اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

الغانمين وكذلك لمن بعده من الأئمة ، حكاه الماورديّ عن كثير من أصحاب مالك ، واحتجوا بفتح مكّة وقصّة حنين ، وكان أبو عبيد يقول : افتتح رسول الله مكّة عنوة ومنّ على أهلها ، فردها عليهم ، ولم يقسمها ، ولم يجعلها فيئا».

فصل

أجمع العلماء على أن قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) ليس على عمومه ، وأنّه مخصوص باتفاقهم على أنّ سلب المقتول لقاتله إذا نادى به الإمام ، وكذلك الأسارى الإمام فيهم مخيّر ، وكذلك الأراضي المغنومة.

فصل

قال الإمام أحمد : لا يكون السّلب (١)(٢) للقاتل إلّا في المبارزة خاصّة ، ولا يخمس وهو قول الشافعيّ ـ رضي الله عنه ـ ، ولا يعطى القاتل السّلب ، إلّا أن يقيم البيّنة على قتله.

قال أكثر العلماء : يجوز شاهد واحد ؛ لحديث أبي قتادة ، وقيل : شاهدان.

وقيل : شاهد ويمين ، وقيل : يقضى بمجرد دعواه.

قوله : (وَلِذِي الْقُرْبى) أي : أنّ سهما من خمس الخمس لذوي القربى ، وهم أقارب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واختلفوا فيهم.

فقال قوم : هم جميع قريش ، وقال قوم : هم الذين لا تحل لهم الصّدقة.

وقال مجاهد وعلي بن الحسين : هم بنو هاشم وبنو المطلب ، وليس لبني عبد شمس ، ولا لبني نوفل منه شيء ، وإن كانوا إخوة ، لما روي عن جبير بن مطعم قال : قسّم رسول الله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب ولم يعط أحدا من بني عبد شمس ، ولا لبني نوفل ؛ ولما روى محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : لمّا قسم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب أتيته أنا ، وعثمان بن عفان ، فقلنا يا رسول الله : هؤلاء إخواننا من بني المطّلب أعطيتهم وتركتنا أو منعتنا ، وإنّما قرابتنا وقرابتهم واحدة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا» وشبّك بين أصابعه (٣).

__________________

(١) السّلب هو ثياب القتيل وآلات حربه كالسيف ، والرمح ، والدرع والدّابة التي يركبها والتي تكون بجانبه ، وما معه من حلي ومال على خلاف لبعض الفقهاء في بعض ما ذكر.

(٢) اختلف الفقهاء في أنّ السلب حق للقاتل أو حقّ للإمام إن شاء وعد بالتنفيل به وإن شاء وضعه في الغنيمة على مذاهب متعددة.

(٣) أخرجه البخاري (٦ / ٢٨١) كتاب الخمس : باب الدليل على أن الخمس للإمام ..... حديث (٣١٤٠) وأحمد (٨١١٤ ، ٨٣ ، ٨٥) والشافعي (١١٦٠) وأبو داود (٢٩٧٨ ـ ٢٩٨٠) والنسائي (٢ / ١٧٨) وابن ماجه (٢٨٨١) وأبو عبيد في «الأموال» (٨٤٢) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢ / ١٦٦) والبيهقي (٦ / ٣٤١) والطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٥٢) من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن جبير بن مطعم.

٥٢١

واختلف العلماء في سهم ذوي القربى ، هل هو ثابت اليوم؟ فذهب أكثرهم إلى أنّه ثابت وهو قول مالك والشافعي ، وذهب أصحاب الرّأي إلى أنّه غير ثابت ، وقالوا سهم رسول الله وسهم ذوي القربى مردودان في الخمس ، فيقسم خمس الغنيمة لثلاثة أصناف اليتامى والمساكين وابن السبيل.

وقال بعضهم : يعطى للفقراء منهم دون الأغنياء ، أي : يعطى لفقره لا لقرابته ، والكتاب والسنة يدلّان على ثبوته وكذا الخلفاء بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يعطونه ، ولا يفضل فقير على غني ؛ لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخلفاء بعده كانوا يعطون العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله ، وألحقه الشافعي بالميراث الذي يستحق باسم القرابة ، غير أنه يعطى القريب والبعيد.

وقال : يفضل الذكر على الأنثى فيعطى الرجل سهمين ، والأنثى سهما.

قال القرطبي (١) : «ليست اللّام في «لذي القربى» لبيان الاستحقاق والملك ، وإنّما هي للمصرف والمحل».

قوله : (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) اليتامى : جمع «يتيم» وهو الصغير المسلم الذي لا أب له إذا كان فقيرا ، و «المساكين» هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين ، و (ابْنِ السَّبِيلِ) هو المسافر البعيد عن ماله ، فهذا مصرف خمس الغنيمة ويقسم أربعة أخماس الغنيمة بين الغانمين الذين شهدوا الوقعة ، للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه ، وللرّاجل سهم ؛ لما روى ابن عمر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لفرسه» (٢).

وهذا قول أكثر أهل العلم ، وإليه ذهب الثوريّ ، والأوزاعيّ وابن المبارك والشافعيّ وأحمد وإسحاق.

وقال أبو حنيفة : للفارس سهمان وللرّاجل سهم ، ويرضخ للعبيد ، والنسوان ، والصبيان إذا حضروا القتال.

قال القرطبيّ : «إذا خرج العبد ، وأهل الذّمة وأخذوا مال أهل الحرب فهو لهم ولا يخمس» لأنه لم يوجب عليهم خيل ولا ركاب.

ويقسم العقار الذي استولى عليه المسلمون كالمنقول ، وعند أبي حنيفة يتخيّر الإمام

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٨ / ٩.

(٢) أخرجه أحمد (٢ / ٢ ، ٤١) وأبو داود (٢٧٣٣) والدارمي (٢ / ٢٢٥) وابن ماجه (٢٨٥٤) وابن الجارود (١٠٨٤) والبيهقي (٦ / ٣٢٥) من حديث ابن عمر.

وأخرجه البخاري أيضا عن ابن عمر (٢ / ٢١٦) بلفظ : أسهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للفرس سهمين ولصاحبه سهما.

٥٢٢

في العقار بين أن يقسمه بينهم وبين أن يجعله وقفا على المصالح.

وظاهر الآية لا يفرق بين العقار والمنقول ، ومن قتل مشركا استحقّ سلبه من رأس الغنيمة لما روي عن أبي قتادة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قتل قتيلا له عليه بيّنة فله سلبه» (١).

والسّلب : كل ما يكون على المقتول من ملبوس وسلاح وفرسه الذي يركبه.

ويجوز للإمام أن ينفل (٢) بعض الجيش من الغنيمة لزيادة عناء وبلاء يكون منهم في الحرب يخصّهم به من بين سائر الجيش ، ويجعلهم أسوة الجماعة في سائر الغنيمة ، لما روى ابن عمر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان ينفّل بعض من يبعث من السّرايا لأنفسهم خاصة سوى عامة الجيش» (٣).

وروى حبيب بن مسلمة الفهري قال : شهدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نفّل الرّبع في البدأة والثّلث في الرّجعة» (٤).

واختلف في النفل من أين يعطى؟.

فقال قوم : يعطى من خمس الخمس من سهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قول سعيد بن المسيب وبه قال الشافعي ، وهذا معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما لي ممّا أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم» (٥).

