اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

وقال آخر : [البسيط]

٢٩٦٩ ـ وكم من خليل أو حميم رزئته

فلم نبتئس والرّزء فيه جليل (١)

فصل

دلّت هذه الآية على صحة القول بالقضاء والقدر ؛ لأنّه تعالى أخبر بأنهم لا يؤمنون بعد ذلك ، فلو حصل إيمانهم ؛ لكان إمّا مع بقاء هذا الخبر صدقا ، ومع بقاء هذا العلم علما ، أو مع انقلاب هذا الخبر كذبا ومع انقلاب هذا العلم جهلا.

والأول باطل ؛ لأنّ وجود الإيمان مع أن يكون الإخبار عن عدم الإيمان صدقا ، ومع كون العلم بعد الإيمان حاصلا حال وجود الإيمان جمع بين النّقيضين.

والثاني أيضا باطل ؛ لأنّ انقلاب علم الله ـ تعالى ـ جهلا وخبره كذبا محال ، ولما كان صدور الإيمان منهم لا بدّ وأن يكون على أحد هذين القسمين ، وثبت أنّ كلّ واحد منهما محال كان صدور الإيمان منهم محالا ، مع أنّهم كانوا مأمورين به ، وأيضا : فالقوم كانوا مأمورين بالإيمان ، ومن الإيمان تصديق الله تعالى ـ في كلّ ما أخبر عنه ، وقد أخبر أنّه (... لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) فينبغي أن يقال : إنّهم كانوا مأمورين بأن يؤمنوا بأنّهم لا يؤمنون ألبتة ، وذلك تكليف بالجمع بين النّقيضين.

قوله تعالى : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا).

«بأعيننا» حال من فاعل «اصنع» أي : محفوظا بأعيننا ، وهو مجاز عن كلاء الله له بالحفظ.

وقيل : المراد بهم الملائكة تشبيها لهم بعيون النّاس ، أي : الذين يتفقّدون الأخبار ، والجمع حينئذ حقيقة. وقرأ طلحة بن (٢) مصرف «بأعينّا» مدغمة.

فصل

قوله تعالى : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) الظّاهر أنه أمر إيجاب ؛ لأنّه لا سبيل إلى صون روح نفسه ، وأرواح غيره من الهلاك إلا بهذا الطريق ، وصون النّفس من الهلاك واجب ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ويحتمل أن يكون أمر إباحة ، وهو بمنزلة أن يتخذ الإنسان لنفسه دارا يسكنها ، أو يكون ذلك تعليما له ولمن بعده كيفية عمل السفينة ، ولا يكون ذلك من باب ما لا يتمّ الواجب إلّا به ، فإنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ خلّص موسى وقومه من الطّوفان من غير سفينة ، وكان ذلك معجزة له.

وأما قوله : «بأعيننا» فلا يمكن إجراؤه على ظاهره لوجوه :

__________________

(١) ينظر البيت في البحر المحيط ٥ / ٢٢١ والقرطبي ٩ / ٢١ واللسان (رزأ) والدر المصون ٤ / ٩٧.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٦٠ والبحر المحيط ٥ / ٢٢١ والدر المصون ٤ / ٩٧.

٤٨١

أحدها : أنه يقتضي أن يكون لله أعين كثيرة ، وهذا يناقض قوله تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [طه : ٣٩].

وثانيها : أنّه يقتضي أن يصنع الفلك بتلك الأعين ، كقولك : قطعت بالسكين ، وكتبت بالقلم ، ومعلوم أن ذلك باطل.

وثالثها : أنّه ـ تعالى ـ منزّه عن الأعضاء ، والأبعاض ؛ فوجب المصير إلى التأويل ، وهو من وجوه :

الأول : معنى «بأعيننا» أي : بنزول الملك ؛ فيعرفه بخبر السفينة ، يقال : فلان عين فلان أي : ناظر عليه.

والثاني : أنّ من كان عظيم العناية بالشيء فإنه يضع عينه عليه ؛ فلمّا كان وضع العين على الشّيء سببا لمبالغة الحفظ جعل العين كناية عن الاحتفاظ ، فلهذا قال المفسّرون : معناه : بحفظنا إيّاك حفظ من يراك ، ويملك دفع السّوء عنك.

وحاصل الكلام أن عمل السّفينة مشروط بأمرين :

أحدهما : أن لا يمنعه أعداؤه من ذلك العمل.

والثاني : أن يكون عالما بكيفيّة تأليف السّفينة وتركيبها.

وقوله : (وَوَحْيِنا) إشارة إلى أنّه تعالى يوحي إليه كيفية عمل السّفينة.

وقوله : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) فقيل : لا تطلب منّي تأخير العذاب عنهم ، فإنّي قد حكمت عليهم بهذا الحكم ، فلمّا علم نوح ذلك دعا عليهم بعد ذلك وقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦]. وقيل : (لا تُخاطِبْنِي) في تعجيل العذاب فإنّي لمّا قضيت عليهم إنزال العذاب في وقت معين كان تعجيله ممتنعا.

وقيل : المراد ب (الَّذِينَ ظَلَمُوا) ابنه وامرأته.

قوله : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) قيل : هذا حكاية حال ماضيه أي : في ذلك الوقت كان يصدق عليه أنه يصنع الفلك. وقيل : التقدير : وأقبل يصنع الفلك ، فاقتصر على قوله : «يصنع». قيل : إن جبريل أتى نوحا عليه‌السلام فقال : إنّ ربّك يأمرك أن تصنع الفلك ، فقال : كيف أصنع ولست بنجّار؟ فقال : إنّ ربّك يقول : اصنع فإنّك بعيني ، فأخذ القدوم ، وجعل يصنع ولا يخطىء. وقيل : أوحى الله إليه يجعلها مثل جؤجؤ الطّائر.

روي أنّ نوحا ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لمّا دعا على قومه وقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦] استجاب الله دعاءه وأمره أن يغرس شجرة ليعمل منها السفينة ؛ فغرسها وانتظرها مائة سنة ، ثم نجّرها في مائة سنة أخرى.

وقيل : في أربعين سنة ، وكانت من خشب الساج. وفي التوراة أنها من الصنوبر.

قال البغويّ ـ رحمه‌الله ـ أمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعا ، وعرضها خمسين

٤٨٢

ذراعا ، وأن يطلي ظاهرها وباطنها بالقار وقال قتادة : كان طولها ثلثمائة ذراع (١) [وعرضها خمسين ذراعا.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كان طولها ألفا ومائتي ذراع في عرض ستمائة ذراع](٢).

وقيل : ألف ذراع في عرض مائة ذراع.

واتفقوا كلهم على أنّ ارتفاعها ثلاثون ذراعا ، وكانت ثلاث طبقات كلّ واحدة عشرة أذرع ، فالسفلى للدّواب والوحوش ، والوسطى للنّاس ، والعليا للطيور ، ولها غطاء من فوق يطبق عليها.

قال ابن الخطيب (٣) ـ رحمه‌الله ـ والذي نعلمه أنّ السّفينة كانت سعتها بحيث تسع المؤمنين من قومه ، ولما يحتاجون إليه ، ولحصول زوجين لكلّ حيوان ؛ لأنّ هذا القدر مذكور في القرآن ، فأما تعيين ذلك القدر فغير معلوم.

قوله : (وَكُلَّما مَرَّ) العامل في «كلّما» «سخر» ، و «قال» مستأنف ، إذ هو جواب لسؤال سائل. وقيل : بل العامل في «كلّما» «قال» ، و «سخروا» على هذا إمّا صفة ل «ملأ» ، وإمّا بدل من «مرّ» ، وهو بعيد جدّا ، إذ ليس «سخر» نوعا من المرور ، ولا هو هو فكيف يبدل منه؟ والجملة من قوله «كلّما» إلى آخره في محلّ نصب على الحال أي: يصنع الفلك والحال أنّه كلّما مرّ.

