اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

على «إذا» الفجائية ، والعامل فيها. قال أبو البقاء : «يسخطون» لأنه قال : إنها ظرف مكان ، وفيه نظر تقدم نظيره.

قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا). الظاهر أنّ جواب «لو» محذوف ، تقديره : لكان خيرا لهم.

وقيل : جوابها (وَقالُوا) ، والو مزيدة ، وهذا مذهب الكوفيين. والمعنى (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) أي : قنعوا بما قسم لهم (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) كافينا الله (سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) ما نحتاج إليه (إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) في أن يوسع علينا من فضله ، فيغنينا عن الصّدقة وغيرها من أموال الناس ، وقوله : «سيؤتينا» و (إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) هاتان الجملتان كالشّرح لقولهم : (حَسْبُنَا اللهُ) ، فلذلك لم يتعاطفا ، لأنّهما كالشّيء الواحد ، فشدّة الاتصال منعت العطف.

قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ)(٦٦)

قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) الآية.

اعلم أنّ المنافقين لمّا لمزوا الرسول عليه الصلاة والسّلام في الصدقات ، بيّن لهم أنّ مصرف الزكاة هؤلاء ، ولا تعلق لي بها ، ولا آخذ لنفسي نصيبا منها.

وقد ذكر العلماء في الحكمة في وجوب الزكاة أمورا :

منها : قالوا : شكر النّعمة عبارة عن صرفها إلى طلب مرضاة المنعم ، والزكاة شكر النعمة ، فوجب القول بوجوبها ؛ لأنّ شكر المنعم واجب.

ومنها : أنّ إيجاب الزكاة توجب حصول الألفة بالمودّة ، وزوال الحقد والحسد بين المسلمين فهذه وجوه معتبرة في الحكمة الناشئة لوجوب الزّكاة.

ومنها : أنّ الفاضل عن الحاجات الأصلية إذا أمسكه الإنسان عطّله عن المقصود

١٢١

الذي لأجله خلق المال ، وذلك سعي في المنع من ظهور حكمة الله تعالى ، وهو غير جائز ، فأمر الله بصرف طائفة منه إلى الفقير حتّى لا تتعطل تلك الحكمة.

ومنها : أنّ الفقراء عيال الله ، لقوله تعالى (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦] والأغنياء خزان الله ؛ لأنّ الأموال التي في أيديهم لله تعالى ، ولو لا أن الله ألقاها في أيديهم ، لما ملكوا منها حبة واحدة.

ومنها : أنّ المال بالكليّة في يد الغني مع أنّه غير محتاج إليه ، وإهمال جانب الفقير العاجز عن الكسب بالكليّة ، لا يليق بحكمة الرحيم ؛ فوجب أن يجب على الغنيّ صرف طائفة من ذلك المال إلى الفقير.

ومنها : أنّ الأغنياء لو لم يقوموا بمهمات الفقراء ربّما حملهم شدة الحاجة ومضرة المسكنة على الالتحاق بأعداء المسلمين ، أو على الإقدام على الأفعال المنكرة كالسرقة وغيرها ؛ فإيجاب الزكاة يفيد هذه الفائدة ؛ فوجب القول بوجوبها وقيل غير ذلك.

فصل

كلمة «إنّما» للحصر ، فدلّت على أنه لا حق في الصدقات لأحد إلّا لهذه الأصناف الثمانية وذلك مجمع عليه ، ويدلّ على أنّ كلمة «إنّما» للحصر ؛ أنها مركبة من «إن» و «ما» ، و «إن» للإثبات و «ما» للنفي ، واجتماعهما يوجب بقاءهما على ذلك المفهوم ، وكذلك تمسّك ابن عبّاس في نفي ربا الفضل بقوله عليه الصلاة والسّلام «إنّما الرّبا في النّسيئة» (١) ، وتمسك بعض الصحابة في أن الإكسال لا يوجب الاغتسال بقوله عليه الصلاة والسّلام إنما الماء من الماء» ، ولو لا إفادتها الحصر ، لما كان كذلك ، وقال تعالى (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) [النساء : ١٧١] فدلّت على نفي إلهية الغير ؛ وقال الأعشى : [السريع]

٢٨٠٢ ـ ولست بالأكثر منهم حصى

وإنّما العزّة للكاثر (٢)

وقال الفرزدق : [الطويل]

__________________

(١) أخرجه مسلم (٣ / ١٢١٨) كتاب المساقاة : باب بيع الطعام مثلا بمثل حديث (١٠٢ / ١٥٩٦) والنسائي (٧ / ٢٨١) وابن ماجه (٢ / ٧٥٨) كتاب التجارات : باب من قال لا ربا إلّا في النسيئة حديث (٢٢٥٧) ، وأخرجه البخاري (٤ / ٣٨١) كتاب البيوع : باب بيع الدينار بالدينار سواء حديث (٢١٧٨) ومسلم المصدر السابق والنسائي (٧ / ٢٨١) وابن ماجه (٢ / ٧٥٩) بلفظ لا ربا إلّا في النسيئة.

(٢) ينظر : ديوانه ص ١٩٣ ، والاشتقاق ص ٥٦ ، وأوضح المسالك ٣ / ٢٩٥ ، وخزانة الأدب ١ / ١٨٥ ، ٣ / ٤٠٠ ، ٨ / ٢٥٠ ، ٢٥٤ ، والخصائص ١ / ١٨٥ ، ٣ / ٢٣٦ ، وشرح التصريح ٢ / ١٠٤ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٣٥١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٠٢ ، وشرح المفصل ٦ / ١٠٠ ، ١٠٣ ، واللسان (كثر) (سدف) (حصى) ، مغني اللبيب ٢ / ٥٧٢ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٨ ، ونوادر أبي زيد ص ٢٥ ، وجمهرة اللغة ص ٤٢٢ ، شرح الأشموني ٢ / ٣٨٦ ، وشرح ابن عقيل ٤٦٥.

١٢٢

٢٨٠٣ ـ أنا الذّائد الحامي الذّمار وإنّما

يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي (١)

فدلّت هذه الوجوه على أنّ كلمة «إنّما» للحصر.

وروى زياد بن الحارث الصّدائي قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبايعته فأتاه رجل فقال أعطني من الصّدقة فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّ الله لم يرض بحكم نبي ، ولا غيره في الصّدقات حتّى حكم فيها فجزّأها ثمانية أجزاء ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقّك» (٢).

فصل

مذهب أبي حنيفة : أنه يجوز صرف الصّدقة إلى بعض الأصناف ، وهو قول عمر وحذيفة ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وأبي العالية ، والنخعي (٣). قال سعيد بن جبير : لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فحبوتهم بها كان أحب إليّ (٤) وقال الشافعي لا بدّ من صرفها إلى الأصناف الثمانية وهو قول عكرمة ، والزهري وعمر بن عبد العزيز واحتج بظاهر الآية. قال ولا بدّ في كلّ صنف من ثلاثة ، فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث ، وهو ثلث سهم الفقراء قال : ولا بد من التسوية في أنصباء هذه الأصناف الثمانية ، مثاله لو وجد خمسة أصناف ، ولزمه أن يتصدّق بعشرة دراهم ؛ لزمه أن يجعل العشرة خمسة أسهم.

واختلفوا في صفة الفقير والمسكين ، فقال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وعكرمة والزهريّ : الفقير : الذي لا يسأل ، والمسكين : السّائل (٥). قال ابن عمر : ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمرة إلى التمرة ، ولكن الفقير من أنقى نفسه وثيابه ولا يقدر على شيء : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ)(٦) [البقرة : ٢٧٣].

