اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

٢٩٣٢ ـ فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى

ولا تلقني إلّا وأنفك راغم (١)

وعلى القول بأنه معطوف على «ليضلّوا» يكون ما بينهما اعتراضا.

قوله : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) : الضمير لموسى وهارون.

قيل : كان موسى يدعو وهارون يؤمّن ، فنسب الدعاء إليهما ؛ لأنّ المؤمن أيضا داع ؛ لأنّ قوله : «آمين» أي : استجب.

وقيل : المراد موسى وحده ، ولكن كنّى عن الواحد بضمير الاثنين.

وقيل : لا يبعد أن يكون كلّ واحد منهما ذكر هذا الدّعاء ؛ غاية ما في الباب أن يقال : إنّما حكى هذا الدعاء عن موسى ، بقوله : (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً) إلّا أنّ هذا لا ينافي أن يكون هارون ذكر ذلك الدعاء أيضا.

وقرأ السلمي (٢) ، والضحاك : «دعواتكما» على الجمع.

وقرأ ابن السّميفع : «قد أجبت دعوتكما» (٣) بتاء المتكلم ، وهو الباري ـ تعالى ـ ، «دعوتكما» نصب على المفعول به.

وقرأ الرّبيع : «أجبت دعوتيكما» (٤) بتاء المتكلم أيضا ، ودعوتيكما تثنية ، وهي تدلّ لمن قال : إنّ هارون شارك موسى في الدّعاء.

قوله : «فاستقيما» أي : على الدّعوة والرّسالة ، وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم العذاب ، قال ابن جريج : لبث فرعون بعد هذا الدّعاء أربعين سنة (٥).

(وَلا تَتَّبِعانِّ) : قرأ العامّة بتشديد التاء والنون ، وقرأ حفص (٦) بتخفيف النّون مكسورة ، مع تشديد التّاء وتخفيفها ، وللقرّاء في ذلك كلام مضطرب بالنّسبة للنّقل عنه.

فأمّا قراءة العامّة ، ف «لا» فيها للنّهي ، ولذلك أكّد الفعل بعدها ، ويضعف أن تكون نافية ؛ لأنّ تأكيد المنفيّ ضعيف ، ولا ضرورة بنا إلى ادّعائه ، وإن كان بعضهم قد ادّعى ذلك في قوله : (لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنفال : ٢٥] لضرورة دعت إلى ذلك هناك ،

__________________

(١) البيت للأعشى ينظر : ديوانه ١٧٨ والبحر المحيط ٥ / ١٨٦ والقرطبي ٨ / ٢٣٩ واللسان (زوى) وشرح جمل الزجاجي ٢ / ٣٨٧ وزاد المسير ٤ / ٥٧ وجامع البيان ١٥ / ١٨٣ وشرح القصائد الجاهليات ٣٦٦ ومجمع البيان ٥ / ١٩٥ والكامل ٢ / ٢٦٧ والدر المصون ٤ / ٦٥.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٦٦ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٣٩ ، البحر المحيط ٥ / ١٨٦ ، الدر المصون ٤ / ٦٥.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٨٦ ، الدر المصون ٤ / ٦٥.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٣٩ ، البحر المحيط ٥ / ١٨٦ ، الدر المصون ٤ / ٦٥.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٦٠٣ ، ٦٠٤).

(٦) ينظر : السبعة ص (٣٢٩) ، الحجة ٤ / ٢٩٢ ، حجة القراءات ص (٣٣٦) ، إعراب القراءات ١ / ٢٧٢ ـ ٢٧٣ ، النشر ٢ / ٢٨٦ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١١٩.

٤٠١

وقد تقدّم تحريره في موضعه ، وعلى الصحيح تكون هذه جملة نهي معطوفة على جملة أمر.

قال الزجاج : (وَلا تَتَّبِعانِّ) : موضعه جزم ، تقديره : ولا تتّبعا ، إلّا أنّ النّون الشديدة ، دخلت على النهي مؤكدة وكسرت لسكونها ، وسكون النون التي قبلها ، فاختير لها الكسرة ؛ لأنها بعد الألف تشبه نون التثنية.

وأمّا قراءة حفص ، ف «لا» : تحتمل أن تكون للنّفي ، وأن تكون للنّهي.

فإن كانت للنفي ، كانت النون نون رفع ، والجملة حينئذ فيها أوجه :

أحدها : أنّها في موضع الحال ، أي : فاستقيما غير متّبعين ، إلّا أنّ هذا معترض بما قدّمته من أنّ المضارع المنفيّ ب «لا» كالمثبت في كونه لا تباشره واو الحال ، إلّا أن يقدّر قبله مبتدأ ، فتكون الجملة اسميّة أي : وأنتما لا تتّبعان.

والثاني : أنّه نفي في معنى النّهي ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) [البقرة : ٨٣].

الثالث : أنّه خبر محض مستأنف لا تعلّق له بما قبله ، والمعنى : أنّهما أخبرا بأنّهما لا يتّبعان سبيل الذين لا يعلمون.

وإن كانت للنّهي ، كانت النون للتوكيد ، وهي الخفيفة ، وهذا لا يراه سيبويه ، والكسائي ، أعني : وقوع النون الخفيفة بعد الألف ، سواء كانت الألف ألف تثنية ، أو ألف فصل بين نون الإناث ، ونون التوكيد ، نحو : «هل تضربنان يا نسوة» وقد أجاز يونس ، والفرّاء : وقوع الخفيفة بعد الألف وعلى قولهما تتخرّج القراءة ، وقيل : أصلها التشديد ، وإنّما خففت للثقل فيها ؛ كقولهم : «رب» في «ربّ».

وأمّا تشديد التاء وتخفيفها ، فلغتان : من اتّبع يتّبع ، وتبع يتبع ، وقد تقدّم [الأعراف : ١٧٥] هل هما بمعنى واحد ، أو مختلفان في المعنى؟ وملخصه : أنّ تبعه بشيء : خلفه ، واتّبعه كذلك ، إلّا أنه حاذاه في المشي واقتدى به ، وأتبعه : لحقه.

فصل

المعنى : لا تسلك طريق الجاهلين الذين يظنّون أنه : متى كان الدعاء مجابا ، كان المقصود حاصلا في الحال ، فربما أجاب الله تعالى الإنسان في مطلوبه ، إلّا أنّه يوصله إليه في وقته المقدّر ؛ فإنّ وعد الله لا خلف له ، والاستعجال لا يصدر إلا من الجهّال ؛ كما قال لنوح ـ عليه الصلاة والسّلام ـ (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [هود : ٤٦] ، وهذا النّهي لا يدلّ على صدور ذلك من موسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كما أن قوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] لا يدل على صدور الشرك منه.

قوله تعالى : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً

٤٠٢

حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ)(٩٢)

قوله تعالى : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) الآية.

قد تقدّم الكلام في نظير الآية [الأعراف ١٣٨] ، وقرأ الحسن (١) : «وجوزنا» بتشديد الواو.

قال الزمخشري : وجوّزنا : من أجاز المكان ، وجاوزه ، وجوّزه ، وليس من «جوّز» الذي في بيت الأعشى : [الكامل]

٢٩٣٣ ـ وإذا تجوّزها حبال قبيلة

أخذت من الأخرى إليك حبالها (٢)

لأنّه لو كان منه لكان حقّه أن يقال : وجوّزنا بني إسرائيل في البحر ؛ كما قال : [الطويل]

٢٩٣٤ ـ .........

