اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

إِلى قَوْمِ لُوطٍ) فدل على أنّهم أمروا بالذهاب إلى قوم لوط بإيصال العذاب إليهم.

فإن قيل : لو كان كذلك ، لقال : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) ، جعلوا (عالِيَها سافِلَها) ، لأن الفعل صدر عن المأمور.

فالجواب : أن فعل العبد فعل الله تعالى ، وأيضا : فالذي وقع إنّما وقع بأمر الله ، وبأقداره ، فلا يمتنع إضافته إلى الله تعالى ؛ فكما يحسن إضافته إلى المباشرين ، يحسن إضافته إلى المسبّب.

قوله : (عالِيَها سافِلَها) مفعولا الجعل الذي بمعنى التّصيير ، و «سجّيل» قيل : هو في الأصل مركّب من : «سنك وكل» وهو بالفارسيّة حجر وطين فعرّب ، وغيّرت حروفه ، كما عرّبوا الدّيباج والدّيوان والاستبرق. وقيل : «سجّيل» اسم للسّماء ، وهو ضعيف أو غلط ، لوصفه ب «منضود». وقيل : من أسجل ، أي : أرسل فيكون «فعّيلا» ، وقيل : هو من التسجيل ، والمعنى : أنه ممّا كتب الله وأسجل أن يعذّب به قوم لوط ، وينصر الأول تفسير ابن عبّاس أنّه حجر وطين كالآجر المطبوخ (١) وعن أبي عبيدة هو الحجر الصّلب. وقيل : «سجّيل» موضع الحجارة ، وهي جبال مخصوصة. قال تعالى : (مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) [النور : ٤٣].

قال الحسن : كان أصل الحجر هو الطين فشددت (٢).

و «منضود» صفة ل «سجّيل». والنّضد : جعل الشّيء بعضه فوق بعض ، ومنه (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) [الواقعة : ٢٩] أي : متراكب ، والمراد وصف الحجارة بالكثرة.

«مسوّمة» نعت ل «حجارة» ، وحينئذ يلزم تقدّم الوصف غير الصّريح على الصّريح لأنّ (مِنْ سِجِّيلٍ) صفة ل «حجارة» ، والأولى أن يجعل حالا من «حجارة» ، وسوّغ مجيئها من النكرة تخصّص النكرة بالوصف. والتّسويم : العلامة. قيل : علّم على كلّ حجر اسم من يرمي به وتقدّم اشتقاقه في آل عمران [١٤] في قوله : (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ).

وقال الحسن والسديّ : كان عليها أمثال الخواتيم (٣). قال أبو صالح : رأيت منها عند أم هانىء ، وهي حجارة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع. وقال ابن جريج : كان عليها سيماء لا تشبه حجارة الأرض.

و «عند» إمّا منصوب ب «مسوّمة» ، وإمّا بمحذوف على أنّها صفة ل «مسوّمة».

قوله : (وَما هِيَ) الظّاهر عود هذا الضمير على القرى المهلكة. وقيل : يعود على الحجارة وهي أقرب مذكور. وقيل : يعود على العقوبة المفهومة من السّياق ، ولم يؤنّث

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٩٧).

(٢) ذكره الطبري في «تفسيره» (٧ / ٩٣) والبغوي (٢ / ٣٩٧).

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ٣٢).

٥٤١

«ببعيد» إمّا لأنّه في الأصل نعت لمكان محذوف تقديره : وما هي بمكان بعيد بل هو قريب ، والمراد به السّماء أو القرى المهلكة ، أي : وما تلك القرى المهلكة من كفّار مكة ـ ببعيد ؛ لأنّ تلك القرى في الشّام ، وهي قريب من مكّة ، وإمّا لأنّ العقوبة والعقاب واحد ، وإمّا لتأويل الحجارة بعذاب أو بشيء بعيد ، والمراد بالآية كفار مكة ، أي أنه تعالى يرميهم بهذه الحجارة.

قال أنس بن مالك سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عن هذا فقال : «ما من ظالم إلّا وهو بمعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة» (١).

وقال قتادة وعكرمة : يعنى ظالمي هذه الأمة ، والله ما أجار الله منها ظالما (٢). روي : أنّ الحجر اتّبع شذّاذهم ومسافريهم أين كانوا في البلاد ، ودخل رجل منهم الحرم ، فكان الحجر معلقا بين السّماء والأرض أربعين يوما حتى خرج ؛ فأصابه فأهلكه.

قوله تعالى : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ

__________________

(١) انظر المصدر السابق.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٩٥) عن قتادة والسدي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦٢٦) عن قتادة وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

٥٤٢

جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ)(٩٥)

قوله تعالى : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) القصة.

أي : وأرسلنا إلى ولد مدين وهو اسم ابن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، ثم صار اسما للقبيلة.

وقال كثير من المفسّرين : مدين اسم مدينة ، وعلى هذا فتقديره : وأرسلنا إلى أهل مدين ، فحذف «أهل» ، كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] أي : أهل القرية.

واعلم أنّ الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ أول ما يبدؤون بالدعوة إلى التّوحيد ، ولذلك قال شعيب ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) ثم بعد الدّعوة إلى التوحيد يشرعون في الأهم ، فالأهم ، ولما كان المعتاد في أهل مدين البخس في المكيال والميزان ، دعاهم إلى ترك هذه العادة ، فقال : (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ).

قوله : (وَلا تَنْقُصُوا) : «نقص» يتعدّى لاثنين ، إلى أولهما بنفسه ، وإلى ثانيهما بحرف الجرّ ؛ وقد يحذف ؛ تقول : نقصت زيدا من حقّه ، وحقّه ، وهو هنا كذلك ، إذ المراد : ولا تنقصوا النّاس من المكيال ، ويجوز أن يكون متعدّيا لواحد على المعنى.

والمعنى : لا تقلّلوا وتطفّفوا ويجوز أن يكون «المكيال» مفعولا أول ، والثاني محذوف ، وفي ذلك مبالغة ، والتقدير : ولا تنقصوا المكيال والميزان حقّهما الذي وجب لهما ، وهو أبلغ في الأمر بوفائهما.

قوله تعالى : (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) قال ابن عبّاس : موسرين في نعمة (١). وقال مجاهد : كانوا في خصب وسعة ؛ فحذّرهم زوال النعمة ، وغلاء الأسعار ، وحلول النقمة إن لم يتوبوا (٢).

(وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) يحيط بكم فيهلككم.

قال ابن عبّاس : أخاف : أي : أعلم (٣).

وقال غيره : المراد الخوف ؛ لأنه يجوز أن يتركوا ذلك العمل خشية حصول العذاب.

قوله : «محيط» صفة لليوم ، ووصف به من قولهم : أحاط به العدوّ ، وقوله : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) [الكهف : ٤٢].

قال الزمخشري (٤) : إنّ وصف اليوم بالإحاطة أبلغ من وصف العذاب بها قال : لأنّ

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٩٧).

(٢) انظر المصدر السابق.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ٣٣).

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٤١٧.

٥٤٣

اليوم زمان يشتمل على الحوادث ، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذّب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه.

وزعم قوم : أنه جرّ على الجوار ؛ لأنّه في المعنى صفة للعذاب ، والأصل : عذاب يوم محيطا وقال آخرون : التقدير : عذاب يوم محيط عذابه. قال أبو البقاء : وهو بعيد ؛ لأنّ محيطا قد جرى على غير من هو له ، فيجب إبراز فاعله مضافا إلى ضمير الموصوف.

