اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

أو بقطع المنافع ، فبيّن فيما تقدّم أنه لا يخاف شرّهم ، وبيّن في هذه الآية أنّه لا يخاف منهم بسبب أن يقطعوا عنه خيرا ؛ لأنّه ما أخذ منهم شيئا ، فكان يخاف أن يقطعوا منه خيرا ، ثم قال: إن أجري إلّا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين وفيه قولان :

الأول : أنكم سواء قبلتم دين الإسلام ، أو لم تقبلوا ، فأنا مأمور بأن أكون على دين الإسلام.

الثاني : أنّي مأمور بالاستسلام لكلّ ما يصل إليّ لأجل هذه الدّعوة ، وهذا الوجه أليق بهذا الموضع ؛ لأنّه لمّا قال اقضوا إليّ بيّن أنّه مأمور بالاستسلام لكلّ ما يصل إليه.

قوله : (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ).

لمّا حكى كلام نوح مع الكفّار ، ذكر ـ تعالى ـ ما آل أمرهم إليه : أمّا في حقّ نوح وأصحابه ، فنجّاهم وجعلهم خلائف ، أي : يخلفون من هلك بالغرق ، وأمّا في حق الكفار فإنّه ـ تعالى ـ أهلكهم وأغرقهم ، وهذه القصّة إذا سمعها من صدّق الرسول ومن كذب به ، كانت زجرا للمكذّبين فإنهم يخافون أن ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نوح ، وتكون داعية للمؤمنين إلى الثّبات على الإيمان ؛ ليصلوا إلى مثل ما وصل إليه قوم نوح.

قوله : (فِي الْفُلْكِ) يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلّق ب «نجّيناه» ، أي : وقع الإنجاء في هذا المكان.

والثاني : أن يتعلّق بالاستقرار الذي تعلّق به الظرف ، وهو «معه» لوقوعه صلة ، أي : والذين استقرّوا معه في الفلك ، وقوله : (وَجَعَلْناهُمْ) أي : صيّرناهم ، وجمع الضمير في «جعلناهم» حملا على معنى «من» ، و «خلائف» جمع خليفة ، أي : يخلفون الغارقين.

قوله : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ) أي : من بعد نوح ، (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) ولم يسمّ الرسل ، وقد كان منهم هود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب ، (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) ، وهي المعجزات الباهرة ، و «بالبيّنات» متعلق ب «فجاءوهم» أو بمحذوف على أنه حال أي : ملتبسين بالبينات ، (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي : أنّ حالهم بعد بعثة الرسل ، كحالهم قبلها في كونهم أهل جاهلية.

قال القرطبيّ : التقدير : بما كذّب به قوم نوح من قبل ، وقيل (بِما كَذَّبُوا بِهِ) أي : من قبل يوم الذرّ فإنه كان فيهم من كذّب بقلبه ، وإن قال الجميع : بلى.

وقال النحاس : أحسن ما قيل في هذا : أنّه لقوم بأعيانهم ، مثل : (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٦]. و «بالبيّنات» متعلق ب «جاءوهم» ، أو بمحذوف على أنّه حال ، أي : ملتبسين بالبيّنات.

وقوله : «ليؤمنوا» أتى بلام الجحود توكيدا ، والضّمير في «كذّبوا» عائد على من عاد عليه الضّمير في كانوا ، وهم قوم الرّسل.

٣٨١

وقال أبو البقاء (١) ومكّي (٢) : إنّ الضمير في كانوا يعود على قوم الرّسل ، وفي «كذّبوا» يعود على قوم نوح ، والمعنى : فما كان قوم الرّسل ليؤمنوا بما كذّب به قوم نوح ، أي : بمثله ، ويجوز أن تكون الهاء عائدة على نوح نفسه ، من غير حذف مضاف ، والتقدير : فما كان قوم الرّسل بعد نوح ليؤمنوا بنوح ؛ إذ لو آمنوا به ، لآمنوا بأنبيائهم.

و (مِنْ قَبْلُ) متعلق ب «كذّبوا» أي : من قبل بعثة الرّسل.

وقيل : الضّمائر كلّها تعود على قوم الرسل بمعنى آخر : وهو أنّهم بادروا رسلهم بالتكذيب ، كلما جاء رسول ، لجّوا في الكفر ، وتمادوا عليه ، فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل لجّهم في الكفر ، وتماديهم.

وقال ابن عطية (٣) : ويحتمل اللّفظ عندي معنى آخر ، وهو أن تكون «ما» مصدرية ، والمعنى : فكذّبوا رسلهم ، فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل ، أي : من سببه ومن جرّائه ، ويؤيّد هذا التأويل : (كَذلِكَ نَطْبَعُ) وهو كلام يحتاج إلى تأمّل.

قال أبو حيّان : والظّاهر أنّ «ما» موصولة ؛ ولذلك عاد الضمير عليها في قوله : (بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) ولو كانت مصدرية ، بقي الضمير غير عائد على مذكور ؛ فتحتاج أن يتكلّف ما يعود عليه الضمير.

قال شهاب الدّين (٤) ـ رحمه‌الله ـ : «الشيخ بناه على قول جمهور النّحاة : في عدم كون «ما» المصدريّة اسما ؛ فيعود عليها ضمير ، وقد تقدّم مرارا ، أنّ مذهب الأخفش ، وابن السراج : أنّها اسم فيعود عليها الضمير».

وقرأ العامّة : «نطبع» بالنّون الدّالة على تعظيم المتكلّم. وقرأ العبّاس (٥) بن الفضل : بياء الغيبة ، وهو الله ـ تعالى ـ ؛ ولذلك صرّح به في موضع آخر : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ) [الأعراف : ١٠١]. والكاف نعت لمصدر محذوف ، أو حال من ذلك المصدر على حسب ما عرفته من الخلاف ، أي : مثل ذلك الطّبع المحكم الممتنع زواله ، نطبع على قلوب المعتدين على خلق الله.

فصل

احتجّ أهل السّنّة على أنّه ـ تعالى ـ قد يمنع المكلّف عن الإيمان بهذه الآية.

قالت المعتزلة : فقد قال ـ تعالى ـ : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ١٥٥] ولو كان هذا الطّبع مانعا ، لما صحّ هذا الاستثناء ، وقد تقدّم البحث في ذلك عند قوله ـ تعالى ـ : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ).

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٣١.

(٢) ينظر : المشكل ١ / ٣٨٨.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٣٣.

(٤) ينظر : الدر المصون ٤ / ٥٦.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٣٣ ، البحر المحيط ٥ / ١٧٩ ، الدر المصون ٤ / ٥٦.

٣٨٢

قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(٨٦)

قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ) الآية.

قرأ (١) مجاهد ، وابن جبير ، والأعمش : «إن هذا لساحر» اسم فاعل ، والإشارة ب «هذا» حينئذ إلى موسى ، أشير إليه لتقدم ذكره ، وفي قراءة الجماعة : المشار إليه الشّيء الذي جاء به موسى ، من قلب العصا حيّة ، وإخراج يده بيضاء كالشمس ، ويجوز أن يشار ب «هذا» في قراءة ابن جبير : إلى المعنى الذي جاء به موسى مبالغة ؛ حيث وصفوا المعاني بصفات الأعيان ؛ كقولهم : «شعر شاعر» ، و «جدّ جدّه».

فإن قيل : إنّ القوم لمّا قالوا : (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) ، فكيف حكى موسى عنهم أنّهم قالوا : (أَسِحْرٌ هذا) على سبيل الاستفهام؟.

فالجواب من وجهين :

أحدهما : أنّ معمول «أتقولون» : الجملة من قوله : (أَسِحْرٌ هذا) إلى آخره ، كأنهم قالوا : أجئتما بالسّحر تطلبان به الفلاح ، ولا يفلح السّاحرون ؛ كقول موسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ للسحرة : (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) [يونس : ٨١].

