اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وبه نستعين

الحمد لله ربّ العالمين ، والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمّد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

سورة الأعراف

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : إنّها مكّيّة (١).

وقال قتادة : مكية غير قول [الله] تعالى : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ) [الآية : ١٦٣] إلى قوله ـ عزوجل ـ : «يفسقون» ثمان آيات (٢) وهي مائتان وستّ آيات ، وثلاثة آلاف وثلثمائة وخمس وعشرون كلمة ، وأربعة عشر ألفا وثلاث مائة وعشرة أحرف.

قوله تعالى : (المص)(١)

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «المص : أنا الله أفصّل» ، وعنه «أنا الله أعلم وأفضل» (٣). وقد تقدّم الكلام على الأحرف المقطّعة في أوّل الكتاب.

وقال السّدّي ـ رضي الله عنه ـ : «المص» على هجاء قولنا في أسماء الله «سبحانه المصور» (٤).

قال القاضي (٥) ـ رحمه‌الله ـ : ليس حمل هذا اللّفظ على قولنا : أنا الله أفصل أولى من [حمله] على قوله : «أنّا الله أصلح» ، [أنا الله أمتحن ، أنا الله أملك] ؛ لأنّه إن كانت العبرة بحرف الصّاد فهو موجود في قوله : أنا الله أصلح ،] وإن كانت العبرة بحرف الميم فكما أنّه موجود في العلم فهو أيضا موجود في الملك ، والامتحان ، فكان حمل قولنا

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٢٥) وعزاه لابن الضريس والنحاس في «ناسخه» وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٢٥) وعزاه لأبي الشيخ وابن المنذر عن قتادة.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٢٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٢٥) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.

وأخرجه الطبري (٥ / ٤٢٤) عن سعيد بن جبير.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٢٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٢٦) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٤ / ١٣.

٣

«المص» على هذا المعنى بعينه محض التّحكم ، وأيضا فإن جاء تفسير الألفاظ بناء على ما فيها من الحروف من غير أن تكون تلك اللفظة موضوعة في اللّغة لذلك المعنى ؛ انفتحت طريقة الباطنيّة(١) في تفسير سائر [ألفاظ] القرآن الكريم بما يشاكل هذا الطريق.

__________________

(١) قال العلامة أبو شهبة : وأصحاب المذاهب المبتدعة : كالشيعة ، والمعتزلة ، وأضرابهم. قد نحوا بالتفسير ناحية مذاهبهم ، وفي سبيل ذلك قد حرفوا بعض الآيات وخرجوا بها عن معانيها المرادة ، وعن قواعد اللغة ، وأصول الشريعة وصار الواحد منهم كلما لاحت له شاردة من بعيد اقتنصها ، أو وجد موضعا له فيه أدنى مجال لإظهار بدعته وترجيح مذهبه سارع إليه ، ومن هذه التفاسير : تفاسير جليلة خدمت القرآن خدمة جليلة ، وهو تفسير الكشاف للإمام الزمخشري ، ولو لا ما فيه من آراء اعتزالية ، لكان أجل تفسير في بابه.

قال الإمام البلقيني : استخرجت من «الكشاف» اعتزالا بالمناقيش : من قوله تعالى : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ ، وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) ، قال الزمخشري : «وأي فوز أعظم من دخول الجنة»؟ (أشار به إلى عدم رؤية الله في الآخرة ، الذي هو مذهبهم.

ومنها : تفاسير باطلة ، ضالة مضلة ، كتفاسير الباطنية ، والروافض ، وبعض المتصوفة ، والملحدين ، فقد ألحدوا في آيات الله ، وحرفوا الكلم عن مواضعه ، وخالفوا القواعد اللغوية والشرعية وافتروا على الله ما لم يرده من كتابه (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ).

ومن تفسيرات الباطنية : قولهم في قوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أن الإمام عليا ورث النبي في علمه ، ويقولون : الكعبة هي : النبي ، والباب هو : علي ، إلى غير ذلك من أباطيلهم.

ومن تفسيرات الباطنية : قولهم في قوله تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ :) أن المراد بهما : علي ، وفاطمة ، وقوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) : أن المراد : الحسن والحسين ، وقولهم في قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) هي : عائشة ، إلى غير ذلك من تحريفاتهم للنصوص القرآنية. ومن تفسيرات الملحدة : قولهم في قوله تعالى حكاية عن قول الخليل إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) : أنه كان له صديق وصفه بأنه قلبه ، وفي قوله تعالى : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) : إنه الحب ، والعشق ، إلى غير ذلك من خرافاتهم.

ومن تحريفات بعض المتصوفة في كلام الله ، قول بعضهم في قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) : أن معناه «من ذل» : أي من لذل ، «ذي» : إشارة إلى النفس ، «يشف» : من الشفا جواب من «ع وقد سئل الإمام سراج الدين البلقيني عمن قال هذا : فأفتى بأنه ملحد ، وقال قال الله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا)، قال ابن عباس : هو أن يوضع الكلام على غير موضعه وبحسبنا هذا القدر في هذا المقام.

وهي تخريفات ، وتحريفات للقرآن الذي أنزله الله بلسان عربي مبين ، وصرف له عن ظاهره المراد لغة وشرعا ، وهؤلاء أضر على الإسلام من أعدائه ، والعدو المداجي المتستر بالتشيع ، أو التصوف ونحوه شر من العدو ، المكاشف ، المستعلن ، وقد أشار النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى هذه الفئات الضالة ، المضلة المحرفة لكتاب الله ، فقال فيما رواه عنه حذيفة : «إن في أمتي أقواما يقرأون القرآن ، ينثرونه نثر الدقل ، يتأولون القرآن على غير تأويله».

وقد حاول هؤلاء أن يؤيدوا آراءهم ومذاهبهم ، فافتروا على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وعلى صحابته الأطهار ، فمن ثم دخل في تفاسيرهم هم من المرويات الباطلة شيء كثير.

ينظر الإسرائيليات والموضوعات ص ١٠٨ ـ ١١٠.

٤

وأمّا قول بعضهم : إنّه من أسماء الله ـ تبارك وتعالى ـ فأبعد ؛ لأنه ليس جعله اسما لله أولى من جعله اسما لبعض رسله من الملائكة ، أو الأنبياء ـ عليهم ، وعلى نبيّنا أفضل الصّلاة والسّلام ـ ، ولأن الاسم إنّما يصير للمسمّى بواسطة الوضع والاصطلاح وذلك مفقود هنا ، بل الحقّ أنّ قول : «المص» اسم لقب لهذه السّورة الكريمة ، وأسماء الألقاب لا تفيد ههنا فائدة في المسمّيات ، بل هي قائمة مقام الإرشادات (١) ، ولله ـ تبارك وتعالى ـ سبحانه أن يسمّي هذه السورة بقوله : «المص» كما أنّ الواحد منّا إذا حدث له ولد فإنّه يسمّيه بمحمّد.

قوله : «كتاب» : يجوز أن يكون خبرا عن الأحرف قبله ، وأن يكون خبرا لمبتدأ مضمر ، أي : هو كتاب ، كذا قدّره الزّمخشريّ (٢).

