اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

عطيّة لأبي عثمان النّهدي ، وقرىء (١) : «وازاينت» ، والأصل : تزاينت ، فأدغم.

وقوله : «أهلها» أي : أهل نباتها. و «أتاها» : هو جواب «إذا» ، فهو العامل فيها.

وقيل : الضّمير عائد على الزّينة.

وقيل : على الغلّة ، أي : القوت فلا حذف حينئذ ، و «ليلا ونهارا» ظرفان ؛ للإتيان ، أو للأمر ، والجعل هنا تصيير ، وحصيد : فعيل بمعنى : مفعول ، ولذلك لم يؤنث بالتاء ، وإن كان عبارة عن مؤنّث ، كقولهم : امرأة جريح. قوله : (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ) هذه الجملة يجوز أن تكون حالا من مفعول «جعلناها» الأوّل ، وأن تكون مستأنفة جوابا لسؤال مقدّر ، وقرأ هارون بن الحكم «تتغنّ» ، بتاءين بزنة تتفعّل ؛ كقول الأعشى : [المتقارب]

٢٨٨٧ ـ .........

طويل الثّواء طويل التّغن (٢)

وهو بمعنى : الإقامة ، وقد تقدّم في الأعراف ، وقرأ الحسن (٣) ، وقتادة : «كأن لم يغن» بياء الغيبة ، وفي هذا الضمير ثلاثة أوجه :

أجودها : أن يعود على الحصيد ؛ لأنّه أقرب مذكور.

وقيل : يعود على الزخرف ، أي : كأن لم يقم الزّخرف.

وقيل : يعود على النّبات أو الزّرع الذي قدّرته مضافا ، أي : كأن لم يغن زرعها ونباتها.

و «بالأمس» : المراد به : الزّمن الماضي ، لا اليوم الذي قبل يومك ؛ كقول زهير : [الطويل]

٢٨٨٨ ـ وأعلم علم اليوم والأمس قبله

ولكنّني عن علم ما في غد عم (٤)

لم يقصد بها حقائقها ، والفرق بين الأمسين : أنّ الذي يراد به قبل يومك مبنيّ ؛ لتضمّنه معنى الألف واللّام ، وهذا معرب تدخل عليه «أل» ويضاف ، وقوله : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ) نعت مصدر محذوف ، أي : مثل هذا التّفصيل الذي فصّلناه في الماضي ، نفصّل في المستقبل.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١١٤ ، البحر المحيط ٥ / ١٤٥ ، الدر المصون ٤ / ٢١.

(٢) عجز بيت وصدره :

وكنت امرأ زمنا بالعراق

ورواية الديوان :

عفيق المناخ .........

ينظر : ديوانه ٢١١ والبحر المحيط ٥ / ١٤٦ واللسان (غنى) والتهذيب ٨ / ٢٠١ والكشاف ٢ / ٤٣١ والدر المصون ٤ / ٢١.

(٣) وقرأ مروان «كأن لم تتغن» بتاءين مثل تتفعل والمغاني : المنازل المعمورة ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٠٨ ، الكشاف ٢ / ٣٤١ ، المحرر الوجيز ٣ / ١١٥ ، البحر المحيط ٥ / ١٤٦ ، الدر المصون ٤ / ٢١.

(٤) تقدم.

٣٠١

فصل

معنى الآية : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) في فنائها ، وزوالها (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ) أي : بالمطر (نَباتُ الْأَرْضِ) قال ابن عباس : نبت بالماء من كل لون (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ) : من الحبوب والثّمار ، (وَالْأَنْعامُ) من الحشيش (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) : حسنها ، وبهجتها ، وظهر الزهر أخضر ، وأحمر ، وأصفر ، وأبيض ، (وَازَّيَّنَتْ) شبهها بالعروس ، إذا لبست الثياب الفاخرة من كل لون (وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) على جذاذها وقطافها وحصادها ، ردّ الكناية إلى الأرض (١) ، والمراد : النبات إذ كان مفهوما ، وقيل : إلى الغلّة ، وقيل : إلى الزّينة (أَتاها أَمْرُنا) : قضاؤنا بالهلاك (لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً) أي : محصودة مقطوعة ، وقال أبو عبيدة : «الحصيد : المستأصل» ، (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) من غني بالمكان : إذا أقام به.

قال الليث «يقال للشيء إذا فني : كأن لم يغن بالأمس ، أي : كأن لم يكن».

فصل

اعلم : أن تشبيه الحياة الدنيا بالنبات يحتمل وجوها ، لخّصها القاضي.

أحدها : أنّ عاقبة هذه الحياة التي ينفقها المرء في هذه الدنيا ، كعاقبة هذا النّبات ، الذي حين عظم الرّجاء في الانتفاع به ، وقع اليأس منه ؛ لأنّ المتمسّك بالدنيا ، إذا عظمت رغبته فيها ، يأتيه الموت ، وهو معنى قوله : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) [الأنعام : ٤٤].

وثانيها : أنّه ـ تعالى ـ بيّن أنّه كما لم يحصل لذلك الزّرع عاقبة تحمد ، فكذلك المغترّ بالدّنيا المحبّ لها ، لا يحصل له عاقبة تحمد.

وثالثها : أنّ هذا التشبيه ، كقوله ـ تعالى ـ : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] أي : لمّا صار سعي هذا الزّرع باطلا ، بسبب حدوث المهلك ، فكذلك سعي المغترّ بالدّنيا.

ورابعها : أنّ مالك هذا البستان لمّا أتعب نفسه في عمارته ، وكذلك الرّوح ، وعلّق قلبه بالانتفاع به ، فإذا حدث السبب المهلك ، صار العناء الشديد ، الذي تحمله في الماضي ، سببا لحصول الشقاء الشّديد له في المستقبل ، وهو ما يحصل في قلبه من الحشرات. فكذلك حال من أحبّ الدنيا ، وأتعب نفسه في تحصيلها ، فإذا مات ، وفاته كلّ ما نال ، صار العناء الذي تحمّله في تحصيل الدنيا ، سببا لحصول الشقاء العظيم له في الآخرة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٤٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٤٥) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

٣٠٢

وخامسها : لعلّه ـ تعالى ـ إنّما ضرب هذا المثل لمن لا يؤمن بالمعاد ؛ لأنّا نرى الزّرع الذي انتهى إلى الغاية في الحسن ، ثمّ إنّ ذلك الحسن يزول بالكلّيّة ، ثم تصير تلك الأرض موصوفة بتلك الزينة مرة أخرى ، فذكر ـ تعالى ـ هذا المثال ؛ ليدلّ على أنّ من قدر على ذلك ، كان قادرا على إعادة الأحياء في الآخرة ؛ ليجازيهم على أعمالهم.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) الآية.

لمّا نفّر العقلاء عن الميل إلى الدّنيا ، رغّبهم في الاخرة بهذه الآية ، قال قتادة : «السّلام هو الله ، وداره الجنّة» (١).

وسمّي الله ـ تعالى ـ بالسّلام لوجوه :

أحدها : أنّه لمّا كان واجب الوجود لذاته ، فقد سلم من الفناء والتّغيير ، وسلم في ذاته وصفاته من الافتقار إلى الغير ، وهذه الصّفة ليست إلّا له ـ سبحانه.

وثانيها : وصف بالسلام ، أي : أنّ الخلق سلموا من ظلمه ؛ ولأنّ كل ما سواه فهو ملكه وملكه ، وتصرّف المالك في ملك نفسه لا يكون ظلما.

وثالثها : قال المبرّد : «وصف بالسلام ، أي : لا يقدر على السّلام إلّا هو ، والسّلام : عبارة عن تخليص العاجزين عن الآفات ، وهو المنتصف للمظلومين من الظالمين» وعلى هذا التقدير : السّلام مصدر «سلم».