واختلفوا في المراد بهذا العذاب : فقيل : عذاب يوم القيامة. وقيل : عذاب الاستئصال في الدنيا ؛ كما هو في حق سائر الأمم.

والأقرب دخول كل عذاب فيه ، وإحاطة العذاب بهم كإحاطة الدّائرة بما فيها.

قوله : (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) أي : بالعدل.

فإن قيل : وقع التّكرار ههنا من ثلاثة أوجه ، فقال : (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) ثم قال (أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ ،) وهو عين الأول ، ثم قال : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ)، وهو عين الأوّل ، فما فائدة التّكرار؟.

فالجواب من وجوه :

الأول : أن القوم كانوا مصرّين على ذلك العمل ، فمنع منه بالمبالغة في التأكيد ، والتكرار يفيد التّأكيد وشدّة العناية والاهتمام.

الثاني : قوله : (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) نهي عن التنقيص ، وقوله : (أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) أمر بإيفاء العدل ، والنّهي عن الشيء أمر بضده ، وليس لقائل أن يقول النّهي ضد الأمر ، فكان التكرير لازما من هذا الوجه ، لأنّا نقول : الجواب من وجهين :

أحدهما : أنّه تعالى جمع بين الأمر بالشّيء ، وبين النهي عن ضده للمبالغة ، كما تقول : صل قرابتك ، ولا تقطعهم ؛ فدلّ هذا الجمع على غاية التّأكيد.

وثانيهما : لا نسلم أنّ الأمر كما ذكرتم ؛ لأنّه يجوز أن ينهى عن التنقيص وينهى أيضا عن أصل المعاملة ، فهو تعالى منع من التنقيص وأمر بإيفاء الحقّ ، ليدلّ ذلك على أنّه تعالى لم يمنع من المعاملات ، ولم ينه عن المبايعات ، وإنّما منع من التّطفيف ، ومنع الحقوق ، فكانت المبايعات محرمة بالكلّيّة ، فلأجل هذا منع في الآية الأولى من التّنقيص ، وفي الأخرى أمر بالإيفاء ، وأما قوله ثالثا : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) فليس بتكرير لأنّه تعالى خصّ المنع في الآية الأولى بالنّقصان في المكيال والميزان. ثم إنّه تعالى عمّ الحكم في جميع الأشياء ، فدل ذلك على أنها غير مكررة ، بل في كل واحدة فائدة زائدة.

الوجه الثالث : أنه تعالى قال في الآية الأولى : (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) وفي

٥٤٤

الثانية قال : (أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) والإيفاء : عبارة عن الإتيان به على الكمال والتّمام ، ولا يحصل ذلك إلّا إذا أعطى قدرا زائدا على الحق ، ولهذا المعنى قال الفقهاء : إنّه تعالى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصل إلّا عند غسل كلّ جزء من أجزاء الرّأس.

فالحاصل : أنه تعالى نهى في الآية الأولى عن النّقصان ، وفي الثانية أمر بإعطاء شيء من الزيادة ، فكأنّه تعالى نهى أولا عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصا ليحصل له تلك الزيادة ، وفي الثانية أمر بأن يسعى في تنقيص مال نفسه ليخرج ماله من غير العوض.

وقوله : «بالقسط» يعني : بالعدل ، ومعناه الأمر بإيفاء الحقّ بحيث يحصل معه اليقين بالخروج عن العهدة ، فالأمر بإيتاء الزّيادة على ذلك غير حاصل.

والبخس : هو النّقص.

ثم قال : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).

فإن قيل : العثوّ : الفساد التّامّ ، فقوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) جار مجرى قولك : ولا تفسدوا في الأرض مفسدين.

فالجواب من وجوه :

الأول : أن من سعى في إيصال الضّرر إلى الغير ، فقد حمل ذلك الغير على السعي إلى إيصال الضرر إليه فقوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ولا تسعوا في إفساد مصالح الغير ، فإنّ ذلك في الحقيقة سعي منكم في إفساد مصالح أنفسكم.

والثاني : أن يكون المراد من قوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) مصالح دنياكم وآخرتكم.

والثالث : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) مصالح الأديان والشرائع.

ثم قال : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) العامّة على تشديد ياء «بقيّة». وقرأ (١) إسماعيل بن جعفر ـ من أهل المدينة ـ بتخفيفها قال ابن عطيّة : «وهي لغة».

وهذا لا ينبغي أن يقال ، بل يقال : إن لم يقصد الدّلالة على المبالغة جيء بها مخففة وذلك أنّ «فعل» بكسر العين إذا كان لازما فقياس الصّفة منه : «فعل» بكسر العين نحو : سجيت المرأة فهي سجية فإن قصدت المبالغة قيل : سجيّة ، لأنّ فعيلا من أمثلة المبالغة فكذلك «بقيّة وبقية» أي : بالتّشديد والتّخفيف.

قال المفسّرون (بَقِيَّتُ اللهِ) هي تقواه. قال ابن عباس : ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير ممّا تأخذونه بالتطفيف (٢). وقال مجاهد : (بَقِيَّتُ اللهِ) يعنى

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٩٩ ، والبحر المحيط ٥ / ٢٥٣.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٩٨).

٥٤٥

طاعة الله خير لكم من ذلك القدر القليل ؛ لأنّ منفعة الطّاعة تبقى أبدا (١).

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قال ابن عطيّة ـ رحمه‌الله ـ : «وجواب هذا الشّرط متقدّم» يعنى : على مذهب من يراه لا على مذهب جمهور البصريّين.

وإنّما شرط الإيمان لكونه خيرا لهم ؛ لأنهم إن كانوا مؤمنين مقرّين بالثّواب والعقاب عرفوا أنّ السّعي في تحصيل الثّواب وفي الحذر من العقاب خير لهم من السّعي في تحصيل ذلك القليل.

والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط ؛ فدلّ ظاهر الآية على أنّ من لم يحترز عن هذا التطفيف لا يكون مؤمنا.

قوله : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي : إنّي نصحتكم ، وأرشدتكم إلى الخير ، وما عليّ منعكم من هذا الفعل القبيح. وقيل : لمّا قال لهم : إنّ البخس والتطفيف يزيل النعم عنكم ، وأنا لا أقدر على حفظها عليكم في تلك الحالة ؛ قالوا له : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) قرأ حمزة والكسائيّ وحفص عن عاصم «أصلاتك» بغير واو. والباقون (٢) بالواو على الجمع.

قوله : (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ) العامّة على نون الجماعة ، أو التعظيم في «نفعل» و «نشاء».

وقرأ زيد بن عليّ ، وابن أبي عبلة والضحاك (٣) بن قيس بتاء الخطاب فيهما. وقرأ أبو عبد الرحمن (٤) وطلحة الأول بالنون والثاني بالتاء ، فمن قرأ بالنون فيهما عطفه على مفعول «نترك» وهو «ما» الموصولة ، والتقدير : أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ، أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء ، وهو بخس الكيل والوزن المقدّم ذكرهما. و «أو» للتنويع أو بمعنى الواو ، قولان ، ولا يجوز عطفه على مفعول «تأمرك» ؛ لأنّ المعنى يتغيّر ، إذ يصير التقدير : أصلواتك تأمرك أن تفعل في أموالنا.

ومن قرأ بالتاء فيهما جاز أن يكون معطوفا على مفعول «تأمرك» ، وأن يكون معطوفا على مفعول «نترك» ، والتقدير : أصلواتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء أنت ، أو أن نترك ما يعبد آباؤنا ، أو أن نترك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء أنت.