والثاني : أنّ معمول القول محذوف ، مدلول عليه بما تقدم ذكره ، وهو (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ).

ومعمول القول يحذف للدّلالة عليه كثيرا ، كما يحذف القول كثيرا ، ويكون تقدير الآية : إن موسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ قال لهم : (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ) ما

__________________

(١) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١١٨ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٣٤ ، البحر المحيط ٥ / ١٨٠ ، الدر المصون ٤ / ٥٧.

٣٨٣

تقولون ، ثم حذف منه مفعول «أتقولون» لدلالة الحال عليه ، ثم قال : أسحر هذا وهو استفهام على سبيل الإنكار ، ثم احتجّ على أنّه ليس بسحر ، بقوله : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) ؛ ومثل الآية في حذف المقول قول الشاعر : [الطويل]

٢٩٢٢ ـ لنحن الألى قلتم فأنّى ملئتم

برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا (١)

وفي كتاب سيبويه : «متى رأيت أو قلت زيدا منطلقا» على إعمال الأول ، وحذف معمول القول ، ويجوز إعمال القول بمعنى الحكاية به ، فيقال : «متى رأيت أو قلت زيد منطلق» وقيل : القول في الآية بمعنى : العيب والطّعن ، والمعنى : أتعيبون الحقّ وتطعنون فيه ، وكان من حقّكم تعظيمه ، والإذعان له ، من قولهم : «فلان يخاف القالة» و «بين الناس تقاول» إذا قال بعضهم لبعض ما يسوؤه ، ونحو القول الذّكر في قوله : (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) [الأنبياء : ٦٠] وكلّ هذا ملخّص من كلام الزمخشريّ.

قوله : «قالوا» يعني : فرعون وقومه ، (أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا) اللّام متعلقة بالمجيء ، أي : أجئت لهذا الغرض ، أنكروا عليه مجيئه لهذه العلّة ، واللّفت : الليّ والصّرف ، لفته عن كذا ، أي : صرفه ولواه عنه ، وقال الأزهري (٢) : «لفت الشّيء وفتله» : لواه ، وهذا من المقلوب.

قال شهاب الدّين : «ولا يدّعى فيه قلب ، حتى يرجح أحد اللفظين في الاستعمال على الآخر ، ولذلك لم يجعلوا جذب وجبذ ، وحمد ومدح من هذا القبيل لتساويهما ، ومطاوع لفت : التفت ، وقيل : انفتل ، وكأنّهم استغنوا بمطاوع «فتل» عن مطاوع لفت ، وامرأة لفوت ، أي : تلتفت لولدها عن زوجها ، إذا كان الولد لغيره ، واللّفيتة : ما يغلظ من القصيدة» والمعنى : أنّهم قالوا : لا نترك الذي نحن عليه ؛ لأنّا وجدنا أباءنا عليه ، فتمسكوا بالتقليد ، ودفعوا الحجّة الظاهرة بمجرد الإصرار.

قوله : (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) الكبرياء : اسم «كان» ، و «لكم» : الخبر ، و (فِي الْأَرْضِ) : جوّز فيها أبو البقاء خمسة أوجه :

أحدها : أن تكون متعلقة بنفس الكبرياء.

الثاني : أن يتعلق بنفس «تكون».

الثالث : أن يتعلّق بالاستقرار في «لكم» لوقوعه خبرا.

الرابع : أن يكون حالا من «الكبرياء».

الخامس : أن يكون حالا من الضّمير في «لكما» «لتحمّله إيّاه». والكبرياء مصدر على وزن «فعلياء» ، ومعناها : العظيمة ؛ قال عديّ بن الرّقاع : [الخفيف]

__________________

(١) ينظر البيت في الهمع ١ / ٥٧ والدرر ١ / ١٣٩ والبحر المحيط ٥ / ١٨٠ ، والدر المصون ٤ / ٥٧.

(٢) ينظر : تهذيب اللغة ١٤ / ٢٨٥.

٣٨٤

٢٩٢٣ ـ سؤدد غير فاحش لا يداني

يه تجبّارة ولا كبرياء (١)

وقال ابن الرّقيات يمدح مصعب بن الزبير : [الخفيف]

٢٩٢٤ ملكه ملك رأفة ليس فيه

جبروت منه ولا كبرياء (٢)

يعني : هو ليس عليه ما عليه المملوك من التجبّر والتّعظيم.

والجمهور على «تكون» بالتّأنيث مراعاة لتأنيث اللفظ.

وقرأ ابن مسعود (٣) ، والحسن ، وإسماعيل وأبو عمرو ، وعاصم ـ رضي الله عنهم ـ في رواية : «يكون» بالياء من تحت ؛ لأنّه تأنيث مجازيّ.

قال المفسّرون : والمعنى : ويكون لكما الملك والعزّ في أرض مصر ، والخطاب لموسى ، وهارون ـ عليهما الصلاة والسّلام ـ.

قال الزّجّاج : سمى الملك كبرياء ؛ لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا ، وأيضا : فالنبيّ إذا اعترف القوم بصدقه ، صارت مقاليد أمر أمته إليه ؛ فصار أكبر القوم.

واعلم : أنّ القوم لمّا ذكروا هذين الشيئين في عدم اتّباعهم ، وهما : التّقليد ، والحرص على طلب الرّياسة ، صرّحوا بالحكم ، فقالوا : (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) ، ثم شرعوا في معارضة معجزات موسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بأنواع من السحر ؛ ليظهر عند الناس أن ما أتى به موسى من باب السّحر ، فقال فرعون : (ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ).

قرأ الأخوان (٤) : سحّار وهي قراءة ابن مصرّف ، وابن وثّاب ، وعيسى بن عمر.

(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ).

فإن قيل : كيف أمرهم بالسّحر ، والسّحر كفر ، والأمر بالكفر كفر؟.

فالجواب : أنّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أمرهم بإلقاء الحبال والعصيّ ؛ ليظهر للخلق أن ما أتوا به عمل فاسد ، وسعي باطل ، لا أنّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أمرهم بالسّحر ؛ فلمّا ألقوا حبالهم وعصيّهم ، قال لهم موسى : ما جئتم به هو السّحر ، والغرض منه : أنّهم لمّا قالوا لموسى : إنّ ما جئت به سحر ، فقال موسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : إنّ ما

__________________

(١) ينظر البيت في البحر المحيط ٥ / ١٨١ وتفسير الطبري ١٥ / ١٥٨ والدر المصون ٤ / ٥٨.

(٢) ينظر البيت في ديوانه (٩١) برواية :

ملكه ملك قوة ليس فيه

جبروت ولا به كبرياء

ينظر : الشعر والشعراء ١ / ٥٢٤ والبحر المحيط ٥ / ١٨١ والخزانة ٣ / ٢٦٩ والكشاف ٢ / ٣٦٢ والدر المصون ٤ / ٥٨.

(٣) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١١٨ ، الكشاف ٢ / ٣٦٢ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٣٥ ، الدر المصون ٤ / ٥٨.

(٤) ينظر : حجة القراءات ص (٣٣٥) ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١١٨ ، الكشاف ٢ / ٣٦٣ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٣٥ ، البحر المحيط ٥ / ١٨١ ، الدر المصون ٤ / ٥٨.

٣٨٥

ذكرتموه باطل ، بل الحقّ : أنّ الذي جئتم به هو السّحر الذي يظهر بطلانه ، ثم أخبرهم بأن الله يحق الحق ، ويبطل الباطل.