__________________

(١) أخرجه مالك (٢ / ٤٥٤ ـ ٤٥٥) كتاب الجهاد : باب ما جاء في السلب في النفل حديث (١٨) والبخاري (٦ / ٢٤٧) كتاب فرض الخمس : باب من لم يخمس الأسلاب حديث (٣١٤٢) ومسلم (٣ / ١٣٧٠) كتاب الجهاد والسير : باب استحقاق القاتل سلب القتيل حديث (٤١ / ١٧٥١) وأبو داود (٢٧١٧) وابن ماجه (٢ / ٩٤٦) كتاب الجهاد : باب المبارزة والسلب حديث (٢٨٣٧) وأحمد (٥ / ٢٩٥ ، ٢٦٠) من حديث أبي قتادة.

(٢) هو بالتحريك مأخوذ من النفل بالسكون معناه الزيادة.

وشرعا : زيادة على سهم الغنيمة يمنحها الإمام لبعض الغزاة وهي قد تكون جزاء على أثر محمود قام به الغازي كمبارزة ، وحسن إقدام ، وهذا يسمّى إنعاما ومكافأة ، وقد يكون عدة من الأمير لمن يفعل ما فيه زيادة مكايدة للكفار كالتقدم على طليعة ، والتهجم على قلعة وهذا يسمى جعالة.

(٣) أخرجه البخاري (٦ / ٢٣٧) كتاب فرض الخمس : باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين حديث (٣١٣٤) ومسلم (٣ / ١٣٦٨) كتاب الجهاد والسير : باب الأنفال حديث (٣٥ / ١٧٤٩) من حديث ابن عمر.

(٤) أخرجه أحمد (٤ / ١٦٠) وأبو عبيد في «الأموال» ص (٣٩٦) كتاب الخمس وأحكامه وسننه : باب النفل والربع بعد الخمس حديث (٨٠٠) وأبو داود (٢٧٤٩) وابن ماجه (٢ / ٩٥١ ـ ٩٥٢) رقم (٢٨٥٣) وابن الجارود (ص ٣٦١ ـ ٣٦٢) حديث (١٠٧٩) والحاكم (٢ / ١٣٣) والبيهقي (٦ / ٣١٤) من حديث حبيب بن مسلمة الفهري.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(٥) أخرجه أبو داود (٢٧٥٥) والبيهقي (٦ / ٣٣٩) والحاكم (٣ / ٦١٦) من حديث عمرو بن عبسة.

وأخرجه أبو داود (٢٦٩٤) والنسائي (٢ / ١٧٨) وابن الجارود (١٠٨٠) وأحمد (٢ / ١٨٤) والبيهقي (٦ / ـ

٥٢٣

وقال قوم : هو من الأربعة أخماس بعد إفراد الخمس كسهام الغزاة وهو قول أحمد وإسحاق.

وذهب بعضهم إلى أنّ النّفل من رأس الغنيمة قبل التخميس كالسّلب للقاتل (١).

فصل

دلّت هذه الآية على جواز قسمة الغنيمة في دار الحرب ، لقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) الآية. فاقتضى ثبوت الملك لهؤلاء في الغنيمة وإذا ثبت لهم الملك وجب جواز القسمة.

وروى الزمخشريّ عن الكلبيّ : «أنّ هذه الآية نزلت ببدر» (٢).

وقال الواقديّ «كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة» (٣).

فصل

قال القرطبيّ (٤) : «لمّا بيّن الله تعالى حكم الخمس وسكت عن الأربعة أخماس دل على أنها ملك للغانمين. وملك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، إلّا أن الإمام مخير في الأسرى بين المن بالأمان كما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثمامة بن أثال ، وبين القتل كما قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقبة بن أبي معيط من بين الأسرى صبرا ، وقتل ابن الحرث صبرا ، وكان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سهم كسهم الغانمين حضر أو غاب ، وسهم الصفيّ يصطفي سيفا أو خادما أو دابة ، وكانت صفية بنت حييّ من الصّفيّ من غنائم خيبر ، وكذلك ذو الفقار كان منه ، وقد انقطع إلا عند أبي ثور فإنه رآه باقيا للإمام يجعله حيث شاء [وكان أهل الجاهلية] يرون للرئيس ربع الغنيمة قال شاعرهم : [الوافر]

٢٧١٠ ـ لك المرباع منها والصّفايا

وحكمك والنّشيطة والفضول (٥)

__________________

ـ ٣٣٦ ـ ٣٣٧) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

وأخرجه النسائي (٢ / ١٧٩) والحاكم (٣ / ٤٩) والبيهقي (٦ / ٣٠٣) وابن ماجه (٢٨٥٠) من حديث عبادة بن الصامت.

وأخرجه أحمد (٤ / ١٢٧ ـ ١٢٨) من حديث أم حبيبة بنت العرباض بن سارية عن أبيها وذكره الهيثمي في «المجمع» (٥ / ٣٤٠) وعزاه للبزار والطبراني وقال : وفيه أم حبيبة بنت العرباض ولم أجد من وثقها ولا جرحها وبقية رجاله ثقات.

(١) اختلف الفقهاء في محلّ النفل من الغنيمة على مذاهب ، فلتنظر في مظانّها من كتب الفقه.

(٢) ينظر : الكشاف للزمخشري ٢ / ٢٢٢.

(٣) ينظر : المصدر السابق ، وفي ب : الحجة.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٨ / ١٠.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٨ / ١١ ، واللسان (ربع).

٥٢٤

يقال : ربع الجيش يربعه : إذا أخذ ربع الغنيمة. قال الأصمعي : ربع في الجاهلية وخمّس في الإسلام ، فكان يأخذ منها ثم يتحكم بعد الصّفيّ في أي شيء أراد ، وكان ما فضل منها من خرثيّ ومتاع له ، فأحكم الله تعالى الدين بقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) فأبقى سهم الصّفيّ لنبيّه وأسقط حكم الجاهلية.

قوله : «إن كنتم» شرط ، جوابه مقدر عند الجمهور ، لا متقدم ، أي : إن كنتم آمنتم فاعلموا أنّ حكم الخمس ما تقدّم ، أو : فاقبلوا ما أمرتم به.

والمعنى : واعلموا أنّما غنمتم من شيء فأنّ لله خمسه وللرّسول يأمر فيه ما يريد ، فاقبلوه إن كنتم آمنتم بالله ، وبالمنزل على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ، وهو قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) [الأنفال : ١] لمّا نزلت في يوم بدر ، وهو يوم الفرقان فرق الله فيه بين الحقّ والباطل ، وهو يوم التقى الجمعان ، حزب الله وحزب الشيطان ، وكان يوم الجمعة سبع عشرة مضت من رمضان.

وقوله (وَما أَنْزَلْنا) عطف على الجلالة ، فهي مجرورة المحلّ ، وعائدها محذوف ، وزعم بعضهم أنّ جواب الشّرط متقدم عليه ، وهو قوله ف (نِعْمَ الْمَوْلى) [الأنفال : ٤٠].

وهذا لا يجوز على قواعد البصريين.

قوله : (يَوْمَ الْفُرْقانِ) يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون منصوبا ب «أنزلنا» أي : أنزلناه في يوم بدر ، الذي فرق فيه بين الحق والباطل.

الثاني : أن ينتصب بقوله «آمنتم» أي : إن كنتم آمنتم في يوم الفرقان ، ذكره أبو البقاء.

الثالث : يجوز أن يكون منصوبا ب «غنمتم».

قال الزّجّاج : أي : ما غنمتم في يوم الفرقان فحكمه كذا وكذا.