ومن قرأ بالنّون في الأوّل وبالتّاء في الثاني كان : «أن تفعل» معطوفا على مفعول : «تأمرك» فقد صار ذلك ثلاثة أقسام ، قسم يتعيّن فيه العطف على مفعول : «نترك» وهي

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٩٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦٢٦) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٢) ينظر : الحجة ٣٤٨ والإتحاف ٢ / ١٣٤ وقرأ بها أيضا ابن وثاب ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٥٤.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٤١٩ ، والمحرر الوجيز ٣ / ٢٠٠ والبحر المحيط ٥ / ٢٥٤ والدر المصون ٤ / ١٢٣.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٠٠ والبحر المحيط ٥ / ٢٥٤ والدر المصون ٤ / ١٢٣.

٥٤٦

قراءة النّون فيهما ، وقسم يتعيّن فيه العطف على مفعول «تأمرك» ، وهي قراءة النّون في «نفعل» والتاء في «تشاء» ، وقسم يجوز فيه الأمران وهي قراءة التاء فيهما.

والظّاهر من حيث المعنى في قراءة التّاء فيهما ، أو في «تشاء» أنّ المراد بقولهم ذلك هو إيفاء المكيال والميزان ؛ لأنه كان يأمرهم بهما.

وقال الزمخشريّ : «المعنى : تأمرك بتكليف أن نترك ، فحذف المضاف لأنّ الإنسان لا يؤمر بفعل غيره».

واعلم أنّ قوله (أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) إشارة إلى أنه أمرهم بالتوحيد. وقوله : (أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) إشارة إلى أنه أمرهم بترك البخس.

فصل

قيل : المراد بالصلاة هنا الدّين والإيمان ؛ لأنّ الصلاة أظهر شعائر الدين ؛ فجعلوا ذكر الصّلاة كناية عن الدّين. وقيل : أصل الصلاة الاتّباع ، ومنه أخذ المصلّي من خيل المسابقة ، وهو الذي يتلو السابق ؛ لأنّ رأسه يكون على صلوي السّابق ، وهما ناحيتا الفخذين ، والمعنى : دينك يأمرك بذلك. وقيل : المراد هذه الأفعال المخصوصة ، روي أنّ شعيبا كان كثير الصّلاة ، وكان قومه إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكون ، فقصدوا بقولهم : أصلاتك تأمرك السخرية والاستهزاء.

(إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ).

قال ابن عباس : أرادوا السّفيه الغاوي ؛ لأنّ العرب قد تصف الشيء بضده فيقولون : للديغ سليم ، وللفلاة مفازة (١).

وقيل : قالوه على وجه الاستهزاء ، كما يقال للبخيل الخسيس «لو رآك حاتم ، لسجد لك» ، وقيل : الحليم ، الرشيد بزعمك.

وقيل : على الصّحّة أي : إنّك يا شعيب فينا حليم رشيد لا يحصل بك شقّ عصا قومك ، ومخالفة دينهم ، وهذا كما قال قوم صالح : (قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) [هود : ٦٢].

قوله : (أَرَأَيْتُمْ) قد تقدّم مرارا [يونس : ٥٠]. وقال الزمخشريّ هنا : فإن قلت : أين جواب «أرأيتم» وما له لم يثبت كما ثبت في قصّة نوح ، وصالح؟ قلت جوابه محذوف ، وإنّما لم يثبت ؛ لأنّ إثباته في القصتين دلّ على مكانه ، ومعنى الكلام ينادي عليه ، والمعنى : أخبروني إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربّي ونبيّا على الحقيقة ، أيصحّ أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكفّ عن المعاصي ، والأنبياء لا يبعثون إلّا لذلك؟.

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٩٨).

٥٤٧

قال أبو حيّان (١) : وتسمية هذا جوابا ل «أرأيتم» ليس بالمصطلح ، بل هذه الجملة التي قدّرها في موضع المفعول الثّاني ل «أرأيتم» لأنّ «أرأيتم» إذا ضمّنت معنى أخبرني تعدّت إلى مفعولين ، والغالب في الثاني أن يكون جملة استفهامية ينعقد منها ، ومن المفعول الأوّل في الأصل جملة ابتدائية كقول العرب : «أرأيتك زيدا ما صنع» وقال الحوفيّ : «وجواب الشّرط محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره : أأعدل عمّا أنا عليه».

وقال ابن عطيّة (٢) : «وجواب الشّرط الذي في قوله : (إِنْ كُنْتُ) محذوف تقديره أضلّ كما ضللتم ، أو أترك تبليغ الرسالة ، ونحو هذا ممّا يليق بهذه المحاجّة».

قال أبو حيان : وليس قوله : «أضلّ» جوابا للشّرط ؛ لأنّه إن كان مثبتا فلا يمكن أن يكون جوابا لأنه لا يترتب على الشّرط ، وإن كان استفهاما حذف منه الهمزة فهو في موضع المفعول الثاني ل «أرأيتم» وجواب الشّرط محذوف يدلّ عليه الجملة السّابقة مع متعلّقها.

فصل

المعنى (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) بصيرة وبيان من ربّي (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) حلالا.

قيل : كان شعيب كثير المال الحلال.

وقيل : الرزق الحسن : العلم والمعرفة أي : لما أتاني جميع هذه السّعادات ، فهل ينبغي لي مع هذه النعم أن أخون في وحيه ، أو أن أخالف أمره ونهيه ، وإذا كان العزّ من الله ، والإذلال من الله ، وذلك الرزق إنّما حصل من عند الله فأنا لا أبالي بمخالفتكم ، ولا أفرح بموافقتكم ، وإنّما أكون على تقرير بدين الله وإيضاح شرائعه.

قوله : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ) قال الزمخشريّ : خالفني فلان إلى كذا : إذا قصده وأنت مولّ عنه ، وخالفني عنه إذا ولّى عنه وأنت قاصده ، ويلقاك الرجل صادرا عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول : «خالفني إلى الماء» ، يريد أنه ذاهب إليه واردا ، وأنا ذاهب عنه صادرا ، ومنه قوله تعالى : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبدّ بها دونكم.

وهذا الذي ذكره الزمخشريّ معنى حسن لطيف ، ولم يتعرّض لإعراب مفرداته ؛ لأن بفهم المعنى يفهم الإعراب.

فيجوز أن يكون قوله : (أَنْ أُخالِفَكُمْ) في موضع مفعول ب «أريد» ، أي : وما أريد مخالفتكم ، ويكون «فاعل» بمعنى «فعل» نحو : جاوزت الشّيء وجزته ، أي : وما أريد أن أخالفكم ، أي : أكون خلفا منكم.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٥٤.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٠١.

٥٤٨

وقوله : (إِلى ما أَنْهاكُمْ) يتعلّق ب «أخالفكم» ، ويجوز أن يتعلّق بمحذوف على أنّه حال ، أي : مائلا إلى ما أنهاكم عنه ، ولذلك قدّر بعضهم محذوفا يتعلّق به هذا الجارّ تقديره : وأميل إلى أن أخالفكم ، ويجوز أن يكون (أَنْ أُخالِفَكُمْ) مفعولا من أجله ، وتتعلق «إلى» بقوله «أريد» بمعنى : وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه.

ولذلك قال الزجاج : وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه.