وقيل : سمّيت الجنّة دار السّلام ؛ لأنّ من دخلها سلم من الآفات ، وقيل : المراد بالسّلام : التّحية ؛ لأنّه ـ تعالى ـ يسلّم على أهلها ، قال ـ تعالى ـ : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨] ، والملائكة يسلّمون عليهم أيضا ، قال ـ تعالى ـ : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤] ، وهم يحيّون بعضهم بعضا بالسّلام ، قال ـ تعالى ـ : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) [يونس : ١٠].

وروى جابر ، قال : «جاءت ملائكة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو نائم ، فقالوا : إنّ لصاحبكم هذا مثلا ، مثله كمثل رجل بنى دارا ، وجعل فيها مأدبة ، وبعث داعيا فمن أجاب الدّاعي ، دخل الدّار ، وأكل من المأدبة ، ومن لم يجب الدّاعي ، لم يدخل الدّار ، ولم يأكل من المأدبة ، فالدّار الجنّة ، والدّاعي محمّد ، فمن أطاع محمدا ، فقد أطاع الله ، ومن عصى محمدا ، فقد عصى الله»(٢).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٤٨) عن قتادة وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٥٠).

وورد مثله عن ابن عباس ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٤٥) وعزاه إلى أبي نعيم والدمياطي في «معجمه» من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه بلفظ ..... والله السّلام والجنة داره.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٤٩) والحاكم (٢ / ٣٣٩) من حديث جابر وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

٣٠٣

فصل

قال ابن عبّاس : «الجنان سبع : دار الجلال ، ودار السّلام ، وجنّة عدن ، وجنّة المأوى ، وجنّة الخلد ، وجنّة الفردوس ، وجنّة النّعيم» (١).

ثم قال تعالى : (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) : وهو الإسلام.

وروي عن عليّ بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : الصّراط المستقيم : كتاب الله (٢).

وقال قتادة ، ومجاهد : هو الحق (٣).

وقيل : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبو بكر ، وعمر (٤).

واحتجّ أهل السّنّة : على أنّ الكفر والإيمان بقضاء الله ـ تعالى ـ ؛ لأنّه ـ تعالى ـ بيّن في هذه الآية ، أنّه دعا جميع الخلق إلى دار السّلام ، ثم بيّن أنّه ما هدى إلّا بعضهم ، فهذه الهداية الخاصّة ، يجب أن تكون مغايرة لتلك الدعوة العامّة ، ولا شكّ أنّ الإقدار ، والتمكين ، وإرسال الرّسل ، وإنزال الكتب أمور عامّة ، فوجب أن تكون الهداية الخاصّة مغايرة لكلّ هذه الأشياء ، وما ذاك إلّا أنّه ـ تعالى ـ خصّه بالعلم والمعرفة ، دون غيره.

وأجاب القاضي بوجهين :

الأول : أن المراد : ويهدي الله من يشاء ، إلى إجابة تلك الدّعوة ، أي : أنّ من أجاب الدّعاء ، وأطاع واتّقى ، فإنّ الله يهديه إليها.

والثاني : أن المراد بهذه الهداية الألطاف ، وأجيب عن هذين الوجهين ، بأنّ عندكم يجب على الله فعل هذه الهداية ، وما يكون واجبا ، لا يكون معلّقا بالمشيئة ، فامتنع حمله على ما ذكرتم.

قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٧)

قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) الآية.

لمّا دعا عباده إلى دار السّلام ، ذكر السّعادات الحاصلة لهم فيها ، فقال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) أي : أحسنوا العمل في الدّنيا ، فأتوا المأمورات ، واجتنبوا المنهيات.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٨ / ٢١٠).

(٢) انظر : المصدر السابق.

(٣) انظر : المصدر السابق.

(٤) انظر : المصدر السابق.

٣٠٤

وقال ابن عبّاس : للذين ذكروا كلمة لا إله إلّا الله ، فأمّا الحسنى : فهي الجنّة وأمّا الزيادة : فقال أبو بكر الصّدّيق ، وحذيفة ، وأبو موسى ، وعبادة بن الصامت : هي النّظر إلى وجه الله الكريم ، وبه قال الحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، ومقاتل ، والضحاك ، والسدي (١).

روى ابن أبي ليلى ، عن صهيب قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) قال : إذا دخل أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النّار النّار ، نادى مناد : يا أهل الجنّة : إنّ لكم عند الله موعدا ، قالوا : ما هذا الموعد ، ألم يثقّل موازيننا ، ويبيض وجوهنا ، ويدخلنا الجنّة ، وينجنا من النّار؟ قال : فيرفع الحجاب فينظرون إلى وجه الله ـ عزوجل ـ ، قال : «فما أعطوا شيئا أحبّ إليهم من النّظر إليه» (٢). ويؤيد هذا قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣].

وقالت المعتزلة : لا يجوز حمل الزّيادة على الرؤية ، لوجوه :

أحدها : أنّ الدلائل العقليّة دلّت على أنّ رؤية الله ـ تعالى ـ ممتنعة.

وثانيها : أنّ الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه ، ورؤية الله ـ تعالى ـ ليست من جنس نعيم الجنّة.

وثالثها : أنّ الحديث المرويّ يوجب التشبيه ؛ لأنّ النظر : عبارة عن تقليب الحدقة ، إلى جهة المرئيّ ، وذلك يقتضي كون المرئيّ في الجهة ؛ لأنّ الوجه اسم للعضو المخصوص ، وذلك يوجب التشبيه ، فثبت أنّ هذا اللفظ ، لا يمكن حمله على الرّؤية ، فوجب حمله على شيء آخر. قال الجبائي : الحسنى : هي الثّواب المستحق ، والزّيادة :

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٤٩ ـ ٥٥٠) عن أبي بكر الصديق وعامر بن سعد وحذيفة وأبي موسى والحسن وعكرمة وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٥١) عن هؤلاء.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٤٨ ـ ٥٤٨) عن أبي بكر وحذيفة وأبي موسى وعامر بن سعد وقتادة والضحاك.

وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن جرير وابن خزيمة وابن المنذر وأبي الشيخ والدارقطني في «الرؤية» وابن مندة في «الرد على الجهمية» وابن مردويه والآجري والبيهقي كلاهما في «الرؤية» عن أبي بكر الصديق.

وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والدارقطني واللالكائي والآجرى والبيهقي عن حذيفة.

وعزاه إلى هناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والدارقطني واللالكائي والبيهقي عن أبي موسى.

وعزاه إلى ابن جرير والدارقطني عن عامر بن سعد.

وعزاه إلى الدارقطني عن الضحاك.

(٢) أخرجه مسلم (١ / ١٦٣) كتاب الإيمان : باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم حديث (٢٩٨ / ١٨١) وأحمد (٤ / ٣٣٣) وابن ماجه (١٨٧) والترمذي (٣١٠٥) والطبري (٦ / ٥٥١). وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٤٦) وزاد نسبته إلى الطيالسي وهناد وابن خزيمة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والدارقطني في «الرؤية» وابن مردويه والبيهقي في «الأسماء والصفات» عن صهيب.

٣٠٥

ما يزيده الله على ذلك الثّواب من التفضّل ، كقوله ـ تعالى ـ : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [فاطر : ٣٠] ، ونقل عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ ، أنه قال : «الزّيادة : غرفة من لؤلؤة واحدة» (١).

وعن ابن عبّاس : «الحسنى : هي الحسنة ، والزّيادة عشر أمثالها» (٢) ، وعن الحسن : «عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف» (٣) ، وعن مجاهد : «الزيادة : مغفرة من الله ورضوان» (٤).

وعن يزيد بن سمرة : «الزّيادة : أن تمرّ السّحابة بأهل الجنّة ، فتقول : ما تريدون أن أمطركم ، فلا يريدون شيئا إلّا أمطرتهم» (٥).