ويجوز أن يكون كتاب مبتدأ و «أنزل» صفته و «فلا تكن» خبره ، والفاء زائدة على رأي الأخفش (٣) أي : كتاب موصوف بالإنزال إليك ، لا يكن في صدرك حرج منه ، وهو بعيد جدّا. والقائم مقام الفاعل في «أنزل» ضمير عائد على الكتاب ، ولا يجوز أن يكون الجارّ ؛ لئلا تخلو الصفة من عائد.

والمراد بالكتاب القرآن الكريم.

فإن قيل : الدّليل الذي دلّ على صحّة نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو أن الله ـ تبارك وتعالى جدّه لا إله إلّا هو ـ خصّه بإنزال هذا القرآن عليه فما لم نعرف هذا المعنى لا يمكننا أن نعرف نبوته ، وما لم نعرف نبوته لا يمكننا أن نحتج بقوله فلو أثبتنا كون هذه السورة نازلة من عند الله ـ تبارك وتعالى ـ بقوله لزم الدّور؟

فالجواب : نحن نعلم بمحض العقل أنّ هذه السورة الكريمة كتاب أنزل إليه من عند الله ؛ لأنه عليه أفضل الصّلاة والسّلام ما تتلمذ لأستاذ ، ولا تعلم من معلّم ، ولا طالع كتابا ، ولم يخالط العلماء والشّعراء وأهل الأخبار ، وانقضى من عمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعون سنة ولم يتفق له شيء من هذه الأحوال ، ثم بعد الأربعين ظهر له هذا الكتاب العزيز المشتمل على علوم الأولين والأخرين ، والعقل يشهد بأنّ هذا لا يحصل إلا بطريق الوحي من عند الله ـ تبارك وتعالى ـ ؛ فثبت بهذا الدّليل العقلي أن هذا الكتاب أنزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند ربه وإلهه عزوجل (٤).

فصل في دحض شبهة خلق القرآن

احتج القائلون بخلق القرآن الكريم بقوله : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ، فوصف بكونه منزلا

__________________

(١) في تفسير الرازي : الإشارات.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٨٥.

(٣) ينظر : معاني القرآن للأخفش ١ / ١٢٤.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٤.

٥

والإنزال يقتضي الانتقال من حال إلى حال ، وذلك لا يليق بالقديم فدل على أنّه محدث.

والجواب أن الموصوف بالإنزال والتنزيل على سبيل المجاز [هو] هذه الحروف ولا نزاع في كونها محدثة مخلوقة (١).

فإن قيل : هب أنّ المراد منه الحروف إلّا أنّه الحروف أعراض غير باقية بدليل أنّها متوالية وكونها متوالية يشعر بعدم بقائها ، وإذا كان كذلك فالعرض الذي لا يبقى زمانين كيف يعقل وصفه بالنزول؟

فالجواب : أنّه سبحانه وتعالى أحدث هذه الرّقوم والنّقوش في اللّوح [المحفوظ] ، ثم إنّ الملك يطالع تلك النّقوش ، وينزّل من السّماء إلى الأرض ويعلّم محمدا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ تلك الحروف والكلمات ، فكان المراد بكون تلك الحروف نازلة هو : أنّ مبلغها نزل من السّماء إلى الأرض.

فصل في تأويل المكانية

الّذين أثبتوا لله مكانا تمسّكوا بهذه الآية فقالوا : إنّ كلمة «من» لابتداء الغاية ، وكلمة «إلى» لانتهاء الغاية ، فقوله : (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يقتضي حصول مسافة مبدؤها هو الله ـ تبارك وتعالى ـ وغايتها هو محمّد ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ ، وذلك يدلّ على أنّه تبارك وتعالى مختص بجهة فوق ؛ لأن النّزول هو الانتقال من فوق إلى أسفل.

والجواب : لمّا ثبت بالدّلائل القاطعة أن المكان والجهة على الله سبحانه وتعالى محال وجب حمله على التّأويل وهو أنّ الملك انتقل من العلو إلى أسفل.

قوله تعالى : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢)

قال مجاهد : «شكّ (٢) ، والخطاب للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به الأمة ، ويسمّى الشكّ حرجا ؛ لأن الشّاكّ ضيّق الصّدر كما أن المتيقن منشرح (٣) القلب».

وقال أبو العالية رحمة الله عليه : حرج : ضيق (٤) ، والمعنى : لا يضيق صدرك بسبب أن يكذبوك في التّبليغ.

قال الكيا : فظاهره النّهي ومعناه : نفي الحرج عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : لا يضيق صدرك ألّا

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٤.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٢٥) عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٢٦) عن ابن عباس وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٣) في الرازي متقح.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٢٦) وعزاه لأبي الشيخ عن الضحاك.

٦

يؤمنوا به فإنّما عليك منه البلاغ وليس عليك سوى الإنذار به ، ومثله قوله عزوجل : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣].

قوله : «منه» متعلق ب «حرج». و «من» سببيّة أي حرج بسببه تقول : حرجت منه أي : ضقت بسببه ، ويجوز أن يتعلّق بمحذوف على أنّه صفة له أي : حرج كائن وصادر منه ، والضّمير في «منه» يجوز أن يعود على الكتاب وهو الظّاهر ، ويجوز أن يعود على الإنزال المدلول عليه ب «أنزل» ، أو على الإنذار ، أو على التّبليغ المدلول عليهما بسياق الكلام ، أو على التّكذيب الّذي تضمنه المعنى ، والنهي في الصّورة للحرج ، والمراد الصّادر منه مبالغة في النّهي عن ذلك كأنّه قيل : لا تتعاطى أسبابا ينشأ عنها حرج ، وهو من باب «لا أرينّك ههنا» ، النهي متوجه على المتكلم والمراد به المخاطب كأنه قال : لا تكن بحضرتي فأراك ومثله : (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) [طه : ١٦].

قوله : (لِتُنْذِرَ بِهِ) في متعلق هذه «اللّام» ثلاثة أوجه.

أحدها : أنّها متعلّقة ب «أنزل» أي : أنزل إليك للإنذار ، وهذا قول الفرّاء (١) قال : اللّام في «لتنذر» منظوم بقوله : «أنزل» على التّقديم والتّأخير ، على تقدير : كتاب «أنزل إليك لتنذر به فلا يكن». وتبعه الزّمخشري (٢) والحوفيّ ، وأبو البقاء (٣) على ذلك ، وعلى هذا تكون جملة النّهي معترضة بين العلّة ومعلولها ، وهو الذي عناه الفرّاء بقوله : «على التّقديم والتّأخير».

والثاني : أنّ اللام متعلّقة بما تعلّق به خبر «الكون» إذ التقدير : فلا يكن حرج مستقرا في صدرك لأجل الإنذار. كذا قاله أبو حيّان (٤) عن ابن الأنباري ، فإنّه قال : «وقال ابن الأنباري : التقدير : فلا يكن في صدرك حرج منه كي تنذر به فجعله متعلقا بما تعلّق به «في صدرك» ، وكذا علّقه به صاحب «النّظم» ، فعلى هذا لا تكون الجملة معترضة».