قوله : (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) قرأ أبو عمرو (١) وحده : «آلسّحر» بهمزة الاستفهام ، وبعدها ألف محضة ، وهي بدل عن همزة الوصل الدّاخلة على لام التعريف ، ويجوز أن تسهّل بين بين ، وقد تقدّم تحقيق هذين الوجهين في قوله : (آلذَّكَرَيْنِ) [الأنعام : ١٤٣] وهي قراءة مجاهد ، وأصحابه ، وأبي جعفر ، وقرأ باقي السبعة : بهمزة وصل تسقط في الدّرج ، فأمّا قراءة أبي عمرو ، ففيها أوجه :

أحدها : أنّ «ما» استفهاميّة في محلّ رفع بالابتداء ، و (جِئْتُمْ بِهِ) : الخبر ، والتقدير: أي شيء جئتم ، كأنّه استفهام إنكار ، وتقليل للشّيء المجاء به. و «السّحر» بدل من اسم الاستفهام ؛ ولذلك أعيد معه أداته ؛ لما تقرّر في كتب النحو ، وذلك ليساوي المبدل منه في أنّه استفهام ، كما تقول : كم مالك أعشرون ، أم ثلاثون؟ فجعلت : أعشرون بدلا من كم ، ولا يلزم أن يضمر للسّحر خبر ؛ لأنّك إذا أبدلته من المبتدأ ، صار في موضعه ، وصار ما كان خبرا عن المبدل منه ، خبرا عنه.

الثاني : أن يكون «السّحر» خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : أهو السّحر.

الثالث : أن يكون مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : السحر هو ، ذكر هذين الوجهين أبو البقاء ، وذكر الثاني مكّي ، وفيهما بعد.

الرابع : أن تكون «ما» موصولة بمعنى : الذي ، و (جِئْتُمْ بِهِ) صلتها ، والموصول في محلّ رفع بالابتداء ، والسّحر على وجهيه من كونه خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : الذي جئتم به أهو السّحر؟ أو الذي جئتم به السحر هو؟ وهذا الضمير هو الرّابط ، كقولك : الذي جاءك أزيد هو؟ قاله أبو حيّان.

قال شهاب الدّين (٢) : قد منع مكّي أن تكون «ما» موصولة ، على قراءة أبي عمرو ، فقال : وقد قرأ أبو عمرو : «آلسحر» بالمدّ ، فعلى هذه القراءة : تكون «ما» استفهاما مبتدأ ، و (جِئْتُمْ بِهِ) : الخبر ، و «السّحر» خبر ابتداء محذوف ، أي : أهو السّحر؟ ولا يجوز أن تكون «ما» بمعنى : «الّذي» على هذه القراءة ؛ إذ لا خبر لها. وليس كما ذكر ، بل خبرها : الجملة المقدّر أحد جزأيها ، وكذلك الزمخشري ، وأبو البقاء لم يجيزا كونها موصولة ، إلّا في قراءة غير أبي عمرو ، لكنّهما لم يتعرّضا لعدم جوازه.

الخامس : أن تكون «ما» استفهامية في محلّ نصب بفعل مقدّر بعدها ؛ لأنّ لها صدر

__________________

(١) ينظر : السبعة ص (٣٢٨) ، الحجة ٤ / ٢٨٩ ـ ٢٩٠ ، حجة القراءات ص (٣٣٥) ، إعراب القراءات ١ / ٢٧٢ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١١٨.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٥٩.

٣٨٦

الكلام ، و (جِئْتُمْ بِهِ) مفسّر لذلك الفعل المقدّر ، وتكون المسألة حينئذ من باب الاشتغال ، والتقدير : أيّ شيء أتيتم جئتم به ، و «السّحر» على ما تقدّم ، ولو قرىء بنصب «السّحر» على أنّه بدل من «ما» بهذا التقدير ، لكان له وجه ، لكنّه لم يقرأ به فيما علمت ، وسيأتي ما حكاه مكّي عن الفرّاء من جواز نصبه لمدرك آخر ، لا على أنّها قراءة منقولة عن الفرّاء.

وأمّا قراءة الباقين ، ففيها أوجه :

أحدها : أن تكون «ما» بمعنى : «الذي» في محلّ رفع بالابتداء ، و (جِئْتُمْ بِهِ) صلته وعائده ، و «السّحر» خبره ، والتقدير : الذي جئتم به السحر ، ويؤيّد هذا التقدير ، قراءة أبيّ (١) ، وما في مصحفه : «ما آتيتم به سحر» ، وقراءة عبد الله بن مسعود والأعمش : «ما جئتم به سحر».

الثاني : أن تكون «ما» استفهامية في محلّ نصب ، بإضمار فعل على ما تقرّر و «السّحر» خبر ابتداء مضمر ، أو مبتدأ مضمر الخبر.

الثالث : أن تكون «ما» في محلّ رفع بالابتداء ، و «السّحر» على ما تقدّم من كونه مبتدأ ، أو خبرا ، والجملة خبر «ما» الاستفهامية.

قال أبو حيّان ـ بعد ما ذكر الوجه الأول ـ : «ويجوز عندي أن تكون في هذا الوجه استفهاميّة في موضع رفع بالابتداء ، أو في موضع نصب على الاشتغال ، وهو استفهام على سبيل التّحقير والتّقليل لما جاؤوا به ، و «السّحر» خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو السّحر».

قال شهاب الدّين (٢) : ظاهر عبارته : أنّه لم ير غيره ، حيث قال وعندي ، وهذا قد جوّزه أبو البقاء ومكّي.

قال أبو البقاء ـ لمّا ذكر قراءة غير أبي عمرو ـ : «ويقرأ بلفظ الخبر ، وفيه وجهان» ، ثم قال : «ويجوز أن تكون «ما» استفهاميّة ، و «السّحر» خبر مبتدأ محذوف».

وقال مكّي ـ في قراءة غير أبي عمرو ، بعد ذكره كون «ما» بمعنى : الذي ـ ويجوز أن تكون «ما» رفعا بالابتداء ، وهي استفهام ، و (جِئْتُمْ بِهِ) : الخبر ، و «السّحر» خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو السّحر ، ويجوز أن تكون «ما» في موضع نصب على إضمار فعل بعد «ما» تقديره : أيّ شيء جئتم به ، و «السحر» : خبر ابتداء محذوف.

الرابع : أن تكون هذه القراءة كقراءة أبي عمرو في المعنى ، أي : أنّها على نية الاستفهام ، ولكن حذفت أداته للعلم بها.

__________________

(١) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١١٨ ، الكشاف ٢ / ٣٦٣ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٣٥ ، البحر المحيط ٥ / ١٨١ ، الدر المصون ٤ / ٥٩.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٥٩.

٣٨٧

قال أبو البقاء : ويقرأ بلفظ الخبر ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنّه استفهام في المعنى أيضا ، وحذفت الهمزة للعلم بها وعلى هذا الذي ذكره : يكون الإعراب على ما تقدّم ، واعلم أنّك إذا جعلت «ما» موصولة بمعنى : الذي ، امتنع نصبها بفعل مقدّر على الاشتغال.

قال مكّي : ولا يجوز أن تكون «ما» بمعنى : الذي ، في موضع نصب لأنّ ما بعدها صلتها ، والصلة لا تعمل في الموصول ، ولا يكون تفسيرا للعامل في الموصول وهو كلام صحيح ؛ فتلخّص من هذا : أنّها إذا كانت استفهامية ، جاز أن تكون في محلّ رفع أو نصب ، وإذا كانت موصولة ، تعيّن أن يكون محلّها الرفع بالابتداء ، وقال مكي : وأجاز الفرّاء نصب «السّحر» فجعل «ما» شرطا ، وينصب «السّحر» على المصدر ، وتضمر الفاء مع (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) ، وتجعل الألف واللام في «السّحر» زائدتين ، وذلك كلّه بعيد ، وقد أجاز عليّ بن سليمان : حذف الفاء من جواب الشّرط في الكلام ، واستدلّ على جوازه بقوله ـ تعالى ـ : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] ، ولم يجزه غيره إلّا في ضرورة شعر.