ويجوز أن يراد بأن أخالفكم معناه من المخالفة ، وتكون في موضع المفعول به ب «أريد» ، ويقدّر مائلا إلى.

والمعنى : وما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه : (إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ).

قوله : (مَا اسْتَطَعْتُ) يجوز في «ما» هذه وجوه :

أحدها : أن تكون مصدرية ظرفية أي : مدة استطاعتي.

والثاني : أن تكون «ما» موصولة بمعنى «الذي» بدلا من «الإصلاح» والتقدير : إن أريد إلّا المقدار الذي أستطيعه من الصّلاح.

الثالث : أن يكون على حذف مضاف ، أي : إلّا الإصلاح إصلاح ما استطعت ، وهو أيضا بدل.

الرابع : أنّها مفعول بها بالمصدر المعرّف ، أي : إنّ أريد إلّا أن أصلح ما استطعت إصلاحه ؛ كقوله : [المتقارب]

٣٠٠٦ ـ ضعيف النّكاية أعداءه

يخال الفرار يراخي الأجل (١)

ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشريّ ، إلّا أنّ إعمال المصدر المعرّف قليل عند البصريين ، ممنوع إعماله في المفعول به عند الكوفيين ، وتقدّم الجارّان في «عليه» و «إليه» للاختصاص أي : عليه لا على غيره ، وإليه لا إلى غيره.

فصل

اعلم أنّ القوم كانوا قد أقرّوا إليه بأنّه حليم رشيد ؛ لأنّه كان مشهورا بهذه الصفة ، فكأنه عليه الصلاة والسّلام قال لهم : إنّكم تعرفون من حالي أني لا أسعى إلّا في الإصلاح وإزالة الفساد ، فلمّا أمرتكم بالتّوحيد وترك إيذاء النّاس ؛ فاعلموا أنّه دين حق وأنه ليس غرضي منه إيقاع الخصومة ، وإثارة الفتنة ، فأنتم تعرفون أني أبغض ذلك الطريق ، ولا أسعى إلّا إلى ما يوجب الصلاح بقدر جهدي وطاقتي ، وذلك هو الإبلاغ

__________________

(١) ينظر البيت في الكتاب ١ / ١٩٩ وأوضح المسالك ٢ / ٤٢٣ وشرح المفصل لابن يعيش ٥ / ٥٩ والتصريح ٢ / ٦٣ والمنصف ٣ / ٧١ والهمع ٢ / ٩٣ والدرر ٢ / ٥٢ والأشموني ٢ / ٢٨٤ والخزانة ٨ / ١٢٧ وروح المعاني ١٢ / ١٢٠ والبحر ٥ / ٢٥٥ والمقرب لابن عصفور ١٤٤ وشذور الذهب ٣٨٤ والدر المصون ٤ / ١٢٣.

٥٤٩

والإنذار ، وأما الإجبار على الطّاعة فلا أقدر عليه ، ثمّ أكّد ذلك بقوله : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) والتوفيق تسهيل سبيل الخير (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) اعتمدت. (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أرجع فيما ينزله علي من النّوائب ، وقيل : في المعاد.

قوله : (لا يَجْرِمَنَّكُمْ) العامّة على فتح ياء المضارعة من «جرم» ثلاثيّا. وقرأ الأعمش وابن وثاب بضمها من «أجرم». وقد تقدّم [هود ٢٢] أنّ «جرم» يتعدّى لواحد ولاثنين مثل : كسب ، فيقال : جرم زيد مالا نحو : كسبه ، وجرمته ذنبا ، أي : كسبته إياه فهو مثل كسب ؛ وأنشد الزّمخشري على تعدّيه لاثنين قوله : [الكامل]

٣٠٠٧ ـ ولقد طعنت أبا عيينة طعنة

جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا (١)

فيكون الكاف والميم هو المفعول الأول.

والثاني : هو (أَنْ يُصِيبَكُمْ) أي : لا تكسبنّكم عداوتي إصابة العذاب. وقد تقدّم أنّ جرم وأجرم بمعنى ، أو بينهما فرق.

ونسب الزمخشريّ ضمّ الياء من أجرم لابن كثير.

والعامّة أيضا على ضمّ لام «مثل» رفعا على أنّه فاعل «يصيبكم». وقرأ مجاهد (٢) والجحدريّ بفتحها وفيها وجهان :

أحدهما : أنّها فتحة بناء وذلك أنّه فاعل كحاله في القراءة المشهورة ، وإنّما بني على الفتح ؛ لإضافته إلى غير متمكن ؛ كقوله تعالى : (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات : ٢٣] وكقوله : [البسيط]

٣٠٠٨ ـ لم يمنع الشّرب منها غير أن نطقت

حمامة في غصون ذات أوقال (٣)

وقد تقدّم تحقيق هذه القاعدة في الأنعام [الأنعام ٩٤].

والثاني : أنه نعت لمصدر محذوف فالفتحة للإعراب ، والفاعل على هذا مضمر يفسره سياق الكلام ، أي : يصيبكم العذاب إصابة مثل ما أصاب.

فصل

والمعنى : لا يكسبنكم «شقاقي» خلافي : (أَنْ يُصِيبَكُمْ) عذاب الاستئصال في الدنيا

__________________

(١) نسب البيت لأبي أسماء بن الضريبة الفزاري ولعطية بن عوف ينظر : الكتاب ٧ / ١٣٨ والمقتضب ٢ / ٣٥١ وشرح الرضي ٢ / ٣٦٢ والمخصص ١٣ / ١١٧ ومجاز القرآن ١ / ١٤٧ والخزانة ١٠ / ٢٨٣ والجمهرة ٢ / ٨٤ وروح المعاني ١٢ / ١٢١ والتهذيب ١ / ٦٥ وشرح الكافية ٢ / ٣٦٢ والدر المصون ٤ / ٢٤ والاقتضاب (٣١٢) واللسان التاج[جرم].

(٢) نقلها الزمخشري عن نافع في الكشاف ٢ / ٤٢٢ وقرأ بها أيضا ابن أبي إسحاق ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٠٢ والبحر المحيط ٥ / ٢٥٥ والدر المصون ٤ / ١٢٥.

(٣) تقدم.

٥٥٠

(مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) من الغرق ، وقوم هود من الريح ، وقوم صالح من الصّيحة والرّجفة ، وقوم لوط من الخسف.

قوله : (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) أتى ب «بعيد» مفردا وإن كان خبرا عن جمع لأحد أوجه : إمّا لحذف مضاف تقديره : وما إهلاك قوم ، وإمّا باعتبار زمان ، أي : بزمان بعيد ، فإنّ إهلاك قوم لوط أقرب الإهلاكات التي عرفها النّاس في زمان شعيب ، وإمّا باعتبار مكان ، أي : بمكان بعيد ؛ لأنّ بلاد قوم لوط قريبة من مدين ، وإمّا باعتبار موصوف غيرهما ، أي : بشيء بعيد ، كذا قدّره الزمخشريّ ، وتبعه أبو حيّان ، وفيه إشكال من حيث إنّ تقديره بزمان يلزم منه الإخبار بالزّمان عن الجثّة. وقال الزمخشريّ أيضا ويجوز أن يسوّي في «قريب» و «بعيد» و «قليل» و «كثير» بين المذكّر والمؤنّث لورودها على زنة المصادر التي هي كالصّهيل ، والنّهيق ونحوهما.