قال شهاب الدّين (٥) : الذي نقله الواحديّ عن نصّ ابن الأنباري في ذلك أن «اللّام» متعلّقة ب «الكون» ، وعن صاحب «النّظم» أنّ اللّام بمعنى «أن» وسنأتي بنصّيهما إن شاء الله تعالى ، فيجوز أن يكون لهما كلامان.

الثالث : أنّها متعلّقة بنفس الكون ، وهو مذهب ابن الأنباريّ والزّمخشريّ ، وصاحب «النّظم» على ما نقله أبو حيّان (٦).

قال أبو بكر بن الأنباريّ : ويجوز أن تكون اللّام صلة للكون على معنى : «فلا يكن

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٣٧٠.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٨٦.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٦٧.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٦٧.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٣٠.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٦٧.

٧

في صدرك شيء لتنذر ، كما يقول الرجل للرّجل لا تكن ظالما لتقضي صاحبك دينه فتحمل لام كي على الكون».

وقال الزّمخشريّ (١) : فإن قلت : بم تعلّق به «لتنذر»؟ قلت : ب «أنزل» أي : أنزل لإنذارك به ، أو بالنّهي ؛ لأنّه إذا لم يخفهم أنذرهم ، وكذا إذا علم أنّه من عند الله شجعه اليقين على الإنذار.

قال أبو حيّان (٢) : «فقوله : بالنّهي ظاهره أنّه يتعلّق بفعل النهي فيكون متعلقا بقوله : «فلا يكن» ، وكان في تعليق المجرور والعمل في الظّرف فيه خلاف ، ومبناه على أنّ «كان» النّاقصة هل تدل على حدث أم لا؟

فمن قال : إنّها تدلّ على الحدث جوّز ذلك ، ومن قال : لا تدلّ عليه منعه».

قال شهاب الدّين (٣) : الزّمخشريّ (٤) مسبوق إلى هذا الوجه ، بل ليس في عبارته ما يدلّ على أنّه متعلق ب «يكون» بل قال «بالنّهي» فقد يريد بما تضمّنه من المعنى ، وعلى تقدير ذلك فالصّحيح أنّ الأفعال النّاقصة كلّها لها دلالة على الحدث إلّا «ليس» ، وقد أقمت على ذلك أدلّة وأتيت من أقوال النّاس بما يشهد لصحّة ذلك كقول سيبويه (٥) ، وغيره في غير هذا الموضوع.

وقال صاحب «النّظم» : وفيه وجه آخر ، وهو أن تكون اللّام بمعنى أن والمعنى : لا يضيق صدرك ولا يضعف [عن] أن تنذر به ، والعرب تضع هذه اللام في موضع «أن» كقوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) [التوبة : ٣٢] وفي موضع آخر : (لِيُطْفِؤُا) [الصف: ٨] فهما بمعنى واحد.

قال شهاب الدّين (٦) : هذا قول ساقط جدّا ، كيف يكون حرف مختص بالأفعال يقع موقع آخر مختص بالأسماء؟

قوله : «وذكرى» يجوز أن يكون في محلّ رفع ، أو نصب ، أو جرّ.

فالرّفع من وجهين ، أحدهما : أنها عطف على «كتاب» أي : كتاب وذكرى أي :تذكير ، فهي اسم مصدر وهذا قول الفرّاء (٧).

والثاني من وجهي الرّفع : أنّها خبر مبتدأ مضمر أي : هو ذكرى ، وهذا قول الزّجّاج (٨).

والنّصب من ثلاثة أوجه :

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٨٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٦٧.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٣٠.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٨٦.

(٥) ينظر : الكتاب ١ / ٢١.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٣٠.

(٧) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٧٠.

(٨) ينظر : الزجاج ٢ / ٣٤٨.

٨

أحدها : أنّه منصوب على المصدر بفعل من لفظه تقديره : وتذكر ذكرى أي تذكيرا.

الثاني : [أنها] في محلّ نصب نسقا على موضع «لتنذر» فإن موضعه نصب ، فيكون إذ ذاك معطوفا على المعنى ، وهذا كما تعطف الحال الصريحة على الحال المؤوّلة كقوله تعالى : (دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) [يونس : ١٢] ، ويكون حينئذ مفعولا من أجله كما نقول: «جئتك لتكرمني وإحسانا إليّ».

الثالث : قال أبو البقاء (١) : ـ وبه بدأ ـ : «إنّها حال من الضمير في «أنزل» وما بينهما معترض». وهذا سهو فإنّ «الواو» مانعة من ذلك ، وكيف تدخل الواو على حال صريحة؟

والجرّ من وجهين أيضا.

أحدهما : العطف على المصدر [المنسبك من «أن» المقدّرة بعد لام كي ، والفعل ، والتّقدير : للإنذار والتّذكير.

والثاني : العطف] على الضّمير في «به» ، وهذا قول الكوفيّين ، والذي حسّنه كون «ذكرى» في تقدير حرف مصدري ـ وهو «أن» ـ والفعل ولو صرح ب «أن» لحسن معها

حذف حرف الجرّ ، فهو أحسن من «مررت بك وزيد» إذ التّقدير : لأن تنذر به وبأن تذكّر.

وقوله : «للمؤمنين» يجوز أن تكون «اللّام» مزيدة في المفعول به تقوية له ؛ لأنّ العامل فرع ، والتقدير : وتذكّر المؤمنين.

ويجوز أن يتعلّق بمحذوف ؛ لأنّه صفة ل «ذكرى».

فصل في معنى الآية

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ يريد موعظة للمصدّقين (٢).

فإن قيل : لم قيّد هذه الذّكرى بالمؤمنين؟

فالجواب : هو نظير قوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢].

قال ابن الخطيب (٣) : والبحث العقليّ فيه أنّ النّفوس البشريّة على قسمين : بليدة جاهلة بعيدة عن عالم الغيب غريقة في طلب اللّذّات الجسمانيّة ، ونفوس شريفة مشرقة بأنوار الإلهيّة ، فبعثة الأنبياء في حق القسم الأول للإنذار والتّخويف فإنّهم لمّا غرقوا في نوم الغفلة ورقدة الجهالة احتاجوا إلى موقظ يوقظهم.

وأمّا في حقّ القسم الثّاني فتذكير وتنبيه ؛ لأنه ربما غشيها من غواشي عالم الجسم فيعرض لها نوع ذهول وغفلة ، فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتّصل لها أنوار أرواح رسل

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٦٨.

(٢) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (١٤ / ١٥) عن ابن عباس.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ١٤ / ١٥.

٩

الله ؛ تذكّرت مركزها ؛ فثبت أنّه تعالى إنّما أنزل هذا الكتاب على رسوله ؛ ليكون إنذارا في حقّ طائفة ، وذكرى في حقّ طائفة أخرى.

قوله تعالى : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٣)

لمّا أمر الرّسول بالتّبليغ ، والإنذار ؛ أمر الأمة بمتابعة الرسول.

قوله : «من ربّكم» يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه يتعلّق ب «أنزل» وتكون «من» لابتداء الغاية المجازية.

الثاني : أن يتعلّق بمحذوف على أنّه حال : إمّا من الموصول ، وإمّا من عائده القائم مقام الفاعل.