__________________

(١) ينظر : ديوانه ٢ / ١٥٣ ، تذكرة النحاة ص ٨٥ ، والجنى الداني ص ٣٩٧ ، وخزانة الأدب ٤ / ٤٦٥ ، والدرر ١ / ١٩٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٨٨ ، واللسان (قلا) ، والمحتسب ٢ / ١٩٥ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٢٦٠ ، ومغني اللبيب ١ / ٣٠٩ ، والمقاصد النحوية ١ / ٢٧٧ ، ولأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص ٤٨ ، وينظر : الأشباه والنظائر ٢ / ١١١ ، ١١٤ ، وأوضح المسالك ١ / ٩٥ وهمع الهوامع ١ / ٦٢.

(٢) أخرجه أبو داود (١٦٣٠) والدار قطني (٢ / ١٣٧) والبيهقي (٤ / ١٧٤) والطحاوي (٣ / ١٧) من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن زياد بن نعيم الحضرمي عن زياد بن الحارث الصدائي وعبد الرحمن قال الحافظ في «التقريب» (١ / ٤٨٠) : ضعيف في حفظه وكان رجلا صالحا.

(٣) انظر أقوالهم في «تفسير الطبري» (٦ / ٤٠٤).

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٩٥) عن ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري وابن زيد.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٤٩) عن ابن عباس وعزاه إلى ابن أبي شيبة وأبي الشيخ.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٠٢).

(٦) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٠٢).

١٢٣

وقال قتادة : الفقير : المحتاج الزّمن ، والمسكين : الصحيح المحتاج (١). وروي عن عكرمة الفقراء من المسلمين ، والمساكين من أهل الكتاب (٢). وقال الشافعي الفقير من لا مال ولا حرفة تقع منه موقعا زمنا كان أو غير زمن ، والمسكين من له مال أو حرفة لا تغنيه سائلا كان أو غير سائل.

واستدل بقوله : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ) [الكهف : ٧٩] فأثبت لهم ملكا ، وكان عليه الصلاة والسّلام يتعوذ من الفقر ، وقال : كاد الفقر أن يكون كفرا (٣). وكان يقول : اللهمّ أحيني مسكينا وأمتني مسكينا (٤) ، فكيف كان يتعوذ من الفقر ، ويسأل ما هو دونه وهذا تناقض؟.

وقال أصحاب الرأي : الفقير أحسن حالا من المسكين. وقيل : الفقير من له المسكن والخادم والمسكين من لا ملك له ، وقالوا كل محتاج إلى شيء فهو فقير إليه ، وإن كان غنيا عن غيره قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) [فاطر : ١٥] ، والمسكين المحتاج إلى كلّ شيء ألا ترى كيف حضّ على طعامه ، وجعل طعام الكفارة له ، ولا فاقة أشد من الحاجة إلى سد الجوعة.

وقال إبراهيم النخعيّ : الفقراء هم المهاجرون ، والمسكين من لم يهاجر ، وقيل : لا فرق بين الفقراء والمساكين فالله تعالى وصفهم بهذين الوصفين ، والمقصود شيء واحد ، وهو قول أبي يوسف ومحمد.

وفائدة الخلاف تظهر في مسألة : وهي أنّه لو أوصى لفلان وللفقراء والمساكين ، فالذين قالوا : الفقراء غير المساكين ، قالوا : لفلان الثلث ، والذين قالوا : الفقراء هم المساكين قالوا لفلان النصف. واختلفوا في حدّ الغني الذي يمنع أخذ الصّدقة ، فقال الأكثرون : حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة ، وهو قول مالك ، والشافعي. وقال أصحاب الرأي : حدّه أن يملك مائتي درهم. وقيل : من ملك خمسين درهما ، لا يحلّ له أخذ الصدقة. روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من سأل النّاس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش. قيل : وما يغنيه؟ قال : «خمسون درهما أو قيمتها

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٩٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٤٩) وعزاه إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس وأبي الشيخ.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٩٦) وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٠٣).

(٣) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (٣ / ٥٣ ، ١٠٩) وفي «أخبار أصبهان» (١ / ٢٩٠) وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (٢ / ٨٠٥) والعقيلي في «الضعفاء» (٤ / ٢٠٦) من طريق يزيد الرقاشي عن أنس.

(٤) أخرجه الترمذي في السنن (٤ / ٥٧٧ ـ ٥٧٨) كتاب الزهد (٣٧) باب ما جاء أن فقراء المهاجرين ..

(٣٧) الحديث (٢٣٥٢) واللفظ له وأخرجه البيهقي في السنن ٧ / ١٢ كتاب الصدقات باب ما يستدل به على أن الفقير أمس حاجة من المسكين.

١٢٤

من الذّهب» (١) ، وهو قول الثوري ، وابن المبارك ، وأحمد وإسحاق وقالوا : لا يجوز أن يعطى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين ، وقيل : أربعون درهما لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا» (٢).

قوله : (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) وهم السّعاة لجباية الصدقة ، يعطون بقدر أجور أمثالهم.

وقال مجاهد والضحاك : يعطون الثمن ، ولا يجوز أن يكون العامل على الصدقة هاشميا ولا مطلبيا ؛ لأنّ الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أبى أن يبعث أبا رافع عاملا على الصّدقات وقال: أما علمت أن مولى القوم منهم (٣).

قوله : (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) قال ابن عباس : هم أشراف من الأحياء أعطاهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين ، وكانوا خمسة عشر رجلا : أبو سفيان ، والأقرع بن حابس ، وعيينة بن حصن ، وحويطب بن عبد العزى ، وسهل بن عمرو من بني عامر ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو الجهنيّ ، وأبو السنابل ، وحكيم بن حزام ، ومالك بن عوف وصفوان ابن أمية ، وعبد الرحمن بن يربوع ، والجدّ بن قيس ، وعمرو بن مرداس ، والعلاء بن الحرث ، أعطى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كلّ رجل منهم مائة من الإبل ورغبهم في الإسلام ، إلّا عبد الرحمن بن يربوع أعطاه خمسين من الإبل ، وأعطى حكيم بن حزام سبعين من الإبل ، فقال : يا رسول الله ما كنت أرى أنّ أحدا من النّاس أحق بعطائك مني فزاده عشرة ، وهكذا حتى بلغ مائة ، ثم قال حكيم : يا رسول الله ، أعطيتك الأولى التي رغبت عنها خير أم هذه التي قنعت بها؟ فقال عليه الصّلاة والسّلام : بل التي رغبت عنها ، فقال : والله لا آخذ غيرها فقيل : مات حكيم وهو أكثر قريش مالا ، وشقّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك العطايا ، لكن ألفهم بذلك (٤). قال ابن الخطيب : وهذه العطايا إنّما كانت يوم حنين ، ولا تعلق لها بالصدقات ، ولا أدري لأي سبب ذكر ابن عبّاس هذه القصة في تفسير هذه الآية وإنّما ذكر ابن عباس ذلك بيانا للمؤلّفة من هم ، فذكر ذلك مثالا.

واعلم أنّ المؤلفة قسمان ، مسلمون وكفار ، فأمّا المسلمون فيعطون لأجل قوّة إيمانهم أو معونتهم على أخذ الزّكاة ممّن امتنع عن دفعها ، أو ترغيبا لأمثالهم في الإسلام وأما الكفّار ؛ فيعطون ترغيبا لهم في الإسلام ، أو خشية من شرهم ، كما أعطى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صفوان بن أمية لمّا رأى من ميله في الإسلام.

