اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وقال مجاهد وابن جريج : أمروا أن يذكروه في الصدور بالتضرع في الدّعاء والاستكانة دون رفع الصوت والصّياح في الدعاء (١).

قوله بالغدوّ والآصال متعلق ب : اذكر أي : اذكره في هذين الوقتين وهما عبارة عن اللّيل والنّهار.

ومعناهما : البكرات والعشيّات.

وقال أبو البقاء (٢) : بالغدوّ متعلق ب : ادعو وهو سبق لسان ، أو قلم ، إذ ليس نظم القرآن كذا ، والغدوّ : إما جمع غدوة ، ك : قمح وقمحة ، وعلى هذا فيكون قد قابل الجمع بالجمع المعنوي.

وقيل هو مصدر ، قال تعالى (غُدُوُّها شَهْرٌ) [سبأ : ١٢] فيقدّر زمان مضاف إليه حتّى يتقابل زمان مجموع بمثله تقديره : بأوقات الغدو ، والآصال جمع : أصل ، وأصل جمع : أصيل ، فهو جمع الجمع ولا جائز أن يكون جمعا ل : أصيل ، لأنّ فعيلا ، لا يجمع على أفعال وقيل : هو جمع ل : أصيل ، وفعيل يجمع على أفعال نحو : يمين وأيمان ، وقيل : آصال جمع ل : أصل ، وأصل مفرد ، ثبت ذلك من لغتهم ، وهو العشيّ وفعل يجمع على «أفعال» قالوا : عنق وأعناق ، وعلى هذا فلا حاجة إلى دعوى أنّه جمع الجمع ، ويجمع على «أصلان» ك : رغيف ورغفان ، ويصغّر على لفظه ؛ كقوله : [البسيط]

٢٦٦٧ ـ وقفت فيها أصيلانا أسائلها

عيّت جوابا وما بالرّبع من أحد (٣)

واستدلّ الكوفيّون بقولهم : أصيلان على جواز تصغير جمع الكثرة بهذا البيت ، وتأوّله البصريّون على أنّه مفرد ، وتبدل نونه لاما. ويروى أصيلا كي.

وقرأ أبو مجلز (٤) واسمه : لاحق بن حميد السدوسيّ البصري : والإيصال مصدر : آصل أي : دخل في الأصيل ، والأصيل : ما بين العصر والمغرب.

ثمّ قال تعالى (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) والمراد منه أنّ العبد يجب أن يكون ذاكرا لله تعالى في كلّ الأوقات لأنه حثّه على الذكر بالغدوات وبالعشيات ثم عمّم بقوله : (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) يعني أنّ الذكر القلبي يجب أن يكون دائما ، وأن لا يغفل الإنسان عنه لحظة واحدة بحسب الإمكان.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) يعني الملائكة المقرّبين : «لا يستكبرون» لا يتكبّرون

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٦٥).

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٢٩١.

(٣) البيت للنابغة ينظر ديوانه (٣٠) ، الكتاب ٢ / ٣٢١ ، المقتضب ٤ / ٤١٤ ، شرح المفصل لابن يعيش ٢ / ٨٠ ، أوضح المسالك ٢ / ٣٨٩ ، مجاز القرآن ١ / ٣٢٨ ، التصريح ٢ / ٣٦٧ الإنصاف ١ / ١٧٠ ، معاني الفراء ١ / ٢٨٨ الدر المصون ٣ / ٣٩١.

(٤) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٤٩٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٤٩ ، الدر المصون ٣ / ٣٩١.

٤٤١

عن عبادته. لمّا رغّب رسوله في الذّكر ذكر عقيبه ما يقوّي دواعيه فقال : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) أي أنّ الملائكة مع نهاية شرفهم وغاية طهارتهم وبراءتهم من بواعث الشّهوة والغضب ، والحقد ، والحسد ، مواظبون على العبوديّة والسّجود ، والخضوع ، فالإنسان المبتلى بظلمات عالم الجسمانيات ومستعدا للذات البشرية أولى بالمواظبة على الطّاعة ، والمراد بالعندية القرب بالشّرف.

واستدلّوا بهذه الآية على أنّ الملائكة أفضل من البشر ، لأنّه تعالى لمّا أمر رسوله بالعبادة والذكر قال : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) أي : فأنت أحقّ وأولى بالعبادة ، وهذا إنّما يصحّ إذا كانت الملائكة أفضل منه.

قوله : (وَيُسَبِّحُونَهُ) أي : ينزّهونه ويقولون سبحان الله : (وَلَهُ يَسْجُدُونَ)».

فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ) [الحجر : ٣٠ ، ٣١] والمراد أنهم سجدوا لآدم؟

فالجواب : قال بعض العلماء : الذين سجدوا لآدم ـ عليه‌السلام ـ ملائكة الأرض ، وأمّا ملائكة السّموات فلا ، وقيل : إنّ قوله (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) يفيد أنّهم ما سجدوا لغير الله بهذا العموم ، وقوله : فسجدوا لآدم خاص والخاصّ مقدّم على العام.

فصل

روى أبو صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا قرأ ابن آدم السّجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله! أمر ابن آدم بالسّجود فسجد فله الجنّة وأمرت بالسّجود فعصيت فلي النّار» (١).

وعن معدان قال : سألت ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلت : حدّثني حديثا ينفعني الله به.

قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ما من عبد يسجد لله سجدة إلّا رفعه الله بها درجة وحطّ عنه بها خطيئة (٢).

وروي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الأعراف جعل الله بينه وبين إبليس سترا وكان آدم شفيعا له يوم القيامة قريبا منه» (٣).

__________________

(١) أخرجه مسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح ١ / ٧. كتاب الإيمان : باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة الحديث (١٣٣ / ٨١).

(٢) أخرجه مسلم في الصحيح ١ / ٣٥٣ ، كتاب الصلاة : باب فضل السجود. الحديث (٢٢٥ / ٤٨٨).

(٣) أخرجه الواحدي في «الوسيط» (٢ / ٣٤٥) وهو حديث أبيّ الطويل في فضائل القرآن سورة سورة ، وهو حديث موضوع.

٤٤٢

سورة الأنفال

مدنية. قيل : إلا سبع آيات من قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الآية : ٣٠] إلى آخر سبع آيات ، فإنّها نزلت بمكّة ، والأصح أنّها نزلت بالمدينة ، وإن كانت الواقعة بمكّة ، وهي خمس وسبعون آية ، وألف وخمس وتسعون كلمة وخمسة ألاف وثمانون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(١)

قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) الآية.

فاعل : يسأل يعود على معلوم ، وهم من حضر بدرا ، وسأل تارة تكون لاقتضاء معنى في نفس المسئول فتتعدّى ب «عن» كهذه الآية ؛ وكقول الشاعر : [الطويل]

٢٦٦٨ ـ سلي ـ إن جهلت ـ النّاس عنّا وعنهم

فليس سواء عالم وجهول (١)

وقد تكون لاقتضاء مال ونحوه ؛ فتتعدّى لاثنين ، نحو : سألت زيدا مالا ، وقد ادّعى بعضهم : أنّ السّؤال هنا بهذا المعنى.

وزعم أنّ «عن» زائدة ، والتقدير : يسألونك الأنفال ، وأيّد قوله بقراءة سعد بن أبي وقاص ، وابن مسعود ، وعلي بن الحسين ، وزيد ولده ، ومحمد الباقر ولده أيضا ، وولده جعفر الصّادق ، وعكرمة وعطاء (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) دون «عن».

