اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

النّقيضين يمتنع أن يكونا حقّين ، وأن يكونا باطلين ، فإذا كان أحدهما حقّا ، وجب كون ما سواه باطلا ، ثم قال (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي : كيف تعدلون عن عبادته ، وأنتم مقرّون بذلك.

قال الجبّائي : دلّت هذه الآية على بطلان قول المجبّرة : أنّه ـ تعالى ـ يصرف الكفّار عن الإيمان ؛ لأنّه لو كان كذلك ، لما جاز أن يقول (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) كما لا يقول إذا عمي أحدهم إني عميت ، وسيأتي جوابه.

فصل

المعنى : أنّ الذي يفعل هذه الأشياء ، هو ربّكم الحقّ ، لا ما أشركتم معه.

قال بعض المتقدّمين : ظاهر هذه الآية ، يدلّ على أنّ ما بعد الله ، هو الضلال ؛ لأنّ أوّلها (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ) ، وآخرها (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) فهذا في الإيمان ، والكفر ليس في الأعمال ، وقال بعضهم : إنّ الكفر تغطية الحقّ ، وكل ما كان غير الحقّ ، جرى هذا المجرى ، فالحرام ضلال ، والمباح هدى ، فإن الله هو المبيح ، والمحرّم.

فصل

قال القرطبي : «روي عن مالك ، في قوله تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) قال : اللّعب بالشطرنج والنّرد من الضلال ، وسئل مالك : عن الرّجل يلعب في بيته ، مع امرأته بأربع عشرة ، فقال : ما يعجبني ، ليس من شأن المؤمن ، قال ـ تعالى ـ : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ ،) وسئل مالك : عن اللّعب بالشطرنج ، فقال : لا خير فيه وهو من الباطل ، واللّعب كلّه من الباطل».

وقال الشّافعيّ : «لاعب الشطرنج ، وغيره ـ إذا لم يكن على وجه القمار ـ لا تردّ شهادته إذا كان عدلا ، ولم تظهر منه ريبة ، ولا كبيرة ، فإن لعب بها قمارا ، وكان معروفا بذلك ، سقطت عدالته ، لأكله المال بالباطل». وقال أبو حنيفة : «يكره اللعب بالشطرنج ، والنّرد ، والأربعة عشر ، وكل اللهو فإن لم تظهر من اللّاعب بها كبيرة ، وكانت مساوئه قليلة ، قبلت شهادته».

قال ابن العربي : «قال الشّافعية : إنّ الشطرنج يخالف النّرد ، لأنّ فيه إكدار الفكر ، واستعمال القريحة ، وأمّا النّرد : فلا يعلم ما يخرج له ، فهو كالاستقسام بالأزلام». وأنّ النّرد هو الذي يعرف بالباطل ، ويعرف في الجاهليّة بالأزلام ، ويعرف أيضا بالنّردشير ، وروي أنّ ابن عمر ، مرّ بغلمان يلعبون بالكجّة ، وهي حفر فيها حصى ، يلعبون بها ، فسدّها ابن عمر ، ونهاهم عنها(١).

ذكر الهروي في باب الكاف مع الجيم ، في حديث ابن عبّاس : في كل شيء قمار ،

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٨ / ٢١٧).

٣٢١

حتى في لعب الصبيان بالكجّة ، وقال ابن الأعرابي : «الكجّة هي : أن يأخذ الصبيّ خرقة ، فيدورها كأنّها كرة ثم يتقامرون بها».

قوله : (كَذلِكَ حَقَّتْ) : الكاف في محلّ نصب ، نعتا لمصدر محذوف ، والإشارة بذلك إلى المصدر المفهوم من «تصرفون» ، أي : مثل صرفهم عن الحقّ ، بعد الإقرار به ، في قوله ـ تعالى ـ : (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) ، وقيل إشارة إلى الحقّ. قال الزمخشري : «كذلك : مثل ذلك الحقّ حقّت كلمة ربّك». قوله : (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنّها في محلّ رفع ؛ بدلا من «كلمة» ، أي : حقّ عليهم انتفاء الإيمان.

الثاني : أنّها في محلّ رفع ، خبرا لمبتدأ محذوف ، أي : الأمر عدم إيمانهم.

الثالث : أنّها في محلّ نصب ، بعد إسقاط الحرف الجارّ.

الرابع : أنّها في محلّ جرّ ، على إعماله محذوفا ، إذ الأصل : لأنّهم لا يؤمنون.

قال الزمخشري : «أو أراد بالكلمة : العدة بالعذاب ، و (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) تعليل ، أي: لأنّهم» ، وهذا إنباء على مذهبهم. وقرأ أبو عمرو (١) ، وابن كثير ، والكوفيون : «كلمات» بالجمع ، وكذا في آخر السورة [يونس : ٩٦] ، وتقدّم ذلك في الأنعام ، وقرأ ابن أبي عبلة (٢) : «إنهم لا يؤمنون» بكسر «إنّ» على الاستئناف ، وفيها معنى التّعليل ، وهذا يقوّي الوجه الصّائر إلى التّعليل.

فصل

احتجّ أهل السنة بهذه الآية : على أنّ الكفر بقضاء الله ، وإرادته ؛ لأنه ـ تعالى ـ أخبر عنهم قطعا أنّهم لا يؤمنون ، فلو آمنوا ، لكان إمّا أن يبقى ذلك الخبر صدقا ، أو لا ، والأوّل باطل ؛ لأنّ الخبر بأنّه لا يؤمن ، يمتنع أن يبقى صدقا حال ما يوجد الإيمان. والثاني باطل ؛ لأنّ انقلاب خبر الله ـ تعالى ـ كذبا محال ، فثبت أنّ صدور الإيمان منهم محال ، والمحال لا يكون مرادا ، فثبت أنّه ـ تعالى ـ ما أراد الإيمان من هذا الكافر ، وأنّه أراد الكفر منه.

ثم نقول إن كان قوله : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) يدلّ على صحّة مذهب القدريّة ، فهذه الآية الموضوعة بجنبه تدلّ على فساده ، وقد كان الواجب على الجبّائيّ مع قوة خاطره ، حين استدلّ بتلك الآية على صحّة قوله ، أن يذكر هذه الحجّة ، ويجيب عنها حتى يحصل مقصوده ، والمراد ب «الكلمة» : حكمه السّابق على الذين فسقوا ، أي : كفروا.

__________________

(١) ينظر : السبعة ص (٣٢٦) ، الحجة ٤ / ٢٧٢ ـ ٢٧٣ ، حجة القراءات ص (٣٣١) ، إعراب القراءات ١ / ٢٦٧ ، إتحاف ٢ / ١٠٩.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١١٨ ، البحر المحيط ٥ / ١٥٦ ، الدر المصون ٤ / ٣٠.

٣٢٢

قوله تعالى : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ)(٣٦)

قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) الآية. هذه هي الحجّة الثانية عليهم.

فإن قيل : القوم كانوا منكرين الإعادة ، والحشر ، والنشر ، فكيف احتجّ عليهم بذلك؟.

فالجواب : أنّه ـ تعالى ـ قدّم في هذه السورة ما يدلّ عليه ، وهو وجوب التمييز بين المحسن والمسيء ، وهذه الدّلالة دلالة ظاهرة قويّة ، لا يمكن للعاقل دفعها ؛ فلأجل قوّتها ، وظهورها تمسّك بها ، سواء الخصم عليها ، أو لا.

فإن قيل : لم أمر رسوله أن يعترف بذلك ، والإلزام إنّما يحصل لو اعترف الخصم به؟.

فالجواب : أنّ الدّليل لمّا كان ظاهرا جليّا ، فإذا أورد على الخصم في معرض الاستفهام ، كأنّه بنفسه يقول : الأمر كذلك ، فكان هذا تنبيها ، على أنّ هذا الكلام بلغ في الوضوح ، إلى حيث لا حاجة فيه إلى إقرار الخصم به ، وأنّه سواء أقرّ ، أو أنكر ، فالأمر متقرّر ظاهر.