قال الواحديّ إنّ الله تعالى أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين ، فإن رأى الإمام في ذلك مصلحة يعود نفعها على المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز ، ويعطون من الفيء لا من الزّكاة.

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) ذكره الفخر الرازي في «تفسيره» (١٦ / ٨٨ ـ ٨٩).

(٤) ينظر : الفخر الرازي (١٦ / ٨٨ ـ ٨٩).

١٢٥

وقال جماعة من أهل العلم : إنّ المؤلفة منقطعة ، وسهمهم ساقط ، روي ذلك عن عمر وهو قول الشعبي ، وبه قال مالك ، والثوريّ ، وأصحاب الرأي وإسحاق بن راهويه وقال قوم : سهمهم ثابت مروي ذلك عن الحسن ، وهو قول الزهري ، وأبي جعفر محمد بن علي ، وأبي ثور ، وقال أحمد : يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك.

قوله : وفي الرقاب قال الزجاج فيه محذوف ، والتقدير : «وفي فك الرقاب» وقد تقدم الكلام في تفسير «الرقاب» في قوله : (وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ) [البقرة : ١٧٧]. ثمّ في تفسير «الرقاب» أقوال :

أحدها : أنّهم المكاتبون ليعتقوا من الزكاة ، وقال مالك وغيره : إنه لعتق الرقاب يشترى به عبيد فيعتقون. وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يعتق من الزكاة رقبه كاملة ولكن يعطى منها في رقبة ويعان بها مكاتب ؛ لأن قوله : (وَفِي الرِّقابِ) يقتضي أن يكون له فيه مدخل ، وذلك ينافي كونه تاما فيه ، وقال الزهريّ : سهم الرقاب نصفان ، نصف للمكاتبين المسلمين ، ونصف يشترى به رقاب ممّن صلوا وصاموا.

قال بعض العلماء : والاحتياط في سهم الرقاب دفعه إلى السّيد بإذن المكاتب ؛ لأنّه تعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة المتقدم ذكرهم بلام التمليك بقوله : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) ولمّا ذكر «الرقاب» أبدل حرف اللام بحرف «في» فقال : (وَفِي الرِّقابِ) فلا بدّ لهذا الفرق من فائدة ، وهي أنّ الأصناف الأربعة يدفع إليهم نصيبهم. وأما الباقون فيصرف نصيبهم في المصالح المتعلقة بهم لا إليهم.

قال الزمخشري : «فإن قلت : لم عدل عن اللّام إلى «في» في الأربعة الأخيرة؟ قلت : للإيذان بأنّهم أرسخ في استحقاق التصدّق عليهم ممّن سبق ذكره ؛ لأنّ «في» للوعاء ، فنبّه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات وجعله مظنّة لها ومصبّا».

ثم قال : «وتكرير «في» في قوله : (وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين».

قوله : والغارمين قال الزجاج : أصل الغرم في اللغة : لزوم ما يشق ، والغرام العذاب اللّازم ، وسمي العشق غراما ، لكونه شاقا على الإنسان ولازما له ، ومنه : فلان مغرم بالنّساء إذا كان مولعا بهنّ ، وسمي الدّين غراما ، لكونه شاقا ، والمراد بالغارمين المديونون ، فالدّين إن حصل بسبب معصية لا يدخل في الآية ؛ لأنّ المقصود من صرف المال إليه الإعانة ، والمعصية لا تستوجب الإعانة ، وإن حصل لا بسبب معصية فهو قسمان : دين حصل بسبب نفقات ضرورية أو في مصلحة ، ودين بسبب حمالات وإصلاح ذات بين ، والكل داخل في الآية.

روى الأصمّ في تفسيره أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا قضى بالغرة في الجنين قالت العاقلة : لا

١٢٦

نملك الغرّة يا رسول الله ، فقال لحمل بن مالك بن النّابغة أعنهم بغرة من صدقاتهم وكان حمل على الصدقة يومئذ (١).

قوله : (فِي سَبِيلِ اللهِ) قال المفسّرون : يعني الغزاة ، قال أكثر العلماء : يجوز له أن يأخذ من الزّكاة وإن كان غنيا. وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يعطى الغازي إلّا مع الحاجة.

ونقل القفال في تفسيره عن بعض العلماء أنّهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى ، وبناء الحصون ، وعمارة المساجد ؛ لأن قوله : (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) عام في الكل وقال أكثر أهل العلم : لا يعطى منه شيء في الحج. وقال قوم : يجوز أن يصرف سهم في سبيل الله إلى الحج ، يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن ، وأحمد ، وإسحاق (٢).

قوله : (وَابْنِ السَّبِيلِ) وهو كل من يريد سفرا مباحا ولم يكن له ما يقطع به المسافة يعطى له قدر ما يقطع به تلك المسافة ، وإن كان ذا يسار في بلده. وقال قتادة : ابن السبيل : هو الضعيف وقال فقهاء العراق : ابن السبيل : الحاج المنقطع.

واعلم أنّ مال الزّكاة لا يخرج عن هذه الثمانية. واختلفوا هل يجوز وضعه في بعض الأصناف؟ إذا قلنا يجوز وضعه في بعض الأصناف ، فإنّما يجوز في غير العامل ، فأمّا وضعه بالكليّة في العامل فلا يجوز بالاتفاق.

فإن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى ذكر الأصناف الستة وهم : الفقراء ، والمساكين ، والعاملون والمؤلفة ، والرقاب ، والغارمون ، بصيغة الجمع ، وذكر الصنفين الآخرين ، وهما : في سبيل الله وابن السبيل بصيغة الإفراد؟.

فالجواب : أنّ المراد بهما الجنس وهو جمع حقيقة ، ولا يقال : هلّا ذكر الأصناف الستّة بصيغة الإفراد ويكون المراد الجنس كهذين ؛ لأنا نقول : لو أفرد في الجميع ، فلا يخلو إمّا أن يفردهم معرفين بالألف واللام ، أو منكرين ، فإن عرّفهم بالألف واللّام ، احتمل أن تكون الألف واللام للعهد ؛ فينصرف بهم السّامع إلى صرف الزّكاة إلى معهود سابق معين وليس هو المقصود من الآية بالإجماع ، وإن أفردهم منكرين ، فهم منه أنّ الزّكاة لا يجوز دفعها إلى فقير واحد ، أو مسكين واحد ، وكذلك سائرها ، ولا يجوز دفعها لاثنين فما زاد ، وهو خلاف الإجماع.

فصل

والسّبيل : الطريق ، ونسب المسافر إليها لملازمته إيّاها ، ومروره عليها قال بعض

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ٩٠) وعزاه لأبي بكر الأصم في تفسيره.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٠٤).

١٢٧

العلماء : إذا كان المسافر غنيّا في بلده ، ووجد من يسلفه فلا يعطى وهو الصحيح. ولا يلزمه أن يدخل تحت منّة أحد إذا وجد منة تعالى.

فصل

إذا جاء وادّعى وصفا من الأوصاف الثمانية ، هل يقبل قوله أو يقال : أثبت ما تقول؟ أمّا الدّين فلا بدّ أن يثبته ، وأمّا البقية فظاهر الحال يكفي.

قوله «فريضة» في نصبها وجهان :

أحدهما : أنّها مصدر على المعنى لأنّ معنى (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) في قوة : فرض الله ذلك.

والثاني : أنّها حال من الفقراء ، قاله الكرماني ، وأبو البقاء.

