) [الأعراف : ١٦٥].

فعلى الأول يتعلق بمحذوف على أنها صفة ل «: قليلا».

وعلى الثاني : يتعلق بمحذوف على سبيل البيان ، أي : أعني.

قوله : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) هذا السبب الثاني في نزول عذاب الاستئصال.

قرأ العامّة : «اتّبع» بهمزة وصل وتاء مشددة ، وياء ، مفتوحتين ، فعلا ماضيا مبنيا للفاعل وفيه وجهان :

أحدهما : أنّه معطوف على مضمر.

والثاني : أنّ الواو للحال لا للعطف ، ويتّضح ذلك بقول الزمخشري فإن قلت : علام عطف قوله : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا)؟ قلت : إن كان معناه : واتّبعوا الشّهوات كان معطوفا على مضمر ؛ لأنّ المعنى : إلّا قليلا ممّن أنجينا منهم نهوا عن الفساد ، واتّبع الذين ظلموا شهواتهم ، فهو عطف على «نهوا» وإن كان معناه : واتّبعوا جزاء الإتراف ، فالواو للحال ، كأنّه قيل : أنجينا القليل ، وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم.

فجوز في قوله : (ما أُتْرِفُوا) وجهين :

أحدهما : أنّه مفعول من غير حذف مضاف ، و «ما» واقعة على الشّهوات وما بطروا بسببه من النّعم.

والثاني : أنّه على حذف مضاف ، أي : جزاء ما أترفوا ، ورتّب على هذين الوجهين القول في (وَاتَّبَعَ).

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٣٧.

٥٩٨

والإتراف : إفعال من التّرف وهو النّعمة ، يقال : صبيّ مترف ، أي : منعم البدن ، وأترفوا : نعموا. وقيل : التّرفّه : التوسّع في النّعمة.

وقال مقاتل : «أترفوا» خوّلوا.

وقال الفراء : عوّدوا ، أي : واتّبع الذين ظلموا ما عوّدوا من النّعيم ، وإيثار اللذات على الآخرة (١).

وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي ، وأبو جعفر «وأتبع» بضم همزة القطع وسكون التّاء وكسر الباء مبنيّا للمفعول ، ولا بدّ حينئذ من حذف مضاف ، أي : أتبعوا جزاء ما أترفوا فيه.

و «ما» يجوز أن تكون بمعنى «الذي» ، وهو الظّاهر لعود الضمير في «فيه» عليه ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : جزاء إترافهم.

قوله (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) كافرين. وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون عطفا على «أترفوا» إذا جعلنا «ما» مصدرية ، أي : اتّبعوا إترافهم وكونهم مجرمين.

والثاني : أنه عطف على «اتّبع» ، أي : اتّبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك ، لأنّ تابع الشّهوات مغمور بالآثام.

الثالث : أن يكون اعتراضا وحكما عليهم بأنّهم قوم مجرمون. ذكر ذلك الزمخشريّ.

قال أبو حيّان (٢) : «ولا يسمّى هذا اعتراضا في اصطلاح النّحو ؛ لأنه آخر آية ، فليس بين شيئين يحتاج أحدهما إلى الآخر».

قوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) الآية.

في «ليهلك» الوجهان المشهوران ، وهما : زيادة اللام في خبر : «كان» دلالة على التّأكيد ـ كما هو رأي الكوفيين ـ أو كونها متعلقة بخبر «كان» المحذوف ، وهو مذهب البصريين ، و «بظلم» متعلق ب «يهلك» ، والباء سببية ، وجوّز الزمخشريّ أن تكون حالا من فاعل «ليهلك» ، وقوله (وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) جملة حالية.

فصل

قيل : المراد بالظلم هنا : الشرك ، قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان :

__________________

(١) قرأ بها أيضا حفص بن محمد ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢١٤ وقرأ بها أيضا العلاء بن سيابة ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٧١ ، والدر المصون ٤ / ١٤٧ ، ١٤٨.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٧١.

٥٩٩

١٣] والمعنى : أنه تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم ، ولهذا قال الفقهاء : إنّ حقوق الله مبناها على المسامحة ، وحقوق العباد مبناها على التّضييق والشح ، ويقال : إنّ الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظّلم ، ويدلّ على هذا التأويل أنّ قوم هود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب إنّما نزل بهم عذاب الاستئصال ، لما حكى الله تعالى عنهم من إيذاء النّاس وظلم الخلق. وهذا تأويل أهل السنة. وقالت المعتزلة : إنّه تعالى لو أهلكهم حال كونهم مصلحين لكان ظلما ، ولمّا كان متعاليا عن الظلم ، لا جرم أنّه إنما يهلكهم لأجل سوء أفعالهم.

وقيل : معنى الآية : أنّه لا يهلكهم بظلم منه ، وهم مصلحون في أعمالهم ، ولكن يهلكهم بكفرهم وركوبهم السّيئات ، وهذا معنى قول المعتزلة.

ثم قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) كلهم على دين واحد ، (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) على أديان شتّى ، من يهوديّ ، ونصرانيّ ، ومجوسيّ ، ومشرك ، ومسلم ، وقد تقدم الكلام على ذلك.

قوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) ظاهره أنه متّصل ، وهو استثناء من فاعل «يزالون» ، أو من الضّمير في «مختلفين» وجوّز الحوفي أن يكون استثناء منقطعا ، أي : لكن من رحم ، لم يختلفوا ، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك.

قوله : (وَلِذلِكَ) في المشار إليه أقوال كثيرة.

أظهرها : أنّه الاختلاف المدلول عليه ب «مختلفين» ؛ كقوله : [الوافر]

٣٠٤١ ـ إذا نهي السّفيه جرى إليه

وخالف والسّفيه إلى خلاف (١)

رجع الضّمير في «إليه» على السّفه المدلول عليه بلفظ «السّفيه» ، ولا بدّ من حذف مضاف على هذا ، أي : ولثمرة الاختلاف خلقهم ، واللام في الحقيقة للصّيرورة ، أي : خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف.

وقيل : المراد به الرحمة المدلول عليها بقوله : «رحم» ، وإنّما ذكّر ذهابا بها إلى الخير. وقيل: المراد به المجموع منهما ، وإليه نحا ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : كقوله : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨]. وقيل : إشارة إلى ما بعده من قوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ،) ففي الكلام تقديم وتأخير ، وهو قول مرجوح ؛ لأنّ الأصل عدم ذلك.

فصل

قال الحسن وعطاء : وللاختلاف خلقهم. قال أشهب : سألت مالكا ـ رحمه‌الله ـ عن هذه الآية فقال : خلقهم ليكون فريق في الجنّة وفريق في السّعير. قال أبو عبيد : الذي

__________________

(١) تقدم.

٦٠٠