قال شهاب الدّين : وإذا مشينا مع الفرّاء ، فتكون «ما» شرطا يراد بها المصدر ، تقديره: أيّ سحر جئتم به ، فإنّ الله سيبطله ، ويبيّن أنّ «ما» يراد بها السحر قوله : «السّحر» ؛ ولكن يقلق قوله : «إنّ نصب السّحر على المصدريّة» فيكون تأويله : أنّه منصوب على المصدر الواقع موقع الحال ؛ ولذلك قدّره بالنّكرة ، وجعل «أل» مزيدة فيه.

وقد نقل عن الفرّاء : أنّ هذه الألف واللام للتعريف ، وهو تعريف العهد ، قال الفرّاء : «وإنّما قال «السّحر» بالألف واللّام ؛ لأنّ النّكرة إذا أعيدت ، أعيدت بالألف واللّام» يعنى : أنّ النّكرة قد تقدّمت في قوله : (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) [يونس : ٧٦] ، وبهذا شرحه ابن عطيّة.

قال ابن عطيّة : والتعريف هنا في السحر أرتب ؛ لأنّه قد تقدّم منكّرا في قولهم : (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ) ، فجاء هنا بلام العهد ، كما يقال أوّل الرسالة : «سلام عليك».

قال أبو حيّان «وما ذكراه هنا في «السّحر» ليس من تقدّم النكرة ، ثمّ أخبر عنها بعد ذلك ؛ لأنّ شرط هذا أن يكون المعرّف ب «أل» هو المنكر المتقدّم ، ولا يكون غيره ، كقوله ـ تعالى ـ : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [المزمل : ١٥ ، ١٦].

وتقول : «زارني رجل ، فأكرمت الرّجل» لمّا كان إيّاه ، جاز أن يؤتى بضميره بدله ، فتقول : «فأكرمته» ، و «السّحر» هنا : ليس هو السحر الذي في قولهم : (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ) لأنّ الذي أخبروا عنه بأنّه سحر ، هو ما ظهر على يدي موسى من معجزة العصا ، والسّحر الذي في قول موسى ، إنّما هو سحرهم الذي جاؤوا به ، فقد اختلف المدلولان ، إذا قالوا هم عن معجزة موسى ، وقال موسى عمّا جاؤوا به ؛ ولذلك لا يجوز أن يؤتى هنا بالضّمير بدل السّحر ؛ فيكون عائدا على قولهم : لسحر».

٣٨٨

قال شهاب الدّين : «والجواب : أنّ الفرّاء ، وابن عطيّة إنّما أرادا السّحر المتقدّم الذكر في اللفظ ، وإن كان الثّاني هو غير عين الأول في المعنى ، ولكن لمّا أطلق عليهما لفظ «السّحر» جاز أن يقال ذلك ، ويدلّ على هذا : أنّهم قالوا في قوله ـ تعالى ـ : (وَالسَّلامُ عَلَيَ) [مريم : ٣٣] إنّ الألف واللام للعهد ؛ لتقدّم ذكر السّلام في قوله ـ تعالى ـ : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ) [مريم : ١٥] ، وإن كان السّلام الواقع على عيسى ، هو غير السّلام الواقع على يحيى ؛ لاختصاص كلّ سلام بصاحبه من حيث اختصاصه به ، وهذا النّقل المذكور عن الفرّاء في الألف واللّام ، ينافى ما نقله عنه مكّي فيهما ، اللهمّ إلّا أن يقال : يحتمل أن يكون له مقالتان ، وليس ببعيد ؛ فإنّه كلّما كثر العلم ، اتّسعت المقالات».

قوله : (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) أي : سيهلكه ، ويظهر فضيحة صاحبه ، (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) أي : لا يقوّيه ولا يكمّله ، وقوله : «المفسدين» من وقوع الظّاهر موقع ضمير المخاطب ؛ إذ الأصل : لا يصلح عملكم ؛ فأبرزهم في هذه الصّفة الذّميمة شهادة عليهم بها ، ثم قال : (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ) أي : يظهره ويقوّيه ، «بكلماته» أي : بوعده موسى ، وقيل: بما سبق من قضائه وقدره ، وقرىء : «بكلمته» بالتوحيد ، وتقدّم نظيره [الأنفال ٧].

قوله : (فَما آمَنَ لِمُوسى) الفاء للتّعقيب ، وفيها إشعار بأنّ إيمانهم لم يتأخّر عن الإلقاء ، بل وقع عقيبه ؛ لأنّ الفاء تفيد ذلك ، وقد تقدّم توجيه تعدية «آمن» باللّام ، والضّمير في «قومه» فيه وجهان :

أظهرهما : أنّه يعود على موسى ؛ لأنّه هو المحدّث عنه ؛ ولأنّه أقرب مذكور ، ولو عاد على فرعون ، لم يكرّر لفظه ظاهرا ، بل كان التركيب : «على خوف منه» وإلى هذا ذهب ابن عبّاس ، وغيره ، قال : المراد : مؤمني بني إسرائيل الذين كانوا بمصر ، وخرجوا معه (١).

قال ابن عبّاس : لفظ الذّريّة يعبّر به عن القوم على وجه التّحقير والتّصغير (٢) ، ولا سبيل لحمله على التقدير على وجه الإهانة ههنا ؛ فوجب حمله على التصغير ، بمعنى : قلة العدد.

قال مجاهد : كانوا أولاد الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل ، هلك الآباء ، وبقي الأبناء (٣).

وقيل : هم قوم نجوا من قتل فرعون ؛ وذلك أنّ فرعون لما أمر بقتل أبناء بني إسرائيل ، كانت المرأة في بني إسرائيل ، إذا ولدت ابنا وهبته لقبطيّة ، خوفا عليه من القتل ، فنشئوا بين القبط ، وأسلموا في اليوم الذي غلب فيه موسى السّحرة.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٧ / ١١٥ ـ ١١٦).

(٢) انظر المصدر السابق.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٩٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٦٥) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبي الشيخ.

٣٨٩

والثاني : أنّ الضمير يعود على فرعون ، ويروى عن ابن عبّاس (١) أيضا ، ورجّح ابن عطيّة هذا ، وضعف الأول ، فقال : وممّا يضعف عود الضّمير على موسى : أنّ المعروف من أخبار بني إسرائيل ، أنهم كانوا قد فشت فيهم النبوات ، وكانوا قد نالهم ذلّ مفرط ، وكانوا يرجون كشفه بظهور مولود ، فلمّا جاءهم موسى أصفقوا عليه وتابعوه ، ولم يحفظ أنّ طائفة من بني إسرائيل كفرت بموسى ، فكيف تعطي هذه الآية أنّ الأقلّ منهم كان الذي آمن؟ فالذي يترجّح عوده على فرعون ، ويؤيّده أيضا : ما تقدّم من محاورة موسى وردّه عليهم وتوبيخهم.

قيل : المراد بالذرية : أقوام كان آباؤهم من قوم فرعون ، وأمّهاتهم من بني إسرائيل ، فجعل الرّجل يتبع أمّه وأخواله.

روي عن ابن عبّاس : أنّهم كانوا ستمائة ألف من القبط (٢).

قيل : سمّوا ذرّيّة ؛ لأنّ آباءهم كانوا من القبط ، وأمهاتهم من بني إسرائيل ، كما يقال لأولاد فارس ـ الذين سقطوا إلى اليمن ـ : الأبناء ؛ لأنّ أمّهاتهم من غير جنس آبائهم.

وقيل : المراد بالذّرّيّة من آل فرعون : آسية ، ومؤمن آل فرعون ، وامرأته ، وخازنه ، وامرأة خازنه ، وماشطتها.

واعلم : أنّه ـ تعالى ـ إنّما ذكر ذلك تسلية لمحمّد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ؛ لأنّه كان يغتمّ بسبب إعراض القوم عنه ، واستمرارهم على الكفر ، فبيّن أنّ له في هذا الباب أسوة بسائر الأنبياء ؛ لأنّ الذي ظهر من موسى كان في الإعجاز في مرأى العين أعظم ، ومع ذلك فما آمن منهم إلا ذرية.