يعنيان من الضمير المستكن في الجار ، لوقوعه خبرا ، أي : إنّما الصدقات كائنة لهم حال كونها فريضة ، أي : مفروضة. ويجوز أن يكون فريضة حينئذ بمعنى مفعولة ، وإنّما دخلت التاء ، لجريانها مجرى الأسماء ، ك «النّطيحة». ويجوز أن يكون مصدرا واقعا موقع الحال ، ونقل عن سيبويه أنّ «فريضة» منصوب بفعلها مقدرا ، أي : فرض الله ذلك فريضة. ونقل عن الفرّاء أنّها منصوبة على القطع. ثم قال : (وَاللهُ عَلِيمٌ) بمقادير المصالح «حكيم» لا يشرع إلّا ما هو الأصوب والأصلح.

فصل

وهذه الآية المراد بها فريضة الزكاة ، فأمّا صدقة التطوع فيجوز دفعها إلى هؤلاء وإلى غيرهم ، من بني هاشم ومواليهم ، ومن لا يجوز لهم أخذ الزكاة الواجبة ، يجوز له الأخذ إذا كان غارما أو مؤلفا ، أو عاملا.

قوله تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ) الآية.

وهذا نوع آخر من طعن المنافقين ، وهو أنّهم كانوا يقولون في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه أذن. نزلت في جماعة من المنافقين ، كانوا يؤذون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون ما لا ينبغي ، فقال بعضهم لا تفعلوا فإنّا نخاف أن يبلغه ما نقول ، فيقع بنا فقال الجلاس بن سويد : نقول ما شئنا ، ثم نأتيه وننكر ما قلنا ، ونحلف فيصدّقنا بما نقول ، إنّما محمد أذن ، أي سامعة ، يقال : فلان «أذن وأذن» على وزن «فعل» ، إذا كان يسمع كل ما قيل ويقبله.

وأصله من «أذن» له «أذنا» إذا استمع ، وقال محمد بن إسحاق بن يسار : نزلت في رجل من المنافقين يقال له : نبتل بن الحارث (١) ، وكان رجلا أزلم ، ثائر الشعر ، أحمر

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٠٥) وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٠٦).

١٢٨

العينين ، أسفع الخدين ، مشوّه الخلقة ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث.

وكان ينمّ حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المنافقين ، فقيل له : لا تفعل فقال : إنّما محمد أذن ، فمن حدّثه شيئا صدّقه ؛ فنقول ما شئنا ، ثمّ نأتيه فنحلف له ، فيصدقنا ، فنزلت الآية (١).

قال الأصمّ أظهر الله عن المنافقين وجوه كفرهم التي كانوا يسرونها ، لتكون حجة للرسول ، ولينزجروا ، فقال : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) [التوبة : ٥٨] (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ) [التوبة : ٦١] (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ) [التوبة : ٧٥] إلى غير ذلك من الإخبار عن الغيوب ، وكل ذلك دليل على كونه نبيا حقا من عند الله.

ومعنى «أذن» أي : أنّه ليس له ذكاء ولا بعد غور ، بل هو سليم القلب ، سريع الاغترار بكل ما يسمع.

قوله : (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ) «أذن» خبر مبتدأ محذوف ، أي : قل هو أذن خير والجمهور على جر خير بالإضافة ، وقرأ الحسن (٢) ، ومجاهد ، وزيد بن علي وأبو بكر عن عاصم «أذن» بالتنوين ، «خير» بالرفع ، وفيها وجهان :

أحدهما : أنّها وصف «أذن».

والثاني : أن يكون خبرا بعد خبر ، و «خير» يجوز أن يكون وصفا ، من غير تفضيل ، أي : أذن ذو خير لكم ، ويجوز أن يكون للتفضيل ـ على بابها ـ أي : أكثر خيرا لكم. وجوّز صاحب اللوامح أن يكون «أذن» مبتدأ ، و «خير» خبرها ، وجاز الابتداء هنا بالنكرة ؛ لأنّها موصوفة تقديرا ، أي : أذن لا يؤاخذكم من أذن يؤاخذكم ، ويقال : رجل أذن ، أي : يسمع كل ما يقال ، وفيه تأويلان :

أحدهما : أنّه سمّي بالجارحة ؛ لأنّها آلة السماع ، وهي معظم ما يقصد منه ؛ كقولهم للربيئة: عين.

وقيل : المراد ب : «الأذن» هنا الجارحة ، وحينئذ يكون على حذف مضاف أي : ذو أذن.

والثاني : أنّ الأذن وصف على «فعل» ، ك «أنف» و «شلل» يقال : أذن يأذن ، فهو أذن ؛ قال : [الطويل]

٢٨٠٤ ـ وقد صرت أذنا للوشاة سميعة

ينالون من عرضي ولو شئت ما نالوا (٣)

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٠٦) والقرطبي (٨ / ١٩٢).

(٢) ينظر : السبعة ص (٣١٣) ، الحجة للقراء السبعة ٤ / ١٩٨ ـ ٢٠٣ ، حجة القراءات ص (٣١٩) ، إعراب القراءات ١ / ٢٥٠ ، إتحاف ٢ / ٩٤.

(٣) البيت لعمرو بن أبي بكر العدوي القرشي. ينظر : معجم الشعراء ٣٤ ، والبحر ٥ / ٦٤ ، والدر المصون ٣ / ٤٧٧.

١٢٩

ومعنى قراءة عاصم : إن كان تقولون إنّه أذن ، فأذن خير لكم ، يقبل منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم. ومعنى قراءة الجرّ : أي : هو أذن خير ، لا أذن شر وقرأ (١) نافع «أذن» ساكنة الذّال في كلّ القرآن ، والباقون بالضّم وهما لغتان مثل : عنق وظفر.

ثم بيّن كونه (أُذُنُ خَيْرٍ) بقوله : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) فجعل تعالى هذه الثلاثة كالموجبة لكونه عليه الصلاة والسّلام (أُذُنُ خَيْرٍ) أمّا قوله (يُؤْمِنُ بِاللهِ) فلأنّ كلّ من آمن بالله كان خائفا من الله ، والخائف من الله لا يؤذي بالباطل. ويؤمن للمؤمنين أي : يسلم للمؤمنين قولهم ، إذا توافقوا على قول واحد وهذا بيان كونه سليم القلب.

فإن قيل : لم عدي الإيمان بالله بالباء ، وإلى المؤمنين باللّام؟.

فالجواب : أنّ المراد بالإيمان بالله ، المراد منه : التّصديق الذي هو نقيض الكفر فعدي بالباء والإيمان المعدّى إلى المؤمنين ، معناه : الاستماع منهم والتسليم لقولهم فعدي باللّام ، كقوله : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) [يوسف : ١٧] وقوله (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) [يونس : ١٣] وقوله : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء : ١١١] وقوله (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) [طه : ٧١].

وقال ابن قتيبة «هما زائدتان ، والمعنى : يصدّق الله ، ويصدّق المؤمنين» وهذا مردود ؛ ويدلّ على عدم الزيادة تغاير الحرف الزّائد ، فلو لم يقصد معنى مستقل ، لما غاير بين الحرفين.