وأجاب أهل السّنّة عن هذه الوجوه ، فقالوا : أمّا قولهم : إنّ الدلائل العقليّة دلّت على امتناع رؤية الله ـ تعالى ـ ، فهذا ممنوع ؛ لأنّا بيّنا في كتب الأصول : أن تلك الدلائل في غاية الفتور ، وثبت بالأخبار الصحيحة إثبات الرّؤية ، كقوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : «هل تمارون في رؤية الشّمس ليس دونها سحاب؟» (٦) حين سألوه عن رؤية الله ـ تعالى ـ ، وقوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : «هل تمارون في رؤية القمر ليلة البدر؟» (٧). فوجب إجراؤها على ظواهرها.

وقولهم : «الزّيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه» ، فنقول : المزيد عليه إذا كان مقدرا بمقدار معيّن ، كانت الزّيادة من جنسها ، وإذا كان مقدرا بمقدار غير معيّن ، وجب أن تكون الزّيادة مخالفة له ، مثال الأول : قول الرّجل لغيره : أعطيتك عشرة أمداد من الحنطة وزيادة ، فتكون تلك الزيادة من الحنطة ، ومثال الثاني : قوله أعطيتك الحنطة وزيادة ، فيجب أن تكون الزّيادة غير الحنطة.

فلفظ «الحسنى» : وهي الجنّة ، مطلقة ، وهي غير مقدّرة بقدر معيّن ، فتكون الزّيادة شيئا مغايرا لما في الجنة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٥٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في «الرؤية».

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٥٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٤٩) وعزاه إلى الطبري.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٥٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٤٩) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٥٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٤٩) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٨ / ٢١١) والرازي في «تفسيره» (١٧ / ٦٣).

(٦) أخرجه البخاري (١١ / ٤٥٣ ـ ٤٥٤) كتاب الرقاق : باب الصراط جسر جهنم (٦٥٧٣ ، ٦٥٧٤) ومسلم (١ / ١٦٣) كتاب الإيمان : باب معرفة طريق الرؤية (٢٩٩ / ١٨٢) وأحمد (٢ / ٢٧٥ ، ٢٩٣ ، ٣٥٤).

(٧) انظر : الحديث السابق.

٣٠٦

وقولهم : «الحديث يدلّ على إثبات الوجه ، وذلك يوجب التشبيه» ، فنقول : قام الدّليل على أنّه ـ تعالى ـ ليس بجسم ، ولم يقم الدّليل على امتناع الرّؤية ، فوجب ترك العمل بما قام الدّليل على فساده.

فصل

قال أبو العبّاس المقري : وردت الحسنى على أربعة معان :

الأول : بمعنى الجنّة ، قال ـ تعالى ـ : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦].

الثاني : الحسنى : الصّلاح ، قال ـ تعالى ـ : (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) [التوبة: ١٠٧] أي : الصّلاح.

الثالث : البنون ، قال ـ تعالى ـ : (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) [النحل : ٦٢] أي : البنون.

الرابع : الخلف في النفقة ، قال ـ تعالى ـ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) [الليل : ٥ ـ ٦] أي : بالخلف ، ومثله (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) [الليل : ٩].

قوله : (وَلا يَرْهَقُ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها مستأنفة.

والثاني : أنها في محل نصب على الحال ، والعامل في هذه الحال : الاستقرار الذي تضمّنه الجارّ ، وهو «للّذين» لوقوعه خبرا عن «الحسنى» ، قاله أبو البقاء ، وقدّره بقوله : «استقرّ لهم الحسنى ، مضمونا لهم السّلامة» ، وهذا ليس بجائز ؛ لأنّ المضارع متى وقع حالا منفيّا ب «لا» ، امتنع دخول واو الحال عليه كالمثبت ، وإن ورد ما يوهم ذلك ، يؤوّل بإضمار مبتدأ ، وقد تقدّم تحقيقه مرارا [المائدة ٥٤].

والثالث : أنها في محلّ رفع نسقا على «الحسنى» ، ولا بدّ حينئذ من إضمار حرف مصدريّ ، يصحّ جعله معه مخبرا عنه بالجارّ ، والتقدير : للذين أحسنوا الحسنى ، وأن لا يرهق ، أي : وعدم رهقهم ، فلمّا حذفت «أن» رفع الفعل المضارع ؛ لأنّه ليس من مواضع إضمار «أن» الناصبة ، وهذا كقوله ـ تعالى ـ : (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ) [الروم : ٢٤] أي : أن يريكم ، وقوله : «تسمع بالمعيدي ، خير من أن تراه».

وقوله : [الطويل]

٢٨٨٩ ـ ألا أيّها الزّاجري أحضر الوغى

 ......... (١)

أي. أن أحضر ، روي برفع «أحضر» ونصبه ، ومنع أبو البقاء هذا الوجه ، وقال : «ولا يجوز أن يكون معطوفا على «الحسنى» ؛ لأنّ الفعل إذا عطف على المصدر ، احتاج

__________________

(١) تقدم.

٣٠٧

إلى «أن» ذكرا ، أو تقديرا ، و «أن» غير مقدّرة ؛ لأن الفعل مرفوع». فقوله : «وأن غير مقدّرة ؛ لأنّ الفعل مرفوع» ليس بجيّد ؛ لأن قوله ـ تعالى ـ : (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ) [الروم : ٢٤] معه «أن» مقدّرة ، مع أنه مرفوع ، ولا يلزم من إضمار «أن» نصب المضارع ، بل المشهور أنّه : إذا أضمرت «أن» في غير المواضع التي نصّ النحويّون على إضمارها فيها ناصبة ، ارتفع الفعل ، والنصب قليل جدّا.

فصل

والرّهق : الغشيان ، يقال : رهقه يرهقه رهقا ، أي : غشيه بسرعة ، ومنه (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي) [الكهف : ٧٣] ، (فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) [الجن : ١٣]. يقال : رهقته وأرهقته نحو : ردفته وأردفته ، ففعل وأفعل بمعنى ، ومنه : «أرهقت الصّلاة» ، إذا أخّرتها ، حتى غشي وقت الأخرى ، ورجل مرهق ، أي : يغشاه الأضياف.

وقال الأزهريّ (١) : «الرّهق : اسم من الإرهاق ، وهو أن يحمل الإنسان على نفسه ما لا يطيق ، ويقال : أرهقته عن الصّلاة ، أي : أعجلته عنها».

وقال بعضهم : أصل الرّهق : المقاربة ، ومنه غلام مراهق ، أي : قارب الحلم ، ومنه الحديث «ارهقوا القبلة» ، أي : اقربوا منها ، ومنه : رهقت الكلاب الصّيد ، أي : لحقته ، والقتر والقترة ، الغبار معه سواد ؛ وأنشدوا للفرزدق : [البسيط]

٢٨٩٠ ـ متوّج برداء الملك يتبعه

موج ترى فوقه الرّايات والقترا (٢)

أي : غبار العسكر ، وقيل : القتر : الدّخان ، ومنه : قتار القدر ، وقيل القتر : التّقليل ، ومنه (لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) [الفرقان : ٦٧] ، ويقال : قترت الشّيء وأقترته وقتّرته ، أي : قلّلته ، ومنه (وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) [البقرة : ٢٣٦] وقد تقدّم ، والقترة : ناموس الصّائد ، وقيل : الحفرة ، ومنه قول امرىء القيس : [المديد]

٢٨٩١ ـ ربّ رام من بني ثعل

متلج كفّيه في قتره (٣)

أي : في حفرته التي يحفرها ، وقرأ الحسن ، وعيسى (٤) بن عمر ، وأبو رجاء ، والأعمش : «قتر» ، بسكون التاء ، وهما لغتان : قتر وقتر ، كقدر وقدر.

