اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

فصل

اعلم أنّه تعالى قسّم المتخلفين ثلاثة أقسام :

أحدها : المنافقون الذين مردوا على النفاق.

والثاني : التّائبون وهم المرادون بقوله : «وآخرون اعترفوا» وبيّن تعالى أنّه قبل توبتهم.

والثالث : الذين بقوا موقوفين ، وهم المذكورون في هذه الآية ، والفرق بين هؤلاء وبين القسم الثاني ، أنّ هؤلاء لم يسارعوا إلى التّوبة وأولئك سارعوا إليها. قال ابن عبّاس : نزلت هذه الآية في الذين تخلّفوا : كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أميّة ، لم يسارعوا إلى التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة ، فوقفهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسين ليلة ، ونهى النّاس عن مخالطتهم ، حتّى شفّهم القلق ، وضاقت عليهم الارض بما رحبت وكانوا من أهل بدر ؛ فجعل أناس يقولون : هلكوا ، وآخرون يقولون : عسى الله أن يغفر لهم ، فصاروا مرجئين لأمر الله ، إمّا يعذبهم وإمّا يرحمهم ، حتى نزلت توبتهم بعد خمسين ليلة (١). (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) «عليم» بما في قلوب هؤلاء المرجئين «حكيم» بما يحكم فيها.

فإن قيل : إنّهم ندموا على تأخرهم عن الغزو ، وتخلفهم عن الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، ثمّ إنّه لم يحكم بكونهم تائبين ، بل قال : (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) وذلك يدلّ على أنّ النّدم وحده لا يكفي في صحّة التوبة.

فالجواب : لعلّهم حين ندموا خافوا أن يفضحهم الرّسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ، وعلى هذا ، فلا تكون توبتهم صحيحة ، فاستمرّ عدم قبول التوبة إلى أن نزل مدحهم ؛ فعند ذلك ندموا على المعصية لنفس كونها معصية ، فحينئذ صحّت توبتهم.

فصل

احتجّ الجبائيّ بهذه الآية على أنّه تعالى لا يعفو عن غير التّائب ؛ لأنّه قال في حقّ هؤلاء المذنبين (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) وذلك يدلّ على أنّه لا حكم إلّا أحد هذين الأمرين ، وهو إمّا التعذيب وإما التوبة ، وأمّا العفو عن الذّنب من غير توبة ؛ فهو قسم ثالث. فلمّا أهمل الله تعالى ذكره ، دلّ على بطلانه.

وأجيب : بأنّا لا نقطع بحصول العفو عن جميع المذنبين ، بل نقطع بحصول العفو في الجملة وأمّا في حقّ كل واحد ؛ فذلك مشكوك فيه ، قال تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] فقطع بغفران ما سوى الشرك ، لكن لا في حقّ كل أحد ، بل في حقّ من يشاء ؛ فلم يلزم من عدم العفو في حق هؤلاء ، عدم العفو على الإطلاق ، وأيضا

__________________

(١) تقدم.

٢٠١

فعدم الذّكر لا يدلّ على العدم ، ألا ترى قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) [عبس : ٣٨ ، ٣٩] وهم المؤمنون (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) [عبس : ٤٠ ـ ٤٢] فذكر المؤمنين والكافرين ، ثم إنّ عدم ذكر القسم الثّالث ، لم يدل عند الجبّائيّ على نفيه ؛ فكذا ههنا.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١١٠)

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً) الآية.

قرأ نافع (١) ، وابن عامر «الذين اتخذوا» بغير «واو». والباقون بواو العطف. فأمّا قراءة نافع وابن عامر فلموافقة مصاحفهم ، فإنّ مصاحف المدينة والشّام حذفت منها الواو ، وهي ثابتة في مصاحف غيرهم. فمن أسقط الواو ففيه أوجه :

أحدها : أنّها بدل من «آخرون» قبلها ، وفيه نظر ؛ لأنّ هؤلاء الذين اتّخذوا مسجدا ضرارا ، لا يقال في حقّهم : إنّهم مرجون لأمر الله ؛ لأنّه روي في التفسير أنّهم من كبار المنافقين ، ك : أبي عامر الرّاهب.

الثاني : أنّه مبتدأ ، وفي خبره حينئذ أقوال ، أحدها : أنّه «أفمن أسّس بنيانه» والعائد محذوف تقديره : بنيانه منهم.

الثاني : أنّه (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ) قاله النّحاس والحوفيّ وفيه بعد لطول الفصل.

الثالث : أنه (لا تَقُمْ فِيهِ) قاله الكسائيّ. قال ابن عطيّة : «ويتجه بإضمار ، إمّا في أول الآية ، وإمّا في آخرها ، بتقدير : لا تقم في مسجدهم».

الرابع : أنّ الخبر محذوف ، تقديره : يعذبون ، ونحوه ، قاله المهدويّ.

الوجه الثالث : أنّه منصوب على الاختصاص ، وسيأتي هذا الوجه أيضا في قراءة الواو.

وأما قراءة الواو ففيها ما تقدّم ، إلّا أنّه يمتنع وجه البدل من «آخرون» ؛ لأجل العاطف.

__________________

(١) ينظر : حجة القراءات ص (٣٢٣) ، إتحاف ٢ / ٩٨ ، الكشاف ٢ / ٣٠٩ ، المحرر الوجيز ٣ / ٨٠ ، البحر المحيط ٥ / ١٠٢ ، الدر المصون ٣ / ٥٠٢.

٢٠٢

وقال الزمخشريّ : فإن قلت : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) ما محلّه من الإعراب؟ قلت : محله النصب على الاختصاص ، كقوله تعالى : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) [النساء : ١٦٢]. وقيل : هو مبتدأ ، وخبره محذوف ، معناه : فيمن وصفنا الذين اتّخذوا ، كقوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) [المائدة : ٣٨]. يريد على مذهب سيبويه فإنّ تقديره : فيما يتلى عليكم السارق ؛ فحذف الخبر ، وأبقى المبتدأ ، كهذه الآية.

قال القرطبي : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً) معطوف ، أي : ومنهم الذين اتّخذوا مسجدا ، عطف جملة على جملة.

قوله : «ضرارا» فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه مفعول من أجله ، أي : مضارّة لإخوانهم.

الثاني : أنّه مفعول ثان ل «اتّخذوا» قاله أبو البقاء.

الثالث : أنّه مصدر في موضع الحال من فاعل «اتخذوا» ، أي : اتخذوه مضارين لإخوانهم. ويجوز أن ينتصب على المصدريّة أي : يضرّون بذلك غيرهم ضرارا.

ومتعلقات هذه المصادر محذوفة ، أي : ضرارا لإخوانهم ، وكفرا بالله.

فصل

قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وعامة المفسّرين : الذين اتّخذوا مسجد الضرار كانوا اثني عشر رجلا من المنافقين ، وديعة بن ثابت ، وخذام بن خالد ومن داره أخرج هذا المسجد ، وثعلبة بن حاطب ، وحارثة بن عامر ، وابناه مجمع وزيد بن حارثة ، ومعتب بن قشير وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف ، وأبو حبيبة بن الأزهر ، ونبتل بن الحارث ، وبجاد بن عثمان ، ورجل يقال له : بحزج ، بنوا هذا المسجد ضرارا ، يعني مضارة للمؤمنين ، والضرار : محاولة الضّر ، كما أنّ الشقاق محاولة ما يشق (١). و «كفرا» قال ابن عباس : يريد به ضرارا للمؤمنين ، وكفرا بالنبي ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، وما جاء به. قال ابن عباس ، ومجاهد وقتادة وغيرهم : إنّ أبا عامر الرّاهب كان خرج إلى قيصر وتنصّر ، ووعدهم قيصر أنّه سيأتيهم ، فبنوا مسجد الضّرار يرصدون مجيئه فيه (٢). وقال غيرهم : اتخذوه ليكفروا فيه بالطّعن على النبيّ ـ عليه الصلاة والسّلام ـ. (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : يفرقون بواسطته جماعة المؤمنين وذلك لأن المنافقين قالوا : نبني مسجدا فنصلّي فيه ؛ ولا نصلّي خلف محمّد ، فإن أتانا فيه صلينا خلفه وفرقنا بينه وبين الذين يصلون في مسجده ، فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة وإبطال الألفة.