كما جوّز السّكّيّ في الباب فيتق (٣)

يعنى أنّ فعّل بمعنى فاعل وأفعل ، وليس التضعيف للتّعدية ، إذ لو كان كذلك لتعدّى بنفسه كما في البيت المشار إليه دون الباء.

وقرأ الحسن (٤) : «فاتّبعهم» بالتّشديد ، وقد تقدّم الفرق.

قال القرطبيّ : يقال : تبع ، وأتبع بمعنى واحد إذا لحقه ، واتّبع ـ بالتّشديد ـ إذا صار خلفه ، وقال الأصمعيّ : يقال : أتبعه ـ بقطع الألف ـ إذا لحقه ، وأدركه ، واتّبعه بوصل الألف ـ إذا اتّبع أثره وأدركه ، أو لم يدركه ، وكذلك قال أبو زيد ، وقرأ قتادة (٥) : «فاتبعهم» بوصل الألف وقيل : اتبعه ـ بوصل الألف في الأمر ـ اقتدى به ، وأتبعه بقطع خيرا وشرّا. هذا قول أبي عمرو. وقيل : بمعنى واحد.

قوله : (بَغْياً وَعَدْواً) يجوز أن يكونا مفعولين من أجلهما أي : لأجل البغي والعدو ،

__________________

(١) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٢٠ ، الكشاف ٢ / ٣٦٦ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٤٠ ، البحر المحيط ٥ / ١٨٧ ، الدر المصون ٤ / ٦٦.

(٢) تقدم.

(٣) عجز بيت للأعشى وصدره :

ولا بد من جار يجيز سبيلها

ينظر : ديوانه (١٢٠) والبحر المحيط ٥ / ١٨٧ وروح المعاني ١١ / ١٨١ والكشاف ٢ / ٣٦٧ واللسان (فتق) والدر المصون ٤ / ٦٦.

(٤) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٢٠. الكشاف ٢ / ٣٦٧ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٤٠ ، البحر المحيط ٥ / ١٨٧ ، الدر المصون ٤ / ٦٦.

(٥) ينظر : السابق.

٤٠٣

وشروط النّصب متوفرة ، ويجوز أن يكونا مصدرين في موضع الحال أي : باغين متعدّين.

وقرأ الحسن (١) «وعدوا» بضمّ العين ، والدّال المشدّدة ، وقد تقدّم ذلك في سورة الأنعام [الأنعام : ١٠٨] ، وقوله : (حَتَّى إِذا) : غاية لاتباعه.

قوله : (آمَنْتُ أَنَّهُ) قرأ الأخوان بكسر (٢) «إنّ» وفيها أوجه :

أحدها : أنّها استئناف إخبار ؛ فلذلك كسرت لوقوعها ابتداء كلام.

والثاني : أنّه على إضمار القول أي : فقال إنّه ، ويكون هذا القول مفسرا لقوله : «آمنت».

والثالث : أن تكون هذه الجملة بدلا من قوله : «آمنت» ، وإبدال الجملة الاسميّة من الفعليّة جائز ، لأنّها في معناها ، وحينئذ تكون مكسورة ؛ لأنّها محكيّة ب «قال» هذا الظاهر.

والرابع : أنّ «آمنت» ضمّن معنى القول ؛ لأنّه قول. وقال الزمخشريّ : «كرّر المخذول المعنى الواحد ثلاث مرّات في ثلاث عبارات حرصا على القبول».

يعني أنه قال : «آمنت» فهذه مرّة ، وقال : (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) فهذه مرة ثانية. وقال : (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فهذه ثالثة ، والمعنى واحد.

وهذا جنوح منه إلى الاستئناف في «إنّه». وقرأ الباقون بفتحها وفيها أوجه :

أحدها : أنّها في محلّ نصب على المفعول به أي : آمنت توحيد الله ؛ لأنّه بمعنى صدّقت.

الثاني : أنّها في موضع نصب بعد إسقاط الجارّ أي : لأنّه.

الثالث : أنّها في محلّ جرّ بذلك الجارّ وقد تقدّم ما فيه من الخلاف [يونس : ٢].

فصل

لمّا أجاب الله دعاءهما ، أمر بني إسرائيل بالخروج من مصر ، وكان فرعون غافلا عن ذلك ؛ فلمّا سمع بخروجهم «أتبعهم» أي : لحقهم ، (بَغْياً وَعَدْواً) أي : ظلما واعتداء. وقيل : بغيا في القول ، وعدوا في الفعل ، وكان البحر قد انفلق لموسى وقومه فدخلوا ، وخرجوا ، وأبقى الله تعالى ذلك الطريق يبسا ، ليطمع فرعون ، وجنوده في العبور ، فلمّا دخل مع جمعه ، ودخل آخرهم، وهمّ أوّلهم بالخروج ، انطبق عليهم البحر فلمّا (أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) أي : غمره الماء ، وقرب هلاكه (قالَ آمَنْتُ).

__________________

(١) ينظر : السابق.

(٢) ينظر : السبعة ص (٣٣٠) ، الحجة للقراء السبعة ٤ / ٢٩٥ ، حجة القراءات ص (٣٦٦) ، إعراب القراءات ١ / ٢٧٣ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٢٠.

٤٠٤

فإن قيل : إنّ الإنسان إذا وقع في الغرق لا يمكنه أن يتلفّظ بهذا اللفظ ، فكيف حكى الله عنه أنّه ذكر ذلك؟.

فالجواب من وجهين :

الأول : أنّ الكلام الحقيقيّ هو كلام النّفس لا كلام اللسان ، فذكر هذا الكلام بالنفس.

الثاني : أن يكون المراد بالغرق مقدماته.

فإن قيل : إنّه آمن ثلاث مرات على ما تقدم عن الزمخشري ، فما السّبب في عدم القبول؟.

فالجواب : من وجوه :

أحدها : أنّه إنّما آمن عند نزول العذاب ، والإيمان في هذا الوقت غير مقبول ، قال تعالى : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٥].

الثاني : إنّما ذكر هذه الكلمة ليتوسّل بها إلى دفع تلك البلية الحاضرة ، ولم يكن مقصوده بالكلمة الإقرار بوحدانية الله تعالى ، فلم يكن مخلصا.

وثالثها : أنّ ذلك الإقرار كان تقليدا ، فإنه قال : (لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) فكأنه اعترف بأنّه لا يعرف الله ، وإنّما سمع من بني إسرائيل أنّ للعالم إلها ، فهو أقرّ بذلك الإله الذي سمع بني إسرائيل يقرّون بوجوده ، وهذا محض التّقليد ، وفرعون قيل إنّه كان من الدّهرية المنكرين لوجود الصّانع ، ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا يزول إلّا بالحجّة القطعيّة ، لا بالتّقليد المحض.

ورابعها : أنّ بعض بني إسرائيل لمّا جاوزوا البحر عبدوا العجل ، فلما قال فرعون : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) انصرف ذلك إلى العجل الذي آمنوا بعبادته ، فكانت هذه الكلمة في حقه سببا لزيادة كفره.

وخامسها : أنّ أكثر اليهود يقولون بالتّشبيه والتّجسيم ، ولهذا اشتغلوا بعبادة العجل لظنّهم أنّه تعالى في جسد ذلك العجل ، فلمّا قال فرعون : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) فكأنّه آمن بالله الموصوف بالجسميّة ، والحلول والنّزول ، ومن اعتقد ذلك ؛ فهو كافر ، فلذلك ما صحّ إيمانه.