__________________

(١) ينظر : تهذيب اللغة ٥ / ٣٩٧.

(٢) ينظر البيت في ديوانه ١ / ٢٣٤ ومجاز القرآن ٢٧٧ والبحر المحيط ٥ / ١٤٨ واللسان (قتر) والطبري ١١ / ٦٩ والصحاح ٢ / ٧٨٥ والدر المصون ٤ / ٢٣.

(٣) ينظر البيت في ديوانه ص ١٢٣ والأغاني ٩ / ٩٥ والشعر والشعراء ١ / ١٣١ وشرح شواهد الشافية ص ٤٦٦ وشرح المفصل لابن يعيش ١٠ / ٣٧ والدر المصون ٤ / ٢٣.

(٤) ينظر : إتحاف ٢ / ١٠٨ ، المحرر الوجيز ٣ / ١١٦ ، البحر المحيط ٥ / ١٤٩ ، الدر المصون ٤ / ٢٣

٣٠٨

فصل

المعنى : لا يغشى وجوههم قتر : غبار ، جمع قترة ، وقال ابن عبّاس ، وقتادة : سواد الوجوه ، «ولا ذلّة» : هوان (١) ، وقال قتادة : «كآبة» (٢) قال ابن أبي ليلى : «هذا بعد نظرهم إلى ربّهم» (٣) ، (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) إشارة إلى كونها دائمة ، آمنة من الانقطاع.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) الآية.

لمّا شرح حال المسلمين ، شرح بعده حال المسيئين.

قوله : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا) : فيه سبعة أوجه :

أحدها : أن يكون (وَالَّذِينَ) : نسقا على (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) ، أي : للّذين أحسنوا الحسنى ، والذين كسبوا السّيّئات جزاء سيّئة بمثلها ، فيتعادل التّقسيم ، كقولك : في الدّار زيد ، والحجرة عمرو ، وهذا يسمّيه النحويّون : عطفا على معمولي عاملين ، وفيه ثلاثة مذاهب :

أحدها : الجواز مطلقا ، وهو قول الفرّاء.

والثاني : المنع مطلقا ، وهو مذهب سيبويه.

والثالث : التفصيل بين أن يتقدّم الجارّ نحو : في الدّار زيد ، والحجرة عمرو ، فيجوز ، أو لا ، فيمتنع نحو : إن زيدا في الدّار ، وعمرا في القصر ، أي : وإنّ عمرا في القصر ، وسيبويه وأتباعه يخرّجون ما ورد منه على إضمار الجارّ ، كقوله ـ تعالى ـ : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الجاثية : ٥] بنصب «آيات» في قراءة الأخوين ، على ما سيأتي ؛ كقوله : [المتقارب]

٢٨٩٢ ـ أكلّ امرىء تحسبين امرأ

ونار توقّد باللّيل نارا (٤)

وقول الآخر : [الرجز]

٢٨٩٣ ـ أوصيت من توّه قلبا حرّا

بالكلب خيرا والحماة شرّا (٥)

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٥٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٤٩) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٥١).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٥٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٤٩) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والدارقطني في «الرؤية».

(٤) تقدم.

(٥) البيتان لأبي النجم العجلي. ينظر : معاهد التنصيص ١ / ٢٢ والعقد الفريد ١ / ٣١٩ والمسائل العسكرية ١٦٣ والدر المصون ٤ / ٢٤.

٣٠٩

وسيأتي لهذا مزيد بيان ـ إن شاء الله ـ ، وممّن ذهب إلى أنّ هذا الموصول مجرور عطفا على الموصول قبله : ابن عطيّة ، وأبو القاسم الزمخشري.

الثاني : أن «الّذين» مبتدأ ، و (جَزاءُ سَيِّئَةٍ) مبتدأ ثان ، وخبره «بمثلها» ، والباء فيه زائدة ، أي : وجزاء سيئة مثلها ، كقوله ـ تعالى ـ : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى: ٤٠] كما زيدت في الخبر ، كقوله : [الوافر]

٢٨٩٤ ـ فلا تطمع ـ أبيت اللّعن ـ فيها

ومنعكها بشيء يستطاع (١)

أي : شيء يستطاع.

وكقول امرىء القيس : [الطويل]

٢٨٩٥ أ ـ فإن تنء عنها حقبة لا تلاقها

فإنّك ممّا أحدثت بالمجرّب (٢)

أي : المجرّب ، وهذا قول ابن كيسان في الآية.

الثالث : أنّ الباء ليست بزائدة ، والتقدير : مقدّر بمثلها ، والمبتدأ الثاني وخبره خبر عن الأول.

والرابع : أنّ خبر (جَزاءُ سَيِّئَةٍ) محذوف ، فقدّره الحوفيّ بقوله : «لهم جزاء سيئة» ، قال : ودلّ على تقدير «لهم» ، قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) حتى تتشاكل هذه بهذه ، وقدّره أبو البقاء : جزاء سيّئة مثلها واقع ، وهو وخبره أيضا خبر عن الأول ، وعلى هذين التقديرين ، فالباء متعلقة بنفس «جزاء» ؛ لأنّ هذه المادّة تتعدّى بالباء ، قال ـ تعالى ـ : (جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) [سبأ : ١٧] ، (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) [الإنسان : ١٢] إلى غير ذلك.

فإن قلت : أين الرّابط بين هذه الجملة ، والموصول الذي هو المبتدأ.

قلت : على تقدير الحوفيّ ، هو الضمر المجرور باللّام المقدّر خبرا ، وعلى تقدير أبي البقاء : هو محذوف ، تقديره : جزاء سيئة بمثلها منهم واقع ، نحو : «السّمن منوان بدرهم» ، وهو حذف مطّرد ، لما عرف.

الخامس : أن يكون الخبر ، الجملة المنفيّة من قوله : (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) ، ويكون (مِنْ عاصِمٍ) إمّا فاعلا بالجارّ قبله ؛ لاعتماده على النّفي ، وإمّا مبتدأ ، وخبره الجارّ مقدما عليه ، و «من» مزيدة فيه على كلا القولين ، و (مِنَ اللهِ) متعلّق ب «عاصم» ، وعلى

__________________

(١) البيت لعبيدة بن ربيعة في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٢١١ ولرجل من تميم في تخليص الشواهد ص ٨٩ وشرح دوان الحماسة ٣ / ١٤٦٨ والأشموني ١ / ١١٨ والدر المصون ٤ / ٢٤ وله أو لعبيدة بن ربيعة في خزانة الأدب ٥ / ٢٦٧ ، ٢٩٩ ولرجل من تميم أو لقحيف العجلي في شرح شواهد المغني ١ / ٣٣٨ والمقاصد النحوية ١ / ٣٠٢ وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٥٥ ورصف المباني ص ١٥٠ والمغني ١ / ١١٠.

(٢) تقدم.

٣١٠

كون هذه الجملة خبر الموصول يكون قد فصل بين المبتدأ وخبره بجملتي اعتراض ، وفي ذلك خلاف عن الفارسيّ تقدّم التنبيه عليه ، وما استدلّ به عليه.

السادس : أنّ الخبر هو الجملة التشبيهيّة ، من قوله : (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ) ، و «أنّما» حرف مكفوف ، و «ما» هذه زائدة ، تسمّى كافّة ومهيئة ، وتقدّم ذلك [البقرة ١١]. وعلى هذا الوجه ، فيكون قد فصل بين المبتدأ وخبره بثلاث جمل اعتراض.

السابع : أنّ الخبر هو الجملة من قوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ ،) وعلى هذا القول ، فيكون قد فصل بأربع جمل معترضة.

وهي : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها).

والثانية : (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ).

والثالثة : (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ).

الرابعة : (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ) ، وينبغي أن لا يجوز الفصل بثلاث جمل فضلا عن أربع.