وكان يصلّي لهم مجمع بن حارثة ، فلمّا فرغوا أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يتجهّز إلى

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٧١) وذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١٦ / ١٥٣).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٧١) عن ابن عباس ومجاهد.

٢٠٣

تبوك ، فقالوا يا رسول الله : إنّا بنينا مسجدا لذي العلّة والحاجة ، والليلة المطيرة ، والليلة الشاتية ، وإنّا نحب أن تأتينا تصلي لنا فيه ، وتدعو بالبركة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّي على جناح سفر ، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه».

فصل

قال القرطبيّ : «تفطّن مالك ـ رحمه‌الله ـ من هذه الآية وقال : لا يصلّي جماعتان في مسجد واحد بإمامين ، خلافا لسائر العلماء. وروي عن الشّافعي المنع ؛ لأنّ في ذلك تشتيتا للكلمة ، وإبطالا لهذه الحكمة ، وذريعة إلى أن نقول : من يريد الانفراد عن الجماعة كان له عذر فيقيم جماعة ، ويقدم إمامه فيقع الخلاف بينهم ، ويبطل الكلام وخفي ذلك عليهم».

قوله : (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ).

الإرصاد : الانتظار ، قاله الزجاج : وقال ابن قتيبة : الانتظار مع العداوة. قالوا : والمراد به : أبو عامر الرّاهب ، وهو والد حنظلة غسيل الملائكة ، وكان قد ترهّب في الجاهليّة ، وتنصّر ولبس المسوح ، فلمّا قدم النبيّ ـ عليه الصلاة والسّلام ـ المدينة قال له أبو عامر : ما هذا الذي جئت به؟ قال : «جئت بالحنيفيّة دين إبراهيم» ، قال أبو عامر : أنا عليها ، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّك لست عليها» قال بلى ، ولكنك أدخلت في الحنيفيّة ما ليس منها ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما فعلت ولكنّي جئت بها بيضاء نقيّة» فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب طريدا وحيدا غريبا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «آمين». وسمّاه أبا عامر الفاسق فلمّا كان يوم أحد ، قال أبو عامر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا أجد قوما يقاتلونك إلّا قاتلتك معهم ؛ فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين ، فلمّا انهزمت هوازن يئس ، وخرج هاربا إلى الشّام ، وأرسل إلى المنافقين أن استعدّوا بما استطعتم من قوّة وسلاح ، وابنوا لي مسجدا فإنّي ذاهب إلى قيصر ملك الرّوم ، فآتي بجند من الرّوم ، فأخرج محمّدا وأصحابه من المدينة فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء ، فذلك قوله : (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [التوبة : ١٠٧] وهو أبو عامر الفاسق ، ليصلي فيه إذا رجع من الشّام.

قوله : (مِنْ قَبْلُ) فيه وجهان :

أحدهما ـ وهو الذي لم يذكر الزمخشريّ غيره ـ : أنّه متعلق بقوله : «اتّخذوا» ، أي : اتّخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء.

والثاني : أنه متعلق ب «حارب» ، أي : حارب من قبل اتّخاذ هذا المسجد.

قوله : (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا) «ليحلفنّ» جواب قسم مقدر ، أي : والله ليحلفنّ. وقوله (إِنْ أَرَدْنا) جواب لقوله : «ليحلفنّ» فوقع جواب القسم المقدر فعل قسم مجاب بقوله (إِنْ أَرَدْنا). و «إن» نافية ، ولذلك وقع بعدها «إلّا». و «الحسنى» صفة لموصوف محذوف،

٢٠٤

أي : إلّا الخصلة الحسنى ، أو إلّا الإرادة الحسنى. وقال الزمخشريّ «ما أردنا ببناء هذا المسجد إلّا الخصلة الحسنى ، أو إلا الإرادة الحسنى ، وهي الصلاة». قال أبو حيّان كأنّه في قوله : «إلّا الخصلة الحسنى» جعله مفعولا ، وفي قوله «أو إلّا الإرادة الحسنى» علة ؛ فكأنه ضمّن «أراد» معنى «قصد» ، أي : ما قصدوا ببنائه لشيء من الأشياء إلّا الإرادة الحسنى. قال «وهذا وجه متكلف» وأرادوا بالفعلة الحسنى : الرفق بالمسلمين ، والتوسعة على أهل الضعف ، والعلة ، والعجز عن المصير إلى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنّهم قالوا لرسول الله : إنّا بنينا مسجدا لذي العلّة والحاجة واللّيلة المطيرة. ثم قال تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي : أنّ الله أطلع الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ على أنّهم حلفوا كاذبين.

روي أنه لمّا انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبوك ؛ فنزل بذي أوان موضع قريب من المدينة ، أتوه فسألوه إتيان مسجدهم ، فدعا بقميصه ليلبسه ، ويأتيهم ، فنزل القرآن عليه وأخبره خبر مسجد الضرار ، وما همّوا به ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مالك بن الدخشم ، ومعن بن عديّ ، وعامر بن السكن ، والوحشي قاتل حمزة ، وقال لهم : «انطلقوا إلى هذا المسجد الظّالم أهله فاهدموه وأحرقوه» فخرجوا مسرعين حتّى أتوا سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك : أنظروني حتى أخرج إليكم بنار من أهلي ، فدخل أهله فأخذ سعفا من النخل ، فأشعل فيه نارا ، ثم خرجوا يشتدون حتى دخلوا المسجد ، وفيه أهله فحرقوه وهدموه ، وتفرّق عنه أهله ، وأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيه الجيف ، والنتن ، والقمامة ، ومات أبو عامر الرّاهب بالشّام وحيدا غريبا.

وروي أنّ بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة ، فيؤمّهم في مسجدهم ، فقال : لا والله ولا نعمة عين! أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال له مجمع : يا أمير المؤمنين ، لا تعجل عليّ ، فو الله لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه ، ولو علمت ما صلّيت معهم ، كنت غلاما قارئا للقرآن ، وكانوا شيوخا لا يقرؤون فصليت ولا أحسب إلّا أنهم يتقرّبون إلى الله ، ولم أعلم ما في أنفسهم فعذره عمر وصدّقه وأمره بالصّلاة في مسجد قباء. قال عطاء «لمّا فتح الله على عمر الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجد ، وأمرهم ألّا يبنوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه» (١).

قوله : (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً).

قال ابن عباس «لا تصلّ فيه» منع الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصلّي في مسجد الضّرار (٢).

قال ابن جريج : فرغوا من إتمام ذلك المسجد يوم الجمعة ، فصلّوا فيه ذلك اليوم ويوم السبت والأحد ، وانهار في يوم الاثنين (٣).

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٢٧).

(٢) انظر المصدر السابق.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ١٥٥) عن ابن جريج.

٢٠٥

ثم إنّه تعالى بيّن العلّة في هذا النّهي ، وهي أنّ أحد المسجدين لمّا كان مبنيا على التّقوى من أول يوم ، وكانت الصّلاة في مسجد آخر تمنع من الصّلاة في مسجد التقوى ، علم بالضرورة أنه يمنع من الصّلاة في المسجد الثاني.