قال ابن عطيّة (١) : «وهذا تأويل حسن في المعنى ، ويعترضه أنّ فيه الفصل بين الظرف وما يعمل فيه بهذه الجملة الكثيرة الألفاظ» ، وهو ممنوع أيضا من جهة أخرى أخصّ من هذه. وذلك أنّ «ما» إمّا شرطية ، كما هو رأي الفرّاء ، وإمّا موصولة ، فعلى الأوّل يؤدّي إلى الفصل بين فعل الشّرط ، ومعموله بجملة الجزاء ، ومتعلّقاتها ، وعلى الثّاني يؤدّي إلى الفصل بين فعل الصلة ومعموله بخبر «أنّ».

قوله (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنّه بدل من الظرف قبله.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٣١ ـ ٥٣٢.

٥٢٥

والثاني : أنه منصوب ب «الفرقان» ؛ لأنّه مصدر ، فكأنه قيل : يوم فرق فيه في يوم التقى الجمعان أي : الفرق في يوم التقاء الجمعين.

وقرأ زيد (١) بن علي : (عَلى عَبْدِنا) بضمتين ، وهو جمع «عبد» وهذا كما قد قرىء (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) [المائدة : ٦٠] ، والمراد بالعبد في هذ القراءة هنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من المؤمنين ، والمراد ب (ما أَنْزَلْنا) أي : الآيات والملائكة ، والفتح في ذلك اليوم. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي : يقدر على نصركم وأنتم قليلون.

قوله «إذ أنتم» في هذا الظّرف أربعة أوجه :

أحدها : أنّه منصوب ب «اذكروا» مقدرا ، وهو قول الزّجّاج.

الثاني : أنّه بدل من (يَوْمَ الْفُرْقانِ) أيضا.

الثالث : أنه منصوب ب «قدير» وهذا ليس بواضح ، إذ لا يتقيّد اتّصافه بالقدرة بظرف من الظّروف.

الرابع : أنه منصوب ب «الفرقان» أي : فرق بين الحقّ والباطل إذ أنتم بالعدوة.

قوله : «بالعدوة» متعلق بمحذوف ؛ لأنّه خبر المبتدأ ، والباء بمعنى : «في» كقولك : زيد بمكة. وقرأ (٢) ابن كثير وأبو عمرو «بالعدوة» بكسر العين فيهما ، والباقون بالضم فيهما وهما لغتان في شطّ الوادي وشفيره وضفّته ، كالكسوة والكسوة ، والرّشوة والرّشوة ، سمّيت بذلك لأنّها عدت ما في الوادي من ماء ونحوه أن يتجاوزها ، أي : منعته ؛ قال الشّاعر : [الوافر]

٢٧١١ ـ عدتني عن زيارتها العوادي

وحالت دونها حرب زبون (٣)

وقرأ الحسن وزيد بن (٤) علي ، وقتادة وعمرو بن عبيد بالفتح ، وهي كلها لغات بمعنى واحد.

هذا هو قول جمهور اللغويين ، على أنّ أبا عمرو بن العلاء أنكر الضمّ ، ووافقه الأخفش ، فقال : «لم يسمع من العرب إلّا الكسر». ونقل أبو عبيد اللغتين ، إلّا أنه قال : الضّمّ أكثرهما ، وقال اليزيديّ : «الكسر لغة الحجاز» ؛ وأنشدوا قول أوس بن حجر : [البسيط]

٢٧١٢ ـ وفارس لم يحلّ القوم عدوته

ولّوا سراعا وما همّوا بإقبال (٥)

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٢٣ ، البحر المحيط ٤ / ٤٩٥ ، الدر المصون ٣ / ٤٢١.

(٢) ينظر : السبعة (٣٠٦) ، الحجة ٤ / ١٢٨ ، حجة القراءات ص (٣١٠ ـ ٣١١) ، إعراب القراءات ١ / ٢٢٤ ، إتحاف ٢ / ٧٩.

(٣) البيت في البحر المحيط (٤ / ٤٩٥) والدر المصون ٣ / ٤٢١ تفسير ابن عطية (٢ / ٥٣٢) النهر الماد ٤ / ٤٩٩.

(٤) ينظر : السبعة (٣٠٦) ، الحجة ٤ / ١٢٨ ، حجة القراءات ص (٣١٠ ـ ٣١١) ، إعراب القراءات ١ / ٢٢٤ ، إتحاف ٢ / ٧٩.

(٥) البيت في ديوانه وروايته فيه :

وفارس لا يحل الحي

 ..........

الديوان (١٠٤) البحر المحيط ١ / ٤٩٥ ، وتفسير الطبري ١٣ / ٥٦٥.

٥٢٦

بالكسر ، والضم. وهذا هو الذي ينبغي أن يقال ، فلا وجه لإنكار الضّمّ ، ولا الكسر ، لتواتر كلّ منهما ، ويحمل قول أبي عمرو على أنّه لم يبلغه ، ويحتمل أن يقال في قراءة من قرأ بفتح العين أن يكون مصدرا سمّي به المكان.

وقرىء شاذّا (١) «بالعدية» بقلب الواو ياء لانكسار ما تقدّمها ، ولا يعتبر الفاصل ؛ لأنّه ساكن ، فهو حاجز غير حصين ، وهذا كما قالوا : «هو ابن عمي دنيا» بكسر الدّال ، وهو من الدنو ، وكذلك : قنية ، وصبية ، وأصله السّلامة ، كالذّروة ، والصّفوة والرّبوة ، وقد تقدّم الكلام على لفظة «الدّنيا».

قوله «القصوى» تأنيث «الأقصى» ، والأقصى : الأبعد ، والقصو : البعد وللصّرفيين عبارتان ، أغلبهما أن «فعلى» من ذوات الواو ، إن كانت اسما أبدلت لامها ياء ، ثم يمثّلون بنحو : الدّنيا ، والعليا ، والقصيا ، وهذه صفات ؛ لأنّها من باب أفعل التّفضيل ، وكأنّ العذر لهم أنّ هذه وإن كانت في الأصل صفات ، إلّا أنّها جرت مجرى الجوامد.

قالوا : وإن كانت «فعلى» صفة أقرّت لامها على حالها ، نحو : الحلوى ، تأنيث الأحلى ونصّوا على أنّ «القصوى» شاذة ، وإن كانت لغة الحجاز ، وأنّ «القصيا» قياس وهي لغة تميم ، وممّن نصّ على شذوذ : «القصوى» يعقوب بن السّكّيت.

وقال الزمخشريّ : وأمّا «القصوى» فكالقود في مجيئه على الأصل ، وقد جاء «القصيا» إلّا أنّ استعمال «القصوى» أكثر ، كما كثر استعمال «استصوب» مع مجيء «استصاب» ، و «أغيلت» مع «أغالت» انتهى.

وقد قرأ زيد (٢) بن عليّ : «بالعدوة القصيا» فجاء بها على لغة تميم ، وهي القياس عند هؤلاء.

والعبارة الثانية ـ وهي القليلة ـ العكس ، أي : إن كانت صفة أبدلت ، نحو : العليا والدّنيا ، والقصيا ، وإن كانت اسما أقرّت ؛ نحو «حزوى» ؛ كقوله : [الطويل]

٢٧١٣ ـ أدارا بحزوى هجت للعين عبرة

فماء الهوى يرفضّ ، أو يترقرق (٣)

وعلى هذا ف «الحلوى» شاذة ؛ لإقرار لامها مع كونها صفة ، وكذا «القصوى» أيضا ، عند هؤلاء ؛ لأنها صفة وقد ترتّب على هاتين العبارتين أنّ «قصوى» على خلاف القياس فيهما وأن «قصيا» هي القياس ؛ لأنها عند الأولين من قبيل الأسماء ، وهم يقلبونها ياء وعند الآخرين من قبيل الصفات ، وهم يقلبونها أيضا ياء ، وإنّما يظهر الفرق في «الحلوى» و «حزوى» ف : «الحلوى» عند الأولين تصحيحها قياس ، لكونها صفة ، وشاذة

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٢٣ ، البحر المحيط ٤ / ٤٩٥ ، الدر المصون ٣ / ٤٢٢.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٢٣ ، البحر المحيط ٤ / ٤٩٥ ، الدر المصون ٣ / ٤٢٢.

