اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

ولو قلت : «وأنا قائم» حالا من ضمير «ليفعلنّ» لم يجز ، وكذا عكسه ، نحو : حلف زيد لأفعلنّ يقوم ، تريد : قائما ، لم يجز.

وأمّا قوله : «وجاء به على لفظ الغائب ؛ لأنه مخبر عنهم» فمغالطة ، ليس مخبرا عنهم بقوله : (لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا) ، بل هو حاك لفظ قولهم. ثمّ قال : ألا ترى لو قيل : لو استطاعوا لخرجوا ، لكان سديدا ... إلى آخره. كلام صحيح ، لكنه ـ تعالى ـ لم يقل ذلك إخبارا عنهم ، بل حكاية ، والحال من جملة كلامهم المحكيّ ، فلا يجوز أن يخالف بين ذي الحال وحاله ، لاشتراكهما في العامل ، لو قلت : قال زيد : خرجت يضرب خالدا ، تريد : أضرب خالدا ، لم يجز. ولو قلت : قالت هند : خرج زيد أضرب خالدا ، تريد : خرج زيد ضاربا خالدا ، لم يجز ، انتهى.

الرابع : أنّها جملة استئنافية ، أخبر الله عنهم بذلك.

فصل

معنى الآية : أنّه لو كانت المنافع قريبة ، والسّفر قريبا لاتبعوك طمعا منهم في الفوز بتلك المنافع ، ولكن طال السفر ، وكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة ، بسبب استعظامهم غزو الرّوم ، فلهذا تخلّفوا ، ثمّ أخبر تعالى أنه إذا رجع من الجهاد يجدهم : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) إمّا عند ما يعاتبهم بسبب التخلف ، وإمّا ابتداء على طريقة إقامة العذر في التخلف ، ثم بيّن أنّهم يهلكون أنفسهم بسبب الكذب والنّفاق ، وهذا يدلّ على أن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك ، ولهذا قال عليه الصّلاة والسّلام «اليمين الغموس تدع الدّيار بلاقع» (١). ثم قال : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في قولهم ما كنا نستطيع الخروج فإنهم كانوا مستطيعين الخروج ، فكانوا كاذبين في أيمانهم.

فصل

قالوا : الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أخبر عنهم أنّهم سيحلفون ، وهذا إخبار عن غيب يقع في المستقبل ، والأمر لمّا وقع كما أخبر كان إخبارا عن الغيب ، فكان معجزا.

قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) الآية.

لمّا بيّن تعالى بقوله : (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ) أنه تخلف قوم عن ذلك الغزو ، وليس فيه بيان أنّ ذلك التخلف كان بإذن الرسول أم لا؟ فلمّا قال بعده : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) دلّ هذا ، على أنّ فيهم من تخلّف بإذنه.

قوله : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) «لم» ، و «لهم» كلاهما متعلق ب «أذنت» ، وجاز ذلك ؛ لأنّ معنى اللّامين مختلف ؛ فالأولى للتعليل ، والثانية للتبليغ. وحذفت ألف «ما» الاستفهامية

__________________

(١) أخرجه البيهقي (١٠ / ٣٥).

١٠١

لانجرارها ، وتقديم الجارّ للأول واجب ؛ لأنّه جرّ ما له صدر الكلام ، ومتعلّق الإذن محذوف ، يجوز أن يكون القعود ، أي : لم أذنت لهم في القعود ، ويدل عليه السّياق من اعتذارهم عن تخلّفهم عنه عليه‌السلام. ويجوز أن يكون الخروج ، أي : لم أذنت لهم في الخروج ، لأنّ خروجهم فيه مفسدة من التخذيل ، وغيره ، يدلّ عليه : «لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلّا خبالا».

قوله : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) يجوز في «حتى» أن تكون للغاية ، ويجوز أن تكون للتعليل ، وعلى كلا التقديرين فهي جارّة ، إمّا بمعنى «إلى» ، وإمّا بمعنى اللام ، و «أن» مضمرة بعدها ، ناصبة للفعل ، وهي متعلقة بمحذوف.

قال أبو البقاء : «تقديره : هلّا أخّرتهم إلى أن يتبيّن ، أو ليتبيّن ، وقوله : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) يدلّ على المحذوف ، ولا يجوز أن تتعلّق «حتّى» ب «أذنت» لأنّ ذلك يوجب أن يكون أذن لهم إلى هذه الغاية ، أو لأجل التّبيين ، وذلك لا يعاتب عليه» وقال الحوفيّ : «حتى غاية لما تضمّنه الاستفهام ، أي : ما كان له أن يأذن لهم ، حتى يتبيّن له العذر». وفي هذه العبارة بعض غضاضة.

فصل

احتجّوا بهذه الآية على أنّ الرسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ؛ كان يحكم بمقتضى الاجتهاد في بعض الوقائع ، ولدخوله عليه الصلاة والسّلام تحت قوله تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر : ٢] والرسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ كان سيدا لهم ، ثمّ أكّدوا ذلك بهذه الآية فقالوا : إمّا أن يقال : إنه تعالى أذن له في ذلك الإذن ، أو منعه عنه ، أو ما أذن له فيه وما منعه عنه والأول باطل ، وإلّا امتنع أن يقول له : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) ، والثاني باطل ؛ لأنه يلزم منه أن يقال : إنّه حكم بغير ما أنزل الله ، فيدخل تحت قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [المائدة : ٤٤ ـ ٤٧] الآيات. وذلك باطل بصريح القول.

فلم يبق إلّا أنّه عليه الصلاة والسّلام أذن في تلك الواقعة من تلقاء نفسه ، فإمّا أن يكون ذلك عن اجتهاد ، أو لا ، والثاني باطل ؛ لأنه حكم بمجرد التشهي وهو باطل كقوله تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) [مريم : ٥٩] فلم يبق إلّا أنه عليه الصّلاة والسّلام أذن في تلك الواقعة بالاجتهاد.

فإن قيل : الآية تدلّ على أنّه لا يجوز له الاجتهاد ؛ لأنه تعالى منعه بقوله : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)؟ فالجواب : أنه تعالى ما منعه من الإذن مطلقا ، لقوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) [التوبة : ٤٣] والحكم الممدود إلى غاية ب «حتّى» يجب انتهاؤه عند حصول الغاية فدلّ على صحة قولنا.

فإن قالوا : لم لا يجوز أن يكون المراد من ذلك التّبيين هو التّبيين بطريق الوحي؟.

١٠٢

فالجواب : ما ذكرتموه محتمل ؛ إلّا أنه على تقديركم ، يصير تكليفه ، أن لا يحكم ألبتة ، حتى ينزل الوحي ، فلمّا ترك ذلك ، كان كبيرة ، وعلى تقديرنا يكون ذلك الخطأ خطأ في الاجتهاد فيؤجر عليه ، لقوله : «ومن اجتهد فأخطأ فله أجر» فكان حمل الكلام عليه أولى.

فصل

دلّت هذه الآية على وجوب التثبت ، وعدم العجلة ، والتّأنّي ، وترك الاغترار بظواهر الأمور ، والمبالغة في التفحص ، حتّى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه.

فصل

قال قتادة : عاتبه الله كما تسمعون في هذه الآية ، ثمّ رخّص له في سورة النّور فقال : (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ)(١) [النور : ٦٢].

فصل

قال أبو مسلم الأصفهاني في قوله (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) : ليس فيه ما يدل على أنّ الإذن في ماذا؟ فيحتمل أن بعضهم استأذن في القعود ؛ فأذن له ، ويحتمل أن بعضهم استأذن في الخروج ؛ فأذن له ، مع أنّ ما كان خروجهم معه صوابا ، لكونهم عيونا للمنافقين على المسلمين ، وكانوا يثيرون الفتن ، فلهذا ما كان خروجهم مع الرّسول مصلحة ، قال القاضي «هذا بعيد ؛ لأن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك على وجه الذّم للمتخلفين ، والمدح للمبادرين وأيضا ما بعد هذه الآية يدل على ذم القاعدين وبيان حالهم».