وسادسها : أنّ الإيمان إنّما يتمّ بالإقرار بوحدانية الله ، والإقرار بنبوّة موسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ فلمّا أقرّ فرعون بالوحدانية ، ولم يقر بنبوّة موسى لم يصحّ إيمانه ؛ كما لو قال الكافر ألف مرة : أشهد أن لا إله إلّا الله لم يصح إيمانه حتى يقول معه : وأشهد أنّ محمدا رسول الله ، فكذا ههنا.

وسابعها : روى الزمخشري أنّ جبريل ـ عليه‌السلام ـ أتى فرعون مستفتيا : ما قول

٤٠٥

الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته ، فكفر بنعمته وجحد حقّه ، وادّعى السّيادة دونه؟ فكتب فرعون يقول : أبو العباس الوليد بن مصعب : جزاء العبد الخارج على سيده ، الكافر بنعمته أن يغرق في البحر ، ثمّ إنّ فرعون لما غرق ؛ رفع جبريل عليه‌السلام فتياه إليه.

قوله «الآن» منصوب بمحذوف أي : آمنت الآن ، أو أتؤمن الآن.

وقوله : (وَقَدْ عَصَيْتَ) جملة حالية ، تقدّم نظيرها.

واختلفوا في قائل هذا الكلام ، فقيل : هو جبريل ، وإنّما قال : (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) في مقابلة قوله (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ). وقيل : القائل هو الله تعالى ؛ لأنّه قال بعده : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) إلى أن قال : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) ، وهذا ليس إلّا كلام الله تعالى.

فإن قيل : ظاهر اللفظ يدلّ على أنّه إنّما لم تقبل التوبة للمعصية المتقدمة ، والفساد السّابق ، وهذا التعليل لا يمنع من قبول التوبة.

فالجواب من وجهين :

الأول : أنّ قبول التّوبة غير واجب عقلا ، ويدلّ عليه هذه الآية.

الثاني : أنّ التعليل ما وقع لمجرّد المعصية السّابقة ، بل بتلك مع كونه من المفسدين.

فصل

روي أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ أخذ يملأ فمه بالطّين لئلّا يتوب غضبا عليه والأقرب أنّ هذا لا يصحّ ؛ لأنّه في تلك الحال إمّا أن يقال التكليف كان ثابتا ، أو ما كان ثابتا ، فإن كان ثابتا لم يجز لجبريل أن يمنعه من التوبة ، بل يجب عليه أن يعينه على التوبة ، وعلى كلّ الطّاعات ، لقوله تعالى: (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) [المائدة : ٢] وأيضا ، فلو منعه بما ذكر لكانت التّوبة ممكنة ؛ لأنّ الأخرس قد يتوب بأن يندم بقلبه ويعزم على ترك معاودة القبيح ، فلا يبقى لما فعله جبريل فائدة ، وأيضا لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر ، والرّضا بالكفر كفر وأيضا كيف يليق بالله تعالى أن يقول لموسى وهارون ـ عليهما الصلاة والسّلام ـ (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤] ثمّ يأمر جبريل أن يمنعه من الإيمان.

فإن قيل : إنّ جبريل إنّما فعل ذلك من قبل نفسه لا بأمر الله ، فهذا يبطله قول جبريل : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم : ٦٤] وقوله تعالى في صفة الملائكة : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٧].

وإن قيل إنّ التكليف كان زائلا عن فرعون في ذلك الوقت ، فلا يبقى للفعل المنسوب لجبريل فائدة أصلا.

قوله : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) في «ببدنك» وجهان :

٤٠٦

أحدهما : أنّها باء المصاحبة بمعنى مصاحبا لبدنك ، وهي الدّرع ، فيكون «ببدنك» في موضع الحال.

قال المفسّرون : لم يصدّقوا بغرقه ، وكانت له درع تعرف فألقي بنجوة من الأرض ، وعليه درعه ليعرفوه ، والعرب تطلق البدن على الدّرع ، قال عمرو بن معديكرب : [الوافر]

٢٩٣٥ ـ أعاذل شكّتي بدني وسيفي

وكلّ مقلّص سلس القياد (١)

وقال آخر : [الوافر]

٢٩٣٦ ـ ترى الأبدان فيها مسبغات

على الأبطال واليلب الحصينا (٢)

أراد بالأبدان : الدّروع ، واليلب : الدروع اليمانية كانت تتخذ من الجلود يخرز بعضها إلى بعض ، وهو اسم جنس ، الواحد : يلبة.

وقيل : ببدنك أي : عريان لا شيء عليه ، وقيل : بدنا بلا روح.

والثاني : أن تكون سببيّة على سبيل المجاز ؛ لأنّ بدنه سبب في تنجيته ، وذلك على (٣) قراءة ابن مسعود وابن السّميفع «بندائك» من النّداء ، وهو الدّعاء : أي : بما نادى به في قومه من كفرانه في قوله : (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) [الزخرف : ٥١] (فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٣ ، ٢٤] (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨]. وقرأ يعقوب (٤) «ننجيك» مخففا من أنجاه. وقرأ أبو (٥) حنيفة : «بأبدانك» جمعا : إمّا على إرادة الأدراع ، لأنّه كان يلبس كثيرا منها خوفا على نفسه ، أو جعل كلّ جزء من بدنه بدنا كقوله : «شابت مفارقه» ؛ قال : [الكامل]

٢٩٣٧ ـ .........

شاب المفارق واكتسين قتيرا (٦)

وقرأ ابن مسعود ، وابن (٧) السّميفع ، ويزيد البربريّ ننحّيك بالحاء المهملة من وقرأ ابن مسعود ، وابن (٧) السّميفع ، ويزيد البربريّ ننحّيك بالحاء المهملة من

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه (٦٠) والبحر المحيط ٥ / ١٨٨ والكشاف ٢ / ٣٦٩ والدر المصون ٤ / ٦٧.

(٢) البيت لكعب بن مالك. ورواية الديوان :

ترانا من فضافض سابغات

كغدران الملا متسربلينا

ينظر : ديوانه (٢٧٩) والبحر المحيط ٥ / ١٨٨ والقرطبي ٨ / ٢٤٣ وفتح القدير ٢ / ٤٧٠ والدر المصون ٤ / ٦٧.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٤٢ ، البحر المحيط ٥ / ١٨٩ ، الدر المصون ٤ / ٦٧.

(٤) ينظر : السابق.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٦٩ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٤٢ ، البحر المحيط ٥ / ١٨٩ ، الدر المصون ٤ / ٦٧.

(٦) عجز بيت لجرير وصدره :

قال العواذل ما لجهلك بعدها

ينظر : ديوانه ٢٨٩ والكتاب ٣ / ٤٨٣ والدر المصون ٤ / ٦٨.

(٧) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٦٩ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٤٢ ، البحر المحيط ٥ / ١٨٩ ، الدر المصون ٤ / ٦٧.

٤٠٧

التّنحية أي : نلقيك فيما يلي البحر ، قال المفسرون : رماه إلى ساحل البحر كالثّور. وهل ننجّيك من النجاة بمعنى نبعدك عمّا وقع فيه قومك من قعر البحر ، وهو تهكّم بهم ، أو من ألقاه على نجوة أي : ربوة مرتفعة ، أو من النّجاة ، وهو التّرك أو من النّجاء ، وهو العلامة ، وكلّ هذه معان لائقة بالقصّة ، والظّاهر أنّ قوله : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) خبر محض. وزعم بعضهم أنّه على نيّة همزة الاستفهام ، وفيه بعد لحذفها من غير دليل ، ولأنّ التعليل بقوله «لتكون» لا يناسب الاستفهام.

