اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

المضاف إليه مقامه وكذا فيما : «آتاهما» أي أولادهما ، كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] أي أهل القرية.

فإن قيل : فعلى هذا التأويل ما الفائدة في تثنية قوله «جعلا له»؟

قلنا : لأنّ ولده قسمان ذكر وأنثى فقوله «جعلا» المراد منه الذكر والأنثى فمرة عبّر عنهما بلفظ التثنية لكونهما صنفين ونوعين ، ومرّة عبّر عنهم بلفظ الجمع ، وهو قوله : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

وثالثها : سلّمنا أن الضمير في قوله : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) عائد إلى آدم وحواء ـ عليهما‌السلام ـ إلّا أنه قيل : إنّه تعالى لما آتاهما ذلك الولد الصّالح عزما أن يجعلاه وقفا على خدمة الله وطاعته وعبوديّته على الإطلاق ، ثمّ بدا لهما في ذلك ، فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدّنيا ومنافعها ، وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله تعالى وطاعته ، وهذا العمل ، وإن كان منّا طاعة وقربة ، إلّا أنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين ، فلهذا قال الله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

وقال عليه الصّلاة والسّلام حاكيا عن الله تعالى : «أنا أغنى الأغنياء عن الشّرك من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه» (١).

التأويل الرابع : سلّمنا أنّ القصّة في آدم وحواء ، إلّا أنّا نقول : إنّما سموه بعبد الحارث لأنّهم اعتقدوا أنه إنما سلم من الآفة والمرض بسبب دعاء ذلك الشخص المسمّى بالحارث.

وقد يسمى المنعم عليه عبدا للمنعم ، كما يقال في المثل : أنا عبد من تعلّمت منه حرفا فآدم وحوّاء إنما سمياه بعبد الحارث لاعتقادهم أنّ سلامته من الآفات ببركة دعائه ، ولا يخرجه ذلك عن كونه عبدا لله من جهة أنّه مملوكه ومخلوقه ، وقد ذكرنا أنّ حسنات الأبرار سيئات المقربين فلمّا حصل الاشتراك في لفظ العبد لا جرم عوتب آدم عليه الصّلاة والسّلام في هذا العمل بسبب الاشتراك في مجرد لفظ العبد.

قوله : «جعلا له» قيل : ثمّ مضاف ، أي : جعل له أولادهما شركاء ، كما تقدّم في التّأويل السّابق ، وإلّا فحاشا آدم وحواء من ذلك ، وإن جعل الضّمير ليس لآدم وحواء ، فلا حاجة إلى تقديره كما مرّ تقريره.

وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم (٢) شركا بكسر الشّين وسكون الرّاء وتنوين الكاف.

__________________

(١) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح ٤ / ٢٢٨٩ ، كتاب الزهد والرقائق باب من أشرك في عملهم غير الله الحديث (٤٦ / ٢٩٨٥).

(٢) ينظر : السبعة ٢٩٩ ، والحجة ٤ / ١١١ ، وإعراب القراءات ٢ / ٢١٦ ، وحجة القراءات ٣٠٤ ، وإتحاف فضلاء البشر ٢ / ٧١.

٤٢١

والباقون بضمّ الشين ، وفتح الرّاء ، ومدّ الكاف مهموزة ، من غير تنوين ، جمع «شريك».

فالشّرك مصدر ، ولا بد من حذف مضاف ، أي : ذوي شرك ، يعني : إشراك ، فهو في الحقيقة اسم مصدر ، ويكون المعنى : أحدثا له إشراكا في الولد ، وقيل : المراد بالشّرك : النصيب وهو ما جعلاه من رزقهما له يأكله معهما ، وكانا يأكلان ويشربان وحدهما ، فالضّمير في له يعود على الولد الصّالح.

وقيل : الضمير في له لإبليس ولم يجر له ذكر ، وهذان الوجهان لا معنى لهما.

وقال مكيّ وأبو البقاء وغيرهما : إنّ التقدير يجوز أن يكون : جعلا لغيره شركا.

قال شهاب الدّين (١) : هذا الذي قدّره هؤلاء قد قال فيه أبو الحسن : كان ينبغي لمن قرأ شركا أن يقول المعنى : جعلا لغيره شركا ؛ لأنّهما لا ينكران أنّ الأصل لله فالشرك إنّما يجعله لغيره.