قوله تعالى : (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) (٤٨)

قوله تعالى : (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية.

أي : لا يستأذنوك في التخلف (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ).

قوله : (أَنْ يُجاهِدُوا) فيه وجهان :

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٨١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٤٢) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبي الشيخ.

١٠٣

أظهرهما : أنّه متعلق «الاستئذان» ، أي : لا يستأذنوك في الجهاد ، بل يمضون فيه غير مترددين.

والثاني : أن متعلق «الاستئذان» محذوف و (أَنْ يُجاهِدُوا) مفعول من أجله ، تقديره : لا يستأذنك المؤمنون في الخروج والقعود كراهة أن يجاهدوا ، بل إذا أمرتهم بشيء بادروا إليه. وقال بعضهم : لا بدّ في الكلام من إضمار آخر ؛ لأنّ ترك استئذان الإمام في الجهاد غير جائز ، فلا بدّ من إضمار ، والتقدير : لا يستأذنك هؤلاء في أن لا يجاهدوا ، إلّا أنّه حذف حرف النفي كقوله : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦] ويدلّ على هذا المحذوف أنّ ما قبل الآية ، وما بعدها يدل على أن هذا الذم إنّما كان على الاستئذان في القعود.

قوله تعالى (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) الآية.

بيّن أنّ هذا الاستئذان لا يصدر إلّا عند عدم الإيمان بالله واليوم الآخر ، ولمّا كان عدم الإيمان قد يكون بسبب الشّك فيه ، وقد يكون بسبب القطع والجزم بعدمه ، بيّن تعالى أنّ عدم إيمان هؤلاء ، إنّما كان بسبب الشك والريب ، فدلّ على أنّ الشّاك المرتاب غير مؤمن بالله وقد تقدّم الكلام على هذه المسألة في سورة الأنفال عند قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) ثم قال : (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) أي : متحيرين.

قوله : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً).

قرأ العامة «عدّة» بضمّ العين وتاء التأنيث ، وهي الزّاد والراحلة ، وجميع ما يحتاج إليه المسافر.

وقرأ محمد بن عبد الملك (١) بن مروان ، وابنه معاوية «عدّة» كذلك ، إلّا أنّه جعل مكان تاء التأنيث هاء ضمير غائب ، يعود على «الخروج». واختلف في تخريجها ، فقيل : أصلها كقراءة الجمهور بتاء التأنيث ، ولكنهم يحذفونها للإضافة ، كالتّنوين ، وجعل الفراء من ذلك قوله تعالى : (وَإِقامَ الصَّلاةِ) [الأنبياء : ٧٣].

ومنه قول زهير : [البسيط]

٢٧٨٥ ـ إنّ الخليط أجدّوا البين فانجردوا

وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا (٢)

يريد : عدة الأمر.

وقال صاحب اللّوامح «لمّا أضاف جعل الكناية نائبة عن التاء ، فأسقطها ، وذلك لأن العدّ بغير تاء ، ولا تقديرها ، هو : البثر الذي يخرج في الوجه». وقال أبو حاتم : «هو جمع «عدّة» ، ك : «برّ» جمع «برّة» ، و «درّ» جمع «درّة» والوجه فيه «عدد» ولكن لا

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٧٥ ، المحرر الوجيز ٣ / ٤٠ ، البحر المحيط ٥ / ٤٩ ، الدر المصون ٣ / ٤٦٩.

(٢) تقدم.

١٠٤

يوافق خطّ المصحف». وقرأ زر (١) بن حبيش ، وعاصم في رواية أبان «عدّة» بكسر العين ، مضافة إلى هاء الكناية.

قال ابن عطيّة : هو عندي اسم لما يمدّ ، ك «الذّبح» ، و «القتل».

وقرىء أيضا (٢) «عدّة» بكسر العين ، وتاء التأنيث ، والمراد : عدة من الزّاد ، والسلاح ، مشتقا من «العدد».

قوله : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ). الاستدراك هنا يحتاج إلى تأمّل ، فلذلك قال الزمخشريّ: فإن قلت : كيف موقع حرف الاستدراك؟ قلت : لمّا كان قوله : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) معطيا معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو. قيل : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) كأنه قيل : ما خرجوا ، ولكن تثبّطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم ، ك «ما أحسن زيد إليّ ولكن أساء إليّ». انتهى. يعني أنّ ظاهر الآية يقتضي أنّ ما بعد «لكن» موافق لما قبلها ، وقد تقرّر فيها أنّها لا تقع إلّا بين ضدين ، أو نقيضين ، أو خلافين ، على خلاف في هذا الأخير ، فلذلك احتاج إلى الجواب المذكور.

قال أبو حيان (٣) «وليست الآية نظير هذا المثال ـ يعني : ما أحسن زيد إليّ ، ولكن أساء ـ ، لأنّ المثال واقع فيه «لكن» بين ضدّين ، والآية واقع فيها «لكن» بين متفقين من جهة المعنى».

قال شهاب الدّين (٤) «مرادهم بالنقيضين : النفي والإثبات لفظا ، وإن كانا يتلاقيان في المعنى ولا يعدّ ذلك اتفاقا».

والانبعاث : الانطلاق ، يقال : بعثت البعير فانبعث ، وبعثته لكذا فانبعث ، أي : نفذ فيه والتّثبيط : التّعويق ، يقال : ثبّطت زيدا ، أي : عقته عمّا يريده ، من قولهم : ناقة ثبطة أي : بطيئة السير ، والمراد بقوله : «اقعدوا» : التّخلية ، وهو كناية عن تباطئهم ، وأنّهم تشبهوا بالنساء ، والصبيان ، والزّمنى ، وذوي الأعذار ، وليس المراد قعودا ؛ كقوله : [البسيط]

٢٧٨٦ ـ دع المكارم لا تقصد لبغيتها

واقعد فإنّك أنت الطّاعم الكاسي (٥)

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٧٥ ، المحرر الوجيز ٣ / ٤٠ ، البحر المحيط ٥ / ٤٩ ، الدر المصون ٣ / ٤٦٩.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٩ ، الدر المصون ٣ / ٤٦٩.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٥٠.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٦٩.

(٥) البيت للحطيئة في ديوانه ص ٥٤ ؛ والأزهيّة ص ١٧٥ ؛ والأغاني ٢ / ١٥٥ ؛ وخزانة الأدب ٦ / ٢٩٩ ؛ وشرح شواهد الشافية ص ١٢٠ ؛ وشرح شواهد المغني ٢ / ٩١٦ ؛ وشرح المفصّل ٦ / ١٥ ؛ والشعر والشعراء ص ٣٣٤ ؛ ولسان العرب ١٠ / ١٠٨ (ذرق) ، ١٢ / ٣٦٤ (طعم) ، ١٥ / ٢٢٤ (كسا) ؛ وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ٤١٨ ؛ وخزانة الأدب ٥ / ١١٥ ؛ وشرح الأشموني ٣ / ٧٤٤ ؛ وشرح شافية ابن الحاجب ٢ / ٨٨ ، والبحر المحيط ٥ / ٥٠ ، والدر المصون ٣ / ٤٦٩.

١٠٥

والمعنى : أنّه تعالى كره خروجهم مع الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، فصرفهم عنه.