فصل

اختلفوا فيما كانوا لأجله يسخرون ، فقيل : إنهم كانوا يقولون له : كنت تدّعي الرسالة ، فصرت نجّارا. وقيل : كانوا يقولون : لو كنت صادقا في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق.

وقيل : إنّهم كانوا ما رأوا السّفينة قبل ذلك وما عرفوا كيفية الانتفاع بها ، فكانوا يتعجّبون منه ويسخرون ـ وقيل : إنّ تلك السّفينة كانت كبيرة ، وكان يصنعها في موضع بعيد عن الماء جدّا ، وكانوا يقولون له : ليس ههنا ماء ، ولا يمكنك نقلها لماء البحار ، فكانوا يعدّون ذلك من باب السخرية.

وقيل : إنّه لمّا طال مكثه فيهم ، وكان ينذرهم بالغرق ، وما شاهدوا من ذلك المعنى خبرا ولا أثرا غلب على ظنونهم كذبه في ذلك النقل ، فلمّا اشتغل بعمل السفينة ، سخروا منه ، وكل هذه الوجوه محتملة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٥).

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٧ / ٧٩).

٤٨٣

ثم إنّه تعالى حكى عنه أنه كان يقول : (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) أي : مثل سخريتكم إذا غرقتم في الدنيا ووقعتم في العذاب يوم القيامة. وقيل : إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنّا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر ، والتّعرض لسخط الله وعذابه ، فأنتم أولى بالسّخرية منّا.

فإن قيل : كيف تجوز السخرية من النبي؟.

فالجواب : هذا ازدواج للكلام يعنى : إن تستجهلوني فإنّي أستجهلكم إذا نزل بكم العذاب.

وقيل : معناه : إن تسخروا منّا فسترون عاقبة سخريتكم.

وقيل : سمى المقابلة سخرية كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠].

قوله : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ).

في «من» وجهان :

أحدهما : أن تكون موصولة.

والثاني : أن تكون استفهاميّة ، وعلى كلا التقديرين ف «تعلمون» إمّا من باب اليقين ، فتتعدّى لاثنين ، وإمّا من باب العرفان فتتعدّى لواحد. فإذا كانت هذه عرفانية و «من» استفهامية كانت «من» ، وما بعدها سادّة مسدّ مفعول واحد ، وإن كانت متعدية لاثنين كانت سادّة مسدّ المفعولين وإذا كانت «تعلمون» متعدية لاثنين ، و «من» موصولة كانت في موضع المفعول الأوّل ، والثاني محذوف قال ابن عطيّة : «وجائز أن تكون المتعدية إلى مفعولين ، واقتصر على الواحد».

وهذه العبارة ليست جيّدة ؛ لأنّ الاقتصار في هذا الباب على أحد المفعولين لا يجوز ، لما تقرّر من أنّهما مبتدأ وخبر في الأصل ، وأمّا حذف الاختصار ، فهو ممتنع أيضا ، إذ لا دليل على ذلك. وإن كانت متعدّية لواحد و «من» موصولة فأمرها واضح.

قوله : (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ) أي : يجب عليه ، وينزل به (عَذابٌ مُقِيمٌ) دائم. وحكى الزهراويّ ـ رضي الله عنه ـ : (وَيَحِلُّ) بضمّ الحاء ، بمعنى يجب أيضا.

قوله : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) عذابنا ، أو وقته ، أو قولنا «كن».

(وَفارَ التَّنُّورُ) اختلفوا في التّنور : قال عكرمة والزهري : هو وجه الأرض (١) ، أي نبعت الأرض من سائر أرجائها حتى نبعت التنانير التي هي محال النار وذلك أنّه قيل لنوح : إذ رأيت الماء قد فار على وجه الأرض ، فاركب السّفينة أنت وأصحابك.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٨ ـ ٣٩) عن ابن عباس وعكرمة والضحاك.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٩٦) عن عكرمة وعزاه إلى أبي الشيخ وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٨٣).

٤٨٤

وروي عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ قال : التنور طلوع الفجر ، ونور الصّباح (١) وقيل : التّنّور أشرف مكان في الأرض وأعلاه. وقيل : (فارَ التَّنُّورُ) يحتمل أن يكون معناه : اشتدّ الحر كما يقال : حمي الوطيس.

ومعنى الآية : إذا رأيت الأمر يشتد والماء يكثر فانج بنفسك ومن معك إلى السفينة.

وقال الحسن ومجاهد والشعبيّ : إنه التنور الذي يخبز فيه (٢). وهو قول أكثر المفسّرين ، ورواه عطيّة عن ابن عبّاس (٣).

قال الحسن : كان تنّورا من حجارة ، كانت حواء تخبز فيه ، فصار إلى نوح ـ عليه الصلاة والسّلام ـ (٤) واختلفوا في موضعه فقال مجاهد والشعبيّ : إنّه بناحية الكوفة (٥) وعن علي أنّه في مسجد الكوفة (٦). وقال مقاتل بموضع يقال له : عين وردة بالشّام (٧) وقيل : عين بالهند.

قال الزمخشريّ : «حتّى» هي التي يبتدأ بعدها الكلام ، دخلت على الجملة من الشّرط والجزاء ، ووقعت غاية لقوله (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) أي : وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد والألف واللّام في «التّنّور» قيل : للعهد. وقيل : للجنس.

ووزن «تنّور» قيل : «تفعول» من لفظ النور فقلبت الواو لأولى همزة لانضمامها. ثم حذفت تخفيفا ، ثم شدّدوا النون كالعوض عن المحذوف ، ويعزى هذا لثعلب.

وقيل : وزنه «فعّول» ويعزى لأبي علي الفارسيّ. وقيل : هو أعجميّ ، وعلى هذا فلا اشتقاق له. والمشهور أنّه ممّا اتفق فيه لغة العرب والعجم كالصّابون.

ومعنى «فار» أي : غلا قوة وشدة تشبيها بغليان القدر عند قوة النّار ، ولا شبهة في أنّ نفس التّنور لا يفور ، فالمراد : فار الماء في التّنور.

قال اللّيث ـ رحمه‌الله ـ : «التّنّور عمّت بكل لسان وصاحبه تنّار قال الأزهريّ : وهذا يدلّ على أن الاسم يكون أعجميّا فتعربه العرب ، فيصير عربيّا ، والدليل على ذلك أنّ الأصل «تنر» ، ولا يعرف في كلام العرب «تنر» وهو نظير ما دخل في كلام العرب من

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٩٦) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٨٣).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٠) عن ابن عباس والحسن ومجاهد والشعبي.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٨٣).

(٣) انظر الأثر السابق.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٨٣)

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٠) عن مجاهد والشعبي وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٨٣) عنهما.

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٩٥) وعزاه إلى أبي الشيخ.

(٧) ذكر الرازي في «تفسيره» (١٧ / ١٨٠).

٤٨٥

كلام العجم الدّيباج والدّينار ، والسّندس ، والإستبرق ، فإنّ العرب تكلّموا بها ؛ فصارت عربية». قيل : إنّ امرأته كانت تخبز في ذلك التنور ، فأخبرته بخروج الماء من ذلك التنور فاشتغل في الحال بوضع هذه الأشياء في السفينة.

قوله : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) قرأ العامّة بإضافة «كل» ل «زوجين».