و «لتكون» متعلق ب «ننجّيك» و «آية» أي : علامة وقيل : عبرة وعظة ، و (لِمَنْ خَلْفَكَ) في محلّ نصب على الحال من «آية» لأنّه في الأصل صفة لها.

وقرأ بعضهم «لمن خلقك» آية كسائر الآيات. وقرىء (١) «لمن خلفك» بفتح اللّام جعله فعلا ماضيا ، أي : لمن خلفك من الجبابرة ليتّعظوا بذلك. وقرىء (٢) «لمن خلقك» بالقاف فعلا ماضيا ، وهو الله تعالى أي : ليجعلك الله آية له في عباده.

فصل

في كون ه «لمن خلفه آية» وجوه :

أحدها : أنّ الذين اعتقدوا إلاهيته لمّا لم يشاهدوا غرقه كذّبوا بذلك ، وزعموا أنّ مثله لا يموت ، فأخرجه الله تعالى بصورته حتى أبصروه وزالت الشّبهة عن قلوبهم.

الثاني : أنّه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والمهانة بعد ما سمعوا منه قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) ليكون ذلك زجرا للخلق عن مثل طريقته.

الثالث : أنه تعالى لمّا أغرقه مع جميع قومه ، ثمّ إنّه تعالى ما أخرج أحدا منهم من قعر البحر ، بل خصّه بالإخراج كان تخصيصه بهذه الحالة عجيبة دالة على قدرة الله تعالى ، وعلى صدق موسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ في دعوة النبوّة.

الرابع : تقدم في قراءة من قرأ لمن خالقك بالقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته.

ثم قال تعالى (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) والظّاهر أنّ هذا الخطاب لأمة محمد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ زجرا لهم عن الإعراض عن الدّلائل ، وباعثا لهم على التأمّل فيها والاعتبار بها ، كما قال تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [يوسف : ١١١].

قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٦٩ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٤٢ ، البحر المحيط ٥ / ١٨٩ ، الدر المصون ٤ / ٦٨.

(٢) ينظر : السابق.

٤٠٨

مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧) فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ)(١٠٠)

قال تعالى : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) الآية.

لمّا ذكر خاتمة فرعون ذكر خاتمة بني إسرائيل ، فقال : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا) أي : أسكنا بني إسرائيل (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي : مكانا محمودا.

ويجوز أن يكون (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) منصوبا على المصدر ، أي : بوّأناهم مبوّأ صدق ، وأن يكون مكانا أي : مكان تبوّء صدق.

ويجوز أن ينتصب «مبوّأ» على أنّه مفعول ثان كقوله تعالى : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) [العنكبوت : ٥٨] أي : لننزلنّهم. ووصف المبوّأ بكونه صدقا ؛ لأنّ عادة العرب أنها إذا مدحت شيئا أضافته إلى الصّدق ، تقول : رجل صدق ، وقدم صدق ، قال تعالى : (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) [الإسراء : ٨٠].

والمراد بالمبوّأ الصدق : قيل : «مصر» ، وقيل : الأردن وفلسطين وهي الأرض المقدسة (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) الحلال (فَمَا اخْتَلَفُوا) يعنى اليهود الذين كانوا في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تصديقه وأنه نبيّ حقّ (حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) يعنى القرآن ، والبيان بأنه رسول الله صدق ودينه حق ، وسمى القرآن علما ؛ لأنه سبب العلم ، وتسمية المسبّب باسم السبب مجاز مشهور.

قال ابن عباس : هم قريظة والنّضير وبنو قينقاع أنزلناهم منزل صدق : ما بين المدينة ، والشام ورزقناهم من الطيبات ، وهو ما في تلك البلاد من الرطب ، والتمر الذي لا يوجد مثله في البلاد (١) وقيل : المراد بني إسرائيل الذين نجوا من فرعون أورثهم الله جميع ما كان تحت أيدي قوم فرعون من الناطق ، والصامت ، والحرث ، والنسل ، كما قال : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) [الأعراف : ١٣٧].

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٧ / ١٢٧).

٤٠٩

فصل

في كون القرآن سببا لحدوث الاختلاف وجهان :

الأول : أنّ اليهود كانوا يخبرون بمبعث محمد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ويفتخرون به على سائر النّاس ، فلمّا بعثه الله تعالى كذّبوه حسدا ، وبغيا وإيثارا لبقاء الرّياسة ، وآمن به طائفة منهم ، فبهذا الطريق كان سببا لحدوث الاختلاف فيهم.

الثاني : أنّ هذه الطائفة من بني إسرائيل كانوا قبل نزول القرآن كفارا محضا بالكلّيّة ، وبقوا على هذه الحالة حتّى جاءهم القرآن ، فعند ذلك اختلفوا فآمن قوم وبقي قوم كفارا. ثم قال : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي : أنّ هذا الاختلاف لا يمكن إزالته في دار الدنيا ، وإنّما يقضى بينهم في الآخرة ، فيتميز المحق من المبطل.

قوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) الآية.

قال الواحديّ «الشّك في اللغة ، ضمّ بعض الشّيء إلى بعض ، يقال : شككت الصّيد إذا رميته فنظمت يده إلى أو رجله إلى رجله ، والشّكائك من الهوادج ما شكّ بعضها ببعض والشّكاك : البيوت المصطفّة ، والشّكائك : الأدعياء ؛ لأنّهم يشكون أنفسهم إلى قوم ليسوا منهم ، أي : يضمّون ، وشكّ الرّجل في السّلاح ، إذا دخل فيه وضمّه إلى نفسه. فإذا قالوا : شكّ فلان في الأمور أرادوا أنّه وقف نفسه بين شيئين ، فيجوز هذا ويجوز هذا فهو يضم إلى ما يتوهمه شيئا آخر خلافه».

ولمّا ذكر اختلافهم عند ما جاءهم العلم ذكر في هذه الآية ما يقوّي قلبه في صحّة القرآن والنبوة.

وفي «إن» هذه وجهان :

أظهرهما : أنّها شرطية ، واستشكلوا على ذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن في شكّ قط قال الزمخشريّ : «فإن قلت : كيف قال لرسوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) مع قوله للكفرة : (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) [هود : ١١٠]؟ قلت : فرق عظيم بين إثباته والتّمثيل». وقال أبو حيان : فإذا كانت شرطية فقالوا : إنّها تدخل على الممكن وجوده أو المحقّق وجوده ، المبهم زمن وقوعه ، كقوله تعالى : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) [الأنبياء : ٣٤] قال : «والذي أقوله إنّ «إن» الشرطية تقتضي تعليق شيء على شيء ، ولا تستلزم تحقّق وقوعه ولا إمكانه ، بل قد يكون ذلك في المستحيل عقلا كقوله تعالى (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) [الزخرف : ٨١] ، ومستحيل أن يكون له ولد فكذلك مستحيل أن يكون في شك ، وفي المستحيل عادة كقوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٣٥] لكنّ وقوعها في تعليق المستحيل قليل».