قوله : (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) : هذه الجملة جواب لقوله : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ،) وإنّما أتى بالجواب جملة اسمية ، مصرّحا بجزأيها ، معادا فيها الخبر ، مطابقا لخبر اسم الاستفهام ؛ للتأكيد ، والتّثبيت ، ولمّا كان الاستفهام قبل هذا ، لا مندوحة لهم عن الاعتراف به ، جاءت الجملة محذوفا منها أحد جزأيها ، في قوله : (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) ، ولم يحتج إلى التّأكيد بتصريح جزأيها.

فصل

قال القرطبيّ : ومعنى الآية : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) ينشئه من غير أصل ، ولا سبق مثال ، (ثُمَّ يُعِيدُهُ) : يحييه بعد الموت كهيئته ، فإن أجابوك ، وإلّا ف (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، ثم قال : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي : تصرفون عن قصد السّبيل ، والمراد: التّعجّب منهم في الدّنيا من هذا الأمر الواضح الذي دعاهم الهوى والتّقليد إلى مخالفته ؛ لأنّ الإخبار عن كون الأوثان آلهة كذب ، وإفك : الاشتغال بعبادتها ، مع أنّها لا تستحق العبادة أيضا إفك.

قوله تعالى : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) الآية.

٣٢٣

وهذه حجّة ثالثة. واعلم أنّ الاستدلال على وجود الصّانع بالخلق أولا ، ثم بالهداية ثانيا ، عادة مطّردة في القرآن ، قال ـ تعالى ـ حكاية عن الخليل عليه الصلاة والسّلام : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) [الشعراء : ٧٨] ، وحكى عن موسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ في جوابه لفرعون : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠] ، وأمر محمّدا ـ عليه الصلاة والسّلام ـ فقال : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) [الأعلى : ١ ـ ٣].

واعلم أنّ الإنسان له جسد وروح ، فالاستدلال على وجود الصّانع بأحوال الجسد ، هو الخلق ، والاستدلال بأحوال الرّوح ، هو الهداية.

والمقصود من خلق الجسد : حصول الهداية للرّوح ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل : ٧٨] ، وهذا كالتّصريح بأنّه تعالى إنّما خلق الجسد ، وأعطى الحواسّ ؛ لتكون آلة في اكتساب المعارف ، والعلم.

قوله : (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) ، قد تقدم في أول الكتاب : أنّ «هدى» يتعدّى إلى اثنين ثانيهما : إمّا باللّام أو بإلى ، وقد يحذف الحرف تخفيفا [الفاتحة : ٦] ، وقد جمع بين التعديتين هنا بحرف الجر ، فعدّى الأول والثالث ب «إلى» ، والثاني باللّام ، وحذف المفعول الأول من الأفعال الثلاثة ، والتقدير : هل من شركائكم من يهدي غيره إلى الحق ، قل الله يهدي من يشاء للحقّ ، أفمن يهدي غيره إلى الحقّ ، وزعم الكسائي ، والفرّاء ، وتبعهما الزمخشري : أنّ «يهدي» الأول قاصر ، وأنّه بمعنى : اهتدى ، وفيه نظر ؛ لأنّ مقابله ، وهو (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ) متعدّ ، وقد أنكر المبرّد أيضا مقالة الكسائي ، والفراء ، وقال : لا نعرف «هدى» بمعنى : «اهتدى».

قال شهاب الدّين «الكسائي والفرّاء أثبتاه بما نقلاه ، ولكن إنّما ضعف ذلك هنا ؛ لما ذكرت لك من مقابلته بالمتعدّي ، وقد تقدّم أنّ التعدية ب «إلى» أو اللّام ، من باب التّضمن في البلاغة ، ولذلك قال الزمخشري : «يقال : هداه للحقّ وإلى الحقّ ، فجمع بين اللغتين» ، وقال غيره : «إنّما عدّى المسند إلى الله باللّام ؛ لأنّها أدلّ في بابها على المعنى المراد من «إلى» ؛ إذ أصلها لإفادة الملك ، فكأنّ الهداية مملوكة لله ـ تعالى ـ». وفيه نظر ؛ لأنّ المراد بقوله : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) هو الله ـ تعالى ـ ، مع تعدّي الفعل المسند إليه ب «إلى».

قوله : (أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ) : خبر لقوله : (أَفَمَنْ يَهْدِي) ، و «أن» في موضع نصب ، أو جرّ بعد حذف الخافض ، والمفضّل عليه محذوف ، وتقدير هذا كلّه : أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ بأن يتّبع ممّن لا يهدي. ذكر ذلك مكّي بن أبي طالب ، فجعل «أحقّ» هنا على بابها من كونها للتفضيل ، وقد منع أبو حيّان كونها للتّفضيل ، فقال : و «أحقّ» ليست للتفضيل ، بل المعنى : «حقيق بأن يتّبع» ، وجوّز مكّي أيضا في المسألة وجهين آخرين :

٣٢٤

أحدهما : أن تكون «من» مبتدأ أيضا ، و «أن» في محلّ رفع ، بدلا منها بدل اشتمال ، و «أحقّ» خبر على ما كان.

والثاني : أن يكون (أَنْ يُتَّبَعَ) في محلّ رفع بالابتداء ، و «أحقّ» خبره مقدّم عليه. وهذه الجملة خبر ل (مَنْ يَهْدِي) ، فتحصّل في المسألة ثلاثة أوجه.

قوله : (أَمَّنْ لا يَهِدِّي) : نسق على «أفمن» ، وجاء هنا على الأفصح ، من حيث إنّه قد فصل بين «أم» وما عطفت عليه بالخبر ، كقولك : أزيد قائم أم عمرو ، ومثله : (أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) [الفرقان : ١٥] ، وهذا بخلاف قوله ـ تعالى ـ : (أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) [الأنبياء : ١٠٩] وسيأتي هذا في موضعه ، وقرأ أبو بكر عن عاصم (١) : بكسر ياء «يهدّي» وهائه ، وحفص (٢) بكسر الهاء دون الياء ، فأما كسر الهاء ؛ فلالتقاء الساكنين ، وذلك أنّ أصله «يهتدي» ، فلمّا قصد إدغامه سكنت التاء ، والهاء قبلها ساكنة ، فكسرت الهاء لالتقاء الساكنين ، وأبو بكر أتبع الياء للهاء في الكسر ، وقال أبو حاتم : في قراءة حفص «هي لغة سفلى مضر».

ونقل عن سيبويه : أنّه لا يجيز «يهدي» ، ويجيز «تهدي ، وإهدي» ، قال : «لأنّ الكسرة تثقل في الياء» ، يعني : أنّه يجيز كسر حرف المضارعة من هذا النّحو ، نحو : تهدي ونهدي وإهدي ، إذ لا ثقل في ذلك ، ولم يجزه في الياء ؛ لثقل الحركة المجانسة لها عليها ، وهذا فيه غضّ من قراءة أبي بكر ، لكنه قد تواتر قراءة ، فهو مقبول ، وقرأ (٣) أبو عمرو وقالون ، عن نافع : بفتح الياء ، واختلاس فتحة الهاء ، وتشديد الدّال ، وذلك أنّهما لمّا ثقّلا الفتحة للإدغام ، اختلسا الفتحة ؛ تنبيها على أنّ الهاء ليس أصلها الحركة ، بل السّكون ، وقرأ ابن كثير ، وابن عامر (٤) ، وورش : بإكمال فتحة الهاء على أصل النقل ، وقد روي عن أبي عمرو ، وقالوا : اختلاس كسرة الهاء ، على أصل التقاء الساكنين ، والاختلاس للتنبيه على أنّ أصل الهاء السّكون كما تقدّم ، وقرأ أهل المدينة (٥) ـ خلا ورشا ـ بفتح الياء وسكون الهاء وتشديد الدّال ، وهذه القراءة استشكلها جماعة من حيث الجمع بين السّاكنين ، قال المبرد : «من رام هذا ، لا بد أن يحرك حركة خفيّة» قال أبو

__________________

(١) ينظر : السبعة ص (٣٢٦) ، الحجة ٤ / ٢٧٤ ـ ٢٧٥ ، حجة القراءات ص (٣٣١ ـ ٣٣٢) ، إعراب القراءات ١ / ٢٦٨ ، إتحاف ٢ / ١٠٩.