وقرأ حفص (١) بتنوين «كل» ، فأمّا العامة فقيل : إنّ مفعول «احمل» «اثنين» ، و (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) في محلّ نصب على الحال من المفعول ؛ لأنه كان صفة للنّكرة ، فلمّا قدّم عليها نصب حالا وقيل : بل «من» زائدة ، و «كل» مفعول به ، و «اثنين» نعت ل «زوجين» على التّأكيد ، وهذا إنّما يتمّ على قول من يرى زيادة «من» مطلقا ، أو في كلام موجب.

وقيل : قوله : «زوجين» بمعنى العموم أي : من كل ما له ازدواج ، هذا معنى قوله : (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) وهو قول الفارسيّ وغيره.

قال ابن عطيّة : ولو كان المعنى : احمل فيها من كل زوجين حاصلين اثنين ، لوجب أن يحمل من كلّ نوع أربعة ، والزوج في مشهور كلامهم للواحد ممّا له ازدواج.

قال ـ سبحانه وتعالى ـ : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) [الذاريات : ٤٩] ، ويقال للمرأة زوج ، قال تعالى : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [النساء : ١] يعني المرأة ، وهو زوجها ، وقال: (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [النجم : ٤٥] فالواحد يقال له : زوج ، قال تعالى: (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) [الأنعام : ١٤٣] ، (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) [الأنعام : ١٤٤].

فالزّوجان : عبارة عن كل اثنين لا يستغني أحدهما عن الآخر ، يقال لكلّ واحد منهما زوج ، يقال زوج خفّ ، وزوج نعل ، والمراد بالزّوجين ههنا : الذّكر والأنثى.

وأمّا قراءة حفص فمعناها : من كلّ حيوان أو من كلّ صنف ، و «زوجين» مفعول به ، و «اثنين» نعت على التأكيد ، كقوله (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) [النحل : ٥١] ، و (مِنْ كُلٍّ) على هذه القراءة يجوز أن يتعلق ب «احمل» وهو الظّاهر ، وأن يتعلق بمحذوف على أنّها حال من «زوجين» وهذا الخلاف والتخريج جاريان أيضا في سورة «قد أفلح».

فصل

اختلفوا في أنه هل دخل في قوله : (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) غير الحيوان أم لا؟ فنقول فالحيوان مراد ولا بد ، وأما النّبات فاللفظ لا يدل عليه ، إلا أنه بقرينة الحال لا يبعد دخوله لأنّ الناس محتاجون إلى النبات بجميع أقسامه.

__________________

(١) ينظر : الحجة ٤ / ٣٢٤ وإعراب القراءات السبع ١ / ٢٨٠ وحجة القراءات ٣٣٩ والإتحاف ٢ / ١٢٥ والمحرر الوجيز ٣ / ١٧١ والبحر المحيط ٥ / ٢٢٣ والدر المصون ٤ / ٩٨.

٤٨٦

قال ابن الخطيب : «وروي عن ابن مسعود أنه قال : لم يستطع نوح أن يحمل الأسد حتّى ألقيت عليه الحمى ، وذلك أنّ نوحا ـ عليه الصلاة والسّلام ـ قال : يا ربّ فمن أين أطعم الأسد ، إذا حملته؟ قال الله ـ تعالى ـ : «فسوف أشغله عن الطعام فسلط الله عليه الحمى» (١) وأمثال هذه الكلمات الأولى تركها ، فإنّ حاجة الفيل إلى الطّعام أكثر ، وليست به حمّى».

وروى زيد بن أسلم عن أبيه مرسلا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لمّا حمل نوح في السفينة من كلّ زوجين اثنين ، قال أصحابه : وكيف يطمئن ، أو تطمئن المواشي ، ومعنا الأسد ، فسلّط الله عليه الحمى ، فكانت أوّل حمى نزلت الأرض ، ثم شكوا الفأرة فقالوا : الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا ، فأوحى الله إلى الأسد ، فعطس الأسد فخرجت الهرة ؛ فتخبأت الفأرة منها (٢).

قوله : (وَأَهْلَكَ) نسق على «اثنين» في قراءة من أضاف «كل» ل «زوجين» ، وعلى «زوجين» في قراءة من نوّن «كل» وقوله : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ) استثناء متصل في موجب ، فهو واجب النّصب على المشهور.

وقوله : (وَمَنْ آمَنَ) مفعول به نسقا على مفعول «احمل».

فصل

روي أنّ نوحا ـ عليه الصلاة والسّلام ـ قال يا رب : كيف أحمل من كلّ زوجين اثنين؟ فحشر الله ـ تعالى ـ إليه السباع والطير ، فجعل يضرب بيده في كل جنس فيقع الذّكر في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى ، فيجعلهما في السفينة.

والمراد بأهله : ولده وعياله (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) بالهلاك يعني : امرأته واعلة وابنه كنعان.

(وَمَنْ آمَنَ) يعنى : واحمل من آمن بك ، قال تعالى : (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ). قال قتادة وابن جريج ومحمد بن كعب القرظيّ : لم يكن في السفينة إلا ثمانية نفر نوح وامرأته وثلاثة بنين سام وحام ويافث (٣) ونساؤهم.

وقال الأعمش : كانوا سبعة : نوح وثلاثة بنين له وثلاث كنائن (٤) وقال ابن إسحاق : كانوا عشرة سوى نسائهم ، نوح وبنوه : سام وحام ويافث ، وستة أناس ممن كان به ، وأزواجهم جميعا (٥).

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٧ / ١٨١).

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٩٩) وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم عن أبيه مرسلا.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٢ ـ ٤٣) عن قتادة وابن جريج وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦٠١) وزاد نسبته إلى أبي الشيخ.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٣).

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٨٤) وأخرجه الطبري (٧ / ٤٣).

٤٨٧

وقال مقاتل : كانوا اثنين وسبعين رجلا وامرأة ، وبنيه الثلاث ونساءهم (١).

فجميعهم ثمانية وسبعون ، نصفهم رجال ، ونصف نساء.

وعن ابن عباس : كان في سفينة نوح عليه‌السلام ثمانون رجلا ، أحدهم جرهم ، يقال : إنّ في ناحية «الموصل» قرية ، يقال لها : قرية الثّمانين ، سمّيت بذلك ؛ لأنّهم لما خرجوا من السّفينة بنوها ، فسمّيت بهم (٢).

قال مقاتل : حمل نوح معه جسد آدم ، فجعله معترضا بين الرّجال والنّساء (٣).

وقال الحسن : لم يحمل نوح في السفينة إلّا ما يلد ويبيض فأما ما يتولّد من الطين ؛ فالحشرات ، والبقّ ، والبعوض ؛ فلم يحمل منه (٤). ثم قال تعالى (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) يعني : حكم الله عليه بالهلاك ، وهو ابنه ، وزوجته ، وكانا كافرين ، فأما ابنه فهو يام ، وتسميه أهل الكتاب : كنعان ، فهو الذي انعزل عنه ، وأما امرأة نوح ، فهي أمّ أولاده كلهم : حام ، وسام ، ويافث ، وهو أدرك ؛ انعزل ، وغرق ، وعابر ، وقد مات قبل الطوفان ، فقيل مع من غرق وكانت خمس سبق عليها القول بكفرها ، وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة فيحتمل أنها ماتت بعد ذلك.

فإن قيل : الإنسان أشرف من سائر الحيوانات ، فما الفائدة من ذكر الحيوانات؟.

فالجواب : أنّ الإنسان عاقل وهو لعقله كالمضطر إلى دفع أسباب الهلاك عن نفسه ، فلا حاجة إلى المبالغة في التّرغيب فيه ، بخلاف السّعي في تخليص سائر الحيوانات ؛ فلهذا وقع الابتداء به.

فإن قيل : الذين دخلوا السّفينة كانوا جماعة فلم لم يقل قليلون كما في قوله : (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) [الشعراء : ٥٤]؟ فالجواب : كلا اللفظين جائز ، والتقدير ـ ههنا ـ : وما آمن معه إلا نفر قليل.