فصل في دحض شبهة لنفاة القياس

استدلّ نفاة القياس بقوله : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) والمراد به : القرآن والسنّة، واستدلّوا أيضا بها على أن تخصيص عموم القرآن بالقياس لا يجوز (١) ؛ لأنّ عموم القرآن

__________________

(١) قد يرد عن الشارع أمر متعلق بعام ثم يظهر أن بعض أفراد هذا العام يستحق حكما يخالف سائر الأفراد وهذا الحكم معلل بعلة توجد في غيره من الأفراد كأن يقول قائل لمن له أن يأمره «لا تعط من سألك شيئا» فمن عام ينتظم جميع أفراد السائلين أغنياء أو فقراء علماء أو جهلاء ، ثم تلا ذلك أمر آخر يقول «وأعط محمدا لفقره» فلما علمنا العلة وأردنا تعميم محل الإعطاء فهل نقول إنه مأمور بإعطاء كل فقير سواء كان محمدا أو غيره؟ وبعبارة أخرى هل لنا أن نخصص العام الأول بهذا القياس ونقول إنه مراد الناهي بلفظ العام غير الفقراء ويكون المخرج نوعين أحدهما بالنص وهو «محمد» والثاني بالقياس وهو غيره من الفقراء؟.

هذا هو محل النزاع بين الأصوليين.

وكان من أثر اختلاف الأصوليين في دلالة العام اختلافهم في جواز تخصيص العام من الكتاب أو السنة المتواترة بالقياس ، إذا لم يخصصا بدليل مستقل مقارن قطعي الثبوت ، ونذكر هنا أمرا آخر كان سببا من أسباب الخلاف بينهم في جواز التخصيص بالقياس وهو وجود الضعف في القياس الناشىء من احتياجه في الغالب إلى الاجتهاد في أمور : كون حكم الأصل معللا ، وتعيين علته ، ووجودها في الأصل ، ووجودها في الفرع ، وخلوها عن المعارض فيهما ، وكل ذلك بعد معرفة حكم الأصل والأمور الاجتهادية يتطرق إليها احتمال الخطأ ، وهذا بخلاف الخبر فإن محل الاجتهاد فيه ـ إن كان ـ أمران ، عدالة الراوي وكيفية الدلالة. لهذين الأمرين وقع الخلاف بين علماء الأصول في جواز تخصيص العام بالقياس وعدم جوازه وذهبوا فيه مذاهب شتى.

فذهب الأئمة الأربعة والأشعري وأبو هاشم من المعتزلة إلى الجواز إلا أن الذين قالوا بأن دلالة العام في أفراده قطعية شرطوا لذلك أن يكون العام مخصصا بغير القياس بدليل متصل مقارن قطعي الدلالة ـ إن كان العام كذلك.

وذهب أبو علي الجبائي من المعتزلة إلى تقديم العام على القياس مطلقا سواء كان القياس جليا أو خفيا وسواء كان العام مخصوصا أو لا ، ونقله القاضي في التقريب عن الأشعري. ـ

١٠

منزّل من عند الله ، والله ـ تعالى ـ أوجب متابعته فوجب العمل بعموم القرآن ، ولمّا وجب العمل به ؛ امتنع العمل بالقياس ، وإلّا لزم التّناقض.

وأجيبوا بأن قوله تعالى (فَاعْتَبِرُوا) [الحشر : ٢] يدلّ على وجوب العمل بالقياس ، فكان العمل بالقياس عملا بإنزال.

فإن قيل : لو كان العمل بالقياس عملا بما أنزله الله لكان تارك العمل بلا قياس كافرا ؛ لقوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤] وحيث اجتمعت الأمّة على عدم التّكفير ؛ علمنا أنّ العمل بالقياس ليس عملا بما أنزل الله.

وأجيبوا بأنّ كون القياس حجّة ثبت بإجماع الصّحابة (١) والإجماع دليل قاطع ، وما ذكرتموه تمسّك بالعموم ، وهو دليل مظنون والقاطع أولى من المظنون.

وأجاب نفاة القياس بأن كون الإجماع حجّة قاطعة إنّما ثبت بعمومات القرآن والسّنّة ، والفرع لا يكون أقوى من الأصل ، وأجيبوا بأنّ الآيات والأحاديث لما تعاضدت قويت.

قوله : (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي : لا تتّخذوا غيره أولياء تطيعونهم في معصية الله.

قوله : «من دونه» يجوز أن يتعلق بالفعل قبله ، والمعنى : لا تعدلوا عنه إلى غيره من الشّياطين والكهّان.

والثاني : أن يتعلق بمحذوف ؛ لأنه كان في الأصل صفة ل «أولياء» فلمّا تقدّم نصب

__________________

ـ وذهب ابن سريج إلى الجواز إن كان القياس جليا وهو ما كان الجامع فيه وصفا مناسبا للحكم لا أنه كان خفيا وهو قياس الشبه كقياس طهارة الخبث على طهارة الحدث في تعين الماء للطهارة بجامع أن كلّا طهارة تراد للصلاة فإن هذه العلة غير مناسبة للحكم بذاتها إلا أنه يتوهم فيها المناسبة لأن الشارع رتب عليها تعين الماء في الطهارة الحدثية وقيل الجلي ما قطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع كقياس الأمة على العبد في تقويم البعض على معتق بعضه الآخر ليعتق الكل أو ما كان تأثير الفارق فيه ضعيفا كقياسهم العمياء على العوراء في عدم الإجزاء في الضحية بجامع النقص. والخفي ما كان تأثير الفارق فيه قويا كقياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد.

وقيل يجوز إن كان أصله وهو المقيس عليه مخرجا من ذلك العام بنص وقيل يجوز إن كان المقيس عليه مخرجا من العام أو ثبتت علة القياس بنص أو إجماع وإلا اعتبرت القرائن فإن ظهر ما يرجح القياس خصص العام ولا عمل به وألغي القياس وهو مختار ابن الحاجب.

وذهب الإمام حجة الإسلام الغزالي إلى أنه إن تفاوت القياس والعام في غلبة الظن رجح الأقوى فإن تعادلا فالوقف.

وذهب القاضي أبو بكر وإمام الحرمين إلى الوقف.

والحاصل من جملة هذه المذاهب أنها راجعة إلى القول : بالجواز مطلقا وعدمه مطلقا وإلى التفصيل والوقف.

(١) ينظر الكلام في مباحث القياس للدكتور علي عبد التواب ، وينظر المستصفى ٢ / ٢٤٤ ، والأحكام للآمدي ٣ / ٨٢ ، وأعلام الموقعين ١ / ٢٤٤ ـ ٢٥٨ ، والتقرير ٣ / ٢٤٦ ، ونبراس العقول ص ٩٦ ، وإرشاد الفحول ص ١٧٨ ، والمختصر ٢ / ٢٥١ ، والمسلم ٢ / ٣١٤.

١١

حالا ، وإليه يميل تفسير الزّمخشريّ ، فإنّه قال : «أي لا تتولّوا من دونه من شياطين الإنس والجن ؛ فيحملوكم على الأهواء والبدع». والضّمير في «دونه» يعود على «ربّكم» ولذلك قال الزّمخشريّ (١)(مِنْ دُونِ اللهِ) ، ويجوز أن يعود على «ما» الموصولة ، وأن يعود على الكتاب المنزّل ، والمعنى : لا تعدلوا عنه إلى الكتب المنسوخة.