والصحيح أنّ هذه القراءة على إرادة حرف الجرّ ، وقال بعضهم : «عن» بمعنى «من». وهذا لا ضرورة تدعو إليه.

وقرأ (٢) ابن محيصن «علّنفال» والأصل ، أنّه نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف ، ثم اعتدّ بالحركة العارضة ، فأدغم النّون في اللّام كقوله : (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ) [العنكبوت : ٣٨] وقد تقدم ذلك في قوله (عَنِ الْأَهِلَّةِ) [البقرة : ١٨٩].

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ١٩٥ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٥٣ ، والدر المصون ٣ / ٣٩٢.

٤٤٣

والأنفال : جمع : نفل ، وهي الزّيادة على الشيء الواجب ، وسمّيت الغنيمة نفلا ، لزيادتها على الحوزة.

قال لبيد : [الرمل]

٢٦٦٩ ـ إنّ تقوى ربّنا خير نفل

وبإذن الله ريثي وعجل (١)

وقال آخر : [الكامل]

٢٦٧٠ ـ إنّا إذا احمرّ الوغى نروي القنا

ونعفّ عند تقاسم الأنفال (٢)

وقيل : سمّيت الأنفال ؛ لأنّ المسلمين فضّلوا بها على سائر الأمم.

وقال الزمخشريّ : والنّفل ما ينفله الغازي ، أي : يعطاه ، زيادة على سهمه من المغنم ، وقال الأزهريّ «النّفل ، والنّافلة ما كان زيادة على الأصل ، وسمّيت الغنائم أنفالا ؛ لأنّ المسلمين فضّلوا بها على سائر الأمم ، وصلاة التطوع نافلة ؛ لأنّها زيادة على الفرض» وقال تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) [الأنبياء : ٧٢] أي : زيادة على ما سأل.

قال القرطبي (٣) : النّفل ـ بتحريك الفاء ـ والنّفل : اليمين ، ومنه النّفل في الحديث «فتبرئكم يهود بنفل خمسين منهم» والنّفل : الانتفاء ، ومنه الحديث فانتفل من ولده. والنّفل : نبت معروف.

فصل

في هذا السؤال قولان :

أحدهما : أنّهم سألوا عن حكم الأنفال ، كيف تصرف؟ ومن المستحقّ لها؟ نظيره قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) [البقرة : ٢٢٢] و (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) [البقرة: ٢٢٠] فقال في المحيض : (قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) وقال في اليتامى (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ). فأجابهم بالحكم المعيّن في كل واقعة فدلّ الجواب المعيّن على أنّ السؤال كان عن مخالطة النساء في المحيض ، وعن التصرّف في مال اليتامى ومخالطتهم في المؤاكلة.

الثاني : هذا سؤال استعطاء ، و «عن» بمعنى «من» ، وهذا قول عكرمة كما تقدم في قراءته.

__________________

(١) ينظر : ديوانه ص ١٧٤ ، اللسان (نفل) ، مجاز القرآن ١ / ٢٤٠ ، والقرطبي ٧ / ٢٣٠ ، ومعاني الزجاج ٢ / ٣٩٩ ، والطبري ٦ / ١٧١ ، والكشاف ٢ / ١٤٠ ، وزاد المسير ٣ / ٣١٨ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٥٢.

(٢) البيت لعنترة. ينظر : ديوانه (١٩٣) ، والقرطبي ٧ / ٣٦٢ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٥٢.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ٢٣٠.

٤٤٤

فأمّا القول الأول : وهو أنّ السؤال كان عن حكم الأنفال ومصرفها ، فهو قول أكثر المفسرين لأنّ قوله (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) [الأنفال : ١] يدلّ على أنّ المقصود منه منع القوم عن المخاصمة والمنازعة.

وقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) يدلّ على أنّ السّؤال كان بعد وقوع الخصومة بينهم ، وقوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يدلّ على ذلك أيضا. وإذا عرف ذلك فيحتمل أن يكون المراد بهذه الأنفال قسمة الغنائم ، وهي الأموال المأخوذة من الكفار قهرا ، ويحتمل أن يكون المراد غيرها.

أما الأوّل ففيه وجوه :

أحدها : أنّه عليه الصّلاة والسّلام قسم ما غنموه يوم بدر على من حضر وعلى أقوام لم يحضروا أيضا ، وهم ثمانية أنفس : ثلاثة من المهاجرين ، وخمسة من الأنصار ، فالمهاجرون : عثمان ـ رضي الله عنه ـ تركه عليه الصلاة والسلام على ابنته وكانت مريضة ، وطلحة وسعيد بن زيد فإنّه عليه الصلاة والسلام بعثهما للتّجسس عن خبر العدوّ وخرجا في طريق الشّام.

وأما الأنصار : فأبو كنانة بن عبد المنذر ، وخلفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المدينة ، وعاصم خلفه على العالية ، والحارث بن حاطب : ردّه من الرّوحاء إلى عمرو بن عوف لشيء بلغه عنه والحارث بن الصمة أصابته علة بالروحاء ، وخوات بن جبير ، فهؤلاء لم يحضروا ، وضرب لهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلك الغنائم بسهم ، فوقع من غيرهم فيه منازعة ، فنزلت هذه الآية.

ثانيها : روي أنّ الشّباب يوم بدر قتلوا وأسروا ، والأشياخ وقفوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في المضاف فقال الشبان : الغنائم لنا لأنّا قتلنا وأسرنا وهزمنا. فقال سعد بن معاذ : والله ما منعنا أن نطلب ما طلب هؤلاء زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو ، ولكن كرهنا أن تعرى مصافك ، فتعطف عليك خيل من المشركين فيصيبوك.

وروي أنّ الأشياخ قالوا : كنّا ردءا لكم ولو انهزمتم لانحزتم إلينا ، فلا تذهبوا بالغنائم ، فوقعت المخاصمة بهذا السّبب فنزلت هذه الآية.

وثالثها : قال الزجاج : «الأنفال الغنائم ، وإنّما سألوا عنها ؛ لأنها كانت حراما على من كان قبلهم».

وهذا ضعيف ؛ لأنّا بيّنّا في هذا السؤال أنه كان مسبوقا بمنازعة ومخاصمة ، وعلى قول الزجاج يكون السّؤال عن طلب حكم فقط.

وأما الاحتمال الثاني : وهو أن يكون المراد بالأنفال شيئا سوى الغنائم ، وعلى هذا أيضا فيه وجوه :

أحدها : قال ابن عباس في بعض الروايات : «المراد بالأنفال ما شذّ عن المشركين

٤٤٥

إلى المسلمين من غير قتال من أموالهم ، فهو إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يضعه حيث يشاء» (١).

وثانيها : الأنفال : الخمس ، وهو قول مجاهد (٢).

قال القوم إنما سألوه عن الخمس فنزلت الآية.

وثالثها : أنّ الأنفال هي السّلب الذي يأخذه الغازي زائدا على سهمه من المغنم ترغيبا له في القتال كقول الإمام : من قتل قتيلا فله سلبه وقوله للسرية «ما أصبتم فهو لكم ، أو فلكم نصفه أو ربعه» ولا يخمس النفل.