(٣) تقدم برقم ٦٤٤.

٥٢٧

عند الآخرين ، لأنّ الصفة عندهم تقلب واوها ياء. و «الحزوى» عكسها ، فإنّ الأولين يقلبون في الأسماء ، دون الصفات ، والآخرون عكسهم. وهذا موضع حسن ، يختلط على كثير من النّاس ، فلذلك شرحناه.

ونعني بالشذوذ : شذوذ القياس ، لا شذوذ الاستعمال ، ألا ترى إلى استعمال التواتر ب «القصوى».

قوله «والرّكب أسفل منكم» الأحسن في هذه الواو ، والواو التي قبلها الداخلة على «هم» : أن تكون عاطفة ما بعدها على «أنتم» ؛ لأنّها مبدأ تقسيم أحوالهم ، وأحوال عدوّهم ويجوز أن يكونا واوي حال ، و «أسفل» منصوب على الظّرف النّائب عن الخبر ، وهو في الحقيقة صفة لظرف مكان محذوف ، أي : والرّكب مكانا أسفل من مكانكم.

وقرأ زيد (١) بن عليّ «أسفل» بالرّفع ، على سبيل الاتّساع ، جعل الظرف نفس الركب مبالغة واتساعا.

وقال مكيّ : «وأجاز الفرّاء ، والأخفش ، والكسائي رحمهم‌الله تعالى «أسفل» بالرّفع على تقدير محذوف ، أي : موضع الرّكب أسفل» ، والتخريج الأوّل أبلغ في المعنى ، والرّكب : اسم جمع ل : «راكب» لا جمع تكسير له ؛ خلافا للأخفش ؛ كقوله : [الرجز]

٢٧١٤ ـ بنيته من عصبة من ماليا

أخشى ركيبا ورجيلا عاديا (٢)

فصغّره على لفظه ، ولو كان جمعا لما صغّر على لفظه.

قوله «ولكن ليقضي» متعلّق بمحذوف ، أي : ولكن تلاقيتم ليقضي ، وقدّر الزمخشريّ ذلك المحذوف فقال : «أي : ليقضي الله أمرا كان واجبا أن يفعل ، وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك» ، و «كان» يحتمل أن تكون على بابها من الدلالة على اقتران مضمون الجملة بالزّمان الماضي ، وأن تكون بمعنى «صار» ، فتدلّ على التحوّل ، أي : صار مفعولا بعد أن لم يكن كذلك.

قوله «ليهلك» فيه أوجه :

أحدها : أنّه بدل من قوله : «ليقضي الله» بإعادة العامل فيتعلّق بما تعلّق به الأول.

الثاني : أنّه متعلّق بقوله «مفعولا» ، أي : فعل هذا الأمر لكيت وكيت.

الثالث : أنّه متعلّق بما تعلّق به «ليقضي» على سبيل العطف عليه بحرف عطف محذوف ، تقديره : وليهلك ، فحذف العاطف ، وهو قليل جدّا ، وتقدّم التنبيه عليه.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٩٦ ، الدر المصون ٣ / ٤٢٣.

(٢) البيت لأحيحة بن الجلاح ينظر : الخزانة ٣ / ٣٥٩ المقرب ٢ / ١٢٧ المنصف ٢ / ١٠١ شرح المفصل ٥ / ٧٧ شرح شواهد الشافية ١٤٩ ـ ١٥٠ ، واللسان [رجل] والدر المصون ٣ / ٤٢٣.

٥٢٨

الرابع : أنّه متعلّق ب «يقضي» ذكره أبو البقاء رحمه‌الله تعالى.

وقرأ الأعمش وعصمة (١) عن أبي بكر عن عاصم «ليهلك» بفتح اللّام ، وقياس ما مضى هذا «هلك» بالكسر ، والمشهور إنما هو الفتح ، قال تعالى : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) [النساء : ١٧٦] (حَتَّى إِذا هَلَكَ) [غافر : ٣٤].

قوله «من حيّ» قرأ نافع وأبو بكر (٢) عن عاصم ، والبزيّ عن ابن كثير بالإظهار والباقون بالإدغام. والإظهار والإدغام في هذا النّوع لغتان مشهورتان ، وهو كلّ ما آخره ياءان من الماضي أولاهما مكسورة ؛ نحو : «حيي ، وعيي» ، ومن الإدغام قول المتلمّس : [الطويل]

٢٧١٥ ـ فهذا أوان العرض حيّ ذبابه

 .......... (٣)

وقال الآخر : [مجزوء الكامل]

٢٧١٦ ـ عيّوا بأمرهم كما

عيّت ببيضتها الحمامة (٤)

فأدغم «عيّوا» ، وينشد «عيّت ، وعييت» بالإظهار والإدغام ، فمن أظهر ؛ فلأنه الأصل ولأنّ الإدغام يؤدّي إلى تضعيف حرف العلّة ، وهو ثقيل في ذاته ؛ ولأنّ الياء الأولى يتعيّن فيها الإظهار في بعض الصّور ، وذلك في مضارع هذا الفعل ؛ لانقلاب الثّانية ألفا في يحيا ، ويعيا ، فحمل الماضي عليه طردا للباب ؛ ولأنّ الحركة في الثّانية عارضة ؛ لزوالها في نحو : حييت ، وبابه ؛ ولأنّ الحركتين مختلفتان ؛ واختلاف الحركتين كاختلاف الحرفين.

قالوا وكذلك : لححت عينه وضبب المكان ، وألل السّقاء ، ومششت الدّابة.

قال سيبويه (٥) : «أخبرنا بهذه اللّغة يونس» يعني بلغة الإظهار.

قال : «قد سمعت بعض العرب يقول : أحيياء ، وأحيية ، فيظهر». وإذا لم يدغم مع

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٢٤ ، المحرر الوجيز ٢ / ٥٣٣ ، البحر المحيط ٤ / ٤٩٧ ، الدر المصون ٣ / ٤٢٣.

(٢) ينظر : السبعة (٣٠٦ ـ ٣٠٧) ، الحجة ٤ / ١٣٠ ، حجة القراءات ص (٣١١) ، إعراب القراءات ١ / ٢٢٥ ، إتحاف ٢ / ٨٠.

(٣) صدر بيت وعجزه :

 ..........

زنابيره والأزرق المتلمس

ينظر : ديوانه ص (٦) والخصائص ٢ / ٣٧٧ شرح الحماسة ٢ / ٦٦٦ الخزانة ٤ / ١٨٥ اللسان [لمس] وفحول الشعراء ١ / ١٥٦ والاشتقاق ٣١٧ ، وجمهرة اللغة (٧٤٧) وسر صناعة الإعراب ٢ / ٥١٠ الدر المصون ٣ / ٤٢٣.

(٤) البيت لعبيدة بن الأبرص ينظر : ديوانه (٧٨) الكتاب ٤ / ٣٩٦ المقتضب ١ / ٣١٨ المقرب ٢ / ١٥٣ شرح المفصل ١٠ / ١١٥ اللسان [حيا] وعيون الأخبار ٢ / ٧٢ والمنصف (٢ / ١٩١) معاني الأخفش ٢ / ٥٤٨ رصف المباني (١٩٩) الدر المصون ٤ / ٤٢٣ وأدب الكاتب ٦٨ والحيوان ٣ / ١٨٩ شرح شواهد الإيضاح (٦٣٣) ويروي لابن مفرغ الحميري في ملحق ديوانه ص ٢٤٤ ، ولسلامة بن جندل في ملحق ديوانه (٢٤٦) وينظر : الممتع في التصريف ٢ / ٥٧٨ الدر المصون ٣ / ٤٢٥.

