اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

قوله : «أنّي» العامة على فتح الهمزة بتقدير حذف حرف الجرّ ، أي : فاستجاب بأني.

وقرأ عيسى (١) بن عمر ، وتروى عن أبي عمرو أيضا «إنّي» بكسرها ، وفيها مذهبان : مذهب البصريين : أنّه على إضمار القول ، أي : فقال : إني ممدّكم.

ومذهب الكوفيين : أنّها محكيّة ب «استجاب» إجراء له مجرى القول ؛ لأنّه بمعناه.

قوله : «بألف» العامّة على التّوحيد ، وقرأ الجحدريّ (٢) «بآلف» بزنة «أفلس» وعنه أيضا ، وعن السدي «بآلاف» بزنة : «أحمال» ، وفي الجمع بين القراءتين ، وقراءة الجمهور أن تحمل قراءة الجمهور على أنّ المراد ب : بالألف هم الوجوه ، وباقيهم كالأتباع لهم ، فلذلك لم ينصّ عليهم في قراءة الجمهور ، ونصّ عليهم في هاتين القراءتين ، أو تحمل الألف على من قاتل من الملائكة دون من لم يقاتل ، فلا تنافي حينئذ بين القراءات.

قوله : «مردفين» قرأ نافع (٣) ، ويروى عن قنبل أيضا : «مردفين» بفتح الدّال ، والباقون (٤) بكسرها ، وهما واضحتان ؛ لأنه يروى أنه كان وراء كلّ ملك رديف له ، فقراءة الفتح تشعر بأنّ غيرهم أردفهم ، لركوبهم خلفهم ، وقراءة الكسر تشعر بأنّ الراكب خلف صاحبه قد أردفه فصحّ التّعبير باسم الفاعل تارة ، وباسم المفعول أخرى ، وجعل أبو البقاء مفعول «مردفين» يعني بالكسر محذوفا أي : مردفين أمثالهم ، وجوّز أن يكون معنى الإرداف : المجيء بعد الأوائل ، أي : جعلوا ردفا للأوائل. ويطلب جواب عن كيفيّة الجمع بين هذه الآية ، وآية آل عمران حيث قال هناك «بخمسة» وقال هنا : «بألف» والقصّة واحدة؟

والجواب : أنّ هذه الألف مردفة لتلك الخمسة ؛ فيكون المجموع ستة آلاف ، ويظهر هذا ، ويقوى في قراءة : «مردفين» بكسر الدّال.

وقد أنكر أبو عبيد : أن تكون الملائكة أردفت بعضها أي : ركّبت خلفها غيرها من الملائكة.

وقال الفارسيّ : من كسر الدّال احتمل وجهين :

أحدهما : أن يكونوا مردفين مثلهم كما تقول : أردفت زيدا دابتي ، فيكون المفعول الثّاني محذوفا ، وحذف المفعول كثير ، والوجه الآخر : أن يكونوا جاءوا بعد المسلمين.

وقال الأخفش «بنو فلان يردفوننا ، أي : يجيئون بعدنا».

وقال أبو عبيدة «مردفين» جاءوا بعد ، وردفني ، وأردفني واحد.

__________________

(١) ورويت عن أبي عمرو كما في الكشاف ٢ / ٢٠١ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٥٠٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٦٠ ، والدر المصون ٣ / ٣٩٨.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٠٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٦٠ ، والدر المصون ٣ / ٣٩٨.

(٣) ينظر : السبعة (٣٠٤) ، الحجة ٤ / ١٢٤ ، اتحاف ٢ / ٧٧ ، المحرر الوجيز ٢ / ٥٠٤ ، حجة القراءات (٣٠٧) ، الكشاف ٢ / ٢٠٢ ، إعراب القراءات ١ / ٢٢١ ، البحر المحيط ٤ / ٤٦٠ ، الدر المصون ٢ / ٣٩٨.

(٤) المصدر السابق.

٤٦١

قال الفارسي (١) : هذا الوجه كأنه أبين لقوله تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) فقوله : «مردفين» أي : جائين بعد ، لاستغاثتكم ، ومن فتح الدّال فهم مردفون على أردفوا الناس ، أي : أنزلوا بعدهم.

وقرأ بعض المكيين (٢) فيما حكاه الخليل : «مردّفين» بفتح الرّاء وكسر الدّال مشدّدة ، والأصل : «مرتدفين» فأدغم.

وقال أبو البقاء : إنّ هذه القراءة مأخوذة من «ردّف» بتشديد الدّال على التكثير وإنّ التضعيف بدل من الهمزة ك : «أفرحته وفرّحته».

وجوّز الخليل بن أحمد : ضمّ الراء إتباعا لضم الميم ، كقولهم : «مخضم» بضم الخاء ، وقد قرىء (٣) بها شذوذا.

وقرىء «مردّفين» (٤) بكسر الرّاء وتشديد الدّال مكسورة ، وكسر الراء يحتمل وجهين : إمّا لالتقاء الساكنين ، وإمّا للإتباع.

قال ابن عطيّة : «ويجوز على هذه القراءة كسر الميم إتباعا للرّاء ، ولا أحفظه قراءة».

قال شهاب الدّين : وكذلك الفتحة في «مردّفين» في القراءة التي حكاها الخليل تحتمل وجهين :

أظهرهما : أنّها حركة نقل من التّاء ـ حين قصد إدغامها ـ إلى الرّاء.

والثاني : أنّها فتحت تخفيفا وإن كان الأصل الكسر على أصل التقاء السّاكنين ، كما قد قرىء به. وقرىء «مردّفين» (٥) بكسر الميم ، إتباعا لكسرة الرّاء.

و «الإرداف» الإتباع ، والإركاب ، وراءك.

وقال الزّجّاج (٦) : «أردفت الرّجل إذا جئت بعده».

ومنه : (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) [النازعات : ٧] ويقال : ردف ، وأردف.

واختلف اللغويون : فقيل هما بمعنى واحد ، وهو قول ابن الأعرابي نقله عنه ثعلب.

وقول أبي زيد نقله عنه أبو عبيد ، قال : يقال : ردفت الرّجل وأردفته ، إذا ركبت خلفه ؛ وأنشد : [الوافر]

٢٦٧٥ ـ إذا الجوزاء أردفت الثّريّا

ظننت بآل فاطمة الظّنونا (٧)

__________________

(١) ينظر : الحجة ٢ / ١٢٥.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ٣٧٠ ، البحر المحيط ٤ / ٤٦٠ ، المحرر الوجيز ٢ / ٥٠٤ ، الدر المصون ٣ / ٣٩٩.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٠٥ ، إعراب القراءات ١ / ٢٢١ ، الدر المصون ٣ / ٣٩٩.

(٤) المصدر السابق.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٩٩.

(٦) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٢ / ٤٤٥.

(٧) البيت لخزيمة بن مالك أو خزيمة بن نهد ينظر : الطبري ١٣ / ٤١٥ ، المحرر الوجيز ٨ / ٣٠ ، تفسير الماوردي ٢ / ٥٩ ، التاج : (ردف) الدر المصون ٣ / ٤٢.

٤٦٢

أي : جاءت على ردفها ، وقيل : بينهما فرق فقال الزّجّاج : «يقال : ردفت الرّجل إذا ركبت خلفه ، وأردفته أركبته خلفي». وهذا يناسب قول من يقدّر مفعولا في : «مردفين» بكسر الدّال وأردفته إذا جئت بعده أيضا فصار «أردف» على هذا مشتركا بين معنين.