قوله : (وَتَرْهَقُهُمْ) فيها وجهان :

أحدهما : أنّها في محلّ نصب على الحال ، ولم يبيّن أبو البقاء صاحبها ، وصاحبها هو الموصول أو ضميره ، وفيه ضعف ؛ لمباشرته الواو ، إلّا أن يجعل خبر مبتدأ محذوف.

الثاني : أنّها معطوفة على «كسبوا».

قال أبو البقاء : وهو ضعيف ؛ لأنّ المستقبل لا يعطف على الماضي ، فإن قيل : هو بمعنى الماضي فضعيف جدا ، وقرىء (١) : «ويرهقهم» بالياء من تحت ؛ لأنّ تأنيثها مجازيّ.

قوله : «قطعا» قرأ ابن كثير (٢) ، والكسائي : «قطعا» بسكون الطاء ، والباقون بفتحها : «فأمّا القراءة الأولى فاختلفت عبارات النّاس فيها : فقال أهل اللغة : «القطع» : ظلمة آخر الليل.

وقال الأخفش في قوله : (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) [الحجر : ٦٥] بسواد من الليل. وقال بعضهم : «طائف من الليل» ، وأنشد الأخفش :

٢٨٩٥ ب ـ افتحي الباب فانظري في النجوم

كم علينا من قطع ليل بهيم

وأمّا قراءة الباقين فجمع «قطعة» نحو : دمنة ودمن ، وكسرة وكسر وعلى القراءتين يختلف إعراب «مظلما» ، فإنه على قراءة الكسائي وابن كثير يجوز أن يكون نعتا ل

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٥.

(٢) ينظر : السبعة ص (٣٢٥) ، الحجة ٤ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩ ، حجة القراءات ص (٣٣٠) ، إعراب القراءات ١ / ٢٦٧ ، إتحاف ٢ / ١٠٨.

٣١١

«قطعا» ، ووصف بذلك مبالغة في وصف وجوههم بالسواد ، ويجوز أن يكون حالا ففيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه حال من «قطعا» ، وجاز ذلك لتخصّصه بالوصف بالجارّ بعده وهو (مِنَ اللَّيْلِ).

والثاني : أنه حال من «الليل».

والثالث : أنه حال من الضمير المستتر في الجارّ لوقوعه صفة.

قال الزمخشري : فإن قلت : إذا جعلت «مظلما» حالا من «الليل» فما العامل فيه؟ قلت : لا يخلو : إما أن يكون «أغشيت» من قبل أنّ (مِنَ اللَّيْلِ) صفة لقوله : «قطعا» ، وكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة ، وإما أن يكون معنى الفعل في (مِنَ اللَّيْلِ). قال أبو حيان : «أمّا الوجه الأول فهو بعيد لأنّ الأصل أن يكون العامل في الحال هو العامل في ذي الحال ، والعامل في (مِنَ اللَّيْلِ) هو الاستقرار ، و «أغشيت» عامل في قوله : «قطعا» الموصوف بقوله : (مِنَ اللَّيْلِ) فاختلفا ، فلذلك كان الوجه الأخير أولى ، أي : قطعا مستقرة من الليل ، أو كائنة من الليل في حال إظلامه».

وقال شهاب الدّين : ولا يعني الزمخشري بقوله : «إنّ العامل أغشيت» ، إلّا أن الموصوف ، وهو «قطعا» معمول ل «أغشيت» ، والعامل في الموصوف هو عامل في الصّفة.

قال شهاب الدين : والصّفة هي (مِنَ اللَّيْلِ) فهي معمولة ل «أغشيت» ، وهي صاحبة الحال ، والعامل في الحال هو العامل في ذي الحال ، فجاء من ذلك أنّ العامل في الحال هو العامل في صاحبها بهذه الطريقة ، ويجوز أن يكون «قطعا» : جمع قطعة ، أي : اسم جنس لها ، فيجوز حينئذ وصفه بالتّذكير ، نحو : (نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [القمر : ٢٠] ، والتأنيث ، نحو : (نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة : ٧].

وأمّا قراءة الباقين ، فقال مكّي ، وغيره : إنّ «مظلما» حال من «اللّيل» فقط ، ولا يجوز أن يكون صفة ل «قطعا» ، ولا حالا منه ، ولا من الضمير في (مِنَ اللَّيْلِ ؛) لأنّه كان يجب أن يقال فيه : مظلمة ، يعنون : أنّ الموصوف حينئذ جمع ، وكذا صاحب الحال ، فتجب المطابقة. وأجاز بعضهم ما منعه هؤلاء ، وقالوا : جاز ذلك ؛ لأنّه في معنى الكثير ، وهذا فيه تعسّف.

وقرأ أبيّ (١) «يغشى وجوههم قطع» بالرفع ، و «مظلم» ، وقرأ ابن أبي (٢) عبلة كذلك ، إلّا أنّه فتح الطّاء. وإذا جعلت «مظلما» ، نعتا ل «قطعا» ، فتكون قد قدّمت النّعت غير الصّريح على الصّريح.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٤٣ ، المحرر الوجيز ٣ / ١١٦ ، البحر المحيط ٥ / ١٥٢ ، الدر المصون ٤ / ٢٥.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١١٦ ، البحر المحيط ٥ / ١٥٢ ، الدر المصون ٤ / ٢٥.

٣١٢

قال ابن عطيّة (١) : فإذا كان نعتا ـ يعني : مظلما : نعتا لقطع ـ فكان حقه أن يكون قبل الجملة ، ولكن قد يجيء بعد هذا ، وتقدير الجملة : قطعا استقرّ مظلما ، على نحو قوله : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) [الأنعام : ٩٢].

قال أبو حيّان (٢) : «ولا يتعيّن تقدير العامل في المجرور بالفعل ، فيكون جملة ، بل الظاهر تقديره باسم الفاعل ، فيكون من قبيل الوصف بالمفرد ، والتقدير : قطعا كائنا من اللّيل مظلما».

قال شهاب الدّين (٣) : «المحذور تقديم غير الصّريح على الصّريح ، ولو كان مقدّرا بمفرد» ، و «قطعا» : منصوب ب «أغشيت» ، مفعولا ثانيا.

فصل

المعنى : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها ؛) لقوله : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) [الأنعام : ١٦٠].

والفرق بين الحسنات والسيئات : أنّه إذا زاد في الحسنات يكون تفضّلا ، وذلك حسن ، وفيه ترغيب في الطّاعة ، وأمّا الزّيادة على قدر الاستحقاق على السيئات ، فهو ظلم ، والله منزه عنه ، ثم قال : (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي : هوان وتحقير (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي : ما لهم عاصم من الله في الدّنيا ، ولا في الآخرة ، (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ) أي : ألبست وجوههم ، (قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) والمراد : سواد الوجه.

وقال حكماء الإسلام : المراد من هذا السّواد : سواد الجهل ، وظلمة الضّلالة ، فإنّ العلم طبعه طبع النّور ، والجهل طبعه طبع الظّلمة.

قيل : المراد بقوله : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) : الكفار ؛ لأن سواد الوجه من علامات الكفر ، قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) [آل عمران : ١٠٦] وقال : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) [عبس : ٤٠ ـ ٤٢].

وقال القاضي : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) عامّ يتناول الكافر ، والفاسق ، وأجيب : بأن الصيغة وإن كانت عامّة ، إلّا أن الدلائل التي ذكرناها مخصّصة ، ثم قال : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١١٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٥٢.

(٣) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٦.

٣١٣

عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٣٠)

قوله ـ تعالى ـ : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) الآية.

«يوم» منصوب بفعل مقدّر ، أي : خوّفهم ، أو ذكرهم يوم ، والضمير عائد على الفريقين أي : الذين أحسنوا ، والذين كسبوا. و «جميعا» : حال ، ويجوز أن يكون تأكيدا ، عند من عدّها من ألفاظ التّأكيد.