(٥) ينظر : الكتاب لسيبويه ٢ / ٣٨٧ ـ ٣٨٨.

٥٢٩

لزوم الحركة فمع عروضها أولى ، ومن أدغم فلاستثقال ظهور الكسرة في حرف يجانسه ؛ ولأنّ الحركة الثانية لازمة لأنّها حركة بناء ، ولا يضرّ زوالها في نحو : «حييت» ، كما لا يضرّ ذلك فيما يجب إدغامه من الصحيح ، نحو : حللت وظللت ، وهذا كلّه فيما كانت حركته حركة بناء ، ولذلك قيّد به الماضي.

أمّا إذا كانت حركة إعراب فالإظهار فقط ، نحو : لن يحيي ولن يعيي.

فصل

قوله «عن بيّنة» متعلق ب «يهلك» و «يحيا» ، والهلاك ، والحياة عبارة عن الإيمان والكفر ، والمعنى : ليصدر كفر من كفر عن وضوح وبيان ، لا عن مخالطة شبهة ، وليصدر إسلام من أسلم عن وضوح لا عن مخالطة شبهة.

معنى الآية : «إذ أنتم» أي : اذكروا يا معشر المسلمين : «إذ أنتم بالعدوة الدّنيا» أي : بشفير الوادي الأدنى من المدينة ، والدّنيا : تأنيث الأدنى ، «وهم» يعني : المشركين. (بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) بشفير الوادي الأقصى من المدينة ممّا يلي جانب مكّة ، وكان الماء في العدوة التي نزل بها المشركون ، فكان استظهارهم من هذا الوجه أشد ، «والرّكب» العير التي خرجوا إليها. (أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي : في موضع أسفل إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر. (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ) أنتم ، وأهل مكّة «لاختلفتم» لخالف بعضكم بعضا لقلتكم ، وكثرتهم ، أو لأن المسلمين خرجوا ليأخذوا العير ، وخرج الكفّار ليمنعوها ، فالتقوا على غير ميعاد ، ولكن الله جمعكم على غير ميعاد ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، لنصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ).

وذلك أن عسكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أول الأمر ، كانوا في غاية الضّعف والخوف بسبب القلّة ، وعدم الأهبة ، ونزلوا بعيدا عن الماء ، وكانت الأرض الّتي نزلوا فيها رملا تغوص فيه أرجلهم ، والكفّار كانوا في غاية القوّة ، لكثرتهم في العدد والعدة ، وكانوا قريبا من الماء وكانت الأرض التي نزلوا فيها صالحة للمضي ، والعير كانوا خلف ظهورهم وكانوا يتوقّعون مجيء المدد ساعة فساعة ، ثمّ إنّه تعالى قلب القصّة ، وجعل الغلبة للمسلمين ، والدّمار على الكافرين ، فصار ذلك من أعظم المعجزات ، وأقوى البيّنات على صدق محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ فيما أخبر عن ربه من وعد النصر والفتح والظفر.

وقوله : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) إشارة إلى هذا المعنى ، وهو أنّ الذين هلكوا إنّما هلكوا بعد مشاهدة هذه المعجزة ، والذين بقوا في الحياة شاهدوا هذه المعجزة القاهرة ، والمراد من البيّنة : المعجزة ، ثم قال : (وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي : يسمع دعاءكم ، ويعلم حاجتكم وضعفكم ويصلح مهمكم.

قوله : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً).

٥٣٠

النّاصب ل «إذ» يجوز أن يكون مضمرا ، أي : اذكر ، ويجوز أن يكون «عليم» ، وفيه بعد من حيث تقييد هذه الصفة بهذا الوقت ، ويجوز أن تكون «إذ» هذه بدلا من «إذ» قبلها ، والإراءة هنا حلمية.

واختلف فيها النّحاة : هل تتعدّى في الأصل لواحد كالبصريّة ، أو لاثنين ، كالظّنّيّة؟.

فالجمهور على الأوّل. فإذا دخلت همزة النّقل أكسبتها ثانيا ، أو ثالثا على حسب القولين فعلى الأوّل تكون الكاف مفعولا أول ، و «هم» مفعول ثان ، و «قليلا» حال ، وعلى الثّاني يكون «قليلا» نصبا على المفعول الثالث ، وهذا يبطل بجواز حذف الثالث في هذا الباب اقتصارا ، أي : من غير دليل ، تقول : أراني الله زيدا في منامي ، ورأيتك في النوم ، ولو كانت تتعدّى لثلاثة ، لما حذف اقتصارا ؛ لأنه خبر في الأصل.

فصل

المعنى : إذ يريك الله يا محمد المشركين في منامك ، أي : نومك.

قال مجاهد : أرى الله النبي ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ كفار قريش في منامه قليلا ، فأخبر بذلك أصحابه ، فقالوا : رؤيا النّبي حق ، القوم قليل ، فصار ذلك سببا لقوّة قلوبهم (١).

فإن قيل : رؤية الكثير قليلا غلط ، فكيف يجوز من الله تعالى أن يفعل ذلك؟.

فالجواب : أنّ الله تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ولعلّه تعالى أراه البعض دون البعض فحكم الرسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون.

وقال الحسن : هذه الإراءة كانت في اليقظة ، قال : والمراد من المنام : العين ؛ لأنّها موضع النّوم (٢).

(وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ) لجبنتم (وَلَتَنازَعْتُمْ) اختلفتم «في الأمر» أي : في الإحجام والإقدام (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) أي : سلّمكم من المخالفة والفشل.

وقيل : سلّمهم من الهزيمة يوم بدر.

(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

قال ابن عبّاس : عليم بما في صدوركم من الحبّ لله تعالى (٣) وقيل : يعلم ما في صدوركم من الجراءة ، والجبن والصّبر والجزع.

قوله تعالى : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) ، الإراءة ـ هنا ـ بصرية ، والإتيان هنا بصلة ميم الجمع واجب ، لاتصالها بضمير ، ولا يجوز التّسكين ، ولا الضّمّ من غير واو ، وقد جوّز

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٥٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٥٢).

(٣) انظر المصدر السابق وذكره الرازي (١٥ / ١٣٦).

٥٣١

يونس ذلك فيقول : «أنتم ضربتمه» بتسكين الميم وضمها ، وقد يتقوّى بما روي عن عثمان ـ رضي الله عنه ـ : «أراهمني الباطل شيطانا» وفي هذا الكلام شذوذ من وجه آخر ، وهو تقديم الضمير غير الأخصّ على الأخصّ مع الاتصال.

فصل

قال مقاتل ـ رضي الله عنه ـ : «إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رأى في المنام أنّ العدد قليل قبل لقاء العدو ، وأخبر أصحابه بما رأى ، فلمّا التقوا ببدر قلّل الله المشركين في أعين المؤمنين» (١).

قال ابن مسعود : «لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين؟ قال أراهم مائة ، فأسرنا رجلا منهم فقلنا له : كم كنتم؟ قال : ألفا» (٢).

«ويقلّلكم» يا معشر المؤمنين «في أعينهم».