وعن سعد بن أبي وقّاص قال : «قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعد بن العاص بن أمية وأخذت سيفه ، وكان يسمّى ذا الكتيفة فأعجبني فجئت به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت له : إنّ الله شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف ، فقال : «ليس هو لي ، ولا لك اطرحه في القبض» فطرحته ورجعت ، وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي ، وأخذ سلبي ، وقلت وعسى أن يعطي هذا من لم يبل بلائي ، فما جاوزت إلّا قليلا حتى جاءني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أنزل الله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) فقال : يا سعد إنّك سألتني السيف ، وليس لي ، وإنه قد صار لي فخذه (٣).

قال القاضي (٤) : «وكلّ هذه الوجوه تحتمله الآية ، وليس فيها دلالة على ترجيح بعضها على البعض.

فإن صحّ دليل على اليقين قضي به ، وإلّا فالكلّ محتمل ، وإرادة الجميع جائزة فلا تناقض فيها».

قوله : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي : حكمها لله ورسوله يقسمانها كما شاءا.

__________________

(١) ورد هذا عن عطاء.

فأخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٦٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٩٥) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد والنحاس وابن المنذر وأبي الشيخ عن عطاء.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٧٠) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد.

(٣) أخرجه أحمد (١ / ١٧٨) وأبو داود (٢ / ٨٦) كتاب الجهاد : باب في النفل حديث (٢٧٤٠) والترمذي (٥ / ٢٥٠ ـ ٢٥١) كتاب التفسير : باب سورة الأنفال حديث (٣٠٧٩) والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٣٤٨ ـ ٣٤٩) والطبري في «تفسيره» (٦ / ١٧٢) والحاكم (٢ / ١٣٢) والبيهقي (٦ / ٢٩١) من طرق عن مصعب بن سعد عن أبيه وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٩١ ـ ٢٩٢) وزاد نسبته إلى ابن مردويه وابن أبي حاتم.

قال الترمذي عقب إخراجه الحديث : وقد رواه سماك بن حرب عن مصعب أيضا. قلت : وهذا الطريق أخرجه مسلم في صحيحه (٤ / ١٨٧٧) كتاب الفضائل : باب في فضل سعد بن أبي وقاص حديث (٤٣ / ٢٤١٣) باختلاف يسير في لفظه.

(٤) ينظر تفسير الفخر الرازي ١٥ / ٩٣.

٤٤٦

قال مجاهد ، وعكرمة ، والسديّ : إنها نسخت بقوله : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ)(١) [الأنفال : ٤١].

وهو قول ابن عباس في بعض الروايات.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هي ثابتة غير منسوخة ، ومعنى الآية : قل الأنفال لله في الدنيا والآخرة ، وللرسول يضعها حيث أمره الله ، أي : الحكم فيها لله ورسوله ، وقد بيّن الله مصارفها في قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) الآية (٢).

قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) وتقدّم الكلام على ذات في آل عمران ، وهي هنا صفة لمفعول محذوف تقديره : وأصلحوا أحوالا ذات افتراقكم وذات وصلكم أو ذات المكان المتصل بكم ، فإنّ «بين» قد قيل : إنه يراد به هنا : الفراق أو الوصل ، أو الظّرف ، وقال الزجاج وغيره : إنّ ذات هنا بمنزلة حقيقة الشّيء ونفسه ، وقد أوضح ذلك ابن عطيّة.

وقال أبو حيّان (٣) : «والبين الفراق ، وذات نعت لمفعول محذوف ، أي : وأصلحوا أحوالا ذات افتراقكم ، لمّا كانت الأحوال ملابسة للبين أضيفت صفتها إليه ، كما تقول : اسقني ذا إنائك ، أي : ماء صاحب إنائك ، لمّا لابس الماء الإناء وصف ب «ذا» وأضيف إلى الإناء ، والمعنى : اسقني ما في الإناء من الماء».

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

قال ابن عطيّة (٤) : جواب الشرط المتقدم في قوله وأطيعوا هذا مذهب سيبويه ، ومذهب المبرد : أنّ الجواب محذوف متأخر ، ومذهبه في هذا ألّا يتقدّم الجواب على الشرط وهذا الذي ذكره نقل النّاس خلافه ، نقلوا جواز تقديم جواب الشرط عليه عن الكوفيين ، وأبي زيد ، وأبي العبّاس ، والله أعلم.

ويجوز أن يكون للمبرّد قولان ، وكذا لسيبويه ؛ لأنّ قوله : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) يقتضي أن تكون الغنائم كلها للرسول.

ومعنى الآية : اتّقوا الله بطاعته وأصلحوا الحال بينكم بترك المنازعة ، والمخالفة ، وتسليم أمر القسمة إلى الله والرسول : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : إنّ الإيمان الذي دعاكم الرسول إليه لا يتم إلا بالتزام الطّاعة ، فاحذروا الخروج والمخالفة ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٧٥) عن مجاهد وعكرمة والسدي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٩٦) وعزاه إلى ابن أبي شيبة والنحاس في «ناسخه» وأبي الشيخ عن مجاهد وعكرمة.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٧٥) عن ابن زيد.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٥٣.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٠٠.

٤٤٧

واحتجّ من قال : ترك الطّاعة يوجب زوال الإيمان بهذه الآية ؛ لأنّ المعلّق بكلمة «إن» على الشّيء عدم عند عدم الشّيء.

قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٢)

قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية.

لمّا بيّن أن الإيمان لا يحصل إلا بالطاعة قال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) يقال : «وجل» الماضي بالكسر «يوجل» بالفتح ، وفيه لغة أخرى ، قرىء بها في الشّاذ وجلت بفتح الجيم في الماضي وكسرها في المضارع ، فتحذف الواو ، ك : وعد يعد ، ويقال في المشهورة : وجل يوجل ، ومنهم من يقول «ياجل» بقلب الواو ألفا ، وهو شاذ ؛ لأنّه قلب حرف العلّة بأحد السّببين وهو انفتاح ما قبل حرف العلّة دون تحركه وهو نظير «طائيّ» في النّسب إلى «طيّىء».

ومنهم من يقول : «ييجل» بكسر حرف المضارعة ، فتقلب الواو ياء ، لسكونها وانكسار ما قبلها ، وقد تقدّم في أول الكتاب أنّ من العرب من يكسر حرف المضارعة بشروط منها : أن لا يكون حرف المضارعة ياء إلّا في هذه اللّفظة ، وفي أبي يئبى. ومنهم من ركّب من هاتين اللغتين لغة أخرى وهي فتح الياء وقلب الواو ياء ، فقال «ييجل» فأخذ قلب الواو ممّن كسر حرف المضارعة ، وأخذ فتح الياء من لغة الجمهور.

والوجل : الفزع.

وقيل : استشعار الخوف يقال منه : وجل يوجل ، وياجل ، وييجل ، وييجل ، وجلا فهو وجل.

فصل

معنى الآية : إنّما المؤمنون الصّادقون في إيمانهم : «الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم» خافت وفرقت ، وقيل : إذا خوفوا بالله انقادوا خوفا من عقابه. «وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا» وتصديقا ويقينا ، قال عمر بن حبيب وكانت له صحبة : إن للإيمان زيادة ونقصانا ، قيل فما زيادته؟ قال : إذا ذكرنا الله وحمدناه فذلك زيادته ، وإذا سهونا وغفلنا فذلك نقصانه (١).