فإن قيل : خروجهم مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إمّا أن يقال إنّه كان مفسدة ، وإمّا أن يقال إنه مصلحة ، فإن كان مفسدة ، فلم عاتب الرسول في إذنه لهم بالقعود؟ وإن كان مصلحة فلم قال تعالى : إنه كره انبعاثهم وخروجهم؟

والجواب : أنّ خروجهم مع الرّسول ما كان مصلحة ؛ لأنّه تعالى صرّح بعد هذه الآية بذكر المفاسد بقوله : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) ، بقي أن يقال : فلمّا كان الأصلح أن لا يخرجوا ، فلم عاتب الرسول في الإذن؟ فنقول : قد حكينا عن أبي مسلم أنه قال : ليس في قوله : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) أنه عليه الصلاة والسّلام ، قد أذن لهم بالقعود ، بل يحتمل أن يقال : إنهم استأذنوه في الخروج معه ، فأذن لهم ، وعلى هذا يسقط السؤال.

قال أبو مسلم «ويدلّ على صحّة ما قلنا أنّ هذه الآية دلّت على أنّ خروجهم معه كان مفسدة ؛ فوجب حمل ذلك العتاب على أنه عليه الصلاة والسّلام أذن لهم في الخروج معه» ويؤكد ذلك قوله تعالى : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) [التوبة : ٨٣] وقوله تعالى : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) [الفتح : ١٥] فاندفع السّؤال على طريق أبي مسلم.

والجواب على طريقة غيره ، وهو أن نسلم أنّ العتاب في قوله : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) يوجب أنّه عليه الصلاة والسّلام أذن لهم في القعود ، فنقول : ذلك العتاب ما كان لأجل أن ذلك القعود كان مفسدة ، بل لأجل أنّ إذنه عليه الصّلاة والسّلام بذلك القعود مفسدة ، وبيانه من وجوه :

الأول : أنّه عليه الصّلاة والسّلام أذن قبل إتمام التفحص وإكمال التأمل ، ولهذا قال تعالى (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) [التوبة : ٤٣].

والثاني : أن التقدير أنه عليه الصلاة والسّلام ما كان يأذن لهم في القعود ، فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم وكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم ، وإذا ظهر نفاقهم احترز المسلمون منهم ، ولم يغترّوا بقولهم ، فلمّا أذن الرّسول في ذلك القعود بقي نفاقهم مخفيا ، وفاتت تلك المصالح.

والثالث : أنّهم لمّا استأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غضب عليهم وقال : (اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) ثم إنّهم اغتنموا هذه اللفظة وقالوا : قد أذن لنا ، فقال تعالى : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) أي : لم ذكرت عندهم هذا اللفظ الذي أمكنهم أن يتوسلوا به إلى غرضهم.

الرابع : أن الذين يقولون إن الاجتهاد غير جائز على الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام ، قالوا : إنه إنّما أذن بمجرد الاجتهاد وذلك غير جائز ؛ لأنهم لمّا تمكنوا من الوحي ، وكان

١٠٦

الإقدام على الاجتهاد مع التّمكن من الوحي جاريا مجرى الإقدام على الاجتهاد مع حضور النّص ، فلمّا كان هذا غير جائز فكذا ذاك.

ثم قال تعالى : (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ). واختلفوا في تأويل هذا القول ، فقيل : هو الشيطان على طريق الوسوسة ، وقيل : قاله بعضهم لبعض. وقيل : قاله الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، لمّا أذن لهم في التخلف ، فعاتبه الله. وقيل : القائل هو الله تعالى ؛ لأنه كره خروجهم ؛ لأجل الإفساد ، فأمرهم بالقعود عن هذا الخروج المخصوص. ثمّ بيّن ذلك بقوله (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) أي : في جيشكم ، وفي جمعكم. وقيل : «في» بمعنى «مع» أي : معكم.

قوله : (إِلَّا خَبالاً) جوّزوا فيه أن يكون استثناء متصلا ، وهو مفرّغ ؛ لأنّ زاد يتعدى لاثنين.

قال الزمخشري (١) المستثنى منه غير مذكور ، فالاستثناء من أعمّ العام ، الذي هو الشيء فكان استثناء متصلا ، فإنّ «الخبال» بعض أعمّ العام ، كأنه قيل : «ما زادوكم شيئا إلا خبالا» وجوّزوا فيه أن يكون منقطعا ، والمعنى : ما زادوكم قوة ولا شدة ، ولكن خبالا. وهذا يجيء على قول من قال : إنّه لم يكن في عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبال ، كذا قال أبو حيان (٢). وفيه نظر ؛ لأنه إذا لم يكن في العسكر خبال أصلا ، فكيف يستثنى شيء لم يكن ولم يتوهّم وجوده؟. وتقدم تفسير «الخبال» في آل عمران. قال الكلبيّ : إلّا شرا وقال يمان : إلّا مكرا ، وقيل : إلّا غيّا ، وقال الضحاك : إلّا غدرا.

وقرأ ابن أبي (٣) عبلة : «ما زادكم إلا خبالا» ، أي : ما زادكم خروجهم.

قوله : (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ). الإيضاع : الإسراع ، يقال : أوضع البعير ، أي : أسرع في سيره ؛ قال امرؤ القيس : [الوافر]

٢٧٨٧ ـ أرانا موضعين لأمر غيب

ونسحر بالطّعام وبالشّراب

(٤) وقال آخر : [منهوك الرجز]

٢٧٨٨ ـ يا ليتني فيها جذع

أخبّ فيها وأضع (٥)

ومفعول : «أوضعوا» محذوف ، أي : أوضعوا ركائبهم ؛ لأنّ الراكب أسرع من الماشي.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٧٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٥٠.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٤١ ، البحر المحيط ٥ / ٥٠ ، الدر المصون ٣ / ٤٧٠.

(٤) تقدم.

(٥) البيت لدريد بن الصمة في ديوانه (٩٣) وينظر : المحتسب ١ / ٢٩٣ اللسان ٦ / ٤٨٥٩ [وضع] الطبري ١٤ / ٢٧٨ القرطبي ٨ / ١٥٧ البحر المحيط ٥ / ٥١ الدر المصون ٣ / ٤٧٠ الصحاح [جذع].

١٠٧

قال الواحديّ «قال أكثر أهل اللّغة : إن الإيضاع حمل البعير على العدو ، ولا يجوز أن يقال : أوضع الرّجل إذا سار بنفسه سيرا حثيثا. يقال : وضع البعير : إذا عدا ، وأوضعه الراكب : إذا حمله عليه».

وقال الفرّاء : «العرب تقول : وضعت النّاقة ، وأوضع الراكب ، وربّما قالوا للرّاكب : وضع».

وقال الأخفش وأبو عبيد : يجوز أن يقال : أوضع الرّجل : إذا سار بنفسه سيرا حثيثا من غير أن يراد وضع ناقته. روى أبو عبيد أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أفاض من عرفة وعليه السّكينة وأوضع في وادي محسّر» (١). قال الواحديّ «والآية تشهد لقول الأخفش وأبي عبيد» والمراد من الآية : السّعي بينهم بالعداوة والنميمة.

و «الخلال» جمع «خلل» ، وهو الفرجة بين الشيئين. ومنه قوله : (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) [النور : ٤٣] ، وقرىء (٢) «من خلاله» وهي مخارج صب القطر. ويستعار في المعاني فيقال : في هذا الأمر خلل.

وقرأ مجاهد (٣) ، ومحمد بن زيد «ولأوفضوا» ، وهو الإسراع أيضا ؛ من قوله تعالى : (إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ).

وقرأ ابن الزبير (٤) «ولأرفضوا» بالفراء والفاء والضاد المعجمة ، من : رفض ، أي : أسرع أيضا ؛ قال حسّان : [الكامل]

٢٧٨٩ ـ بزجاجة رفضت بما في جوفها

رفض القلوص براكب مستعجل (٥)

وقال : [الكامل]

٢٧٩٠ ـ .........

والرّافضات إلى منى فالغبغب (٦)

يقال : رفض في مشيه رفضا ، ورفضانا.