قال السّدي : «قال ناس من المشركين إنّ العير قد انصرفت ، فارجعوا ، فقال أبو جهل : الآن إذ برز لكم محمد وأصحابه؟ فلا ترجعوا ، حتّى تستأصلوهم ، إنّما محمد وأصحابه أكلة جزور ، فلا تقتلوهم واربطوهم بالحبال» (٣) ، والحكمة في تقليل عدد المشركين في أعين المؤمنين : تصديق رؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولتقوى قلوبهم ، وتزداد جراءتهم على المشركين ، والحكمة في تقليل عدد المؤمنين في أعين المشركين : لئلا يبالغوا في الاستعداد والتأهّب والحذر ، فيصير ذلك سببا لاستيلاء المؤمنين عليهم.

ثم قال : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً).

فإن قيل : ذكر هذا يفهم من الآية المتقدمة ، فكان ذكره ـ ههنا ـ محض التكرار.

فالجواب : أنّ المقصود من ذكره في الآية المتقدمة ، هو أنّه تعالى فعل تلك الأفعال ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين على وجه يكون معجزة دالّة على صدق الرسول وههنا المقصود من ذكره ، أنه إنّما فعل ذلك ، لئلّا يبالغ الكفار في الاستعداد والحذر فيصير ذلك سببا لانكسارهم.

ثمّ قال (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) والغرض منه التّنبيه على أنّ أحوال الدّنيا غير مقصودة لذاتها ، بل المراد منها ما يصلح أن يكون زادا ليوم المعاد.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً

__________________

(١) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٥٢ ـ ٢٥٣).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٥٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٤٢) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وأبي الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود.

(٣) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٥٣).

٥٣٢

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٤٦)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) الآية.

لمّا ذكر نعمه على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المؤمنين يوم بدر ، علّمهم ـ إذا التقوا ـ نوعين من الأدب ، الأوّل : الثّبات وهو أن يوطّنوا أنفسهم على اللّقاء ، ولا يحدثوها بالتولّي.

والثاني : أن يذكروا الله كثيرا ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) فيه ، أي : جماعة كافرة «فاثبتوا» لقتالهم.

(وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) ادعوا الله بالنصر والظفر بهم.

وقيل : المراد أن يذكروا الله كثيرا بقلوبهم ، وبألسنتهم.

ثم قال تعالى : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي : كونوا على رجاء الفلاح.

فإن قيل : هذه الآية توجب الثّبات على كلّ حال ، وهذا يوهم أنّها ناسخة لآية التّحرف والتحيّز.

فالجواب : أنّ هذه الآية توجب الثّبات في الجملة ، وهو الجدّ في المحاربة ، وآية التحرّف والتحيّز لا تقدح في حصول الثبات في المحاربة ، بل الثبات في هذا المقصود ، لا يحصل إلّا بذلك التحرف والتحيز ، ثمّ أكد ذلك بقوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما يأمر به ؛ لأن الجهاد لا ينفع إلّا مع التّمسّك بسائر الطاعات ، (وَلا تَنازَعُوا) لا تختلفوا ، فإنّ النزاع يوجب أمرين.

أحدهما : الفشل ، وهو الجبن والضّعف.

والثاني : (تَذْهَبَ رِيحُكُمْ).

قال مجاهد : نصرتكم (١).

وقال السّديّ : جراءتكم وجدكم (٢).

وقال مقاتل : حدّتكم (٣).

وقال النضر بن شميل : قوّتكم (٤). وقال الأخفش : دولتكم. و «الرّيح» هاهنا ـ كناية عن بقاء الأمر وجريانه على المراد ؛ تقول العرب : «هبّت ريح فلان» إذا أقبل أمره على ما يريد ، وهو كناية عن الدّولة والغلبة ؛ قال : [الوافر]

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٦١) وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٥٣).

(٢) انظر المصادر السابقة.

(٣) انظر «معالم التنزيل» للبغوي (٢ / ٢٥٣).

(٤) انظر المصدر السابق.

٥٣٣

٢٧١٧ ـ إذا هبّت رياحك فاغتنمها

فإنّ لكلّ عاصفة سكونا (١)

ورواه أبو عبيد «ركودا».

وقال آخر : [البسيط]

٢٧١٨ ـ أتنظران قليلا ريث غفلتهم

أو تعدوان فإنّ الرّيح للعادي (٢)

وقال : [البسيط]

٢٧١٩ ـ قد عوّدتهم ظباهم أن يكون لهم

ريح القتال وأسلاب الّذين لقوا (٣)

وقيل : الريح : الهيبة ، وهو قريب من الأول ؛ كقوله : [البسيط]

٢٧٢٠ ـ كما حميناك يوم النّعف من شطط

والفضل للقوم من ريح ومن عدد (٤)

وقال قتادة وابن زيد : «هو ريح النصر ، ولم يكن نصر قط إلّا بريح يبعثها الله تضرب وجوه العدوّ» (٥).

ومنه قوله عليه الصّلاة والسّلام : «نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدّبور» (٦).

وقال النعمان بن مقرن : «شهدت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان إذا لم يقاتل في أول النّهار ، انتظر حتّى تزول الشّمس ، وتهب الريح ، وينزل النّصر» (٧).

قوله «فتفشلوا» يحتمل وجهين :

أحدهما : نصب على جواب النّهي.

والثاني : الجزم عطفا على فعل النّهي قبله ، وقد تقدّم تحقيقهما في : «وتخونوا» قبل

__________________

(١) البيت من شواهد البحر ٤ / ٤٩٩ تفسير القرطبي ٨ / ٢٤ روح المعاني ١٠ / ١٤ حاشية الشهاب ٤ / ٢٨٠ الدر المصون ٣ / ٤٢٥.

(٢) البيت اختلف في نسبته فقيل لتأبط شرا ، وقيل لسليك بن سلكة وقيل للأعشى ينظر : الكشاف ٢ / ١٧٧ اللسان ٣ / ١٧٦٤ البحر المحيط ٤ / ٤٩٩ ، الدر المصون ٣ / ٤٢٦.

(٣) البيت لشاعر من شعراء الأنصار ينظر : تفسير ابن عطية (٢ / ٥٣٧) والبحر المحيط (٤ / ٤٩٩) الدر المصون ٣ / ٤٤٦.

(٤) البيت لعبيدة بن الأبرص في ديوانه ٥٦ وفيه «من شطط» ينظر : تفسير الطبري ١٣ / ٥٧٥ البحر المحيط ٤ / ٥٠٠ الدر المصون ٣ / ٤٢٦.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٦١) عن ابن زيد.

(٦) أخرجه البخاري (٢ / ٥٢٠) كتاب الاستسقاء : باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصرت بالصبا حديث (١٠٣٥) ومسلم (٢ / ٦١٧) كتاب الاستسقاء : باب في ريح الصبا وأحمد (١ / ٢٢٣ ، ٢٢٨) من حديث ابن عباس.

(٧) أخرجه أبو داود (٢٦٥٥) والترمذي (٤ / ١٦٠) رقم (١٦١٣) وأحمد (٥ / ٤٤٤ ـ ٤٤٥) والحاكم (٢ / ١١٦) من حديث النعمان بن مقرن.

وقال الترمذي : هذا الحديث حسن صحيح.

وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

٥٣٤

ذلك ، ويدلّ على الثاني قراءة عيسى (١) بن عمر «ويذهب» بياء الغيبة وجزمه ، ونقل أبو البقاء قراءة الجزم ولم يقيّدها بياء الغيبة.

وقرأ أبو حيوة وأبان (٢) وعصمة «ويذهب» بياء الغيبة ونصبه.

وقرأ الحسن (٣) «فتفشلوا» بكسر الشين ، قال أبو حاتم : «هذا غير معروف» وقال غيره : إنّها لغة ثانية.