ثم قال : «ولمّا خفي هذا الوجه على أكثر النّاس ؛ اختلفوا في تخريج هذه الآية ، فقال ابن عطيّة : الصّواب أنّها مخاطبة له ، والمراد من سواه من أمته ممن يمكن أن يشكّ

٤١٠

أو يعارض ؛ كقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) [الأحزاب : ١] وقوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] ويدلّ على ذلك قوله في آخر السورة: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) [يونس : ١٠٤] وأيضا لو كان شاكّا في نبوة نفسه ؛ لكان شك غيره في نبوته أولى ، وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية ، وأيضا فبتقدير أن يكون شاكّا في نبوّة نفسه ، فكيف يزول هذا الشك بإخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم كفار ، وإن كان قد حصل فيهم مؤمن إلّا أن قوله ليس بحجة ، لا سيّما وقد تقرّر أنهم حرّفوا التوراة ، والإنجيل ؛ فثبت أنّ هذا الخطاب وإن كان في الظّاهر مع الرسول إلّا أنّ المراد هو الأمة ، وعلى هذا فإنّ الناس في زمانه كانوا فرقا ثلاثة :

المصدقون ، والمكذبون ، والمتوقفون في أمره الشّاكون فيه ، فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال : أيّها الإنسان : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحّة نبوّته».

ولمّا ذكر الله تعالى لهم ما يزيل الشّك عنهم ، حذّرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني ، وهم المكذّبون ، فقال : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) [يونس : ٩٥] الآية.

وقيل : كنى بالشّك عن الضّيق. وقيل : كنى به عن العجب ، ووجه المجاز فيه أنّ كلّا منهما فيه تردّد ، وقال الكسائيّ : إن كنت في شكّ أنّ هذه عادتهم مع الأنبياء ؛ فسلهم كيف صبر موسى ـ عليه‌السلام ـ؟.

وقيل : إنه تعالى علم أنّ الرسول لم يشك في ذلك ، إلّا أنّ المقصود منه أنّه متى سمع هذا الكلام فإنّه يصرخ ويقول «يا ربّ لا أشك ، ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب ، بل يكفيني ما أنزلته عليّ من الدلائل الظاهرة» ونظيره قوله تعالى للملائكة : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) [سبأ : ٤٠] والمقصود أن يصرّحوا بالجواب الحق ويقولوا : (سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) [سبأ : ٤١].

وكقوله لعيسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦] والمقصود منه أن يصرح عيسى بالبراءة عن ذلك. وقيل : التقدير إنّك لست بشاك البتة. ولو كنت شاكا لكان لك طرق كثيرة في إزالة الشّك كقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] أي : أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعا ؛ لزم فيه المحال الفلاني ، فكذا ههنا ، ولو فرضنا وقوع الشّك فارجع إلى التّوراة ، والإنجيل لتعرف بهما أنّ هذا الشك زائل.

والوجه الثاني من وجهي إن أنّها نافية. قال الزمخشري : «أي : فما كنت في شكّ فاسأل ، يعنى لا نأمرك بالسّؤال لكونك شاكا ، ولكن لتزداد يقينا كما ازداد إبراهيم ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بمعاينة إحياء الموتى» وهذا القول سبقه إليه الحسن البصريّ والحسين بن الفضل ، وكأنّه فرار من الإشكال المتقدّم في جعلها شرطية ، وقد تقدّم جوابه من وجوه.

٤١١

قال القرطبي (١) : قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزّاهد : سمعت الإمامين : ثعلبا والمبرد يقولان : معنى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) أي : قل يا محمّد للكافر : فإن كنت في شكّ (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ).

وقال الفراء : أعلم الله أنّ رسوله غير شاكّ ، لكنّه ذكره على عادة العرب ، يقول الواحد لعبده : إن كنت عبدي فأطعني ، ويقول لولده افعل كذا إن كنت ولدي ، ولا يكون ذلك شكّا.

وقال الفقيه : وقال بعضهم : هذا الخطاب لمن كان لا يقطع بتكذيب محمد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ولا بتصديقه بل كان في شكّ.

وقيل : المراد بالخطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعنى : لو كنت ممّن يلحقك شكّ فيما أخبرناك به ، فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشّكّ.

والمراد بالشّك هنا : ضيق الصدر ، أي : إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر واسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك ، يخبروك صبر الأنبياء من قبلك على أذى قومهم وكيف كان عاقبة أمرهم. والشّكّ في اللغة : أصله الضّيق ، يقال : شكّ الثّوب ، أي : ضمّه بخلال حتى يصير كالوعاء ، فالشكّ يقبض الصدر ، ويضمه حتّى يضيق.

فصل

قال المحقّقون : المراد بالذين يقرءون الكتاب : المؤمنون من أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام ، وعبد الله بن صوريا ، وتميم الداري ، وكعب الأحبار ، لأنّهم هم الذين يوثق بأخبارهم.

وقال بعضهم : المراد الكل سواء كانوا من المسلمين أم من الكفّار ؛ لأنّهم إذا بلغوا عدد التواتر ، وقرؤوا آية من التّوراة ، والإنجيل ، وتلك الآية دالة على البشارة بمقدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد حصل الغرض.

وقرأ يحيى (٢) ، وإبراهيم : الكتب بالجمع ، وهي مبنية أنّ المراد بالكتاب الجنس لا كتاب واحد. فإن قيل : إن كتبهم قد دخلها التّحريف والتّغيير ، فكيف يمكن التعويل عليها؟.

فالجواب : أنهم إنما حرّفوها لإخفاء الآيات الدّالة على نبوّة محمد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، فإن بقيت فيها آيات دالة على نبوته ؛ كان ذلك من أقوى الدّلائل على صحّة نبوّة محمد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لأنّها لمّا بقيت مع توفر دواعيهم على إزالتها دلّ ذلك على أنّها كانت في غاية الظهور.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٨ / ٢٤٤.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٧١ ، البحر المحيط ٥ / ١٩١ ، الدر المصون ٤ / ٦٩.

٤١٢

فصل

قيل : السؤال كان عن القرآن ، ومعرفة نبوّة الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ. وقيل : السؤال راجع إلى قوله (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) والأول أولى ؛ لأنّه الأهمّ. ولمّا بين هذا الطريق قال : (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي : ثبت عنده بالآيات والبراهين القاطعة أنّ ما أتاك هو الحق : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) أي : لا مدخل للمرية فيه (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أي : اثبت ، ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية ، وانتفاء التكذيب بآيات الله. وروي أنّه عليه الصلاة والسّلام قال عند نزوله : «لا أشكّ ولا أسأل بل أشهد أنّه الحقّ» (١).

ثم لمّا فصّل تعالى هذا التفصيل ، بيّن أنّ له عبادا ، قضى عليهم بالشّقاء ، فلا تتغيّر ، وعبادا قضى لهم بالكرامة ، فلا تتغير ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ).

قرأ نافع (٢) وابن عامر كلمات على الجمع ، والباقون : بالإفراد. فكلمات بحسب الكثرة النوعية أو الصنفية وكلمة بحسب الجنسية.

والمراد بهذه الكلمة : حكم الله بذلك ، وإخباره عنه ، وخلقه في العبد مجموع القدرة ، والدّاعية الموجبة لحصول ذلك الأثر.

واحتجّوا بهذه الآية على صحّة القول بالقضاء والقدر. ثم قال (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي : أنهم لا يؤمنون ألبتّة ، ولو جاءتهم الدّلائل التي لا حدّ لها ولا حصر ؛ لأنّ الدّليل لا يهدي إلّا بإعانة الله ، فإذا لم تحصيل الإعانة ضاعت تلك الدّلائل.

القصة الثالثة

قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ) الآية.

لمّا بيّن بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) أتبعه بهذه الآية ؛ لأنّها دالة على أنّ قوم يونس آمنوا بعد كفرهم ، وانتفعوا بذلك الإيمان ، فدلّ ذلك على أنّ الكفّار فريقان :

فريق ختم له بالإيمان.