وقال المبرد : هي متعلقة بمصدر مقدّر من الفعل ، كأنّه قال : وإيمانه للمؤمنين وقيل : يقال : آمنت لك ، بمعنى : صدّقتك ، ومنه (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) [يوسف : ١٧]. قال شهاب الدّين (٢) وعندي أنّ هذه اللّام في ضمنها «ما» ، والمعنى : ويصدّق للمؤمنين بما يخبرونه به وقال أبو البقاء (٣) : واللّام في للمؤمنين زائدة ، دخلت لتفرّق بين «يؤمن» بمعنى : يصدّق ، وبين «يؤمن» بمعنى : يثبت الإيمان وقوله : (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) فهذا أيضا يوجب الخير به ؛ لأنّه يجري منكم على الظّاهر ، ولا يبالغ في التفتيش على بواطنكم ، ولا يهتك أستاركم ، فدلّت هذه الأوصاف الثلاثة على وجوب كونه (أُذُنُ خَيْرٍ) وقرأ الجمهور «ورحمة» رفعا نسقا على «أذن» أي : وهو رحمة للذين آمنوا. وقال بعضهم : هو عطف على «يؤمن» ، لأنّ «يؤمن» في محل رفع صفة ل : «أذن» ، تقديره :

__________________

(١) ينظر : السبعة ص (٣١٣) ، الحجة ٤ / ١٩٨ ـ ٢٠٣ ، حجة القراءات ص (٣١٩) ، إعراب القراءات ١ / ٢٥٠ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٩٤.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٧٧ ـ ٤٧٨.

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ٢ / ١٧.

١٣٠

أذن يؤمن ورحمة. وقرأ (١) حمزة والأعمش «ورحمة» بالجر نسقا على «خير» المخفوض بإضافة «أذن» إليه ، والجملة على هذه القراءة معترضة بين المتعاطفين ، تقديره : أذن خير ورحمة. وقرأ ابن أبي (٢) عبلة : «ورحمة» نصبا على أنّه مفعول من أجله ، والمعلل محذوف ، أي : يأذن لكم رحمة بكم ، فحذف لدلالة قوله : (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ).

فإن قيل : كل رحمة خير ، فأي فائدة في ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير؟.

[فالجواب : إنّ أشرف أقسام الخير هو الرحمة ، فجاز ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير](٣) كقوله : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨]. ولمّا بيّن كونه سببا للخير والرحمة ، بيّن أنّ كلّ من آذاه استوجب العذاب الأليم لأنّه يسعى في إيصال الخير والرحمة إليهم وهو يقابلون إحسانه بالإساءة ، وخيره بالشّر ؛ فلذلك استوجبوا العذاب الأليم.

قوله تعالى : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) الآية.

وهذا نوع آخر من قبائح أفعال المنافقين ، وهو إقدامهم على الأيمان الكاذبة ، قال قتادة والسديّ : اجتمع ناس من المنافقين ، فيهم الجلاس بن سويد ، ووديعة بن ثابت فوقعوا في النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : إن كان ما يقول محمد حقّا فنحن شرّ من الحمير ، وكان عندهم غلام من الأنصار ، يقال له : عامر بن قيس ، فحقّروه ، وقالوا هذه المقالة ، فغضب الغلام وقال : والله إنّ ما يقول محمد حق ، وأنتم شرّ من الحمير ثم أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره فدعاهم ، فسألهم ؛ فحلفوا أنّ عامرا كذّاب وحلف عامر أنهم كذبة ، فصدقهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل عامر يدعو ويقول اللهمّ صدق الصّادق وكذب الكاذب ، فأنزل الله هذه الآية (٤). وقال مقاتل والكلبيّ : نزلت في رهط من المنافقين ، تخلّفوا عن غزوة تبوك فلمّا رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتوه يعتذرون ويحلفون ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (٥).

قوله : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ).

إنّما أفرد الضمير ، وإن كان الأصل في العطف ب «الواو» المطابقة ، لوجوه :

أحدها : أنّ رضا الله ورسوله شيء واحد ، (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء:

__________________

(١) ينظر : السبعة ص (٣١٦) ، الحجة للقراء السبعة ٤ / ٢٩٣ ، حجة القراءات ص (٣٢٠) ، إعراب القراءات ١ / ٢٥٠ ، إتحاف ٢ / ٩٤.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٨٥ ، البحر المحيط ٥ / ٦٥ ، الدر المصون ٣ / ٣ / ٤٧٧.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٠٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٥٤) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة.

وذكره (٣ / ٤٥٤) عن السدي وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٠٦ ـ ٣٠٧) والرازي في «التفسير الكبير» (١٦ / ٩٥).

١٣١

٨٠] ، (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] ؛ فلذلك جعل الضميرين ضميرا واحدا ، تنبيها على ذلك.

الثاني : أنّ الضمير عائد على المثنى بلفظ الواحد بتأويل المذكور ؛ كقول رؤبة : [الرجز]

٢٨٠٥ ـ فيها خطوط من سواد وبلق

كأنّه في الجلد توليع البهق (١)

أي : كأن ذلك المذكور ، وقد تقدم بيان هذا في أوائل البقرة.

الثالث : قال المبرد : في الكلام تقديم وتأخير ، تقديره : والله أحقّ أن يرضوه ورسوله وهذا على رأي من يدّعي الحذف من الثاني.

الرابع ـ وهو مذهب سيبويه ـ : أنّه حذف خبر الأوّل ، وأبقى خبر الثّاني ، وهو أحسن من عكسه ، وهو قول المبرّد ؛ لأن فيه عدم الفصل بين المبتدأ أو خبره بالإخبار بالشيء عن الأقرب إليه ؛ وأيضا فهو متعين في قول الشّاعر : [المنسرح]

٢٨٠٦ ـ نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرّأي مختلف (٢)

أي : نحن راضون ، حذف «راضون» ، لدلالة خبر الثاني عليه.

قال ابن عطية (٣) : «مذهب سيبويه أنّهما جملتان ، حذفت الأولى ، لدلالة الثانية عليها».

قال أبو حيان (٤) : «إن كان الضمير في «أنّهما» عائدا على كلّ واحدة من الجملتين ، فكيف يقول «حذفت الأولى» والأولى لم تحذف ، إنما حذف خبرها؟ وإن كان عائدا على الخبر وهو (أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) فلا يكون جملة إلّا باعتقاد أن يكون (أَنْ يُرْضُوهُ) مبتدأ وخبره «أحقّ» مقدما عليه ، ولا يتعيّن هذا القول ؛ إذ يجوز أن يكون الخبر مفردا بأن يكون التقدير : أحقّ بأن ترضوه».

قال شهاب الدّين (٥) : إنما أراد ابن عطية التقدير الأول (٦) ، وهو المشهور عند المعربين يجعلون «أحقّ» خبرا مقدّما ، و (أَنْ يُرْضُوهُ) مبتدأ مؤخرا ، والله ورسوله إرضاؤه أحقّ. وتقد تقدم تحرير هذا في قوله : (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) [التوبة : ١٣]. قوله (إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) شرط جوابه محذوف أو متقدم.

فصل

قال القرطبيّ «تضمّنت هذه الآية قبول يمين الحالف ، وإن لم يلزم المحلوف له

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٥٣.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٦٥.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٧٨.

(٦) في ب الثاني.

١٣٢

الرضا ، واليمين حق للمدّعي ، وأن يكون اليمين بالله عزوجل حسب. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف فليحلف بالله أو ليصمت ، ومن حلف له فليصدّق».

قوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ) الآية.

والمقصود من هذه الآية : شرح أحوال المنافقين الذين تخلّفوا عن غزوة تبوك.

قرأ الجمهور «يعلموا» بياء الغيبة ، ردّا على المنافقين ، وقرأ الحسن ، والأعرج (١) «تعلموا» بتاء الخطاب ، فقيل : هو التفات من الغيبة إلى الخطاب إن كان المراد المنافقين.