ثم قال : (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي : من عبادة الأوثان ، ثمّ توبوا إلى الله ـ عزوجل ـ من البخس والنّقصان (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ) بأوليائه : «ودود» الودود : بناء مبالغة من ودّ الشيء يودّه ودّا ، وودادا ، وودادة وودادة أي : أحبّه وآثره.

والمشهور «وددت» بكسر العين ، وسمع الكسائي «وددت» بفتحها ، والودود بمعنى فاعل أي : يودّ عباده ويرحمهم.

وقيل : بمعنى مفعول بمعنى أنّ عباده يحبّونه ويوادّون أولياءه ، فهم بمنزلة «الموادّ» مجازا.

قال ابن الأنباري : الودود ـ في أسماء الله تعالى ـ المحبّ لعباده ، من قولهم : وددت الرّجل أودّه.

قال الأزهريّ (١) ـ في «شرح كتاب أسماء الله الحسنى» ـ : ويجوز أن يكون «ودودا» فعولا بمعنى مفعول ، أي : إنّ عباده الصّالحين يودونه لكثرة إفضاله وإحسانه على الخلق.

قال ابن الخطيب (٢) : واعلم أنّ هذا التّرتيب الذي راعاه شعيب في ذكر هذه الوجوه الخمسة ترتيب لطيف.

لأنّه ذكر أولا أنّ ظهور البيّنة له وكثرة الإنعام عليه في الظّاهر والباطن يمنعه من الخيانة في وحي الله ، ويصده عن التّهاون في تبليغه.

ثم بيّن ثانيا أنّه مواظب على العمل بهذه الدّعوة ، ولو كانت باطلة لما اشتغل هو بها مع اعترافهم بكونه حليما رشيدا.

ثم بيّن صحته بطريق آخر ، وهو أنّه كان معروفا بتحصيل موجبات الصلح ،

__________________

(١) ينظر : تهذيب اللغة ١٤ / ٤٣٤.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٧ / ٣٩.

٥٥١

والصّلاح وإخفاء موجبات الفتن ، فلو كانت هذه الدعوة باطلة لما اشتغل بها ، ثمّ لمّا بيّن صحة طريقته أشار إلى نفي المعارض وقال : لا تحملكم عداوتي على مذهب ودين تقعون بسببه في العذاب الشّديد من الله ، كما وقع فيه أقوام الأنبياء المتقدمين ، ثم إنّه لمّا صحّح مذهب نفسه بهذه الدلائل عاد إلى تقرير ما ذكره أولا وهو التوحيد والمنع من البخس بقوله : (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) ثم بيّن لهم أنّ سبق الكفر والمعصية منهم لا ينبغي أن يمنعهم من الإيمان والطّاعة ؛ لأنّه تعالى رحيم ودود يقبل الإيمان من الكافر والفاسق ؛ لأنّ رحمته بعباده وحبه لهم يوجب ذلك ، وهذا تقرير في غاية الكمال.

قوله : (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ).

قيل : المعنى : ما نفقه كثيرا ممّا تقول ؛ لأنّهم كانوا لا يلقون إليه أفهامهم لشدّة نفورهم من كلامه ، كقوله : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) [الأنعام : ٢٥]. وقيل : إنّهم فهموه ، ولكنّهم ما أقاموا له وزنا ، فذكروا هذا الكلام على سبيل الاستهانة ، كقول الرّجل لمن لم يعبأ بحديثه : ما أدري ما تقول.

وقيل : ما ندري صحة الدّليل الذي ذكرته على صحّة التوحيد والنّبوة والبعث ، وما يجب من ترك الظّلم والسرقة.

فصل

استدلّوا بهذه الآية على أنّ الفقه : اسم لعلم مخصوص ، وهو معرفة غرض المتكلم من كلامه ؛ لأنه أضاف الفقه إلى القول ، ثم صار اسما لنوع معيّن من علوم الدين ، وقيل : إنّه اسم لمطلق الفهم ، يقال : أوتي فلان فقها في الدّين ، أي : فهما. قال عليه الصلاة والسّلام : «يفقهه في الدين» (١) أي : يفهمه تأويله.

ثم قال : (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) قيل : الضّعيف الذي يتعذر عليه منع القوم عن نفسه.

وقيل : هو الأعمى بلغة حمير. وهذا ضعيف ؛ لأنه ترك للظاهر بغير دليل ، وأيضا فقوله : «فينا» يبطل هذا الوجه ؛ لأنّهم لو قالوا : إنّا لنراك أعمى فينا كان فاسدا ؛ لأنّ الأعمى أعمى فيهم وفي غيرهم. وأيضا قولهم بعد ذلك (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) فنفوا عنه القوّة التي أثبتوها في رهطه وهي النّصرة ؛ فوجب أن تكون القوة التي نفوها عنه هي النّصرة.

واستدلّ بعض العلماء بهذه الآية على تجويز العمى على الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ. وذلك اللّفظ لا يدلّ عليه ، لما بيّناه.

قال بعض المعتزلة : لا يجوز العمى على الأنبياء ، فإنّ الأعمى لا يمكنه التّجوز عن

__________________

(١) أخرجه البخاري (١ / ١٩٧) كتاب العلم باب من يرد الله به خيرا حديث (٧١) ومسلم (٢ / ٧١٨ ـ ٧١٩) كتاب الزكاة : باب النهي عن المسألة حديث (٩٨ / ١٠٣٧) من حديث معاوية.

٥٥٢

النّجاسات ، ولأنه يخل بجواز كونه حاكما وشاهدا ؛ فلأن يمنع من النبوّة أولى.

قوله : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) «الرّهط» جماعة الرجل. وقيل : الرّهط والرّاهط لما دون العشرة من الرّجال ، ولا يقع الرّهط ، والعصب ، والنّفر ، إلّا على الرّجال.

وقال الزمخشريّ : «من الثّلاثة إلى العشرة ، وقيل : إلى السّبعة» ، ويجمع على «أرهط» و «أرهط» على «أراهط» ؛ قال : [مجزوء الكامل]

٣٠٠٩ ـ يا بؤس للحرب الّتي

وضعت أراهط فاستراحوا (١)

قال الرّمّانيّ : وأصل الكلمة من الرّهط ، وهو الشدّ ، ومنه «التّرهيط» وهو شدّة الأكل والرّاهطاء اسم لجحر من جحرة اليربوع ؛ لأنّه يتوثّق به ويحيا فيه أولاده.

فصل

المعنى : ولو لا حرمة رهطك عندنا لكونهم على ملتنا لرجمناك.

والرّجم في اللغة : عبارة عن الرّمي ، وذلك قد يكون بالحجارة عند قصد القتل ، ولمّا كان هذا الرّجم سببا للقتل سموا القتل رجما ، وقد يكون بالقول الذي هو القذف كقوله تعالى : (رَجْماً بِالْغَيْبِ) [الكهف : ٢٢] وقوله : (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) [سبأ : ٥٣] ، وقد يكون بالشّتم واللعن ، ومنه الشيطان الرجيم ، وقد يكون بالطرد ، قال تعالى : (رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك : ٥] فعلى هذه الوجوه يكون المعنى : لقتلناك ، أو لشتمناك وطردناك.

قوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) قال الزمخشريّ (٢) «وقد دلّ إيلاء ضميره حرف النّفي على أنّ الكلام واقع في الفاعل لا في المفعول كأنّه قيل : وما أنت بعزيز علينا بل رهطك هم الأعزّة علينا ؛ فلذلك قال في جوابهم : (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) ولو قيل : «وما عززت علينا» لم يصحّ هذا الجواب».