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي : «إنّ للإيمان فرائض وشرائع وحدودا وسننا ، فمن استكملها استكمل الإيمان ، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان» (٢).

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» المسمى «بمعالم التنزيل» (٢ / ٢٢٩).

(٢) انظر : المصدر السابق.

٤٤٨

ثم قال : (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يفوضون إليه أمورهم ، ويثقون به ، ولا يرجون غيره ، فالتّقديم يفيد الاختصاص ، أي : عليه لا على غيره ، وهذه الجملة يحتمل أن يكون لها محلّ من الإعراب ، وهو النّصب على الحال من مفعول : زادتهم ، ويحتمل أن تكون مستأنفة ، ويحتمل أن تكون معطوفة على الصّلة قبلها ، فتدخل في حيّز الصلات المتقدّمة ، وعلى الوجهين فلا محلّ لها من الإعراب.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(٤)

قوله : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) ذكر الصّلاة ؛ لأنّها رأس الطاعات الظاهرة ثم بذل المال في مرضاة الله ؛ فيدخل فيه الزكاة والصدقات ، والنّفقة في الجهاد ، وعلى المساجد والقناطر.

قال المعتزلة (١) : أجمعت الأمة على أنّه لا يجوز الإنفاق من الحرام ، فدلّ على أنّ الحرام لا يكون رزقا وقد تقدم البحث فيه. وقوله : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ) يجوز في هذ الموصول أن يكون مرفوعا على النّعت للموصول أو على البدل ، أو على البيان له ، وأن يكون منصوبا على القطع المشعر بالمدح.

قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) يجوز في حقّا أن يكون صفة لمصدر محذوف ، أي : هم المؤمنون إيمانا حقا ، ويجوز أن يكون مؤكدا لمضمون الجملة ، كقولك : هو عبد الله حقا ، والعامل فيه على كلا القولين مقدّر ، أي : أحقّه حقا ، ويجوز وهو ضعيف جدّا أن يكون مؤكّدا لمضمون الجملة الواقعة بعده وهي : لهم درجات ويكون الكلام قد تمّ عند قوله : هم المؤمنون ثم ابتدأ ب «حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ» وهذا إنّما يجوز على رأي ضعيف ، أعني تقديم المصدر المؤكّد لمضمون جملة عليها.

قوله : عند ربّهم يجوز أن يكون متعلقا ب «درجات» ، لأنّها بمعنى أجور ، وأن يتعلّق بمحذوف ؛ لأنّها صفة ل «درجات» أي : استقرّت عند ربهم ، وأن يتعلّق بما تعلّق به لهم من الاستقرار.

فصل

قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي : يقينا ، قال ابن عبّاس : برءوا من الكفر (٢) ، قال مقاتل : حقّا لا شكّ في إيمانهم (٣) ، وفيه دليل على أنّه ليس لكل أحد أن يصف نفسه

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٥ / ٩٨.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٧٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٩٨) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٢٩).

(٣) انظر معالم التنزيل للبغوي (٢ / ٢٢٩).

٤٤٩

بكونه مؤمنا حقّا ؛ لأنّ الله تعالى إنّما وصف بذلك أقواما مخصوصين على أوصاف مخصوصة ، وكلّ أحد لا يتحقّق وجود ذلك الأوصاف فيه وقال ابن أبي نجيح : سأل رجل الحسن فقال : أمؤمن أنت؟ فقال : إن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والجنّة ، والنّار ، والبعث ، والحساب ، فأنا بها مؤمن وإن كنت تسألني عن قوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية ، فلا أدري أمنهم أنا أم لا؟. وقال علقمة : كنا في سفر فلقينا قوما فقلنا : من القوم؟ فقالوا : نحن المؤمنون حقا ، فلم ندر ما نجيبهم حتّى لقينا عبد الله بن مسعود ، فأخبرناه بما قالوا ، قال : فما رددتم عليهم؟ قلنا : لم نردّ عليهم شيئا ، قال : أفلا قلتم أمن أهل الجنّة أنتم؟ إنّ المؤمنين أهل الجنّة.

وقال سفيان الثوريّ : من زعم أنّه مؤمن حقا عند الله ، ثم لم يشهد أنّه في الجنّة فقد آمن بنصف الآية دون النّصف (١).

ثم قال تعالى : (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) قال عطاء : بمعنى : درجات الجنّة يرتقونها بأعمالهم ، قال الربيع بن أنس : سبعون درجة بين كلّ درجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنة «ومغفرة» لذنوبهم ورزق كريم حسن.

قال الواحديّ (٢) : قال أهل اللّغة : الكريم : اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن ، والكريم المحمود فيما يحتاج إليه فالله تعالى موصوف بأنه كريم ، والقرآن موصوف بأنّه كريم ، قال تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) [الواقعة : ٧٧] وقال تعالى : (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) [الشعراء : ٧] (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) [النساء : ٣١] وقال : (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) [الإسراء: ٢٣] فالرزق الكريم هو الشريف الفاضل الحسن.

قوله تعالى : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ)(٥)

في قوله : (كَما أَخْرَجَكَ) عشرون وجها :

أحدها : أنّ الكاف نعت لمصدر محذوف تقديره : الأنفال ثابتة لله ثبوتا كما أخرجك ، أي : ثبوتا بالحقّ كإخراجك من بيتك بالحقّ ، يعني لا مرية في ذلك ، ووجه هذا التّشبيه أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا رأى كثرة المشركين يوم بدر ، وقلّة المؤمنين قال : من قتل قتيلا فله كذا ، ومن أسر أسيرا فله كذا ، ليرغّبهم في القتال ، فلمّا انهزم المشركون قال سعد : يا رسول الله إنّ جماعة من أصحابك وقومك فدوك بأنفسهم ، ولم يتأخّروا عن القتال جبنا ، ولا بخلا ببذل مهجتهم ، ولكنّهم أشفقوا عليك من أن تغتال ، فمتى أعطيت هؤلاء ما سميته لهم ؛ بقي خلق من المسلمين بغير شيء ؛ فأنزل الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ

__________________

(١) انظر : المصدر السابق.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٥ / ١٠٠.

٤٥٠

الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) يصنع فيها ما يشاء ، فأمسك المسلمون عن الطّلب ، وفي أنفس بعضهم شيء من الكراهة وحين خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى القتال يوم بدر كانوا كارهين لتلك المقاتلة على ما سنشرحه ، فلمّا قال : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) كان التقدير : أنّهم رضوا بهذا الحكم في الأنفال وإن كانوا كارهين له كما أخرجك ربك من بيتك بالحقّ إلى القتال ، وإن كانوا كارهين له.

الثاني : قال عكرمة : تقديره : وأصلحوا ذات بينكم إصلاحا كما أخرجك ، وقد التفت من خطاب الجماعة إلى خطاب الواحد.

والثالث : تقديره : وأطيعوا الله ورسوله طاعة محققة ثابتة كما أخرجك ، أي : كما أنّ إخراج الله إياك لا مرية فيه ولا شبهة.

الرابع : تقديره : يتوكّلون توكلا حقيقيا كما أخرجك ربّك.

الخامس : تقديره : هم المؤمنون حقّا كما أخرجك ، فهو صفة ل «حقّا».

السادس : تقديره : استقرّ لهم درجات وكذا استقرارا ثابتا كاستقرار إخراجك.