__________________

(١) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١٦ / ٦٥).

(٢) ستأتي في سورة النور الآية (٤٣).

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٧٧ ، المحرر الوجيز ٣ / ٤١ ، البحر المحيط ٥ / ٥١ ، الدر المصون ٣ / ٤٧٠.

(٤) ينظر : السابق.

(٥) البيت في ديوانه (١٢٤) وروايته فيه «رقصت بما في مقرّها» وينظر : المحتسب ١ / ٢٩٣ التهذيب واللسان [رقص] المحرر الوجيز ٣ / ٤٩٩ البحر المحيط ٥ / ٥١.

(٦) عجز بيت لنهيك الفزاري وصدره :

يا عام لو قدرت عليك رماحنا

ينظر : الكشاف ٢ / ٢١٧ اللسان ٥ / ٣٢٠٤ غبب معجم مقاييس اللغة ٢ / ٦٠ حسب البحر المحيط ٥ / ٥١ ، الدر المصون ٣ / ٤٧٠.

١٠٨

فإن قيل : كتب في المصح ف «ولا أوضعوا» بزيادة ألف. أجاب الزمخشريّ «أنّ الفتحة كانت تكتب ألفا قبل الخطّ العربي ، والخطّ العربي اخترع قريبا من نزول القرآن ، وقد بقى من ذلك الألف أثر في الطباع ، فكتبوا صورة الهمزة ألفا ، وفتحتها ألفا أخرى ، ونحوه (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) [النمل : ٢١]. يعني : في زيادة الألف بعد «لا» وهذا لا يجوز القراءة به ومن قرأ به متعمدا يكفّر».

قوله : «يبغونكم» في محلّ نصب على الحال ، من فاعل «أوضعوا» أي : لأسرعوا فيما بينكم ، حال كونهم باغين ، أي : طالبين الفتنة لكم ، ومعنى الفتنة : افتراق الكلمة.

قوله : (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) هذه الجملة يجوز أن تكون حالا من مفعول «يبغونكم» أو من فاعله ، وجاز ذلك ؛ لأنّ في الجملة ضميريهما. ويجوز أن تكون مستأنفة ، والمعنى : أنّ فيكم من يسمع لهم ، ويصغي لقولهم.

فإن قيل : كيف يجوز ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم؟.

فالجواب : لا يمتنع لمن قرب عهده بالإسلام أن يؤثر قول المنافقين فيهم ، أو يكون بعضهم مجبولا على الجبن والفشل ؛ فيؤثر قولهم فيهم ، أو يكون بعض المسلمين من أقارب رؤساء المنافقين فينظرون إليهم بعين الإجلال والتّعظيم ؛ فلهذا الأسباب يؤثر قول المنافقين فيهم ويجوز أن يكون المراد : وفيكم جواسيس منهم ، يسمعون لهم الأخبار منكم ، فاللّام على الأوّل للتقوية لكون العامل فرعا ، وفي الثاني للتعليل ، أي : لأجلهم. ثم قال تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم ونفاقهم ، وظلموا غيرهم بسبب أنهم سعوا في إلقاء غيرهم في وجوه الآفات.

فصل

(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ). أي : طلبوا صد أصحابك عن الدّين وردهم إلى الكفر ، وتخذيل النّاس عنك قبل هذا اليوم ، كفعل عبد الله بن أبيّ يوم أحد حين انصرف عنك بأصحابه. وقال ابن جريج : هو أنّ اثني عشر رجلا من المنافقين ، وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ، ليفتكوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

قوله : (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ). قرأ مسلمة (٢) بن محارب «وقلبوا» مخففا. والمراد بتقليب الأمر : تصريفه وترديده ، لأجل التدبر والتأمل فيه ، أي : اجتهدوا في الحيلة والكيد لك يقال للرجل المتصرف في وجوه الحيل : فلان حوّل قلب ، أي : يتقلب في وجوه الحيل.

ثم قال تعالى : (حَتَّى جاءَ الْحَقُ) أي : النصر والظفر.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ٦٧).

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٧٧ ، المحرر الوجيز ٣ / ٤١ ، البحر المحيط ٥ / ٥٢ ، الدر المصون ٣ / ٤٧٠.

١٠٩

وقيل : القرآن. (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) دين الله. (وَهُمْ كارِهُونَ) حال ، والرّابط الواو ؛ أي : كارهون لمجيء الحق ولظهور أمر الله.

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ)(٥٣)

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) الآية.

(مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) كقوله : «يا صالح ائتنا» من أنه يجوز تحقيق الهمزة ، وإبدالها واوا ، لضمة ما قبلها ، وإن كانت منفصلة من كلمة أخرى. وهذه الهمزة هي فاء الكلمة ، وقد كان قبلها همزة وصل سقطت درجا.

قال أبو جعفر «إذا دخلت «الواو» و «الفاء» على «ائذن» فهجاؤها : ألف وذال ونون ، بغير ياء. أو «ثم» فالهجاء : ألف وياء وذال ونون. والفرق : أنّ «ثمّ» يوقف عليها وينفصل ، بخلافهما».

قال شهاب الدّين «يعني إذا دخلت واو العطف ، أو فاؤه ، على هذه اللفظة اشتدّ اتصالهما بها ، فلم يعتدّ بهمزة الوصل المحذوفة درجا ، فلم يرسم لها صورة ، فتكتب «فأذن» ، و «أذن» فهذه الألف هي صورة الهمزة ، التي هي فاء الكلمة».

وإذا دخلت عليها «ثم» كتبت كذا : ثم ائتوا ، فاعتدّوا بهمزة الوصل فرسموا لها صورة.

قال شهاب الدين : وكأنّ هذا الحكم الذي ذكره مع «ثم» يختصّ بهذه اللّفظة ، وإلّا فغيرها مما فاؤه همزة ، تسقط صورة همزة وصله خطّا ، فيكتب الأمر من الإتيان مع «ثم» هكذا : «ثمّ أتوا» ، وكان القياس على «ثم ائذن» «ثم ائتوا» ، وفيه نظر ، وقرأ (١) عيسى بن عمر ، وابن السّميفع ، وإسماعيل المكي ، فيما روى عنه ابن مجاهد (وَلا تَفْتِنِّي) بضم حرف المضارعة ، من «أفتنه» رباعيا. قال أبو حاتم «هي لغة تميم» وقيل : أفتنه : أدخله فيها ، وقد جمع الشاعر بين اللغتين ، فقال : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٧٧ ، المحرر الوجيز ٣ / ٤٢ ، البحر المحيط ٥ / ٥٢ ، الدر المصون ٣ / ٤٧١.

١١٠

٢٧٩١ ـ لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت

سعيدا فأمسى قد قلا كلّ مسلم (١)

ومتعلق «الإذن» : القعود ، أي : ائذن لي في القعود والتخلف عن الغزو ، ولا تفتنّي بخروجي معك. أي : لا تهلكني بخروجي معك ، فإنّ الزمان شديد الحرّ ، ولا طاقة لي به. وقيل : لا تفتنّي ؛ لأنّي إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي ، وقيل : نزلت في جد بن قيس المنافق وذلك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا تجهّز لغزو تبوك ، قال له : «يا أبا وهب ، هل لك في جلاد بني الأصفر؟ يعني : الروم ـ تتخذ منهم سراري ووصفاء» فقال جدّ : يا رسول الله ، لقد عرف قومي أني رجل مغرم بالنّساء ، وإنّي أخشى إن رأيت بنات الأصفر ألّا أصبر عنهنّ ، ائذن لي في القعود ، ولا تفتنّي بهنّ ، وأعينكم بمالي (٢).

قال ابن عباس «اعتلّ جدّ بن قيس ، ولم تكن علته إلا النفاق ، فأعرض عنه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : قد أذنت لك ، فأنزل الله عزوجل : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) الآية (٣).