والمعنى : أنك لمّا لم تكن علينا عزيزا ، سهل علينا الإقدام على قتلك وإيذائك.

واعلم أنّ هذه الوجوه التي ذكروها ليست مانعة لما قرره شعيب من الدّلائل ، بل هي جارية مجرى مقابلة الدليل والحجة بالشتم والسّفاهة.

قوله : (يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا).

اعلم أنّهم لمّا خوّفوه بالقتل ، وزعموا أنهم إنّما تركوا قتله رعاية لجانب قومه ،

__________________

(١) البيت لسعيد بن مالك : ينظر : الكتاب ٢ / ٢٠٧ والخصائص ٣ / ١٠٦ وجمل الزجاجي (١٨٨) والمحتسب ٢ / ٩٣ وشرح المفصل لابن يعيش ٢ / ١٠ ، ١٠٥ وأمالي ابن الشجري ١ / ٢٥٧ والمغني ١ / ٢١٦ والتصريح ١ / ١٩٩ والتهذيب ٦ / ١٧٦ ومقاييس اللغة ٢ / ٤٥١ واللسان (رهط) وشرح الحماسة ١ / ١٩٢ والدر المصون ٤ / ١٢٥.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٢٣ ـ ٤٢٤.

٥٥٣

قال : أنتم تزعمون أنّكم تركتم قتلي إكراما لرهطي ، فالله تعالى أولى أن يتبع أمره ، أي : حفظكم إيّاي رعاية لأمر الله أولى من حفظكم إيّاي رعاية لحقّ رهطي.

قوله : (وَاتَّخَذْتُمُوهُ) يجوز أن تكون المتعدية لاثنين.

أولهما : «الهاء».

والثاني : «ظهريّا» ويجوز أن يكون الثاني هو الظّرف و «ظهريّا» حال ، وأن تكون المتعدية لواحد ؛ فيكون «ظهريّا» حالا فقط.

ويجوز في «وراءكم» أن يكون ظرفا للاتخاذ ، وأن يكون حالا من «ظهريّا» ، والضمير في «اتّخذتموه» يعود على الله ؛ لأنّهم يجهلون صفاته ، فجعلوه أي : جعلوا أوامره ظهريّا ، أي : منبوذة وراء ظهورهم.

والظّهريّ : هو المنسوب إلى «الظّهر» والكسر من تغييرات النسب كقولهم في النسبة إلى «أمس» ، «إمسيّ» بكسر الهمزة ، وإلى الدّهر : دهريّ بضم الدّال.

وقيل : الضّمير يعود على العصيان ، أي : واتخذتم العصيان عونا على عداوتي ، فالظّهريّ على هذا بمعنى المعين المقوّي.

ثم قال : (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي : عالم بأحوالكم ، فلا يخفى عليه شيء منها.

قوله تعالى : (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) الآية.

المكانة : الحالة التي يتمكن بها صاحبها من عمله ، أي اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة ، وكل ما في وسعكم ، وطاقتكم من إيصال الشرّ إليّ فإني أيضا عامل بقدر ما آتاني الله من القدرة. (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) أيّنا الجاني على نفسه ، والمخطىء في فعله.

قوله : (مَنْ يَأْتِيهِ) تقدّم نظيره في قصة نوح. قال ابن عطيّة (١) ـ بعد أن حكى عن الفرّاء أن تكون موصولة مفعولة ب «تعلمون» وأن تكون استفهامية مبتدأة معلقة ل «تعلمون» ـ : «والأول أحسن» ثم قال : «ويقضى بصلتها أن المعطوفة عليها موصولة لا محالة».

وهي قوله : (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ).

قال أبو حيّان (٢) : «لا يتعيّن ذلك ، إذ من الجائز أن تكون الثّانية استفهاميّة أيضا معطوفة على الاستفهاميّة قبلها ، والتقدير : سوف تعلمون أيّنا يأتيه عذاب ، وأيّنا هو كاذب».

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٠٣.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٥٧.

٥٥٤

قال الزمخشريّ (١) : فإن قلت : أيّ فرق بين إدخال الفاء ونزعها في (سَوْفَ تَعْلَمُونَ)؟.

قلت : إدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل ، ونزعها وصل خفيّ تقديريّ بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدّر كأنهم قالوا : فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا ، وعملت أنت على مكانتك؟ فقيل سوف تعلمون ، فوصل تارة بالفاء ، وتارة بالاستئناف للتّفنّن في البلاغة ، كما هو عادة البلغاء من العرب ، وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف».

ثم قال : (وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) أي : وانتظروا العذاب إنّي معكم منتظر. والرقيب : بمعنى الرّاقب من رقبه كالضّريب والصّريم بمعنى الضّارب والصّارم ، أو بمعنى المراقب ، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع.

قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) الآية.

قال الزمخشريّ : فإن قلت : ما بال ساقتي قصة عاد وقصة مدين جاءتا بالواو ، والسّاقتان الوسطيان بالفاء؟ قلت : قد وقعت الوسطيان بعد ذكر الوعد ، وذلك قوله : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) [هود : ٨١] ، (ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود : ٦٥] فجاء بالفاء التي للتسبّب كما تقول : «وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت» ، وأمّا الأخريان فلم تقعا بتلك المنزلة ، وإنّما وقعتا مبتدأتين فكان حقّهما أن تعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما ، كما تعطف قصة على قصّة».

قوله : (نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا).

روى الكلبي عن ابن عبّاس قال : لم يعذب الله أمتين بعذاب واحد إلّا قوم شعيب وقوم صالح ، فأمّا قوم صالح ؛ فأخذتهم الصيحة من تحتهم ، وقوم شعيب أخذتهم من فوقهم (٢).

وقوله : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) يحتمل أن يكون المراد منه ، ولما جاء وقت أمرنا ملكا من الملائكة بتلك الصّيحة ، ويحتمل أن يكون المراد من الأمر العذاب ، وعلى التقديرين فأخبر الله أنّه نجّى شعيبا ومن معه من المؤمنين.

وفي قوله : (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) وجهان :

الأول : أنّه تعالى إنّما خلّصه من ذلك العذاب لمحض رحمته ، تنبيها على أنّ كلّ ما يصل إلى العبد ليس إلّا بفضل الله ورحمته.

والثاني : أنّ المراد من الرّحمة الإيمان والطّاعة وهي أيضا ما حصلت إلّا بتوفيق الله.

ثم قال : (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) وعرّف «الصّيحة» بالألف واللّام إشارة إلى المعهود السّابق وهي صيحة جبريل. (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) تقدم

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٢٤.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٦٢١٩) عن ابن عباس.

٥٥٥

الكلام على ذلك [ثمود : ٦٧ ، ٦٨]. وإنّما ذكر هذه اللفظة ، وقاس حالهم على ثمود ؛ لأنه تعالى عذّبهم بمثل عذاب ثمود.

قوله : (كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) العامّة : على كسر العين م ن «بعد يبعد» بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع بمعنى هلك ؛ قال : [الطويل]

٣٠١٠ ـ يقولون لا تبعدوهم يدفنونه

ولا بعد إلّا ما تواري الصّفائح (١)

أرادت العرب أن تفرق بين المعنيين بتغيير فقالوا : «بعد» بالضمّ ضد القرب ، و «بعد» بالكسر ضد السّلامة ، والمصدر البعد بالفتح في العين.