السابع : أنّه متعلق بما بعده تقديره : يجادلونك مجادلة : كما أخرجك ربك ، قال الكسائيّ «الكاف» تتعلّق بما بعده وهو قوله : (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ) والتقدير : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) على كره فريق من المؤمنين كذلك هم يكرهون القتال ويجادلونك فيه.

الثامن : تقديره : لكارهون كراهية ثابتة : كما أخرجك ربّك أي : إنّ هذين الشيئين الجدال والكراهية ثابتان لا محالة كما أنّ إخراجك ثابت لا محالة.

التاسع : أنّ «الكاف» بمعنى «إذ» ، و «ما» زائدة ، والتقدير : اذكر إذ أخرجك وهذا فاسد جدّا ، إذ لم يثبت في موضع أنّ «الكاف» تكون بمعنى «إذ» وأيضا فإنّ «ما» لا تزاد إلّا في مواضع ليس هذا منها.

العاشر : أنّ «الكاف» بمعنى : «واو» القسم ، و «ما» بمعنى «الذي» واقعة على ذي العلم مقسما به.

وقد وقعت على ذي العلم في قوله : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) [الشمس : ٥] (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [الليل : ٣] والتقدير : والذي أخرجك ، ويكون قوله : يجادلونك جواب القسم وهذا قول أبي عبيدة.

وقد ردّ النّاس عليه قاطبة ، وقالوا : كان ضعيفا في النّحو. ومتى ثبت كون الكاف حرف قسم ، بمعنى «الواو»؟ وأيضا فإن : يجادلونك لا يصحّ كونه جوابا ؛ لأنّه على مذهب البصريين متى كان مضارعا مثبتا ؛ وجب فيه شيئان : اللّام ، وإحدى النونين نحو : (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً) [يوسف : ٣٢] وعند الكوفيين إمّا اللّام ، وإمّا إحدى النونين ، ويجادلونك عار عنهما.

٤٥١

الحادي عشر : أنّ الكاف بمعنى «على» ، و «ما» بمعنى : الذي ، والتقدير : امض على الذي أخرجك ، وهو ضعيف ؛ لأنه لم يثبت كون الكاف بمعنى «على» ألبتة إلّا في موضع يحتمل النزاع كقوله (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) [البقرة : ١٩٨].

الثاني عشر : أنّ الكاف في محل رفع ، والتقدير : كما أخرجك ربك فاتّقوا الله ، كأنّه ابتداء وخبر.

قال ابن عطيّة : «وهذا المعنى وضعه هذا المفسّر وليس من ألفاظ الآية في ورد ولا صدر».

الثالث عشر : أنّها في موضع رفع أيضا والتقدير : لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم هذا وعد حقّ كما أخرجك ، وهذا فيه حذف مبتدأ وخبر ، ولو صرّح بذلك لم يلتئم التشبيه ولم يحسن.

الرابع عشر : أنّها في موضع رفع أيضا والتقدير : وأصلحوا ذات بينكم ، ذلكم خير لكم ، كما أخرجك ، فالكاف في الحقيقة نعت لخبر مبتدأ محذوف ، وهو ضعيف لطول الفصل بين قوله : «وأصلحوا» ، وبين قوله : «كما أخرجك».

الخامس عشر : أنّها في محل رفع أيضا عى خبر ابتداء مضمر ، والمعنى : أنّه شبّه كراهية أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لخروجه من المدينة ، حين تحققوا خروج قريش للدفع عن أبي سفيان وحفظ غيره بكراهيتهم لنزع الغنائم من أيديهم ، وجعلها لله ورسوله ، يحكم فيها ما يشاء. واختار الزمخشري هذا الوجه وحسّنه.

فقال : «يرتفع محلّ الكاف على أنه خبر ابتداء محذوف تقديره : هذه الحال كحال إخراجك ، يعني أنّ حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجهم للحرب». وهذا الذي حسّنه الزمخشريّ هو قول الفرّاء ـ وقد شرحه ابن عطيّة بنحو ما تقدّم من الألفاظ ـ فإنّ الفرّاء (١) قال : «هذه الكاف شبّهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصّة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال».

السادس عشر : أنّها صفة لخبر مبتدأ أيضا ، وقد حذف المبتدأ وخبره ، والتقدير : قسمتك الغنائم حق كما كان إخراجك حقا.

السابع عشر : أنّ التّشبيه وقع بين إخراجين ، أي : إخراج ربك إيّاك من بيتك ، وهو مكّة وأنت كاره لخروجك ، وكان عاقبة ذلك الإخراج النّصر والظفر كإخراجه إيّاك من المدينة وبعض المؤمنين كاره ، يكون عقيب ذلك الخروج الظفر والنصر والخير ، كما كان عقيب ذلك الخروج الأول.

الثامن عشر : أن تتعلّق الكاف بقوله : «فاضربوا» ، وبسط هذا على ما قاله صاحب

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٤٠٣.

٤٥٢

هذا الوجه أن تكون الكاف للتشبيه على سبيل المجاز كقول القائل لعبده : كما رجعتك إلى أعدائي فاستضعفوك ، وسألت مددا فأمددتك ، وأزحت عللك ، فخذهم الآن وعاقبهم ، كما أحسنت إليك وأجريت عليك الرزق ، فاعمل كذا ، واشكرني عليه ، فتقدير الآية : كما أخرجك ربّك من بيتك بالحق وغشّاكم النّعاس أمنة منه ، وأنزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به وأنزل عليكم من السّماء ملائكة مردفين فاضربوا فوق الأعناق ، وأضربوا منهم كلّ بنان. كأنه يقول : قد أزحت عللكم ، وأمددتكم بالملائكة ، فاضربوا منهم هذه المواضع وهو القتل ، لتبلغوا مراد الله في إحقاق الحقّ ، وإبطال الباطل ، وهذا الوجه بعد طوله لا طائل تحته لبعده من المعنى وكثرة الفواصل.

التاسع عشر : التقدير : كما أخرجك ربك من بيتك بالحقّ ، أي : بسبب إظهار دين الله ، وإعزاز شريعته ، وقد كرهوا خروجك تهيّبا للقتال وخوفا من الموت إذ كان أمر النبي ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ بخروجهم بغتة ، ولم يكونوا مستعدّين للخروج ، وجادلوك في الحقّ بعد وضوحه نصرك الله وأمدّك بملائكته ودلّ على هذا المحذوف الكلام الذي بعده ، وهو قوله (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) الآيات.

وهذا الوجه استحسنه أبو حيّان ، وزعم أنه لم يسبق به.

ثم قال : «ويظهر أنّ الكاف ليست لمحض التّشبيه ، بل فيها معنى التّعليل».

وقد نصّ النحويّون على أنّها للتعليل وخرّجوا عليه قوله تعالى : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ).

وأنشدوا : [الرجز]

٢٦٧١ ـ لا تشتم النّاس كما لا تشتم (١)

أي : لانتفاء شتم النّاس لك لا تشتمهم.

ومن الكلام الشّائع : كما تطيع الله يدخلك الجنّة ، أي : لأجل طاعتك الله يدخلك الجنّة ، فكذا الآية ، والمعنى : لأن خرجت لإعزاز دين الله ، وقتل أعدائه نصرك وأمدّك بالملائكة.