قوله : (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي : في الشّرك والإثم وقعوا بنفاقهم ، وخلافهم أمر الله ورسوله.

وفي مصحف أبي «سقط» لأنّ لفظة «من» موحد اللفظ ، مجموع المعنى ، وفيه تنبيه على أنّ من عصى الله لغرض ، فإنّه تعالى يبطل عليه ذلك الغرض ؛ لأنّ القوم لمّا اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة ، بيّن الله تعالى أنهم واقعون ساقطون في عين الفتنة ـ ثم قال (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) مطبقة عليهم.

قوله : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ) نصر وغنيمة «تسؤهم» تحزنهم ، يعني المنافقين (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) نكبة وشدة ومكروه ، يفرحوا ، و (يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) أي : حذرنا ، (وَيَتَوَلَّوْا) يدبروا عن مقام التحدث بذلك إلى أهليهم (وَهُمْ فَرِحُونَ) مسرورون.

ونقل عن ابن عبّاس «أنّ الحسنة في يوم بدر ، والمصيبة في يوم أحد ، فإن ثبت أنّ المراد هذا بخبر وجب المصير إليه ، وإلّا فالواجب حمله على كل حسنة ، وعلى كل مصيبة» (٤).

__________________

(١) البيت لأعشى همدان وهو عبد الرحمن بن عبد الله ونسب إلى ابن قيس الأعشى الكبير وليس في ديوانه ينظر : الخصائص ٣ / ٣١٥ التهذيب ١٤ / ٢٩٨ مجاز القرآن ١ / ١٦٨ اللسان ٥ / ٣٣٤٤ البحر المحيط ٥ / ٥٢ الدر المصون ٣ / ٤٧١.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٨٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٤٣) وعزاه إلى ابن المنذر والطبراني وابن مردويه وأبي نعيم في «المعرفة».

وذكره الهيثمي في «المجمع» (٧ / ٣٣) وقال : رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه يحيى الحماني وهو ضعيف ، وله شاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٤٣) عن ابن عباس بلفظ مختلف وعزاه للطبراني وابن مردويه.

وذكره الهيثمي في «المجمع» (٧ / ٣٣) وقال : وفيه أبو شيبة إبراهيم بن عثمان.

(٣) انظر الحديث السابق.

(٤) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١٦ / ٦٨)

١١١

قوله : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا) قال عمر بن شقيق : سمعت «أعين» قاضي الرّيّ (١) يقرأ «لن يصيبنا» بتشديد النون.

قال أبو حاتم : ولا يجوز ذلك ؛ لأنّ النّون لا تدخل مع «لن» ، ولو كانت لطلحة بن مصرف ، لجاز ، لأنها مع «هل» ، قال الله تعالى (هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) [الحج : ١٥].

يعني أبو حاتم : أنّ المضارع يجوز توكيده بعد أداة الاستفهام ، وابن مصرف يقرأ «هل» (٢) بدل «لن» ، وهي قراءة ابن مسعود. وقد اعتذر عن هذه القراءة بأنّها حملت «لن» على «لم» و «لا» النافيتين ، و «لم» و «لا» يجوز توكيد الفعل المنفيّ بعدهما.

أمّا «لا» فقد تقدم تحقيق الكلام عليها في الأنفال. وأما «لم» فقد سمع ذلك فيها ؛ وأنشدوا : [الرجز]

٢٧٩٢ ـ يحسبه الجاهل ما لم يعلما

شيخا على كرسيّه معمّما (٣)

أراد : «يعلمن» فأبدل الخفيفة ألفا بعد فتحة ، كالتنوين. وقرأ القاضي (٤) أيضا ، وطلحة «هل يصيبنا» بتشديد الياء. قال الزمخشريّ : ووجهه أن يكون «يفيعل» لا «يفعّل» لأنّه من ذوات الواو ، كقولهم : الصّواب ، وصاب يصوب ، ومصاوب ، في جمع «مصيبة» فحقّ «يفعّل» منه «يصوّب» ، ألا ترى إلى قولهم : صوّب رأيه ، إلّا أن يكون لغة من يقول : صاب السّهم يصيب ؛ كقوله : [المنسرح]

٢٧٩٣ ـ .........

أسهمي الصّائبات والصّيب (٥)

يعني : أن أصله «يصويب» فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغم فيها. وهذا كما تقدم في «تحيّز» أنّ أصله «تحيوز» ، وأمّا إذا أخذناه من لغة من يقول : صاب السّهم يصيب ، فهو من ذوات الياء فوزنه على هذه اللغة «فعّل».

فصل

المعنى : قل لهم يا محمد (لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) أي : علينا ، وقدره في اللوح المحفوظ ، أو يكون المعنى (لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) أي : في عاقبة أمرنا من

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٤٢ ، البحر المحيط ٥ / ٥٣ ، الدر المصون ٣ / ٤٧١.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٤٢ ، البحر المحيط ٥ / ٥٣ ، الدر المصون ٣ / ٤٧١.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٧٨ ، المحرر الوجيز ٣ / ٤٢ ، البحر المحيط ٥ / ٥٣ ، الدر المصون ٣ / ٤٧١.

(٥) عجز بيت للكميت وصدره :

واستبى الكاعب المقليّة إذ

ينظر : المحتسب ١ / ٢٩٤ روح المعاني ١٠ / ١١٥ الدر المصون ٣ / ٤٧٢ واللسان ٤ / ٢٥٣٢.

١١٢

الظفر بالعدو ، والاستيلاء عليهم. وقال الزجاج : المعنى : إذا صرنا مغلوبين ، صرنا مستحقين للأجر العظيم ، والثّواب الكثير ، وإن صرنا غالبين ، صرنا مستحقين للثواب في الآخرة وفزنا بالمال الكثير ، والثناء الجميل في الدنيا والصحيح الأول.

ثم قال : (هُوَ مَوْلانا) ناصرنا ، وحافظنا. قال الكلبي «هو أولى بنا من أنفسنا ، في الحياة والموت». (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) وهذا كالتنبيه على أن حال المنافقين بالضد من ذلك ، وأنهم لا يتوكلون إلا على الأسباب الدنيوية الفانية.

فصل

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) الآية.

هذا الجواب الثاني عن فرح المنافقين بمصائب المؤمنين ، أي : (هَلْ تَرَبَّصُونَ) ، أي : تنتظرون ، «بنا» أيها المنافقون ، (إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) إمّا النصر والغنيمة ، فيحصل لنا الفوز بالأموال في الدنيا والنصر ، والفوز بالثواب العظيم في الآخرة ، وإمّا الشهادة ، فيحصل لنا الثواب العظيم في الآخرة.

قوله : (إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) مفعول «تربّص» ، فهو استثناء مفرغ. وقرأ ابن (١) محيصن : «إلا احدى» بوصل ألف «إحدى» ؛ إجراء لهمزة القطع مجرى همزة الوصل ؛ فهو كقول الشاعر : [الرجز]

٢٧٩٤ ـ إن لم أقاتل فالبسوني برقعا (٢)

وقول الآخر : [الكامل]

٢٧٩٥ ـ يا با المغيرة ربّ أمر معضل

فرّجته بالمكر منّي والدّها (٣)

قوله : (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ) إحدى السوأتين إمّا (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) فيهلككم كما أهلك تلك الأمم الخالية ، (أَوْ بِأَيْدِينا) أي : بأيدي المؤمنين ، إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق ، فيقع بكم القتل والنّهب مع الخزي والذلّ ، ومفعول : التربص (أَنْ يُصِيبَكُمُ) ثم قال : «فتربّصوا» أي : إحدى الحالتين الشريفتين (إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) أي : مواعيد الله من إظهار دينه ، واستئصال من خالفه ، فقوله : «فتربّصوا» وإن كان صيغة أمر ، إلّا أنّ المراد منه : التهديد ، كقوله : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩].