قوله : «مكانكم» اسم فعل ، ففسّره النحويّون ب «اثبتوا» فيحمل ضميرا ، ولذلك أكّد بقوله : «أنتم» ، وعطف عليه «شركاؤكم» ؛ ومنه قول الشاعر : [الوافر]

٢٨٩٦ ـ وقولي كلّما جشأت وجاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي (١)

أي : اثبتي ، ويدلّ على ذلك جزم جوابه ، وهو «تحمدي» ، وفسّره الزمخشري : ب «الزموا» قال : «مكانكم ، أي : الزموا مكانكم ، لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم».

قال أبو حيّان (٢) : وتقديره له ب «الزموا» ليس بجيّد ، إذ لو كان كذلك ؛ لتعدّى كما يتعدّى ما ناب هذا عنه ، فإنّ اسم الفعل يعامل معاملة مسمّاه ، ولذلك لمّا قدّروا «عليك» ، بمعنى : «الزم» عدّوه تعديته نحو : عليك زيدا.

قال شهاب الدّين (٣) «فالزمخشري قد سبق بهذا التّفسير ، والعذر لمن فسّره بذلك ، أنه قصد تفسير المعنى» ، قال الحوفي : «مكانكم نصب بإضمار فعل ، أي : الزموا مكانكم أو اثبتوا». وكذلك فسره أبو البقاء ، فقال : «مكانكم» ظرف مبنيّ ؛ لوقوعه موقع الأمر ، أي : «الزموا».

وهذا الذي ذكره من كونه مبنيّا ، فيه خلاف للنحويين : منهم من ذهب إلى ما ذكر ، ومنهم من ذهب إلى أنّها حركة إعراب ، وهذان الوجهان مبنيان على خلاف في أسماء الأفعال هل لها محلّ من الإعراب أو لا؟ فإن قلنا لها محلّ ، كانت حركات الظرف حركات إعراب ، وإن قلنا لا موضع لها ، كانت حركات بناء ، وأمّا تقديره : ب «الزموا» ، فقد تقدّم جوابه. قوله : «أنتم» فيه وجهان :

__________________

(١) البيت لقطري بن الفجاءة أو لعمرو بن الإطنابة. ينظر : إنباه الرواة ٣ / ٢٨١ وحماسة البحتري ص ٩ والحيوان ٦ / ٤٢٥ وجمهرة اللغة ص ١٠٩٥ وخزانة الأدب ٢ / ٤٢٨ والدرر ٤ / ٨٤ وديوان المعاني ١ / ١١٤ وسمط اللآلي ص ٥٧٤ وشرح التصريح ٢ / ٢٤٣ وشرح شواهد المغني ص ٥٤٦ والمقاصد النحوية ٤ / ٤١٥ وأوضح المسالك ٤ / ١٨٩ والخصائص ٣ / ٣٥ وشرح الأشموني ٣ / ٥٦٩ وشرح شذور الذهب ص ٤٤٧ ، ٥٢٤ وشرح المفصل ٤ / ٧٤ واللسان (جشأ) والمغني ١ / ٢٠٣ والهمع ٢ / ١٣ والدر المصون ٤ / ٢٧.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٥٣.

(٣) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٧.

٣١٤

أحدهما : أنّه تأكيد للضمير المستتر في الظرف ، لقيامه مقام الفاعل ، كما تقدّم التنبيه عليه.

والثاني : أجازه ابن عطيّة ، وهو أن يكون مبتدأ ، و «شركاؤكم» معطوف عليه ، وخبره محذوف ، قال : «تقديره : أنتم وشركاؤكم مهانون ، أو معذبون» ، وعلى هذا فيوقف على قوله : «مكانكم» ثم يبتدأ بقوله : «أنتم» ، وهذا لا ينبغي أن يقال ، لأنّ فيه تفكيكا لأفصح كلام ، وتبتيرا لنظمه ، من غير داعية إلى ذلك ؛ ولأنّ قراءة من قرأ «وشركاءكم» نصبا ، تدل على ضعفه ، إذ لا تكون إلّا من الوجه الأوّل ؛ ولقوله : (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) ، فهذا يدلّ على أنّهم أمروا هم وشركاؤهم بالثّبات في مكان واحد ، حتى يحصل التّزييل بينهم.

وقال ابن عطية (١) أيضا : «ويجوز أن يكون «أنتم» تأكيدا للضمير الذي في الفعل المقدّر الذي هو «قفوا» ونحوه».

قال أبو حيّان (٢) : وهذا ليس بجيّد ، إذ لو كان تأكيدا لذلك الضمير المتصل بالفعل ، لجاز تقديمه على الظّرف ، إذ الظرف لم يتحمّل ضميرا على هذا القول ، فيلزم تأخيره عنه ، وهو غير جائز ، لا تقول : «أنت مكانك» ولا يحفظ من كلامهم.

والأصحّ : أنّه لا يجوز حذف المؤكّد في التّأكيد المعنويّ ، فكذا هذا ؛ لأنّ التأكيد ينافي الحذف ، وليس من كلامهم : «أنت زيدا» لمن رأيته قد شهر سيفا ، وأنت تريد «اضرب أنت زيدا» ، إنّما كلام العرب : «زيدا» تريد : اضرب زيدا.

قال شهاب الدّين : «لم يعن ابن عطيّة ، أنّ «أنت» تأكيد لذلك الضمير في «قفوا» من حيث إنّ الفعل مراد غير منوب عنه ؛ بل لأنّه ناب عنه هذا الظرف ، فهو تأكيد له في الأصل ؛ قبل النّيابة عنه بالظرف ، وإنّما قال : الذي هو «قفوا» تفسيرا للمعنى المقدر». وقرأت فرقة (٣) «وشركاءكم» نصبا على المعيّة ، والنّاصب له اسم الفعل.

قوله : «فزيّلنا» ، أي : فرّقنا وميّزنا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا) [الفتح : ٢٥].

واختلفوا في «زيّل» هل وزنه فعّل أو فيعل؟.

والظاهر الأول ، والتضعيف فيه للتّكثير ، لا للتّعدية ، لأنّ ثلاثيه متعدّ بنفسه ، حكى الفراء : «زلت الضّأن من المعز ، فلم تزل» ويقال زلت الشّيء من مكانه أزيله ، وهو على هذا من ذوات الياء.

والثاني : أنه فيعل كبيطر وبيقر ، وهو من زال يزول ، والأصل : «زيولنا» ، فاجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسّكون ، فأعلت بقلب الواو ياء ، وإدغام الياء فيها ، ك

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١١٧.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٥٤.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٤٣ ، البحر المحيط ٥ / ١٥٣ ، الدر المصون ٤ / ٢٧.

٣١٥

«ميّت وسيّد» في : ميوت وسيود ، وعلى هذا فهو من مادة الواو ، وإلى هذا ذهب ابن قتيبة ، وتبعه أبو البقاء.

وقال مكّي (١) : «ولا يجوز أن يكون فعّلنا من زال يزول ؛ لأنّه يلزم في الواو فيكون زوّلنا». وهذا صحيح ، وقد تقدّم تحرير ذلك في قوله : (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) [الأنفال : ١٦].

وردّ أبو حيّان كونه «فيعل» ، بأنّ «فعّل» أكثر من «فيعل» ؛ ولأنّ مصدره التّزييل ، ولو كان «فيعل» ، لكان مصدره «فيعلة» كبيطرة ؛ لأن «فيعل» ملحق «بفعلل» ، ولقولهم في معناه : «زايل» ، ولم يقولوا : «زاول» ، بمعنى : «فارق» ، إنّما قالوه بمعنى : «حاول وخالط» ، وحكى الفرّاء : «فزايلنا» ، وبها قرأت (٢) فرقة ، قال الزمخشري : «مثل صاعر خدّه ، وصعّره ، وكالمته وكلّمته». يعني : أنّ «فاعل» بمعنى : «فعّل» ، و «زايل» بمعنى : «فارق».