(٢) ينظر : السابق.

(٣) وقرأ بها شيبة والأعرج وأبو جعفر.

ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١١٩ ، البحر المحيط ٥ / ١٥٧ ، الدر المصون ٤ / ٣١.

(٤) ينظر : السبعة ص (٣٢٦) ، الحجة ٤ / ٢٧٤ ـ ٢٧٥ ، حجة القراءات ص (٣٣١ ـ ٣٣٢) ، إعراب القراءات ١ / ٢٦٨ ، إتحاف ٢ / ١٠٩ ـ ١١٠.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١١٩ ، البحر المحيط ٥ / ١٥٧ ، الدر المصون ٤ / ٣١.

٣٢٥

جعفر النّحاس : لا يقدر أحد أن ينطق به. قال شهاب الدّين (١) : «وقد قال في التيسير : «والنّصّ عن قالون بالإسكان» ، قلت : ولا بعد في ذلك ؛ فقد تقدّم أنّ بعض القرّاء يقرأ (نِعِمَّا) [النساء : ٥٨] و (لا تَعْدُوا) [النساء : ١٥٤] بالجمع بين الساكنين ، وتقدّمت لك قراءات كثيرة ، في قوله : (يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) [البقرة : ٢٠] ، وسيأتي مثل هذا في (يَخِصِّمُونَ) [يس : ٤٩].

وقرأ الأخوان (٢) «يهدي» بفتح الياء ، وسكون الهاء ، وتخفيف الدال ، من هدى يهدي ، وفيه قولان :

أحدهما : أنّ «هدى» بمعنى : اهتدى.

والثاني : أنّه متعدّ ، ومفعوله محذوف كما تقدّم ، وتقدم قول الكسائي ، والفرّاء في ذلك ، وردّ المبرد عليهما.

وقال ابن عطيّة : «والذي أقول : قراءة حمزة ، والكسائيّ ؛ تحتمل أن يكون المعنى : أم من لا يهدي أحدا ، إلّا أن يهدى ذلك الأحد بهداية الله ، وأمّا على غيرها من القراءات التي مقتضاها : أم من لا يهتدي ، إلّا أن يهدى. فيتجه المعنى على ما تقدّم» ، ثم قال : «وقيل : تمّ الكلام عند قوله : «أم من (لا يَهِدِّي ،) أي : لا يهدّي غيره» ، ثم قال : «إلّا أنّ يهدى : استثناء منقطع ، أي : لكنه يحتاج إلى أن يهدى ، كما تقول : فلان لا يسمع غيره ، إلّا أن يسمع ، أي : لكنّه يحتاج إلى أن يسمع». انتهى ، ويجوز أن يكون استثناء متصلا ؛ لأنّه إذ ذاك يكون فيهم قابليّة الهداية ، بخلاف الأصنام ، ويجوز أن يكون استثناء من تمام المفعول له ، أي : لا يهدي لشيء من الأشياء ، إلّا لأجل أن يهدى بغيره.

قوله : (فَما لَكُمْ) : مبتدأ وخبر ، ومعنى الاستفهام هنا : الإنكار والتعجّب ، أي : أيّ شيء لكم في اتّخاذ هؤلاء ؛ إذا كانوا عاجزين عن هداية أنفسهم ، فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم؟ وقد تقدّم : أنّ بعض النحويين نصّ على أنّ مثل هذا التركيب ، لا يتمّ إلّا بحال بعده ، نحو : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر : ٤٩] ، (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ) [المائدة : ٨٤] إلى غير ذلك ، وهنا لا يمكن أن تقدّر الجملة بعد هذا التركيب حالا ؛ لأنّها استفهاميّة ، والاستفهاميّة لا تقع حالا.

وقوله : (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) : استفهام آخر ، أي : كيف تحكمون بالباطل ، وتجعلون لله أندادا ، وشركاء؟.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٣١.

(٢) ينظر : السبعة ص (٣٢٦) ، الحجة ٤ / ٧٥ ، حجة القراءات ص (٣٣٢) ، إعراب القراءات ١ / ٢٦٨ ، إتحاف ٢ / ١٠٩ ـ ١١٠.

٣٢٦

فصل

المعنى : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي) : يرشد ، (إِلَى الْحَقِّ) فإذا قالوا : لا ، ولا بدّ لهم من ذلك (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ) أي : إلى الحقّ (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) أي : الله الذي يهدي إلى الحقّ أحق بالاتّباع ، أم الصّنم الذي لا يهتدي ، إلّا أن يهدى؟ فإن قيل : الأصنام جمادات لا تقبل الهداية ، فكيف قال : (إِلَّا أَنْ يُهْدى) ، والصّنم لا يتصوّر أن يهتدي ، ولا أن يهدى؟.

فالجواب من وجوه :

أحدها : أنّ المراد من قوله : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) الأصنام ، والمراد من قوله : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) : رؤساء الكفر ، والضلال ، والدعاة إليهما ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة : ٣١] إلى قوله : (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : أن الله ـ تعالى ـ هدى الخلق إلى الدّين ، بالدّلائل العقليّة ، والنقليّة ، وهؤلاء الدّعاة لا يقدرون أن يهدوا غيرهم ، إلّا إذا هداهم الله ، فكان التّمسك بدين الله ، أولى من قبول قول هؤلاء الجهال.

وثانيها : أن معنى الهداية في حقّ الأصنام : الانتقال ، والهدى : عبارة عن النّقل والحركة ، يقال : أهديت المرأة إلى زوجها ، إذا انتقلت إليه ، والهدي : ما يهدى إلى الحرم من النّعم ، وسميت الهديّة هديّة ؛ لانتقالها من شخص إلى غيره ، وجاء فلان يهادى بين رجلين ، إذا كان يمشي معتمدا عليهما ؛ لضعفه وتمايله. وإذا ثبت ذلك فالمراد : أنّه لا ينتقل من مكان إلى مكان ، إلّا أن يحمل وينقل بين عجز الأصنام.

وثالثها : أنه ذكر الهداية على وجه المجاز ؛ لأنّ المشركين لمّا اتّخذوا الأصنام آلهة ، وأنّها لا تشفع لهم في الآخرة ، وأنّهم نزّلوها منزلة من يعقل ، فلذلك عبّر عنها كما يعبّر عمّن يعلم ويعقل.

ورابعها : أن يحمل على التقدير ، أي : أنّها لو كانت بحيث يمكنها أن تهدي ، فإنّها لا تهدي غيرها ، إلّا بعد أن يهديها غيرها ، ثم قال : (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) أي : تقضون ، حين زعمتم : أنّ لله شريكا.

قوله : (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) الآية.

أي : يقولون إنّ الأصنام آلهة ، وأنّها تشفع لهم في الآخرة ، «ظنّا» : لم يرد به كتاب ولا رسول. وأراد بالأكثر : جميع من يقول ذلك.

وقيل : وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله إلّا ظنّا ؛ لأنّه قول غير مسند إلى برهان عندهم ، بل سمعوه من أسلافهم ، وهذا القول أولى ؛ لأنّا في الأول نحتاج إلى أن نفسّر الأكثر بالكلّ.

٣٢٧

قوله : (لا يُغْنِي) : خبر «إنّ» ، و «شيئا» منصوب على المصدر ، أي : شيئا من الإغناء ، و (مِنَ الْحَقِّ) نصب على الحال من «شيئا» ؛ لأنّه في الأصل صفة له ، ويجوز أن تكون «من» بمعنى «بدل» ، أي : لا يغني بدل الحقّ ، وقرأ الجمهور : «يفعلون» على الغيبة ، وقرأ عبد (١) الله : «تفعلون» خطابا ، وهو التفات بليغ ، ومعنى الآية : إنّ الظّنّ لا يدفع عنهم من عذاب الله شيئا ، وقيل : لا يقوم مقام العلم.