فإن قيل : كون أحد المسجدين أفضل لا يوجب المنع من إقامة الصلاة في المسجد الثاني.

فالجواب : علة المنع وقعت بمجموع الأمرين ، أعني كون مسجد الضرار سببا للمفاسد المذكورة وهي المضارة والكفر والتّفريق بين المؤمنين وإرصاده لمن حارب الله ورسوله ، وكون مسجد التقوى يشتمل على الخيرات الكثيرة.

فصل

قال القرطبي «قال علماؤنا : لا يجوز أن يبنى مسجد إلى جانب مسجد ، ويجب هدمه ، والمنع من بنائه ، لئلّا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغرا ، إلّا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد فيبنى حينئذ. وكذلك قالوا : لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة ، ويجب منع الثاني ، ومن صلّى فيه الجمعة لم تجزه. وقال علماؤنا : كلّ مسجد بني على ضرار أو رياء أو سمعة فهو في حكم مسجد الضّرار لا تجوز الصلاة فيه».

فصل

قال النقاش «ويلزم من هذا ألّا يصلى في كنيسة ونحوها ؛ لأنّها بنيت على شر».

قال القرطبي «وهذا لا يلزم ؛ لأنّ الكنيسة لم يقصد ببنائها الضّرر بالغير ، وإن كان أصل بنائها على شرّ ، وإنّما اتّخذت النّصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعا لعبادتهم بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا ، وقد أجمع العلماء على أن من صلّى في كنيسة ، أو بيعة على موضع طاهر أنّ صلاته صحيحة جائزة. وذكر البخاريّ أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل (١) ، وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره أن يبني مسجد الطائف حيث كان طواغيتهم» (٢).

فصل

قال القرطبيّ «قال علماؤنا : من كان إماما لظالم لا يصلّي وراءه ، إلّا أن يظهر عذره أو يتوب ؛ لأنّ بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة أن يصلّي بهم في مسجدهم ، فقال : لا والله ولا نعمة

__________________

(١) أخرجه البخاري (١ / ٦٣٢) كتاب الصلاة : باب الصلاة في البيعة تعليقا قال الحافظ في «الفتح» (١ / ٦٣٣) : وصله البغوي في الجعديات.

(٢) أخرجه أبو داود (١ / ١٧٦) كتاب الصلاة : باب في بناء المساجد حديث (٤٥٠).

٢٠٦

عين! أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال له مجمع : يا أمير المؤمنين ، لا تعجل عليّ ، فو الله لقد صليت فيه ، وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه ، ولو علمت ما صلّيت بهم فيه ، كنت غلاما قارئا للقرآن ، وكانوا شيوخا قد عاشوا على جاهليتهم ، وكانوا لا يقرءون من القرآن شيئا ، فصلّيت ولا أحسب ما صنعت إثما ، ولم أعلم ما في أنفسهم ؛ فعذره عمر ، وصدّقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء».

فصل

قال القرطبيّ «قال علماؤنا : إذا كان المسجد الذي يتّخذ للعبادة وحضّ الشارع على بنائه بقوله : «من بني لله مسجدا ، ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنّة» (١) يهدم إذا كان فيه ضرر بغيره ؛ فما ظنّك بسواه بل هو أحرى أن يزال ويهدم. كمن بنى فرنا أو رحى أو حفر بئرا ، أو غير ذلك ممّا يدخل ضررا على الغير. والضّابط فيه : أنّ من أدخل ضررا على أخيه منع ، فإن أدخل على أخيه ضررا بفعل ما كان له فعله في ماله ، فأضرّ ذلك بجاره ، أو غير جاره ، نظر إلى ذلك الفعل ، فإن كان تركه أكبر ضررا من الضّرر الدّاخل على الفاعل قطع أكبر الضّررين. مثل من فتح كوة في منزله يطلع منها على دار أخيه وفيها العيال والأهل ، ومن شأن النساء في بيوتهن التجرد من بعض ثيابهنّ والانتشار في حوائجهن ، ومعلوم أنّ الاطلاع على العورات محرّم ، نهى الشّارع عن الاطلاع إلى العورات فرأى العلماء أن يغلقوا الكوّة وإن كان فيها منفعة وراحة ؛ لأنّ ضرر الكوّة أعظم من ضرر سدّها ، خلافا للشافعي ، فإنّ أصحابه قالوا : لو حفر في ملكه بئرا ، وحفر آخر في ملكه بئرا يسرق منها ماء البئر الأولى جاز ؛ لأنّ كلّ واحد حفر في ملكه ؛ فلا يمنع ، ومثله عندهم : لو حفر إلى جنب بئر جاره كنيفا يفسد عليه ماءه لم يكن له منعه ؛ لأنه تصرف في ملكه ، والقرآن والسّنّة يردان هذا القول. ومن هذا النوع من الضّرر الذي منع العلماء منه ، دخان الفرن والحمام وغبار الأندر والدّود المتولد من الزبل المنشور في الرحاب ؛ فإنه يمنع منه ما كثر ضرره وخشي تماديه».

قوله : «... لمسجد ..» فيه وجهان :

أحدهما : أنّها لام الابتداء.

والثاني : أنّها جواب قسم محذوف تقديره : والله لمسجد أسّس ، أي : بني أصله على التقوى.

وعلى التقديرين فيكون «لمسجد» مبتدأ ، و «أسّس» في محل رفع نعتا له ، و «أحقّ» خبره. والقائم مقام الفاعل ضمير المسجد على حذف مضاف ، أي : أسّس بنيانه ، و (مِنْ أَوَّلِ) متعلق به ، وبه استدلّ الكوفيون على أنّ «من» تكون لابتداء الغاية في الزمان ؛ واستدلّوا أيضا بقوله : [الطويل]

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٢٠٧

٢٨٤٥ ـ من الصّبح حتّى تطلع الشّمس لا ترى

من القوم إلّا خارجيّا مسوّما (١)

وقول الآخر : [الطويل]

٢٨٤٦ ـ تخيّرن من أزمان يوم حليمة

إلى اليوم قد جرّبن كلّ التّجارب (٢)

وقد تأوّله البصريون على حذف مضاف ، أي : من تأسيس أول يوم ، ومن طلوع الصّبح ، ومن مجيء أزمان يوم. قال القرطبي : «من» عند النحويين مقابلة «منذ» ، ف «منذ» في الزمان بمنزلة «من» في المكان ، أي : من تأسيس أوّل الأيام ؛ فدخلت على مصدر الفعل الذي هو «أسس» ؛ كقوله : [الكامل]

٢٨٤٧ ـ لمن الدّيار بقنّة الحجر

أقوين من حجج ومن دهر؟ (٣)

أي من مرور حجج ومن مرور دهر ، وإنّما دعا إلى هذا أنّ من أصول النحويين أنّ «من» لا يجر بها الأزمان ، وإنّما تجرّ الأزمان ب «منذ» ، تقول : ما رأيته منذ شهر ، أو سنة. قال أبو البقاء (٤) «وهذا ضعيف ؛ لأنّ التأسيس المقدر ليس بمكان ، حتّى تكون لابتداء الغاية ويدلّ على جواز ذلك قوله : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) [الروم : ٤] ، وهو كثير في القرآن وغيره».

قال شهاب الدّين (٥) : البصريون إنّما فرّوا من كونها لابتداء الغاية في الزّمان ، وليس في هذه العبارة ما يقتضي أنها لا تكون إلا لابتداء الغاية في المكان حتّى يردّ عليهم بما ذكر ، والخلاف في هذه المسألة قوي ، ولأبي علي فيها كلام طويل. وقال ابن عطيّة : «ويحسن عندي أن يستغنى عن تقدير ، وأن تكون «من» تجر لفظة «أول» ؛ لأنّها بمعنى : البداءة ، كأنّه قال : من مبتدأ الأيام ، وقد حكي لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو».