فصل

احتجّ نفاة القياس بهذه الآية فقالوا : القياس يفضي إلى المنازعة ، والمنازعة محرّمة بهذه الآية ؛ فوجب أن يكون العمل بالقياس محرما ببيان الملازمة ، فإنّا نشاهد الدّنيا مملوءة من الاختلافات بسبب القياس.

وأيضا القائلون بأنّ النّص لا يجوز تخصيصه بالقياس تمسّكوا بهذه الآية ، وقالوا : قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) صريح في وجوب طاعة الله ورسوله في كل ما نصّا عليه ، ثم أتبعه بقوله : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) ومن تمسّك بالقياس المخصص بالنّصّ فقد ترك طاعة الله وطاعة رسوله ، وتمسّك بالقياس الذي يوجب التنازع والفشل ، وكلّ ذلك حرام. والجواب : بأنّه ليس كلّ قياس يوجب المنازعة.

قوله : (وَلا تَنازَعُوا) معطوف على قوله : «فاثبتوا» وهو جواب الشّرط في قوله : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً) فالمحرّم التنازع عند لقاء فئة الكفّار ، فلا حجة فيها ، وأيضا : فقد ترتّب على التنازع الفشل وذهاب الريح التي هي الدولة ، وذلك لا يترتّب على القياس.

ثم قال : (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) والمقصود أنّ كمال أمر الجهاد مبنيّ على الصّبر فأمرهم بالصبر. كما قال في آية أخرى : (اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا) [آل عمران : ٢٠٠]. عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله وكان كاتبا له ، قال : كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض أيّامه الّتي لقي فيها العدو ، انتظر حتّى مالت الشّمس ، ثمّ قام في النّاس ، فقال : «يا أيّها النّاس لا تتمنوا لقاء العدوّ ، وأسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أنّ الجنّة تحت ظلال السّيوف» ثم قال : «اللهمّ منزل الكتاب ، ومجري السّحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم ، وانصرنا عليهم» (٤).

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٢٦ ، المحرر الوجيز ٢ / ٥٣٦ ، البحر المحيط ٤ / ٤٩٩ ، الدر المصون ٣ / ٤٢٥.

(٢) المصادر السابقة.

(٣) قاله أبو حاتم عن إبراهيم.

ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٣٦ ، البحر المحيط ٤ / ٤٩٩ ، إتحاف ٢ / ٨١.

(٤) أخرجه البخاري (٦ / ١٢٠) كتاب الجهاد : باب كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا لم يقاتل حديث (٢٩٦٦) ومسلم (٣ / ١٣٦٢ ـ ١٣٦٣) كتاب الجهاد والسير : باب كراهة تمني لقاء العدو (٢٠ / ١٧٤٢) من حديث سالم أبي النضر.

٥٣٥

قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ)(٥٤)

قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

نزلت في المشركين حين أقبلوا إلى بدر ، ولهم بغي وفخر. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها ، وفخرها تجادل وتكذّب رسولك ، اللهمّ فنصرك الذي وعدتني».

ولمّا رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره ، أرسل إلى قريش إنكم إنّما خرجتم لتمنعوا عيركم فقد نجّاها الله ، فارجعوا ، فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتّى نرد بدرا ـ وكان في بدر موسم من مواسم العرب ، يجتمع لهم بها سوق كل عام ـ فنقيم بها ثلاثا ، فننحر الجزور ، ونطعم الطّعام ، ونسقى الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب ، فلا يزالون يهابوننا أبدا. فوافوها فسقوا كئوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النّوائح مكان القيان ، فنهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم ، وأمرهم بإخلاص النّية ، والحسبة في نصر دينه ومؤازرة نبيه.

واعلم أنّه تعالى وصفهم بثلاثة أشياء :

أحدها : البطر.

قال الزّجّاج : البطر : الطغيان في النعمة وترك شكرها.

وثانيها : الرّئاء ، وهو إظهار الجميل ليرى ، مع أنّ باطنه يكون قبيحا.

والفرق بينه وبين النفاق : أنّ النفاق : إظهار الإيمان مع إبطان الكفر ، والرئاء : إظهار الطّاعة مع إبطان المعصية.

٥٣٦

وثالثها : صدهم عن سبيل الله ، وهو كونهم مانعين عن دين محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ.

قوله : «بطرا ورئاء» منصوبان على المفعول له ، ويجوز أن يكونا مصدرين في موضع نصب على الحال ، من فاعل : «خرجوا» ، أي : خرجوا بطرين ومرائين ، و «رئاء» مصدر مضاف لمفعوله.

قوله «ويصدّون» : يجوز أن يكون مستأنفا ، وأن يكون عطفا على : «بطرا ورئاء» وحذف المفعول للدّلالة عليه.

فإن قيل : «يصدّون» فعل مضارع ، وعطف الفعل على الاسم غير حسن. فذكر الواحديّ في الجواب ثلاثة أوجه :

الأول : أن «يصدّون» بمعنى : صادين ، أي : بطرين ومرائين وصادين.

والثاني : أن يكون قوله «بطرا ورئاء» حالان على تأويل : مبطرين ومرائين ، ويكون قوله «ويصدون» أي : وصادين.

الثالث : أن يكون قوله «بطرا ورئاء» بمنزلة : يبطرون ويراؤون.

قال ابن الخطيب : «إن شيئا من هذه الوجوه لا يشفي الغليل ؛ لأنّه تارة يقيم الفعل مقام الاسم وأخرى يقيم الاسم مقام الفعل ليصح له كون الكلمة معطوفة على جنسها.

وكان من الواجب عليه أن يذكر السبب الذي لأجله عبّر عن الأولين بالمصدر ، وعن الثالث بالفعل. قال : إنّ الشيخ عبد القاهر الجرجاني ، ذكر أنّ الاسم يدلّ على التّمكين والاستمرار ، والفعل على التجدد والحدوث ، مثاله في الاسم قوله تعالى : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ) [الكهف : ١٨] وذلك يقتضي كون تلك الحالة ثابتة راسخة ، ومثال الفعل قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [يونس : ٣١] وذلك يدلّ على أنه تعالى يوصل الرّزق إليهم ساعة فساعة.

وإذا عرفت ذلك فنقول : إنّ أبا جهل ورهطه كانوا مجبولين على البطر ، والمفاخرة والعجب وأما صدهم عن سبيل الله فإنما حصل في الزّمان الذي ادّعى محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ فيه النبوة ، فلهذا ذكر البطر والرئاء بصيغة الاسم ، وذكر الصد بصيغة الفعل».

واعلم أنّ الذي قاله ابن الخطيب لا يخدش فيما أجاب به الواحديّ ؛ لأنّ الواحدي إنّما أراد من حيث الصّناعة ، لا من حيث المعنى.

ثم قال : (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي : أنه عالم بما في دواخل القلوب ، وذلك كالتّهديد والزّجر عن الرئاء.

قوله تعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) الآية.

٥٣٧

وهذه من جملة النعم التي خصّ الله أهل بدر بها ، وفي العامل في «إذ» وجوه : قيل : تقديره اذكر إذ زيّن لهم ، وقيل : عطف على ما تقدم من تذكير النعم ، وتقديره : واذكروا إذ يريكموهم وإذ زيّن.

وقيل : هو عطف على قوله : (خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ) تقديره : ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس وإذ زيّن لهم الشيطان أعمالهم ؛ فتكون الواو للحال ، و «قد» مضمرة بعد الواو ، عند من يشترط ذلك والله أعلم.

فصل

في هذا التّزيين وجهان :

الأول : أن الشيطان زيّن بوسوسته من غير أن يتحوّل في صورة إنسان ، وهو قول الحسن(١) والأصم.

والثاني : أنّه ظهر في سورة إنسان.

