اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) مبيّنا بذلك أنّ العبادة لا تصلح إلا له ، وأنه هو المستحقّ لجميع العبادات ، لأنه هو المنعم بجميع النّعم التي ذكرها.

ثم قال : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) دالّا بذلك على وجوب التّفكّر في تلك الدّلائل القاهرة الباهرة.

قوله تعالى : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) الآية.

لمّا ذكر الدّلائل الدّالة على إثبات المبدأ ، أردفه بما يدلّ على صحّة القول بالمعاد فقوله (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) الرجع بمعنى الرجوع و «جميعها» نصب على الحال أي ذلك الرجوع يحصل حال الاجتماع وهذا يدل على أن المراد بالرجوع القيامة لا الموت. وقوله : (وَعْدَ اللهِ) منصوب على المصدر المؤكّد ؛ لأنّ معنى (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) : وعدكم بذلك.

وقوله : «حقّا» مصدر آخر مؤكّد لمعنى هذا الوعد ، وناصبه مضمر ، أي : أحق ذلك حقّا.

وقيل : انتصب «حقّا» ب «وعد» على تقدير «في» ، أي : وعد الله في حق ، يعني على التّشبيه بالظروف. وقال الأخفش الصغير : التقدير : وقت حق ؛ وأنشد : [الطويل]

٢٨٧١ ـ أحقّا عباد الله أن لست ذاهبا

ولا والجا إلّا عليّ رقيب (١)

(إِنَّهُ يَبْدَؤُا) الجمهور على كسر الهمزة للاستئناف ، وقرأ عبد الله ، وابن (٢) القعقاع ، والأعمش ، وسهيل بن شعيب بفتحها ، وفيها تأويلات :

أحدها : أن تكون فاعلا بما نصب «حقّا» أي : حقّ حقّا بدء الخلق ، ثمّ إعادته ؛ كقوله : [الطويل]

٢٨٧٢ ـ أحقّا عباد الله أن لست جائيا

 ......... (٣)

البيت.

وهو مذهب الفرّاء ، فإنّه قال «والتقدير : يحقّ أنّه يبدأ الخلق».

والثاني : أنه منصوب بالفعل الذي نصب (وَعْدَ اللهِ) ، أي : وعد الله تعالى بدء الخلق ثم إعادته ، والمعنى : إعادة الخلق بعد بدئه.

__________________

(١) البيت لابن الدمينة ورواية الديوان :

أحقّا عباد الله أن لست صادرا

ولا واردا إلّا عليّ رقيب

ينظر : ديوانه (٩) والبحر المحيط ٥ / ١٢٩ والأشموني ٢ / ٢٣٥ والطبري ١٥ / ١٢ والكشاف ٢ / ٣٢٩ وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٣٦٤ والدر المصون ٤ / ٦.

(٢) ينظر : إتحاف ٢ / ١٠٤ ، الكشاف ٢ / ٣٢٨ ـ ٣٢٩ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٠٤ ، البحر المحيط ٥ / ١٢٩ ، الدر المصون ٤ / ٦.

(٣) تقدم تقريبا.

٢٦١

الثالث : أنه على حذف لام الجرّ ، أي : لأنّه ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشري وغيره.

الرابع : أنّه بدل من (وَعْدَ اللهِ) قاله ابن عطية (١).

الخامس : أنه مرفوع بنفس «حقّا» أي : بالمصدر المنون ، وهذا إنّما يتأتّى على جعل «حقّا» غير مؤكد ، لأنّ المصدر المؤكّد لا عمل له إلّا إذا ناب عن فعله ، وفيه بحث.

السادس : أن يكون «حقّا» مشبها بالظّرف خبرا مقدما ، و «إنّه» في محلّ رفع مبتدأ مؤخرا ، كقولهم : أحقا أنّك ذاهب ، قالوا : تقديره : أفي حقّ ذهابك.

وقرأ ابن أبي (٢) عبلة «حقّ أنّه» برفع حق وفتح «أنّ» على الابتداء والخبر ، قال أبو حيّان : وكون «حق» خبر مبتدأ ، و «أنه» هو المبتدأ هو الوجه في الإعراب ، كما تقول : صحيح أنك مخرج ؛ لأنّ اسم «أن» معرفة ، والذي تقدّمها في هذا المثال نكرة ، فظاهر هذه العبارة يشعر بجواز العكس ، وهذا قد ورد في باب «إنّ» ؛ كقوله : [الطويل]

٢٨٧٣ ـ وإنّ حراما أن أسبّ مجاشعا

بآبائي الشّمّ الكرام الخضارم (٣)

وقوله : [الطويل]

٢٨٧٤ ـ وإنّ شفاء عبرة أن سفحتها

وهل عند رسم دارس من معوّل (٤)

على جعل «أن سفحتها» بدلا من «عبرة» ، وقد أخبر في «كان» عن نكرة بمعرفة ، كقوله : [الوافر]

٢٨٧٥ ـ .........

ولا يك موقف منك الوداعا (٥)

وقوله : [الوافر]

٢٨٧٦ ـ .........

يكون مزاجها عسل وماء (٦)

قال مكّي (٧) : «وأجاز الفرّاء رفع «وعد» ، بجعله خبرا ل «مرجعكم». وأجاز رفع «وعد» و «حقّ» على الابتداء والخبر ، وهو حسن ، ولم يقرأ به أحد».

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٠٤.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٢٩ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٠٤ ـ ١٠٥ ، البحر المحيط ٥ / ١٢٩ ، الدر المصون ٤ / ٦.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

(٥) عجز بيت للقطامي وصدره :

قضى قبل التفرق يا ضباعا

ينظر : ديوانه (٣٧) والكتاب ٢ / ٢٤٣ والمقتضب ٤ / ٩٤ وشرح المفصل لابن يعيش ٧ / ٩١ والخزانة ٩ / ٢٨٤ والمغني ٢ / ٤٥٣ والهمع ١ / ١١٩ والدرر ١ / ٨٨ والتهذيب ٣ / ١٣٩ واللسان (ودع) والدر المصون ٤ / ٦ والأشموني ٣ / ١٧٣.

(٦) تقدم.

(٧) ينظر : المشكل ١ / ٣٧٤.

٢٦٢

قال شهاب الدّين : نعم لم يرفع «وعد» ، و «حقّ» معا أحد ، وأمّا رفع «حقّ» وحده فقد تقدّم أن ابن أبي عبلة قرأه ، وتقدّم توجيهه ، ولا يجوز أن يكون (وَعْدَ اللهِ) عاملا في «أنّه» لأنه قد وصف بقوله «حقّا» قاله أبو الفتح ، وقرىء (١)(وَعْدَ اللهِ) بلفظ الفعل الماضي ورفع الجلالة فاعلة ، وعلى هذه يكو ن «إنه يبدأ» معمولا له إن كان هذا القارىء يفتح «أنه» ، والجمهور على يبدأ بفتح الياء من بدأ ، وابن أبي طلحة (٢) «يبدىء» من أبدأ ، وبدأ وأبدأ بمعنى واحد.

فصل

في هذه الآية إضمار ، تقديره : إنّه يبدأ الخلق ؛ ليأمرهم بالعبادة ، ثم يميتهم ثم يعيدهم ، كقوله في البقرة : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [البقرة : ٢٨].

إلّا أنّه ـ تعالى ـ حذف ذكر الأمر بالعبادة ههنا ؛ لأنّه ـ تعالى ـ قال من قبله (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاعْبُدُوهُ) وحذف ذكر الإماتة ، لأنّ ذكر الإعادة يدلّ عليها. وهذه الآية تدلّ على أنّه تعالى يعيد جميع المخلوقات ، وإعادتها لا يمكن إلّا بعد إعدامها ، وإلا لزم إيجاد الموجود وهو محال ، ونظيره قوله تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء : ١٠٤] فحكم بأنّ الإعادة تكون مثل الابتداء.