قوله (عَلى خَوْفٍ) : حال ، أي : آمنوا كائنين على خوف ، والضّمير في (وَمَلَائِهِمْ) فيه أوجه :

أحدها : أنّه عائد على الذّرية ، وهذا قول أبي الحسن ، واختيار ابن جرير ، أي : خوف من ملأ الذرية ، وهم أشراف بني إسرائيل.

الثاني : أنه يعود على «قومه» بوجهيه ، أي : سواء جعلنا الضمير في «قومه» لموسى ، أو لفرعون ، أي : وملأ قوم موسى ، أو ملأ قوم فرعون.

الثالث : أن يعود على فرعون ؛ لأنّهم إنّما كانوا خائفين من فرعون ، واعترض على هذا ؛ بأنّه كيف يعود ضمير جمع على مفرد؟ واعتذر أبو البقاء بوجهين :

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٩٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٦٥) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٦٤).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٦٤).

٣٩٠

أحدهما : أنّ فرعون لمّا كان عظيما عندهم ، عاد الضّمير عليه جمعا ، كما يقول العظيم : نحن نأمر ، وهذا فيه نظر ؛ لأنّه لو ورد ذلك من كلامهم محكيّا عنهم ، لاحتمل ذلك.

الثاني : أنّ فرعون صار اسما لأتباعه ، كما أنّ ثمود اسم للقبيلة كلها. وقال مكّي (١) وجهين آخرين قريبين من هذين ، ولكنّهما أخلص منهما ، قال : إنّما جمع الضمير في ملئهم ؛ لأنّه إخبار عن جبّار ، والجبّار يخبر عنه بلفظ الجمع ، وقيل : لمّا ذكر فرعون ، علم أنّ معه غيره ، فرجع الضّمير عليه ، وعلى من معه.

وقد تقدم نحو من هذا عند قوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ) [آل عمران : ١٧٣] والمراد بالقائل الأول : نعيم بن مسعود ؛ لأنّه لا يخلو من مساعد له على ذلك القول.

الرابع : أن يعود على مضاف محذوف وهو آل ، تقديره : على خوف من آل فرعون ، وملئهم ، قاله الفرّاء ، كما حذف في قوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢].

قال أبو البقاء بعد أن حكى هذا ولم يعزه لأحد : «وهذا عندنا غلط ؛ لأنّ المحذوف لا يعود إليه ضمير ، إذ لو جاز ذلك ، لجاز أن يقول : «زيد قاموا» وأنت تريد : غلمان زيد قاموا».

قال شهاب الدّين (٢) : قوله : «لأنّ المحذوف لا يعود إليه ضمير» ممنوع ، بل إذا حذف مضاف ، فللعرب فيه مذهبان : الالتفات إليه ، وعدمه وهو الأكثر ، ويدلّ على ذلك : أنّه قد جمع بين الأمرين في قوله : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) [الأعراف : ٣] أي : أهل قرية ، ثم قال: (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) وقد حققت ذلك في موضعه المشار إليه ، وقوله : «لجاز زيد قاموا» ليس نظيره ، فإنّ فيه حذفا من غير دليل ، بخلاف الآية.

وقال أبو حيان ـ بعد أن حكى كلام الفرّاء ـ : وردّ عليه : بأنّ الخوف يمكن من فرعون ، ولا يمكن سؤال القرية ، فلا يحذف إلّا ما دلّ عليه الدّليل ، وقد يقال : ويدلّ على هذا المحذوف جمع الضمير في (وَمَلَائِهِمْ). يعني أنّهم ردّوا على الفراء ، بالفرق بين (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] وبين هذه الآية : بأنّ سؤال القرية غير ممكن ، فاضطررنا إلى تقدير المضاف ، بخلاف الآية فإنّ الخوف تمكّن من فرعون ، فلا اضطرار بنا يدلّنا على مضاف محذوف.

وجواب هذا : أنّ الحذف قد يكون لدليل عقلي أو لفظي ، على أنّه قيل في (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) إنّه حقيقة ، إذ يمكن النبيّ أن يسأل القرية ؛ فتجيبه.

الخامس : أنّ ثمّ معطوفا محذوفا حذف للدّلالة عليه ، والدّليل عليه ؛ كون الملك لا

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ٣٩٠.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٦٢.

٣٩١

يكون وحده ، بل له حاشية ، وعساكر ، وجند ؛ فكان التقدير : على خوف من فرعون ، وقومه ، وملئهم ، أي : ملأ فرعون وقومه ، وهو منقول عن الفرّاء أيضا.

قال شهاب الدّين (١) : حذف المعطوف قليل في كلامهم ، ومنه عند بعضهم ، قوله ـ تعالى ـ : (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] أي : والبرد ؛ وقول الآخر : [الطويل]

٢٩٢٥ ـ كأنّ الحصى من خلفها وأمامها

إذا حذفته رجلها حذف أعسرا (٢)

أي : ويدها.

قوله : (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) أي : يصرفهم عن دينهم ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه في محلّ جرّ على البدل من «فرعون» ، وهو بدل اشتمال ، تقديره : على خوف من فرعون فتنة ، كقولك : «أعجبني زيد علمه».

الثاني : أنّه في موضع نصب على المفعول به بالمصدر ، أي : خوف فتنته ، وإعمال المصدر المنوّن كثير ؛ كقوله : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) [البلد : ١٤ ، ١٥] ، وقول الآخر : [الطويل]

٢٩٢٦ ـ فلو لا رجاء النّصر منك ورهبة

عقابك قد كانوا لنا بالموارد (٣)

الثالث : أنّه منصوب على المفعول من أجله بعد حذف اللام ، ويجري فيها الخلاف المشهور.

وقرأ الحسن (٤) ، ونبيح : «يفتنهم» بضمّ الياء من «أفتن» وقد تقدّم ذلك [النساء ١٠١].

قوله : (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) أي : متكبّر ، أو ظالم ، أو قاهر ، و (فِي الْأَرْضِ) متعلّق ب «عال» ؛ كقوله : [الكامل]

٢٩٢٧ ـ فاعمد لما تعلو فما لك بالّذي

لا تستطيع من الأمور يدان (٥)

أي : لما تقهر ، ويجوز أن يكون (فِي الْأَرْضِ) متعلّقا بمحذوف ؛ لكونه صفة ل «عال» فيكون مرفوع المحلّ ، ويرجح الأول قوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٤] ثم قال : (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) : المجاوزين الحدّ ؛ لأنه كان عبدا ، فادّعى الرّبوبيّة ، وقيل : لأنه كان كثير القتل والتعذيب لمن يخالفه ، والغرض منه : بيان السّبب في كون أولئك المؤمنين خائفين.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٦٢.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) وقرأ بها أيضا جراح.

ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٣٧ ، البحر المحيط ٥ / ١٨٣ ، الدر المصون ٤ / ٦٣.

(٥) البيت لكعب بن سعد الغنوي أو لعلي بن عدي الغنوي.

ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٨٣ واللسان (علا) والدر المصون ٤ / ٦٣.

٣٩٢

قوله تعالى : (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) الآية.

قوله تعالى : «فعليه» جواب الشرط ، والشرط الثاني ـ وهو (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) ـ شرط في الأول ، وذلك أنّ الشّرطين متى لم يترتّبا في الوجود ، فالشّرط الثّاني شرط في الأول ، ولذلك يجب تقدّمه على الأول ، وقد تقدّم تحقيق ذلك [البقرة ٣٨].