وقال شمر : «ردفت وأردفت إذا فعلت ذلك بنفسك ، فأمّا إذا فعلتهما بغيرك فأردفت لا غير».

وقوله : «مردفين» بفتح الدّال فيه وجهان ، أظهرهما : أنّه صفة ل «ألف» أي : أردف بعضهم لبعض ، والثاني : أنّه حال من ضمير المخاطبين في ممدكم.

قال ابن عطية (١) : «ويحتمل أن يراد بالمردفين : المؤمنون ، أي : أردفوا بالملائكة».

وهذا نصّ فيما ذكر من الوجه الثاني.

وقال الزمخشري : وقرىء (٢) «مردفين» بكسر الدّال وفتحها من قولك : ردفه ، إذا تبعه ، ومنه قوله تعالى (رَدِفَ لَكُمْ) [النمل :] أي : ردفكم ، وأردفته إيّاه : إذا تبعته ، ويقال : أردفته كقولك ، أتّبعته : إذا جئت بعده ، ولا يخلو المكسور الدّال من أن يكون بمعنى : متبعين ، أو متّبعين.

فإن كان بمعنى متبعين فلا يخلو من أن يكون بمعنى متبعين بعضهم بعضا ، أو متبعين بعضهم لبعض ، أو بمعنى متبعين إياهم المؤمنين ، بمعنى يتقدّمونهم فيتبعونهم أنفسهم ، أو متبعين لهم يشيّعونهم ويقدّمونهم بين أيديهم ، وهم على ساقتهم ليكونوا على أعينهم وحفظهم أو بمعنى متبعين أنفسهم ملائكة آخرين ، أو متبعين غيرهم من الملائكة ، ويعضد هذا الوجه قوله تعالى في سورة آل عمران (بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) [آل عمران : ١٢٤] (بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) [آل عمران : ١٢٥].

ومن قرأ «مردفين» بالفتح فهو بمعنى متبعين أو متّبعين.

وهذا الكلام على طوله ، شرحه أنّ «أتبع» بالتخفيف ، يتعدّى إلى مفعولين ، و «اتّبع» بالتّشديد ، يتعدى لواحد ، و «أردف» قد جاء بمعناهما ، ومفعوله أو مفعولاه محذوف ، لفهم المعنى ، فيقدّر في كل موضع ما يليق به ، إلّا أنّ أبا حيّان عاب عليه قوله : «متبعين إيّاهم المؤمنين».

وقال : «هذا ليس من مواضع فصل الضمير ، بل ممّا يتصل ، وتحذف له النّون ، لا يقال : هؤلاء كاسون إيّاك ثوبا بل : كاسوك ، فتصحيحه أن يقول : متبعيهم المؤمنين ، أو متبعين أنفسهم المؤمنين».

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٠٤.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٠١.

٤٦٣

قوله تعالى : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(١٠)

قوله : (وَما جَعَلَهُ) الهاء تعود على الإمداد ، أي : وما جعل الله الإمداد ، ثمّ هذا الإمداد يحتمل أن يكون المنسبك من قوله : (أَنِّي مُمِدُّكُمْ) إذ المعنى : فاستجاب بإمدادكم ، ويحتمل أن يكون مدلولا عليه بقوله : «ممدّكم» كما دلّ عليه فعله في قوله : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] وهذا الثّاني أولى ؛ لأنّه متأتّ على قراءة الفتح والكسر في : «أني» بخلاف الأول فإنّه لا يتّجه عوده على الإمداد على قراءة الكسر إلّا بتأويل ذكره الزمخشريّ : وهو أنّه مفعول القول المضمر ، فهو في معنى القول.

وقيل يعود على المدد قاله الزّجّاج ، وهذا أولى ؛ لأنّ بالإمداد بالملائكة كانت البشرى.

وقال الفرّاء (١) : إنّه يعود على الإرداف المدلول عليه ب «مردفين».

وقيل : يعود على : «الألف».

وقيل : على المدلول عليه ب : «يعدكم».

وقيل : على جبريل ، أو على الاستجابة لأنّها مؤنّث مجازي ، أو على الإخبار بالإمداد ، وهي كلّها محتملة وأرجحها الأوّل ، والجعل هنا تصيير.

فصل في قتال الملائكة يوم بدر

اختلفوا في أنّ الملائكة هل قاتلوا يوم بدر؟ فقال قوم : نزل جبريل ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ في خمسمائة ملك على الميمنة ، وفيها أبو بكر ، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها علي بن أبي طالب في صورة الرّجال عليهم ثياب بيض وعمائم بيض ، وقد أرخوا أطرافها بين أكتافهم وقاتلوا ، وقيل : قاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا يوم الأحزاب ، ويوم حنين.

روي أنّ أبا جهل قال لابن مسعود : من أين كان الصّوت الذي كنّا نسمع ولا نرى شخصا؟.

قال : من الملائكة.

فقال أبو جهل : هم غلبونا لا أنتم.

وروي أنّ رجلا من المسلمين بينما هو يشتد في أثر رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربة السّوط فوقه ، فنظر إلى المشرك وقد خرّ مستلقيا وشق وجهه ، فحدّث الأنصاريّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «صدقت ذاك من مدد السّماء».

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٤٠٤.

٤٦٤

وقال آخرون لم يقاتلوا وإنّما كانوا يكثرون السّواد ويثبتون المؤمنين ، وإلّا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم فإنّ جبريل ـ عليه‌السلام ـ أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط ، وأهلك بلاد ثمود ، وقوم صالح بصيحة واحدة.

وقد تقدّم الكلام في كيفية هذا الإمداد في سورة آل عمران ، ويدلّ على أنّ الملائكة لم يقاتلوا قوله (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى) إذا جعلنا الضمير عائدا على الإرداف.

قال الزّجّاج : «وما جعل الله المردفين إلا بشرى» وهذا أولى ؛ لأنّ الإمداد بالملائكة حصل بالبشرى.

(وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) والمقصود التّنبيه على أنّ الملائكة وإن كانوا قد نزلوا في موافقة المؤمنين ، إلّا أنّ الواجب على المؤمن أن لا يعتمد على ذلك ، بل يجب أن يكون اعتماده على الله ونصره وكفايته ؛ لأنّ الله هو العزيز الغالب الحكيم فيما ينزل من النّصرة فيضعها في موضعها.

قوله تعالى : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ)(١١)

قوله : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ) في «إذ» وجوه :

أحدها : أنّه بدل من «إذ» في قوله : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ) قال الزمخشريّ : «إذ يغشاكم» بدل ثان من : «إذ يعدكم».

قوله : «ثان» ؛ لأنه أبدل منه «إذ» في قوله : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ) ووافقه على هذا ابن عطيّة ، من : (إِذْ يَعِدُكُمُ).

قوله : «ثان» ؛ لأنه أبدل منه «إذ» في قوله : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ) ووافقه على هذا ابن عطيّة ، وأبو البقاء.

الثاني : أنّه منصوب ب «النصر».

الثالث : بما في عند الله من معنى الفعل.

الرابع : ب «(ما جَعَلَهُ اللهُ).

الخامس : بإضمار «اذكر» ذكر ذلك الزمخشريّ. وقد سبقه إلى الرابع : الحوفيّ.

وقد ضعّف أبو حيان الوجه الثّاني بثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ فيه إعمال المصدر المقرون ب «أل» قال : وفيه خلاف : ذهب الكوفيّون إلى أنّه لا يعمل.