وفريق ختم له بالكفر ، وكلّ ما قضى الله به فهو واقع.

قوله : «فلو لا» لو لا هنا تحضيضية ، وفيها معنى التّوبيخ ؛ كقول الفرزدق : [الطويل]

٢٩٣٨ ـ تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم

بني ضوطرى لو لا الكميّ المقنّعا (٣)

__________________

(١) أخرجه عبد الرزاق (١٠٢١١) والطبري في «تفسيره» (٦ / ٦١٠) عن قتادة مرسلا.

(٢) تقدمت.

(٣) تقدم.

٤١٣

وفي مصحف أبيّ ، وعبد الله (١) ـ وقرأ كذلك ـ فهلّا ، وهي نصّ في التحضيض. وزعم عليّ بن عيسى ، والنّحّاس أنّ لو لا تأتي بمعنى ما النّافية ، وحملا على ذلك هذه الآية أي : ما كانت قرية نقله ابن قاسم ، وهو منقول أيضا عن الهرويّ ، وكانت هنا تامة و «آمنت» صفة ل «قرية» ، وفنفعها نسق على الصّفة.

قوله : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) فيه وجهان :

أحدهما : أنّه استثناء منقطع ، وإليه ذهب سيبويه ، والكسائي ، والأخفش ، والفراء ، ولذلك أدخله سيبويه في باب «ما لا يكون فيه إلّا النصب لانقطاعه» وإنما كان منقطعا ؛ لأنّ ما بعد «إلّا» لا يندرج تحت لفظ «قرية».

والثاني : أنّه متصل. قال الزمخشري : «استثناء من القرى ، لأنّ المراد أهاليها وهو استثناء منقطع بمعنى : ولكن قوم يونس ، ويجوز أن يكون متّصلا ، والجملة في معنى النّفي كأنّه قيل : ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلّا قوم يونس».

وقال ابن عطيّة (٢) : هو بحسب اللفظ استثناء منقطع ، وكذلك رسمه النّحويون ، وهو بحسب المعنى متصل لأنّ تقديره : ما آمن أهل قرية إلّا قوم يونس.

قال شهاب الدين (٣) : «وتقدير هذا المضاف هو الذي صحّح كونه استثناء متّصلا» ، وكذلك قال أبو البقاء ومكي وابن عطية وغيرهم. وأمّا الزّمخشري فإنّ ظاهر عبارته أنّ المصحّح لكونه متصلا كون الكلام في معنى النّفي ، وليس كذلك بل المسوّغ كون القرى يراد بها أهاليها من باب إطلاق المحلّ على الحالّ ، وهو أحد الأوجه المذكورة في قوله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢]. وقرأت فرقة (٤) : «إلا قوم» بالرّفع. قال الزمخشريّ : وقرىء بالرفع على البدل ، روي ذلك عن الجرمي ، والكسائي.

وقال المهدويّ : «والرّفع على البدل من قرية». فظاهر هاتين العبارتين أنّها قراءة منقولة ، وظاهر قول مكّي ، وأبي البقاء أنّها ليست قراءة ، وإنّما ذلك من الجائز ، وجعلا الرّفع على وجه آخر غير البدل ، وهو كون «إلّا» بمعنى «غير» في وقوعها صفة.

قال مكي «ويجوز الرّفع على أن تجعل إلا بمعنى «غير» صفة للأهل المحذوفين في المعنى ، ثم يعرب ما بعد إلّا بإعراب «غير» لو ظهرت في موضع «إلّا». وقال أبو البقاء ـ وأظنه أخذه منه ـ : ولو كان قد قرىء بالرّفع لكانت إلّا فيه بمنزلة غير فيكون صفة ، وقد تقدم أن في نون يونس ثلاث لغات وقرىء بها.

فصل

قال البغويّ : المعنى فلم تكن قرية ؛ لأن في الاستفهام ضربا من الجحد ؛ أي : أهل

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٧١ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٤٣ ، البحر المحيط ٥ / ١٩٢ ، الدر المصون ٤ / ٦٩.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٤٤.

(٣) ينظر : الدر المصون ٤ / ٧٠.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٤٤ ، البحر المحيط ٥ / ١٩٢ ، الدر المصون ٤ / ٦٩.

٤١٤

قرية آمنت عند معاينة العذاب ، (فَنَفَعَها إِيمانُها) في حال اليأس (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) ، فإنّهم نفعهم إيمانهم في ذلك الوقت ، و «قوم» نصب على الاستثناء المنقطع ، أي : ولكن قوم يونس (لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) ، وهي وقت انقضاء آجالهم ، واختلفوا في أنّهم هل رأوا العذاب عيانا فقال بعضهم : رأوا دليل العذاب. والأكثرون على أنّهم رأوا العذاب عيانا لقوله : (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ ،) والكشف يكون بعد الوقوع ، أو إذا قرب قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) يا محمّد (لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً).

واعلم أنّ هذه السّورة من أوّلها إلى هنا في بيان شبهات الكفار في إنكار النبوة ، والجواب عنها ، وكانت إحدى شبهاتهم ؛ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يهدّدهم بنزول العذاب على الكفّار ، ويعد أتباعه أن الله ينصرهم ، ويعلي شأنهم ، ويقوي جانبهم ، ثمّ إنّ الكفّار ما رأوا ذلك ؛ فجعلوا ذلك شبهة في الطّعن في نبوته ، وكانوا يبالغون في استعجال العذاب على سبيل السخرية ، ثم إن الله تعالى بيّن أنّ تأخير الموعود به لا يقدح في صحّة الوعد ، ومن ثم ضرب لهذا أمثلة ، وهي قصّة نوح ـ عليه‌السلام ـ وموسى ـ عليه‌السلام ـ إلى هاهنا. ثم في هذه الآية بيّن أنّ جدّ الرسول في دخولهم في الإيمان لا ينفع ، ومبالغته في تقرير الدلائل في الجواب عن الشبهات لا يفيد ؛ لأن الإيمان لا يحصل إلا بخلق الله ، ومشيئته وإرشاده ، وهدايته ، إذا لم يحصل هذا المعنى لم يحصل الإيمان.

فصل

استدلّوا بهذه الآية على أنّ جميع الكائنات لا تحصل إلا بمشيئة الله تعالى ؛ لأنّ كلمة «لو» تفيد انتفاء الشّيء لانتفاء غيره ، فقوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) يقتضي أنّه ما حصلت تلك المشيئة ، وما حصل إيمان أهل الأرض بالكليّة ، فدلّ هذا على أنّه تعالى ما أراد الكل ، وأجاب الجبائيّ ، والقاضي وغيرهما أنّ المراد مشيئة الإلجاء ، أي : لو شاء الله أن يلجئهم إلى الإيمان لقدر عليه ، ولكنّه ما فعل ذلك ؛ لأنّ الإيمان الصّادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه ، ولا يفيده فائدة ، ثم قال الجبائيّ : ومعنى إلجاء الله تعالى إيّاهم إلى ذلك ، أن يعرّفهم أنّهم لو حاولوا تركه حال الله بينهم وبين ذلك ، وعند هذا لا بدّ وأن يفعلوا ما ألجئوا إليه.