وقيل : الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتى بصيغة الجمع تعظيما ؛ كقوله : [الطويل]

٢٨٠٧ ـ فإن شئت حرّمت النّساء سواكم

 ......... (٢)

وقيل : الخطاب للمؤمنين. وبهذه التقادير الثلاثة يختلف معنى الاستفهام ، فعلى الأول يكون الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، كقول الإنسان لمن حاول تعليمه مدة وبالغ في التعليم فلم يتعلم ، يقال له ألم تتعلّم؟ وإنما حسن ذلك ؛ لأنّه طال مكث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم ، وكثر تحذيره من معصية الله ، والترغيب في طاعة الله.

وعلى الثاني يكون للتعجب من حالهم ، وعلى الثالث يكون للتقرير. والعلم هنا : يحتمل أن يكون على بابه ، فتسدّ «أن» مسدّ مفعولين عند سيبويه (٣) ، ومسدّ أحدهما والآخر محذوف عند الأخفش.

وأن يكون بمعنى العرفان ، فتسدّ «أنّ» مسدّ مفعوله. و «من» شرطيّة ، و (فَأَنَّ لَهُ نارَ) جوابها. وفتحت «أنّ» بعد الفاء ، لما تقدّم في الأنعام. والجملة الشرطية في محلّ رفع خبر «أنّ» الأولى وهذا تخريج واضح. وقد عدل عن هذا التخريج جماعة إلى وجوه أخر ، فقال الزمخشريّ «ويجوز أن يكون (فَأَنَّ لَهُ) معطوفا «أنّه» على أنّ جواب «من» محذوف ، تقديره : ألم يعلموا أنّه من يحادد الله ورسوله يهلك ، فأنّ له نار جهنّم» وقال الجرمي والمبرد : «أنّ» الثانية مكررة للتّوكيد ، كأن التقدير : فله نار جهنم ، وكرّرت «أنّ» توكيدا ، وشبّهه أبو البقاء بقوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ) [النحل : ١١٩] ثم قال : (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها ،) قال : والفاء على هذا جواب الشرط. وردّ أبو حيان على الزمخشري قوله : بأنّهم نصّوا على أنّه إذا حذف جواب الشّرط ، لزم أن يكون فعل الشرط ماضيا ، أو مضارعا مقرونا ب «لم» ، والجواب على قوله محذوف وفعل الشّرط مضارع غير مقترن ب «لم» وأيضا فإنّا نجد الكلام تامّا بدون هذا الذي قدّره.

__________________

(١) وفي مصحف أبيّ بن كعب «ألم تعلم» على خطاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو وعيد لهم.

ينظر : الكشاف ٢ / ٢٨٥ ، المحرر الوجيز ٣ / ٥٤ ، البحر المحيط ٥ / ٦٦ ، الدر المصون ٣ / ٤٧٩.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : الكتاب ١ / ٦٤.

١٣٣

ونقل عن سيبويه (١) أنّه قال : الثانية بدل من الأولى. وهذا لا يصحّ عن سيبويه ، فإنّه ضعيف ، أو ممتنع ، وقد ضعفه أبو البقاء بوجهين :

أحدهما : أنّ الفاء تمانع من ذلك والحكم بزيادتها ضعيف.

والثاني : أنّ جعلها بدلا يوجب سقوط جواب «من» من الكلام. وقال ابن عطية «وهذا يعترض بأنّ الشّيء لا يبدل منه حتى يستوفى ، والأولى في هذا الموضع لم يأت خبرها بعد ، إذ لم يأت جواب الشّرط ، وتلك الجملة هي الخبر ، وأيضا فإنّ الفاء تمانع البدل ، فهي معنى آخر غير البدل فيقلق البدل». وقال بعضهم : فتحت على تقدير اللام ، أي : فلأنّ له نار جهنم. وهذه كلّها تكلّفات ، لا يحتاج إليها.

فالأولى ما تقدم ذكره ، وهو أن يكون «أن (لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) في محل رفع بالابتداء والخبر محذوف ، وينبغي أن يقدّره متقدما عليها ، كما فعل الزمخشريّ ، وغيره ، أي : فحقّ أنّ له نار جهنّم. وقدّره غيره متأخرا ، أي : فأنّ له نار جهنّم واجب ، كذا قدّره الأخفش وردّوه عليه بأنّها لا يبتدأ بها.

وهذا لا يلزمه ، فإنّه يجيز الابتداء ب «أنّ» المفتوحة من غير تقديم خبره. وغيره لا يجيز الابتداء بها إلّا بشرط تقدّم «أمّا» ، نحو : أمّا أنك ذاهب فعندي ، أو بشرط تقدّم الخبر ، نحو : عندي أنّك منطلق. وقيل : (فَأَنَّ لَهُ) خبر مبتدأ محذوف أي : فالواجب أنّ له ، وهذه الجملة التي بعد الفاء مع الفاء في محلّ جزم ، جوابا للشّرط. وقرأ (٢) أبو عمرو فيما رواه أبو عبيدة ، والحسن ، وابن أبي عبلة : «فإنّ» بالكسر وهي قراءة حسنة قوية ، تقدّم أنّه قرأ بها بعض السبعة في الأنعام ، وتقدّم هناك توجيهها.

والمحادّة : المخالفة ، والمعاندة ، ومجاوزة الحدّ ، والمعاداة. قيل : مشتقة من الحد وهو حدّ السّلاح الذي يحارب به من الحديد. وقيل : من الحد الذي هو الجهة كأنه في حدّ غير حدّ صاحبه كقولهم : شاقّه ، أي : كان في شقّ غير شقّ صاحبه وعاداه ، أي : كان في عدوة غير عدوته. قال ابن عباس : معناه : يخالف الله (٣) وقيل : يحارب الله ، وقيل : يعاند الله ، وقيل : يعادي الله.

واختار بعضهم قراءة الكسر ، بأنّها لا تحوج إلى إضمار ، ولم يرو قوله : [الوافر]

٢٨٠٨ ـ فمن يك سائلا عنّي فإنّي

وجروة لا تعار ولا تباع (٤)

__________________

(١) ينظر : الكتاب ١ / ٤٦٧.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٥٤ ، البحر المحيط ٥ / ٦٦ ، الدر المصون ٣ / ٤٧٩.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ٩٦).

(٤) نسب البيت لشداد العبسي والد عنترة أو لعنترة وقيل : لعمه ورواية العجز :

وجروة لا ترود ولا تعار

ينظر : ديوان عنترة ص ٣٠٩ والكتاب ١ / ٣٠٢ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢١٦ ، والأغاني ـ

١٣٤

إلّا بالكسر.

وهذا غير لازم ، فإنّه جاء على أحد الجائزين. و «خالدا» نصب على الحال.

قال الزجاج : «ويجوز كسر «أنّ» على الاستئناف بعد الفاء». وجهنم : من أسماء النار وحكى أهل اللغة عن العرب : أنّ البئر البعيدة القعر تسمى الجهنام ، فيجوز أن تكون مأخوذة من هذا اللفظ ، ومعنى بعد قعرها أنّه لا آخر لعذابها ، وتقدم معنى الخلود ، والخزي : قد يكون بمعنى النّدم ، وبمعنى الاستحياء ، والمراد به ههنا : النّدم ، لقوله : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) [يونس : ٥٤].

قوله تعالى : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ) الآية.

قال قتادة «هذه السّورة كانت تسمّى الفاضحة ، والحافرة ، والمبعثرة ، والمثيرة ، أثارت مخازيهم ومثالبهم» (١) قال ابن عباس : «أنزل الله تعالى ذكر سبعين رجلا من المنافقين بأسمائهم ، وأسماء آبائهم ، ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة على المؤمنين ، لئلّا يعيّر بعضهم بعضا ؛ لأن أولادهم كانوا مؤمنين» (٢).