وقرأ السّلمي وأبو حيوة «بعدت» (٢) بالضم أخذه من ضدّ القرب ؛ لأنّهم إذا هلكوا فقد بعدوا ، ومن هذا قول الشّاعر : [الكامل]

٣٠١١ ـ من كان بينك في التّراب وبينه

شبران فهو بغاية البعد (٣)

وقال النّحّاس (٤) : المعروف في اللغة : بعد يبعد بعدا وبعدا ، إذا هلك ، وبعد يبعد في ضدّ القرب.

وقال ابن قتيبة : بعد يبعد إذا كان بعده هلكة ، وبعد يبعد إذا نأى فهو موافق للنحاس.

وقال المهدوي : «بعد» يستعمل في الخير والشّر ، و «بعد» في الشرّ خاصة.

وقال ابن الأنباري : من العرب من يسوّي بين الهلاك والبعد الذي هو ضدّ القرب ، فيقول فيهما : بعد يبعد ، وبعد يبعد ؛ وأنشدوا قول مالك : [الطويل]

٣٠١٢ ـ يقولون لا تبعد وهم يدفنونني

وأين مكان البعد إلّا مكانيا؟ (٥)

قيل : يرو ى «لا تبعد» بالوجهين.

وفي هذه الآية نوع من علم البيان يسمّى الاستطراد ، وهو أن تمدح شيئا أو تذمّه ، ثم تأتي آخر الكلام بشيء هو غرضك في أوّله ، قالوا : ولم يأتي في القرآن غيره ، وأنشدوا في ذلك قول حسان : [الكامل]

٣٠١٣ ـ إن كنت كاذبة الذي حدّثتني

فنجوت منجى الحارث بن هشام

ترك الأحبّة أن يقاتل دونهم

ونجا برأس طمرّة ولجام (٦)

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٢٥ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٠٤ والبحر المحيط ٥ / ٢٥٧ والدر المصون ٤ / ١٢٧.

(٣) ينظر البيت في حاشية الشهاب على البيضاوي ٥ / ١٣٢ وروح المعاني ١٢ / ١٢٩ والدر المصون ٤ / ١٢٧.

(٤) ينظر : إعراب القرآن ٢ / ١٠٩.

(٥) ينظر البيت في أمالي القالي ٣ / ١٣٧ والبحر المحيط ٥ / ٢٥٨ والمغني ١ / ٢٤٧ واللسان «بعد» وروح المعاني ١٢ / ٢٩ والدر المصون ٤ / ١٢٧.

(٦) ينظر البيتان في ديوانه (٢١٤) والأغاني ٤ / ١٦٩ والبحر المحيط ٥ / ٢٥٨ وروح المعاني ١٢ / ١٣٠ وعيون الأخبار ١ / ١٦٩ والدر المصون ٤ / ١٢٧.

٥٥٦

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ)(٩٩)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) القصة.

قيل : المراد ب «الآيات» التّوراة مع ما فيها من الشّرائع والأحكام ، ومن السّلطان المبين المعجزات الباهرة.

وقيل : المراد ب «الآيات» المعجزات ، وبالسّلطان الحجّة كقوله : (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) [يونس : ٦٨] ، وقوله : و (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) [يوسف : ٤٠]. وقيل : المراد بالسلطان المبين : العصا ؛ لأنّها أبهر الآيات ، وذلك أنّ الله تعالى أعطى موسى تسع آيات بينات ، وهي : العصا ، واليد البيضاء ، والطّوفان ، والجراد ، والقمّل ، والضّفادع ، والدم ونقص من الثمرات والأنفس ، ومنهم من أبدل نقص الثمرات والأنفس بإظلال الجبل وفلق البحر واختلفوا في تسمية الحجّة بالسلطان ، فقيل : لأنّ صاحب الحجّة يقهر من لا حجّة له عند النّظر كما يقهر السّلطان غيره.

وقال الزّجّاج : السّلطان هو الحجّة ، وسمّي السلطان سلطانا ؛ لأنه حجّة الله في أرضه ، واشتقاقه من السّليط الذي يستضاء به ، ومنه قيل للزّيت السّليط. وقيل : مشتقّ من التّسليط ، والعلماء سلاطين بسبب كمالهم في القوّة العلميّة ، والملوك سلاطين بسبب قدرتهم ومكنتهم ، إلّا أنّ سلطنة العلماء أكمل ، وأبقى من سلطنة الملوك ؛ لأنّ سلطنة العلماء لا تقبل النّسخ والعزل ، وسلطنة الملوك تقبلهما ، وسلطنة العلماء من جنس سلطنة الأنبياء وسلطنة الملوك من جنس سلطنة الفراعنة ، وسلطنة الملوك تابعة لسلطنة العلماء.

فإن قيل : إذا حملتم الآيات على المعجزات والسّلطان على الدّلائل ، والمبين أيضا معناه كونه سببا للظهور ، فما الفرق بين هذه المراتب الثّلاث؟.

فالجواب : أنّ الآيات اسم للقدر المشترك بين العلامات التي تفيد الظّن ، وبين الدّلائل التي تفيد اليقين ، وأمّا السّلطان فهو اسم لما يفيد القطع واليقين.

وكانت معجزة موسى هكذا ، فلا جرم وصفها الله تعالى بأنّها سلطان مبين.

ثم قال : (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي : جماعته. (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) قيل : أمره إياهم بالكفر بموسى ، وقيل : الأمر الطريق.

ثم قال : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) أي : بمرشد إلى خير.

وقيل : ذو رشد ؛ لأنّه كان دهريّا نافيا للصّانع وللمعاد ، فلهذا كان خاليا عن الرشد بالكليّة.

ثم وصفه فقال : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يقال : قدم فلان فلانا بمعنى تقدّمه ،

٥٥٧

ومنه : قادمة الرّجل كما يقال : قدّمه بمعنى تقدّمه ، ومنه : مقدّمة الجيش.

والمعنى : أنّ فرعون كان قدوة لقومه في الضّلال حال ما كانوا في الدنيا ، وكذلك مقدمهم إلى النّار ، وهم يتبعونه ويجوز أن يكون معنى قوله : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) : أي : وما أمره بصالح حميد العاقبة ، ويكون قوله : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ) تبيينا لذلك وإيضاحا ، أي : كيف يكون أمره رشيدا مع أنّ عاقبته هكذا؟.

قوله : «فأوردهم» يجوز أن تكون هذا المسألة من باب الإعمال ، وذلك أنّ «يقدم» يصلح أن يتسلّط على «النّار» بحرف الجر ، أي : يقدم قومه إلى النّار ، وكذا : «أوردهم» يصحّ تسلّطه عليها أيضا ، ويكون قد أعمل الثاني للحذف من الأوّل ، ولو أعمل الأوّل لتعدّى ب «إلى» ولأضمر في الثاني ، ولا محلّ ل «أورد» لاستئنافه ، وهو ماض لفظا مستقبل معنى ؛ لأنّه عطف على هو نص في الاستقبال.

والهمزة في «أورد» للتعدية ؛ لأنّه قبلها يتعدّى لواحد ، قال تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) [القصص : ٢٣].

وقيل : أوقع المستقبل بلفظ الماضي هنا لتحققه. وقيل : بل هو ماض على حقيقته ، وهذا قد وقع وانفصل وذلك أنّه أوردهم في الدّنيا النّار. قال تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر : ٤٦]. وقيل : أوردهم موجبها وأسبابها ، وفيه بعد لأجل العطف بالفاء.