قوله تعالى : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) الآية.

«طوعا ، أو كرها» مصدران في موضع الحال ، أي : طائعين ، أو كارهين. وقرأ (٤)

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٤٤ ، البحر المحيط ٥ / ٥٣ ، الدر المصون ٣ / ٤٧٣.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : حجة القراءات ص (٣١٩) ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٩٣ ، البحر المحيط ٥ / ٥٤ ، الدر المصون ٣ / ٤٧٢.

١١٣

الأخوان «كرها» بالضّمّ ، وقد تقدم تحقيق ذلك في النساء. وقال أبو حيان (١) هنا : «قرأ الأعمش (٢) وابن وثاب «كرها» بضم الكاف». وهذا يوهم أنّها لم تقرأ في السبعة. قال الزمخشري : هو أمر في معنى الخبر ، كقوله : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مريم : ٧٥] ، ومعناه لن يتقبّل منكم ؛ أنفقتم طوعا أو كرها ، ونحوه قوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [التوبة : ٨٠] ؛ وقول كثير عزة : [الطويل]

٢٧٩٦ ـ أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة

 ......... (٣)

أي : لن يغفر الله ، استغفرت لهم ، أو لم تستغفر. ولا نلومك أحسنت إلينا ، أم أسأت ؛ وفي معناه قول القائل : [الطويل]

٢٧٩٧ ـ أخوك الذي إن قمت بالسّيف عامدا

لتضربه لم يستغشّك في الودّ (٤)

وقال ابن عطيّة (٥) «هذا أمر في ضمنه جزاء ، والتقدير : إن تنفقوا لن يتقبّل منكم. وأمّا إذا عري الأمر من الجواب فليس يصحبه تضمّن الشّرط» قال أبو حيّان «ويقدح في هذا التّخريج ، أنّ الأمر إذا كان فيه معنى الشرط ، كان الجواب كجواب الشرط. فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب : «فلن يتقبل» بالفاء ، لأنّ «لن» لا تقع جوابا للشّرط إلّا بالفاء فكذلك ما ضمّن معناه ؛ ألا ترى جزمه الجواب ، في قوله : اقصد زيدا يحسن إليك».

قال شهاب الدّين «إنّما أراد أبو محمد تفسير المعنى ، وإلا فلا يجهل مثل هذه الواضحات ، وأيضا فلا يلزم أن يعطى الأمر التقديري حكم الشّيء الظاهر من كل وجه». وقوله : «إنّكم» وما بعده جار مجرى التعليل. وقوله : (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) يحتمل أن يكون المراد أن الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لا يتقبل تلك الأموال منهم ، ويحتمل أن يكون المراد أنها لا تصير مقبولة عند الله تعالى.

قيل : نزلت في جد بن قيس حين استأذن في القعود ، وقال : أعينكم بمالي ، والمراد بالفسق هنا : الكفر ، لقوله بعده (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ) [التوبة : ٥٤].

قوله تعالى : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٥٤.

(٢) ينظر : القراءة السابقة.

(٣) صدر بيت وعجزه :

لدينا ولا مقلية إن تقلّت

ينظر : ديوانه (١٠١) أمالي ابن الشجري ١ / ٤٩ التهذيب واللسان [حسن] معاني الفراء ١ / ٤٤١ القرطبي ٨ / ١٦١ الدر المصون ٣ / ٤٧٢ تفسير الطبري ١٤ / ٢٩٣ ، تفسير الفخر ١٦ / ٨٨.

(٤) البيت من شواهد الكشاف ٢ / ٣٧٥ ، الدر المصون ٣ / ٤٧٢.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٤٤.

١١٤

وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ)(٥٩)

قوله تعالى : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ) الآية.

(أَنْ تُقْبَلَ) فيه وجهان ، أحدهما : أنه مفعول ثان ، ل «منع» إمّا على تقدير إسقاط حرف الجر ، أي : من أن يقبل ، وإمّا لوصول الفعل إليه بنفسه ؛ لأنّك تقول : منعت زيدا حقّه ومن حقه. والثاني : أنّه بدل من «هم» في : «منعهم» ، قاله أبو البقاء ، كأنّه يريد: بدل الاشتمال ، ولا حاجة إليه. وفي فاعل «منع» وجهان :

أظهرهما : أنّه (إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا) أي : ما منعهم قبول نفقتهم إلّا كفرهم.

والثاني : أنّه ضمير الله تعالى : أي وما منعهم الله ، ويكون (إِلَّا أَنَّهُمْ) منصوبا على إسقاط حرف الجر ، أي : لأنّهم كفروا. وقرأ الأخوان (١) «أن يقبل» بالياء من تحت. والباقون بالتّاء من فوق. وهما واضحتان ، لأنّ التأنيث مجازي. وقرأ زيد بن (٢) علي كالأخوين إلّا أنّه أفرد النفقة. وقرأ (٣) الأعرج «تقبل» بالتاء من فوق ، «نفقتهم» بالإفراد. وقرأ السّلمي (٤) «يقبل» مبنيا للفاعل ، وهو الله تعالى. وقرىء (٥) «نقبل» بنون العظمة ، «نفقتهم» بالإفراد.

فصل

ظاهر اللفظ يدل على أنّ منع القبول معلل بمجموع الأمور الثلاثة ، وهي الكفر بالله ورسوله ، وإتيان الصّلاة وهم كسالى ، والإنفاق على سبيل الكراهية.

ولقائل أن يقول : الكفر بالله سبب مستقل في المنع من القبول ، فلا يبقى لغيره أثر ، فكيف يمكن إسناد الحكم إلى السببين الباقيين؟.

__________________

(١) ينظر : السبعة ص (٣١٤) ، الحجة للقراء السبعة ٤ / ١٩٥ ـ ١٩٦ ، حجة القراءات ص (٣١٩) ، إعراب القراءات ١ / ٢٤٩ ، إتحاف ٢ / ٩٣.

(٢) ينظر : السابق.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٨٠ ، المحرر الوجيز ٣ / ٤٥ ، البحر المحيط ٥ / ٥٥ ، الدر المصون ٣ / ٤٧٣.

(٤) ينظر : السابق.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٤٥ ، البحر المحيط ٥ / ٥٥ ، الدر المصون ٣ / ٤٧٣.

١١٥

وجوابه : أنّ هذا الإشكال إنما يتوجّه على قول المعتزلة ، حيث قالوا : إنّ الكفر لكونه كفرا يؤثر في هذا الحكم ، أما عند أهل السّنّة : فإنّ شيئا من الأفعال لا يوجب ثوابا ولا عقابا وإنّما هي معرفات ، واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد جائز.

فصل

دلّت الآية على أنّ شيئا من أعمال البر لا يقبل مع الكفر بالله تعالى.

فإن قيل : كيف الجمع بينه وبين قوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة : ٧]؟ فالجواب : أن يصرف ذلك إلى تأثيره في تخفيف العقاب ، ودلت الآية على أنّ الصلاة تجب على الكافر ، لأنه تعالى ذمّ الكافر على فعل الصّلاة على وجه الكسل.

قال الزمخشريّ «كسالى» بالضمّ والفتح جمع : «كسلان» نحو «سكارى». قال المفسّرون : معنى هذا الكسل ، أنّه إن كان في جماعة صلّى ، وإن كان وحده لم يصلّ.

وقوله : (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) أي : لا ينفقون لغرض الطاعة بل رعاية للمصلحة الظاهرة.

قوله تعالى : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) الآية.

لمّا قطع في الآية الأولى رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة ، بيّن ههنا أنّ الأشياء التي يظنونها من منافع الدنيا ؛ فإنه تعالى جعلها أسبابا لتعذيبهم في الدّنيا.