فصل

احتجوا بقوله (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) في إثبات القضاء السّابق والقدر الواجب ، لأنّ قوله (سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ) يدلّ على أنّ من سبق عليه القول ومن آمن لا يغيّر عن حاله ، فهو كقوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : «السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقى في بطن أمه» (٥).

__________________

(١) انظر المصدر السابق.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦٠١) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٨٤).

(٤) انظر المصدر السابق.

(٥) أخرجه البزار (٢١٥٠ ـ كشف) والطبراني في «الصغير» (٢ / ٥) والبيهقي في «الاعتقاد» ص (١٣٩) من حديث أبي هريرة.

٤٨٨

قال تعالى (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها).

يجوز أن يكون فاعل «قال» ضمير نوح ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، ويجوز أن يكون ضمير الباري ـ تعالى جل ذكره ـ أي : وقال الله لنوح ومن معه. و «فيها» متعلق ب «اركبوا» وعدّي ب «في» لتضمّنه معنى «ادخلوا فيها راكبين» أو سيروا فيها.

وقيل : تقديره : اركبوا الماء فيها. وقيل : «في» زائدة للتّوكيد.

والركوب : العلو على ظهر الشيء ، ومنه ركوب الدّابة ، وركوب السّفينة ، وركوب البحر ، وكل شيء علا شيئا ، فقد ركبه ، ويقال : ركبه الدّين. قال الليث ـ رحمه‌الله ـ : وتسمي العرب من يركب السّفينة : ركّاب السّفينة ، وأمّا الركبان ، والأركوب ، والرّكب : فركّاب الدّوابّ.

قال الواحدي : ولفظة «في» في قوله (ارْكَبُوا فِيها) لا يجوز أن تكون من صلة الركوب ؛ لأنّه يقال : ركبت السفينة ولا يقال : ركبت في السّفينة ، بل الوجه أن يقال مفعول «اركبوا» محذوف والتقدير : «اركبوا الماء في السّفينة».

وأيضا يجوز أن تكون فائدة هذه الزيادة ، أنّه أمرهم أن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهرها فلو قال : اركبوها ، لتوهّموا أنّه أمرهم أن يكونوا على ظهر السّفينة.

قال قتادة : ركبوا السّفينة يوم العاشر من شهر رجب ؛ فساروا مائة وخمسين يوما ، واستقرّت على الجودي شهرا ، وكان خروجهم من السفينة يوم عاشوراء من المحرّم (١).

قوله : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها).

يجوز أن يكون هذا الجار والمجرور حالا من فاعل «اركبوا» أو من «ها» في «فيها» ويكون «مجراها» ، و «مرساها» فاعلين بالاستقرار الذي تضمّنه الجارّ لوقوعه حالا. ويجوز أن يكون (بِسْمِ اللهِ) خبرا مقدّما ، و «مجراها» مبتدأ مؤخرا ، والجملة أيضا حال ممّا تقدّم ، وهي على كلا التقديرين حال مقدرة كذا أعربه أبو البقاء ، وغيره. إلّا أنّ مكيّا منع ذلك لخلو الجملة من ضمير يعود على ذي الحال إذا أعربنا الجملة أو الجارّ حالا من فاعل «اركبوا» قال : ولا يحسن أن تكون هذه الجملة حالا من فاعل «اركبوا» ؛ لأنّه لا عائد في الجملة يعود على الضمير في «اركبوا» لأن المضمر في (بِسْمِ اللهِ) إن جعلته خبرا ل «مجراها» فإنّما يعود على المبتدأ ، وهو مجراها ، وإن رفعت «مجراها» بالظّرف لم يكن فيه ضمير الهاء في «مجراها» وإنما تعود على الضمير في «فيها».

__________________

ـ وله شاهد من حديث ابن مسعود مرفوعا :

أخرجه ابن أبي عاصم (١٧٨) والقضاعي في «مسند الشهاب» (٧٦) وأخرجه مسلم (٢٦٤٥) عن ابن مسعود موقوفا.

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٨٦).

٤٨٩

وإذا نصبت «مجراها» على الظرف عمل فيه (بِسْمِ اللهِ) وكانت الجملة حالا من فعل «اركبوا».

وقيل : (بِسْمِ اللهِ) حال من فاعل «اركبوا» و (مَجْراها وَمُرْساها) في موضع الظرف المكاني ، أو الزماني. والتقدير : اركبوا فيها مسمّين موضع جريانها ، ورسوّها ، أو وقت جريانها ورسوّها.

والعامل في هذين الظرفين حينئذ ما تضمّنه (بِسْمِ اللهِ) من الاستقرار ، والتقدير : اركبوا فيها متبرّكين باسم الله في هذين المكانين ، أو الوقتين.

قال مكي : ولا يجوز أن يكون العامل فيهما «اركبوا» ؛ لأنه لم يرد : اركبوا فيها في وقت الجري ، والرسوّ ، إنّما المعنى : سمّوا اسم الله في وقت الجري والرّسوّ.

ويجوز أيضا أن يكون (مَجْراها وَمُرْساها) مصدرين ، و (بِسْمِ اللهِ) حال كما تقدّم ، رافعا لهذين المصدرين على الفاعليّة أي : استقرّ بسم الله إجراؤها ، وإرساؤها ، ولا يكون الجارّ حينئذ إلّا حالا من «ها» في «فيها» لوجود الرابط ، ولا يكون حالا من فاعل «اركبوا» لعدم الرّابط. وعلى هذه الأعاريب يكون الكلام جملة واحدة.

ويجوز أن يكون (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) جملة مستأنفة لا تعلّق لها بالأولى من حيث الإعراب ، ويكون قد أمرهم في الجملة الأولى بالرّكوب ، وأخبر أنّ مجراها ومرساها باسم الله. فجرت ، وإذا أراد أن ترسو قال : بسم الله.

قال بعض المفسّرين : كان نوح عليه الصلاة والسّلام إذا أراد إجراء السفينة قال : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها) فتجري ، وإذا أراد أن ترسو قال : «بسم الله مرساها» فترسو ، فالجملتان محكيتان ب «قال».

وقرأ الأخوان وحفص «مجراها» بفتح الميم ، والباقون (١) بضمها. واتّفق السّبعة على ضمّ ميم «مرساها». وقرأ ابن مسعود ، وعيسى (٢) الثقفي وزيد بن علي ، والأعمش «مرساها» بفتح المم أيضا.

فالضمّ فيهما ، لأنهما من «أجرى وأرسى» ، والفتح لأنّهما من «جرت ورست» وهما : إمّا ظرفا زمان أو مكان أو مصدران على ما سبق من التقادير.

وقرأ الضحاك ، والنخعي ، وابن وثاب ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، والكلبي (٣) ، والجحدري ، وابن جندب مجريها ومرسيها بكسر الراء ، والسين بعدهما ياء صريحة ،

__________________

(١) ينظر : الحجة ٤ / ٣٢٩ وإعراب القراءات السبع ١ / ٢٨٠ وحجة القراءات ٣٤٠ والإتحاف ٢ / ١٢٥ ، ١٢٦ ، والمحرر الوجيز ٣ / ١٧٣ والبحر المحيط ٥ / ٢٢٥ والدر المصون ٤ / ٩٩.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٧٣ والبحر المحيط ٥ / ٢٢٥ ، ٢٢٦ والدر المصون ٤ / ٩٩.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٧٣ والبحر المحيط ٥ / ٢٢٦ والدر المصون ٤ / ٩٩.

٤٩٠

وهما اسما فاعلين من «أجرى وأرسى» ، وتخريجهما على أنهما بدلان من اسم الله.