قال : [الطويل]

٢٨٩٧ ـ وقال العذارى : إنّما أنت عمّنا

وكان الشّباب كالخليط يزايله (٣)

وقال آخر : [الطويل]

٢٨٩٨ ـ لعمري لموت لا عقوبة بعده

لذي البثّ أشفى من هوى لا يزايله (٤)

أي : يفارقه.

وقوله ـ تعالى ـ : «فزيّلنا» ، و «قال» هذان الفعلان ماضيان لفظا ، مستقبلان معنى ؛ لعطفهما على مستقبل ، وهو (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) ، وهما نظير قوله ـ تعالى ـ : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ) [هود : ٩٨]. و «إيّانا» : مفعول مقدم ، قدّم للاهتمام به والاختصاص ، وهو واجب التّقديم على ناصبه ؛ لأنّه ضمير منفصل ، لو تأخّر عنه ، لزم اتّصاله ، وقد تقدّم الكلام على ما بعد هذا من «كفى» المخففة ، واللّام التي بعدها ، بما يغني عن الإعادة. [البقرة ١٩٨].

فصل

المعنى (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) العابد والمعبود ، ثمّ إن المعبود يتبرّأ من العابد ، ويتبيّن له أنّه ما فعل ذلك بعلمه وإرادته ، ونظيره قوله ـ تعالى ـ : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) [البقرة : ١٦٦] ، وقوله : (ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) [سبأ : ٤٠].

و «الحشر» : الجمع من كل جانب إلى موقف واحد (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ) أي : الزموا مكانكم (وَشُرَكاؤُكُمْ) يعنى : الأوثان ، حتّى تسألوا ، (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ)

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ٣٨٠.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٤٤ ، المحرر الوجيز ٣ / ١١٧ ، البحر المحيط ٥ / ١٥٤ ، الدر المصون ٤ / ٢٨.

(٣) البيت لزهير بن أبي سلمى ، ينظر : ديوانه ٦٨ والبحر المحيط ٥ / ١٥٤ ، والدر المصون ٤ / ٢٨.

(٤) ينظر البيت في البحر المحيط ٥ / ١٥٤ والدر المصون ٤ / ٢٨.

٣١٦

أي : ميّزنا وفرّقنا بينهم ، وجاءت هذه الكلمة على لفظ الماضي ، بعد قوله : (ثُمَّ نَقُولُ) وهو مستقبل ؛ لأنّ ما جاءكم الله به ، سيكون صار كالكائن الآن ، كقوله : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٤٤].

وأضاف الشّركاء إليهم ؛ لأنّهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم.

وقيل : لأنّ الإضافة يكفي فيها أدنى تعليق ، فلمّا كان الكفّار هم الذين أثبتوا هذه الشّركة ، حسنت إضافة الشركاء إليهم ، وقيل : لمّا خاطب العابدين والمعبودين بقوله «مكانكم» صاروا شركاء في هذا الخطاب.

قال بعض المفسّرين : المراد بهؤلاء الشّركاء : الملائكة ، واستشهدوا بقوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) [سبأ : ٤٠] ، وقيل : هم الأصنام ، ثم اختلف هؤلاء كيف ذكرت الأصنام هذا الكلام؟ فقيل : إن الله ـ تعالى ـ يخلق فيها الحياة والعقل والنّطق ، وقيل : يخلق فيهم الرّوح من غير حياة ، حتّى يسمعوا منهم ذلك.

فإن قيل : إذا أحياهم الله هل يبقيهم أو يفنيهم؟.

فالجواب : أنّ الكلّ محتمل ، ولا اعتراض على الله في أفعاله ، وأحوال القيامة غير معلومة ، إلّا القليل ، ولا شك أن هذا خطاب تهديد في حق العابدين ، فهل يكون تهديدا في حق المعبودين؟ قالت المعتزلة : لا يجوز ذلك ؛ لأنّه لا ذنب للمعبود ، ومن لا ذنب له ، لم يصحّ تهديده ، وتخويفه ، وقال أهل السّنّة : لا يسأل عما يفعل.

فإن قيل : قول الشركاء : (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) وهم كانوا قد عبدوهم ، يكون كذبا ، وقد تقدّم في سورة الأنعام ، اختلاف الناس في أنّ أهل القيامة هل يكذبون أم لا؟.

والجواب ههنا : أنّ منهم من قال : المراد من قولهم : (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) : هو أنّكم ما عبدتمونا بأمرنا وإرادتنا ؛ لأنّهم استشهدوا بالله في ذلك بقولهم : (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) ، وبقولهم : (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) ، ومن النّاس من أجرى الآية على ظاهرها ، وقالوا : إنّ الشّركاء أخبروا أنّ الكفار ما عبدوها لوجوه :

الأول : أنّ ذلك الموقف موقف دهشة وحيرة ، فذلك الكذب جار مجرى كذب الصبيان ، والمجانين والمدهوشين.

الثاني : أنّهم ما أقاموا لأعمال الكفّار وزنا ، وجعلوها لبطلانها كالعدم ، فلهذا قالوا : ما عبدونا.

الثالث : أنهم تخيّلوا في الأصنام التي عبدوها صفات كثيرة ، فهم في الحقيقة إنّما عبدوا ذواتا موصوفة بتلك الصفات ، ولمّا كانت ذواتها خالية عن تلك الصفات ، فهم ما عبدوها ، وإنما عبدوا أمورا تخيّلوها ولا وجود لها في الأعيان ، وتلك الصّفات التي تخيّلوها في الأصنام : أنها تضرّ ، وتنفع ، وتشفع عند الله.

٣١٧

قوله تعالى : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) الآية.

في «هنالك» وجهان :

أظهرهما : بقاؤه على أصله ، من دلالته على ظرف المكان ، أي : في ذلك الموقف الدّحض ، والمكان الدّهش. وقيل : هو هنا ظرف زمان على سبيل الاستعارة ، ومثله (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) [الأحزاب : ١١] ، أي : في ذلك الوقت ؛ وكقوله : [الكامل]

٢٨٩٩ ـ وإذا الأمور تعاظمت وتشاكلت

فهناك يعترفون أين المفزع (١)

وإذا أمكن بقاء الشيء على موضوعه ، فهو أولى.

وقرأ الأخوان (٢) «تتلو» بتاءين منقوطتين من فوق ، أي : تطلب وتتبع ما أسلفته من أعمالها ، ومن هذا قوله : [الرجز]

٢٩٠٠ ـ إنّ المريب يتبع المريبا

كما رأيت الذّيب يتلو الذّيبا (٣)

أي : يتبعه ويتطلّبه ، ويجوز أن يكون من التلاوة المتعارفة ، أي : تقرأ كلّ نفس ما عملته مسطّرا في صحف الحفظة ، لقوله ـ تعالى ـ : (يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩] ، وقوله : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ) [الإسراء : ١٣].

وقرأ الباقون : «تبلو» من البلاء ، وهو الاختبار ، أي : يعرف عملها : أخير هو أم شر ، وقرأ عاصم في رواية «نبلو» (٤) بالنّون والباء الموحّدة ، أي : نختبر نحن ، و «كلّ» منصوب على المفعول به ، وقوله (ما أَسْلَفَتْ) على هذا القراءة يحتمل أن يكون في محلّ نصب ، على إسقاط الخافض ، أي : بما أسلفت ، فلمّا سقط الخافض ، انتصب مجروره ؛ كقوله : [الوافر]

٢٩٠١ ـ تمرّون الدّيار فلم تعوجوا

كلامكم عليّ إذن حرام (٥)

ويحتمل أن يكون منصوبا على البدل من (كُلُّ نَفْسٍ) ويكون من بدل الاشتمال. ويجوز أن يكون «نبلو» من البلاء ، وهو العذاب. أي : نعذّبها بسبب ما أسلفت ، و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية ، أو حرفية ، أو نكرة موصوفة ، والعائد محذوف على التقدير الأول ، والآخر دون الثاني على المشهور.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : السبعة ص (٣٢٥) ، الحجة ٤ / ٢٧١ ، حجة القراءات ص (٣٣١) ، إعراب القراءات ١ / ٢٦٧ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٠٨ ـ ١٠٩.