وقوله : «أحقّ» ليس للتفضيل ، بل بمعنى «حقيق» ، إذ لا مفاضلة بين المسجدين.

__________________

(١) البيت للحصين بن الحمام ينظر : المفضليات ١ / ٢١٥ ، المقرب ١ / ١٩٨ ، أمالي ابن الشجري ٢ / ٢٢٣ ، الخزانة ٣ / ٣٢٣ ، رصف المباني ٣٢١ ، الدر المصون ٣ / ٥٠٣.

(٢) البيت للنابغة الذبياني ينظر : ديوانه ص (٤٥) ، خزانة الأدب ٣ / ٣٣١ ، شرح التصريح ٢ / ٨ ، شرح شواهد المغني ص (٣٤٩) ، (٧٣١) مغني اللبيب (٣١٩) ، المقاصد النحوية ٣ / ٢٧٠ ، أوضح المسالك ٣ / ٢٢ شرح الأشموني ٢ / ٢٨٧ شرح ابن عقيل ص (٣٥٨) ، الدر المصون ٣ / ٥٠٣.

(٣) البيت لزهير بن أبي سلمى ينظر : ديوانه (٤١) ابن يعيش ٤ / ٩٣ ، ٨ / ١١ ، الإنصاف ١ / ٣٧١ ، المغني ١ / ٣٣٥ ، أوضح المسالك ٣ / ٤٨ ، العيني ٣ / ٣١٢ ، التصريح ٢ / ١٧ ، الهمع ١ / ٢١٧ ، الأزهية ص (٢٨٣) أسرار العربية ص (٢٧٣) الأغاني ٦ / ٨٦ ، خزانة الأدب ٩ / ٤٣٩ ، ٤٤٠ ، الدرر ٣ / ١٤٢ ، الشعر والشعراء ١ / ١٤٥ ، المقاصد النحوية ٣ / ٣١٢ ، جواهر الأدب (٢٧٠) رصف المباني ص (٣٢٠) شرح الأشموني ٢ / ٢٩٧.

(٤) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ٢ / ٢٢.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٥٠٣.

٢٠٨

قال القرطبيّ (١) «أحقّ» هو أفعل من الحق ، و «أفعل» لا يدخل إلّا بين شيئين مشتركين لأحدهما مزيّة في المعنى الذي اشتركا فيه على الآخر ، فمسجد الضّرار وإن كان باطلا لا حقّ فيه ، فقد اشتركا في الحقّ من جهة اعتقاد بانيه ، أو من جهة اعتقاد من كان يظن أنّ القيام فيه جائز للمسجدية ، لكن أحد الاعتقادين باطل باطنا عند الله ، والآخر حق باطنا وظاهرا ، ومثله قوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) [الفرقان : ٢٤] ومعلوم أنّه لا خيرية في النّار ، لكنه جرى على اعتقاد كلّ فرقة أنّها خير ، وأنّ مصيرها إلى خير ، إذ كل حزب بما لديهم فرحون. و (أَنْ تَقُومَ) أي : بأن تقوم. والتاء لخطاب الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ. و «فيه» متعلق به. قوله : (فِيهِ رِجالٌ) يجوز أن تكون «فيه» صفة لمسجد و «رجال» فاعل ، وأن تكون حالا من الهاء في «فيه» ، و «رجال» فاعل به أيضا ، وهذان أولى من حيث إنّ الوصف بالمفرد أصل ، والجارّ قريب من المفرد.

ويجوز أن يكون «فيه» خبرا مقدّما ، و «رجال» مبتدأ مؤخر. وفي هذه الجملة أيضا ثلاثة أوجه :

أحدها : الوصف.

والثاني : الحال على ما تقدم.

والثالث : الاستئناف.

وقرأ عبد الله (٢) بن زيد «فيه» بكسر الهاء ، و «فيه» الثانية بضمها ، وهو الأصل ، جمع بذلك بين اللغتين ، وفيه أيضا رفع توهّم التوكيد ، ورفع توهّم أنّ «رجال» مرفوع ب «تقوم». وقوله «يحبّون» صفة ل «رجال» ، و «أن» مفعول به. وقرأ طلحة (٣) بن مصرف ، والأعمش «يطّهّروا» بالإدغام. وعلي بن أبي طالب «المتطهّرين» بالإظهار عكس قراءة الجمهور في اللفظتين.

فصل

معنى «أسس» أي : بني أصله (عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) بني ووضع أساسه (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) مصليا. واختلفوا في المسجد الذي أسّس على التقوى ، فقال ابن عمر وزيد ابن ثابت ، وأبو سعيد الخدري : هو مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدلّ عليه ما روى حميد الخراط قال : سمعت أبا سلمة بن عبد الرّحمن قال : مرّ بي عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدريّ قال : قلت له : كيف سمعت أباك يذكر في المسجد الذي أسّس على التّقوى؟ قال : قال أبي : دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيت بعض نسائه فقلت يا رسول الله ، أيّ المسجدين

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٨ / ١٦٦.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٨٣ ، البحر المحيط ٥ / ١٠٣ ، الدر المصون ٣ / ٥٠٤.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٣١١ ، المحرر الوجيز ٣ / ٨٤ ، البحر المحيط ٥ / ١٠٣ ، الدر المصون ٣ / ٥٠٤.

٢٠٩

الذي أسّس على التّقوى؟ قال : فأخذ كفّا من حصباء فضرب به الأرض ثمّ قال : «هو مسجدكم هذا» لمسجد المدينة. قال : فقلت : أشهد أنّي سمعت أباك هكذا يذكره (١). وهذا قول سعيد بن المسيّب. وقال قوم : إنّه مسجد قباء ، وهي رواية عطية عن ابن عباس (٢) ، وهو قول عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وقتادة لما روي عن ابن عمر قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتي مسجد قباء كلّ سبت ماشيا وراكبا ، وكان عبد الله يفعله ، وزاد نافع عن ابن عمر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «فيصلّي فيه ركعتين» (٣).

وقوله : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) أي : من الأحداث والجنابات والنجاسات.

قال عطاء : كانوا يستنجون بالماء ، ولا ينامون الليل على جنابة. روى أبو هريرة عن النبي ـ عليه الصلاة والسّلام ـ قال : نزلت هذه الآية في أهل قباء (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا)(٤) قال : كانوا يستنجون بالماء ؛ فنزلت فيهم هذه الآية ، (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ).

وروي أنّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف على باب مسجد قباء وقال : «يا معشر الأنصار إنّ الله أثنى عليكم ، فما الذي تصنعون في الوضوء؟» فقالوا : نتبع الأحجار بالماء ، فقرأ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم (رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) الآية (٥).

قالوا : المراد منه : الطهارة بالماء بعد الحجر. وقيل : المراد منه : الطّهارة من الذنوب والمعاصي.

وقيل : محمول على الأمرين.

فإن قيل : لفظ الطّهارة حقيقة في إزالة النّجاسات ، ومجاز في البراءة عن المعاصي ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٧٥) بمعناه وللحديث شواهد عن سهل بن سعد وأبي بن كعب بمعناه.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٧٤) عن علي وعطية العوفي عن ابن عباس.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٢٨).

(٣) أخرجه البخاري ٣ / ٦٩ كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة : باب من أتى مسجد قباء كل سبت (١١٩٣) وباب إتيان مسجد قباء ماشيا وراكبا (١١٩٤) ومسلم ٢ / ١٠١٦ ـ ١٠١٧ كتاب الحج : باب فضل مسجد قباء (٥١٦ / ١٣٩٩) و (٥٢١ / ١٣٩٩).