قوله : «ليجزي» متعلّق بقوله (ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، و «بالقسط» متعلق ب «يجزي» ويجوز أن يكون حالا : إمّا من الفاعل أو المفعول ، أي : يجزيهم ملتبسا بالقسط أو ملتبسين به ، والقسط : العدل.

فصل

قال الكعبي : «اللّام في قوله (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) تدل على أنّه تعالى خلق العباد للثواب والرحمة ، وأيضا فإنّه أدخل «لام» التعليل على الثواب ، ولم يدخلها على العقاب ، بل قال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) فدل على أنّه خلق الخلق للرّحمة لا للعقاب ، وذلك يدلّ على أنّه ـ تعالى ـ ما أراد منهم الكفر ، ولم يخلق الكفر فيهم».

والجواب : أنّ لام التعليل في أفعال الله ـ تعالى ـ محال ؛ لأنه ـ تعالى ـ لو فعل فعلا لعلّة لكانت تلك العلّة ، إن كانت قديمة لزم قدم الفعل ، وإن كانت حادثة فيلزم التسلسل ، وهو محال.

فصل

في تفسير «القسط» وجهان :

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٢٩ ، المحرر الوجيز ٣ / ٥٠٤ ـ ١٠٥ ، البحر المحيط ٥ / ١٢٩ ، الدر المصون ٤ / ٦.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

٢٦٣

الأول : أنّه العدل ، كما تقدم ؛ والعدل هو الذي يكون لا زائدا ولا ناقصا ، وذلك يدلّ على أنّه تعالى لا يزيدهم على ما يستحقونه بأعمالهم ، ولا يتفضّل عليهم بشيء.

فالجواب : أنّ الثواب أيضا محض التّفضّل ، وأيضا فبتقدير أن يساعد على حصول الاستحقاق إلا أنّ لفظ «القسط» يدلّ على توفية الأجر ، فأمّا المنع من الزّيادة فلفظ «القسط» لا يدلّ عليه ، فإن قيل : لم خصّ المؤمنين بالقسط مع أنّه ـ تعالى ـ يجازي الكافرين أيضا بالقسط؟.

فالجواب : أنّ تخصيص المؤمنين يدلّ على مزيد العناية في حقّهم ، وعلى كونهم مخصوصين بمزيد الإحسان.

الوجه الثاني ـ في تفسير القسط ـ : أن المعنى : ليجزي الذين آمنوا بقسطهم ، وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا أنفسهم حين آمنوا وعملو الصّالحات ، لأنّ الشّرك ظلم ، قال تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ، والعصاة أيضا قد ظلموا أنفسهم ، قال تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) [فاطر : ٣٢] وهذا أقوى ؛ لأنه في مقابلة قوله : (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ).

قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون مرفوعا بالابتداء ، والجملة بعده خبره.

والثاني : أن يكون منصوبا عطفا على الموصول قبله ، وتكون الجملة بعده مبيّنة لجزائهم. و «شراب» يجوز أن يكون فاعلا ، وأن يكون مبتدأ ، والأول أولى.

قوله : (بِما كانُوا) الظّاهر تعلّقه بالاستقرار المضمر في الجارّ الواقع خبرا ، والتقدير : استقرّ لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا. وجوّز أبو البقاء فيه وجهين ولم يذكر غيرهما :

الأول : أن يكون صفة أخرى ل «عذاب».

والثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، وهذا لا معنى له ، ولا حاجة إلى العدول عن الأوّل. قال الواحدي : الحميم : الذي أسخن بالنّار حتى انتهى حرّه ، يقال : حممت الماء ، أي : أسخنته ، أحميه ، فهو حميم ، ومنه الحمّام.

فصل

دلّت الآية على أنّه لا واسطة بين أن يكون المكلّف مؤمنا ، وبين أن يكون كافرا ، لأنّه اقتصر في الآية على ذكر هذين القسمين.

وأجاب القاضي : بأنّ ذكر هذين القسمين لا ينفي القسم الثالث ؛ لأنّ قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) [النور : ٤٥] ولم يدلّ ذلك على نفي القسم الرابع ، بل ربما ذكر المقصود أو الأكثر ،

٢٦٤

وترك ما عداه ، إذا كان قد بيّن في موضع آخر ، وقد بيّن الله حال القسم الثالث في سائر الآيات.

وجوابه : إنّما يترك القسم الذي يجري مجرى النّادر ، ومعلوم أنّ الفسّاق أكثر من أهل الطّاعة ، فكيف يجوز ترك ذكرهم في هذا الباب؟ وأما قوله تعالى (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) فإنّما ترك ذكر القسم الرابع ، لأنّ أقسام دواب الأرض كثيرة ، فكان ذكرها بأسرها يوجب الإطناب ، بخلاف مسألتنا ، فإنه ليس هنا إلّا القسم الثّالث ، وهو الفاسق الذي يزعم الخصم أنّه لا مؤمن ولا كافر ، فظهر الفرق.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ)(٦)

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) الآية.

لمّا ذكر الدلائل الدّالة على الإلهيّة ، وهي التّمسّك بخلق السموات والأرض ، ثم فرع عليها صحّة القول بالحشر والنشر ، عاد إلى ذكر الدّلائل الدّالة على الإلهيّة ، وهي التمسّك بأحوال الشمس والقمر ، وهو إشارة إلى توكيد الدّليل على الحشر والنشر ؛ لأنّه ـ تعالى ـ أثبت القول بالحشر والنشر بناء على أنّه لا بد من إيصال الثّواب إلى أهل الطّاعة ، والعقاب إلى الكفّار ، وأنّه يجب تمييز المحسن عن المسيء.

ثم ذكر في هذه الآية أنّه جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدّره منازل ، ليتوصّل المكلّف بذلك إلى معرفة السنين والحساب ، فيرتّب مهمات معاشه وزراعته وحراثته ، ويعدّ مهمات الشّتاء والصّيف ، فكأنّه تعالى يقول : تمييز المحسن عن المسيء ، أوجب وأولى من تعليم أحوال السّنين والشّهور ، فلمّا اقتضت الحكمة بخلق الشمس والقمر لهذا المهمّ الذي لا نفع له فبأن تقتضي الحكمة والرّحمة تمييز المحسن عن المسيء بعد الموت ، مع أنّه يقتضي النفع الأبديّ والسعادة السّرمديّة كان أولى ، فلمّا كان الاستدلال بأحوال الشّمس والقمر من الوجه المذكور في هذه الآية ممّا يدلّ على التّوحيد من وجه ، وعلى صحّة القول بالمعاد من الوجه الذي ذكرناه ، لا جرم ذكر الله تعالى هذا الدّليل بعد ذكر الدّليل على صحّة المعاد.

قوله : «ضياء» : إمّا مفعول ثان على أنّ الجعل للتصيير ، وإمّا حال على أنّه بمعنى الإنشاء ، والجمهور على «ضياء» بصريح الياء قبل الألف ، وأصلها واو ؛ لأنّه من الضّوء. وقرأ قنبل (١) عن ابن كثير هنا وفي الأنبياء والقصص «ضئاء» بقلب الياء همزة ، فتصير

__________________

(١) ينظر : السبعة ص (٣٢٣) ، الحجة ٤ / ٢٥٨ ، حجة القراءات ص (٣٢٨) ، إعراب القراءات ١ / ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، إتحاف ٢ / ١٠٤.