العشرون : تقديره : وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين كما إخراجك في الطّاعة خير لكم كما كان إخراجك خيرا لهم ، وهذه الأقوال ضعيفة كما بينا.

قوله : «بالحقّ» فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلّق بالفعل ، أي : بسبب الحقّ ، أي : إنّه إخراج بسبب حق يظهر ، وهو علوّ كلمة الإسلام ، والنّصر على أعداء الله.

__________________

(١) تقدم.

٤٥٣

والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنّه حال من مفعول : «أخرجك» أي : ملتبسا بالحقّ.

قوله : وإن فريقا الواو للحال ، والجملة في محلّ نصب ، ولذلك كسرت «إنّ» ومفعول «كارهون» محذوف ، أي : لكارهون الخروج ، وسبب الكراهية : إمّا نفرة الطبع ممّا يتوقّع من القتال ، وإمّا لعدم الاستعداد. والمراد ب «بيته» بيته بالمدينة ، أو المدينة نفسها.

فصل

روى ابن عبّاس ، وابن الزّبير ، ومحمّد بن إسحاق ، والسّديّ أنّ أبا سفيان أقبل من الشّام في عير لقريش في أربعين راكبا من كفّار قريش منهم : عمرو بن العاص ، ومخرمة ابن نوفل ، وفيها أموال كثيرة ، حتّى إذا كانوا قريبا من بدر ، أخبر جبريل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعجبهم تلقي العير ، لكثرة الخير ، وقلة العدوّ ، فانتدب النّاس ، فخفّ بعضهم وثقل بعضهم ؛ لأنهم لم يظنّوا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلقى حربا.

فلمّا سمع أبو سفيان بمسير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكّة وأمره أن يأتي قريشا يستنفرهم ، ويخبرهم أنّ محمدا قد عرض لعيرهم في أصحابه ، فخرج ضمضم سريعا إلى مكّة.

وقد رأت عاتكة بنت عبد المطالب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها ، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له : يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني وخشيت أن يدخل على قومك منها شرّ ومصيبة فاكتم عليّ ما أحدثك.

قال لها : وما رأيت؟ قالت : رأيت راكبا أقبل على بعير له حتّى وقف بالأبطح ثمّ صرخ بأعلى صوته ألا فانفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث فأرى النّاس قد اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه ، فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة ، ثمّ صرخ بمثلها بأعلى صوته ألا فانفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ، ثمّ مثل به بغيره على رأس أبي قبيس ، ثمّ صرخ بمثلها ثم أخذ صخرة ، فأرسلها فأقبلت تهوي حتّى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضّت فما بقي بيت من بيوت مكّة إلّا دخلته منها فلقة ، فحدّث بها العباس الوليد ، فذكرها الوليد لأبيه عتبة ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش.

قال العباس : فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل في رهط من قريش قعود يتحدّثون برؤيا عاتكة ، فلمّا رآني أبو جهل قال : يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا.

قال : فلمّا فرغت أقبلت حتّى جلست معهم.

فقال أبو جهل : يا بني عبد المطلب متى حدثت هذه النبية فيكم قلت : وما ذاك؟.

قال : الرّؤيا التي رأتها عاتكة قلت : وما رأت؟.

قال : يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتّى تتنبأ نساؤهم لقد زعمت عاتكة في رؤياها أنّه قال : انفروا في ثلاث ، فسنتربّص بكم هذه الثلاث ، فإن يك ما قالت

٤٥٤

حقّا فسيكون ، وإن تمض الثلاث ، ولم يكن من ذلك شيء ؛ نكتب عليكم كتابا أنّكم أكذب هل بيت في العرب قال العباس : فو الله ما كان منّي إليه كبير فلمّا كان بعد ثلاث إذ هو يسمع صوت ضمضم بن عمرو وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره وقد جدع بعيره ، وحول رحله ، وشق قميصه ، وهو يقول : يا معشر قريش اللّطيمة ، أموالكم مع أبي سفيان ، قد عرض لها محمّد في أصحابه ولا أرى أن تدركوها الغوث.

فخرج أبو جهل بجميع أهل مكّة وهم النّفير ، وفي المثل السّائر : لا في العير ، ولا في النفير ، فقيل له : إنّ العير قد أخذت طريق السّاحل ، ونجت ، فارجع بالنّاس إلى مكّة ، فقال : لا والله لا يكون ذلك أبدا حتّى ننحر الجزور ، ونشرب الخمور ، ونقيم القينات والمعازف ببدر ، فيتسامع العرب بخروجنا ، وأنّ محمدا لم يصب العير ، فمضى بهم إلى بدر ، وبدر كانت العرب تجمع فيه يوما في السّنة لسوقهم.

ونزل جبريل وقال : إنّ القوم قد خرجوا من مكّة على كلّ صعب وذلول ، وإن الله قد وعدكم أحدى الطائفتين فالعير أحب إليكم أم النفير؟.

قالوا : بل العير أحبّ إلينا من لقاء العدو ، فتغيّر وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : إنّ العير قد مضت على ساحل البحر ، وهذا أبو جهل قد أقبل.

فقالوا : يا رسول الله عليك بالعير ودع العدوّ فقام عند غضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو بكر وعمر فأحسنا ، ثمّ قام سعد بن عبادة وقال : امض لما أمرك الله به ، فو الله لو سرت إلى عدن ما تخلّف رجل عنك من الأنصار ، ثم قال المقداد بن عمرو : يا رسول الله امض لما أمرك الله ؛ فإنّا معك حيث أردت ، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) [المائدة : ٢٤] ولكن نقول : اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون ما دامت عين منّا تطرف ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال «سيروا على بركة الله ، وأبشروا ، فإنّ الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأنّي الآن أنظر إلى مصارع القوم» (١).

عن أنس قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا مصرع فلان قال : ويضع يده على الأرض ههنا وههنا ، قال : فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولمّا فرغ نبيّ الله من بدر قال بعضهم : عليك بالعير ، فناداه العبّاس وهو في وثاقه : لا يصلح ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لم؟ قال : لأنّ الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك (٢).

__________________

(١) أخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» (٣ / ٢٩ ـ ٣١) والخبر في سيرة ابن هشام (٢ / ٢٤٥ ـ ٢٤٧) ومغازي الواقدي (١ / ٢٨ ـ ٣٣).

وانظر : «معالم التنزيل» للبغوي (٢ / ٢٣٠ ـ ٢٣١).

(٢) أخرجه مسلم (٣ / ١٤٠٣ ـ ١٤٠٤) كتاب الجهاد والسير : باب غزوة بدر وأبو داود (٢٦٨١) والنسائي (٤ / ١٠٩) وأحمد (٣ / ٢١٩) من حديث أنس.

٤٥٥

إذا عرف ذلك نقول كانت كراهية القتال حاصلة لبعضهم لقوله تعال : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) [الأنفال : ٥] والحق الذي جادلوا فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلقي النفير لايثارهم العير.

قوله تعالى : (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ)(٦)

قوله : «بعد ما تبيّن» المراد منه : إعلام رسول الله بأنّهم ينصرون ، وجدالهم قولهم : ما كان خروجنا إلّا للعير ، وهلّا قلت لنا لنستعدّ ونتأهّب للقتال ؛ لأنّهم كانوا يكرهون القتال ثمّ إنّه تعالى شبّه حالهم في فرط فزعهم بحال من يجرّ إلى القتل ، ويساق إلى الموت وهو شاهد لأسبابه ناظر إلى موجباته ، ومنه قوله عليه‌السلام : «من نفى ابنه وهو ينظر إليه» أي يعلم أنّه ابنه ، كقوله تعالى : (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) [النبأ : ٤٠] أي يعلم وكان خوفهم لأمور :

أحدها : قلّة العدد.