(٤) أخرجه أبو داود (١ / ٥٩) كتاب الطهارة : باب الاستنجاء بالماء حديث (٤٤) وابن ماجه (١ / ١٢٨) كتاب الطهارة : باب الاستنجاء بالماء حديث (٣٥٧) والترمذي (٥ / ٢٦٢) رقم (٣١٠٠) وقال الترمذي : هذا حديث غريب من هذا الوجه.

(٥) أخرجه ابن ماجه (١ / ١٢٧) رقم (٣٥٥) وابن الجارود (٤٠) والدارقطني (١٠ / ٦٢) والحاكم (١ / ١٥٥) والبيهقي (١ / ١٠٥) من حديث طلحة بن نافع قال : ثني أبو أيوب وجابر وأنس ـ به وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

٢١٠

واستعمال اللفظ الواحدة في الحقيقة ، والمجاز معا لا يجوز.

فالجواب : أنّ لفظ النّجس اسم للمستقذر ، وهذا القذر مفهوم مشترك فيه بين القسمين ، فزال السّؤال.

قوله : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ).

قرأ نافع (١) ، وابن عامر «أسّس» مبنيا للمفعول ، «بنيانه» بالرفع ، لقيامه مقام الفاعل.

والباقون «أسّس» مبنيا للفاعل ، «بنيانه» مفعول به ، والفاعل ضمير «من» وقرأ (٢) عمارة بن عائذ الأوّل مبنيا للمفعول ، والثاني مبنيا للفاعل ، و «بنيانه» مرفوع على الأولى ومنصوب على الثانية لما تقدّم.

وقرأ نصر بن علي (٣) ، ونصر بن عاصم «أسس بنيانه». وقرأ أبو (٤) حيوة «أساس بنيانه» جمع «أسّ». وروي عن نصر (٥) بن عاصم أيضا «أسّ» بهمزة مفتوحة وسين مضمومة.

وقرىء «إساس» بالكسر ، وهي جموع أضيفت إلى «البنيان». وقرىء «أساس» بفتح الهمزة و «أسّ» بضم الهمزة وتشديد السين ، وهما مفردان أضيفا إلى البنيان (٦).

ونقل صاحب اللوامح فيه «أسس» (٧) بالتخفيف ورفع السين ، «بنيانه» بالجر ، ف «أسس» مصدر أسس الحائط ، يؤسسه أسسا ، وأسّا. فهذه عشر قراءات ، والأسّ والأساس القاعدة التي يبنى عليها الشيء. ويقال : كان ذلك على أس الدهر ، كقولهم : على وجه الدهر. ويقال : أسّ ، مضعفا : أي : جعل له أساسا ، وآسس ، بزنة «فاعل».

و «البنيان» فيه قولان :

أحدهما : أنّه مصدر ، ك : الغفران ، والشّكران ، وأطلق على المفعول ك «الخلق» بمعنى المخلوق ، وإطلاق المصدر على المفعول مجاز مفهوم ، يقال : هذا ضرب الأمير ونسج زيد ، أي : مضروبه ، ومنسوجه.

والثاني : أنّه جمع ، وواحده «بنيانة» ؛ قال الشاعر :

٢٨٤٨ ـ كبنيانة القرييّ موضع رحلها

وآثار نسعيها من الدّفّ أبلق (٨)

__________________

(١) ينظر : السبعة ص (٣١٨) ، الحجة ٤ / ٢١٨ ، حجة القراءات ص (٣٢٣) ، إتحاف ٢ / ٩٨.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٨٤ ، البحر المحيط ٥ / ١٠٣ ، الدر المصون ٣ / ٥٠٤.

(٣) ينظر : السابق.

(٤) ينظر : السابق.

(٥) ينظر : السابق.

(٦) ينظر : الكشاف ٢ / ٣١١ ، المحرر الوجيز ٣ / ٨٤ ، البحر المحيط ٥ / ١٠٣ ، الدر المصون ٣ / ٥٠٤.

(٧) ينظر : الكشاف ٢ / ٣١١ ، المحرر الوجيز ٣ / ٨٤ ، البحر المحيط ٥ / ١٠٣ ، الدر المصون ٣ / ٥٠٤.

(٨) ينظر : ديوان زهير بشرح ثعلب ٢٥٧ ، البحر المحيط ٥ / ١٠٣ ، والمحرر الوجيز ٣ / ٨٤ ، والدر المصون ٣ / ٥٠٤.

٢١١

يعنون أنه اسم جنس ، ك : قمح وقمحة.

قوله : (عَلى تَقْوى) يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلق بنفس «أسّس» فهو مفعول في المعنى.

والثاني : أنّه متعلق بمحذوف على أنّه حال من الضّمير المستكن في «أسّس» أي : قاصدا بنيانه التقوى ، كذا قدّره أبو البقاء.

وقرأ عيسى (١) بن عمر «تقوى» منونة. وحكى هذه القراءة سيبويه ، ولم يرتضها الناس لأنّ ألفها للتأنيث ، فلا وجه لتنوينها ، وقد خرّجها الناس على أن تكون ألفها للإلحاق.

قال ابن جني (٢) : قياسها أن تكون ألفها للإلحاق ، ك «أرطى». قوله : «خير» خبر المبتدأ. والتفضيل هنا باعتبار معتقدهم. و «أم» متصلة ، و «من» الثانية عطف على «من» الأولى ، و (أَسَّسَ بُنْيانَهُ) كالأولى ، قوله : (عَلى شَفا جُرُفٍ) كقوله : (عَلى تَقْوى) في وجهيه. والشّفا : الشّفير ، وشفا الشيء حرفه ، يقال : أشفى على كذا إذا دنا منه. وتقدّم الكلام عليه في آل عمران. وقرأ حمزة (٣) ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم «جرف» بسكون الرّاء والباقون بضمها. فقيل : لغتان. وقيل : السّاكن فرع على المضموم ، ك : «عنق» في «عنق» و «طنب» في «طنب». وقيل : العكس ك : «عسر ويسر». و «الجرف» البئر التي لم تطو. وقيل : هو الهوّة ، وما يجرفه السّيل من الأودية ، قاله أبو عبيدة.

وقيل : هو المكان الذي يأكله الماء ، فيجرفه ، أي : يذهب به ، ورجل جراف ، أي : كثير النكاح كأنّه يجرف في ذلك العمل ، قاله الراغب.

قوله : «هار» نعت ل : «جرف» ، وفيه ثلاثة أقوال :

أحدها ـ وهو المشهور ـ : أنّه مقلوب بتقديم لامه على عينه ، وذلك أنّ أصله : هاور ، أو هاير بالواو والياء ؛ لأنه سمع فيه الحرفان قالوا : هار يهور فانهار ، وهار يهير ، وتهوّر البناء ، وتهيّر فقدّمت اللام ، وهي «الراء» على العين ـ وهي «الواو» أو «الياء» ـ فصار ك : غاز ، ورام ، فأعلّ بالنقص كإعلالهما ، فوزنه بعد القلب : «فالع» ، ثم تزنه بعد الحذف ب «فال».

الثاني : أنه حذفت عينه اعتباطا ، أي : لغير موجب ، وعلى هذا ، فيجري بوجوه الإعراب على لامه ، فيقال : هذا هار ، ورأيت هارا ، ومررت بهار ، ووزنه أيضا «فال».

والثالث : أنّه لا قلب فيه ولا حذف ، وأنّ أصله «هور» ، أو «هير» بزنة «كتف» ،

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٨٤ ، البحر المحيط ٥ / ١٠٣ ، الدز المصون ٣ / ٥٠٥.

(٢) ينظر : المحتسب لابن جني ١ / ٣٠٤.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٣١٢ ، المحرر الوجيز ٣ / ٨٤ ـ ٨٥ ، البحر المحيط ٥ / ١٠٤ ، الدر المصون ٣ / ٥٠٥.