٢٦٥

ألف بين همزتين. وأوّلت على أنه مقلوب قدّمت لامه وأخّرت عينه ، فوقعت الياء طرفا بعد ألف زائدة فقلبت همزة على حدّ «رداء» وأردية ، وإن شئت قلت : لمّا قلبت الكلمة صارت «ضياوا» بالواو ، عادت العين إلى أصلها من الواو لعدم موجب قلبها ياء وهو الكسر لسابقها ، ثم أبدلت الواو همزة على حدّ «كساء». وقال أبو البقاء : «إنّها قلبت ألفا ، ثمّ قلبت الألف همزة ، لئلّا تجتمع ألفان» ، واستبعدت هذه القراءة من حيث إنّ اللغة مبنيّة على تسهيل الهمز فكيف يتخيّلون في قلب الحرف الخفيف إلى أثقل منه؟ لا غرو في ذلك ، فقد قلبوا حروف العلّة الألف والواو والياء همزة في مواضع لا تحصر إلا بعسر ، إلّا أنه هنا ثقيل ؛ لاجتماع همزتين.

وأكثر النّاس على تغليط هذه القراءة ؛ لأنّ ياء «ضياء» منقلبة عن واو ، مثل : ياء قيام ، وصيام ، فلا وجه للهمزة فيها ، قال أبو شامة : «وهذه قراءة ضعيفة ، فإنّ قياس اللّغة الفرار من اجتماع همزتين إلى تخفيف إحداهما ، فكيف يتخيّل بتقديم وتأخير يؤدّي إلى اجتماع همزتين لم يكونا في الأصل؟ هذا خلاف حكم اللّغة».

وقال أبو بكر بن مجاهد ـ وهو ممّن قرأ على قنبل ـ : «قرأ ابن كثير وحده «ضئاء» بهمزتين في كل القرآن الهمزة الأولى قبل الألف ، والثانية بعدها ، كذلك قرأت على قنبل وهو غلط ، وكان أصحاب البزّي ، وابن فليح ينكرون هذا ويقرؤون «ضياء» مثل الناس».

قال شهاب الدّين (١) : «كثيرا ما يتجرّأ أبو بكر على شيخه ويغلّطه ، وسيمرّ بك مواضع من ذلك ، وهذا لا ينبغي أن يكون ، فإنّ قنبلا بالمكان الذي يمنع أن يتكلّم فيه أحد».

وقوله في جانب الشمس : «ضياء» ؛ لأنّ الضوء أقوى من النّور ، وقد تقدم ذلك أوّل البقرة و «ضياء ونورا» يحتمل أن يكونا مصدرين ، وجعلا نفس الكوكبين مبالغة ، كما يقال للكريم : إنه كرم وجود ، أو على حذف مضاف أي : ذات ضياء وذا نور ، و «ضياء» يحتمل أن يكون جمع «ضوء» كسوط وسياط ، وحوض وحياض.

قوله : «منازل» نصب على ظرف المكان ، وجعله الزمخشريّ على حذف مضاف : إمّا من الأول أي : قدّر مسيره ، وإمّا من الثاني أي : قدّره ذا منازل ، فعلى التقدير الأول يكون «منازل» ظرفا كما مرّ ، وعلى الثاني يكون مفعولا ثانيا على تضمين «قدّر» معنى صيّره ذا منازل بالتقدير ، وقال أبو حيّان ـ بعد أن ذكر التقديرين ، ولم يعزهما للزمخشري : أو قدّر له منازل ، فحذف وأوصل الفعل إليه ، فانتصب بحسب هذه التّقادير على الظّرف أو الحال أو المفعول ، كقوله : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) [يس : ٣٩] وقد سبقه إلى ذلك أبو البقاء.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٨.

٢٦٦

والضمير في «قدّره» يعود على القمر وحده ، لأنّه هو عمدة العرب في تواريخهم.

وقال ابن عطيّة : «ويحتمل أن يريدهما معا بحسب أنهما يتصرّفان في معرفة عدد السّنين والحساب لكنّه اجتزىء بذكر أحدهما ، كقوله تعالى (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] ؛ وكما قال الشاعر : [الطويل]

٢٨٧٧ ـ رماني بأمر كنت منه ووالدي

بريئا ومن أجل الطّويّ رماني (١)

قوله «لتعلموا» : متعلّق ب «قدّره» ، وسئل أبو عمرو عن الحساب : أتنصبه أم تجرّه؟

فقال : ومن يدري ما عدد الحساب؟ يعني أنه سئل : هل تعطفه على «عدد» فتنصبه أم على «السّنين» فتجرّه؟ فكأنّه قال : لا يمكن جرّه ، إذ يقتضي ذلك أن يعلم عدد الحساب ولا يقدر أحد أن يعلم عدده.

فصل

معنى الآية : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) بالنهار ، (وَالْقَمَرَ نُوراً) بالليل. وقيل : جعل الشمس ذات ضياء ، والقمر ذا نور ، (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) أي : قدّر له ، يعنى : هيّأ له منازل لا يجاوزها ولا يقصر دونها ، ولم يقل قدرهما. قيل تقدير المنازل منصرف اليهما ، واكتفى بذكر أحدهما لما قدّمنا. وقيل : ينصرف إلى القمر خاصة ، لأن بالقمر خاصة يعرف انقضاء الشّهور والسّنين ، لا بالشمس. ومنازل القمر هي : المنازل المشهورة ، وهي الثمانية والعشرون منزلا ، وهذه المنازل مقسومة على البروج الاثني عشر ، لكل برج منزلتان واحدة إن كان الشهر تسعا وعشرين ، فيكون انقضاء الشهر مع نزوله تلك المنازل ، ويكون مقام الشهر في كل منزلة ثلاثة عشر يوما ، فيكون انقضاء السنة مع انقضائها.

واعلم : أنّ الشمس سلطان النهار وأنّ القمر سلطان الليل ، وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى الفصول الأربعة ، وبالفصول الأربعة تنتظم مصالح هذا العالم ، وبحركة القمر تحصل الشهور ، وباختلاف حاله في زيادة ضوئه ونقصانه تختلف أحوال رطوبات هذا العالم ، وبسبب الحركة اليومية يحصل النهار والليل ، فالنهار زمان التّكسّب والطلب ، والليل زمان للرّاحة ، وهذا يدلّ على كثرة رحمة الله ـ تعالى ـ للخلق وعظم عنايته لهم.

قال حكماء الإسلام : هذا يدلّ على أنه ـ تعالى ـ أودع في أجرام الأفلاك والكواكب خواصّ معينة ، وقوى مخصوصة باعتبارها تنتظم مصالح هذا العالم السّفلي ، إذ لو لم يكن لها آثار وفوائد في هذا العالم ، لكان خلقها عبثا وباطلا بغير فائدة ، وهذه النّصوص تنافي ذلك.

قوله : (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) «ذلك» إشارة إلى الخلق ، والتقدير : ما خلق الله ذلك المذكور إلا ملتبسا بالحقّ ، فيكون حالا : إمّا من الفاعل وإمّا من المفعول. وقيل :

__________________

(١) تقدم.

٢٦٧

الباء بمعنى اللّام أي : للحقّ ، ولا حاجة إليه ، والمعنى : لم يخلقه باطلا ، بل إظهارا لصنعته ، ودلالة على قدرته.

قوله : «يفصّل» قرأ ابن كثير (١) ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، ويعقوب «يفصّل» بياء الغيبة جريا على اسم الله ـ تعالى ـ ، والباقون : بنون العظمة ، التفاتا من الغيبة إلى التّكلّم للتّعظيم.

ومعنى التّفصيل : هو ذكر هذه الدلائل الباهرة ، واحدة عقيب الأخرى مع الشّرح والبيان ، ثم قال (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) قيل : المراد منه : العقل الذي يعمّ الكل. وقيل : المراد منه تفكر وعلم فوائد مخلوقاته ، وآثار إحسانه ، لأنّ العلماء هم المنتفعون بهذه الدلائل ، كقوله (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥] مع أنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كان منذرا للكلّ.

قوله تعالى : (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) الآية.