الثاني : أنّ فيه فصلا بين المصدر ومعموله بالخير ، وهو قوله : «إلّا من عند الله» ولو قلت : «ضرب زيد شديد عمرا» لم يجز.

الثالث : أنه عمل ما قبل «إلّا» فيما بعدها ، وليس أحد الثلاثة الجائز ذلك فيها ؛ لأنّه لا يعمل ما قبلها فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى ، أو مستثنى منه أو صفة له.

وقد جوّز الكسائيّ والأخفش : إعمال ما قبل «إلّا» فيما بعدها مطلقا ، وليس في

٤٦٥

هذه الأوجه أحسن من أنّه أخبر عن الموصول قبل تمام صلته ، وضعّف الثّالث بأنّه يلزم منه أن يكون استقرار النّصر مقيّدا بهذا الظّرف ، والنّصر من عند الله لا يتقيّد بوقت دون وقت وهذا لا يضعف به ؛ لأنّ المراد بهذا النّصر نصر خاص ، وهذا النصر الخاصّ كان مقيّدا بذلك الظرف. وضعّف الرابع بطول الفصل ، ويكون معمولا لما قبل «إلّا».

السادس : أنّه منصوب بقوله : (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ) قاله الطّبريّ.

السابع : أنّه منصوب بما دلّ عليه : (عَزِيزٌ حَكِيمٌ) قاله أبو البقاء ونحا إليه ابن عطيّة قبله.

وقرأ ابن كثير (١) ، وأبو عمرو : «يغشاكم النّعاس» ، ونافع (٢) «يغشيكم» بضمّ الياء ، وكسر الشّين خفيفة «النّعاس» نصبا والباقون «يغشّيكم» كالذي قبله ، إلّا أنه بتشديد الشّين. فالقراءة الأولى من : «غشي يغشى» ، و «النّعاس» فاعل ، وفي الثانية من : «أغشى» وفاعله ضمير الباري تعالى ، وكذا في الثالثة من : «غشّى» بالتشديد ، و «النّعاس» فيهما مفعول به. و «أغشى وغشّى» لغتان.

قال الواحديّ : «من قرأ «يغشاكم» فلقوله : (أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى) [آل عمران : ١٥٤] فكما أسند الفعل هناك إلى «النّعاس» ، و «الأمنة» التي هي سبب النّعاس كذلك ههنا ، ومن قرأ «يغشيكم» ، أو «يغشّيكم» فالمعنى واحد ، وقد جاء التّنزيل بهما في قوله : (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [يس : ٩] وقال : (فَغَشَّاها ما غَشَّى) [النجم : ٥٤].

قوله : «أمنة» في نصبها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه مصدر لفعل مقدر ، أي : فأمنتم أمنة.

الثاني : أنّها منصوبة على أنّها واقعة موقع الحال إمّا من الفاعل ، وإمّا من المفعول ، فإن كان الفاعل «النعاس» فنسبة الأمنة إليه مجاز ، وإن كان الباري تعالى كما هو في القراءتين الأخيرتين فالنسبة حقيقية ، وإن كان من المفعول فعلى المبالغة ، أي : جعلهم نفس الأمنة ، أو على حذف مضاف ، أي : ذوي أمنة.

الثالث : أنّه مفعول من أجله ، وذلك إمّا أن يكون على القراءتين الأخريين أو على الأولى، فعلى القراءتين الأخريين أمرها واضح ، وذلك أن التّغشية ، أو الإغشاء من الله تعالى ، والأمنة منه أيضا ، فقد اتّحد الفاعل فصحّ النّصب على المفعول له ، وأمّا على القراءة الأولى ففاعل «يغشى» النّعاس وفاعل «الأمنة» الباري تعالى ، ومع اختلاف الفاعل يمتنع النّصب على المفعول له على المشهور ، وفيه خلاف اللهمّ إلّا أن يتجوّز فيجوز.

__________________

(١) ينظر : السبعة (٣٠٤) ، الحجة ٤ / ١٢٥ ، إتحاف ٢ / ٧٧ ، حجة القراءات (٣٠٨) ، إعراب القراءات ١ / ٢٢٢ ، النشر ٢ / ٢٧٦.

(٢) المصدر السابق.

٤٦٦

وقد أوضح ذلك الزمخشريّ فقال : و «أمنة» مفعول له.

فإن قلت : أما وجب أن يكون فاعل الفعل المعلّل والعلّة واحدا؟ قلت : بلى ، ولكن لمّا كان معنى : «يغشاكم النعاس» تنعسون ، انتصب «أمنة» على معنى أنّ النّعاس والأمنة لهم ، والمعنى : إذ تنعسون أمنة بمعنى أمنا.

ثم قال : «فإن قلت : هل يجوز أن ينتصب على أنّ الأمنة للنّعاس الذي هو فاعل «يغشاكم؟ أي : يغشاكم النّعاس لأمنة على أنّ إسناد الأمن إلى النعاس إسناد مجازي ، وهو لأصحاب النّعاس على الحقيقة ، أو على أنه أنامكم في وقت كان من حق النعاس في ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غشيانكم ، وإنّما غشّاكم أمنة حاصلة له من الله لولاها لم يغشكم على طريقة التّمثيل ، والتخييل».

قال شهاب الدين : لا تبعد فصاحة القرآن عن مثله ، وله فيه نظائر ، ولقد ألمّ به بعضهم ؛ فقال : [الوافر]

٢٦٧٦ ـ يهاب النّوم أن يغشى عيونا

تهابك فهو نفّار شرود (١)

قوله : «منه» في محلّ نصب ل «أمنة» والضمير في : «منه» يجوز أن يعود على الباري تعالى ، وأن يعود على «النّعاس» بالمجاز المذكور آنفا ، وقرأ ابن محيصن ، والنّخعي (٢) ، ويحيى بن يعمر : «أمنة» بسكون الميم ، ونظير : أمن أمنة بالتحريك : حيي حياة ، ونظير : أمن أمنة بالسّكون : رحم رحمة.

فصل

كلّ نوم ونعاس فإنه لا يحصل إلّا من قبل الله تعالى فتخصيص هذا النعاس بأنّه من الله تعالى لا بدّ منه من فائدة جديدة ، وذكروا فيه وجوها :

أولها : أن الخائف من عدوه خوفا شديدا لا يأخذه النّوم ، فصار حصول النّوم في وقت الخوف الشديد دليلا على زوال الخوف وحصول الأمن.

وثانيها : أنّهم خافوا من جهات كثيرة : قلة المسلمين ، وكثرة الكفّار ، وكثرة الأهبة ، والآلة ، والعدة للكافرين ، والعطش الشديد ، فلو لا حصول النّعاس ، وحصول الاستراحة حتّى تمكنوا في اليوم الثاني من القتال لما تمّ الظفر.

وثالثها : أنهم ما ناموا نوما غرقا يتمكن العدو منهم ، بل كان ذلك نعاسا يزيل الإعياء والكلالة بحيث لو قصدهم العدو لعرفوه ، ولقدروا على دفعه.

__________________

(١) البيت للزمخشري. ينظر : الكشاف ٢ / ١٤٧ ، الألوسي ٩ / ١٧٨٦ ، حاشية الشهاب ٤ / ٢٥٨ ، الإنصاف ٢ / ١٥٩ ، البحر المحيط ٤ / ٤٦٢ ، الدر المصون ٣ / ٤٠٢.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٠٦ ، البحر المحيط ٤ / ٤٦٢ ، الدر المصون ٣ / ٤٠٢ ، الكشاف ٢ / ٢٠٣ ، إتحاف ٢ / ٧٧.