والإعجاب : هو السرور بالشّيء مع نوع من الافتخار به ، ومع اعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه. قوله (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلق ب «تعجبك» ، ويكون قوله : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها) جملة اعتراض ، والتقدير : فلا تعجبك في الحياة ، ويجوز أن يكون الجارّ حالا من «أموالهم» وإلى هذا نحا ابن عبّاس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي وابن قتيبة ، قالوا في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : فلا تعجبك أموالهم ، ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنّما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة (١).

قال أبو حيان : «إلّا أنّ تقييد الإعجاب المنهيّ عنه الذي يكون ناشئا عن أموالهم وأولادهم من المعلوم أنّه لا يكون إلّا في الحياة الدّنيا ، فيبقى ذلك كأنّه زيادة تأكيد بخلاف التّعذيب ، فإنّه قد يكون في الدنيا ، كما يكون في الآخرة ، ومع أنّ التقديم والتأخير يخصّه أصحابنا بالضرورة».

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٩٠ ـ ٣٩١) عن ابن عباس وقتادة.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٤٧) عن ابن عباس وعزاه إلى ابن المنذر.

وذكره أيضا (٣ / ٤٤٧) عن قتادة وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

١١٦

قال شهاب الدين : «كيف يقال ـ مع نصّ من قدّمت ذكرهم ـ أصحابنا يخصّون ذلك بالضّرورة؟ على أنه ليس من التقديم الذي يكون في الضرورة في شيء ، إنّما هو اعتراض ، والاعتراض لا يقال فيه تقديم وتأخير ، بالاصطلاح الذي يخصّ بالضرورة. وتسميتهم ـ أعني : ابن عباس ، ومن معه رضي الله عنهم ـ إنّما يريدون به الاعتراض المشار إليه ، لا ما يخصه أهل الصناعة بالضرورة».

والثاني : أنّ (فِي الْحَياةِ) متعلق بالتعذيب ، والمراد بالتعذيب الدنيويّ : مصائب الدّنيا ورزاياها أو ما لزمهم من التكاليف الشّاقة ، فإنّهم لا يرجون عليها ثوابا ، قاله ابن زيد (١) : أو ما فرض عليهم من الزكوات (٢) ، قاله الحسن. وعلى هذا فالضمير في «بها» يعود على الأموال فقط ، وعلى الأول يعود على «الأولاد ، والأموال».

فإن قيل : أيّ تعذيب في المال والولد وهما من جملة النّعم؟.

فالجواب : على القول الأول بالتقديم والتأخير ، فالسؤال زائل. وعلى الثاني المصائب الواقعة في المالد والولد. وقيل : بل لا بدّ من تقدير حذف ، بأن يقال : أراد بالتعذيب بها من حيث كانت سببا للعذاب ، أمّا في الدّنيا ، فإن من أحب شيئا كان تألمه على فراقه شديدا ، وأيضا يحتاج في تحصيلها إلى تعب شديد ، ومشاقّ عظيمة ، ثم في حفظها كذلك ، وأمّا في الآخرة فالأموال حلالها حساب ، وحرامها عذاب.

فإن قيل : هذا المعنى حاصل للكلّ ، فما فائدة تخصيص المنافقين؟.

فالجواب : أن المنافق لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر فلا ينفق ماله في سبيل الله لأنّه يراه ضياعا لا يرجو ثوابه ، وأما المؤمن فينفق ماله طيبة بها نفسه ، يرجو الثواب في الآخرة والمنافق لا يجاهد في سبيل الله خوفا من أن يقتل ، والمؤمن يجاهد ، يرجو ثواب الآخرة ثم قال : (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) أي : تخرج أنفسهم وهم كارهون. أي : يموتون على الكفر.

قوله : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) على دينكم (وَما هُمْ مِنْكُمْ) أي : ليسوا على دينكم (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) يخافون أن يظهروا ما هم عليه فيقتلوا.

قوله : (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ). «الملجأ» : الحصن. وقال عطاء : المهرب (٣) وقيل : الحرز وهو «مفعل» ، من : لجأ إليه ، يلجأ ، أي : انحاز. يقال : ألجأته إلى كذا أي : اضطررته إليه فالتجأ. و «الملجأ» يصلح للمصدر ، والزمان ، والمكان. والظّاهر منها ـ هنا : المكان. و «المغارات» جمع «مغارة» ، وهي الموضع الذي يغور

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٩١) عن ابن زيد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٤٧) وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٩١) عن الحسن وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٠٠ ـ ٣١٠١).

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٠١).

١١٧

الإنسان فيه ، أي : يستقر. وقال أبو عبيد : كل شيء جزت فيه فغبت فهو مغارة لك ، ومنه : غار الماء في الأرض ، وغارت العين. وهي مفعلة ، من : غار يغور ، فهي كالغار في المعنى. وقيل : المغارة : السّرب ، كنفق اليربوع.

والغار : النّقب في الجبل. والجمهور على فتح ميم «مغارات». وقرأ عبد (١) الرحمن بن عوف «مغارات» بالضم ، وهو من : أغار ، و «أغار» يكون لازما ، تقول العرب : «أغار» بمعنى «غار» أي : دخل. ويكون متعدّيا ، تقول العرب : أغرت زيدا ، أي : أدخلته في الغار ، فعلى هذا يكون من «أغار» المتعدّي ، والمفعول محذوف ، أي : أماكن يغيرون فيها أنفسهم ، أي : يغيّبونها. و «المدّخل» : «مفتعل» من : الدخول ، وهو بناء مبالغة في هذا المعنى ، والأصل : «مدتخل» فأدغمت «الدال» في «تاء» الافتعال ك : «ادّان» من «الدّين». وقرأ قتادة ، وعيسى (٢) بن عمر ، والأعمش «مدّخّلا» بتشديد الدال والخاء معا. وتوجيهها أن الأصل «متدخّلا» ، من : «تدخّل» بالتّضعيف ، فلمّا أدغمت التاء في الدال صار اللفظ «مدخّلا» نحو «مدّيّن» من «تديّن».

وقرأ الحسن أيضا (٣) ، ومسلمة بن محارب ، وابن أبي إسحاق ، وابن محيصن ، وابن كثير ، في رواية «مدخلا» بفتح الميم وسكون الدال وفتح الخاء خفيفة ، من «دخل». وقرأ (٤) الحسن في رواية محبوب كذلك ، إلّا أنه ضمّ الميم ، جعله من «أدخل». وهذا من أبدع النّظم ، ذكر أولا الأمر الأعم ، وهو «الملجأ» من أي نوع كان ، ثم ذكر الغيران التي يختفى فيها في أعلى الأماكن ، وهي الجبال ، ثم ذكر الأماكن التي يختفى فيها في الأماكن السافلة ، وهي السّروب ، وهي التي عبّر عنها ب «المدّخل». وقال الزجاج : يصحّ أن تكون «المغارات» من قولهم : «حبل مغار» أي : محكم الفتل ، ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبرم فيجيء التأويل على هذا : لو يجدون نصرة ، أو أمورا مشددة مرتبطة تعصمهم منكم وجعل «المدّخل» أيضا قوما يدخلون في جملتهم. وقرأ أبي (٥) «مندخلا» بالنون بد الميم ، من «اندخل» ؛ قال : [البسيط]

٢٧٩٨ ـ .........

ولا يدي في حميت السّمن تندخل (٦)

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٤٦ ، البحر المحيط ٥ / ٥٦ ، الدر المصون ٣ / ٤٧٤ الكشاف ٢ / ٢٨١.