فصل

تمسّك نفاة القياس بهذه الآية ، فقالوا : العمل بالقياس عمل بالظّنّ ، فوجب أن لا يجوز لهذه الآية ، وأجيبوا : بأنّ الدّليل الذي دلّ على وجوب العمل بالقياس ، دليل قاطع ، فكان وجوب العمل بالقياس معلوما ، فلم يكن العمل بالقياس مظنونا ، فأجابوا : بأنّه لو كان الحكم المستفاد من القياس يعلم كونه حكما لله ـ تعالى ـ ، لكان ترك العمل به كفرا ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤] ولمّا لم يكن كذلك ، بطل العمل به ، ثم عبّروا عن هذه الحجّة ، فقالوا : الحكم المستفاد من القياس : إمّا أن يعلم كونه حكما لله ـ تعالى ـ ، أو يظن ، أو لا يعلم ولا يظن.

والأول باطل ، وإلّا لكان من لم يحكم به كافرا ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ،) وبالاتّفاق ليس كذلك.

والثاني : باطل ؛ لأنّ الحكم بالظّنّ لا يجوز ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً).

والثالث : باطل ؛ لأنه إذا لم يكن ذلك الحكم معلوما ، ولا مظنونا ، كان مجرد التّشهي ، فكان باطلا ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) [مريم : ٥٩].

وأجاب مثبتو القياس : بأنّ حاصل هذا الدّليل ، يرجع إلى التّمسك بالعمومات ، والتّمسّك بالعمومات لا يفيد إلّا الظن ، فإذا دلّت العمومات ، على المنع من التّمسّك بالظنّ ، لزم كونها دالّة على المنع من التّمسّك بالظنّ ، وما أفضى ثبوته إلى نفيه ، كان متروكا.

دلّت هذه الآية : على أنّ كلّ من كان ظانّا في مسائل الأصول ، ولم يكن قاطعا ؛ فإنّه لا يكون مؤمنا.

فإن قيل : فقول أهل السّنّة : أنا مؤمن ـ إن شاء الله ـ ، يمنع من القطع ، فوجب أن يلزمهم الكفر.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٤٦ ، المحرر الوجيز ٣ / ١١٩ ، البحر المحيط ٥ / ١٥٨ ، الدر المصون ٤ / ٣٢.

٣٢٨

فالجواب من وجوه :

الأول : مذهب الشافعي : أنّ الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد ، والإقرار ، والعمل ، والشّك إنّما هو في هذه الأعمال ، هل هي موافقة لأمر الله ـ تعالى ـ؟ والشّك في أحد أجزاء الماهيّة ، لا يوجب الشّك في تمام الماهيّة.

الثاني : أنّ الغرض من قوله : إن شاء الله ، بقاء الإيمان عند الخاتمة.

الثالث : الغرض منه هضم النّفس وكسرها.

قوله تعالى : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٤)

قوله ـ تعالى ـ : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) الآية.

لمّا تقدّم قول القوم : (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [يونس : ٢٠] ، وذكروا ذلك ؛ لاعتقادهم ؛ أنّ القرآن ليس بمعجز ، وأنّ محمدا أنّما أتى به من عند نفسه ؛ افتعالا ، واختلاقا ، وذكر ـ تعالى ـ أجوبة كثيرة عن هذا الكلام ، وامتدّت تلك البيانات إلى هذا الموضع ، بيّن ـ تعالى ـ هنا : أنّ إتيان محمّد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بهذا القرآن ، ليس هو افتراء على الله ـ تعالى ـ ، وإنّما هو وحي نازل عليه من عند الله ، وأنّه مبرّأ عن الافتعال ، والافتراء ، ثم احتجّ على صحّة هذا الكلام ، بقوله : (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) [يونس : ٣٨].

قوله : (أَنْ يُفْتَرى) : فيه وجهان :

أحدهما : أنّه خبر «كان» ، تقديره : وما كان هذا القرآن افتراء ، أي : ذا افتراء ، إذ جعل نفس المصدر مبالغة ، أو يكون بمعنى : مفترى.

والثاني : زعم بعضهم : أنّ «أن» هذه هي المضمرة بعد لام الجحود ، والأصل : وما كان هذ القرآن ليفترى ، فلمّا حذفت لام الجحود ، ظهرت «أن» ، وزعم : أنّ اللّام ، و «أن» يتعاقبان ، فتحذف هذه تارة ، وتثبت الأخرى ، وهذا قول مرغوب عنه ، وعلى هذا

٣٢٩

القول ، يكون خبر «كان» محذوفا ، و «أن» وما في حيّزها ، متعلقة بذلك الخبر ، وقد تقدّم تحرير ذلك [البقرة ١٤٣] ، و (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلّق ب «يفترى» والقائم مقام الفاعل ضمير عائد على القرآن.

قوله : (وَلكِنْ تَصْدِيقَ) : عطف على خبر «كان» ، ووقعت «لكن» هنا أحسن موقع ؛ إذ هي بين نقيضين : وهما التكذيب ، والتّصديق المتضمّن للصدق. وقرأ الجمهور : «تصديق» و «تفصيل» بالنصب ، وفيه أوجه :

أحدها : العطف على خبر «كان» كما تقدّم ، ومثله : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) [الأحزاب : ٤].

والثاني : أنّه خبر «كان» مضمرة ، تقديره : ولكن كان تصديق ، وإليه ذهب الكسائيّ ، والفرّاء ، وابن سعدان ، والزجاج ، وهذا كالذي قبله في المعنى.

والثالث : أنّه منصوب على المفعول من أجله لفعل مقدّر ، أي : وما كان هذا القرآن أن يفترى ، ولكن أنزل للتّصديق.

والرابع : أنه منصوب على المصدر بفعل مقدّر أيضا ، والتقدير : ولكن يصدّق تصديق الذي بين يديه من الكتب.

وقرأ عيسى (١) بن عمر : «تصديق» بالرفع ، وكذلك التي في يوسف ، ووجهه الرّفع على خبر مبتدأ محذوف ، أي : ولكن هو تصديق ؛ ومثله قول الشاعر : [الوافر]

٢٩٠٣ ـ ولست الشّاعر السّفساف فيهم

ولكن مدره الحرب العوان (٢)

برفع «مدره» ، على تقدير : أنا مدره.

وقال مكي (٣) : «ويجوز عندهما ـ أي الكسائي والفرّاء ـ. الرّفع على تقدير : ولكن هو تصديق» ، وكأنّه لم يطّلع على أنّها قراءة ، وقد ورد في قراءات السّبعة : التّخفيف ، والتّشديد في «لكن» ، نحو : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ) [البقرة : ١٠٢] ، (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧].

قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) : فيه أوجه :

أحدها : أن يكون حالا من «الكتاب» وجاز مجيء الحال من المضاف إليه ؛ لأنّه مفعول في المعنى ، والمعنى : وتفصيل الكتاب منتفيا عنه الرّيب.

والثاني : أنّه مستأنف فلا محلّ له من الإعراب.

__________________

(١) ينظر : إتحاف ٢ / ١١١ ، الكشاف ٢ / ٣٤٧ ، البحر المحيط ٥ / ١٥٩ ، الدر المصون ٤ / ٣٣.

(٢) ينظر البيت في البحر المحيط ٥ / ١٥٩ والدر المصون ٤ / ٣٣.

(٣) ينظر : المشكل ١ / ٣٨٢.

٣٣٠

والثالث : أنّه معترض بين «تصديق» ، وبين (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ).

قال الزمخشري (١) : «فإن قلت : بم اتّصل قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)؟.