٤٦٧

ورابعها : أنّ النعاس غشيهم دفعة واحدة مع كثرتهم وحصول النّعاس للجمع العظيم على الخوف الشّديد أمر خارق للعادة.

فلهذا قيل : إنّ ذلك النّعاس في حكم المعجز.

فإن قيل : فإذا كان الأمر كذلك فلم خافوا بعد ذلك؟.

فالجواب : لأنّ المعلوم أنّ الله تعالى يجعل جند الإسلام مظفرا منصورا ، وذلك لا يمنع من ضرورة بعضهم مقتولين.

قال ابن عباس : «النّعاس في القتال أمنة من الله ، وفي الصّلاة وسوسة من الشّيطان»(١).

قوله : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) العامّة على «ماء» ، و «ليطهّركم» متعلق ب : «ينزّل».

وقرأ الشعبيّ (٢) : «ما ليطهركم» بألف مقصورة ، وفيها تخريجان ، أشهرهما وهو الذي ذكره ابن جني وغيره ـ «أنّ» «ما» بمعنى «الّذي» و «ليطهّركم» صلتها.

قال بعضهم : تقديره : الذي هو ليطهركم. فقدّر الجار خبرا لمبتدأ محذوف ، والجملة صلة ل «ما» وقد ردّ أبو حيان هذين التخريجين بأنّ لام «كي» لا تقع صلة.

والثاني : أن «ما» هو ماء بالمدّ ، ولكن العرب قد حذفت همزته فقالوا : «شربت ما» بميم منونة حكاه ابن مقسم.

وهذا لا نظير له ، إذ لا يجوز أن ينتهك اسم معرب بالحذف حتّى يبقى على حرف واحد ، إذا عرف هذا ؛ فيجوز أن يكون قصر «ماء» ، وإنّما لم ينونه إجراء للوصل مجرى الوقف ، ثم هذه الألف تحتمل أن تكون عين الكلمة ، وأنّ الهمزة محذوفة ، وهذه الألف بدل من الواو التي في «موه» في الأصل ، ويجوز أن تكون المبدلة من التّنوين ، وأجرى الوصل مجرى الوقف ، والأوّل أولى ، لأنّهم يراعون في الوقف ألّا يتركوا الموقوف عليه على حرف واحد نحو : «مر» اسم فاعل من : أرى يري.

فصل

روي أنّهم حفروا موضعا في الرّمل ، فصار كالحوض الكبير ، واجتمع فيه الماء حتّى شربوا منه وتطهروا وتزودوا.

وقيل : إنّهم لمّا عطشوا ولم يجدوا الماء ثمّ ناموا واحتلموا تضاعفت حاجتهم إلى الماء ثم إنّ المطر نزل وزالت عنهم تلك البليّة والمحنة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٩٢) عن عبد الله بن مسعود وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٣٤) عن ابن مسعود أيضا.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٠٢ ، البحر المحيط ٤ / ٤٦٢ ، الكشاف ٢ / ٢٠٣.

٤٦٨

ومن المعلوم بالعادة أنّ المؤمن يستقذر نفسه إذا كان جنبا ، ويغتم إذا لم يمكن من الاغتسال ، وقد يستدل بهذا على حصول اليسر وزوال العسر.

قوله : (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ) نسق على «ليطهّركم» وقرأ عيسى (١) بن عمر : «ويذهب» بسكون الباء وهو تخفيف سمّاه أبو حيّان : جزما. والعامة على «رجز» بكسر الرّاء وبالزاي.

وقرأ ابن محيصن (٢) : بضمّ الراء ، وابن أبي عبلة بالسّين (٣) ، وقد تقدّم الكلام على كلّ واحد منها.

ومعنى : رجز الشيطان ههنا : ما ينشأ عن وسوسته ، وقيل : الاحتلام ، وقيل : إن الكفار لمّا نزلوا على الماء وسوس الشّيطان للمسلمين وخوّفهم من الهلاك ، فلمّا نزل زالت تلك الوسوسة. فإن قيل : فأيّ هذه الوجوه أولى؟.

فالجواب : أنّ قوله «ليطهّركم» معناه ليزيل الجنابة عنكم ، فلو حملنا قوله : (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) على الجنابة لزم التّكرار ، وهو خلاف الأصل.

ويمكن أن يجاب بأنّ المراد من قوله «ليطهّركم» حصول الطّهارة الشّرعية ، والمراد : (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) إزالة عين المنيّ عن أعضائهم فإنّه شيء مستخبث.

ثم نقول حمله على إزالة أثر الاحتلام أولى من حمله على إزالة الوسوسة ؛ لأن تأثير الماء في إزالة العين عن العضو تأثير حقيقيّ ، وتأثيره في إزالة الوسوسة عن القلب تأثير مجازي ، وحمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز.

قوله : وليربط على قلوبكم» أي بسبب نزول هذا المطر قويت قلوبهم وزال الخوف عنهم ، ومعنى الرّبط في اللغة : الشّد ، وقد تقدّم في قوله : (وَرابِطُوا) [آل عمران : ٢٠].

قال الواحديّ : «ويشبه أن تكون «على» ههنا صلة ، والمعنى : وليربط قلوبكم بالصّبر وما أوقع فيها من اليقين».

وقال ابن الخطيب (٤) : ويشبه ألّا يكون صلة ؛ لأنّ كلمة «على» تفيد الاستعلاء ، فالمعنى أنّ القلوب امتلأت من ذلك الربط حتّى كأنّه علا عليها وارتفع فوقها.

قوله : (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) قيل : إنّ ذلك المطر لبّد ذلك الرّمل ، وصيّره بحيث لا تغوص أرجلهم فيه فقدروا على المشي عليه كيفما أرادوا ، ولو لا هذا المطر لما قدروا عليه ، وعلى هذا فالضّمير في «به» عائد على المطر.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٦٣ ، الدر المصون ٣ / ٤٠٣ ، المحرر الوجيز ٢ / ٥٠٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٦٣ ، الدر المصون ٣ / ٤٠٣ ، المحرر الوجيز ٢ / ٥٠٦.

(٣) المصدر السابق.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٥ / ١٠٨.

٤٦٩

وقيل : إنّ ربط قلوبهم أوجب ثبات الرّبط.

وقيل : لمّا نزل المطر حصل للكافرين ضدّ ما حصل للمؤمنين ؛ لأنّ الموضع الذي نزل الكفار فيه كان موضع التّراب والوحل ، فلمّا نزل المطر عظم الوحل ؛ فصار ذلك مانعا لهم من المشي كيفما أرادوا فقوله : «ويثبّت به الأقدام» يدلّ دلالة المفهوم على أنّ حال الأعداء كان بخلاف ذلك.

قوله تعالى : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ)(١٢)

قوله : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ) في «إذ» أوجه :

أحدها : أنّه بدلّ ثالث من قوله (وَإِذْ يَعِدُكُمُ).

الثاني : أن ينتصب بقوله «يثبّت».

قالهما الزمخشريّ ولم يبن ذلك على عود الضمير.

وأمّا ابن عطية (١) : فبناه على عود الضّمير في قوله «به» فقال : العامل في «إذ» العامل الأول على ما تقدّم فيما قبلها ، ولو قدّرناه قريبا لكان قوله : «ويثبّت» على تأويل عوده على الرّبط.