والورد : يكون مصدرا بمعنى الورود ، ويكون بمعنى الشيء المورد كالطّحن والرّعي.

ويطلق أيضا على الوارد ، وعلى هذا إن جعلت الورد مصدرا أو بمعنى الوارد فلا بدّ من حذف مضاف تقديره : وبئس مكان الورد المورود ، وهو النّار ، وإنّما احتيج إلى هذا التقدير ؛ لأنّ تصادق فاعل «نعم» و «بئس» ومخصوصهما شرط ، لا يقال : نعم الرّجل الفرس. وقيل : بل المورود صفة للورد ، والمخصوص بالذّمّ محذوف تقديره : بئس الورد المورود النّار ، جوّز ذلك أبو البقاء (١) ، وابن عطيّة (٢) ، وهو ظاهر كلام الزمخشري (٣).

وقيل : التقدير : بئس القوم المورود بهم هم ، فعلى هذا «الورد» المراد به الجمع الواردون ، قال تعالى : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) [مريم : ٨٦] والمورود صفة لهم ، والمخصوص بالذّمّ الضمير المحذوف وهو «هم» ، فيكون ذلك للواردين لا لموضع الورد كذا قاله أبو حيّان وفيه نظر من حيث إنّه : كيف يراد بالورد الجمع الواردون ، ثم يقول : والمورود صفة لهم؟.

وفي وصف مخصوص «نعم» و «بئس» خلاف بين النّحويين منعه ابن السّراج وأبو علي.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٤٥.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٠٥.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٢٦.

٥٥٨

قال الواحديّ : لفظ «النار» مؤنث ، فكان ينبغي أن يقال : وبئست الورد المورود ، إلّا أنّ لفظ «الورد» مذكر ؛ فكان التّذكير والتّأنيث جائزين ، كما تقول : نعم المنزل دارك ، ونعمت المنزل دارك ، فمن ذكّر عنى المنزل ومن أنّث عنى الدّار.

فصل

والمعنى : أدخلهم النّار وبئس المدخل المدخول ؛ وذلك لأنّ الورد إنّما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد ، والنّار ضدّه.

ثم قال : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) أي : أنّ اللّعن من الله ، والملائكة ، والأنبياء ملتصق بهم في الدّنيا والآخرة لا يزول عنهم ، كقوله : (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) [القصص : ٤٢].

ثم قال : (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) والكلام فيه كالذي قبله. وقوله (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) عطف على موضع (فِي هذِهِ) والمعنى : أنّهم ألحقوا لعنة في الدّنيا وفي الآخرة ، ويكون الوقف على هذا تامّا ، ويبتدأ بقوله «بئس».

وزعم جماعة أنّ التّقسيم : هو أنّ لهم في الدّنيا لعنة ، ويوم القيامة بئس ما يرفدون به ، فهي لعنة واحدة أولا ، وقبح إرفاد آخرا. وهذا لا يصحّ ؛ لأنه يؤدّي إلى إعمال «بئس» فيما تقدّم عليها ، وذلك لا يجوز لعدم تصرّفها ؛ أمّا لو تأخّر لجاز ؛ كقوله : [الكامل]

٣٠١٤ ـ ولنعم حشو الدّرع أنت إذا

دعيت نزال ولجّ في الذّعر (١)

وأصل الرّفد كما قال الليث : العطاء والمعونة ، ومنه رفادة قريش ، رفدته أرفده رفدا بكسر الرّاء وفتحها : أعطيته وأعنته. وقيل : بالفتح مصدر ، وبالكسر اسم ، كأنّه نحو : الرّعي والذّبح. ويقال : رفدت الحائط ، أي : دعمته ، وهو من معنى الإعانة.

قوله تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)(١٠٢)

قوله : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ) الآية.

«ذلك» إشارة إلى الغائب ، والمراد منه ههنا الإشارة إلى القصص المتقدمة ، وهي

__________________

(١) البيت لزهير بن أبي سلمى. ينظر : ديوانه (٥٤) والكتاب ٣ / ٢٧١ وجمل الزجاجي (٢٧٣) والإنصاف ٢ / ٥٣٥ والمقتضب ٣ / ٣٧٠ وشرح ديوان الحماسة ١ / ٦٢ وشرح المفصل لابن يعيش ٤ / ٢٦ ومجاز القرآن ٢ / ٢٧ والبحر المحيط ٥ / ٢٥٩ والخزانة ٦ / ٣١٦ وروح المعاني ١٢ / ١٣٥ والتهذيب ١٣ / ١٧ والدر المصون ٤ / ١٢٨. وينسب لأوس بن حجر في ديوانه ص ١٣٩.

٥٥٩

حاضرة إلّا أنّ الجواب عنه تقدّم في قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢].

ولفظ «ذلك» إشارة إلى الواحد والجماعة ، كقوله : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨].

ويحتمل أن يكون ذلك الذي ذكرناه هو كذا وكذا.

قال الزمخشريّ : «ذلك» مبتدأ ، و (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) خبر بعد خبر : أي ذلك المذكور بعض أنباء القرى مقصوص عليك. وقال شهاب الدّين (١) : يجوز أن يكون «نقصّه» خبرا و (مِنْ أَنْباءِ) حال ، ويجوز العكس ، قيل : وثمّ مضاف محذوف ، أي من أنباء أهل القرى ، ولذلك أعاد الضمير عليهم في قوله : (وَما ظَلَمْناهُمْ).

ثم قال : ويجوز في «ذلك» أوجه :

أحدها : أنّه مبتدأ كما تقدم [هود : ٤٩].

والثاني : أنّه منصوب بفعل مقدر يفسّره «نقصّه» فهو من باب الاشتغال ، أي : نقصّ ذلك في حال كونه من أنباء القرى ، وقد تقدّم في قوله : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أوجه ، وهي عائدة هنا.

قوله : (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) : «حصيد» مبتدأ محذوف الخبر ، لدلالة خبر الأوّل عليه ، أي : ومنها حصيد ، وهذا لضرورة المعنى.

و «الحصيد» بمعنى المحصود ، وجمعه : حصدى وحصاد مثل : مريض ومرضى ومراض ، وهذا قول الأخفش ، ولكن باب «فعيل» ، و «فعلى» أن يكون في العقلاء ؛ نحو : قتيل وقتلى. والضمير في «منها» عائد إلى القرى ، شبه ما بقي من آثار القرى وجدرانها بالزرع القائم على ساقة ، وما عفا منها وبطل بالحصيد.

والمعنى : أنّ تلك القرى بعضها بقي منه شيء وبعضها هلك وما بقي منه أثر ألبتّة.

قال بعض المفسرين : القائم : العامر ، والحصيد : الخراب. وقيل : القائم ما بقيت حيطانه ، وسقطت سقوفه ، وحصيد : انمحى أثره. وقال مقاتل : قائم يرى له أثر ، وحصيد لا يرى له أثر.

ثم قال : (وَما ظَلَمْناهُمْ) بالعذاب والإهلاك : (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعصية وقيل : الذي نزل بالقوم ليس بظلم من الله ، بل هو عدل وحكمة ؛ لأنّ القوم أولا ظلموا أنفسهم بإقدامهم على الكفر والمعاصي ، فاستوجبوا بتلك الأعمال من الله العذاب.

وقال ابن عباس : وما نقصناهم في الدنيا من النعم والرزق ، ولكن نقصوا حظ أنفسهم حيث استخفّوا بحقوق الله تعالى (٢).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٢٩.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ٤٦).

٥٦٠