قال الفقهاء : المتأخر يجب أن يكون متقدما ، والمتقدّم يجب أن يكون متأخرا ، مثاله قول الرّجل لامرأته : إن دخلت الدار ، فأنت طالق إن كلمت زيدا ، فمجموع قوله : إن دخلت الدّار ، فأنت طالق مشروط بقوله : إن كلّمت زيدا ، والمشروط متأخّر عن الشّرط ، وذلك يقتضي أن يكون المتأخّر في اللفظ ، متقدما في المعنى ، وأن يكون المتقدم في اللفظ متأخرا في المعنى ، فكأنّه يقول لامرأته : حال ما كلمت زيدا إن دخلت الدّار ، فأنت طالق ، فلو حصل هذا التعليق ، قيل: إن كلّمت زيدا لم يقع الطلاق.

فقوله : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطا ؛ لأن يصيروا مخاطبين بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) فكأنّه ـ تعالى ـ يقول للمسلم حال إسلامه : إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكّل ، والأمر كذلك ؛ لأنّ الإسلام عبارة عن الاستسلام ، وهو الانقياد لتكاليف الله ، وترك التمرد ، والإيمان عبارة عن صيرورة القلب ، عارفا بأن واجب الوجود لذاته واحد ، وأنّ ما سواه محدث مخلوق تحت تدبيره ، وقهره ، وإذا حصلت هاتان الحالتان ، فعند ذلك يفوّض العبد جميع أموره إلى الله ـ تعالى ـ ، ويحصل في القلب نور التّوكّل على الله ـ تعالى ـ.

فصل

إنما قال : (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) ولم يقل : «توكلوا على الله» ، لأن الأول يفيد الحصر ، كأنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أمرهم بالتّوكّل عليه ، ونهاهم عن التوكّل على الغير ، ثم بيّن ـ تعالى ـ أنّ موسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لمّا أمرهم بذلك قبلوا قوله (فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) أي : توكّلنا عليه واعتمادنا ، ولم نلتفت إلى أحد سواه ، ثم اشتغلوا بالدعاء ، وطلبوا من الله شيئين:

أحدهما : أن قالوا : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

والثاني : (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أما قولهم : (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ففيه وجوه :

الأول : لا تفتن بنا فرعون وقومه ؛ لأنك لو سلطّتهم علينا ، لوقع في قلوبهم أنّا لو كنّا على الحقّ ، لما سلّطتهم علينا ؛ فيصير ذلك شبهة قويّة في إصرارهم على الكفر ؛ فيكون ذلك فتنة لهم.

الثاني : لو سلّطتهم علينا ، لاستوجبوا العقاب الشّديد في الآخرة ، وذلك يكون فتنة لهم.

٣٩٣

الثالث : أنّ المراد بالفتنة المفتون ؛ لأنّ إطلاق لفظ المصدر على المفعول جائز ، كالخلق بمعنى المخلوق والتقدير : لا تجعلنا مفتونين بأنّ يقهرونا بالظّلم على أن ننصرف من هذا الدّين الذي قبلناه ، ويؤكّد هذا قوله : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) [يونس : ٨٣] وأمّا المطلوب الثاني ، فهو قوله : (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).

وهذا يدلّ على أنّ اهتمامهم بأمر دينهم كان فوق اهتمامهم بأمر دنياهم ؛ لأنّا إذا حملنا قولهم : (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [يونس : ٨٥] ، على تسليط الكفّار عليهم وصيرورة ذلك التسليط شبهة للكفار في أنّ هذا الدّين باطل ، فتضرعوا إلى الله ـ تعالى ـ في صون الكفّار عن هذه الشّبهة ، وتقديم هذا الدّعاء على طلب النّجاة لأنفسهم ، وذلك يدل على أن اهتمامهم بمصالح أديانهم فوق اهتمامهم بمصالح أبدانهم.

قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(٨٩)

قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) الآية.

لمّا شرح خوف المؤمنين من الكفّار ، وما ظهر منهم من التّوكّل على الله ، أتبعه بأن أمر موسى ، وهارون باتخاذ المساجد ، والإقبال على الصّلوات.

قوله (أَنْ تَبَوَّءا) يجوز في «أن» أن تكون المفسّرة ؛ لأنّه قد تقدّمها ما هو بمعنى القول وهو الإيحاء ، ويجوز أن تكون المصدريّة ، فتكون في موضع نصب ب «أوحينا» مفعولا به ، أي : أوحينا إليهما التّبوّء.

والجمهور على الهمزة في «تبوّآ» وقرأ حفص (١) «تبوّيا» بياء خالصة ، وهي بدل عن الهمزة ، وهو تخفيف غير قياسي ، إذ قياس تخفيف مثل هذه الهمزة : أن تكون بين الهمزة والألف ، وقد أنكر هذه الرّواية عن حفص جماعة من القرّاء ، وخصّها بعضهم بحالة الوقف ، وهو الذي لم يحك أبو عمرو الدّاني والشاطبي غيره ، وبعضهم يطلق إبدالها عنه ياء وصلا ووقفا ، وعلى الجملة فهي قراءة ضعيفة في العربية ، وفي الرواية.

والتّبوّؤ : النزول والرجوع ، يقال : تبوّأ المكان : أي : اتخذه مبوّأ ، وقد تقدّمت هذه

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٣٨ ، البحر المحيط ٥ / ١٨٤ ، الدر المصون ٤ / ٦٣.

٣٩٤

المادة في قوله : (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٢١] والمعنى : اجعلا بمصر بيوتا لقومكما ، ومرجعا ترجعون إليه للعبادة.

قوله : «لقومكما» يجوز أن تكون اللّام زائدة في المفعول الأول ، و «بيوتا» مفعول ثان ، بمعنى : بوّآ قومكما بيوتا ، أي : أنزلوهم ، وفعّل وتفعّل بمعنى ، مثل «علّقها» و «تعلّقها» قاله أبو البقاء ، وفيه ضعف : من حيث إنّه زيدت اللام ، والعامل غير فرع ، ولم يتقدم المعمول.

الثاني : أنّها غير زائدة ، وفيها حينئذ وجهان :

أحدهما : أنّها حال من «البيوت».

والثاني : أنّها وما بعدها مفعول «تبوّءا».

قوله «بمصر» جوّز فيه أبو البقاء أوجها :

أحدها : أنّه متعلّق ب «تبوّءا» ، وهو الظّاهر.

الثاني : أنّه حال من ضمير «تبوّءا» ، واستضعفه ، ولم يبيّن وجه ضعفه لوضوحه.

الثالث : أنّه حال من «البيوت».

الرابع : أنّه حال من : «لقومكما» ، وقد ثنّى الضمير في قوله : «تبوّءا» وجمع في قوله: (وَاجْعَلُوا) و «أقيموا» وأفرد في قوله : (وَبَشِّرِ) لأن الأول أمر لهما ، والثاني لهما ولقومهما ، والثالث لموسى فقط ؛ لأنّ أخاه تبع له ، ولمّا كان فعل البشارة شريفا خصّ به موسى ، لأنّه هو الأصل ، وقيل : وبشّر المؤمنين يا محمّد.

فصل

قال بعضهم : المراد من البيوت : المساجد ؛ لقوله : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) [النور: ٣٦] وقيل : مطلق البيوت ، أمّا الأوّلون ففسّروا القبلة بالجانب الذي يستقبل في الصلاة ، أي : اجعلوا بيوتكم مساجدا ، تستقبلونها في الصّلاة.

وقال ابن الأنباريّ : المعنى : اجعلوا بيوتكم قبلا ، أي : مساجد ؛ فأطلق لفظ الواحد ، والمراد : الجمع ، ومن قال : المراد : مطلق البيوت ففيه وجهان :

أحدهما : قال الفراء : أي : اجعلوا بيوتكم إلى القبلة.

الثاني : المعنى : اجعلوا بيوتكم متقابلة ، والمراد منه : حصول الجمعيّة ، واعتضاد البعض بالبعض.