قال ابن عطيّة وأبو البقاء ، ومكي : إنّهما نعتان لله ـ تعالى ـ ، وهذا الذي ذكروه إنّما يتمّ على تقدير كونهما معرفتين بتمحض الإضافة ، وقال الخليل : «إنّ كلّ إضافة غير محضة قد تجعل محضة إلّا إضافة الصفة المشبهة ، فلا تتمحّض».

وقال مكي : «ولو جعلت «مجراها» ، و «مرساها» في موضع اسم الفاعل لكانت حالا مقدرة ، ولجاز ذلك وكانت في موضع نصب على الحال من اسم الله تعالى».

والرّسوّ : الثّبات ، والاستقرار ، يقال : رسا يرسو وأرسيته أنا ؛ قال : [الكامل]

٢٩٧٠ ـ فصبرت نفسا عند ذلك حرّة

ترسو إذا نفس الجبان تطلّع (١)

أي : تثبت وتستقرّ عند ما تضطرب وتتحرك نفس الجبان.

قوله : (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) فيه سؤال ، وهو إن كان ذلك وقت إظهار الضر ، فكيف يليق به هذا الذكر؟.

والجواب : لعل القوم الذين ركبوا السّفينة اعتقدوا في أنفسهم أنّا إنّما نجونا ببركة علمنا فالله تعالى نبّههم بهذا الكلام لازالة ذلك العجب ، فإنّ الإنسان لا ينفكّ من أنواع الزلات وظلمات الشبهات ، وفي جميع الأحوال ، فهو محتاج إلى إعانة الله ، وفضله ، وإحسانه ، وأن يكون غفورا لذنوبه رحيما لعقوبته.

قوله : (وَهِيَ تَجْرِي) في هذه الجملة ، ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّها مستأنفة ، أخبر الله تعالى عن السفينة بذلك.

والثاني : أنّها في محلّ نصب على الحال من الضّمير المستتر في (بِسْمِ اللهِ) أي : جريانها استقرّ بسم الله حال كونها جارية.

الثالث : أنّها حال من شيء محذوف تضمّنته جملة دلّ عليها سياق الكلام.

قال الزمخشريّ : فإن قلت : بم اتّصل قوله : (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ)؟ قلت : بمحذوف دلّ عليه قوله : (ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ) كأنّه قيل : فركبوا فيها يقولون : «بسم الله وهي تجري بهم».

وقوله «بهم» يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلّق ب «تجري».

__________________

(١) البيت لعنترة. ورواية الديوان (٤٩) :

فصبرت عارفة لذلك حرة

ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٢٤ واللسان (صبر) وروح المعاني ١٢ / ٥٧ والتهذيب ٢ / ٣٤٤ والدر المصون ٤ / ١٠٠.

٤٩١

والثاني : أنّه متعلق بمحذوف أي : تجري ملتبسة بهم ، ولذلك فسّره الزمخشريّ بقوله : «أي : تجري وهم فيها».

وقوله : «كالجبال» صفة ل «موج».

فصل

قال ابن جرير ، وغيره : إنّ الطّوفان كان في ثالث عشر شهر آب في عادة القبط ، وإنّ الماء ارتفع على أعلى جبل في الأرض خمسة عشر ذراعا ، وهو الذي عند أهل الكتاب ، وقيل : ثمانين ذراعا وعمّ جميع الأرض طولا وعرضا.

والموج جمع «موجة» والموج : ما ارتفع من الماء إذا اشتدّ عليه الريح. وهذا يدلّ على أنّه حصل في ذلك الوقت رياح عاصفة.

فإن قيل : الجريان في الموج يوجب الغرق.

فالجواب : أنّ الأمواج لمّا أحاطت بالسّفينة من جوانبها أشبهت تلك السّفينة كأنّها جرت في داخل الأمواج.

قوله تعالى : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) الجمهور على كسر تنوين «نوح» لالتقاء الساكنين.

وقرأ (١) وكيع بضمّه إتباعا لحركة الإعراب ، واسترذل أبو حاتم هذه القراءة ، وقال : «هي لغة سوء لا تعرف».

وقرأ العامّة : «ابنه» بوصل هاء الكناية بواو ، وهي اللغة الفصيحة الفاشية.

وقرأ ابن عباس (٢) بسكون الهاء. قال بعضهم : هذا مخصوص بالضّرورة ؛ وأنشد : [البسيط]

٢٩٧١ ـ وأشرب الماء ما بي نحوه عطش

إلّا لأنّ عيونه سيل واديها (٣)

وبعضهم لا يخصّه بها ، وقال ابن عطية : إنّا لغة لأزد السّراة ؛ ومنه قوله : [الطويل]

٢٩٧٢ ـ .........

ومطواي مشتاقان له أرقان (٤)

وقال بعضهم : «هي لغة عقيل ، وبني كلاب».

وقرأ السدي (٥) : «ابناه» بألف وهاء السكت ، قال ابن جنّي : «وهو على النّداء».

وقال أبو البقاء (٦) : «ابناه» على الترثّي وليس بندبة ؛ لأنّ النّدبة لا تكون بالهمزة.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٧٤ والبحر المحيط ٥ / ٢٢٦ والدر المصون ٤ / ١٠٠.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٧٣ والبحر المحيط ٥ / ٢٢٦ والدر المصون ٤ / ١٠٠.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٩٦ ، والمحرر الوجيز ٣ / ١٧٣ ، والبحر المحيط ٥ / ٢٢٦ ، والدر المصون ٤ / ١٠٠.

(٦) ينظر : الإملاء ٢ / ٣٩.

٤٩٢

وهو كلام مشكل في نفسه ، وأين الهمزة هنا؟ إن عنى همزة النّداء ، فلا نسلّم أنّ المقدّر من حروف النّداء هو الهمزة ؛ لأنّ النّحاة نصّوا على أنّه لا يضمر من حروف النّداء إلّا «يا» لأنّها أم الباب.

وقوله : «الترثّي» هو قريب في المعنى من الندبة.

وقد نصوا على أنّه لا يجوز حذف [حرف] النداء من المندوب ، وهذا شبيه به.

وقرأ عليّ ـ كرم الله وجهه (١) ـ : «ابنها» إضافة إلى امرأته كأنه اعتبر قوله : (لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ، وقوله : «ابني» و (مِنْ أَهْلِي) [هود : ٤٥] لا يدل له لاحتمال أن يكون ذلك لأجل الحنوّ ، وهو قول الحسن ، وجماعة.

وقرأ محمد بن عليّ (٢) ، وعروة بن الزبير : «ابنه» بهاء مفتوحة دون ألف ، وهي كالقراءة قبلها ، إلّا أنه حذف ألف «ها» مجتزئا عنها بالفتحة ، كما تحذف الياء مجتزأ عنها بالكسرة ، قال ابن عطيّة : «هي لغة» ؛ وأنشد : [البسيط]

٢٩٧٣ ـ إمّا تقود بها شاة فتأكلها

أو أن تبيعه في بعض الأراكيب (٣)

يريد : «تبيعها» فاجتزأ بالفتحة عن الألف ، كما اجتزأ الآخر عنها في قوله : ـ أنشده ابن الأعرابي على ذلك ـ : [الوافر]

٢٩٧٤ ـ فلست براجع ما فات منّي

بلهف ، ولا بليت ، ولا لو انّي (٤)

يريد : «يا لهفا» فحذف ، وهذا يخصّه بعضهم بالضرورة ، ويمنع في السّعة : «يا غلام» في : يا غلاما.