(٢) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٩٣ ، المحرر الوجيز ٣ / ٤٦ ، البحر المحيط ٥ / ٥٦ ، الدر المصون ٣ / ٤٧٤.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٨١ ، إتحاف ٢ / ٩٣ ، المحرر ٣ / ٤٦ ، البحر ٥ / ٥٦ ، الدر ٣ / ٤٧٤.

(٤) ينظر : السابق.

(٥) ينظر : السابق.

(٦) عجز بيت للكميت وصدره :

لا خطوتي تتعاطى غير موضعها

ينظر : ديوانه (٢ / ١٣) المحتسب ١ / ٢٩٦ ، المنصف ١ / ٧٢ البحر ٥ / ٥٦ الدر المصون ٣ / ٤٧٥ روح المعاني ١ / ١٩٩ حاشية الشهاب ٤ / ٣٣٥ اللسان ٢ / ١٣٤٠ [دخل].

١١٨

وأنكر أبو حاتم هذه القراءة عنه ، وقال : إنّما هي بالتاء ، وهو معذور ، لأنّ «انفعل» قاصر لا يتعدى ، فكيف يبنى منه اسم مفعول؟. وقرأ الأشهب (١) العقيلي «لوالوا» ، أي : لتتابعوا وأسرعوا وكذلك رواها ابن أبي عبيدة بن معاوية بن نوفل ، عن أبيه ، عن جده وكانت له صحبة من الموالاة. وهذا مما جاء فيه «فعّل» ، و «فاعل» بمعنى ، نحو : ضعّفته ، وضاعفته.

قال سعيد بن مسلم : أظنها «لوألوا» بهمزة مفتوحة بعد الواو ، من : «وأل» ، أي : التجأ وهذه القراءة نقلها الزمخشري عن أبيّ ، وفسّرها بما تقدم من الالتجاء.

و «الجموح» النّفور بإسراع ؛ ومنه : فرس جموح ، إذا لم يردّه لجام ؛ قال : [المتقارب]

٢٧٩٩ ـ سبوحا جموحا وإحضارها

كمعمعة السّعف الموقد (٢)

وقال آخر : [البسيط]

٢٨٠٠ ـ وقد جمحت جماحا في دمائهم

حتّى رأيت ذوي أحسابهم جهزوا (٣)

وقرأ أنس (٤) بن مالك ، والأعمش : يجمزون. قال ابن عطية (٥) يهرولون في مشيهم وقيل: «يجمزون ، ويجمحون ، ويشتدّون بمعنى».

وفي الحديث : فلمّا أذلقته الحجارة جمز (٦). وقال رؤبة : [الرجز]

٢٨٠١ ـ إمّا تريني اليوم أمّ حمز

قاربت بين عنقي وجمزي (٧)

ومنه «يعدو الجمزى» وهو أن يجمع رجليه معا ، ويهمز بنفسه ، هذا أصله في اللغة وقوله : «إليه» عاد الضمير على «الملجأ» أو على «المدّخل» ، لأنّ العطف ب «أو» ، ويجوز أن يعود على «المغارات» لتأويلها بمذكر. ومعنى الآية : أنهم لو يجدون مخلصا منكم أو مهربا لفارقوكم.

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) الآية.

قرأ العامة «يلمزك» بكسر الميم ، من : لمزه يلمزه ، أي. عابه ، وأصله : الإشارة بالعين ونحوها.

__________________

(١) وقرأ بها جد أبي عبيدة بن قرمل.

ينظر : الكشاف ٢ / ٢٨١ ، المحرر الوجيز ٣ / ٤٦ ، البحر المحيط ٥ / ٥٧ ، الدر المصون ٣ / ٤٧٥.

(٢) البيت لامرىء القيس ينظر : ديوانه ١٨٧ ، واللسان (جمح) والبحر المحيط ٥ / ٣٧ ، الدر المصون ٣ / ٤٧٥.

(٣) ينظر : الطبري ١٤ / ٢٩٩ ، والبحر المحيط ٥ / ٣٧ ، الدر المصون ٣ / ٤٧٥.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٨١ ، المحرر الوجيز ٣ / ٤٦ ، البحر المحيط ٥ / ٥٧ ، الدر المصون ٣ / ٤٧٥.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٤٦.

(٦) هو حديث رجم ما عز وقد تقدم تخريجه.

(٧) تقدم.

١١٩

قال الأزهري (١) أصله : الدفع ، لمزته دفعته وقال الليث هو الغمز في الوجه ومنه : همزة لمزة. أي : كثير هذين الفعلين. وقال أبو بكر الأصم «اللّمز : أن يشير إلى صاحبه بعيب جليسه. والهمز : أن يكسر عينه على جليسه إلى صاحبه». وقرأ يعقوب (٢) ، وحماد بن سلمة عن ابن كثير ، والحسن ، وأبو رجاء ، ورويت عن أبي عمرو بضمها ، وهما لغتان في المضارع. وقرأ الأعمش (٣) «يلمزك» من «ألمز» رباعيا. وروى حماد بن سلمة «يلامزك» على المفاعلة من واحد ، ك : سافر ، وعاقب.

هذا شرح نوع آخر من طباعهم وأفعالهم ، وهو طعنهم في الرسول بسبب أخذ الصدقات ، ونزلت في ذي الخويصرة التميمي ، واسمه : حرقوص بن زهير ، أصل الخوارج.

قال أبو سعيد الخدري بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم مالا إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي ، وقال : يا رسول الله اعدل ، فقال : ويلك من يعدل إذا لم أعدل؟. فنزلت هذه الآية. (٤)

وقال الكلبي : قال رجل من المنافقين ويقال له : أبو الجواظ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتزعم بأن الله أمرك بأن تضع صدقات في الفقراء والمساكين ، فلم تضعها في رعاة الشاء؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا أبا لك ، فإنما كان موسى راعيا وإنما كان داود راعيا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فلما ذهب قال عليه‌السلام : «احذروا هذا وأصحابه ، فإنهم منافقون» (٥).

وروى أبو بكر الأصم في تفسيره أنه عليه‌السلام قال لرجل من أصحابه : «ما علمك بفلان؟» قال ما لي به علم إلا أنك تدينه في المجلس وتجزل له العطاء ، فقال عليه‌السلام : إنه منافق أداريه عن نفاقه ، وأخاف أن يفسد عليّ غيره ، فقال : لو أعطيت فلانا بعض ما تعطيه؟ فقال عليه‌السلام : إنه مؤمن أكله إلى إيمانه ، وإنما هذا منافق أداريه خوف إفساده.

قال ابن عباس «يلمزك» : يغتابك ، وقال قتادة : يطعن عليك (٦) ، وقال الكلبي : يعيبك في أمر ما ، قال أبو علي الفارسي : هنا محذوف والتقدير : يعيبك في تفريق الصدقات فإن أعطوا كثيرا فرحوا ، وإن أعطوا قليلا فإذا هم يسخطون. وقد تقدم الكلام

__________________

(١) ينظر : تهذيب اللغة ١٣ / ٢٢٠.

(٢) ينظر : السبعة ص (٣١٥) ، الحجة للقراء للسبعة ٤ / ١٩٦ ـ ١٩٧ ، إعراب القراءات ١ / ٢٤٩ ـ ٢٥٠ ، إتحاف ٢ / ٩٤.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٨٢ ، المحرر الوجيز ٣ / ٤٧ ، البحر المحيط ٥ / ٥٧ ، الدر المصون ٣ / ٤٧٦.

(٤) أخرجه البخاري (١٢ / ٣٠٣) كتاب استتابة المرتدين : باب من ترك قتال الخوارج للتألف ولئلا يفر الناس عنه حديث (٦٩٣٣) والنسائي (٦ / ٣٥٥) في الكبرى والطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٩٤) والبغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٠١ ـ ٣٠٢) من حديث أبي سعيد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٤٨) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٠٢).

(٦) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ٧٩).

١٢٠