والجواب من وجوه :

أحدها : أنّ الكافر لو كان قادرا على الكفر ، ولم يقدر على الإيمان ، فحينئذ تكون القدرة على الكفر مستلزمة للكفر ، فإذا كان خالق تلك القدرة هو الله تعالى لزم أن يقال : إنّه تعالى خلق فيه قدرة مستلزمة للكفر ؛ فوجب أن يقال : أراد منه الكفر ، وإن كانت القدرة صالحة للضّدين ، فرجحان أحد الطّرفين على الآخر ـ إن لم يتوقف على المرجح ـ فقد حصل الرجحان لا لمرجح ، وهو باطل ، وإن توقف على مرجح ، فذلك المرجح إمّا

٤١٥

أن يكون من العبد ، أو من الله ، فإن كان من العبد عاد التّقسيم ولزم التسلسل ، وهو محال ، وإن كان من الله ، كان مجموع تلك القدرة مع تلك الدّاعية موجبا لذلك الكفر ، فإذا كان خالق القدرة والدّاعية هو الله تعالى عاد الإلزام.

ثانيها : أن قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) لا يجوز حمله على مشيئة الإلجاء ؛ لأنّ النبي ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ما كان يطلب منهم إلّا إيمانا ينتفعون به في الآخرة ، فبيّن تعالى ؛ أنّه لا قدرة للرّسول على تحصيل هذا الإيمان ، ثم قال : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) فوجب أن يكون المراد منه هذا الإيمان النّافع حتى ينتظم الكلام ، وحمل اللفظ على مشيئة القهر والإلجاء لا يليق بهذا الموضع.

وثالثها : أنّ الإلجاء إمّا أن يكون بأن يظهر له آيات هائلة يعظم خوفه عند رؤيتها ، فيأتي بالإيمان عندها ، وإمّا أن يكون بخلق الإيمان فيهم ، والأول باطل ؛ لأنه تعالى قال :(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ، ٩٧] وقال : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأنعام : ١١١] فبيّن أنّ إنزال الإيمان لا يفيد ، وإن كان المراد هو الثاني لم يكن هذا الإلجاء إلى الإيمان ، بل كان عبارة عن خلق الإيمان فيهم ، فيصير المعنى : ولو شاء ربك حصول الإيمان لهم لخلق الإيمان فيهم ، ثم يقال : لكنه ما خلق الإيمان فيهم ، فدلّ على أنّه ما أراد حصول الإيمان لهم ، وهو المطلوب. ثم قال : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي أنه : لا قدرة لك على التّصرف في أحد.

قوله : «أفأنت» يجوز في «أنت» وجهان ، أحدهما : أن يرتفع بفعل مقدّر مفسّر بالظّاهر بعده ، وهو الأرجح ؛ لأنّ الاسم قد ولي أداة هي بالفعل أولى.

والثاني : أنّه مبتدأ والجملة بعده خبره ، وقد تقدّم ما في ذلك من كون الهمزة مقدمة على العاطف أو ثمّ جملة محذوفة كما هو رأي الزمخشري. وفائدة إيلاء الاسم للاستفهام إعلام بأنّ الإكراه ممكن مقدور عليه ، وإنّما الشّأن في المكره من هو؟ وما هو إلا هو وحده لا مشاركة فيه لغيره. و «حتّى» غاية للإكراه.

قوله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ) كقوله : (أَنْ تَمُوتَ) [آل عمران : ١٤٥] وقد تقدم في آل عمران [١٤٥]. والمعنى : ما ينبغي لنفس. وقيل : ما كانت لتؤمن إلّا بإذن الله. قال ابن عبّاس : بأمر الله (١). وقال عطاء : بمشيئة الله (٢). وقيل : بعلم الله. (وَيَجْعَلُ) قرأ أبو بكر (٣) عن عاصم بنون العظمة. والباقون : بياء الغيبة وهو الله تعالى. وقرأ

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧٠).

(٢) انظر المصدر السابق.

(٣) ينظر : السبعة ص (٣٣٠) ، الحجة ٤ / ٣٠٦ ، إعراب القراءات ١ / ٢٧٦ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٢٠.

٤١٦

الأعمش «ويجعل (١) الرجز» بالزاي دون السين ، وقد تقدّم هل هما بمعنى ، أو بينهما فرق؟ الأعراف : ١٣٤] ثم قال : (عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) أي : من الله أمره ونهيه.

فصل

احتجّوا بقوله : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) على أنّ خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى ، وتقريره : أنّ الرّجس قد يراد به : العمل القبيح ، قال تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب : ٣٣] والمراد من الرّجس هنا : العمل القبيح سواء كان كفرا أو معصية ، وبالتّطهير : نقل العبد من رجس الكفر ، والمعصية إلى طهارة الإيمان ، والطّاعة ، فلما ذكر الله تعالى فيما قبل هذه الآية أنّ الإيمان إنّما يحصل بمشيئة الله وتخليقه ، ذكر بعد أنّ الرّجس لا يحصل إلّا بتخليقه. والرّجس الذي يقابل الإيمان ليس إلّا الكفر.

وأجاب أبو علي الفارسي النحوي عنه فقال : الرّجس ، يحتمل وجهين آخرين :

أحدهما : أن يكون المراد منه العذاب ، فيكون المعنى : يلحق العذاب بالذين لا يعقلون ، كقوله : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) [الفتح : ٦]. الثاني : أنّه تعالى حكم عليهم بأنّهم نجس ، كما قال : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة : ٢٨] أي : أنّ الطّهارة الثابتة للمسلمين لم تحصل لهم.

وأجابوا : أنّ حمل الرجس على العذاب باطل ؛ لأنّ الرّجس عبارة عن الفاسد المستقذر المستكره فحمل هذا اللفظ على كفرهم وجهلهم أولى من حمله على عذاب الله مع كونه حقّا صدقا صوابا. وأمّا حمل الرّجس على حكم الله برجاستهم ، فهو في غاية البعد ؛ لأنّ حكم الله تعالى بذلك صفته ، فكيف يجوز أن يقال : إنّ صفة الله رجس ، فثبت أنّ دلالة الآية على الكفر ظاهرة.

قوله تعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ)(١٠٣)

قوله تعالى (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الاية.

لمّا بيّن في الآيات السّالفة أنّ الإيمان لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته ، أمر بالنّظر والاستدلال في الدّلائل فقال : (قُلِ انْظُرُوا).

قرأ عاصم (٢) وحمزة «قل انظروا» بكسر اللام لالتقاء الساكنين ، والأصل فيه

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٧٣ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٤٥ ، البحر المحيط ٥ / ١٩٣ ، الدر المصون ٤ / ٧٠.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٤٥ ، البحر المحيط ٥ / ١٩٤.

٤١٧

الكسر ، والباقون بضمها نقلوا حركة الهمزة إلى اللّام.

قوله : «ماذا» يجوز أن يكون «ماذا» كله استفهاما مبتدأ ، و (فِي السَّماواتِ) خبره أي : أيّ شيء في السّموات؟ ويجوز أن تكون «ما» مبتدأ ، و «ذا» بمعنى الذي ، و (فِي السَّماواتِ) صلته وهو خبر المبتدأ ، وعلى التقديرين فالمبتدأ وخبره في محلّ نصب بإسقاط الخافض لأنّ الفعل قبله معلق بالاستفهام ، ويجوز على ضعف أن يكون «ماذا» كله موصولا بمعنى «الّذي» وهو في محل نصب ب «انظروا». ووجه ضعفه أنّه لا يخلو : إمّا أن يكون النظر بمعنى البصر فيعدّى ب «إلى» ، وإمّا أن يكون قلبيّا فيعدّى ب «في» ، وقد تقدّم الكلام في «ماذا».