وسيأتي في نحو (يا أَبَتِ) [يوسف : ٤] بالفتح : هل ثمّ ألف محذوفة أم لا؟ وتقدّم خلاف في نحو : يا ابن أمّ ، ويا ابن عمّ : هل ثمّ ألف محذوفة مجتزأ عنها بالفتحة أم لا؟ فهذا أيضا كذلك ، ولكن الظّاهر عدم اقتياسه ، وقد خطّأ النّحاس أبا حاتم في حذف هذه الألف ، وفيه نظر.

قوله : (وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) جملة في موضع نصب على الحال ، وصاحبها هو «ابنه» والحال تأتي من المنادى لأنّه مفعول به.

والمعزل ـ بكسر الزاي ـ اسم مكان العزلة ، وكذلك اسم الزمان أيضا ، وبالفتح هو

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٩٦ ، والدر المصون ٤ / ١٠٠.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٩٦ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٧٣ ، البحر المحيط ٥ / ٢٢٧ ، الدر المصون ٤ / ١٠٠.

(٣) ينظر البيت في خزانة الأدب ٥ / ٢٧٣٢ ورصف المباني ص ١٥ وسر صناعة الإعراب ص ١٢٧ وشرح شواهد الشافية ص ٢٤٠ واللسان (ركب) وروح المعاني ١٢ / ٥٨ والبحر المحيط ٥ / ٢٢٦ والدر المصون ٤ / ١٠٠.

(٤) تقدم.

٤٩٣

المصدر. قال أبو البقاء (١) : «ولم أعلم أحدا قرأ بالفتح».

قال شهاب الدّين (٢) : لأنّ المصدر ليس حاويا له ولا ظرفه ؛ فكيف يقرأ به إلّا بمجاز بعيد؟.

وأصله : من العزل ، وهو التّنحية ، والإبعاد تقول : كنت بمعزل عن كذا ، أي : بموضع قد عزل منه ، قيل : كان بمعزل عن السفينة ، لأنه كان يظنّ أنّ الجبل يمنعه من الغرق.

وقيل : كان بمعزل عن أبيه وإخوته وقومه ، وقيل : كان في معزل من الكفار كأنّه انفرد عنهم فظنّ نوح أنّ ذلك محبة لمفارقتهم.

فصل

اختلفوا في أنه هل كان ابنا له؟ فقيل : كان ابنه حقيقة لنصّ القرآن ، وصرف هذا اللفظ إلى أنّه رباه ، فأطلق عليه اسم الابن لهذا السّبب ، صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة ، والمخالف لهذا الظّاهر إنّما خالفه استبعادا لأن يكون ولد الرسول كافرا ، وهذا ليس ببعيد ؛ فإنّه قد ثبت بنصّ القرآن أنّ والد الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كان كافرا ، فكذلك ههنا.

فإن قيل : لمّا دعا وقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦] فكيف نادى ابنه مع كفره؟.

فالجواب من وجوه :

الأول : أنّه كان ينافق أباه ؛ فظنّ نوح أنّه مؤمن ؛ فلذلك ناداه ، ولو لا ذلك لما أحب نجاته.

الثاني : أنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كان يعلم أنه كافر لكن ظنّ أنه لمّا شاهد الغرق ، والأهوال العظيمة فإنّه يقبل الإيمان ، فكان قوله : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) كالدّلائل على أنّه طالب منه الإيمان ، وتأكد هذا بقوله : (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) أي : تابعهم في الكفر ، واركب مع المؤمنين.

الثالث : أنّ شفقة الأبوة لعلّها حملته على ذلك النداء ، والذي تقدّم من قوله : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) [هود : ٤٠] كان كالمجمل ، فلعلّه جوّز ألّا يكون هو داخلا فيه.

وقيل : كان ابن امرأته ، ويدلّ عليه ما تقدّم من القراءة.

وقال قتادة : سألت الحسن عنه فقال : والله ما كان ابنه فقلت : إنّ الله ـ تعالى ـ حكى عنه أنه قال : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) وأنت تقول : ما كان ابنا له ، فقال : لم يقل : إنّ ابني منّي ، وإنّما قال : من أهلي ، وهذا يدلّ على قولي (٣).

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ٢ / ٣٩.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٠١.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٩ / ٣٢).

٤٩٤

وقيل : ولد على فراشه ، قالوا : لقوله تعالى في امرأة نوح ، وامرأة لوط (فَخانَتاهُما) [التحريم : ١٠].

قال ابن الخطيب (١) : وهذا قول خبيث يجب صون منصب الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ عن هذه الفضيحة لا سيما وهو على خلاف نصّ القرآن.

وأمّا قوله تعالى : (فَخانَتاهُما) فليس فيه أنّ تلك الخيانة كانت بالسّبب الذي ذكروه.

قيل لابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : كيف كانت تلك الخيانة ، فقال : كانت امرأة نوح تقول : زوجي مجنون ، وامرأة لوط تدلّ الناس على ضيفه ، إذا نزلوا به (٢) ، ويدلّ على فساد هذا القول قوله تعالى : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) [النور : ٢٦] وقوله : (وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [النور : ٣].

قوله : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) قرأ البزيّ ، وقالون (٣) ، وخلّاد بإظهار باء «اركب» قبل ميم «معنا» والباقون بإدغامها في الميم ، وقرأ عاصم هنا (٤) «يا بني» بفتح الياء. وأمّا في غير هذه السّورة فإنّ حفصا عنه فعل ذلك. والباقون : بكسر الياء في جميع القرآن إلا ابن كثير ؛ فإنّه في الأول من لقمان ، وهو قوله : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ) [لقمان : ١٣] فإنّه سكّنه وصلا ووقفا ، وفي الثاني كغيره أنّه يكسر ياءه ، وحفص على أصله من فتحه. وفي الثالث وهو قوله : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) [لقمان : ١٧] اختلف عنه فروى البزي كحفص ، وروى عنه قنبل السّكون كالأول. هذا ضبط القراءة.

وأمّا تخريجها فمن فتح فقيل : أصلها : «يا بنيا» بالألف فحذفت الألف تخفيفا ، اجتزأ عنها بالفتحة كما تقدّم. وقيل : بل حذفت لالتقاء الساكنين ؛ لأنّها وقع بعدها راء «اركب» وهذا تعليل فاسد جدّا ، بدليل سقوطها في سورة لقمان في ثلاثة مواضع حيث لا ساكنان. وكأنّ هذا المعلّل لم يعلم بقراءة عاصم في غير هذه السورة ، ولا بقراءة البزيّ في «لقمان» ، وقد نقل ذلك أبو البقاء ولم ينكره. وكذلك قال الزمخشريّ أيضا.

وأمّا من كسر فحذفت الياء أيضا : إمّا تخفيفا وهو الصحيح ، وإما لالتقاء الساكنين ، وقد تقدّم فساده. وأمّا من سكّن فلما رأى من الثّقل مع مطلق الحركة ، ولا شكّ أنّ

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٧ / ١٨٥.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٧) وعزاه إلى عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه من طرق عن ابن عباس وسيأتي تخريجه في موضعه.

(٣) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٠١.

(٤) ينظر : الحجة ٤ / ٣٣٣ وإعراب القراءات السبع ١ / ٢٨٢ وحجة القراءات ٣٤٠ والإتحاف ٢ / ١٢٦ والمحرر الوجيز ٣ / ١٧٤ والبحر المحيط ٥ / ٢٢٧ والدر المصون ٤ / ١٠١.

٤٩٥

السّكون من أخفّ الحركات ، ولا يقال : فلم وافق ابن كثير غير حفص في ثاني لقمان ، ووافق حفصا في الأخيرة في رواية البزي عنه ، وسكّن الأول؟ لأنّ ذلك جمع بين اللغات ، والمفرّق آت بمحال.