قوله : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) قيل : هذه جملة استئنافية ، والضمير في : يشركون يعود على الكفّار ، وأراد به إشراك أهل مكّة والكلام قد تمّ قبله ، وقيل : يعود على آدم وحواء وإبليس ، والمراد بالإشراك تسميتهما الولد الثالث ب «عبد الحارث» وكان أشار بذلك إبليس ، فالإشراك في التّسمية فقط ، وقيل : راجع إلى جميع المشركين من ذريّة آدم ، وهو قول الحسن ، وعكرمة ، أي : جعل أولادهما له شركاء فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كما أضاف فعل الآباء إلى الأبناء في تعييرهم بفعل الآباء فقال : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٥١] (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) [البقرة : ٧٢] خاطب به اليهود الذين كانوا في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان ذلك الفعل من آبائهم.

وقيل : لم يكن آدم علم ، ويؤيد الوجه الأول قراءة (٢) السّلمي : «عمّا تشركون» بتاء الخطاب وكذلك «أتشركون» بالخطاب أيضا ، وهو التفات.

قوله : (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً).

هذه الآية من أقوى الدّلائل على أنّه ليس المراد بقوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ما ذكره في قصّة إبليس إذ لو كان المراد ذلك لكانت هذه الآية أجنبية عنها بالكليّة ، وكان ذلك النّظم في غاية الفساد ، بل المراد ما ذكرناه في الأجوبة من أنّ المقصود من الآية السابقة الرّدّ على عبدة الأوثان ؛ لأنه أراد ههنا إقامة الحجّة على أنّ الأوثان لا تصلح للإلهيّة فقوله : (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أي : أيعبدون ما لا يقدر على أن يخلق شيئا؟ وهم يخلقون ، يعني الأصنام.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٨٣.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٨٨ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٣٨ ، والدر المصون ٣ / ٣٨٣.

٤٢٢

قوله : (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) يجوز أن يعود الضمير على ما من حيث المعنى وعبّر عن ما وهو مفرد بضمير الجمع ؛ لأنّ لفظة ما تقع على الواحد والاثنين والجمع فهي من صيغ الواحد بحسب لفظها ، ومحتملة للجمع فالله تعالى اعتبر الجهتين ؛ فوحّد قوله يخلق لظاهر اللفظ وجمع قوله : (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) للمعنى ، والمراد بها الأصنام وعبر عنهم ب «هم» وجمعهم بالواو والنون ، لاعتقاد الكفار فيها ما يعتقدونه في العقلاء أو لأنهم مختلطون بمن عبد من العقلاء كالمسيح وعزير ، أو يعود على الكفّار ، أي : والكفار مخلوقون فلو تفكّروا في ذلك لآمنوا.

فصل

دلّت هذه الآية على أنّ العبد لا يخلق أفعاله ؛ لأنّه تعالى طعن في إلاهية الأصنام لكونها لا تخلق شيئا وهذا الطّعن لا يتمّ إلّا إذا قلنا بأنّها لو كانت خالقة لشيء لم يتوجه الطعن في إلاهيتها ، وهذا يقتضي أنّ من كان خالقا كان إلها ، فلو كان العبد خالقا لأفعال نفسه كان إلها ، ولمّا كان ذلك باطلا علمنا فساد هذا القول.

قوله : (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً) أي : أن الأصنام لا تنصر من أطاعها ، ولا تضرّ من عصاها ، وهو المراد بقوله : (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ).

قوله : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) الظاهر أنّ الخطاب للكفّار ، وضمير النّصب للأصنام ، أي : وإن تدعوا آلهتكم إلى طلب هدى ورشاد ـ كما تطلبونه من الله ـ لا يتابعوكم على مرادكم ، ويجوز أن يكون الضمير للرسول والمؤمنين ، والمنصوب للكفّار ، أي وإن تدعوا أنتم هؤلاء الكفار إلى الإيمان ، ولا يجوز أن يكون تدعوا مسندا إلى ضمير الرسول فقط ، والمنصوب للكفّار أيضا ؛ لأنّه كان ينبغي أن تحذف الواو ، لأجل الجازم ، ولا يجوز أن يقال : قدّر حذف الحركة وثبت حرف العلّة ؛ كقوله : [البسيط]

٢٦٤٧ ـ هجوت زبّان ثمّ جئت معتذرا

من هجو زبّان لم تهجو ولم تدع (١)

ويكون مثل قوله تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) [يوسف : ٩٠] ، (فَلا تَنْسى) [الأعلى : ٦] (لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) [طه : ٧٧] لأنّه ضرورة ، وأمّا الآيات فمؤولة وسيأتي ذلك.