وقرأ الجحدريّ (٢) : «ابتغوا» بالغين المعجمة من الابتغاء. ومالك بن دينار ومجاهد : «ولا تبتغوا» من الابتغاء أيضا من قوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) [آل عمران : ٨٥].

قوله : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) قد تقدّم نظيره في قوله : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٨٨] وهو أنّ «قليلا» نعت مصدر محذوف أي : تذكّرا قليلا تذكرون ، أو نعت ظرف زمان محذوف أيضا أي : زمانا قليلا تذكّرون ، فالمصدر أو الظّرف منصوب بالفعل بعده ، و «ما» مزيدة للتّوكيد ، وهذا إعراب جليّ.

وقد أجاز الحوفيّ (٣) أن تكون نعت مصدر محذوف لقوله : (وَلا تَتَّبِعُوا) أي : ولا تتّبعوا من دونه أولياء اتّباعا قليلا ، وهو ضعيف ؛ لأنه يصير مفهومه أنّهم غير منهيّين عن اتّباع الكثير ، ولكنّه معلوم من جهة المعنى ، فلا مفهوم له.

وحكى ابن عطيّة (٤) عن أبي عليّ أنّ «ما» مصدرية موصولة بالفعل بعدها ، واقتصر على هذا القدر ، ولا بدّ له من تتمّة ، فقال بعض الناس : ويكون «قليلا» نعت زمان محذوف ، وذلك الزّمان المحذوف في محلّ رفع خبر مقدّما و «ما» المصدريّة ، وما بعدها بتأويل مصدر مبتدأ مؤخرا ، والتّقدير : زمنا قليلا تذكّركم أي : أنّهم لا يقع تذكرهم إلّا في بعض الأحيان ونظيره: «زمنا قليلا قيامك».

وقد قيل : إنّ «ما» هذه نافية ، وهو بعيد ؛ لأن «ما» لا يعمل ما بعدها فيما قبلها عند البصريين ، وعلى تقدير تسليم ذلك فيصير المعنى : ما تذكرون قليلا ، وليس بطائل ، وهذا كما سيأتي في قوله تعالى : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) [الذاريات : ١٧] عند من جعلها نافية.

وهناك وجه لا يمكن أن يأتي ههنا وهو أن تكون «ما» مصدريّة ، وهي وما بعدها في محل رفع بالفاعلية ب «قليلا» الذي هو خبر كان ، والتقدير : كانوا قليلا هجوعهم ، وأمّا هنا فلا يمكن ذلك لعدم صحّة نصب «قليلا» بقوله : «ولا تتّبعوا» حتى يجعل «ما تذكّرون» مرفوعا به. ولا يجوز أن يكون «قليلا» حالا من فاعل «تتّبعوا» و «ما تذكّرون» مرفوعا

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٨٦.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٧٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٦٨ ، والدر المصون ٣ / ٢٣١.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٣١.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٧٣.

١٢

به ، إذ يصير المعنى : أنّهم نهوا عن الاتّباع في حال قلّة تذكرهم ، وليس ذلك بمراد.

وقرأ ابن عامر (١) : «قليلا ما تذكّرون» بالياء تارة والتّاء أخرى ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بتاء واحدة وتخفيف الذال ، والباقون بتاء وتشديد الذّال.

قال الواحديّ (٢) : «تذكّرون» أصله «تتذكّرون» فأدغمت تاء تفعل في الذّال ؛ لأنّ التّاء مهموسة والذّال مجهورة ، والمجهور أزيد صوتا من المهموس ، فحسن إدغام الأنقص في الأزيد ، و «ما» موصولة بالفعل ، وهي معه بمنزلة المصدر فالمعنى : قليلا تذكّركم.

وأمّا قراءة ابن عامر «يتذكّرون» بياء وتاء فوجهها أنّ هذا خطاب للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : قليلا ما يتذكرون هؤلاء الّذين ذكّروا بهذا الخطاب.

وأمّا قراءة الأخوين ، وحفص خفيفة الذّال شديدة الكاف ، فقد حذفوا التي أدغمها الأوّلون ، وتقدّم الكلام على ذلك في الأنعام (٣).

قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (٤)

لمّا أمر الرّسول بالإنذار والتّبليغ وأمر القوم بالقبول والمتابعة ذكر في هذه الآية ما في ترك المتابعة والإعراض عنها من الوعيد.

وفي «كم» وجهان :

أحدهما : أنّها في موضع رفع بالابتداء ، والخبر الجملة بعدها ، و «من قرية» تمييز ، والضمير في «أهلكناها» عائد على معنى «كم» ، وهي هنا خبرية للتّكثير ، والتّقدير : وكثير من القرى أهلكناها.

قال الزّجّاج : و «كم» في موضع رفع بالابتداء أحسن من أن تكون في موضع نصب ؛ لأن قولك : «زيد ضربته» أجود من قولك : «زيدا ضربته» بالنّصب ، والنّصب جيّد عربيّ أيضا لقوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر : ٤٩] ، ونقل أبو البقاء (٤) عن بعضهم أنه جعل «أهلكناها» صفة ل «قرية» ، والخبر قوله : «فجاءها بأسنا» قال : وهو سهو ؛ لأن «الفاء» تمنع من ذلك.

قال شهاب الدّين (٥) : ولو ادّعى مدّع زيادتها على مذهب الأخفش لم تقبل دعواه ؛ لأن الأخفش إنّما يزيدها عند الاحتياج إلى زيادتها.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٧٨ ، والحجة ٤ / ٥ ، وفيه : وقرأ ابن عامر : «قليلا ما يتذكرون» بياء وتاء ، وقد روي عنه بتاءين ، وينظر : حجة القراءات ٢٧٩ ، وإعراب القراءات ١ / ١٧٦ ، والعنوان ٩٥ ، وشرح شعلة ٣٨٦ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٩٠ ، وإتحاف ٢ / ٤٤.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٤ / ١٧.

(٣) ينظر : تفسير سورة الأنعام آية (١٥٢).

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٦٨.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٣٢.

١٣

الثاني : أنّها في موضع نصب على الاشتغال بإضمار فعل يفسّره ما بعده ، ويقدّر الفعل متأخّرا عن «كم» ؛ لأن لها صدر الكلام ، والتّقدير : وكم من قرية أهلكناها [أهلكناها] ، وإنّما كان لها صدر الكلام لوجهين :

أحدهما : مضارعتها ل «كم» الاستفهامية.

والثاني : أنّها نقيضة «ربّ» ؛ لأنّها للتكثير و «ربّ» للتّقليل فحمل النقيض على نقيضه كما يحملون النظير على نظيره ، ولا بد من حذف مضاف في الكلام لقوله تعالى : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) فاضطررنا إلى تقدير محذوف ؛ لأن البأس لا يليق بالأهل ، ولقوله : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) فعاد الضمير إلى أهل القرية ، وأيضا فلأن التّحذير لا يقع إلّا للمكلّفين ، وأيضا والقائلة لا تليق إلّا بالأهل.