٢١٢

فتحرك حرف العلة ، وانفتح ما قبله ، فقلب ألفا ، فصار مثل قولهم : كبش صاف. أي : صوف ، ويوم راح ، أي : روح. وعلى هذا ، فيجري بوجوه الإعراب أيضا كالذي قبله ، كما تقول : هذا باب ورأيت بابا ، ومررت بباب. وهذا أعدل الوجوه ، لاستراحته من ادّعاء القلب ، والحذف اللذين هما على خلاف الأصل ، لو لا أنه غير مشهور عند أهل التّصريف. ومعنى : «هار» أي: ساقط متداع منهال.

قال الليث : الهور : مصدر هار الجرف يهور ، إذا انصدع من خلفه ، وهو ثابت بعد في مكانه ، وهو جرف هار أي : هائر ، فإذا سقط ؛ فقد انهار وتهيّر. ومعناه السّاقط الذي يتداعى بعضه في أثر بعض كما ينهار الرّمل والشيء الرخو.

قوله : «فانهار» فاعله إمّا ضمير البنيان ، والهاء في «به» على هذا ضمير المؤسس الباني أي : فسقط بنيان الباني على شفا جرف هار ، وإمّا ضمير الشّفا ، وإمّا ضمير الجرف أي : فسقط الشّفا ، أو سقط الجرف ، والهاء في «به» للبنيان ، ويجوز أن يكون للباني المؤسس. والأولى أن يكون الفاعل ضمير الجرف ؛ لأنّه يلزم من انهياره انهيار الشّفا والبنيان جميعا ، ولا يلزم من انهيارهما أو انهيار أحدهما انهياره. والباء في «به» يجوز أن تكون المعدّية ، وأن تكون التي للمصاحبة ، وقد تقدّم الخلاف في أول الكتاب أنّ المعدّية عند بعضهم تستلزم المصاحبة. وإذا قيل إنّها للمصاحبة هنا ؛ فتتعلق بمحذوف ؛ لأنّها حال أي : فانهار مصاحبا له.

فصل

معنى الآية : أفمن أسّس بنيان دينه على قاعدة قويّة محكمة وهو الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير ، أمّن أسّس على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء ، وهو الباطل والنّفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار من أودية جهنم؟ وكونه شفا جرف هار كان مشرفا على السّقوط ولكونه على طرف جهنم ، كان إذا انهار فإنّما ينهار في قعر جهنم ، فالمعنى أنّ أحد البناءين قصد بانيه ببنائه تقوى الله ورضوانه ، والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر فكان البناء الأول شريفا واجب الإبقاء ، والبناء الثاني خسيسا واجب الهدم ؛ فلا يرى مثال أخس مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال ، (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

قوله (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ).

أي : ذلك البنيان صار سببا لحصول الريبة في قلوبهم. و «بنيانهم» يحتمل أن يكون مصدرا على حاله ، أي : لا يزال هذا الفعل الصّادر منهم ، ويحتمل أن يكون مرادا به المبني ، وحينئذ يضطرّ إلى حذف مضاف ، أي : بناء بنيانهم ؛ لأن المبنيّ ليس ريبة ، أو يقدّر الحذف من الثاني أي : لا يزال مبنيّهم سبب ريبة. وقوله : (الَّذِي بَنَوْا) تأكيد دفعا لوهم من يتوهّم أنهم لم يبنوا حقيقة ، وإنّما دبّروا أمورا ، من قولهم : كم أبني وتهدم ، وعليه قوله : [الطويل]

٢١٣

٢٨٤٩ ـ متى يبلغ البنيان يوما تمامه

إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟ (١)

فصل

في كونه سببا للريبة وجوه : الأول : أنّ المنافقين فرحوا ببناء مسجد الضّرار ، فلمّا أمر الرسول بتخريبة ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته.

وثانيها : أنّ الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لما أمر بتخريبه ، ظنّوا أنّه إنّما أمر بتخريبه حسدا ، فارتفع أمانهم عنه ، وعظم خوفهم منه ، وصاروا مرتابين في أنّه هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم؟.

وثالثها : أنّهم اعتقدوا كونهم محسنين في بناء ذلك المسجد ، كما حبب العجل إلى قوم موسى ، فلمّا أمر الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بتخريبه؟ قاله ابن عباس. وقال الكلبيّ : «ريبة» أي : حسرة وندامة ، لأنهم ندموا على بنائه (٢). وقال السّدي : لا يزال هدم بنيانهم ريبة ، أي : حزازة وغيظا في قلوبهم (٣).

قوله : (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ) المستثنى منه محذوف ، والتقدير : لا يزال بنيانهم ريبة في كلّ وقت إلّا وقت تقطيع قلوبهم أو في كل حال إلّا حال تقطيعها.

وقرأ ابن (٤) عامر ، وحمزة ، وحفص «تقطّع» بفتح التّاء ، والأصل تتقطع بتاءين ، فحذفت إحداهما.

وعن ابن (٥) كثير «تقطع» بفتح الياء وتسكين القاف «قلوبهم» بالنصب ، أي : تفعل أنت بقلوبهم هذا الفعل. وقرأ الباقون «تقطّع» بضمّها ، وهو مبني للمفعول ، مضارع «قطّع» بالتشديد. وقرأ (٦) أبيّ «تقطع» مخففا من «قطع». وقر الحسن (٧) ، ومجاهد وقتادة ، ويعقوب «إلى أن» ب «إلى» الجارة. وأبو حيوة كذلك ، وهي قراءة واضحة في المعنى ، إلّا أنّا أبا حيوة قرأ (٨) «تقطّع» بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددة والفاعل ضمير الرسول ، «قلوبهم» نصبا على المفعول به ، والمعنى بذلك أنه يقتلهم ويتمكّن منهم

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٥٠٦ ، روح المعاني ١١ / ٢٤.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٢٩).

(٣) انظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : السبعة ص (٣١٩) ، الحجة ٤ / ٢٣٠ ، حجة القراءات ص (٣٢٤) ، إعراب القراءات ١ / ٢٥٥ ، إتحاف ٢ / ٩٩.

(٥) ينظر : السابق.

(٦) ينظر : الكشاف ٢ / ٣١٣ ، المحرر الوجيز ٣ / ٨٦ ، البحر المحيط ٥ / ١٠٥ ، الدر المصون ٣ / ٥٠٦.

(٧) ينظر : السابق.

(٨) ينظر : السابق.

٢١٤

كلّ تمكّن. وقيل : الفاعل ضمير «الرّيبة» ، أي : إلى أن تقطع الرّيبة قلوبهم وفي مصحف عبد اللّ ه «ولو قطعت» ، وبها قرأ أصحابه ، وهي مخالفة لسواد مصاحف الناس. والمعنى أنّ هذه الريبة باقية في قلوبهم أبدا ويموتون على النّفاق. وقيل : معناه إلّا أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم. وقيل : حتى تنشق قلوبهم غما وحسرة. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوالهم ، «حكيم» في الأحكام التي يحكم بها عليهم.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢) ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(١١٦)

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) الآية.

لمّا شرح أحوال المنافقين ، عاد إلى بيان فضيلة الجهاد. قيل : هذا تمثيل كقوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة : ١٦] قال محمّد بن كعب القرظيّ : لمّا بايعت الأنصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة العقبة بمكّة وهم سبعون نفسا ، قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله اشترط لربّك ولنفسك ما شئت. فقال : «أشترط لربّي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ولنفسي أن تمنعوني ممّا تمنعون منه أنفسكم وأموالكم» قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال : «الجنّة» قالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل ، فنزل : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)(١).