وأمّا على تأويل عوده على : «الماء» فيقلق أن يعمل «ويثبّت» في «إذ» وإنّما قلق ذلك عنده لاختلاف زمان التثبّت وزمان الوحي ، فإنّ إنزال المطر وما تعلّق به من تعليلات متقدم على تغشية النّعاس ، وهذا الوحي وتغشية النّعاس والإيحاء كانا وقت القتال.

قوله : (أَنِّي مَعَكُمْ) مفعول ب «يوحي» أي : يوحي كوني معكم بالغلبة والنصر.

وقرأ عيسى (٢) بن عمر ـ بخلاف عنه ـ (أَنِّي مَعَكُمْ) بكسر الهمزة وفيه وجهان :

أحدهما : أنّ ذلك على إضمار القول ، وهو مذهب البصريين.

والثاني : إجراء «يوحي» مجرى القول ؛ لأنّه بمعناه ، وهو مذهب الكوفيين.

فصل

في المعنى وجهان : أحدهما : أنّه تعالى أوحى إلى الملائكة بأنّه تعالى معهم أي مع الملائكة حال إرسالهم ردءا للمسلمين.

والثاني : أنّه تعالى أوحى إلى الملائكة أني مع المؤمنين فانصروهم ، وثبتوهم ، وهذا أولى ؛ لأن المقصود إزالة التّخويف ، والملائكة لم يخافوا الكفّار ، وإنّما الخائف هم المسلمون.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٠٧.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٠٧ ، البحر المحيط ٤ / ٤٦٣ ، الدر المصون ٣ / ٤٠٣.

٤٧٠

ثم قال : (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) في كيفيّة هذا التّثبيت وجوه : فقيل : إنّهم عرّفوا الرّسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ أنّ الله ناصر المؤمنين والرّسول عرّف المؤمنين ذلك ، فهذا هو التثبيت.

وقيل : إنّ الشيطان كما يمكنه إلقاء الوسوسة إلى الإنسان ، فكذلك الملك يمكنه إلقاء الإلهام إليه ، فالتثبيت من هذا الباب.

وقيل : إنّ الملائكة كانوا يتشبّهون بصور رجال من معارفهم وكانوا يمدونهم بالنّصر والفتح ، والظّفر.

قوله : (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) وهذا من النعم الجليلة ، لأنّ أمير النفس هو القلب فلمّا بيّن الله تعالى أنّه ربط قلوب المؤمنين أي : قوّاها ، وأزال الخوف عنها ذكر أنه ألقى الرّعب في قلوب الكافرين ، فكان ذلك من أعظم نعم الله تعالى على المؤمنين.

قوله : «فاضربوا» قيل : هذا أمر للملائكة متصل بقوله تعالى : «فثبّتوا».

وقيل : أمر للمؤمنين وهو الصّحيح لما تقدّم من أنّ الملائكة لم ينزلوا للمقاتلة ، بل لتقوية قلوب المؤمنين وتثبيتهم.

قوله : (فَوْقَ الْأَعْناقِ) فيه أوجه :

أحدها : أنّ «فوق» باقية على ظرفيتها والمفعول محذوف ، أي : فاضربوهم فوق الأعناق. علّمهم كيف يضربونهم.

والثاني : أنّ «فوق» مفعول به على الاتّساع ؛ لأنه عبارة عن الرّأس ، كأنّه قيل : فاضربوا رءوسهم ، وهذا ليس بجيد ؛ لأنّه لا يتصرّف.

وزعم بعضهم أنه يتصرّف ، وأنك تقول : فوقك رأسك برفع فوقك ، وهو ظاهر قول الزمخشريّ ، فإنه قال : (فَوْقَ الْأَعْناقِ) أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح لأنّها مفاصل.

الثالث : ـ وهو قول أبي عبيدة ـ : أنّها بمعنى «على» أي : على الأعناق ويكون المفعول محذوفا تقديره : فاضربوهم على الأعناق ، وهو قريب من الأول.

الرابع : قال ابن قتيبة : هي بمعنى : «دون».

قال ابن عطيّة : «وهذا خطأ بيّن وغلط فاحش ، وإنّما دخل عليه اللّبس من قوله : (بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) [البقرة : ٢٦] أي : فما دونها وليست «فوق» هنا بمعنى «دون» وإنّما المراد : فما فوقها في القلّة والصّغر».

الخامس : أنها زائدة أي : اضربوا الأعناق ، وهو قول أبي الحسن. وهذا عند الجمهور خطأ ؛ لأنّ زيادة الأسماء لا يجوز.

قوله : (... مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) يجوز أن يتعلّق : «منهم» بالأمر قبله ، أي : ابتدئوا

٤٧١

الضّرب من هذه الأماكن ، وهذا الكلام مع ما قبله معناه : اضربوهم في جميع الأماكن والأعضاء من أعاليهم إلى أسافلهم ، ويجوز أن يتعلّق بمحذوف على أنّه حال من : (كُلَّ (١) بَنانٍ) لأنّه في الأصل يجوز أن يكون صفة لو تأخّر ، قال أبو البقاء : «ويضعف أن يكون حالا من «بنان» إذ فيه تقديم حال المضاف إليه على المضاف». فكأنّ المعنى : اضربوهم كيف ما كان.

قال الزمخشريّ : يعني ضرب الهام.

قال : [الوافر]

٢٦٧٧ ـ ..........

وأضرب هامة البطل المشيح (١)

وقال : [البسيط]

٢٦٧٨ غشّيته وهو في جأواء باسلة

عضبا أصاب سواء الرّأس فانفلقا (٢)

وقال ابن عطية (٣) : ويحتمل أن يريد بقوله : (فَوْقَ الْأَعْناقِ) وصف أبلغ ضربات العنق ، وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ودون عظم الرأس.

ثم قال : ومنه قوله : [الوافر]

٢٦٧٩ ـ جعلت السّيف بين الجيد منه

وبين أسيل خدّيه عذارا (٤)

وقيل : هذا من ذكر الجزء وإرادة الكل ؛ كقول عنترة : [الكامل]

٢٦٨٠ ـ عهدي به شدّ النّهار كأنّما

خضب البنان ورأسه بالعظلم (٥)

والبنان : قيل : الأصابع ، وهو اسم جنس ، الواحد : بنانة ؛ قال عنترة : [الوافر]

٢٦٨١ ـ وأنّ الموت طوع يدي إذا ما

وصلت بنانها بالهندواني (٦)

وقال أبو الهيثم : «البنان : المفاصل ، وكل مفصل بنانة».

وقيل : البنان الأصابع من اليدين والرّجلين ، وجميع المفاصل من جميع الأعضاء ، وأنشد لعنترة : [الطويل]

__________________

(١) عجز بيت لعمرو بن الإطنابة وصدره : «وإقحامي على المكروه نفسي». ينظر الشذور (٣٤٥) ومعجم الشعراء (٨) والعمدة لابن رشيق / ٢٩ واللسان (شيح) والكشاف ٤ / ٣٥٩ والدر المصون ٣ / ٤٠٤.

(٢) البيت ل «بلعاء بن قيس». ينظر : الخزانة ٦ / ٥٥٦ والبحر المحيط ٤ / ٤٦٤ ، وابن يعيش ١ / ٨ والكشاف ٤ / ٤٦٤ وشرح الحماسة ١ / ٦٠ والدر المصون ٣ / ٤٠٤.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٠٨.

(٤) ينظر البيت في البحر المحيط ٤ / ٤٦٥ ، والمحرر الوجيز ٨ / ٢٨ والدر المصون ٣ / ٤٠٤.

(٥) تقدم.