واختلفوا في هذه القبلة أين كانت؟ ظاهر القرآن لا يدلّ على تعيينها ، وروي عن ابن عبّاس : كانت الكعبة قبلة موسى (١) ، وكان الحسن يقول : الكعبة قبلة كلّ الأنبياء ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٩٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٦٦) وزاد نسبته إلى ابن مردويه.

٣٩٥

وإنما وقع العدول عنها بأمر الله ـ تعالى ـ في أيّام الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بعد الهجرة (١). وقال آخرون : كانت القبلة : بيت المقدس.

فصل

ذكر المفسّرون في كيفية هذه الواقعة وجوها :

أحدها : أن موسى ومن معه كانوا مأمورين في أول أمرهم : بأن يصلّوا في بيوتهم خفية من الكفّار ؛ لئلا يظهروا عليهم ، فيؤذوهم ، ويفتنوهم عن دينهم ، كما كان المؤمنون في أول الإسلام بمكة.

قال مجاهد : خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلّوا في الكنائس الجامعة ، فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد جهة الكعبة ، يصلّون فيها سرّا (٢).

وثانيها : أنّه لمّا أرسل موسى إلى فرعون ، أمر فرعون بتخريب مساجد بني إسرائيل ، ومنعهم من الصلاة ، فأمرهم الله ـ تعالى ـ باتّخاذ المساجد في بيوتهم ، رواه عكرمة ، عن ابن عبّاس (٣). وهو قول إبراهيم.

وثالثها : أنّه تعالى لمّا أرسل موسى إليهم ، وأظهر فرعون لهم العداوة الشديدة ، أمر الله ـ تعالى ـ موسى ، وهارون ، وقومهما باتّخاذ المساجد على رغم الأعداء ، وتكفّل الله بصونهم عن شرّ الأعداء.

قوله تعالى : (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً) الآية.

لمّا بالغ موسى في إظهار المعجزات ، ورأى القوم مصرّين على الجحود والعناد ؛ دعا عليهم ، ومن حقّ من يدعو على الغير أن يذكر سبب جرمه ، وجرمهم : كان حبّ الدنيا ؛ فلأجله تركوا الدّين ؛ فلهذا قال ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) والزينة : عبارة عن الصحّة ، والجمال ، واللباس ، والدوابّ ، وأثاث البيت ، والمال ما يزيد على هذه الأشياء من الصّامت ، والنّاطق ، وقرأ الفضل الرّقاشي (٤) «أئنّك آتيت».

قوله : «ليضلّوا» في هذه اللّام ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّها لام العلّة ، والمعنى : أنّك آتيتهم ما آتيتهم على سبيل الاستدراج ، فكان الإيتاء لهذه العلة.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٧ / ١١٨).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٩٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٦٦) وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٦٥).

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٦٦ ، البحر المحيط ٥ / ١٨٥ ، الدر المصون ٤ / ٦٥.

٣٩٦

والثاني : أنّها لام الصّيرورة والعاقبة ؛ كقوله : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] ، وقوله : [الوافر]

٢٩٢٨ ـ لدوا للموت وابنوا للخراب

 ......... (١)

وقوله : [الطويل]

٢٩٢٩ ـ وللموت تغذو الولدات سخالها

كما لخراب الدّور تبنى المساكن (٢)

وقوله : [البسيط]

٢٩٣٠ ـ وللمنايا تربّي كلّ مرضعة

وللخراب يجدّ النّاس عمرانا (٣)

والثالث : أنّها للدعاء عليهم بذلك ؛ كأنه قال : ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال ، وليكونوا ضلّالا ، وإليه ذهب الحسن البصريّ ، وبدأ به الزمخشريّ ، وقد استبعد هذا التّأويل بقراءة الكوفيين : «ليضلّوا» بضمّ الياء ، فإنه يبعد أن يدعو عليهم بأن يضلّوا غيرهم ، وقرأ الباقون بفتحها ، وقرأ الشعبيّ (٤) بكسرها ، فوالى بين ثلاث كسرات إحداها في ياء.

وقال الجبائي : إنّ «لا» مقدرة بين اللّام والفعل ، تقديره : لئلّا يضلّوا ، ورأي البصريين في مثل هذا تقدير : «كراهة» ، أي : كراهة أن يضلّوا.

فصل

احتج أهل السّنّة بهذه الآية على أنه ـ تعالى ـ يضلّ الناس من وجهين :

أحدهما : أن اللام في «ليضلّوا» لام التّعليل.

والثاني : قوله : (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا) فقال ـ تعالى ـ : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) قال القاضي : لا يجوز أن يكون المراد من الآية ما ذكرتم لوجوه :

الأول : لأنّه ـ تعالى ـ منزّه عن فعل القبائح ، وإرادة الكفر قبيحة.

وثانيها : أنّه ـ تعالى ـ لو أراد ذلك ، لكان الكافر مطيعا لله بكفره ؛ لأنّ الطاعة : هي الإتيان بمراد الأمر ، ولو كان كذلك ، لما استحقّوا الدّعاء عليهم.

وثالثها : لو جوّزنا إرادة إضلال العباد ، لجوّزنا أن يبعث الأنبياء بالدّعاء إلى الضّلال ، ولجاز أن يقوي الكذّابين الضّالين بإظهار المعجزات ، وفيه هدم الدّين.

ورابعها : أنّه لا يجوز أن يقول لموسى وهارون : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر البيت في البحر المحيط ٥ / ١٨٥ والدر المصون ٤ / ٦٤.

(٤) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١١٩ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٣٩ ، البحر المحيط ٥ / ١٨٥ ، الدر المصون ٤ / ٦٥.

٣٩٧

يَخْشى) [طه : ٤٤] ، وأن يقول : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [الأعراف : ١٣٠] ، ثم إنّه ـ تعالى ـ أراد الضّلال منهم ، وأعطاهم النّعم لكي يضلّوا ، وهذا كالمناقضة ، فلا بدّ من حمل أحدهما على الآخر.

وخامسها : لا يجوز أن يقال : إن موسى دعا ربّه بأن يطمس على أموالهم ؛ لأجل أن لا يؤمنوا ، مع تشدده في إرادة الإيمان. وإذا ثبت هذا ؛ وجب تأويل هذه الكلمة ، وذلك من وجوه:

الأول : أنّ اللّام في «ليضلّوا» : لام العاقبة كما تقدّم ، ولما كانت عاقبة قوم فرعون ، هو الضّلال ، عبّر عن هذا المعنى بهذا اللفظ.

الثاني : أنّ التقدير : لئلّا يضلوا ، كقوله : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦] ، فحذف لدلالة المعقول عليه ، كقوله ـ تعالى ـ : (بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الأعراف : ١٧٢] ، أي : لئلّا تقولوا.

الثالث : أن يكون موسى ذكر ذلك على وجه التّعجّب المقرون بالإنكار ، أي : إنّك أتيتهم بذلك لهذا الغرض فإنّهم لا ينفقون هذه الأموال إلّا فيه ، كأنّه قال : أتيتهم زينة وأموالا لأجل أن يضلّوا عن سبيلك ، ثم حذف حرف الاستفهام ، كما في قوله : [الكامل]

٢٩٣١ ـ كذبتك عينك أم رأيت بواسط

غلس الظّلام من الرّباب خيالا (١)

والمراد : أكذبتك فكذا ههنا.

الرابع : أنّ هذه لام الدّعاء ، وهي لام مكسورة تجزم المستقبل ، ويفتتح بها الكلام ، فيقال : ليغفر الله للمؤمنين ، وليعذّب الله الكافرين ، والمعنى : ربنا ابتليهم بالضّلال عن سبيلك.

الخامس : سلّمنا أنّها لام التّعليل ، لكن بحسب ظاهر الأمر ، لا في نفس الحقيقة ، والمعنى : أنه ـ تعالى ـ لمّا أعطاهم هذه الأموال ، وصارت سببا لبغيهم وكفرهم ، أشبهت حال من أعطى المال لأجل الإضلال ، فورد هذا الكلام بلفظ التّعليل لهذا المعنى.