قال الحسن ، ومجاهد ، ومقاتل : «ثامنهم فأغلى ثمنهم» (٢).

قوله : (بِأَنَّ لَهُمُ) متعلق ب «اشترى» ، ودخلت الباء هنا على المتروك على بابها ،

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٨٢) عن قتادة والحسن وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٢٩) والرازي (١٦ / ١٥٨).

٢١٥

وسمّاها أبو البقاء «باء» المقابلة ، كقولهم : «باء» العوض ، و «باء» الثمنية. وقرأ عمر (١) ابن الخطاب والأعمش «بالجنّة». قال أهل المعاني : لا يجوز أن يشتري الله شيئا في الحقيقة ؛ لأنه مالك الكل ، ولهذا قال الحسن : اشترى أنفسا هو خلقها ، وأموالا هو رزقها ، وإنّما ذكر الله ذلك ، لحسن التّلّطف في الدّعاء إلى الطّاعة ؛ لأنّ المؤمن إذا قاتل في سبيل الله حتى يقتل ؛ فتذهب روحه ، وينفق ماله في سبيل الله تعالى جزاؤه في الآخرة الجنّة ، فكان هذا استبدالا وشراء. قال الحسن : «والله بيعة رابحة ، وكفة راجحة ، بايع الله بها كلّ مؤمن والله ما على الأرض مؤمن إلّا وقد دخل في هذه البيعة» (٢).

وفيه لطيفة ، وهي أنّ المشتري لا بدّ وأن يغاير البائع ، وههنا البائع هو الله تعالى ، والمشتري هو الله ، وهذا إنما يصحّ في حقّ القيم بأمر الطفل الذي لا يمكنه رعاية المصالح في البيع والشراء وصحّة هذا البيع مشروطة برعاية الغبطة ؛ فهذا جار مجرى التّنبيه على كون العبد كالطّفل الذي لا يهتدي إلى رعاية مصالح نفسه ؛ وأنّه تعالى هو الرّاعي لمصالحه بشرط الغبطة.

فصل

قال القرطبيّ : «هذه الآية دليل على جواز معاملة السيد مع عبده ، وإن كان الكل للسّيد ، لكن إذا ملكه عامله فيما جعل إليه ، وجاز بين السيد وعبده ما لا يجوز بينه وبين غيره ؛ لأنّ ماله له ، وله انتزاعه».

فصل

أصل الشراء من الخلق أن يعوضوا بما خرج من أيديهم ما كان أنفع لهم ، أو مثل ما خرج عنهم في النفع ، فاشترى الله من العباد إتلاف أنفسهم ، وأموالهم في طاعته ، وإهلاكها في مرضاته وأعطاهم الجنّة عوضا عنها إذا فعلوا ذلك ، وهو عوض عظيم لا يدانيه المعوض ، فأجرى ذلك على مجرى ما يتعارفونه في البيع والشراء ، فمن العبد تسليم النفس والمال ، ومن الله الثّواب والنّوال فسمّي هذا شراء.

فصل

قال بعض العلماء : كما اشترى من المؤمنين البالغين المكلفين كذلك اشترى من الأطفال فآلمهم ، وأسقمهم ، لما في ذلك من المصلحة ومن الاعتبار للبالغين ، فإنهم لا يكونون عند شيء أكثر صلاحا ، وأقل فسادا منهم عند ألم الأطفال ، وما يحصل للوالدين من الثّواب فيما ينالهم من الهم ، ثم إنّ الله تعالى يعوض هؤلاء الأطفال عوضا إذا صاروا إليه.

قوله : «يقاتلون» يجوز أن يكون مستأنفا ، ويجوز أن يكون حالا. وقال

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٠٥ ، الدر المصون ٣ / ٥٠٦.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ١٥٨).

٢١٦

الزمخشري : «يقاتلون» فيه معنى الأمر ، كقوله : (وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) [الصف : ١١]. وعلى هذا فيتعيّن الاستئناف ، لأنّ الطّلب لا يقع حالا. وقد تقدّم الخلاف في (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) في آل عمران قرأ حمزة (١) والكسائيّ : «فيقتلون» بتقديم المفعول على الفاعل. وقرأ الباقون بتقديم الفاعل على المفعول.

قوله : «وعدا» منصوب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة ؛ لأنّ معنى «اشترى» معنى : وعدهم بذلك ، فهو نظير : «هذا ابني حقّا». ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال وفيه ضعف. و «حقّا» نعت له. و «عليه» حال من «حقّا» ؛ لأنّه في الأصل صفة لو تأخّر.

قوله : (فِي التَّوْراةِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنّه متعلق ب «اشترى» ، وعلى هذا فتكون كل أمّة قد أمرت بالجهاد ، ووعدت عليه الجنّة.

والثاني : أنّه متعلق بمحذوف ؛ لأنّه صفة للوعد ، أي : وعدا مذكورا وكائنا في التّوراة.

وعلى هذا فيكون الوعد بالجنّة لهذه الأمّة مذكورا في كتب الله المنزلة ، وقال الزمخشريّ (٢) في أثناء الكلام : «لا يجوز عليه قبيح قطّ» قال أبو حيّان : «استعمل «قط» في غير موضوعه ، لأنّه أتى به مع قوله «لا يجوز عليه» ، و «قطّ» ظرف ماض ، فلا يعمل فيه إلّا الماضي».

قال شهاب الدّين «ليس المراد هنا زمنا بعينه».

ثم قال تعالى : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) أي : أنّ نقض العهد كذب ، ومكر ، وخديعة وكل ذلك من القبائح ، وهي قبيحة من الإنسان مع احتياجه إليها ، فالغني عن كلّ الحاجات أولى أن يكون منزها عنها. أي لا أحد أوفى بعهده من الله ، وهذا يتضمّن وفاء الباري بالكل فأمّا وعده فللجميع ، وأمّا وعيده فمخصوص ببعض المذنبين وببعض الذّنوب ، وفي بعض الأحوال.

قوله : «فاستبشروا» فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب ؛ لأنّ في خطابهم بذلك تشريفا لهم و «استفعل» هنا ليس للطلب ، بل بمعنى «أفعل» ، ك «استوقد» ، و «أوقد» والمعنى: أظهروا السّرور بذلك ، والبشارة : إظهار السّرور في البشرة.

وقوله : (الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) توكيد ، كقوله : (الَّذِي بَنَوْا) [التوبة : ١١٠] ، لينصّ لهم على هذا البيع بعينه.

__________________

(١) ينظر : السبعة ص (٣١٩) ، الحجة ٤ / ٢٣١ ، حجة القراءات ص (٣٢٥) ، إعراب القراءات ١ / ٢٥٦ ، إتحاف ٢ / ٩٩.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٣١٤.

٢١٧

قوله تعالى : (التَّائِبُونَ) الآية.

لمّا بينّ أنّه اشترى من المؤمنين أنفسهم ، بيّن ههنا أنّ أولئك المؤمنين هم الموصوفون بهذه الصفات. وقال جماعة : الآية الأولى مستقلة بنفسها ، يقع تحت تلك المبايعة كل موحّد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإن لم يتصف بهذه الصفات في هذه الآية.

قوله : «التّائبون» فيه خمسة أوجه :

أحدها : أنّه مبتدأ ، وخبره «العابدون» وما بعده أوصاف ، أو أخبار متعددة عند من يرى ذلك.

الثاني : أنّ الخبر قوله «الآمرون».