ثم منهم من قدّره قبل قرية أي : كم من أهل قرية ، ومنهم من قدّره قبل «ها» في أهلكناها أي : أهلكنا أهلها ، وهذا ليس بشيء ؛ لأن التّقادير إنّما تكون لأجل الحاجة ، والحاجة لا تدعو إلى تقدير هذا المضاف في هذين الموضعين المذكورين ؛ لأن إهلاك القرية يمكن أن يقع عليها نفسها ، فإن القرى قد تهلك بالخسف والهدم والحريق والغرق ونحوه ، وإنما يحتاج إلى ذلك عند قوله : «فجاءها» لأجل عود الضّمير من قوله : «هم قائلون» عليه ، فيقدّر : وكم من قرية أهلكناها فجاء أهلها بأسنا.

قال الزّمخشريّ (١) : فإن قلت : هل يقدّر المضاف الذي هو الأهل قبل القرية ، أو قبل الضّمير في «أهلكناها».

قلت : إنّما يقدّر المضاف للحاجة ، ولا حاجة فإن القرية تهلك ، كما يهلك أهلها وإنّما قدّرناه قبل الضمير في «فجاءها» لقوله : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) وظاهر الآية : أنّ مجيء البأس بعد الإهلاك وعقيبه ؛ لأنّ الفاء تعطي ذلك لكن الواقع إنما هو مجيء البأس ، وبعده يقع الإهلاك.

فمن النّحاة من قال : الفاء تأتي بمعنى «الواو» فلا ترتب ، وجعل من ذلك هذه الآية ، وهو ضعيف ، والجمهور أجابوا عن ذلك بوجهين :

أحدهما : أنّه على حذف الإرادة أي : أردنا إهلاكها كقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة : ٦] ، (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) [النحل : ٩٨] ، «إذا دخل أحدكم الخلاء فليسم [الله]» (٢) ، وقيل : حكمنا بهلاكها.

الثاني : أنّ معنى «أهلكناها» أي : خذلناهم ولم نوفقهم فنشأ عن ذلك هلاكهم ، فعبر بالمسبّب عن سببه وهو باب واسع. وثمّ أجوبة ضعيفة ؛ منها : أنّ الفاء هاهنا تفسيرية نحو : «توضّأ فغسل وجهه ثم يديه» فليست للتعقيب ومنها أنّها للتّرتيب في القول فقط كما

__________________

(١) ينظر : الكشاف للزمخشري ٢ / ٨٧.

(٢) سقط من أ.

١٤

أخبر عن قرى كثيرة أنّها أهلكها [ثم] قال : فكان من أمرها مجيء البأس ومنها ما قاله الفرّاء (١) ، وهو : أن الإهلاك هو مجيء البأس ، ومجيء البأس هو الإهلاك ، فلما كانا متلازمين لم يبال بأيّهما قدّمت في الرتبة ، كقولك : «شتمني فأساء» ، وأساء فشتمني ، فالإساءة والشّتم شيء واحد ، فهذه ستّة أقوال.

واعلم أنّه إذا حذف مضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه جاز لك اعتباران :

أحدهما : الالتفات إلى ذلك المحذوف.

والثاني ـ وهو الأكثر ـ : عدم الالتفات إليه ، وقد جمع الأمران هنا ، فإنّه لم يراع المحذوف في قوله : «أهلكناها فجاءها» وراعاه في قوله : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) ، هذا إذا قدّرنا الحذف قبل «قرية» ، أمّا إذا قدّرنا الحذف قبل ضمير «فجاءها» فإنّه لم يراع إلّا المحذوف فقط وهو غير الأكثر.

قوله : «بياتا» فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : [أنّه] منصوب على الحال وهو في الأصل مصدر ، يقال : بات يبيت بيتا وبيتة وبياتا وبيتوتة.

قال اللّيث : «البيتوتة» : «دخولك في اللّيل» فقوله : «بياتا» أي : بائتين وجوّزوا أن يكون مفعولا له ، وأن يكون في حكم الظّرف.

وقال الواحديّ : قوله : «بياتا» أي : ليلا وظاهر هذه العبارة أن تكون ظرفا ، لو لا أن يقال : أراد تفسير المعنى.

قال الفرّاء (٢) : يقال : بات الرّجل يبيت بيتا ، وربّما قالوا : بياتا ، وقالوا : سمّي البيت بيتا ؛ لأنّه يبات فيه.

قوله : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) هذه الجملة في محلّ نصب نسقا على الحال ، و «أو» هنا للتّنويع لا لشيء آخر كأنّه قيل : آتاه بأسنا تارة ليلا كقوم لوط ، وتارة وقت القيلولة كقوم شعيب. وهل يحتاج إلى تقدير واو حال قبل هذه الجملة أم لا؟ خلاف بين النّحويّين.

قال الزمخشريّ (٣) : «فإن قلت : لا يقال : جاء زيد هو فارس» بغير واو فما بال قوله تعالى (أَوْ هُمْ قائِلُونَ)؟

قلت : قدّر بعض النّحويين الواو محذوفة ، وردّه الزّجّاج (٤) وقال : لو قلت : جاءني زيد راجلا ، أو هو فارس ، أو جاءني زيد هو فارس لم يحتج إلى «واو» ؛ لأن الذّكر قد عاد على الأوّل. والصّحيح أنّها إذا عطفت على حال قبلها حذفت الواو استثقالا ؛ لاجتماع حرفي

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٣٧١.

(٢) ينظر : الرازي ١٤ / ١٨.

(٣) ينظر : الكشاف للزمخشري ٢ / ٨٧.

(٤) ينظر : الزجاج ٢ / ٣٤٩.

١٥

عطف ؛ لأن واو الحال [هي] واو العطف استعيرت للوصل ، فقولك : «جاء زيد راجلا أو هو فارس» كلام فصيح وارد على حدّه ، وأمّا «جاءني زيد هو فارس» فخبيث.

قال أبو حيّان : أما [بعض النّحويين الذي أبهمه] الزمخشريّ فهو الفرّاء ، وأما قول الزّجّاج : كلا التمثيلين لم يحتج فيه إلى الواو ؛ لأن الذّكر قد عاد على الأوّل ففيه إبهام وتعيينه أنّه يمتنع دخولها في المثال الأوّل [ويجوز في المثال] الثاني ؛ فليس انتفاء الاحتياج على حدّ سواء ؛ لأنّه في الأوّل لامتناع الدّخول ، وفي الثاني لكثرته لا لامتناعه.

قال شهاب الدّين (١) : أمّا امتناعها في المثال الأوّل ؛ فلأن النّحويين نصّوا على أنّ الجملة الحاليّة إذا دخل عليها حرف عطف امتنع دخول واو الحال عليها ، والعلّة فيه المشابهة اللّفظيّة ؛ ولأن واو الحال في الأصل عاطفة ، ثم قال أبو حيّان (٢) : وأمّا قول الزمخشريّ فالصّحيح إلى آخره ، فتعليله ليس بصحيح ؛ لأنّ واو الحال ليست بحرف عطف فيلزم من ذكرها اجتماع حرفي عطف ؛ لأنّها لو كانت حرف عطف للزم أن يكون ما قبلها حالا ، حتى يعطف حالا على حال ، فمجيئها فيما لا يمكن أن يكون حالا دليل على أنّها ليست واو عطف ، ولا لحظ فيها معنى واو عطف تقول : «جاء زيد ، والشمس طالعة» فجاء زيد ليس بحال فيعطف عليها جملة حال ، وإنّما هذه الواو مغايرة لواو العطف بكل حال ، وهي قسم من أقسام الواو كما تأتي للقسم ، وليست فيه للعطف كما إذا قلت : «والله ليخرجنّ».