اعلم أنّه تعالى استدلّ على التوحيد والإلهية.

أولا : بتخليق السموات والأرض.

وثانيا : بأحوال الشمس والقمر.

وثالثا : في هذه الآية بالمنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار ، وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة عند قوله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

واعلم أنّ الحوادث الحادثة في هذا العالم أربعة أقسام :

أحدها : الأحوال الحادثة في العناصر الأربعة ، ويدخل فيها أحوال الرّعد والبرق والسّحاب والأمطار والثّلوج ، ويدخل فيها أحوال البحار ، وأحوال المدّ والجزر ، وأحوال الصّواعق والزّلازل والخسف.

وثانيها : أحوال المعادن وهي عجيبة كثيرة.

وثالثها : اختلاف أحوال النّبات.

ورابعها : اختلاف أحوال الحيوانات ، وكلّها داخلة في قوله : (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

ثم قال : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) خصّها بالمتّقين ؛ لأنّهم يحذرون العاقبة.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٨)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) الآية.

لمّا ذكر الدّلائل القاهرة على إثبات الإلهيّة ، وعلى صحّة القول بالمعاد ، والحشر ،

__________________

(١) ينظر : السبعة ص (٣٢٣) ، الحجة ٤ / ٢٥٢ ، حجة القراءات ص (٣٢٨) ، إعراب القراءات ١ / ٢٦١ ، إتحاف ٢ / ١٠٤.

٢٦٨

والنّشر ، شرح بعده أحوال من يكفر بها ، ومن يؤمن بها ؛ فأما شرح أحوال الكفّار ، فهو المذكور في هذه الآية ، وصفهم فيها بأربع صفات :

الأولى : قوله : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا)(١).

قال ابن عبّاس ، ومقاتل ، والكلبي : معناه : لا يخافون البعث ؛ لأنّهم لا يؤمنون به ، والرّجاء : الخوف ؛ لقوله : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥] ، وقوله : (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء : ٤٩] ، وقوله : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) [نوح : ١٣] ؛ وقال الهذليّ : [الطويل]

٢٨٧٨ ـ إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها

وخالفها في بيت نوب عواسل (٢)

وقال الزّجّاج : الطّمع ؛ والمعنى : لا يطمعون في ثوابنا ، واعلم أنّ اللّقاء : هو الوصول إلى الشيء ، وهذا في حقّ الله ـ تعالى ـ محال ؛ لأنه منزّه عن الحدّ ؛ فوجب أن يكون مجازا عن الرّؤية ؛ فإنه يقال : لقيت فلانا ، إذا رأيته.

الصفة الثانية : قوله : (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا ،) وهذه إشارة إلى استغراقهم في طلب اللّذات الجسمانيّة.

والصفة الثالثة : قوله : (وَاطْمَأَنُّوا بِها) يجوز أن يكون عطفا على الصّلة ، وهو الظاهر ، وأن تكون الواو للحال ، والتقدير : وقد اطمأنّوا. وهذه صفة الأشقياء ، وهي أن تحصل لهم الطّمأنينة في حبّ الدّنيا والاشتغال بلذّاتها ، فيزول عن قلوبهم الوجل ، فإذا سمعوا الإنذار والتّخويف لم توجل قلوبهم وصارت كالميتة عند ذكر الله ـ تعالى ـ ، وهذا بخلاف صفة السّعداء ، فإنّهم يحصل لهم الوجل عند ذكر الله ـ تعالى ـ ، كما قال : (إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال : ٢] ، ثمّ إذا قويت هذه الحالة اطمأنّوا بذكر الله ، كما قال : (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد : ٢٨].

ومقتضى اللّغة أن يقال : واطمأنّوا إليها ، إلّا أنّ حروف الجرّ يحسن إقامة بعضها مقام البعض.

الصفة الرابعة : قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ). يحتمل أن يكون من باب عطف الصفات ، بمعنى أنّهم جامعون بين عدم رجاء لقاء الله وبين الغفلة عن الآيات ، والمراد بالغفلة الإعراض ، وأن يكون هذا الموصول غير الأول ، فيكون عطفا على اسم «إنّ» ، أي : إنّ الّذين لا يرجون ، وإنّ الذين هم.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٧ / ٣٢).

(٢) ينظر البيت في ديوان الهذليين ١ / ١٤٣ ومجاز القرآن ١ / ٢٧٥ ، ٢ / ٧٣ واللسان (رجا) وتأويل مشكل القرآن ١٩١ والمذكر والمؤنث لابن الأنباري ١ / ٥٨٩ وإصلاح المنطق ١٤٢ والتفسير الكبير ١٧ / ٣٨ والقرطبي ٨ / ١٩٩ الأضداد لابن السكيت ص ١٧٩ المقاييس ٢ / ٤٩٥ المخصص ٨ / ١٧٨.

٢٦٩

و «أولئك» مبتدأ ، و «مأواهم» مبتدأ ثان ، و «النّار» خبر هذا المبتدأ الثاني ، والثاني وخبره خبر «أولئك» ، و «أولئك» وخبره خبر (إِنَّ الَّذِينَ) ، و (بِما كانُوا) متعلّق بما تضمّنته الجملة من قوله : (مَأْواهُمُ النَّارُ) والباء سببيّة ، و «ما» مصدرية ، وجيء بالفعل بعدها مضارعا دلالة على استمرار ذلك في كلّ زمان. وقال أبو البقاء : «إن الباء تتعلّق بمحذوف ، أي : جوزوا بما كانوا».

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١٠)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية.

لمّا شرح أحوال المشركين ذكر أحوال المؤمنين ، قال القفال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : صدقوا بقلوبهم ، ثم حقّقوا التّصديق بالعمل الصّالح الذي جاءت به الأنبياء من عند الله.

ثم ذكر بعد ذلك درجات كراماتهم فقال : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) فقيل : يهديهم إلى الجنّة ثوابا على إيمانهم وأعمالهم الصّالحة ، ويدلّ عليه قوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) [الحديد : ١٢] ، وما روي أنّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ قال : «إنّ المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة حسنة ، فيقول له: أنا عملك ، فيكون له نورا وقائدا إلى الجنّة ، والكافر إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيّئة ، فيقول له : أنا عملك ، فينطلق به حتّى يدخله النّار» (١) ، وقال مجاهد : المؤمن يكون له نور يمشي به إلى الجنّة (٢). قال ابن الأنباري : إيمانهم يهديهم إلى خصائص المعرفة ، ولوامع من النّور تشرق بها قلوبهم ، وتزول بواسطتها الشّكوك والشّبهات ، كقوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد : ١٧] وهذه الفوائد يجوز حصولها في الدّنيا قبل الموت ، ويجوز حصولها في الآخرة بعد الموت ؛ قال القفال : وإذا حملنا الآية على هذا الوجه ؛ كان المعنى : يهديهم ربّهم بإيمانهم ، وتجري من تحتهم الأنهار ، إلّا أنّه حذف الواو ، وقيل : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ) مستأنفا منقطعا عمّا قبله ، ويجوز أن يكون حالا من مفعول «يهديهم».

قوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) المراد : أن يكونوا جالسين على سرر

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٣٤) عن قتادة مرسلا وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٣٨) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٣٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٣٨) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٤٥).

٢٧٠

مرفوعة في البساتين ، والأنهار تجري من بين أيديهم ، كقوله : (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) [مريم : ٢٤] ، وهي ما كانت قاعدة عليه بل المعنى : بين يديك ، وكذا قوله : (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) [الزخرف : ٥١] أي : بين يدي ، وقيل : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ) أي : بأمرهم.

قوله : (فِي جَنَّاتِ) يجوز أن يتعلّق ب «تجري» ، وأن يكون حالا من «الأنهار» ، وأن يكون خبرا بعد خبر ل «إنّ» ، وأن يكون متعلّقا ب «يهدي».