الثالث : أنّ الخبر محذوف ، أي : التّائبون الموصوفون بهذه الأوصاف من أهل الجنة ، أي من لم يجاهد غير معاند ، ولا قاصد لترك الجهاد فله الجنّة ، قال الزجاج : وهو حسن ، كأنه وعد الجنّة لجميع المؤمنين ، كقوله : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [النساء : ٩٥] ويؤيده قوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) ، وهذا عند من يرى أنّ هذه الآية منقطعة ممّا قبلها وليست شرطا في المجاهدة. وأمّا من زعم أنّها شرط في المجاهدة ، كالضّحاك وغيره فيكون إعراب التّائبين خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم التائبون ، وهذا من باب قطع النّعوت ، وذلك أنّ هذه الأوصاف عند هؤلاء القائلين من صفات المؤمنين في قوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ويؤيّد ذلك قراءة أبيّ ، وابن مسعود ، والأعمش «التّائبين» بالياء ، ويجوز أن تكون هذه القراءة على القطع أيضا ؛ فيكون منصوبا بفعل مقدر ، وقد صرّح الزمخشري ، وابن عطية بأنّ التائبين في هذه القراءة نعت للمؤمنين.

الخامس : أنّ «التّائبون» بدل من الضمير المتصل في «يقاتلون».

ولم يذكر لهذه الأوصاف متعلقا فلم يقل : التّائبون من كذا لله ، ولا العابدون لله لفهم ذلك ، إلّا صفتي الأمر والنّهي ، مبالغة في ذلك. ولم يأت بعاطف بين هذه الأوصاف ، لمناسبتها لبعضها ، إلّا في صفتي الأمر والنّهي ، لتباين ما بينهما ، فإنّ الأمر طلب فعل ، والنّهي طلب ترك ، أو كفّ. وكذا «الحافظون» عطفه وذكر متعلقه وأتى بترتيب هذه الصفات في الذّكر على أحسن نظم ، وهو ظاهر بالتأمل ، فإنّه قدّم التوبة أولا ، ثم ثنّى بالعبادة إلى آخرها.

وقيل : إنّما دخلت الواو ؛ لأنها «واو» الثمانية ، كقولهم : (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف : ٢٢] وقوله : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣] لمّا كان للجنّة ثمانية أبواب أتى معها بالواو. قال بعض النّحويين : هي لغة فصيحة لبعض العرب ، يقولون إذا عدّوا : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة خمسة ، ستة ، سبعة ، وثمانية ، تسعة ، عشرة. قال القرطبيّ : «وهي لغة قريش» وقال أبو البقاء : «إنّما دخلت «الواو» في الصفة الثامنة ، إيذانا بأنّ

٢١٨

السبعة عندهم عدد تام ، ولذلك قالوا : سبع في ثمانية ، أي : سبع أذرع في ثمانية أشبار ، وإنّما دلّت الواو على ذلك ؛ لأنّ الواو تؤذن بأنّ ما بعدها غير ما قبلها ، ولذلك دخلت في باب عطف النّسق». وهذا قول ضعيف جدّا ، لا تحقيق له.

فصل في تفسير هذه الصفات

قوله «التّائبون» قال ابن عبّاس : التّائبون من الشّرك (١) وقال الحسن : من الشّرك والنفاق (٢). وقيل : التائبون الراجعون عن الحالة المذمومة قال القرطبيّ : «الراجع إلى الطّاعة أفضل من الراجع عن المعصية ، لجمعه بين الأمرين» وقال الأصوليّون : التّائبون من كلّ معصية ، لأنّها صيغة عموم محلاة بالألف واللام فتتناول الكل ، فالتخصيص تحكم. و «العابدون» قال ابن عباس «الذين يؤدّون العبادة الواجبة عليهم» (٣) وقال غيره : المطيعون الذين أخلصوا العبادة لله تعالى وقال الحسن «هم الذين عبدوا الله في السّراء والضّراء» (٤) وقال قتادة «قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم» «الحامدون» الذين يحمدون الله على كلّ حال في السّراء والضّراء(٥). قال عليه الصلاة والسّلام : «أوّل من يدعى إلى الجنّة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السّراء والضّراء» (٦).

«السّائحون» قال ابن مسعود : الصائمون (٧). وقال ابن عباس «ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصيام» (٨) وقال عليه الصلاة والسّلام : «سياحة أمتي الصيام» (٩). وعن الحسن «أنّ هذا صوم الفرض» (١٠) وقيل : هم الذين يديمون الصيام. قال سفيان بن عيينة «إنّما سمي الصّائم سائحا ، لتركه اللذات كلها ، من المطعم والمشرب والنكاح» (١١) وقال عطاء : «السّائحون هم الغزاة في سبيل الله» (١٢) وهو قول مسلم. وقال عكرمة : «هم طلبة

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٨٣) عن الحسن وذكره الرازي (١٦ / ١٦١) عن ابن عباس.

(٢) انظر الأثر السابق.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ١٦١).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٨٣).

(٥) أخرجه الطبري في «المصدر السابق» وذكره الرازي (١٦ / ١٦١).

(٦) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (٤٤٨٣ ، ٤٤٨٤ ، ٤٣٧٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٠٣) وزاد نسبته إلى أبي الشيخ وابن مردويه.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٨٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٠٣) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبي الشيخ.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٨٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٠٣) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

(٩) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٨ / ٢٧٠) وله شاهد عن عائشة موقوفا أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٨٦).

(١٠) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ١٦١) عن الحسن.

(١١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٣٠).

(١٢) انظر : المصدر السابق.

٢١٩

العلم ، ينتقلون من بلد إلى بلد» (١) وقوله (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) يعني : المصلّين. وقوله : (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) بالإيمان (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) عن الشّرك. وقيل : المعروف : السنّة ، والمنكر : البدعة.

قوله : (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) القائمون بأوامر الله. وقال الحسن «أهل الوفاء ببيعة الله» (٢).

قوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) الآيات.

لمّا بيّن في أول السّورة إلى هذا الموضع وجوب البراءة عن المشركين ، والمنافقين من جميع الوجوه ، بيّن في هذه الآية وجوب البراءة عن أمواتهم ، وإن كانوا في غاية القرب من الإنسان كالأب والأم ، كما أوجب البراءة عن الأحياء منهم.

قال ابن عباس : لمّا فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكّة ، أتى قبر أمه آمنة ، فوقف عليه حتى حميت الشمس ، رجاء أن يؤذن له ليستغفر لها ، فنزلت (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ)(٣) وعن أبي هريرة قال : زار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ، فقال : «استأذنت ربّي في أن أستغفر لها ؛ فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور فإنّها تذكر الموت» (٤).

قال قتادة : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأستغفرنّ لأبي ، كما استغفر إبراهيم لأبيه» فأنزل الله هذه الآية (٥). وروى سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لمّا حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجد عنده أبا جهل ، وعبد الله بن أبي أميّة بن المغيرة ـ فقال : «يا عم قل لا إله إلّا الله أحاجّ لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أميّة : أترغب عن ملّة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرضها عليه وبعيد له تلك المقالة ، حتّى قال أبو طالب آخر ما كلّمهم : على ملّة عبد المطّلب وأبى أن يقول لا إله إلّا الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك» فأنزل الله هذه الآية ، وقوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)(٦)

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٠٤) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٣٠).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٣٠).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٨٩) عن عطية وذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ١٦٥) عن ابن عباس.

(٤) أخرجه مسلم ٢ / ٦٧١ كتاب الجنائز باب استئذان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه عزوجل في زيارة قبر أمه (١٠٨ ـ ٩٧٦).

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٣١).

(٦) أخرجه البخاري (٨ / ١٦٢) كتاب التفسير : باب ما كان للنبي والذين آمنوا ..... حديث (٤٦٧٥) ومسلم (١ / ٥٤) كتاب الإيمان رقم (٣٩) والبيهقي في «الدلائل» (٢ / ٣٤٣) والطبري في تفسيره (٦ / ٤٨٨).

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٠٥) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وأحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.

٢٢٠