قوله : (لا يَتَّبِعُوكُمْ) قرأ نافع (٢) بالتخفيف ، وكذا في الشعراء (يَتَّبِعُهُمُ) [٢٤٤].

__________________

(١) ينظر : الإنصاف ١ / ٢٤ ، وخزانة الأدب ٨ / ٣٥٩ ، والدرر ١ / ١٦٢ ، سر صناعة الإعراب ٢ / ٦٣٠ ، شرح التصريح ١ / ٨٧ ، شرح شافية ابن الحاجب ٣ / ١٨٤ ، شرح شواهد الشافية ص ٤٠٦ ، المفصل ١٠ / ١٠٤ ، المقاصد النحوية ١ / ٢٣٤ ، الممتع في التصريف ٢ / ٥٣٧ ، المنصف ٢ / ١١٥ ، همع الهوامع ١ / ٥٢ ، والدر المصون ٣ / ٣٨٤.

(٢) ينظر : السبعة ٢٩٩ ، والحجة ٤ / ١١٣ ، وإعراب القراءات ١ / ٢١٩ ، وحجة القراءات ٣٠٥ ، وإتحاف ٢ / ٧١.

٤٢٣

والباقون بالتشديد ، فقيل : هما لغتان ، ولهذا جاء في قصة آدم : (فَمَنْ تَبِعَ) [البقرة : ٣٨٥] وفي موضع (فَمَنِ اتَّبَعَ) [طه : ١٣٢].

وقيل : تبع اقتفى أثره ، واتّبعه بالتشديد : اقتدى به والأول أظهر.

ثمّ أكّد الكلام فقال : (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) والمعنى : سواء عليكم أدعوتموهم إلى الدّين أم أنتم صامتون عن دعائهم ، لا يؤمنون ، كقوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٦] وعطف قوله : (أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) وهي جملة اسمية على أخرى فعلية ؛ لأنّها في معنى الفعليّة ، والتقدير : أم صمتّم؟

وقال أبو البقاء : جملة اسميّة في موضع الفعليّة ، والتقدير : أدعوتموهم أم صمتّم؟

وقال ابن عطيّة : عطف الاسم على الفعل ؛ إذ التقدير : أم صمتّم ؛ ومثله قول الشاعر : [الطويل]

٢٦٤٨ ـ سواء عليك النّفر أم بتّ ليلة

بأهل القباب من نمير بن عامر (١)

قال أبو حيّان (٢) : وليس هذا من عطف الفعل على الاسم ، إنّما هو من عطف الاسميّة على الفعليّة ، وأمّا البيت فليس فيه عطف فعل على اسم ، إنّما هو من عطف الفعلية على اسم مقدّر بالفعلية ، إذ الأصل : سواء عليك أنفرت أم بتّ ، وإنما أتى في الآية بالجملة الثانية اسمية ؛ لأنّ الفعل يشعر بالحدوث ولأنها رأس فاصلة. والصّمت : السّكوت ، يقال صمت يصمت بالفتح ، في الماضي ، والضم في المضارع.

ويقال : صمت ، بالكسر ، يصمت بالفتح والمصدر الصّمت والصّمات ، وإصمت ، بكسر الهمزة والميم : اسم فلاة معروفة ، وهو منقول من فعل الأمر من هذه المادة ، وقد ردّ بعضهم هذا بأنّه لو كان منقولا من الأمر لكان ينبغي أن تكون همزته همزة وصل ، ولكان ينبغي أن تكون ميمه مضمومة ، إن كان من «يصمت» أو مفتوحة إن كان من «يصمت» ؛ ولأنّه ينبغي ألّا يؤنث بالتّاء ، وقد قالوا : إصمته.

والجواب : أنّ فعل الأمر يجب قطع همزته إذا سمّي به نحو : أسرب ؛ لأنّه ليس لنا من الأسماء ما همزته للوصل إلّا أسماء عشرة ، ونوع الانطلاق من كل مصدر زاد على الخمسة وهو قليل ، فالإلحاق بالكثير أولى ، وأمّا كسر الميم فلأنّ التغيير يؤنس بالتّغيير وكذلك الجواب عن تأنيثه بالتّاء.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ

__________________

(١) ينظر : شرح الأشموني ٢ / ٤٢١ ، المقاصد النحوية ٤ / ١٧٩ ، الطبري ١٣ / ٣٢١ والبحر المحيط ٤ / ٤٣٩ ، معاني الفراء ١ / ٤٠١ ، والعيني ٤ / ١٧٩ ، والدر المصون ٣ / ٣٨٤.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٣٩.