(٦) ينظر البيت في ديوانه (٧٢) والقرطبي ٧ / ٣٧٩ والبحر المحيط ٤ / ٤٦٥ ، والدر المصون ٣ / ٤٠٥.

٤٧٢

٢٦٨٢ ـ وقد كان في الهيجاء يحمي دماءها

ويضرب عند الكرب كلّ بنان (١)

وقد تبدل نونه الأخيرة ميما ؛ قال رؤبة : [الرجز]

٢٦٨٣ ـ يا هال ذات المنطق التّمتام

وكفّك المخضّب البنام (٢)

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ)(١٤)

قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) ، «ذلك» مبتدأ وخبر ، والإشارة إلى الأمر بضربهم ، والخطاب يجوز أن يكون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويجوز أن يكون للكفّار ، وعلى هذا فيكون التفاتا.

كذا قال أبو حيّان (٣) وفيه نظر لوجهين :

أحدهما : أنه يلزم من ذلك خطاب الجمع بخطاب الواحد ، وهو ممتنع أو قليل ، وقد حكيت لغيّة.

والثاني : أنّ بعده : (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ) فيكون التفت من الغيبة إلى الخطاب في كلمة واحدة ، ثمّ رجع إلى الغيبة في الحال ، وهو بعيد.

قوله : (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ) «من» مبتدأ ، والجملة الواقعة بعدها خبرها ، أو الجملة الواقعة جزاء أو مجموعهما ، ومن التزم عود ضمير من جملة الجزاء على اسم الشّرط قدّره هنا محذوفا تقديره : فإنّ الله شديد العقاب له.

واتفق القّراء على فكّ الإدغام هنا في : «يشاقق» ؛ لأنّ المصاحف كتبته بقافين مفكوكتين ، وفكّ هذا النوع لغة الحجاز ، والإدغام بشروطه لغة تميم.

فصل

والمعنى : أنّه تعالى ألقاهم في الخزي والنّكال من هذه الوجوه الكثيرة ؛ لأنهم شاقّوا الله ورسوله قال الزّجّاج جانبوا ، وصاروا في شقّ غير شقّ المؤمنين والشّقّ الجانب و (شَاقُّوا اللهَ) مجاز ، والمعنى : شاقّوا أولياء الله ، ودين الله.

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه (٧٠) ورواية الديوان هكذا :

وكان لدى ..........

ويطعن عند الكسر كل طعان

وينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٦٥ ، والقرطبي ٧ / ٣٧٩ والدر المصون ٣ / ٤٠٥.

(٢) ينظر : ملحق ديوانه ص ١٨٣ ، وجواهر الأدب ص ٩٨ ، وسر صناعة الإعراب ٤٢٢ ، وشرح التصريح ٢ / ٣٩٢ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٢١٦ ، وشرح شواهد الشافية ص ٤٥٥ ، وشرح المفصل ١٠ / ٣٣ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٨٠ ، وأوضح المسالك ٤ / ٤٠١ ، وشرح الأشموني ٣ / ٨٦٠ ، والمقرب ٢ / ١٧٦ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٥٢ ، والدر المصون ٣ / ٤٠٥.

(٣) ينظر : البحر المحيط لأبي حيان ٤ / ٤٦٦.

٤٧٣

ثم قال : (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) يعني أنّ هذا الذي نزل بهم في ذلك اليوم شيء قليل بالنسبة لما أعدّ لهم من العقاب يوم القيامة.

قوله : (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ) يجوز في : «ذلكم» أربعة أوجه :

أحدها : أن يكون مرفوعا على خبر ابتداء مضمر ، أي : العقاب ذلكم ، أو الأمر ذلكم.

الثاني : أن يرتفع بالابتداء ، والخبر محذوف ، أي : ذلكم العقاب وعلى هذين الوجهين ؛ فيكون قوله «فذوقوه» لا تعلّق لها بما قبلها من جهة الإعراب.

والثالث : أن يرتفع بالابتداء ، والخبر قوله : «فذوقوه» وهذا على رأي الأخفش فإنّه يرى زيادة الفاء مطلقا أعني سواء تضمّن المبتدأ معنى الشّرط أم لا ، وأمّا غيره فلا يجيز زيادتها إلّا بشرط أن يكون المبتدأ مشبها لاسم الشرط كما تقدّم تقريره.

واستدلّ الأخفش على ذلك بقول الشاعر : [الطويل]

٢٦٨٤ ـ وقائلة : خولان فانكح فتاتهم

وأكرومة الحيّين خلو كما هيا (١)

وخرّجه الآخرون على إضمار مبتدأ تقديره : هذه خولان.

الرابع : أن يكون منصوبا بإضمار فعل يفسّره ما بعده ، ويكون من باب الاشتغال.

وقال الزمخشريّ : «ويجوز أن يكون نصبا على : عليكم ذلكم فذوقوه كقولك : زيدا فاضربه».

قال أبو حيان (٢) : «ولا يصحّ هذا التقدير ، لأنّ «عليكم» من أسماء الأفعال وأسماء الأفعال لا تضمر ، وتشبيهه بقولك : زيدا فاضربه ، ليس بجيّد ؛ لأنّهم لم يقدّروه ب «عليك زيدا فاضربه» وإنّما هذا منصوب على الاشتغال».

قال شهاب الدّين : يجوز أن يكون نحا الزمخشريّ نحو الكوفيين ؛ فإنّهم يجرونه مجرى الفعل مطلقا ، ولذلك يعملونه متأخرا نحو (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) [النساء : ٢٤].

وقال أبو البقاء : «ويجوز أن يكون في موضع نصب ، أي ذوقوا ذلكم ، ويجعل الفعل الذي بعده مفسّرا له ، والأحسن أن يكون التقدير : باشروا ذلكم فذوقوه ، لتكون الفاء عاطفة».

قال شهاب الدّين : ظاهر هذه العبارة الثانية أنّ المسألة لا تكون من الاشتغال ؛ لأنّه قدّر الفعل غير موافق لما بعده لفظا مع إمكانه ، وأيضا فقد جعل الفاء عاطفة لا زائدة وقد تقدّم تحقيق الكلام في هذه الفاء عند قوله : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة : ٤٠].

قوله (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) الجمهور على فتح «أنّ» وفيها تخريجات أحدها : أنها ، وما في حيّزها في محل رفع على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : حتم استقرار عذاب النار للكافرين.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٦٦.

٤٧٤

الثاني : أنها خبر مبتدأ محذوف أي : الحتم ، أو الواجب أنّ للكافرين عذاب النّار.

الثالث : أن تكون عطفا على : «ذلكم» في وجهيه قاله الزمخشريّ. ويعني بقوله «في وجهيه» أي : وجهي الرفع وقد تقدّما.

الرابع : أن تكون في محلّ نصب على المعيّة.

قال الزمخشريّ : «أو نصب على أنّ الواو بمعنى «مع» والمعنى : ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة ، فوضع الظاهر موضع المضمر» : يعني بقوله : «وضع الظّاهر موضع المضمر» أنّ أصل الكلام فذوقوه وأنّ لكم فوضع «للكافرين» موضع «لكم» شهادة عليهم بالكفر ومنبهة على العلّة.

الخامس : أن يكون في محل نصب بإضمار «واعلموا».

قال الفراء (١) : يجوز نصبه من وجهين :

أحدهما : على إسقاط الباء ، أي : بأنّ للكافرين.