السادس : أنّ الضّلال قد جاء في القرآن بمعنى : الهلاك ، يقال : ضلّ الماء في اللّبن ، أي : هلك ، فقوله : (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) أي : ليهلكوا ويموتوا ، كقوله ـ تعالى ـ : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [التوبة : ٥٥].

قال ابن الخطيب : واعلم : أنّ الجواب قد تقدّم مرارا ، ونعيد بعضه ، فنقول : الذي يدلّ على أنّ الإضلال من الله ـ تعالى ـ وجوه :

__________________

(١) البيت للأخطل ينظر : ديوانه ٢٤٥ والكتاب ٣ / ١٧٤ والمقتضب ٣ / ٢٩٥ وشرح الكافية ٢ / ٣٧٣ والمغني ١ / ٤٥ والتصريح ٢ / ١٤٤ والخزانة ١١ / ١٣١.

٣٩٨

الأول : أنّ العبد لا يقصد إلا حصول الهداية ، فلمّا لم تحصل الهداية بل حصل الضّلال الذي لا يريده ، علمنا أنّ حصوله ليس من العبد ، بل من الله ـ تعالى ـ.

فإن قالوا : إنّه ظنّ أنّ هذا الضّلال هدى ، فلذلك أوقعه في الوجود فنقول : إقدامه على هذا الجهل ، إن كان بجهل سابق ، فذلك الجهل السابق يكون حصوله لسبق جهل آخر ويلزم التسلسل وهو محال ؛ فوجب أنّ هذه الجهالات والضّلالات لا بدّ من انتهائها إلى جهل أوّل ، وضلال أول ، وذلك لا يمكن أن يكون بإحداث العبد ؛ لأنّه يكرهه ويريد ضدّه ؛ فوجب أن يكون من الله ـ تعالى ـ.

الثاني : أنّه تعالى لمّا خلق الخلق يحبّون المال حبّا شديدا ، بحيث لا يمكنهم إزالة هذا الحبّ عن النّفس ألبتّة ، وكان حصول هذا الحبّ يوجب الإعراض عن خدمة الله وطاعته ، ويوجب التّكبّر عليه ، وترك اللّزوم ؛ فوجب أن يكون فاعل هذا الكفر ، هو الذي خلق الإنسان مجبولا على حبّ هذا المال والجاه.

الثالث : أنّ القدرة بالنّسبة إلى الضّدّين على السّويّة ، فلا يترجّح أحد الطّرفين على الآخر إلّا بمرجّح ، وذلك المرجّح ليس من العبد ، وإلا لعاد الكلام فيه ، فلا بدّ وأن يكون من الله ـ تعالى ـ ، وإذا كان كذلك ، كانت الهداية والضلال من الله ـ تعالى ـ.

وإذا عرفت هذا ، فنقول : أما حملهم اللّام على لام العاقبة فضعيف ؛ لأنّ موسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ما كان عالما بالعواقب.

فإن قالوا : إنّ الله تعالى أخبره بذلك.

قلنا : فلمّا أخبر الله عنهم أنّهم لا يؤمنون ، كان صدور الإيمان منهم محالا ؛ لأنّ ذلك يستلزم انقلاب خبر الله كذبا ، وهو محال ، والمفضي إلى المحال محال.

وأمّا قولهم : يحمل قوله : «ليضلّوا» على أنّ المراد : لئلّا يضلّوا ، كما ذكره الجبائي ، فأقول : إنّه لمّا فسّر قوله ـ تعالى ـ : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء : ٧٩] نقل قراءة (فَمِنْ نَفْسِكَ) على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار ، ثم إنّه استبعد هذه القراءة ، وقال : إنها تقتضي تحريف القرآن ، وتغييره ، وتفتح تأويلات الباطنيّة ـ والباطنية هم الملاحدة ، ويقال لهم : القرامطة ، والإسماعيلية القائلون : بأنّ محمّد بن إسماعيل نسخ شريعة محمّد بن عبد الله ـ ويقال لهم أيضا : الناصرية أتباع محمد بن نصير ، وكان من غلاة الروافض القائلين بالألوهية على توهّم الدرزية أتباع بنشكين الدرزي ، كان من موالي الحاكم أرسله إلى وادي تيم الله بن ثعلبة ، فدعاهم إلى ألوهية الحاكم ويسمونه بالبازي ، والغلام ، ويحلفون به ، ويقال لهم : الحرمية والمحمرة ، وهم الآن يعرفون بالتيامنة لإسكانهم وادي التيم ، ويقال لهم أيضا : الفداوية والرافضة ، وهم يحرفون كلام الله ـ تعالى ـ ورسوله عن مواضعه ، ومقصودهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام ، ويظهرون لهذه الأمور حقائق يعرفونها ، فيقولون : إن الصلوات الخمس معرفة

٣٩٩

أسرارهم ، والصيام المفروض من كتمان أسرارهم ، وحج البيت زيارة شيوخهم ، ويدا أبي لهب أبو بكر وعمر ، والبناء العظيم والإمام المبين علي بن أبي طالب ، فهم لا تحل ذبائحهم ولا يناكحونا ، وتجب مجاهدتهم ؛ لأنهم مرتدون ، قاله ابن تيمية ، وبالغ في إنكار تلك القراءة.

وهذا الوجه الذي ذكره هنا شرّ من ذلك ؛ لأنّه قلب النّفي إثباتا ، والإثبات نفيا ، وتجويزه يفتح باب ألّا يعتمد على القرآن لا في نفيه ، ولا في إثباته ، وحينئذ يبطل القرآن بالكلّيّة ، وهذا بعينه هو الجواب عن قوله المراد فيه الاستفهام ، بمعنى : الإنكار ، فإنّ تجويزه يوجب تجويز مثله في سائر المواضع ، فلعله ـ تعالى ـ إنما قال : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [البقرة : ٤٣] على سبيل الإنكار والتعجّب ، ثم قال : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ).

قال مجاهد : أهلكها ، والطّمس : المسخ (١).

وقال أكثر المفسرين : مسخها الله وغيّرها عن هيئتها.

قال ابن عبّاس : بلغنا أنّ الدّراهم والدّنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها ، صحاحا وأنصافا ، وأثلاثا ، وجعل سكنهم حجارة (٢).

قال محمد بن كعب : «كان الرجل مع أهله في فراشه ، فصارا حجرين ، والمرأة قائمة تخبز فصارت حجرا» (٣) ودعا عمر بن عبد العزيز بخريطة فيها أشياء من بقايا أهل فرعون ، فأخرج منها البيضة منقوشة ، والجوزة مشقوقة وهي حجارة.

(وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي : أقسها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان.

قال الواحدي : «وهذا دليل على أنّ الله يفعل ذلك بمن يشاء ، ولو لا ذلك لما حسن من موسى هذا السّؤال».

قوله : (فَلا يُؤْمِنُوا) يحتمل النّصب والجزم ، فالنّصب من وجهين :

أحدهما : عطفه على «ليضلّوا».

والثاني : نصبه على جواب الدّعاء في قوله : «اطمس» ، والجزم على أنّ «لا» للدّعاء ، كقولك : لا تعذّبني يا ربّ ، وهو قريب من معنى : «ليضلّوا» في كونه دعاء ، هذا في جانب شبه النّهي ، وذلك في جانب شبه الأمر ، و (حَتَّى يَرَوُا) : غاية لنفي إيمانهم ، والأول قول الأخفش ، والثاني بدأ به الزمخشري ، والثالث : قول الكسائيّ ، والفرّاء ؛ وأنشد قول الشاعر : [الطويل]

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٦٠٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٦٧) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٨ / ٢٣٩) عن قتادة.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٦٦) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

٤٠٠