٤٢٤

يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ)(١٩٥)

قوله : «إنّ الذين» العامّة على تشديد إنّ والموصول اسمها ، وعباد خبرها ، وقرأ سعيد بن جبير (١) بتخفيف إن ونصب عباد وأمثالكم ، وخرّجها ابن جني وغيره أنها إن النّافية وهي عاملة عمل ما الحجازية وهو مذهب الكسائي وأكثر الكوفيين غير الفراء ، وقال به من البصريين : ابن السراج والفارسي وابن جنّي ، واختلف النقل عن سيبويه والمبرد ، والصحيح أنّ إعمالها لغة ثاتبة نظما ونثرا ؛ وأنشدوا : [المنسرح]

٢٦٤٩ ـ إن هو مستوليا على أحد

إلّا على أضعف المجانين (٢)

ولكن قد استشكلوا هذه القراءة من حيث إنها تنفي كونهم عبادا أمثالهم ، والقراءة الشهيرة تثبت ذلك ولا يجوز التّناقض في كلام الله تعالى.

وقد أجابوا عن ذلك بأنّ هذه القراءة تفهم تحقير أمر المعبود من دون الله وعبادة عابده.

وذلك أنّ العابدين أتمّ حالا وأقدر على الضرّ والنّفع من آلهتهم فإنّها جماد لا تفعل

شيئا من ذلك ، فكيف يعبد الكامل من هو دونه؟ فهي موافقة للقراءة المتواترة بطريق الأولى.

وقد ردّ أبو جعفر هذه القراءة بثلاثة أوجه :

أحدها : أنّها مخالفة لسواد المصحف.

والثاني : أن سيبويه يختار الرفع في خبر إن المخففة فيقول : «إن زيد منطلق» ؛ لأنّ عمل ما ضعيف وإن بمعناها ، فهي أضعف منها.

الثالث : أنّ الكسائي لا يرى أنّها تكون بمعنى ما إلّا أن يكون بعدها إيجاب ، وما ردّ به النّحّاس ليس بشيء ؛ لأنّها مخالفة يسيرة.

قال أبو حيان (٣) : يجوز أن يكون كتب المنصوب على لغة ربيعة في الوقف على المنون المنصوب بغير ألف ، فلا تكون مخالفة للسّواد.

وأمّا سيبويه فاختلف النّاس في الفهم عنه في ذلك.

وأمّا الكسائيّ فهذا القيد غير معروف له.

وخرّج أبو حيّان القراءة على أنّها إن المخففة.

قال : وإن المخففة تعمل في القراءة المتواترة كقراءة (وَإِنَّ كُلًّا) [هود : ١١١] ثمّ إنّها قد ثبت لها نصب الجزأين ؛ وأنشد : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ١٨٩ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٤٨٩ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٤٠ ، والدر المصون ٣ / ٣٨٤.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٤٠.

٤٢٥

٢٦٥٠ ـ ..........

إنّ حرّاسنا أسدا (١)

قال : وهي لغة ثابتة ثم قال : فإن تأوّلوا ما ورد من ذلك ؛ نحو : [الرجز]

٢٦٥١ ـ يا ليت أيّام الصّبا رواجعا (٢)

أي : ترى رواجعا ، فكذلك هذه يكون تأويلها : إن الذين تدعون من دون الله خلقناهم عبادا أمثالكم.

قال شهاب الدّين (٣) : فيكون هذا التّخريج مبنيا على مذهبين.

أحدهما : إعمال المخفّفة.

وقد نصّ جماعة من النحويين على أنّه أقل من الإهمال ، وعبارة بعضهم أنّه قليل ، ولا أرتضيه قليلا لوروده في المتواتر.

الثاني : أنّ إنّ وأخواتها تنصب الجزأين ، وهو مذهب مرجوح ، وقد تحصّل في تخريج هذه القراءة ثلاثة أوجه : كون إن نافية عاملة ، والمخففة الناصبة للجزءين ، أو النصب بفعل مقدر هو خبر لها في المعنى.