وأصل هذه اللفظة بثلاث ياءات : الأولى للتّصغير ، والثانية لام الكلمة ، وهل هي ياء بطريق الأصالة أو مبدلة من واو؟ خلاف تقدّم تحقيقه أول الكتاب في لام «ابن» ما هي؟ والثالثة ياء المتكلّم مضاف إليها ، وهي التي طرأ عليها القلب ألفا ثم الحذف ، أو الحذف وهي ياء بحالها.

فصل

لمّا حكى عن نوح أنّه دعا ابنه إلى ركوب السّفينة حكى عن ابنه أنّه قال : «سآوي إلى جبل» سأصير وألتجىء إلى جبل (يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) يمنعني من الغرق ، وهذا يدل على أنّ الابن كان مصرّا على الكفر ، فعند هذا قال نوح : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي : من عذاب الله (إِلَّا مَنْ رَحِمَ). وههنا سؤال :

وهو أن الذي رحمه‌الله معصوم ، فكيف يحسن استثناء المعصوم من العاصم؟.

والجواب من وجوه :

الأول : أنّه استثناء منقطع ، وذلك أن تجعل «عاصما» على حقيقته ، و (مَنْ رَحِمَ) هو المعصوم ، وفي «رحم» ضمير مرفوع يعود على الله تعالى ، ومفعوله ضمير الموصول وهو «من» حذف لاستكمال الشروط ، والتقدير : لا عاصم اليوم ألبتة من أمر الله ، لكن منرحمه‌الله فهو معصوم.

الثاني : أن يكون المراد ب (مَنْ رَحِمَ) هو الباري تعالى كأنه قيل : لا عاصم اليوم إلّا الرّاحم.

الثالث : أنّ عاصما بمعنى معصوم ، وفاعل قد يجيء بمعنى مفعول نحو : (ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٦] أي : مدفوق ؛ وأنشدوا : [المتقارب]

٢٩٧٥ ـ بطيء القيام رخيم الكلا

م أمسى فؤادي به فاتنا (١)

أي : مفتونا ، و «من» مراد بها المعصوم ، والتقدير : لا معصوم اليوم من أمر الله إلّا منرحمه‌الله فإنّه يعصم.

الرابع : أن يكون «عاصم» هنا بمعنى النّسب ، أي : ذا عصمة نحو : لابن وتامر ، وذو العصمة ينطلق على العاصم وعلى المعصوم ، والمراد به هنا المعصوم.

__________________

(١) ينظر البيت في البحر المحيط ٥ / ٢٢٧ واللسان (فتن) وروح المعاني ١٢ / ٩٠ والقرطبي ٩ / ٢٨ والدر المصون ٤ / ١٠٢.

٤٩٦

وهو على هذه التّقادير استثناء متصل ، وقد جعله الزمخشريّ متصلا لمدرك آخر ، وهو حذف مضاف تقديره : لا يعصمك اليوم معتصم قط من جبل ونحوه سوى معتصم واحد ، وهو مكان من رحمهم‌الله ونجاهم ، يعني في السفينة.

وأمّا خبر «لا» فالأحسن أن يجعل محذوفا ، وذلك لأنّه إذا دلّ عليه دليل ؛ وجب حذفه عند تميم ، وكثر عند الحجاز ، والتقدير : لا عاصم موجود.

وجوّز الحوفيّ وابن عطيّة أن يكون خبرها هو الظرف وهو اليوم. قال الحوفيّ : ويجوز أن يكون «اليوم» خبرا فيتعلّق بالاستقرار ، وبه يتعلق (مِنْ أَمْرِ اللهِ).

وقد ردّ أبو البقاء ذلك فقال : فأمّا خبر «لا» فلا يجوز أن يكون «اليوم» ؛ لأنّ ظرف الزّمان لا يكون خبرا عن الجثّة ، بل الخبر (مِنْ أَمْرِ اللهِ) و «اليوم» معمول (مِنْ أَمْرِ اللهِ).

وأمّا «اليوم» و (مِنْ أَمْرِ اللهِ) فقد تقدّم أنّ بعضهم جعل أحدهما خبرا ، فيتعلق الآخر بالاستقرار الذي يتضمّنه الواقع خبرا ، ويجوز في «اليوم» أن يتعلق بنفس (مِنْ أَمْرِ اللهِ) لكونه بمعنى الفعل.

وجوّز الحوفيّ أن يكون «اليوم» نعتا ل «عاصم» وهو فاسد بما أفسد بوقوعه خبرا عن الجثّة (١).

وقرىء (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) مبنيّا للمفعول ، وهي مقوّية لقول من يدعي أنّ (مَنْ رَحِمَ) في قراءة العامّة المراد به المرحوم لا الرّاحم ، كما تقدّم تأويله. ولا يجوز أن يكون «اليوم» ولا (مِنْ أَمْرِ اللهِ) متعلقين ب «عاصم» وكذلك الواحد منهما ؛ لأنّه كان يكون الاسم مطوّلا ، ومتى كان مطوّلا أعرب ، ومتى أعرب نوّن ، ولا عبرة بخلاف الزجاج حيث زعم أنّ اسم «لا» معرب حذف تنوينه تخفيفا.

ثم قال سبحانه وتعالى : (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ) فصار (مِنَ الْمُغْرَقِينَ).

روي أنّ الماء على رؤوس الجبال قدر أربعين ذراعا ، وقيل : خمسة عشر ذراعا.

قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) قيل : هذا مجاز ، لأنّها موات. وقيل : جعل فيها ما تميّز به. والذي قال إنّه مجاز قال : لو فتّش كلام العرب والعجم ما وجد فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها ، وبلاغة وصفها ، واشتمال المعاني فيها.

والبلع معروف. والفعل منه مكسور العين ومفتوحها : بلع وبلع حكاهما الكسائي والفراء.

قيل : والفصيح «بلع» بكسر اللام «يبلع» بفتحها. والإقلاع : الإمساك ، ومنه «أقلعت الحمّى». وقيل : أقلع عن الشيء ، أي : تركه وهو قريب من الأول. والغيض : النقصان ، يقال : غاض الماء يغيض غيضا ، ومغاضا إذا نقص ، وغضته أنا. وهذا من باب فعل

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٩٧ ، البحر المحيط ٥ / ٢٢٨ ، والدر المصون ٤ / ١٠٢.

٤٩٧

الشيء وفعلته أنا. ومثله فغر الفم وفغرته ، ودلع اللسان ودلعته ، ونقص الشّيء ونقصته ، وفعله لازم ومتعد ، فمن اللازم قوله تعالى : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ ،) أي : تنقص. وقيل : بل هو هنا متعدّ وسيأتي ، ومن المتعدّي هذه الآية ؛ لأنّه لا يبنى للمفعول من غير واسطة حرف جر إلّا المتعدّي بنفسه.

والجوديّ : جبل بعينه بالموصل ، وقيل : بل كلّ جبل يقال له جوديّ ؛ منه قول عمرو بن نفيل : [البسيط]

٢٩٧٦ ـ سبحانه ثمّ سبحانا نعوذ به

وقبلنا سبّح الجوديّ والجمد (١)

قال شهاب الدين (٢) : ولا أدري ما في ذلك من الدّلالة على أنّه عامّ في كلّ جبل.

وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة بتخفيف ياء «الجوديّ».

قال ابن عطيّة : وهما لغتان. والصّواب أن يقال : خفّفت ياء النّسب ، وإن كان يجوز ذلك في كلامهم الفاشي.