وثانيها : كانوا رجّالة ، روي أنه ما كان فيهم إلا فارسان. وثالثها : قلة السلاح.

قوله : يجادلونك يحتمل أن يكون مستأنفا إخبارا عن حالهم بالمجادلة ، ويحتمل أن يكون حالا ثانية أي : أخرجك في حال مجادلتهم إيّاك ، ويحتمل أن يكون حالا من الضّمير في لكارهون ، أي : لكارهون في حال جدال.

والظاهر أنّ الضمير المرفوع يعود على الفريق المتقدّم.

ومعنى المجادلة قولهم : كيف تقاتل ولم نستعد للقتال؟ ويجوز أن يعود على الكفّار ، وجدالهم ظاهر.

قوله : بعد ما تبيّن منصوب بالجدال ، و «ما» مصدرية ، أي : بعد تبينه ووضوحه ، وهو أقبح من الجدال في الشّيء قبل إيضاحه.

وقرأ عبد (١) الله «بيّن» مبنيا للمفعول من : بيّنته أي : أظهرته ، وقوله : «وهم ينظرون» حال من مفعول يساقون.

قوله تعالى : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ)(٧)

قوله «وإذ يعدكم» «إذ» منصوب بفعل مقدر ، أي : اذكر إذ ، والجمهور على رفع الدال ؛ لأنّه مضارع مرفوع.

وقرأ مسلمة بن (٢) محارب : بسكونها على التّخفيف لتوالي الحركات.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٠ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٥٨ ، والدر المصون ٣ / ٣٩٧.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٠٣ ، والدر المصون ٣ / ٣٩٧.

٤٥٦

وقرأ ابن محيصن (١)(يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى) يوصل همزة احدى تخفيفا على غير قياس ، وهي نظير قراءة من قرأ : إنها لحدى [المدثر : ٣٥] بإسقاط الهمزة أجرى همزة القطع مجرى همزة الوصل ، وقرأ أيضا (٢) أحد بالتّذكير ؛ لأنّ الطائفة مؤنث مجازي.

فصل

إحدى الطائفتين أي : الفرقتين :

أحدهما : أبو سفيان مع العير ، الأخرى أبو جهل مع النّفير ، و «أنّها لكم» منصوب المحلّ على البدل من إحدى أي : يعدكم أنّ إحدى الطائفتين كائنة لكم ، أي : تتسلّطون عليها تسلّط الملّاك ، فهي بدل اشتمال وتودّون تريدون : (أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) يعني : العير التي ليس فيها قتال والشّوكة : السلاح كسنان الرّمح ، والنصل والسّيف ، وأصلها من النّبت الحديد الطرف ، ك : «شوك السّعدان» ، يقال منه : رجل شائك ، فالهمزة من «واو» ، ك : قائم ، ويجوز قلبه بتأخير عينه بعد لامه ، فيقال : شاك ، فيصير ك : غاز ، ووزنه حينئذ فال.

قال زهير : [الطويل]

٢٦٧٢ ـ لدى أسد شاكي السّلاح مقذّف

له لبد أظفاره لم تقلّم (٣)

ويوصف السلاح : بالشّاكي ، كما يوصف به الرّجل ، فيقال : رجل شاك ، وشاك ، وسلاح شاك ، وشاك. فأمّا «شاك» غير معتل الآخر ، وألفه منقلبة عن عين الكلمة ، ووزنه في الأصل على فعل بكسر العين ، ولكن قلبت ألفا ، كما قالوا : كبش صاف أي صوف ، وكذلك «شاك» أي : شوك.

ويحتمل أن يكون محذوف العين ، وأصله «شائك» ، فحذفت العين ، فبقي «شاكا» فألفه زائدة ، ووزنه على هذا «فال».

وأمّا : «شاك» فمنقوص ، وطريقته بالقلب كما تقدم ، ومن وصف السلاح بالشاك قوله : [الوافر]

٢٦٧٣ ـ وألبس من رضاه في طريقي

سلاحا يذعر الأبطال شاكا (٤)

فهذا يحتمل أن يكون محذوف العين ، وأن يكون أصله «شوكا» ، ك : صوف. ويقال أيضا : هو شاكّ في السلاح ، بتشديد الكاف ، من «الشّكّة» ، وهي السلاح أجمع ، نقله الهرويّ ، والرّاغب.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٠٣ ، والدر المصون ٣ / ٣٩٧ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٥٨.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٥٨ ، والدر المصون ٣ / ٣٩٧.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٥٢ ، والدر المصون ٣ / ٣٩٩.

٤٥٧

قال : إنّكم تريدون الطائفة التي لا حدة لها ، يعني : العير ، ولكن الله يريد التّوجّه إلى الطائفة الأخرى ليحق الحقّ بكلماته.

وقرأ مسلمة (١) بن محارب : «بكلمته» على التّوحيد ، والمراد به : اسم الجنس فيؤدّي مؤدّى الجمع ، والمراد بقوله : «بكلماته» أي : بأمره إيّاكم بالقتال ، وقيل : بهدايته التي سبقت من إظهار الدّين وإعزازه. «ويقطع دابر الكافرين» والدّابر الآخر من دبر ، ومنه دابرة الطّائر وقطع الدّابر عبارة عن الاستئصال أي : ليستأصلهم حتى لا يبقى منهم أحد.

قوله تعالى : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)(٨)

قوله : «ليحقّ» فيه وجهان :

أحدهما : أنّه متعلق بما قبله ، أي : ويقطع ليحق الحقّ ، والثاني : أن يتعلّق ، بمحذوف تقديره : ليحقّ الحقّ فعل ذلك ، أي : ما فعله إلّا لهما ، وهو إثبات الإسلام وإظهاره وزوال الكفر ومحقه.

قال الزمخشريّ (٢) : «ويجب أن يقدّر المحذوف مؤخرا ليفيد الاختصاص وينطبق عليه المعنى». وهذا على رأيه ، وهو الصحيح.

فإن قيل : قوله : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) ثم قوله بعد ذلك : «ليحقّ الحقّ» تكرير محض.

فالجواب : أنّ المراد بالأوّل سبب ما وعد الله به هذه الواقعة من النّصر والظّفر بالأعداء.

والمراد بالثاني : تقوية القرآن والدّين ونصرة هذه الشّريعة ؛ لأنّ الذي وقع من المؤمنين يوم بدر بالكافرين سبب لعزة الدّين وقوته ، ولهذا قرنه بقوله : (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) الذي هو الشرك ، وذلك في مقابلة : «الحقّ» الذي هو الدين والإيمان.

فإن قيل : الحقّ حقّ لذاته ، والباطل باطل لذاته ، وما ثبت للشيء لذاته ؛ فإنّه يمتنع تحصيله بجعل جاعل فما المراد من تحقيق الحقّ وإبطال الباطل.

الجواب : المراد من تحقيق الحقّ وإبطال الباطل إظهار كون ذلك الحقّ حقّا ، وإظهار كون الباطل باطلا ، وذلك يكون تارة بإظهار الدّلائل والبينات ، وتارة بتقوية رؤساء الباطل.