قوله : «دعواهم» مبتدأ ، و «سبحانك» معمول لفعل مقدّر لا يجوز إظهاره هو الخبر ، والخبر هنا هو نفس المبتدأ ، والمعنى : أن دعاؤهم هذا اللفظ ، ف «دعوى» يجوز أن يكون بمعنى الدعاء ، ويدلّ عليه «اللهمّ» ؛ لأنّه نداء في معنى يا الله ، يقال : «دعا يدعو دعاء ودعوى» ، كما يقال : «شكى يشكو شكاية وشكوى» ، ويجوز أن يكون الدّعاء هنا بمعنى العبادة ، نظيره قوله تعالى : (وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [مريم : ٤٨] أي : وما تعبدون ، ف «دعوى» : مصدر مضاف للفاعل ، ثم إن شئت أن تجعل هذا من باب الإسناد اللفظي ، أي : دعاؤهم في الجنّة هذا اللفظ بعينه ، فيكون نفس «سبحانك» هو الخبر ، وجاء به محكيّا على نصبه بذلك الفعل ، وإن شئت جعلته من باب الإسناد المعنوي ؛ فلا يلزم أن يقولوا هذا اللفظ فقط ، بل يقولونه وما يؤدّي معناه من جميع صفات التنزيه والتّقديس ، وقد تقدّم نظير هذا عند قوله تعالى : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) [البقرة : ٥٨].

وقيل : المراد من الدّعوى : نفس الدّعوى التي تكون للخصم على خصمه.

والمعنى : أنّ أهل الجنّة يدعون في الدّنيا وفي الآخرة تنزيه الله عن كل المعايب ، والإقرار له بالإلهيّة.

قال القفال : وأصل ذلك من الدّعاء ، لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما.

قال أبو مسلم : «دعواهم» أي : فعلهم وإقرارهم ، ونداؤهم هو قولهم (سُبْحانَكَ اللهُمَّ) قال القاضي : «دعواهم» أي : طريقتهم في تمجيد الله وتقديسه وشأنهم وسنّتهم ؛ لأنّ قوله (سُبْحانَكَ اللهُمَّ) ليس بدعاء ولا بدعوى ، إلّا أنّ المدّعي للشيء يكون مواظبا على ذكره ، لا جرم جعل لفظ «الدّعوى» كناية عن تلك المواظبة والملازمة. فأهل الجنّة لمّا كانوا مواظبين على هذا الذكر ، أطلق لفظ «الدّعوى» عليهم ، وقال القفال : قيل في قوله : (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) [يس : ٥٧] أي : ما يتمنونه ، والعرب تقول : ادع ما شئت عليّ أي : تمنّ ما شئت.

وقال ابن جريح : أخبرت أن قوله (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) : هو أنّه إذا مرّ بهم طير يشتهونه ، قالوا : سبحانك اللهمّ ، فيأتيهم الملك بذلك المشتهى. قال ابن الخطيب : «وفيه وجه آخر : وهو أن يكون المعنى : أنّ تمنيهم في الجنّة أن يسبحوا الله ـ تعالى ـ ،

٢٧١

أي : تمنيهم لما يتمنّونه ، ليس إلّا في تسبيح الله ، وتقديسه ، وتنزيهه».

قوله : (سُبْحانَكَ اللهُمَّ) قال بعض المفسّرين : إنّ أهل الجنّة جعلوا هذا الذّكر علامة على طلب المشتهيات فيؤتون بذلك المشتهى فإذا نالوا من شهوتهم ، قالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، وضعف ابن الخطيب هذا من وجوه :

أحدها : أنّ حاصل هذا الكلام يرجع إلى أنّ أهل الجنّة جعلوا هذا الذّكر العالي المقدّس علامة على طلب المأكول والمنكوح ، وهذا في غاية الخساسة.

وثانيها : أنّه ـ تعالى ـ قال في صفة أهل الجنة (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) [النحل : ٥٧] ، فإذا اشتهوا أكل ذلك الطّير ، فلا حاجة بهم إلى الطّلب ، فسقط هذا الكلام.

وثالثها : أنّ هذا صرف للكلام عن ظاهره الشريف العالي ، إلى محل خسيس لا إشعار للفظ به. وإنما المراد : أنّ اشتغال أهل الجنّة بتقديس الله ـ سبحانه ـ ، وتحميده ، والثناء عليه ؛ لأنّ سعادتهم ، وابتهاجهم ، وسرورهم بهذا الذّكر.

قال القاضي (١) : إنّه ـ تعالى ـ لمّا وعد المتّقين بالثّواب العظيم ، في قوله أوّل السورة : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ ،) فإذا دخل أهل الجنّة الجنّة ، ووجدوا تلك النعم العظيمة ، عرفوا أن الله ـ تعالى ـ كان صادقا في وعده إياهم بتلك النعم ، فعند هذا قالوا : (سُبْحانَكَ اللهُمَّ) أي : سبحانك من الخلف في الوعد ، والكذب في القول.

قوله : (وَتَحِيَّتُهُمْ) مبتدأ ، و «سلام» خبره ، وهو كالذي قبله ، والمصدر هنا يحتمل أن يكون مضافا لفاعله ، أي : تحيّتهم التي يحيّون بها بعضهم سلام.

ويحتمل أن يكون مضافا لمفعوله ، أي : تحيّتهم التي تحيّيهم بها الملائكة سلام ؛ ويدلّ له قوله : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٤ ، ٢٥] ، و «فيها» في الموضعين متعلق بالمصدر قبله. وقيل : يجوز أن يكون حالا ممّا بعده ، فيتعلّق بمحذوف ، وليس بذاك ، وقال بعضهم : يحيّي بعضهم بعضا ، ويكون كقوله ـ تعالى ـ : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) [الأنبياء : ٧٨] ، حيث أضافه ل «داود وسليمان» ، وهما الحاكمان ، وإلى المحكوم عليه ، وهذا مبنيّ على مسألة أخرى ، وهي أنّه : هل يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز أم لا؟.

فإن قلنا : نعم ، جاز ذلك ، لأنّ إضافة المصدر لفاعله حقيقة ، ولمفعوله مجاز ، ومن منع ذلك ، أجاب : بأنّ أقلّ الجمع اثنان ، فلذلك قال : «لحكمهم».

قوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) مبتدأ ، و «أن» : هي المخففة من الثّقيلة ، واسمها ضمير الأمر والشّأن حذف ، والجملة الاسمية بعدها في محلّ الرفع خبرا لها ؛ كقول الشّاعر : [البسيط]

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٧ / ٣٧.

٢٧٢

٢٨٧٩ ـ في فتية كسيوف الهند قد علموا

أن هالك كلّ من يحفى وينتعل (١)

و «أن» واسمها وخبرها في محلّ رفع خبرا للمبتدأ الأول ، وزعم الجرجانيّ : أن «أن» هنا زائدة ، والتقدير : وآخر دعواهم الحمد الله ، وهي دعوى لا دليل عليها ، مخالفة لنص سيبويه والنحويّين ، وزعم المبرّد أيضا : أنّ «أن» المخففة يجوز إعمالها مخففة ، كهي مشدّدة ، وقد تقدّم ذلك.

وتخفيف «أن» ، ورفع «الحمد» هي قراءة العامة ، وقرأ عكرمة (٢) ، وأبو مجلز ، وأبو حيوة ، وقتادة ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وبلال بن أبي بردة ، وابن محيصن ويعقوب بتشديدها ، ونصب «الحمد» على أنّه اسمها ؛ وهذه تؤيّد أنّها المخففة في قراءة العامّة ، وتردّ على الجرجاني ، ومعنى الآية : أنّ أهل الجنّة يفتتحون كلامهم بالتّسبيح ، ويختمونه بالتّحميد.