(٣) ينظر البيتان في البحر المحيط ٥ / ١٥٥ ، القرطبي ٨ / ٢١٣ ، والدر المصون ٤ / ٢٨.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٥٥ ، الدر المصون ٤ / ٢٩.

(٥) تقدم.

٣١٨

وقرأ ابن (١) وثّاب : «وردّوا» بكسر الرّاء ، تشبيها للعين المضعفة بالمعتلّة ، نحو : «قيل» و «بيع» ، ومثله : [الطويل]

٢٩٠٢ ـ وما حلّ من جهل حبا حلمائنا

 ......... (٢)

بكسر الحاء ، وقد تقدّم بيان ذلك [البقرة ١١].

قوله : (إِلَى اللهِ) لا بدّ من مضاف ، أي : إلى جزاء الله ، أو موقف جزائه.

والجمهور على «الحقّ» جرّا ، وقرىء (٣) منصوبا على أحد وجهين :

إمّا القطع ، وأصله أنّه تابع ، فقطع بإضمار «أمدح» ، كقولهم : الحمد لله أهل الحمد.

وإمّا أنّه مصدر مؤكّد لمضمون الجملة المتقدمة ، وهو (رُدُّوا إِلَى اللهِ) وإليه نحا الزمخشريّ.

قال : كقولك : «هذا عبد الله الحقّ ، لا الباطل» على التّأكيد ؛ لقوله : (رُدُّوا إِلَى اللهِ).

وقال مكّي : «ويجوز نصبه على المصدر ، ولم يقرأ به» ، وكأنّه لم يطلع على هذه القراءة ، وقوله : (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) «ما» تحتمل الأوجه الثلاثة.

المعنى : «هنالك» : في ذلك الوقت ، «نبلو» أي : نختبر ، والمعنى : يفعل بها فعل المختبر ، وعلى القراءة الأخرى : أنّ كلّ نفس نختبر أعمالها ، في ذلك الوقت.

(وَرُدُّوا إِلَى اللهِ) أي : ردّوا إلى جزاء الله ، قال ابن عبّاس : (مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) أي : الذي يجازيهم بالحق ، وقيل : جعلوا ملجئين إلى الإقرار بإلاهيته ، (مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) أي : أعرضوا عن المولى الباطل ، ورجعوا إلى المولى الحقّ ، وقد تقدّم تفسير (مَوْلاهُمُ الْحَقِ) [الأنعام : ٦٢] في الأنعام. (وَضَلَّ عَنْهُمْ) : زال وبطل ، (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي : يعبدون ، ويعتقدون أنهم شفعاء ، فإن قيل : قد قال : (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد : ١١] ، قيل : المولى هناك هو الناصر ، وههنا بمعنى الملك.

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٣)

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) الآية.

لمّا ذكر فضائح عبدة الأوثان ، أتبعها بذكر الدّلائل الدّالّة على فساد هذا المذهب : وهي أحوال الرزق ، وأحوال الحواس ، وأحوال الموت والحياة : أمّا الرزق ، فإنّه إنّما

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١١٧ ، البحر المحيط ٥ / ١٥٥ ، الدر المصون ٤ / ٢٩.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٤٤ ، البحر المحيط ٥ / ١٥٥ ، الدر المصون ٤ / ٢٩.

٣١٩

يحصل من السماء والأرض : أمّا من السّماء ، فبنزول المطر الموافق ، وأمّا من الأرض ، فلأنّ الغذاء إمّا أن يكون نباتا ، أو حيوانا : أمّا النبات فلأنّ الأرض تنبته ، وأمّا الحيوان ، فهو محتاج أيضا إلى الغذاء ، ولا يمكن أن يكون غذاء كل حيوان ، حيوانا آخر ، وإلا لزم التّسلسل ، وهو محال ، فثبت أنّ غذاء الحيوان ، يجب انتهاؤه إلى النّبات ، والنبات إنما يتولّد من الأرض ، فثبت أنّ الرزق إنما يحصل من السّماء والأرض ، ولا مدبّر لهما إلّا الله ـ تعالى ـ ، وأمّا أحوال الحواسّ فكذلك ، قال عليّ ـ رضي الله عنه ـ : سبحان من بصر بشحم ، وأسمع بعظم ، وأنطق بلحم.

قوله (مِنَ السَّماءِ) : «من» يجوز أن تكون الابتداء الغاية ، وأن تكون للتبعيض ، وأن تكون لبيان الجنس ، ولا بدّ على هذين الوجهين من مضاف محذوف ، أي : من أهل السّماء ، قوله : «أم» ، هذه «أم» المنقطعة ؛ لأنّه لم تتقدّمها همزة استفهام ولا تسوية ، ولكن إنّما تقدّر هنا ب «بل» وحدها ، دون الهمزة ، وقد تقرّر أنّ المنقطعة عند الجمهور تقدّر بهما ، وإنما لم تتقدّر هنا ب «بل» والهمزة ؛ لأنّها وقع بعدها اسم استفهام صريح ، وهو «من» ، فهو كقوله ـ تعالى ـ : (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النمل : ٨٤] ، والإضراب هنا على القاعدة المقررة في القرآن ، أنه إضراب انتقال ، لا إضراب إبطال.

قوله : (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ).

قيل : يخرج الإنسان من النطفة ، والطائر من البيضة ، (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) : يخرج النّطفة والبيضة من الإنسان ، والطّائر ، وقيل : يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، ثم قال : (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) وهذا كلام كليّ ؛ لأنّ تدبير أقسام الله في العالم العلويّ ، والسّفلي أمور لا نهاية لها ، وذكرها كالمتعذّر ، فلمّا ذكر بعض تلك التفاصيل ؛ عقّبها بالكلام الكلّي ليدلّ على الباقي ، ثم بيّن أنّ الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، إذا سألهم عن مدبّر هذه الأمور ، فسيقولون هو الله ، وهذا يدلّ على أنّ المخاطبين بهذا الكلام ، كانوا يعرفون الله تعالى ، ويقرون به ، وهم الذين قالوا في عبادتهم الأصنام : إنّها تقربنا إلى الله زلفى ، وأنّهم شفعاؤنا عند الله ، وكانوا يعلمون أنّ هذه الأصنام ، لا تنفع ولا تضرّ ، فعند ذلك قال لرسوله : (فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) الشرك مع هذا الإقرار ، وقيل : أفلا تخافون عقابه في شرككم؟.

قوله : (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ) الذي يفعل هذه الأشياء ، هو ربّكم الحقّ.

قوله : (فَما ذا بَعْدَ) يجوز أن يكون «ماذا» كلّه اسما واحدا ؛ لتركّبهما ، وغلّب الاستفهام على اسم الإشارة ، وصار معنى الاستفهام هنا النّفي ، ولذلك أوجب بعده ب «إلّا» ، ويجوز أن يكون «ذا» موصولا بمعنى : «الّذي» ، والاستفهام أيضا بمعنى : النّفي ؛ والتقدير : ما الذي بعد الحقّ إلّا الضّلال؟.

وإذا ثبت أنّ الله هو الحقّ ، وجب أن يكون ما سواه ضلالا ، أي : باطلا ؛ لأنّ

٣٢٠