قلت : هو داخل في حيّز الاستدراك ، كأنّه قيل : ولكن تصديقا ، وتفصيلا منتفيا عنه الريب ، كائنا من ربّ العالمين ، ويجوز أن يراد به : ولكن كان تصديقا من ربّ العالمين ، وتفصيلا منه ، لا ريب في ذلك ، فيكون (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) : متعلّقا ب «تصديق» ، و «تفصيل» ، ويكون (لا رَيْبَ فِيهِ) : اعتراضا ، كما تقول : زيد ـ لا شكّ فيه ـ كريم». انتهى.

قوله : (مِنْ رَبِّ) : يجوز فيه أوجه :

أحدها : أن يكون متعلّقا ب «تصديق» أو ب «تفصيل» وتكون المسألة من باب التنازع ، إذ يصحّ أن يتعلّق بكلّ من العاملين ، من جهة المعنى ، وهذا هو الذي أراد الزمخشري ، بقوله : فيكون (مِنْ رَبِّ) : متعلقا ب «تصديق» ، و «تفصيل» ، يعني : أنه متعلّق بكل منهما ، من حيث المعنى ، وأمّا من حيث الإعراب ، فلا يتعلّق إلّا بأحدهما ، وأمّا الآخر فيعمل في ضميره ، كما تقدّم تحريره ، والإعمال هنا حينئذ إنّما هو للثّاني ، بدليل الحذف من الأول.

والوجه الثاني : أن (مِنْ رَبِّ) : حال ثانية.

والثالث : أنّه متعلّق بذلك الفعل المقدّر ، أي : أنزل للتّصديق من ربّ العالمين.

فصل

المعنى : وما ينبغي لمثل هذا القرآن ، أن يفترى من دون الله ، كقوله : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) [آل عمران : ١٦١] ، وقيل : «أن» بمعنى : اللّام ، أي : وما كان هذا القرآن ليفترى ، كقوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) [التوبة : ١٢٢] ، و (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٧٩] ، و (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) [آل عمران : ١٧٩] أي : ليس وصفه هذا القرآن وصف شيء يمكن أن يفترى على الله ، والافتراء : الافتعال ، من أفريت الأديم : إذا قدّرته للقطع ، ثم استعمل في الكذب ، كما استعمل قولهم : اختلق فلان الحديث في الكذب ، ثم إنّه ـ تعالى ـ احتجّ على صحّة الدّعوى بأمور :

الأول : قوله : (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي : إن محمّدا ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كان رجلا أمّيّا ، لم يتعلّم العلم ، وما كانت مكّة بلدة العلماء ، وليس فيها شيء من كتب العلم ، ثم إنّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أتى بهذا القرآن المشتمل على أقاصيص الأولين ، والقوم كانوا في غاية العداوة له ، فلو لم تكن هذه الأقاصيص موافقة لما في التّوراة ، والإنجيل ، لقدحوا فيه وبالغوا في الطّعن ، فلمّا لم يقل أحد ذلك ، مع شدّة حرصهم على

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٤٧.

٣٣١

الطّعن فيه ، علمنا أنّه أتى بتلك الأقاصيص ، مطابقة للتوراة والإنجيل ، مع أنّه ما طالعهما ، ولا تتلمذ لأحد فيهما ، فدلّ ذلك : على أنّه إنما أتى بهذه الأشياء من قبل الوحي.

الحجة الثانية : أنّ كتب الله المنزّلة ، دلّت على مقدم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تقدم في تفسير قوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة : ٤٠] فكان مجيء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم موافقا لهما في تلك الكتب ، ومصدقا لما فيها من البشارة بمجيئه ، فكان هذا عبارة عن تصديق الذي بين يديه.

والدليل الثاني : قوله تعالى : (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) واعلم : أنّ العلوم : إمّا أن تكون دينيّة ، أو ليست دينيّة.

والقسم الأول أرفع حالا ، وأعظم شأنا من القسم الثاني ، والدينيّة : إمّا أن تكون علم العقائد والأديان ، أو علم الأعمال.

فأما علم العقائد والأديان : فهو عبارة عن معرفة ذاته ، ومعرفة صفات جلاله ، وصفات أفعاله ، وأحكامه ، وأسمائه ، والقرآن مشتمل على دلائل هذه المسائل ، وتفاريعها ، وتفاصيلها على وجه لا يساويه شيء من الكتب ، ولا يقرب منه.

وأمّا علم الأعمال فهو :

إمّا عبارة عن علم التكاليف الظاهرة ، وهو علم الفقه ، ومعلوم أنّ جميع الفقهاء إنما استنبطوا مباحثهم من القرآن.

وإمّا عبارة عن علم الباطن ورياضة القلوب ؛ ففي القرآن من مباحث هذا العلم ، ما لا يكاد يوجد في غيره ؛ كقوله : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩] ، وقوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) [النحل : ٩٠] الآية ، إلى غير ذلك.

فثبت أنّ القرآن مشتمل على تفاصيل جميع العلوم الشريفة ؛ فكان ذلك معجزا.

ثم قال : (لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) وذلك لأنّ الكتاب الطويل المشتمل على العلوم الكثيرة ؛ لا بدّ وأن يقع فيه نوع من التناقض ، وحيث خلا هذا الكتاب عنه ، علمنا أنّه من عند الله ، قال ـ تعالى ـ : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢].

قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) الاية.

لمّا أقام الدّلائل على أنّ هذا القرآن ، لا يليق بحاله أن يكون مفترى ، أعاد مرّة أخرى بلفظ الاستفهام ، على سبيل الإنكار ، إبطال هذا القول ، فقال : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) ، وقد تقدّم تقرير هذه الحجّة في البقرة ، عند قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) [البقرة : ٢٣].

قوله : (أَمْ يَقُولُونَ) : في «أم» هذه وجهان :

٣٣٢

أحدهما : أنّها منقطعة ، فتقدّر ب «بل» ، والهمزة عند سيبويه ، وأتباعه ، والتقدير : بل أتقولون ، انتقل عن الكلام الأول ، وأخذ في إنكار قول آخر.

والثاني : أنّها متصلة ، ولا بدّ حينئذ من حذف جملة ؛ ليصحّ التعادل ، والتقدير : أيقرون به ، أم يقولون افتراه ، وقال بعضهم : «أم» هذه بمنزلة الهمزة فقط ، وعبّر بعضهم عن ذلك ، فقال : «الميم زائدة على الهمزة» وهذا قول ساقط ؛ إذ زيادة الميم قليلة جدّا ، ولا سيّما هنا ، وزعم أبو عبيدة : «أنها بمعنى : الواو ، والتقدير : ويقولون افتراه».

قوله : (قُلْ فَأْتُوا) : جواب شرط مقدّر ، قال الزمخشري : «قل : إن كان الأمر كما تزعمون ، فأتوا أنتم على وجه الافتراء بسورة مثله ، فأنتم مثلي في العربيّة ، والفصاحة ، والأبلغيّة».

وقرأ (١) عمرو بن فائد : «بسورة مثله» بإضافة «سورة» إلى «مثله» على حذف الموصول ، وإقامة الصّفة مقامه ، والتقدير : بسورة كتاب مثله ، أو بسورة كلام مثله ، ويجوز أن يكون التقدير : فأتوا بسورة بشر مثله ، فالضّمير يجوز أن يعود في هذه القراءة على القرآن ، وأن يعود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمّا في قراءة العامّة ؛ فالضمير للقرآن فقط.

فإن قيل : لم قال في البقرة : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] ، وقال هنا : «فأتوا بسورة مثله»؟.

فالجواب : أنّ محمدا ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كان أمّيّا ، لم يتلمذ لأحد ، ولم يطالع كتابا فقال في سورة البقرة : (مِنْ مِثْلِهِ) أي : فليأت إنسان يساوي محمّدا في هذه الصّفات ، وعدم الاشتغال بالعلوم ، بسورة تساوي هذه السّورة ، وحيث لا يقدرون على ذلك ؛ فظهور مثل هذه السّورة من إنسان مثل محمّد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، في عدم التتلمذ والتّعلم ، يكون معجزا.