قال شهاب الدّين (٣) : أبو القاسم لم يدّع في واو الحال أنّها عاطفة ، بل يدّعي أنّ أصلها العطف ، ويدلّ على ذلك قوله : استعيرت للوصل ، فلو كانت عاطفة على حالها لما قال : استعيرت فدلّ قوله ذلك على أنّها خرجت عن العطف ، واستعملت لمعنى آخر لكنها أعطيت حكم أصلها في امتناع مجامعتها لعاطف آخر.

وأمّا تسميتها حرف عطف ، فباعتبار أصلها ونظير ذلك أيضا واو «مع» فإنّهم نصّوا على أنّ أصلها واو عطف ، ثمّ استعملت في المعيّة ، فكذلك واو الحال ، لامتناع أن يكون أصلها واو العطف.

ثم قال أبو حيّان (٤) : «وأمّا قوله «فخبيث» فليس بخبيث ؛ وذلك أنّه بناه على أنّ الجملة الحاليّة إذا كانت اسميّة ، وفيها ضمير ذي الحال فحذف الواو منها [شاذّ] وتبع في ذلك الفرّاء ، وليس بشاذّ بل هو كثير في النّظم والنّثر.

قال شهاب الدّين (٥) : قد سبق أبا القاسم في تسمية هذه الواو حرف عطف الفرّاء (٦) ، وأبو بكر بن الأنباريّ.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٣٤.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٦٩.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٣٤.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٦٩.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٣٤.

(٦) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٣٧٢.

١٦

قال الفرّاء : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) فيه واو مضمرة ، المعنى : أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون فاستثقلوا نسقا على أثر نسق ، ولو قيل لكان صوابا.

قلت : قد تقدّم أنّ الشّيخ نقل أنّ الواو ممتنعة في هذا المثال ، ولم يحك خلافا ، وهذا قول الفرّاء : «ولو قيل لكان صوابا» مصرّح بالخلاف له.

وقال أبو بكر : أضمرت واو الحال لوضوح معناها كما تقول العرب : «لقيت عبد الله مسرعا ، أو هو يركض» فيحذفون الواو لأمنهم اللّبس ، لأن الذّكر قد عاد على صاحب الحال ، ومن أجل أنّ «أو» حرف عطف والواو كذلك ، فاستثقلوا جمعا بين حرفين من حروف العطف ، فحذفوا الثّاني.

قال شهاب الدّين (١) : فهذا تصريح من هذين الإمامين بما ذكره أبو القاسم ، وإنما ذكرت نص هذين الإمامين ؛ لأعلم اطلاعه على أقوال النّاس ، وأنّه لا يأتي بغير مصطلح أهل العلم كما يرميه به غير مرّة.

و «قائلون» من القيلولة. يقال : قال يقيل [قيلولة] فهو قائل ك «بائع» والقيلولة : الرّاحة والدعة في الحرّ وسط النهار ، وإن لم يكن معها نوم.

وقال اللّيث : هي نومة نصف النّهار.

قال الأزهريّ (٢) : «القيلولة : الرّاحة ، وإن لم يكن فيها نوم بدليل قوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) [الفرقان : ٢٤] ، والجنّة لا نوم فيها».

قال شهاب الدّين (٣) : «ولا دليل فيما ذكر ؛ لأن المقيل هنا خرج عن موضوعه الأصليّ إلى مجرّد الإقامة بدليل أنّه لا يراد أيضا الاستراحة في نصف النّهار في الحر فقد خرج عن موضوعه عندنا وعندكم إلى ما ذكرنا ، والقيلولة مصدر ومثلها : القائلة والقيل والمقيل».

فصل في المراد بالآية

معنى الآية (٤) أنهم جاءهم بأسنا ، وهم غير متوقّعين له ، إمّا ليلا وهم نائمون ، أو نهارا وهم قائلون ، والمراد أنّهم جاءهم العذاب على حين غفلة منهم ، من غير تقدّم أمارة تدلّهم على نزول ذلك العذاب مكانه ، قيل للكفّار : لا تغتروا بأسباب الأمن والرّاحة ، فإنّ عذاب الله إذا وقع وقع دفعة من غير سبق أمارة.

قوله تعالى : (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ)(٥)

قوله تعالى : (فَما كانَ دَعْواهُمْ) جوّزوا في «دعواهم» وجهين :

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٣٤.

(٢) ينظر : تهذيب اللغة ٩ / ٣٠٥.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٣٤.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٩.

١٧

أحدهما : أن يكون اسما ل «كان» ، و «إلّا أن قالوا» خبرها ، وفيه خدش من حيث إنّ غير الأعرف جعل اسما والأعرف جعل خبرا ، وقد تقدّم ذلك في أوّل الأنعام عند (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) [الأنعام : ٢٣].

والثاني : أن يكون «دعواهم» خبرا مقدما و «إلّا أن قالوا» اسما مؤخرا كقوله : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا) [النمل : ٥٦] (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ) [الحشر: ١٧] ، و (ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) [الجاثية : ٢٥] ذكر ذلك الزّمخشريّ (١) ومكيّ بن أبي طالب ، وسبقهما إلى ذلك الفرّاء (٢) والزّجّاج (٣) ، ولكن ذلك يشكل من قاعدة أخرى ذكرها النّحاة ، وهو أنّ الاسم والخبر في هذا الباب متى خفي إعرابهما ؛ وجب تقديم الاسم ، وتأخير الخبر نحو : كان موسى صاحبي ، وما كان دعائي إلّا أن استغفرت ، قالوا : لأنّهما كالمفعول والفاعل فمتى خفي الإعراب التزم كل في مرتبته ، وهذه الآية مما نحن فيه فكيف يدّعى فيها ذلك ، بل كيف يختاره الزّجّاج؟ وقد رأيت كلام الزّجّاج هنا فيمكن أن يؤخذ منه جواب عن هذا المكان ، وذلك أنه قال : «إلّا أنّ الاختيار إذا كانت «الدّعوى» في موضع رفع أن يقول : فما كانت دعواهم ، فلمّا قال : «كان دعواهم» دلّ على أن «الدّعوى» في موضع نصب ، غير أنه يجوز تذكير الدعوى وإن كانت رفعا ، فمن هنا يقال : تذكير الفعل فيه قرينة مرجّحة لإسناد الفعل إلى «أن قالوا» ، ولو كان مسندا للدّعوى لكان الأرجح «كانت» كما قال ، وهو قريب من قولك : «ضربت موسى سلمى» فقدمت المفعول بقرينة تأنيث الفعل ، وأيضا فإنّ ثمّ قرينة أخرى ، وهي كون الأعرف أحقّ أن يكون اسما من غير الأعرف».