وقال الجبائيّ : اجتمع اثنا عشر رجلا من المنافقين على النّفاق ، وأخبر جبريل الرسول بأسمائهم ، فقال عليه الصلاة والسّلام : «إنّ أناسا اجتمعوا على كيت وكيت ، فليقوموا وليعترفوا وليستغفروا ربّهم حتّى أشفع لهم» فلم يقوموا ، فقال عليه الصلاة والسّلام بعد ذلك «قم يا فلان ويا فلان» حتى أتى عليهم ثم قالوا : نعترف ونستغفر فقال : «الآن أنا كنت في أوّل الأمر أطيب نفسا بالشّفاعة ، والله كان أسرع في الإجابة ، اخرجوا عنّي» فلم يزل يقول حتى خرجوا بالكليّة(٣).

وقال الأصمّ : إنّ عند رجوع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبوك وقف له على العقبة اثنا عشر رجلا ليفتكوا به ؛ فأخبره جبريل ، وكانوا متلثمين في ليلة مظلمة ، وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم ، فأمر حذيفة بذلك فضربها حتى نحاهم ثم قال : «من عرفت من القوم»؟ فقال : لم أعرف منهم أحدا ، فذكر النبيّ عليه الصلاة والسّلام أسماءهم وعدهم له ، وقال : «إنّ جبريل أخبرني بذلك» فقال حذيفة : ألا تبعث إليه فتقتلهم ، فقال : «أكره أن تقول العرب قاتل أصحابه حتّى إذا ظفر صار يقتلهم ، بل يكفيناهم الله بالدبيلة» (٤).

__________________

ـ ١٣٩١٧ ، ولسان العرب (جرا) ، وقد نسب أيضا لزيد الخيل ١٠٤ وينظر : الدر المصون ٣ / ٤٨٠ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣٥٧.

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٠٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٥٥) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٠٧).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٠٧).

(٣) ذكره الرازي في تفسيره (١٦ / ٩٦).

(٤) أخرجه مسلم (٤ / ٢١٤٣ ـ ٢١٤٤) كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (١٠ ، ١١ / ٢٧٧٨) بمعناه.

١٣٥

فإن قيل : الكافر منافق ، فكيف يحذر نزول الوحي على الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ؟ فالجواب ، من وجوه :

أحدها : قال أبو مسلم : «هذا حذر أظهره المنافقون استهزاء حين رأوا الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ يذكر كلّ شيء ويدعي أنّه عن الوحي ، وكان المنافقون يكذبون بذلك فيما بينهم ، فأخبر الله رسوله بذلك ، وأمره أن يعلمهم أنّه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره ، ويدلّ على ذلك قوله : استهزئوا».

وثانيها : أنّ القوم وإن كانوا كافرين بدين الرسول إلّا أنّهم شاهدوا أنّ الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كان يخبرهم بما يفسرونه ، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم.

وثالثها : قال الأصمّ : إنّهم كانوا يعرفون كونه رسولا حقا من عند الله ، إلّا أنّ كفرهم كان حسدا وعنادا.

ورابعها : معنى الحذر الأمر بالحذر ، أي : ليحذر المنافقون ذلك.

وخامسها : أنّهم كانوا شاكين في صحّة نبوته ، والشّاك خائف ، فلهذا خافوا أن ينزل عليه في أمرهم ما يفضحهم.

قوله : (أَنْ تُنَزَّلَ) مفعول به ، ناصبه «يحذر» ، فإنّ «يحذر» متعدّ بنفسه كقوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨] ، لو لا أنه متعدّ في الأصل لواحد ، لما اكتسب بالتضعيف مفعولا ثانيا ؛ ويدلّ عليه أيضا ما أنشده سيبويه : [الكامل]

٢٨٠٩ ـ حذر أمورا لا تضير وآمن

ما ليس منجيه من الأقدار (١)

وفي البيت كلام ، قيل : إنه مصنوع. وقال المبرد : إنّ «حذر» لا يتعدّى ، قال : لأنّه من هيئات النفس ، ك «فزع». وهذا غير لازم ، فإنّ لنا من هيئات النفس ما هو متعدّ ك : «خاف» ، وخشي ، فإنّ «تنزّل» عند المبرد على إسقاط الخافض أي : من أن تنزّل.

وقوله : «تنبّئهم» في موضع الرفع صفة ل «سورة».

قال الزمخشريّ «الضمير في قوله «عليهم» و «تنبّئهم» للمؤمنين ، و (فِي قُلُوبِهِمْ) للمنافقين ، ويجوز أيضا أن تكون الضمائر كلها للمنافقين ؛ لأنّ السّورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم ، ومعنى (تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) أنّ السورة كأنّها تقول لهم في قلوبكم كيت وكيت ، يعني أنّها تذيع أسرارهم إذاعة ظاهرة فكأنّها تخبرهم بها».

ثم قال : (قُلِ اسْتَهْزِؤُا) هذا أمر تهديد ، (إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ).

قوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) الآية.

__________________

(١) تقدم.

١٣٦

قال الكلبي ، ومقاتل ، وقتادة : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يسير في غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة نفر من المنافقين ، اثنان يستهزئان بالقرآن والرسول ، والآخر يضحك (١).

قيل : كانوا يقولون : إنّ محمدا يزعم أنه يغلب الروم ، ويفتح مدائنهم ، هيهات هيهات ما أبعده عن ذلك.

وقيل : كانوا يقولون : إنّ محمدا يزعم أنّه نزل في أصحابنا المقيمين بالمدينة قرآن ، وإنما هو قوله وكلامه ، فأطلع الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك فقال : «احبسوا الرّكب عليّ» فدعاهم وقال لهم : «قلتم كذا وكذا» فقالوا : إنّما كنّا نتحدث ونخوض في الكلام ، كما يفعل الرّكب لقطع الطريق بالحديث واللعب.

قال ابن عمر : رأيت عبد الله بن أبيّ يشتد قدام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والحجارة تنكيه ، وهو يقول : (إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ). ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول (أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ). ولا يلتفت إليه (٢).

وقال أبو مسلم : قوله : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) [التوبة : ٦٤] إنّ القوم أظهروا هذا الخبر استهزاء ، فبيّن تعالى في هذه الآية أنّه إذا قيل لهم : لم فعلتم ذلك؟ قالوا : لم نقل ذلك إلّا لأجل أنا كنا نخوض ونعلب.

فصل في بيان أصل الخوض

قال الواحديّ : أصل الخوض الدخول في مائع مثل الماء والطين ، ثم كثر حتى صار اسما لكل دخول فيه تلويث وأذى ، والمعنى : إنّما كنّا نخوض في الباطل من الكلام كما يخوض الركب لقطع الطريق ، فأجابهم الرسول بقوله : (أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ).

قوله : «.. أبالله ..» متعلق بقوله : «تستهزئون». و «تستهزئون» خبر «كان» وفيه دليل على تقديم خبر «كان» عليها ؛ لأنّ تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل ، وقد تقدّم معمول الخبر على «كان» فليجز تقديمه بطريق الأولى. وفيه بحث ، وذلك أنّ ابن مالك قدح في هذا الدّليل ، بقوله تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) [الضحى : ٩ ، ١٠] قال : ف «اليتيم» ، والسائل قد تقدما على «لا» الناهية ، والعامل فيهما ما بعدهما ولا

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٥٦) عن الكلبي وعزاه إلى عبد الرزاق وابن المنذر وأبي الشيخ.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٠٨).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٠٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٥٥ ـ ٤٥٦) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٠٨) عن عمر.