والثاني : على إضمار «اعلموا» ؛ قال الشاعر : [الرجز]

٢٦٨٥ ـ تسمع للأحشاء عنه لغطا

ولليدين جسأة وبددا (٢)

أي : وترى لليدين بددا ، فأضمر «ترى» كذلك : «فذوقوه» واعلموا : (أَنَّ لِلْكافِرِينَ).

وأنكره الزجاج أشدّ إنكار.

وقال : لو جاز هذا لجاز : زيد قائم وعمرا منطلقا ، أي : وترى عمرا منطلقا ولا يجيزه أحد.

ونبّه بقوله «فذوقوه» وهو ما عجل من القتل والأسر على أنّ ذلك يسير بالإضافة إلى عذاب القيامة فلذلك سمّاه ذوقا لأن الذوق لا يكون إلّا لتعرف الطعم ، فقوله : «فذوقوه» يدلّ على أنّ الذوق يكون في إدراك غير المطعوم كقوله (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩].

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(١٦)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) الآية.

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٤٠٥.

(٢) ينظر البيت في معاني الفراء ١ / ٤٠٥ ، ٣ / ١٢٣ وأمالي المرتضى ٢ / ٢٥٩ والخصائص ٢ / ٤٣٢ والدر المصون ٣ / ٤٠٦.

٤٧٥

في «زحفا» وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على المصدر ، وذلك النّاصب له في محلّ نصب على الحال ، والتقدير : إذا لقيتم الذين كفروا زاحفين زحفا أو يزحفون زحفا.

والثاني : أنه منصوب على الحال بنفسه ، ثمّ اختلفوا في صاحب الحال ، فقيل : الفاعل أي وأنتم زحف من الزّحوف ، أي : جماعة ، أو وأنتم تمشون إليهم قليلا قليلا ، على حسب ما يفسّر به الزّحف ، وسيأتي.

وقيل : هو المفعول ، أي : وهم جمّ كثير ، أو يمشون إليكم.

وقيل : هي حال منهما ، أي : لقيتموهم متزاحفين بعضكم إلى بعض ، والزّحف الدّنو قليلا قليلا ، يقال : زحف يزحف إليه بالفتح فيهما فهو زاحف زحفا ، وكذلك تزحّف وتزاحف وأزحف لنا عدوّنا ، أي : دنوا لقتالنا.

وقال اللّيث : الزّحف : الجماعة يمشون إلى عدوّهم ؛ قال الأعشى : [الكامل]

٢٦٨٦ ـ لمن الظّعائن سيرهنّ تزحّف

مثل السّفين إذا تقاذف تجدف (١)

وهذا من باب إطلاق المصدر على العين ، والزّحف : الدّبيب أيضا ، من زحف الصبيّ قال امرؤ القيس : [المتقارب]

٢٦٨٧ ـ فزحفا أتيت على الرّكبتين

فثوبا لبست وثوبا أجرّ (٢)

ويجوز جمعه على : زحوف ومزاحف ، لاختلاف النوع ؛ قال الهذليّ : [الوافر]

٢٦٨٨ ـ كأنّ مزاحف الحيّات فيه

قبيل الصّبح آثار السّياط (٣)

ومزاحف : جمع «مزحف» اسم المصدر.

قوله : (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) مفعول : «تولّوهم» الثّاني هو «الأدبار» ، وكذا «دبره» مفعول ثان ل : «يولّهم» وقرأ (٤) الحسن : بالسّكون كقولهم : عنق في عنق ، وهذا من باب التّعريض حيث ذكر لهم حالة تستهجن من فاعلها ؛ فأتى بلفظ الدّبر دون الظّهر لذلك ، وبعضهم من أهل علم البيان سمّى هذا النوع كناية ، وليس بشيء.

قوله : «(إِلَّا مُتَحَرِّفاً) في نصبه وجهان :

__________________

(١) البيت نسبه صاحب البحر للأعشى كما ذكره المصنف وليس في ديوانه ونسب لأبي حفص وغيره.

ينظر : زاد المسير ٣ / ٧٣٣١ البحر المحيط ٤ / ٤٨ ، الدر المصون ٣ / ٤٠٧.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر البيت في ديوان الهذليين ٢ / ٢٥ والبحر ٤ / ٤٦٨ ، واللسان (زحف) وشرح أشعار الهذليين ٣ / ١٢٧٣ والدر المصون ٣ / ٤٠٧.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٠ ، البحر المحيط ٤ / ٤٧٠.

٤٧٦

أحدهما : أنّه حال.

والثاني : أنه استثناء وقد أوضح ذلك الزمخشري.

فقال : «فإن قلت : بم انتصب : (إِلَّا مُتَحَرِّفاً)؟ قلت : على الحال و «إلّا» لغو ، أو على الاستثناء من المولّين : أي ومن يولّهم إلا رجلا منهم متحرفا أو متحيزا».

قال أبو حيان (١) : «لا يريد بقوله «إلّا» لغو أنّها زائدة ، إنّما يريد أنّ العامل وهو : «يولّهم» وصل لما بعدها كقولهم في «لا» من قولهم : جئت بلا زاد ـ إنّها لغو. وفي الحقيقة هي استثناء من حال محذوفة والتقدير : ومن يولّهم ملتبسا بأية حال إلّا من حال كذا ، وإن لم تقدّر حال محذوفة لم يصحّ دخول «إلّا» لأن الشّرط عندهم واجب ، والواجب حكمه ألّا تدخل «إلّا» فيه لا في المفعول ، ولا في غيره من الفضلات ، لأنه استثناء مفرغ ، والمفرّغ لا يكون في الواجب ، إنّما يكون مع النفي أو النهي أو المؤول بهما ، فإن جاء ما ظاهره خلاف ذلك يؤوّل».

قال شهاب الدّين (٢) : «قوله لا في المفعول ولا في غيره من الفضلات ، لا حاجة إليه لأنّ الاستثناء المفرغ لا يدخل في الإيجاب مطلقا ، سواء أكان ما بعد إلّا فضلة أو عمدة فذكر الفضلة والمفعول يوهم جوازه في غيرهما».

وقال ابن عطيّة (٣) : «وأمّا الاستثناء فهو من المولّين الذين تتضمّنهم «من» فجعل نصبه على الاستثناء».

وقال جماعة : إنّ الاستثناء من أنواع التولّي ، وردّ هذا بأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون التركيب : إلّا تحيّزا أو تحرّفا ، والتّحيّز والتّحوّز : الانضمام ، وتحوّزت الحيّة : انطوت ، وحزت الشّيء : ضممته ، والحوزة : ما يضمّ الأشياء ، ووزن «متحيّز» «متفيعل» والأصل «متحيوز» فاجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسّكون فقلبت الواو ياء ، وأدغمت في الباء بعدها ، ك : ميّت ، ولا يجوز أن يكون : «متفعّلا» ؛ لأنّه لو كان كذلك لكان «متحوّزا» ، فأمّا متحوّز ف «متفعّل».

فصل

معنى الآية : إذا ذهبتم للقتال ، فلا تولوهم الأدبار : أي لا تنهزموا ، فتجعلوا ظهوركم ممّا يليهم ثم بيّن أنّ الانهزام محرم إلّا في حالتين :

إحداهما : أن يكون متحرّفا للقتال ، أي : أنه يجعل تحرفه أنه منهزم ، ثم ينعطف عليه ، وهو أحد أبواب خدع الحرب ومكايدها. يقال : تحرّف وانحرف إذا زال عن جهة الاستواء. والثانية : قوله «أو متحيّزا إلى فئة» والتّحيز الانضمام كما تقدّم ، والفئة

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٧٠.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٠٨.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥١٠.