قوله تعالى : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٢)

قوله تعالى : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ ...) الآية.

هذا الامتناع نفي في المعنى ، تقديره : لا يعجّل الله لهم الشّر ، قال الزمخشري : «فإن قلت : كيف اتّصل به قوله : (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) ، وما معناها؟ قلت : قوله (وَلَوْ يُعَجِّلُ) متضمّن معنى نفي التّعجيل ، كأنّه قيل : ولا نعجّل لهم بالشّرّ ، ولا نقضي إليهم أجلهم».

قوله «استعجالهم» فيه أوجه :

أحدها : أنّه منصوب على المصدر التّشبيهيّ ، تقديره : استعجالا مثل استعجالهم ، ثمّ حذف الموصوف ، وهو «استعجال» ، وأقام صفته مقامه ، وهي «مثل» ، فبقي : ولو يعجّل الله مثل استعجالهم ، ثم حذف المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه ، قال مكّي : «وهذا مذهب سيبويه» ، وقد تقدّم مرارا أنّ مذهب سيبويه في هذا ، أنّه منصوب على الحال من ذلك المصدر المقدّر ، وإن كان مشهور أقوال المعربين غيره ، ففي نسبة ما ذكرناه أولا لسيبويه نظر.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : إتحاف ٢ / ١٠٤ ـ ١٠٥ ، الكشاف ٢ / ٧٣٣١ المحرر الوجيز ٣ / ١٠٨ ، البحر المحيط ٥ / ١٣٢ ، الدر المصون ٤ / ١٠.

٢٧٣

والثاني : أن تقديره : تعجيلا مثل استعجالهم ، ثم فعل به ما تقدّم قبله ، وهذا تقدير أبي البقاء ، فقدّر المحذوف مطابقا للفعل الذي قبله ؛ فإنّ «تعجيلا» مصدر ل «عجّل» ، وما ذكره مكّي موافق للمصدر الذي بعده.

والذي يظهر ؛ ما قدّره أبو البقاء ؛ لأنّ موافقة الفعل أولى ، ويكون قد شبّه تعجيله تعالى باستعجالهم ، بخلاف ما قدّره مكّي ، فإنّه لا يظهر ؛ إذ ليس «استعجال» مصدرا ل «عجّل» ، وقال الزمخشري : «أصله : ولو يعجّل الله للنّاس الشرّ تعجيله لهم الخير ، فوضع (اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) موضع تعجيله لهم الخير ؛ إشعارا بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبهم ، كأنّ استعجالهم بالخير تعجيل لهم» ، قال أبو حيّان : «ومدلول «عجّل» غير مدلول «استعجل» ؛ لأنّ «عجّل» يدلّ على الوقوع ، و «استعجل» يدلّ على طلب التّعجيل ، وذلك واقع من الله ـ تعالى ـ ، وهذا مضاف إليهم ، فلا يكون التقدير على ما قاله الزمخشري ، فيحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون التقدير : تعجيلا مثل استعجالهم بالخير ، فشبّه التّعجيل بالاستعجال ؛ لأنّ طلبهم للخير ، ووقوع تعجيله مقدّم عندهم على كلّ شيء.

والثاني : أن يكون ثمّ محذوف يدلّ عليه المصدر تقديره : ولو يعجّل الله للنّاس الشرّ ، إذا استعجلوا به استعجالهم بالخير ؛ لأنّهم كانوا يستعجلون بالشرّ ووقوعه على سبيل التّهكم ، كما كانوا يستعجلون بالخير».

الثالث : أنّه منصوب على إسقاط الخافض ، وهو كاف التّشبيه ، والتقدير : كاستعجالهم.

قال أبو البقاء : «وهو بعيد ؛ إذ لو جاز ذلك ، لجاز «زيد غلام عمرو» أي : كغلام عمرو». وبهذا ضعّفه جماعة ، وليس بتضعيف صحيح ؛ إذ ليس في المثال الذي ذكر فعل يتعدّى بنفسه عند حذف الجارّ ، وفي الآية فعل يصحّ فيه ذلك ، وهو قوله : «يعجل» ، وقال مكّي (١) : «ويلزم من يجوّز حذف حرف الجر منه ، أن يجيز «زيد الأسد» ، أي : كالأسد».

قال شهاب الدّين (٢) : «قوله : ويلزم ... إلى آخره» ، لا ردّ فيه على هذا القائل ، إذ يلتزمه ، وهو التزام صحيح سائغ ؛ إذ لا ينكر أحد «زيد الأسد» ، على معنى : كالأسد ، وعلى تقدير التّسليم ، فالفرق ما ذكره أبو البقاء ، أي : إنّ الفعل يطلب مصدرا مشبّها ، فصار مدلو لا عليه.

وقال بعضهم : تقديره : في استعجالهم ؛ نقله مكّي ، فلمّا حذفت «في» انتصب ، وهذا لا معنى له ، وقال البغوي : المعنى «ولو يعجّل الله إجابة دعائهم في الشرّ والمكروه استعجالهم بالخير ، أي : كما يحبّون استعجالهم بالخير».

__________________

(١) ينظر : المشكل ٢ / ٣٧٥.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ١١.

٢٧٤

وقال القرطبي (١) : قال العلماء : التّعجيل من الله ، والاستعجال من العبد ، وقال أبو عليّ: هما من الله.

فصل

في كيفية النّظم وجوه :

أحدها : قال ابن الخطيب (٢) : «إنّه ابتدأ السورة بذكر شبهات المنكرين للنّبوّة مع الجواب عنها :

فالشبهة الأولى : أنّ القوم تعجّبوا من تخصيص الله محمدا بالنّبوة ، فأزال الله ذلك التعجّب بقوله : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) ، ثم ذكر دلائل التّوحيد ، ودلائل صحّة المعاد.

وحاصل الجواب أن يقول : إنّي ما جئتكم إلّا بالتوحيد ، والإقرار بالمعاد ، وقد دلّلنا على صحتهما ، فلم يبق للتعجّب من نبوّتي معنى.

والشبهة الثانية : أنّهم كانوا يقولون : اللهمّ إن كان ما يقول محمد حقا في ادّعاء النبوّة والرّسالة ، فأمطر علينا حجارة من السّماء ، أو ائتنا بعذاب أليم ، فأجاب الله ـ تعالى ـ عن هذه الشبهة بهذه الآية.

وثانيها : قال القاضي : «لمّا بيّن الله ـ تعالى ـ الوعد والوعيد ، أتبعه بما يدلّ على أن من حقّهما ، أن يتأخّرا عن هذه الحياة الدّنيويّة ؛ لأنّ حصولهما في الدّنيا ، كالمانع من بقاء التّكليف.

وثالثها : قال القفال : إنّه لمّا وصف الكفار بأنهم لا يرجون لقاء الله ، ورضوا بالحياة الدّنيا ، واطمأنوا بها ، وكانوا عن آيات الله غافلين ، بيّن أنّ من غفلتهم ، أنّ الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ متى أنذرهم استعجلوا العذاب جهلا منهم وسفها.

فصل

أخبر ـ تعالى ـ في آيات كثيرة : أنّ هؤلاء المشركين متى خوفوا بنزول العذاب في الدّنيا ، استعجلوا ذلك العذاب ، كقولهم : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] ، وقوله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) [المعارج : ١] الآية ، ثم إنهم لما توعدوا بعذاب الآخرة في هذه الآية ، بقوله (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [يونس : ٨] ، استعجلوا ذلك العذاب ، وقالوا متى يحصل ذلك؟ كما قال ـ تعالى ـ : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) [الشورى : ١٨] ، وقال بعد هذه الآية ، في هذه السورة : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس : ٤٨] ؛ إلى قوله (آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) [يونس : ٥١] وقال ـ تعالى ـ في

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٨ / ٢٠٢.