فصل

المعنى : قل للمشركين الذين يسألونك عن الإيمان : (انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) واعلم أنّه لا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلّا بالنّظر في الدّلائل. قال عليه الصلاة والسّلام : «تفكّروا في الخلق ولا تتفكّروا في الخالق» (١). والدّلائل إمّا أن تكون من عالم السموات ، أو من عالم الأرض ، أمّا الدلائل السماوية ، فهي حركات الأفلاك والكواكب ومقاديرها ، وما يختص به كل واحد منها ، وأمّا الدلائل الأرضية ، فهي النظر في أحوال العناصر العلوية ، وفي أحوال المعادن والنبات ، وأحوال الإنسان ، وينقسم كل واحد من هذه الأجناس إلى أنواع لا نهاية لها. ولو أنّ الإنسان أخذ يتفكّر في كيفية حكمة الله تعالى في تخليق جناح بعوضة لانقطع عقله قبل أن يصل إلى أوّل مرتبة من مراتب تلك الفوائد.

ثم لمّا أمر بهذا التفكّر بيّن بعده أنّ هذا التّفكر والتّدبر في هذه الآيات لا ينفع في حقّ من حكم الله عليه في الأزل بأنّه لا يؤمن فقال : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ).

قوله : (وَما تُغْنِي) يجوز في «ما» أن تكون استفهامية ، وهي واقعة موقع المصدر أي : أيّ غناء تغني الايات؟ ويجوز أن تكون نافية ، وهو الظّاهر.

وقال ابن عطية (٢) : ويحتمل أن تكون «ما» في قوله : (وَما تُغْنِي) مفعولة بقوله : «انظروا» معطوفة على قوله : «ماذا» أي : تأمّلوا قدر غناء الآيات والنّذر عن الكفّار. قال أبو حيان : وفيه ضعف ، وفي قوله : معطوفة على «ماذا» تجوّز ، يعنى أنّ الجملة الاستفهامية التي هي (ما ذا فِي السَّماواتِ) في موضع المفعول ؛ لأنّ «ماذا» وحده منصوب ب «انظروا» فتكون «ماذا» موصولة ، و «انظروا» بصرية لما تقدّم من أنّه لو كانت بصرية

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١١٠) عن عبد الله بن سلام وعزاه إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ في العظمة» والأصبهاني في «الترغيب» وعن عمرو بن مرة ، وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في «التفكر» والأصبهاني في «الترغيب».

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٧١.

٤١٨

لتعدّت ب «إلى». و «النّذر» يجوز أن يكون جمع «نذير» ، المراد به المصدر فيكون التقدير : وما تغني الآيات والإنذارات ، وأن يكون جمع «نذير» مرادا به اسم الفاعل بمعنى منذر فيكون التقدير والمنذرون وهم الرّسل. وقرىء (١)(وَما يُغْنِي) بالياء.

قوله : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ) يعني : مشركي مكّة إلّا مثل أيّام الذين خلوا مضوا (مِنْ قَبْلِهِمْ) من مكذّبي الأمم. قال قتادة : «يعني وقائع الله في قوم نوح ، وعاد ، وثمود» (٢) والعرب تسمّي العذاب والنّعم أياما ، كقوله : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) [إبراهيم : ٥] وكلّ ما مضى عليك من خير وشرّ فهو أيّام ثم إنّه تعالى أمره بأن يقول لهم (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ).

قوله : (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا) قال الزمخشريّ : هو معطوف على كلام محذوف يدلّ عليه قوله : (إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) [يونس : ١٠٢] كأنّه قيل : نهلك الأمم ثم ننجّي رسلنا ، معطوف على حكاية الأحوال الماضية.

قرأ الكسائي (٣) في رواية نصر «ننجي» خفيفة ، والباقون : مشددة ، وهما لغتان ، وكذلك في قوله (نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) والمعنى : ننجي رسلنا ، والذين آمنوا معهم عند نزول العذاب. معناه : نجّينا ، مستقبل بمعنى الماضي ، ونجّينا وأنجينا بمعنى واحد «كذلك» كما نجّيناهم «حقّا» واجبا (عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ).

قوله : «حقّا» فيه أوجه :

أحدها : أن يكون منصوبا بفعل مقدّر أي : حقّ ذلك حقّا.

والثاني : أن يكون بدلا من المحذوف النّائب عنه الكاف تقديره : إنجاء مثل ذلك حقّا.

والثالث : أن يكون «كذلك» و «حقّا» منصوبين ب «ننج» الذي بعدهما.

والرابع : أن يكون «كذلك» منصوبا ب «ننجي» الأولى ، وحقّا ب «ننج» الثّانية.

وقال الزمخشري (٤) : مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم ، ونهلك المشركين ، وحقّا علينا اعتراض ، يعني حقّ ذلك علينا حقّا.

وقرأ الكسائيّ (٥) وحفص «ننجي المؤمنين» مخففا من أنجى يقال : أنجى ونجّى

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٧٣ ، البحر المحيط ٥ / ١٩٤.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٦١٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٧٤) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) ينظر : السبعة ص (٣٣٠) ، الحجة للقراء السبعة ٤ / ٣٠٥ ، حجة القراءات ص (٣٣٧) ، إعراب القراءات ١ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٢٠.

(٤) ينظر : تفسير الكشاف ٢ / ٣٧٣.

(٥) ينظر : السبعة ص (٣٣٠) ، الحجة للقراء السبعة ٤ / ٣٠٥ ، حجة القراءات ص (٣٣٧) ، إعراب القراءات ١ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٢٠.

٤١٩

كأنزل ونزّل ، وجمهور القرّاء لم ينقلوا الخلاف إلّا في هذا دون قوله : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) [يونس : ٩٢] ودون قوله (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا) [يونس : ١٠٣]. وقد نقل أبو علي الأزهري الخلاف فيهما أيضا ، ورسم في المصاحف بجيم دون ياء.

فصل

قال القاضي (١) : قوله (حَقًّا عَلَيْنا) المراد به الوجوب ؛ لأنّ تخليص الرّسول ـ صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه ـ والمؤمنين من العذاب إلى الثّواب واجب ، ولو لاه ما حسن من الله تعالى أن يلزمهم الأفعال الشّاقّة ، وهذا يجري مجرى قضاء الدّين.

والجواب ، بأن نقول : إنّه حقّ بحسب الوعد والحكم ، ولا نقول إنّه حق بحسب الاستحقاق لما ثبت أنّ العبد لا يستحقّ على خالقه شيئا.

قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ)(١٠٨)

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)(١٠٩)

قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) الآية.

لمّا بالغ في ذكر الدليل أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإظهار دينه ، وإظهار المباينة عن المشركين ، لكي تزول الشكوك والشبهات في أمره.

فإن قيل : كيف قال (فِي شَكٍّ) وهم كافرون يعتقدون بطلان ما جاء به؟.

قيل : كان فيهم شاكون ، فهم المراد بالآية ، أو أنّهم لمّا رأوا الآيات اضطربوا ، وشكّوا في أمرهم وأمر النبي ـ صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه ـ.

قوله : (فَلا أَعْبُدُ) جواب الشّرط ، والفعل خبر ابتداء مضمر تقديره : فأنا لا أعبد ، ولو وقع المضارع منفيا ب «لا» دون فاء لجزم ، ولكنّه مع الفاء يرفع كما تقدّم ذكره ، وكذا لو لم ينف ب «لا» كقوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة : ٩٥] ، أي : فهو ينتقم.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٧ / ١٣٧.

٤٢٠