٤٧٧

الجماعة ، فإذا كان هذا المنهزم منفردا ، وفي الكفار كثرة ، وغلب على ظنه أنه إن ثبت قتل من غير فائدة ، وإن انضمّ إلى جمع من المسلمين ليستعين بهم ويعودون إلى القتال ، فربّما وجب عليه التّحيّز إلى هذه الفئة فضلا عن أن يكون جائزا.

والحاصل أن الانهزام من العدو حرام ، إلّا في هاتين الحالتين ، وهذا ليس بانهزام في الحقيقة ثمّ قال تعالى : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) إلّا في هاتين الحالتين (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ) في الآخرة (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الأنفال : ١٦].

فصل

قال أبو سعيد الخدري : هذا في أصحاب بدر خاصة ؛ لأنه ما كان يجوز لهم الانهزام ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان معهم ، ولم يكن فئة يتحيّزون إليها دون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد وعده الله بالنّصر والظّفر فلم يكن لهم التحيّز إلى فئة أخرى.

وأيضا فإنّ الله شدد الأمر على أهل بدر ؛ لأنه كان أول جهاد ، ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه ، لزم منه الخلل العظيم.

فلهذا وجب التشديد والمبالغة ، ومنع الله في ذلك اليوم من أخذ الفداء من الأسرى لهذا السّبب ، وهذا قول الحسن وقتادة والضحاك (١).

قال يزيد بن أبي حبيب : أوجب الله النار لمن فرّ يوم بدر ، فلمّا كان يوم أحد قال : (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) [آل عمران : ١٥٥]. ثم كان يوم حنين بعده فقال : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة : ٢٥].

ثم قال بعده (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ)(٢) [التوبة : ٢٦].

وقال عبد الله بن عمر : كنّا في جيش بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحاص النّاس حيصة ،

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٢٦٤٨) والنسائي في الكبرى (٦ / ٣٥٠ ، ٣٥١) والطبري في تفسيره (٦ / ٢٠٠) والحاكم (٢ / ٣٢٧) من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣١٤) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبي الشيخ وابن مردويه

وهو قول الحسن. أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٠١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣١٤) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر والنحاس في ناسخه وأبي الشيخ.

وقتادة. أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٠١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣١٤) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.

والضحاك. أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٠١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣١٤) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق في «المصنف» وابن أبي شيبة.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٠١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣١٥) وزاد نسبته إلى ابن المنذر عن يزيد بن أبي حبيب.

٤٧٨

فانهزمنا ، فقلنا يا رسول الله : نحن الفرّارون ، فقال : «لا بل أنتم العكّارون» أنا فئة المسلمين(١).

وقال محمد بن سيرين : «لما قتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر فقال : لو انحاز إليّ كنت له فئة فأنا فئة كلّ مسلم» (٢).

وقيل : حكم الآية عام في كل حرب ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : «من الكبائر الفرار يوم الزّحف» والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب.

وقال عطاء بن أبي رباح : «هذه الآية منسوخة بقوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ)(٣) [الأنفال : ٦٦] فليس للقوم أن يفرّوا من مثلهم فنسخت تلك إلّا في هذه العدة.

وعلى هذا أكثر أهل العلم أنّ المسلمين إذا كانوا على الشطر من عددهم لا يجوز لهم الفرار إلّا متحرفا أو متحيّزا إلى فئة ، وإن كانوا أقلّ من ذلك جاز لهم أن يولوا عنهم وينحازوا عنهم». قال ابن عباس : «من فرّ من ثلاثة فلم يفر ، ومن فرّ من اثنين فقد فرّ» (٤).

قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ)(١٨)

قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) في هذه «الفاء» وجهان :

أحدهما ـ وبه قال الزمخشري ـ : أنّها جواب شرط مقدر ، أي : إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم.

قال أبو حيان : «وليست جوابا ، بل لربط الكلام بعضه ببعض».

قوله (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) قرأ (٥) الأخوان ، وابن عامر : (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) ، (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) بتخفيف «لكن» ورفع الجلالة ، والباقون بالتّشديد ونصب الجلالة ، وقد تقدّم توجيه القراءتين في قوله : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ) [البقرة : ١٠٢] وجاءت «لكن» هنا أحسن مجيء لوقوعها بين نفي وإثبات.

قوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) نفى عنه الرمي ، وأثبته له ، وذلك باعتبارين ، أي : ما

__________________

(١) أخرجه أحمد (٢ / ٧٠ ، ١٠٠) وأبو داود (٢ / ٥٢ ـ ٥٣) كتاب الجهاد : باب في التولي يوم الزحف حديث (٢٦٤٧).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٠١.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٠١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣١٥) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وأبي الشيخ.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣١٦) وعزاه للشافعي وابن أبي شيبة عن ابن عباس.

(٥) ينظر : حجة القراءات ص (٣٠٩) ، إتحاف ٢ / ٧٨ ، المحرر الوجيز ٢ / ٥١١ ، البحر المحيط ٤ / ٤٧١ ، الدر المصون ٣ / ٤٠٩.

٤٧٩

رميت على الحقيقة إذ رميت في ظاهر الحال ، أو ما رميت الرّعب في قلوبهم إذ رميت الحصيات والتراب.

وقوله : (وَما رَمَيْتَ) هذه الجملة عطف على قوله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) ؛ لأنّ المضارع المنفي ب «لم» في قوة الماضي المنفي ب «ما» فإنّك إذا قلت : «لم يقم» كان معناه : ما قام ولم يقل هنا : فلم تقتلوهم إذ قتلموهم ، كما قال : (إِذْ رَمَيْتَ) مبالغة في الجملة الثانية.

فصل

قال مجاهد : «سبب نزول هذه الآية أنّهم لمّا انصرفوا من القتال كان الرّجل يقول : أنا قتلت فلانا ، ويقول الآخر مثله فنزلت الآية» ومعناها : فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم ولكنّ الله قتلهم بنصره إياكم وتقويته لكم (١).

وقيل : ولكن الله قتلهم بإمداد الملائكة.

وقوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

الأول : وهو قول أكثر المفسّرين أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ندب النّاس ، فانطلقوا حتّى نزلوا بدرا ، ووردت عليهم روايا قريش ، وفيهم أسلم غلام أسود لبني الحجاج ، وأبو يسار غلام لبني العاص بن سعد ، فأتوا بهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أين قريش؟.

قالا : هم وراء الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى ، والكثيب : العقنقل.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهما : كم القوم؟ قالا : كثير.

قال : ما عددهم؟ قالا : لا ندري.

قال : كم ينحرون كلّ يوم؟ قالا : يوما عشرة ، ويوما تسعة.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القوم ما بين التسعمائة إلى الألف ، ثم قال : فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو البختري بن هشام ، وحكم بن حزام ، والحارث بن عامر ، وطعمة بن عديّ ، والنضر بن الحارث ، وأبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وسهيل بن عمرو.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هذه مكّة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» فلما أقبلت قريش ، ورآها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تصوب من العقنقل ، وهو الكثيب الذي جاءوا منه إلى الوادي.

فقال : «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك ، وتكذب رسولك ، اللهمّ فنصرك الّذي وعدتني» ، فأتاه جبريل ، فقال : خذ قبضة من تراب ، فارمهم بها ، فلمّا التقى الجمعان ، تناول رسول الله كفا من الحصى عليه تراب ، فرمى به وجوه القوم

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٠٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣١٦) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

٤٨٠