قوله «بعدا» منصوب على المصدر بفعل مقدّر ، أي : وقيل : ابعدوا بعدا ، فهو مصدر بمعنى الدعاء عليهم نحو : جدعا ، يقال : بعد يبعد بعدا إذا هلك ، قال : [الطويل]

٢٩٧٧ ـ يقولون لا تبعد وهم يدفنونه

ولا بعد إلّا ما تواري الصّفائح (٣)

واللّام إمّا أن تتعلق بفعل محذوف ، ويكون على سبيل البيان كما تقدّم في نحو «سقيا لك ورعيا» ، وإمّا أن تتعلق ب «قيل» ، أي : لأجلهم هذا القول.

قال الزمخشري (٤) : ومجيء إخباره على الفعل المبني للمفعول للدّلالة على الجلال والكبرياء ، وأنّ تلك الأمور العظام لا تكون إلّا بفعل فاعل قادر ، وتكوين مكوّن قاهر ، وأنّ فاعل هذه الأفعال واحد لا يشارك في أفعاله ، فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره : يا أرض ابلعي ماءك ، ولا أن يقضي ذلك الأمر الهائل إلّا هو ، ولا أن تستوي السفينة على الجوديّ ، وتستقر عليه إلّا بتسويته وإقراره ، ولما ذكرنا من المعاني والنّكت استفصح علماء البيان هذه الآية ، ورقصوا لها رءوسهم لا لتجانس الكلمتين وهما قوله : «ابلعي وأقلعي» ، وذلك وإن كان الكلام لا يخلو من حسن فهو كغير الملتفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللّبّ وما عداها قشور.

__________________

(١) البيت لورقة بن نوفل ينظر : الأغاني ٣ / ١١٥ وخزانة الأدب ٣ / ٣٣٨ ، ٧ / ٢٣٤ ، ٢٣٦ ، ٢٣٨ ، ٢٤٣ ، والدرر ٣ / ٦٩ ولأمية بن أبي الصلت ينظر : ديوانه (٣٠) والكتاب ١ / ٣٢٦ واللسان (سبح) ولزيد بن عمرو بن نفيل ينظر شرح أبيات سيبويه ١ / ١٩٤ والدر المصون ٤ / ١٠٣ وبلا نسبة في شرح المفصل ١ / ٣٧ ، ١٢ ، ٤ / ٣٦ ، والمقتضب ٣ / ٢١٧ وهمع الهوامع ١ / ١٩٠.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٧٦ ، والبحر المحيط ٥ / ٢٢٩ والدر المصون ٤ / ١٠٤.

(٣) ينظر البيت في الدر المصون ٤ / ١٠٣.

(٤) ينظر : تفسير الكشاف ٢ / ٣٩٨.

٤٩٨

فصل

في هذه الآية ألفاظ كل واحد منها دال على عظمة الله ـ تعالى ـ.

فأولها : قوله : (وَقِيلَ) وهذا يدلّ على أنّه سبحانه في الجلال والعظمة بحيث أنّه متى قيل لم ينصرف الفعل إلّا إليه ، ولم يتوجّه الفكر إلّا إلى ذلك الأمر ؛ فدلّ هذا الوجه على أنّه تقرر في العقول أنّه لا حاكم في العالمين ولا متصرف في العالم العلوي والسفلي إلّا هو.

وثانيها : قوله : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) فإنّ الحسّ يدلّ على عظمة هذه الأجسام ، والحقّ ـ تعالى ـ مستول عليها متصرف فيها كيف شاء وأراد ، فصار ذلك سببا لوقوف القوّة العقليّة على كمال جلال الله ـ تعالى ـ وعلوّ قدره وقدرته وهيبته.

وثالثها : أنّ السّماء والأرض من الجمادات ، فقوله : «يا أرض ويا سماء» مشعر بحسب الظّاهر على أنّ أمره وتكليفه نافذ في الجمادات ، وإذا كان كذلك حكم الوهم بأنّ نفوذ أمره على العقلاء أولى ، وليس المراد منه أنّه تعالى يأمر الجمادات فإنّ ذلك باطل ، بل المراد أنّ توجيه صيغة الأمر بحسب الظّاهر على هذه الجمادات القويّة الشديدة يقرّر في الوهم قدر عظمته وجلاله تقريرا كاملا.

ورابعها : قوله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) ومعناه : أنّ الّذي قضى به وقدّره في الأزل قضاء جزما فقد وقع ، ذلك يدلّ على أنّ ما قضى الله ـ تعالى ـ به فهو واقع في وقته وأنه لا دافع لقضائه ، ولا مانع من نفاذ حكمه في أرضه وسمائه.

فإن قيل : كيف يليق بحكمة الله ـ تعالى ـ أن يغرق الأطفال بسبب جرم الكبار؟.

فالجواب من وجهين :

الأول : قال أكثر المفسّرين : إنّ الله ـ تعالى ـ أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة ، فلم يغرق إلّا من بلغ سنّه أربعين سنة.

ولقائل أن يقول : لو كان ذلك لكان آية عجيبة قاهرة ظاهرة ، ويبعد مع ظهورها استمرارهم على الكفر ، وأيضا فهب أنّ الأمر كما ذكرتم فما قولكم في إهلاك الطّير والوحش مع أنّه لا تكليف عليها ألبتّة.

الجواب الثاني : أنه لا اعتراض على الله ـ تعالى ـ في أفعاله : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : ٢٣] وأجاب المعتزلة بأنّ الإغراق في الحيوانات والأطفال كإذنه في ذبح هذه البهائم وفي استعمالها في الأعمال الشاقة.

وقوله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي : فرغ منه ، وهو هلاك القوم.

وقوله : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) أي : استوت السّفينة على جبل بأرض الجزيرة بقرب الموصل يقال له الجودي. قيل : استوت يوم عاشوراء.

٤٩٩

(وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) قيل : هذا من كلام الله ـ تعالى ـ قال لهم ذلك على سبيل اللّعن والطّرد. وقيل : من كلام نوح وأصحابه ؛ لأنّ الغالب ممّن سلم من الأمر الهائل بسبب اجتماعهم مع الظلمة فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : لمّا عرف نوح ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أنّ الماء قد نضب هبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية وسماها ثمانين بعدد من كان معه من المؤمنين ؛ فأصبحوا ذات يوم ، وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة إحداها لغة العرب ، فكان بعضهم لا يفقه كلام بعض ، فكان نوح ـ عليه الصلاة والسّلام ـ يعبر عنهم.

قوله تعالى : (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)(٤٩)

قوله تعالى : (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ) الآية.

قوله : «فقال» عطف على «نادى». قال الزمخشريّ : فإن قلت : وإذا كان النداء هو قوله «ربّ» فكيف عطف (فَقالَ رَبِّ) على «نادى» بالفاء؟ قلت : أريد بالنداء إرادة النداء ، ولو أريد النداء نفسه لجاء ـ كما جاء في قوله : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) [مريم : ٣] ـ (قالَ رَبِ) [مريم : ٤] بغير فاء.

فصل

تقدّم الكلام في أنّه هل كان ابنا له أم لا؟ فقوله : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ) لا خلف فيه (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) حكمت على قوم بالنّجاة وعلى قوم بالكفر والهلاك ؛ قال الله : (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) واعلم أنّه لمّا ثبت بالدليل ، أنه كان ابنا له ، وجب أن يكون المراد : ليس من أهل دينك. وقيل : ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك.

قوله : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) : قرأ (١) الكسائيّ «عمل» فعلا ماضيا ، و «غير» نصبا.

__________________

(١) ينظر : الحجة ٤ / ٣٤١ وإعراب القراءات السبع ١ / ٢٨٣ وحجة القراءات ٣٤١ وقرأ بها أيضا يعقوب ينظر : الإتحاف ٢ / ١٢٧ والمحرر الوجيز ٣ / ١٧٧ والبحر المحيط ٥ / ٢٢٩ والدر المصون ٤ / ١٠٤.

٥٠٠