وهنا بيّن أن السّورة في نفسها معجزة في نفسها ؛ فإنّ الخلق وإن تتلمذوا وتعلّموا ؛ فإنّه لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سورة واحدة من هذه السور ؛ فلذلك قال ـ تعالى ـ ههنا : «فأتوا بسورة مثله».

فصل

تمسّك المعتزلة بهذه الآية : على أنّ القرآن مخلوق ؛ قالوا : إنّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ تحدّى العرب بالقرآن ؛ والمراد بالتّحدّي : أنّه يطلب الإتيان بمثله منهم ؛ فإذا عجزوا عنه ، ظهر كونه حجّة من عند الله ـ تعالى ـ ، دالّة على صدقه ، وهذا إنّما يمكن ، إذا كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة ، ولو كان القرآن قديما ؛ لكان الإتيان

__________________

(١) قال أبو حاتم : أمر عبد الله الأسود أن يسأل عمر عن إضافة «سورة» أو تنوينها ؛ فقال له عمر : كيف شئت.

ينظر : الكشاف ٢ / ٣٤٧ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٢١ ، البحر المحيط ٥ / ١٥٩ ، الدر المصون ٤ / ٣٤.

٣٣٣

بمثل القديم محالا في نفس الأمر ؛ فوجب ألا يصحّ التّحدّي به.

وأجيبوا : بأنّ القرآن اسم يقال بالاشتراك على الصّفة القديمة ، القائمة بذات الله ـ تعالى ـ ، وعلى هذه الحروف والأصوات ، ولا نزاع في أنّ هذه الكلمات المركّبة من هذه الحروف والأصوات ، محدثة مخلوقة ، والتّحدي إنما وقع بها لا بالصّفة القديمة.

ثم قال تعالى : (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) : ممّن تعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) ليعينوكم على ذلك ، (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنّ محمدا افتراه ، والمراد منه : كيف يمكن الإتيان بهذه المعارضة ، لو كانوا قادرين عليها وتقريره : أنّ الجماعة إذا تعاونت ، وتعاضدت ، صارت تلك العقول الكثيرة ، كالعقل الواحد ، فإذا توجّهوا نحو شيء واحد ، قدر مجموعهم على ما يعجز عنه كل واحد عند انفراده ، فكأنّه ـ تعالى ـ يقول : هب أنّ عقل الواحد ، والاثنين منكم ، لا يفي باستخراج معارضة القرآن ، فاجتمعوا ، وليعن بعضكم بعضا في هذه المعارضة ، فإذا عرفتم عجزكم حالة الاجتماع ، وحالة الانفراد عن هذه المعارضة ، فحينئذ : يظهر أنّ تعذر هذه المعارضة ، إنما كان ؛ لأنّ قدرة البشر عاجزة عنها ؛ فحينئذ يظهر أنّ ذلك فعل الله ، لا فعل البشر.

فظهر بما تقرّر : أنّ مراتب تحدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن ستّ :

أولها : أنّه تحدّاهم بكلّ القرآن ، في قوله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨].

وثانيها : أنّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ تحدّاهم بعشر سور ، في قوله : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [هود : ١٣].

وثالثها : أنّه تحدّاهم بسورة واحدة ، في قوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) [يونس : ٣٨].

ورابعها : تحدّاهم بحديث مثله ، في قوله (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) [الطور : ٣٤].

وخامسها : أنّ في تلك المراتب الأربع ، كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجل ، يساوي رسول الله في عدم التتلمذ والتعليم ، ثمّ في سورة يونس : طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إنسان ، سواء تعلّم العلوم ، أو لم يتعلّمها.

وسادسا : أنّ في المراتب المتقدّمة تحدّى كل واحد من الخلق ، وفي هذه المرتبة تحدّى مجموعهم ، وجوّز أن يستعين البعض بالبعض في الإتيان بهذه المعارضة ، كما قال : (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس : ٣٨] ، فهذا مجموع الدّلائل التي ذكرها الله ـ تعالى ـ في إثبات أنّ القرآن معجز ، ثمّ إنّه ـ تعالى ـ ذكر السبب الذي لأجله كذّبوا القرآن.

فقال : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) يعني : كذّبوا بالقرآن ، ولم يحيطوا بعلمه.

قوله : (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) : جملة حالية من الموصول ، أي : سارعوا إلى تكذيبه

٣٣٤

حال عدم إتيان التأويل ، قال الزمخشري : «فإن قلت : ما معنى التوقّع في قوله ـ تعالى ـ : (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)؟ قلت : معناه : كذّبوا به على البديهة ، قبل التّدبّر ، ومعرفة التأويل» ، ثمّ قال أيضا : «ويجوز أن يكون المعنى : ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب ، أي : عاقبته حتى يتبيّن لهم : أكذب هو ، أم صدق». انتهى.

وفي وضعه «لم» موضع «لمّا» نظر لما عرفت ما بينهما من الفرق ، ونفيت جملة الإحاطة ب «لم» ، وجملة إتيان التأويل ب «لمّا» ؛ لأنّ «لم» للنّفي المطلق على الصّحيح ، و «لمّا» لنفي الفعل المتّصل بزمن الحال ، فالمعنى : أنّ عدم التّأويل متّصل بزمن الإخبار.

فصل

قيل المعنى : بل كذّبوا بالقرآن (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) أي : عاقبة ما وعد الله في القرآن ؛ أنّه يئول إليه أمرهم من العقوبة ، يريد : أنّهم لم يعلموا ما يئول إليه عاقبة أمرهم.

وقيل : كلّما سمعوا شيئا من القصص ، قالوا : ليس في هذا الكتاب ، إلّا أساطير الأولين ، ولم يعرفوا أنّ المقصود منها ، ليس هو نفس الحكاية ، بل أمور أخرى ، وهي : بيان قدرة الله ـ تعالى ـ على التصرّف في هذا العالم ، ونقل أهله من العزّ إلى الذّل ، ومن الذّلّ إلى العزّ ، وذلك دليل على القدرة الكاملة ، وأيضا : تدلّ على أنّ الدنيا فانية غير باقية ؛ كما قال ـ تعالى ـ : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) [يوسف : ١١١] ، وأيضا فهي دلالة على العجز ؛ لكون النبي ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لم يتعلّم ، ولم يتتلمذ لأحد ؛ فدلّ ذلك على أنّه وحي من الله ـ تعالى ـ ، كما قال في الشعراء بعد ذكر القصص : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء : ١٩٢ ـ ١٩٤] ، وقيل : إنّهم كانوا كلّما سمعوا حروف التّهجّي في أوائل السور ، ولم يفهموها ، ساء ظنّهم بالقرآن ؛ فأجاب ـ تعالى ـ بقوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) [آل عمران : ٧] ، وقيل : إنّهم لمّا سمعوا القرآن ينزل شيئا فشيئا ، ساء ظنهم ، وقالوا : لو أنزل عليه القرآن جملة واحدة ؛ فأجاب ـ تعالى ـ : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) [الفرقان : ٣٢] ، وقيل : إنّ القرآن لمّا كان مملوءا من إثبات الحشر والنشر ، وكانوا ألفوا الحياة ، فاستبعدوا حصول الحياة بعد الموت ، فكذّبوا بالقرآن ، وقيل : إنّ القرآن لمّا كان مملوءا بالأمر بالصّلاة ، والزكاة ، والعبادات ، قال القوم : إن إله العالمين غنيّ عنّا ، وعن طاعتنا ، وأنّه ـ تعالى ـ أجلّ من أن يأمرنا بشيء لا فائدة فيه ، فأجاب الله عنه ، بقوله : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] ، وبالجملة : فشبهات الكفار كثيرة ؛ فهم لما رأوا القرآن مشتملا على أمور عرفوا حقيقتها ، ولم يطلعوا على وجه الحكمة فيها ، لا جرم كذّبوا بالقرآن.

قوله : «كذلك» : نعت لمصدر محذوف ، أي : مثل ذلك التّكذيب ، كذّب الذين من قبلهم ، أي : قبل النظر ، والتدبّر.