فصل

احتجوا بقوله : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ) في مسألة خلق الأفعال.

__________________

(١) وقرأ بها أبو جعفر ، ونافع ، وشيبة بخلاف عنهم كما في : المحرر الوجيز ٢ / ٥٠٤ ، وينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٥٨ ، والدر المصون ٣ / ٣٩٧.

(٢) ينظر : الكشاف : ٢ / ٢٠٠.

٤٥٨

قالوا : يجب حمله على أنه يوجد الحقّ ويكونه ، والحقّ ليس إلّا الدين والاعتقاد ، فدل على أنّ العقائد الحقة لا تحصل إلّا بتكوين الله ، ولا يمكن حمل تحقيق الحقّ على إظهار آثاره ؛ لأنّ ذلك الظّهور حصل بفعل العباد ، فامتنع إضافة ذلك الإظهار إلى الله تعالى ، ولا يمكن أن يقال : المراد من إظهاره وضع الدلائل عليها ، لأنّ هذا المعنى حاصل في حق الكافر والمسلم.

وقبل هذه الواقعة وبعدها فلا يبقى لتخصيص هذه الواقعة بهذا المعنى فائدة أصلا.

قالت المعتزلة : هذه الآية تدلّ على أنّه لا يريد تحقيق الباطل وإبطال الحق ألبتّة ، إنّما يريد تحقيق الحقّ ، وإبطال الباطل ، وذلك يبطل قول من يقول إنّه لا باطل ولا كفر إلّا والله تعالى مريد له.

وأجيبوا : بأنه يثبت في أصول الفقة أنّ المفرد المحلى بالألف واللّام ينصرف إلى المعهود السّابق فهذه الآية دلّت على أنّه تعالى أراد تحقيق الحق ، وإبطال الباطل في الصّورة ، فلم قلتم إنّ الأمر كذلك في جميع الصّور؟.

وقد بيّنا أيضا بالدّليل أنّ هذه الآية تدلّ على صحّة قولنا.

ثم قال تعالى : (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) أي : المشركون.

قوله تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ)(٩)

قوله : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) الآية.

في «إذ» خمسة أوجه :

أحدها : أنّه منصوب ب «اذكر» مضمرا ، ولذلك سمّاه الحوفي مستأنفا ، أي : إنّه منقطع عمّا قبله.

والثاني : أنّه منصوب ب «يحقّ» أي : يحقّ الحقّ وقت استغاثتكم ، وهو قول ابن جرير وهو غلط ؛ لأنّ «ليحقّ» ، مستقبل ؛ لأنّه منصوب بإضمار «أن» و «إذ» ظرف لما مضى ، فكيف يعمل المستقبل في الماضي؟.

الثالث : أنّه بدل من «إذ» الأولى ، قاله الزمخشري ، وابن عطيّة ، وأبو البقاء وكانوا قد قدّموا أنّ العامل في «إذ» الأولى «اذكر» مقدرا.

الرابع : أنّه منصوب ب «يعدكم» قاله الحوفيّ ، وقبله الطبري.

الخامس : أنّه منصوب بقوله «تودّون» قاله أبو البقاء ، وفيه بعد لطول الفصل.

واستغاث : يتعدّى بنفسه ، وبالباء ، ولم يجىء في القرآن إلّا متعدّيا بنفسه ، حتّى نقم ابن مالك على النحويين قولهم : المستغاث له ، أو به ، والمستغاث من أجله ، وقد أنشدوا على تعدّيه بالحرف قول الشاعر : [البسيط]

٤٥٩

٢٦٧٤ ـ حتّى استغاثت بماء لا رشاء له

من الأباطح في حافاته البرك

مكلّل بأصول النّجم تنسجه

ريح خريق لضاحي مائه حبك

كما استغاث بسيء فزّ غيطلة

خاف العيون ولم ينظر به الحشك (١)

فدلّ هذا على أنّه يتعدّى بالحرف كما استعمله سيبويه وغيره.

فصل

الاستغاثة : طلب الغوث ، وهو النّصر والعون ، وقيل : الاستغاثة : سدّ الخلّة وقت الحاجة ، وقيل : هي الاستجارة ، ويقال : غوث ، وغواث ، والغيث من المطر ، والغوث من النّصرة ، فعلى هذا يكون «استغاث» مشتركا بينهما ، ولكن الفرق بينهما في الفعل ، فيقال : استغثته فأغاثني من الغوث ، وغاثني من الغيث ، وفي هذه الاستغاثة قولان :

الأول : أنّ هذه الاستغاثة كانت من الرّسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ.

قال ابن عبّاس : حدّثني عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال : لمّا كان يوم بدر نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المشركين ، وهم ألف وإلى أصحابه ، وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، واستقبل القبلة ، ومد يده ، فجعل يهتف بربّه : «اللهمّ أنجز لي ما وعدتني ، اللهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» فلم يزل كذلك حتّى سقط رداؤه عن منكبه ، وردّه أبو بكر ثمّ التزمه ، ثم قال : كفاك يا نبيّ الله مناشدتك ربّك ، فإنّه سينجز لك ما وعدك ؛ فأنزل الله الآية ، ولما اصطفّ القوم قال أبو جهل : اللهمّ أولانا بالحقّ فانصره (٢).

الثاني : أن هذه الاستغاثة كانت من جماعة المؤمنين ؛ لأن الوجه الذي لأجله أقدم الرسول على الاستغاثة كان حاصلا فيهم ، بل خوفهم كان أشدّ من خوف الرسول ، ويمكن الجمع بينهما بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا وتضرع ، والمؤمنون كانوا يؤمّنون على دعائه.

__________________

(١) الأبيات لزهير ينظر : ديوانه (١٧٥ ـ ١٧٧) والبحر المحيط ٤ / ٤٥٩ ـ ٤٦٠ والدر المصون ٢ / ٣٩٨.

والدر اللقيط ٤ / ٤٦٥ والبيت الأول ينظر : الألوسي ٩ / ١٧٢ وحاشية الشهاب ٤ / ٢٥٥ ، واللسان (برك) والتهذيب ١٠ / ٢٢٩ (برك) والبيت الثاني في اللسان (حبك) والمحتسب ٢ / ٢٨٧ ، والبيت الثالث في الخصائص ٢ / ٣٣٤ واللسان (حشك) ، والدر المصون ٣ / ٣٩٨.

(٢) أخرجه أحمد (١ / ٣٠ ، ٣٢) ومسلم (٣ / ١٣٨٣ ـ ١٣٨٤) كتاب الجهاد والسير : باب : الإمداد بالملائكة في غزوة بدر حديث (٥٨ / ١٧٦٣) والترمذي (٥ / ٢٥١ ـ ٢٥٢) كتاب التفسير : باب سورة الأنفال حديث (٣٠٨١) وأبو داود (٢ / ٦٨) رقم (٢٦٩٠) والطبري في «تفسيره» (٦ / ١٨٨) وأبو نعيم في «دلائل النبوة» (ص ٣٥٧ ـ ٣٥٨) والبيهقي في «الدلائل» (٣ / ٥١ ـ ٥٢) من طريق أبي زميل عن ابن عباس عن عمر به ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٠٨) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي عوانة وابن حبان وأبي الشيخ وابن مردويه.

٤٦٠