١٣٧

يجوز تقديم ما بعد «لا» الناهية عليها ، لكونه مجزوما بها ، فقد تقدّم المعمول ، حيث لا يتقدّم للعامل ذكر ، ذكر ذلك عند استدلالهم على جواز تقديم خبر «ليس» بقوله (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) [هود : ٨].

فصل

فرق بين قولك : أتستهزىء بالله ، وبين قولك : أبالله تستهزىء ، فالأوّل يقتضي الإنكار على عمل الاستهزاء ، والثاني يقتضي الإنكار على إيقاع الاستهزاء في الله ، كأنه يقول : هب أنك تقدم على الاستهزاء إلا أنه كيف أقدمت على إيقاع الاستهزاء في الله كقوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ) [الصافات : ٤٧] والمقصود : ليس نفي الغول ، بل نفي أن يكون خمر الجنّة محلّا للغول. ومعنى الاستهزاء بالله : هو الاستهزاء بتكاليف الله ، والاستهزاء بذكر الله ، فإنّ أسماء الله قد يستهزىء بها الكافر ، كما أنّ المؤمن يعظمها. والمراد بالاستهزاء ب «آياته» هو القرآن ، وسائر ما يدلّ على الدين ، والرسول معلوم.

قوله : (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ).

نقل الواحديّ عن أهل اللغة في لفظ الاعتذار قولين ، الأول : أنّه عبارة عن محو أثر الذنب ، وأصله من : تعذرت المنازل ، أي : درست ، وامّحت آثارها ؛ قال ابن أحمر : [البسيط]

٢٨١٠ ـ قد كنت تعرف آيات فقد جعلت

أطلال إلفك بالوعساء تعتذر (١)

فالمعتذر يزاول محو ذنبه.

والثاني : قال ابن الأعرابي : أصله من العذر ، وهو القطع ، ومنه العذرة ؛ لأنّها تقطع بالافتراغ.

ويقولون : اعتذرت المياه ، أي : انقطعت ، فكأنّ المعتذر يحاول قطع الذّم عنه.

قوله : (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) يدلّ على أنّ الاستهزاء بالدّين كيف كان كفرا ؛ لأنه استخفاف بالدين ، والعمدة في الإيمان تعظيم الله تعالى ، ويدل على أنّ القول الذي صدر منهم كان كفرا في الحقيقة.

فإن قيل : كيف قال (كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) وهم لم يكونوا مؤمنين؟

فالجواب : قال الحسن : أظهرتم الكفر بعد ما أظهرتم الإيمان (٢).

فصل

قال ابن العربي : «لا يخلو ما قالوا من أن يكون جدا ، أو هزلا ، وهو كيفما كان

__________________

(١) ينظر : شرح المفضليات ١ / ٤٠٨ ، واللسان (عذر) ، والتهذيب ٢ / ٣١١ (عذر) والقرطبي ٨ / ١٩٨ ، والبحر المحيط ٥ / ٦٣ ، والعمدة لابن رشيق ٢ / ١٨٠ ، والدر المصون ٣ / ٤٨٠.

(٢) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١٦ / ٩٩) عن الحسن.

١٣٨

كفرا فإنّ القول بالكفر كفر بلا خلاف بين الأئمة ، قال تعالى : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [البقرة : ٦٧].

فصل

اختلفوا في الهزل في سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق ، قيل : يلزم وقيل : لا يلزم ، وقيل : يفرق بين البيع وغيره. فيلزم في النكاح والطلاق ، ولا يلزم في البيع وحكى ابن المنذر الإجماع في أن جدّ الطلاق وهزله سواء. وروى أبو داود والترمذي والدار قطني عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث جدّهنّ جد وهزلهنّ جدّ ، النّكاح والطلاق والرّجعة» (١). قال الترمذيّ «حديث حسن ، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيرهم».

قال القرطبي : «وفي الموطأ عن سعيد بن المسيّب قال ثلاث ليس فيهن لعب النكاح والطلاق والعتق» (٢).

قوله : «.. إن نعف» قرأ عاصم (٣) «نعف» بنون العظمة ، «نعذّب» كذلك ، «طائفة» نصبا على المفعول به ، وهي قراءة أبي عبد (٤) الرحمن السّلمي ، وزيد بن علي. وقرأ الباقون «يعف» في الموضعين بالياء من تحت مبنيا للمفعول ، ورفع «طائفة» ، على قيامها مقام الفاعل والقائم مقام الفاعل في الفعل الأوّل الجارّ بعده. وقرأ الجحدريّ (٥) «إن يعف» بالياء من تحت فيهما ، مبنيا للفاعل ، وهو ضمير الله تعالى ، ونصب «طائفة» على المفعول به. وقرأ (٦) مجاهد «تعف» بالتاء من فوق فيهما ، مبنيا للمفعول ، ورفع «طائفة» ، لقيامها مقام الفاعل. وفي القائم مقام الفاعل في الفعل الأوّل وجهان :

أحدهما : أنّه ضمير الذنوب ، أي : إن تعف هذه الذنوب.

والثاني : أنّه الجارّ ، وإنّما أنّث الفعل حملا على المعنى.

قال الزمخشريّ «الوجه التذكير ؛ لأنّ المسند إليه الظرف ، كما تقول : سير بالدّابة ، ولا تقول : سيرت بالدّابة ، ولكنه ذهب إلى المعنى ، كأنه قيل : إن ترحم طائفة فأنّث لذلك ، وهو غريب».

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : السبعة ص (٣١٦) ، الحجة ٤ / ٢٠٥ ، حجة القراءات ص (٣٢٠) ، إعراب القراءات ١ / ٢٥١ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٩٥.

(٤) ينظر : السابق.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٨٧ ، المحرر الوجيز ٣ / ٥٥ ، البحر المحيط ٥ / ٦٨ ، الدر المصون ٣ / ٤٨١.

(٦) ينظر : السابق.

١٣٩

فصل

قال مجاهد ، وابن إسحاق : الذي عفي عنه رجل واحد ، وهو مخاشن بن حمير الأشجعي ، يقال هو الذي كان يضحك ولا يخوض ، وكان يمشي مجانبا لهم ، وينكر بعض ما يسمع فلمّا نزلت هذه الآية تاب من نفاقه ، وقال : اللهمّ إني لا أزال أسمع آية تقرعني بها تقشعر الجلود ، وتجب منها القلوب ، اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك ، لا يقول أحد : أنا غسلت ، أنا كفنت ، أنا دفنت ، فأصيب يوم اليمامة ولم يعرف أحد من المسلمين مصرعه (١).

فصل

ثبت بالروايات أنّ الطائفتين كانوا ثلاثة ؛ فوجب أن تكون إحدى الطّائفتين إنسانا واحدا. قال الزجاج : والطّائفة في اللغة أصلها الجماعة ؛ لأنّها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة ، قال تعالى (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور : ٢]. وأقله الواحد ، وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس أنه قال : الطائفة الواحد فما فوقه ، وقال تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما)(٢) [الحجر : ٩].

قال ابن الأنباري : العرب توقع لفظ الجمع على الواحد ، فتقول : خرج فلان إلى مكّة على الجمال ، وقال تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) [آل عمران : ١٧٣] يعني : نعيم بن مسعود ، ثم إنه تعالى علّل تعذيبه لهم : (بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ).

قوله تعالى : الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٧١)

قوله تعالى : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) الآية.

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٠٨).

(٢) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١٦ / ١٠٠).

١٤٠