(٢) ينظر : الرازي ١٧ / ٣٩.

٢٧٥

سورة الرعد : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) [الرعد : ٦]. فبيّن ـ تعالى ـ أنه لا مصحلة في تعجيل إيصال الشرّ إليهم ؛ لأنه ـ تعالى ـ لو أوصل ذلك إليهم لماتوا ، لأن تركيبهم في الدنيا لا يحتمل ذلك ولا صلاح في إماتتهم ، فربما آمنوا بعد ذلك ، أو خرج من صلبهم من يؤمن ، وذلك يقتضي ألّا يعاجلهم الله بإيصال الشرّ إليهم.

وسمى العذاب شرّا ؛ لأنه أذى في حقّ المعاقب ، كما سماه سيئة في قوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) [الرعد : ٦] ، وفي قوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠].

والمراد من استعجالهم الخير : أنّهم كانوا عند نزول الشدائد يدعون الله بكشفها ؛ لقوله : (إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) [النحل : ٥٣] ، (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا) [الزمر : ٤٩].

قوله : «لقضي» قرأ ابن (١) عامر : «لقضى» بفتح القاف مبنيا للفاعل ، «أجلهم» بالنصب مفعولا ، والباقون : بالضمّ والكسر مبنيا للمفعول ، «أجلهم» رفعا لقيامه مقام الفاعل ، وقرأ الأعمش (٢) ، ويعقوب ، وعبد الله : «لقضينا» مسندا لضمير المعظّم نفسه ، وهي مؤيّدة لقراءة ابن عامر.

فصل

معنى (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي : لفرغ من هلاكهم ولماتوا جميعا ، وقيل : إنّها نزلت في النّضر بن الحارث ، حين قال : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) [الأنفال : ٣٢] الآية. قوله (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه معطوف على قوله : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ) ، على معنى أنّه في قوّة النّفي ، وقد تقدّم تحقيقه في سؤال الزمخشري ، وجوابه فيه ، إلّا أنّ أبا البقاء ردّ عطفه على «يعجّل» ، فقال: «ولا يجوز أن يكون معطوفا على «يعجّل» ؛ إذ لو كان كذلك لدخل في الامتناع الذي تقتضيه «لو» ، وليس كذلك ؛ لأنّ التعجيل لم يقع ، وتركهم في طغيانهم وقع».

قال شهاب الدّين : «إنّما يتمّ هذا الرّدّ ، لو كان معطوفا على «يعجّل» فقط ، باقيا على معناه ، وقد تقدّم أنّ الكلام صار في قوّة : لا نعجل لهم الشّرّ : فنذرهم ، فيكون «فنذرهم» معطوفا على جملة النّفي ، لا على الفعل الممتنع وحده ، حتّى يلزم ما قال».

والثاني : أنّه معطوف على جملة مقدّرة : أي : ولكن نمهلهم فنذر ، قاله أبو البقاء.

__________________

(١) ينظر : السبعة ص (٣٢٤) ، الحجة ٤ / ٢٥٣ ، حجة القراءات ص (٣٢٨) ، إعراب القراءات ١ / ٢٦١ ، إتحاف ٢ / ١٠٥.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٣٢ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٠٨ ، البحر المحيط ٥ / ١٣٣ ، الدر المصون ٤ / ١١.

٢٧٦

والثالث : أن تكون جملة مستأنفة ، أي : فنحن نذر الذين ؛ قاله الحوفي.

فصل

المعنى : (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) : لا يخافون البعث ، والحساب (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

قال أهل السنة : إنّه ـ تعالى ـ لمّا حكم عليهم بالطّغيان والعمه ، امتنع أن لا يكونوا كذلك ، وإلا لزم أن ينقلب خبر الله تعالى الصّدق كذبا ، وعلمه جهلا ، وحكمه باطلا ، وكلّ ذلك محال.

قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ) : الجهد والشدة (دَعانا لِجَنْبِهِ) أي : على جنبه مضطجعا (أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) يريد في جميع حالاته ؛ لأنّ الإنسان لا يعدو إحدى هذه الحالات ، وفي كيفية النظم وجهان :

الأول : أنه تعالى لمّا بيّن في الآية الأولى أنّه لو أنزل العذاب على العبد في الدّنيا ، لهلك ولقضي عليه ؛ فبيّن في هذه الآية ما يدلّ على ضعفه ، ونهاية عجزه ؛ ليكون ذلك مؤكدا لما ذكره ، من أنّه لو أنزل عليه العذاب لمات.

الثاني : أنه ـ تعالى ـ حكى عنهم : أنّهم يستعجلون نزول العذاب ، فبيّن في هذه الآية ، أنّهم كاذبون في ذلك الاستعجال ؛ لأنّه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يؤذيه ، فإنّه يتضرّع في إزالته عنه ، فدلّ على أنّه ليس صادقا في هذا الطّلب.

قوله : «لجنبه» في محلّ نصب على الحال ؛ ولذلك عطف الحال الصّريحة عليه ، والتقدير: دعانا مضطجعا لجنبه ، أو ملقيا لجنبه ، واللّام على بابها عند البصريين ، وزعم بعضهم : أنّها بمعنى : «على» ، ولا حاجة إليه ، واختلف في صاحب الحال : فقيل : الإنسان ، والعامل فيها «مسّ» ، قاله ابن عطية ، ونقله أبو البقاء عن غيره ، واستضعفه من وجهين :

أحدهما : أنّ الحال على هذا واقعة بعد جواب «إذا» ، وليس بالوجه ، كأنه يعني : أنّه ينبغي ألّا يجاب الشّرط ، إلّا إذا استوفى معمولاته ، وهذه الحال معمولة للشرط ، وهو «مسّ» ، وقد أجيب قبل أن يستوفي معموله.

ثم قال : «والثاني : أن المعنى : كثرة دعائه في كلّ أحواله ، لا على أن الضّرّ يصيبه في كل أحواله ، وعليه جاءت آيات كثيرة في القرآن» ، وقال أبو حيّان : «وهذا الثاني يلزم فيه من مسّه الضّرّ ، دعاؤه في هذه الأحوال ؛ لأنّه جواب ما ذكرت فيه هذه الأحوال ، فالقيد في الشرط قيد في الجواب ، كما تقول : إذا جاءنا زيد فقيرا أحسنّا إليه ، فالمعنى : أحسنّا إليه في حال فقره».

وقيل : صاحب الحال هو الضمير الفاعل في «دعانا» ، وهو واضح ، أي : دعانا في

٢٧٧

جميع أحواله ؛ لأنّ هذه الأحوال الثلاثة لا يخلو الإنسان عن واحدة منها.

فصل

قيل : المراد ب «الإنسان» هنا : الكافر.

وقيل : أبو حذيفة بن المغيرة ، تصيبه البأساء والشدة والجهد ، (دَعانا لِجَنْبِهِ) أي : على جنبه مضطجعا (أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) وإنّما أراد تسمية حالاته ؛ لأنّ الإنسان لا يعدو هذه الحالات.

وقيل : وإنّما بدأ بالمضطجع ؛ لأنّه بالضّر أشدّ في غالب الأمر ، فهو يدعو أكثر ، والاجتهاد فيه أشدّ ، ثمّ القاعد ثم القائم.