٣٣٥

وقوله : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ) كيف خبر ل «كان» ، والاستفهام معلّق للنّظر.

قال ابن عطيّة : «قال الزجاج : «كيف» في موضع نصب على خبر «كان» ، ولا يجوز أن يعمل فيها «انظر» ؛ لأنّ ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه ، هذا قانون النحويّين ؛ لأنّهم عاملوا «كيف» في كلّ مكان معاملة الاستفهام المحض ، في قولك «كيف زيد» ، ول «كيف» تصرفات أخرى ؛ فتحلّ محلّ المصدر الذي هو «كيفيّة» ، وتخلع معنى الاستفهام ، ويحتمل هذا الموضع أن يكون منها. ومن تصرّفاتها قولهم : «كن كيف شئت» ، وانظر قول البخاريّ : «يف كان بدء الوحي ؛ فإنه لم يستفهم». انتهى.

فقول الزجاج : لا يجوز أن تعمل «انظر» في «كيف» ، يعنى : لا تتسلّط عليها ، ولكن هو متسلّط على الجملة المنسحب عليها حكم الاستفهام ، وهكذا سبيل كلّ تعليق.

قال أبو حيّان : «وقول ابن عطيّة (١) : هذا قانون النّحويين ... إلى آخره ، ليس كما ذكر ، بل ل «كيف» معنيان :

أحدهما : الاستفهام المحض ، وهو سؤال عن الهيئة ، إلّا أن يعلّق عنها العامل ، فمعناها معنى الأسماء التي يستفهم بها إذا علّق عنها العامل.

والثاني : الشرط ؛ كقول العرب : «كيف تكون أكون» ، وقوله : ول «كيف» تصرفات إلى آخرة ليس «كيف» تحلّ محلّ المصدر ، ولا لفظ «كيفية» هو مصدر ؛ إنّما ذلك نسبة إلى «كيف» ، وقوله : «ويحتمل أن يكون هذا الموضع منها ، ومن تصرّفاتها قولهم : كن كيف شئت» لا يحتمل أن يكون منها ؛ لأنّه لم يثبت لها المعنى الذي ذكر ، من كون «كيف» بمعنى : «كيفية» ، وادّعاء مصدرية «كيفية».

وأمّا «كن كيف شئت» : ف «كيف» ليست بمعنى : «كيفية» ؛ وإنّما هي شرطيّة ، وهو المعنى الثاني الذي لها ، وجوابها محذوف ، التقدير : كيف شئت فكن ؛ كما تقول : «قم متى شئت» ، ف «متى» اسم شرط ظرف لا يعمل فيه «قم» ، والجواب محذوف ، تقديره : متى شئت فقم ، وحذف الجواب ؛ لدلالة ما قبله عليه ؛ كقولهم : «اضرب زيدا إن أساء إليك» ، التقدير : إن أساء إليك فاضربه ، وحذف «فاضربه» لدلالة «اضرب» المتقدّم عليه ، وأمّا قول البخاريّ : «كيف كان بدء الوحي» ؛ فهو استفهام محض :

إمّا على سبيل الحكاية ؛ كأنّ سائلا سأله ، فقال : كيف كان بدء الوحي.

وإمّا أن يكون من قوله هو ، كأنّه سأل نفسه : كيف كان بدء الوحي ، فأجاب بالحديث الذي فيه كيفيّة ذلك».

وقوله : «الظّالمين» من وضع الظّاهر موضع المضمر ، ويجوز : أن يراد به ضمير من

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٢١.

٣٣٦

عاد عليه ضمير (بَلْ كَذَّبُوا) ، وأن يراد به (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

ومعنى الآية : أنّهم طلبوا الدّنيا ، وتركوا الآخرة ، فبقوا في الخسار العظيم ، وقيل : المراد : عذاب الاستئصال الذي نزل بالأمم السّابقة.

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) الآية.

لمّا قال : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) والمراد منه : تسليط العذاب عليهم في الدّنيا ، أتبعه بقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) تنبيها على أنّ الصّلاح عنده ـ تعالى ـ كان في هذه الطائفة ، والأقرب : أنّ الضمير في قوله «به» يرجع إلى «العذاب» ؛ لأنّه المذكور من قبل ، وقيل إلى : القرآن ، واختلفوا في قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) لأنّ «يؤمن» يصلح للحال ، والاستقبال ، فحمله بعضهم على الحال ، أي : ومنهم من يؤمن بالقرآن باطنا ؛ لكنّه يتعمد الجحد. ومنهم من باطنه كظاهره.

وقيل : المراد : الاستقبال ، أي : ومنهم من يؤمن به في المستقبل ؛ بأن يتوب عن الكفر ، ومنهم من يصرّ على الكفر.

(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) أي : بأحوالهم ، أي : هل يبقوا على الكفر أو يتوبوا.

ثم قال : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي ،) وجزاؤه (وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) ، وجزاؤه (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس : ٤١] ، هذا كقوله ـ تعالى ـ : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) [الشورى : ١٥] ، ومعنى الكلام : الردع والزجر ، وقيل : معناه : استمالة قلوبهم ، قال مقاتل والكلبيّ : «هذه الآية منسوخة بآية السيف» ، وهذا بعيد ؛ لأنّ شرط النّاسخ أن يكون رافعا لحكم المنسوخ ، ومدلول هذه الآية : اختصاص كلّ واحد بأفعاله ، وثمراتها من الثواب والعقاب ، وذلك لا يقتضي حرمة القتال ، فآية القتال ما رفعت شيئا من مدلولات هذه الآية ، فكان القول بالنسخ باطلا.

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) الآية.

لمّا قسّم الكفار في الآية الأولى إلى : من يؤمن ، ومن لا يؤمن ، قسّم من لا يؤمن ههنا إلى قسمين : منهم من يكون في نهاية البغض والعداوة ، ومنهم من لا يكون كذلك ، فوصف ههنا القسم الأوّل ، فقال : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) مع أنّه يكون كالأصمّ ، من حيث إنّه لا ينتفع ألبتّة بذلك الكلام ، فإنّ الإنسان إذا قوي بغضه لإنسان آخر ، كان معرضا عن سماع كلامه ، ولا يلتفت إليه ، كما أنّ الصّمم في الأذن يمنع إدراك الصوت ، والعمى في العين يمنع إدراك البصر ، فكذا البغض الشديد يمنع من الوقوف على محاسن كلامه ، ويمنع الوقوف على محاسن من يعاديه.

قوله : (مَنْ يَسْتَمِعُونَ) : مبتدأ ، وخبره الجارّ قبله ، وأعاد الضمير جمعا ؛ مراعاة لمعنى «من» ، والأكثر مراعاة لفظه ، كقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) [يونس : ٤٣].

٣٣٧

قال ابن عطيّة : «جاء ينظر على لفظ «من» ، وإذا جاء على لفظها ، فجائز أن يعطف عليه آخر على المعنى ، وإذا جاء أولا على معناها ، فلا يجوز أن يعطف بآخر على اللفظ ؛ لأنّ الكلام يلبس حينئذ».

قال أبو حيّان (١) : «وليس كما قال ، بل يجوز أن تراعي المعنى أولا ، فتعيد الضّمير على حسب ما تريد به من المعنى : من تأنيث ، وتثنية ، وجمع ، ثم تراعي اللفظ فتعيد الضمير مفردا مذكرا ، وفي ذلك تفصيل تقدم أول البقرة [البقرة ٨].

فصل

أخبر ـ تعالى ـ في الآية أنّ الإيمان ، والتّوفيق به لا بغيره ، فقال : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) بأسماعهم الظاهرة ، ولا ينفعهم ، (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ) يريد : صمم القلب (وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) : بعينه الظاهرة ولا ينفعه ، (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) يريد : عمى القلب ، (وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) وهذه التّسلية من الله ـ عزوجل ـ لنبيّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ يقول : إنّك لا تقدر أن تسمع من سلبته السّمع ، ولا أن تهدي من سلبته البصر ، ولا أن توفق للإيمان من حكمت عليه بأنّه لا يؤمن. والمقصود : إعلام الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : بأنهم قد بلغوا في معرض العقل ، إلى حيث لا يقبلون العلاج ، فالطّبيب إذا رأى مريضا لا يقبل العلاج ، أعرض عنه ، ولم يستوحش من عدم قبوله للعلاج ، فكذلك أنت لا تستوحش من حال هؤلاء الكفّار.