والدّعوى تكون بمعنى الدّعاء ، وبمعنى الادّعاء ، والمقصود بها ههنا يحتمل الأمرين جميعا ، ويحتمل أيضا أن تكون بمعنى الاعتراف ، فمن مجيئها بمعنى الدّعاء ما حكاه الخليل : «اللهمّ أشركنا في صالح دعوى المسلمين» يريد في صالح دعائهم ؛ وأنشدوا : [الطويل]

٢٤٠٢ ـ وإن مذلت رجلي دعوتك أشتفي

بدعواك من مذل بها فتهون (٤)

ومنه قوله تعالى : (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) [الأنبياء : ١٥] وقال الزّمخشريّ : [ويجوز] : فما كان استغاثتهم إلا قولهم هذا ؛ لأنه لا يستغاث من الله تعالى بغيره ، من قولهم : دعواهم يا لكعب.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٨.

(٢) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٧٢.

(٣) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٢ / ٣٥١.

(٤) البيت لكثير عزة ينظر ديوانه ١٧٦ ، اللسان : مذل ، التهذيب ١٤ / ٤٣٥ ، (مذل) ، الطبري ١٢ / ٣٠٤ ، الدر المصون ٣ / ٢٣٥.

١٨

وقال ابن عطيّة (١) : وتحتمل الآية أن يكون المعنى : فما آلت دعاويهم التي كانت في حال كفرهم إلا إلى الاعتراف ؛ كقول الشاعر : [الطويل]

٢٤٠٣ ـ وقد شهدت قيس فما كان نصرها

قتيبة إلّا عضّها بالأباهم (٢)

و «إذ» منصوب ب «دعواهم».

وقوله : (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) «كنّا» وخبرها في محل رفع خبر ل «إنّ» ، و «إنّ» وما في حيزها (٣) في محل نصب محكيا ب «قالوا» ، و «قالوا» وما في حيزه لا محل له لوقوعه صلة ل «إنّ» ، و «أنّ» وما في حيزها (٣) في محلّ رفع ، أو نصب على حسب ما تقدّم من كونها اسما ، أو خبرا.

ومعنى الآية : أنّهم لم يقدروا على ردّ العذاب ، وكان حاصل أمرهم الاعتراف بالخيانة حين لا ينفع الاعتراف.

قوله تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)(٦)

القائم مقام الفاعل الجار والمجرور وفي كيفيّة النظم وجهان (٤) :

الأول : أنه تعالى لمّا أمر الرّسول أولا بالتبليغ ثم أمر الأمة بالقبول ، والمتابعة ، وذكر التّهديد على ترك القبول والمتابعة ، بذكر نزول العذاب في الدّنيا ـ أتبعه بنوع آخر من التّهديد وهو أنه تعالى يسأل الكل عن كيفية أعمالهم يوم القيامة.

الثاني : أنه تعالى لما قال : (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أتبعه أنه لا يقتصر على الاعتراف منهم يوم القيامة ، بل ينضاف إليه أنّه تعالى يسأل الكلّ عن كيفيّة أعمالهم ، وبين أن هذا السؤال لا يختصّ بأهل العقاب ، بل هو عامّ بأهل العقاب والثّواب ، ونظيره قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢ ، ٩٣].

فإن قيل : المقصود من السّؤال أن يخبر المسئول عن كيفية أعمالهم ، وقد أخبر عنهم أنهم يقرون بأنهم كانوا ظالمين فما فائدة السّؤال بعده؟ وأيضا قال تعالى بعد هذه الآية : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) [الأعراف : ٧] فإذا كان يقصّه عليهم بعلم فما معنى هذا السؤال؟

فالجواب : أنّهم لمّا أقرّوا بأنّهم كانوا ظالمين مقصّرين سألوا بعد ذلك عن سبب الظّلم ، والتّقصير ، والمقصود منه التّقريع والتّوبيخ.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٧٤.

(٢) البيت للفرزدق ينظر : ديوانه ٢ / ٣١١ ، المقتضب ٤ / ٩٠ ، اللسان (بهم) ، البحر المحيط ٤ / ٢٨٠ ، الدر المصون ٣ / ٢٣٥ ، المحرر الوجيز ٢ / ٣٧٤.

(٣) في أ : خبرها.

(٣) في أ : خبرها.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٩ ـ ٢٠.

١٩

فإن قيل ما الفائدة في سؤال الرّسل مع العلم بأنه لم يصدر عنهم تقصير ألبتة؟

فالجواب : لأنهم إذا اثبتوا أنه لم يصدر عنهم تقصير ألبتّة التحق التّقصير كله بالأمّة ، فيتضاعف إكرام الله تعالى للرّسل لظهور براءتهم عن جميع موجبات التّقصير ، ويتضاعف الخزي والإهانة في حقّ الكفّار ، ولما ثبت أنّ ذلك التّقصير كان منهم.

قوله تعالى : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ)(٧)

والمعنى : أنّه بيّن للقوم ما أسرّوه ، وما أعلنوه من أعمالهم ، وبيّن الوجوه التي لأجلها أقدموا على تلك الأعمال.

وقوله : «بعلم» في موضع [الحال] من الفاعل ، و «الباء» للمصاحبة أي : لنقصن على الرّسل والمرسل إليهم حال كوننا متلبسين بالعلم. ثم أكّد هذا المعنى بقوله : (وَما كُنَّا غائِبِينَ) أي : ما غاب عن علمه شيء من أعمالهم ، وذلك يدلّ على أنّ الإله لا يكمل إلا إذا كان عالما بجميع الجزئيّات حتى يمكنه أن يميز المطيع عن العاصي والمحسن عن المسيء.

فإن قيل : كيف الجمع بين قوله (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) وبين قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٣٩] وقوله : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [القصص : ٧٨] فالجواب من وجوه :

أحدها : أنّ القوم لا يسألون عن الأعمال ؛ لأنّ الكتب مشتملة عليها ولكنهم يسألون عن الدّواعي التي دعتهم إلى الأعمال ، وعن الصّوارف التي صرفتهم.

وثانيها : أنّ السّؤال قد يكون لأجل الاسترشاد والاستفادة وقد يكون لأجل التّوبيخ كقول القائل : «ألم أعطك» وقوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ) [يس : ٦٠] وقول الشاعر : [الوافر]

٢٤٠٤ ـ ألستم خير من ركب المطايا

 .......... (١)

فإذا عرف هذا فنقول : إنّ الله عزوجل لا يسأل أحدا لأجل الاستفادة والاسترشاد ، ويسألهم لأجل توبيخ الكفّار وإهانتهم ، ونظيره قوله تعالى : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) ثم قال : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١].

فإن الآية الأولى تدلّ على أنّ المسألة الحاصلة بينهم إنّما كانت على سبيل أنّ بعضهم يلوم بعضا لقوله : «وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون» ، وقوله : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١] ، معناه : أنّه لا يسأل بعضهم بعضا على سبيل الشّفقة واللّطف ؛ لأن النّسب يوجب الميل والرّحمة والإكرام.

__________________

(١) تقدم.

٢٠