قالوا : إن المشركين حين أرادوا المسير إلى بدر خافوا من بني بكر بن كنانة ؛ لأنّهم كانوا قتلوا منهم واحدا ، فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم ، فتصوّر لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، وهو في بني بكر بن كنانة من أشرافهم في جند من الشياطين ، ومعه راية ، وقال لا غالب لكم اليوم من النّاس وإني جار لكم ، مجيركم ، من بني كنانة ، (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ) أي : التقى الجمعان ، رأى إبليس الملائكة نزلوا من السماء ، فعلم أن لا طاقة لهم بهم «نكص على عقبيه» وكانت يده في يد الحارث بن هشام ، فلما نكص ، قال الحارث : أتخذلنا في هذه الحال؟.

فقال : إني أرى ما لا ترون ودفع في صدر الحارث وانهزموا.

قوله : «لا غالب لكم» لكم خبر «لا» فيتعلق بمحذوف ، و «اليوم» منصوب بما تعلّق به الخبر ، ولا يجوز أن يكون «لكم» أو الظرف متعلقا ب «غالب» ؛ لأنه يكون مطوّلا ومتى كان مطوّلا أعرب نصبا.

قوله «من النّاس» بيان لجنس الغالب.

وقيل : هو حال من الضّمير في «لكم» لتضمّنه معنى الاستقرار ، ومنع أبو البقاء أن يكون «من النّاس» حالا من الضمير في «غالب» ، قال : «لأنّ اسم «لا» إذا عمل فيما بعده أعرب» والأمر كذلك.

قوله (وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) يجوز في هذه الجملة أن تكون معطوفة على قوله «لا غالب

__________________

(١) ذكره الرازي في تفسيره (١٥ / ١٤٠).

٥٣٨

لكم» فيكون قد عطف جملة مثبتة على أخرى منفيّة ، ويجوز أن تكون الواو للحال ، وألف «جار» من واو ، لقولهم : «تجاوروا» وقد تقدّم تحقيقه [النساء : ٣٦]. و «لكم» متعلّق بمحذوف ؛ لأنّه صفة ل «جار» ، ويجوز أن يتعلّق ب «جار» لما فيه من معنى الفعل ، ومعنى «جار لكم» أي : مجير لكم من كنانة.

قوله (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ) أي : التقى الجمعان ؛ «نكص على عقبيه» «نكص»: جواب «لمّا» والنّكوص : قال النضر بن شميل : الرّجوع قهقرى هاربا ، قال بعضهم : هذا أصله ، إلّا أنه قد اتّسع فيه ، حتى استعمل في كلّ رجوع ، وإن لم يكن قهقرى ؛ قال الشاعر : [البسيط]

٢٧٢١ ـ هم يضربون حبيك البيض إذ لحقوا

لا ينكصون إذا ما استلحموا وحموا (١)

وقال مؤرّج : «النّكوص : الرجوع بلغة سليم» ؛ قال : [البسيط]

٢٧٢٢ ـ ليس النّكوص على الأعقاب مكرمة

إنّ المكارم إقدام على الأسل (٢)

فهذا إنّما يريد به مطلق الرّجوع ؛ لأنّه كناية عن الفرار ، وفيه نظر ؛ لأنّ غالب الفرار في القتال إنّما هو كما ذكر : رجوع القهقرى ، كخوف الفار.

و (عَلى عَقِبَيْهِ) حال ، إمّا مؤكدة ، عند من يخصّه بالقهقرى ، أو مؤسّسة ، عند من يستعمله في مطلق الرّجوع.

ثم قال : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ).

قيل : رأى الملائكة فخافهم.

وقيل : رأى أثر النّصرة والظّفر في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعلم أنه لو وقف لنزلت عليه بليّة.

وقيل : رأى جبريل فخافه.

وقيل : لمّا رأى الملائكة ينزلون من السماء ظنّ أنّ الوقت الذي أنظر إليه قد حضر ، وأشفق على نفسه ، وقيل (أَرى ما لا تَرَوْنَ) من الرأي.

وقوله (إِنِّي أَخافُ اللهَ) قال قتادة : «قال إبليس (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) وصدق ، وقال (إِنِّي أَخافُ اللهَ) وكذب ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة ، فأوردهم وأسلمهم» (٣).

وقال عطاء : إنّي أخاف الله أن يهلكني فيمن هلك (٤).

__________________

(١) البيت لزهير بن أبي سلمى ينظر : ديوانه (١٥٩) الطبري ١٤ / ١١ الدر المصون ٣ / ٤٢٦ اللسان [لحم] والبحر المحيط ٤ / ٤٩١.

(٢) البيت لتابط شرا كما في البحر المحيط ٤ / ٤٩٢ وتفسير القرطبي ٨ / ٢٧ ، الدر المصون ٣ / ٤٢٦.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٦٤) عن قتادة.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٥٥) عن عطاء.

٥٣٩

وقال الكلبيّ : خاف أن يأخذه جبريل ويعرفهم حاله ، فلا يطيعوه (١).

وقيل : معناه إنّي أخاف الله ، أي : أعلم صدق وعده لأوليائه ؛ لأنه كان على ثقة من أمره ، وقيل : معناه إنّي أخاف الله عليكم.

وقوله (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ).

قيل : انقطع الكلام عند قوله (أَخافُ اللهَ) ثم قال (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) ويجوز أن يكون من بقيّة كلام إبليس.

روى طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ، ولا أدحر ، ولا أحقر ، ولا أغيظ منه في يوم عرفة ، وما ذاك إلّا لمّا رأى من تنزّل الرّحمة وتجاوز الله عن الذّنوب العظام ، إلّا ما كان من يوم بدر» (٢).

فقيل : وما رأى يوم بدر؟ قال : «أما إنّه رأى جبريل وهو ينزع الملائكة» ، حديث مرسل.

قوله تعالى : (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) العامل في «إذ» إمّا «زيّن» ، وإمّا «نكص» وإما (شَدِيدُ الْعِقابِ) وإما «اذكروا».

قال ابن الخطيب : «وإنما لم تدخل الواو في قوله «إذ يقول» ودخلت في قوله «وإذ زيّن» ؛ لأنّ قوله : «وإذ زيّن» عطف التزين على حالهم وخروجهم بطرا ورئاء النّاس.

وأما قوله (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) فليس فيه عطف على ما قبله ، بل هو ابتداء كلام منقطع عما قبله».

فصل

المنافقون : قوم من الأوس والخزرج ، وأمّا الذين في قلوبهم مرض فهم قوم من قريش أسلموا وما قوي إسلامهم ، وكانوا بمكّة مستضعفين ، قد أسلموا وحبسهم أقرباؤهم عن الهجرة فلما خرجت قريش إلى بدر أخرجوهم كرها ، فلمّا نظروا إلى قلّة المسلمين ارتابوا وارتدوا ، وقالوا (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ). و (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) منصوب المحل بالقول.

قال ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنه ـ : «معناه أنه خرج بثلاث مائة وثلاثة عشر يقاتلون ألف رجل» (٣) وقيل المراد : إن هؤلاء يسعون في قتل أنفسهم ، رجاء أن يجعلوا أحياء بعد الموت ، ويثابون على هذا القتل. فقالوا : غرّ هؤلاء دينهم. فقتلوا جميعا ، منهم : قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة المخزوميان ،

__________________

(١) انظر المصدر السابق.

(٢) أخرجه مالك (١ / ٤٢٢) كتاب الحج : باب جامع الحج حديث (٢٤٥) وعبد الرزاق في «المصنف» (٥ / ١٧ ـ ١٨) رقم (٨٨٣٢) والبغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٥٥) عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلا.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٥ / ١٤١).

٥٤٠