وقيل : المراد بالإنسان : الجنس ، وهذه الأحوال بالنسبة إلى المجموع ، أي : منهم من يدعو مستلقيا ، ومنهم من يدعو قائما ، أو يراد به شخص واحد ، جمع بين هذه الأحوال الثلاثة بحسب الأوقات ، فيدعو في وقت على هذه الحال ، وفي وقت على أخرى ، والصحيح أنّ المراد ب «الإنسان» : الجنس ، وقال آخرون : كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد به : الكافر ، وهذا باطل ؛ لقوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) [الانشقاق : ٦ ، ٧] لا شبهة في أنّ المؤمن داخل ، وكذا قوله : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) [الإنسان : ١] ، وقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] ، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) [ق : ١٩] ، والحقّ : أنّ اللفظ المفرد ، المحلّى بالألف واللام ، إن حصل معهود سابق ، صرف إليه ، وإن لم يحصل معهود سابق ، حمل على الاستغراق صونا له عن الإجمال والتّعطيل ، وقال صاحب النّظم : قوله (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ) وضعه للمستقبل ، وقوله : (فَلَمَّا كَشَفْنا) للماضي ، فهذا النّظم يدلّ على أنّ معنى الآية يدلّ : على أنّه كان هكذا فيما مضى ، وهكذا يكون في المستقبل ، فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل ، وما فيه من الماضي ، على الماضي».

قوله : (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا) قد تقدّم الكلام على مثل هذا ، عند قوله : (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ) [النساء : ٧٣] ، تقديره : كأنّه لم يدعنا ، ثم أسقط الضمير تخفيفا ، كقوله تعالى (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) [يونس : ٤٥] قال الزمخشري : «فحذف ضمير الشّأن ؛ كقوله : [الهزج]

٢٨٨٠ ـ .........

كأن ثدياه حقّان» (١)

يعني : على رواية من رواه «ثدياه» بالألف ، ويروى : «كأن ثدييه» بالياء ، على أنها أعملت في الظّاهر ، وهو شاذّ ، وهذا البيت صدره : [الهزج]

__________________

(١) تقدم.

٢٧٨

٢٨٨١ ـ ووجه مشرق النّحر

كأن ثدياه حقّان (١)

وهذه الجملة التّشبيهيّة : في محلّ نصب على الحال من فاعل «مرّ» ، أي : مضى على طريقته ، مشبها من لم يدع إلى كشف ضرّ ، و «مسّه» صفة ل «ضرّ» ، وقيل : «مرّ» عن موقف الابتهال والتضرّع لا يرجع إليه ، ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء ، كأن لم يدعنا ، ولم يطلب منّا كشف ضرّه.

قوله : (كَذلِكَ زُيِّنَ) الكاف من «كذلك» في موضع نصب على المصدر ، أي : مثل ذلك التّزيين والإعراض عن الابتهال ، وفاعل «زيّن» المحذوف : إمّا الله ـ تعالى ـ ، وإمّا الشيطان ، و (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) في محل رفع لقيامه مقام الفاعل ، و «ما» يجوز أن تكون مصدريّة ، وأن تكون بمعنى «الذي».

فصل

قال أبو بكر الأصم : سمّي الكافر مسرفا ؛ لأنّه ضيّع ماله ونفسه ، أمّا النّفس ، فإنه جعلها عبدا للوثن ؛ وأمّا المال ؛ فلأنهم كانوا يضيّعون أموالهم في البحيرة ، والسّائبة ، والوصيلة والحام.

وقيل : من كانت عادته كثرة التضرّع والدعاء ، عند نزول البلاء ، وعند زوال البلاء يعرض عن ذكر الله وعن شكره ، يكون مسرفا في أمر دينه ، وقال ابن الخطيب (٢) : «المسرف هو الذي ينفق المال الكثير ؛ لأجل الغرض الخسيس ، ومعلوم أنّ لذّات الدنيا وطيباتها خسيسة جدا ، في مقابلة سعادات الآخرة ، والله ـ تعالى ـ أعطى الحواسّ ، والعقل والفهم ، والقدرة ، لاكتساب السعادات العظيمة الأخرويّة ، فمن بذل هذه الآلات العظيمة الشريفة ؛ ليفوز بالسعادات الخسيسة ، كان قد أنفق أشياء عظيمة ؛ ليفوز بأشياء حقيرة ؛ فوجب أن يكون من المسرفين».

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ)(١٧)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الآية.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٧ / ٤٣.

٢٧٩

لما حكى عنهم أنّهم كانوا يقولون : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً) [الأنفال : ٣٢] الآية.

وأجاب بأن ذكر أنّه : لا صلاح في إجابة دعائهم ، ثم بيّن أنّهم كانوا كاذبين في هذا الطلب ؛ لأنّه لو نزلت بهم آفة ، تضرّعوا إلى الله تعالى في إزالتها ، بيّن ههنا ما يجري مجرى التهديد: وهو أنّه تعالى قد أنزل بهم عذاب الاستئصال ولا يزيله عنهم ؛ ليكون ذلك رادعا لهم عن قولهم : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ؛) لأنّهم متى سمعوا أنّ الله قد يجيب دعاءهم ، وينزل بهم عذاب الاستئصال ، ثم سمعوا من اليهود والنّصارى ، أنّ ذلك قد وقع مرارا كثيرة ، صار ذلك رادعا عن ذكر هذا الكلام.

قوله : (مِنْ قَبْلِكُمْ) متعلق ب «أهلكنا» ، ولا يجوز أن يكون حالا من «القرون» ؛ لأنّه ظرف زمان ، فلا يقع حالا عن الجثّة ، كما لا يقع خبرا عنها ، وقد تقدّم تحقيق هذا أوّل البقرة [البقرة ٢١] ، وتقدم الكلام على «لمّا» [البقرة ١٧] ، قال الزمخشري : «لما» ظرف ل «أهلكنا» ، و (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) يجوز أن يكون معطوفا على «ظلموا» ، فلا محلّ له عند سيبويه ، ومحلّه الجر عند غيره ؛ لأنّه عطف على ما هو في محلّ جرّ بإضافة الظرف إليه ، ويجوز أن يكون في محلّ نصب على الحال ، أي : ظلموا بالتّكذيب ، وقد جاءتهم رسلهم بالحجج والشّواهد على صدقهم. و «بالبيّنات» يجوز أن يتعلّق ب «جاءتهم» ، ويجوز أن يتعلّق بمحذوف ، على أنّه حال من «رسلهم» ، أي : جاءوا ملتبسين بالبيّنات ، مصاحبين لها.

قوله : (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) يجوز عطفه على «ظلموا» ، وهو الظّاهر ، وجوّز الزمخشري أن يكون اعتراضا قال : واللام لتأكيد نفي إيمانهم ، ويعني بالاعتراض : كونه وقع بين الفعل ، ومصدره التشبيهي في قوله : (كَذلِكَ نَجْزِي) والضمير في «كانوا» عائد على «القرون» ، وجوّز مقاتل : أن يكون ضمير أهل مكة ، وعلى هذا يكون التفاتا ، إذ فيه خروج من ضمير الخطاب في قوله : «قبلكم» ، إلى الغيبة ، والمعنى : وما كنتم لتؤمنوا.

و «كذلك» نعت لمصدر محذوف ، أي : مثل ذلك الجزاء نجزي. وقرىء (١) «يجزي» بياء الغيبة ؛ وهو التفات من التكلّم في قوله : «أهلكنا» ، إلى الغيبة.

قوله : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ) أي : خلفاء (فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : من بعد القرون التي أهلكناهم ، وهذا خطاب للذين بعث إليهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : «لننظر» متعلق بالجعل ، وقرأ يحيى (٢) الذماري بنون واحدة ، وتشديد الظّاء ، وقال يحيى : «هكذا رأيته في مصحف عثمان» ، يعني : أنّه رآها بنون واحدة ، ولا يعني أنّه رآها مشددة ؛ لأنّ هذا الشّكل الخاصّ إنّما حدث بعد عثمان ، وخرجوها على إدغام النّون

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٣٣ ، المحرر الوجيز ٣ / ٧١١٠ البحر المحيط ٥ / ١٣٥ ، الدر المصون ٤ / ١٣.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١١٠ ، البحر المحيط ٥ / ١٣٥ ، الدر المصون ٤ / ١٣.

٢٨٠