فصل

احتج أهل السّنّة بهذه الآية : على أنّ أفعال العباد من الله ؛ لأنّ الآية دلّت على : أنّ قلوب الكفار بالنسبة إلى الإيمان ، كالأصمّ بالنسبة إلى استماع الكلام. وكالأعمى بالنسبة إلى نظر الأشياء ، فكما أنّ هذا ممتنع ؛ فكذلك حصول الإيمان في القلب ليس باختيار الإنسان ، واحتجّ المعتزلة على صحّة قولهم ، بقوله ـ تعالى ـ بعدها : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [يونس : ٤٤] فدلّ ذلك على : أنّه ـ تعالى ـ ما ألجأ أحدا إلى فعل القبائح ، ولكنّهم يقدمون عليها باختيارهم ، وأجاب الواحدي : «بأنّه ـ تعالى ـ إنّما نفى الظلم عن نفسه ؛ لأنّه يتصرف في ملك نفسه ، ومن كان كذلك ، لم يكن ظالما ، وإنّما قال : (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) لأنّ الفعل منسوب إليهم بسبب الكسب».

فصل

احتجّ ابن قتيبة بهذه الآية ، على أنّ السّمع أفضل من البصر ؛ لأنّه ـ تعالى ـ قرن بذهاب السّمع ، ذهاب العقل ، ولم يقرن بذهاب النّظر ، إلّا ذهاب البصر ، فكان السّمع

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٦٢.

٣٣٨

أفضل من البصر ، وردّه ابن الأنباري : بأنّ الذي نفاه الله من السّمع ، بمنزلة ما نفاه من البصر ؛ لأنّه ـ تعالى ـ أراد إبصار القلوب ، ولم يرد إبصار العيون ، والذي يبصره القلب ، هو الذي يعقله.

واحتجّ ابن قتيبة بحجة أخرى ، فقال : كلّما ذكر الله السّمع في القرآن ، فإنّه غالبا يقدم السّمع على البصر ، فدل على أنّ السّمع أفضل من البصر ، وذكر بعض النّاس في تفضيل السمع على البصر وجوها أخر.

أحدها : أنّ العمى قد وقع في حقّ الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ ، وأمّا الصّمم فغير جائز عليهم ؛ لأنّه يخلّ بأداء الرّسالة ؛ لأنّه إذا لم يسمع كلام السائلين ، تعذّر عليه الجواب ، فيعجز عن تبليغ الشّرائع.

وثانيها : أنّ القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجهات ، والقوة الباصرة لا تدرك المرئي إلّا من الجهة المقابلة وحدها.

وثالثها : أنّ الإنسان إنّما يستفيد العلم من أستاذه ، وذلك لا يمكن إلا بقوّة السمع ، ولا يتوقف على قوّة البصر ، فكان السّمع أفضل.

ورابعها : أنّه ـ تعالى ـ قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق : ٣٧] ، والمراد بالقلب ههنا : العقل ، فجعل السّمع قرينا للعقل ، ويؤيّده قوله ـ تعالى ـ : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) [الملك : ١٠] ، فجعلوا السّمع سببا للخلاص من عذاب السّعير.

وخامسها : أنّ المعنى الذي به يمتاز الإنسان عن سائر الحيوانات ؛ هو النّطق والكلام ، وإنما ينتفع بذلك القوّة السّامعة ، فمتعلق السمع : النطق الذي شرف الإنسان به ، ومتعلّق البصر : إدراك الألوان والأشكال ، وذلك أمر يشترك فيه النّاس ، وسائر الحيوانات ؛ فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر.

وسادسها : أنّ الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ يراهم النّاس ، ويسمعون كلامهم ؛ فنبوّتهم ما حصلت بما معهم من الصّفات المرئيّة ، وإنما حصلت بما معهم من الأقوال المسموعة ، وهو تبليغ الشرائع والأحكام ؛ فوجب أن يكون المسموع أفضل من المرئيّ ؛ فلزم كون السمع أفضل من البصر.

وقال آخرون : البصر أفضل من السّمع لوجوه :

الأول : قولهم في المثل : «ليس وراء العيان بيان» ، فدلّ على : أنّ أكمل وجوه الإدراك هو البصر.

الثاني : أنّ آلة القوّة الباصرة ، هو النّور ، وآلة القوة السّامعة هي الهواء ، والنّور أشرف من الهواء ، فالقوّة الباصرة أشرف من القوة السّامعة.

٣٣٩

الثالث : أنّ عجائب حكمة الله ـ تعالى ـ ، في تخليق العين التي هي محل الإبصار ؛ أكثر من عجائب خلقته في الأذن ، التي هي محل السماع ، فإنّه ـ تعالى ـ جعل تمام روح واحد من الأرواح السّبعة الدّماغيّة من العصب ، آلة للإبصار ، وركّب العين من سبع طبقات ، وثلاث رطوبات ، وجعل لحركات العين عضلات كثيرة على صور مختلفة. والأذن ليس كذلك ، وكثرة العناية في تخليق الشيء ، يدل على أنّه أفضل من غيره.

الرابع : أن البصر يرى ما حصل فوق سبع سماوات ، والسمع لا يدرك ما بعد منه على فرسخ ؛ فكان البصر أقوى وأفضل ، وبهذا البيان يدفع قولهم : إنّ السّمع يدرك من كل الجوانب ، والبصر لا يدرك إلّا من الجانب الواحد.

الخامس : أنّ كثيرا من الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ سمع كلام الله في الدّنيا ، واختلفوا : هل رآه أحد في الدّنيا أم لا؟ وأيضا : فإنّ موسى أسمعه كلامه من غير سبق سؤال ، ولمّا سأل الرّؤية ، قال : (لَنْ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] فدل على أنّ حال الرّؤية أعلى من حال السّمع.

السادس : قال ابن الأنباري : كيف يكون السّمع أفضل من البصر ، وبالبصر يحصل جمال الوجه ، وبذهابه عيبه ، وذهاب السمع لا يورث الإنسان عيبا ، والعرب تسمي العينين الكريمتين ، ولا تصف السمع بمثل هذا ، ومنه الحديث ؛ يقول الله : «من أذهبت كريمتيه ، فصبر واحتسب ، لم أرض له ثوابا دون الجنة» (١).

قوله تعالى : (لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) يجوز أن ينتصب «شيئا» على المصدر ، أي : شيئا من الظلم ، قليلا ولا كثيرا ، وأن ينتصب مفعولا ثانيا ل «يظلم» ، بمعنى : لا ينقص النّاس شيئا من أعمالهم.

قوله : (وَلكِنَّ النَّاسَ) قرأ الأخوان (٢) : بتخفيف «لكن» ومن ضرورة ذلك : كسر النّون ؛ لالتقاء الساكنين وصلا ، ورفع «النّاس» ، والباقون بالتشديد ونصب «النّاس» ، وتقدم توجيه ذلك في البقرة [١٠٢] ، ومعنى (لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) ؛ لأنّه في جميع أفعاله متفضل ، وعادل ، (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) : بالكفر والمعصية.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ)(٤٦)

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) الآية.

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٤ / ٥٢١) كتاب الزهد : باب ما جاء في ذهاب البصر رقم (٢٤٠١) وأحمد (٢ / ٢٦٥) والدارمي (٢ / ٣٢٣) من حديث أبي هريرة.

(٢) وقرأ بها خلف.

ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١١١ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٢٢ ، البحر المحيط ٥ / ١٦٢ ، الدر المصون ٤ / ٣٦.

٣٤٠