وقرأ بعضهم (٤) إن مخففة ، عبادا نصبا أمثالكم رفعا ، وتخريجها على أن تكون المخففة وقد أهملت والذين مبتدأ ، و «تدعون» صلتها والعائد محذوف ، وعبادا حال من ذلك العائد المحذوف ، وأمثالكم خبره ، والتقدير : إنّ الذين تدعونهم حال كونهم عبادا أمثالكم في كونهم مخلوقين مملوكين ، فكيف يعبدون؟

ويضعف أن يكون الموصول اسما منصوب المحل ؛ لأن إعمال المخففة كما تقدّم قليل.

وحكى أبو البقاء أيضا قراءة رابعة وهي بتشديد إنّ ونصب عباد ورفع أمثالكم وتخريجها على ما تقدم قبلها.

فصل

في الآية سؤال : وهو أنه كيف يحسن وصف الأصنام بأنّها عباد مع أنها جمادات؟

والجواب : من وجوه :

أحدها : أن المشركين لمّا ادعوا أنّها تضر وتنفع ؛ وجب أن يعتقدوا فيها كونها عاقلة

__________________

(١) تقدم.

(٢) البيت للعجاج. ينظر : ملحقات ديوانه (٨٢) ، المغني ١ / ٢٨٥ ، شرح المفصل ١ / ١٠٣ ، الأشموني ١ / ٢٧٠ ، الهمع ١ / ١٣٤ ، شرح الكافية ٢ / ٣٤٧ ، الكتاب ٢ / ١٤٢ ، وطبقات ابن سلام ١ / ٧٨ ، وشرح الجمل ١ / ٤٢٥ ، وشرح الرضي ٢ / ٣٤٧ ، والمغني ١ / ٢٨٥ ، والفوائد الضيائية ٢ / ٣٥٣ ، والخزانة ١٠ / ٢٣٤ والدر المصون ٣ / ٣٨٥.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٨٥.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ١٨٩ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٤٨٩ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٤٠.

٤٢٦

فاهمة ، فلهذا وردت هذه الألفاظ وفق اعتقادهم ؛ ولهذا قال (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) [الأعراف : ١٩٤].

وقال : «إنّ الذين» ولم يقل : «إنّ الّتي».

وثانيها : أن هذا اللّفظ ورد في معرض الاستهزاء بهم أي : أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم ، ولا فضل لهم عليكم ، فلم جعلتم أنفسكم عبيدا وجعلتموها آلهة وأربابا؟

ثم أبطل أن يكونوا عبادا فقال : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) ثم أكّد البيان بقوله (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ). ومعنى هذا الدعاء طلب المنافع وكشف المضار من جهتهم واللام في قوله : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) لام الأمر على معنى التّعجيز ، ثمّ لمّا ظهر لكلّ عاقل أنها لا تقدر على الإجابة ظهر أنّها لا تصلح للعبادة ، ونظيره قول إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم : ٤٢] وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنّها آلهة ومستحقّة للعبادة.

وثالثها : قال مقاتل : الخطاب مع قوم كانوا يعبدون الملائكة.

قوله : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) قرأ العامّة بكسر الطاء ، من بطش يبطش ، وقرأ أبو جعفر وشيبة ، ونافع في رواية عنه : يبطشون بضمها (١) ، وهما لغتان ، والبطش : الأخذ بقوة.

واعلم أنّه تعالى ذكر هذا الدّليل لبيان أنه يقبح من الإنسان العاقل أن يعبد هذه الأصنام ؛ لأنّ هذه الأعضاء الأربعة إذا كان فيها القوى المحركة والمدركة كانت أفضل منها إذا كانت خالية عن هذه القوى ، فالرّجل القادرة على المشي ، واليد القادرة على البطش أفضل من اليد والرجل الخاليتين عن قوة الحركة والحياة ، والعين الباصرة والأذن السّامعة أفضل من العين والأذن الخاليتين عن القوة السّامعة ، والباصرة ، وعن قوّة الحياة.

وإذا ثبت ذلك ظهر أن الإنسان أفضل بكثير من الأصنام بل لا نسبة لفضيلة الإنسان إلى فضيلة الأصنام ألبتة.

وإذا كان كذلك فكيف يليق بالأفضل والأكمل الأشرف أن يعبد الأخسّ الأدون الذي لا يحصل منه فائدة ألبتّة ، لا في جلب منفعة ولا في دفع مضرّة.

قوله : (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ) قرأ أبو عمرو (٢) كيدوني بإثبات الياء وصلا ، وحذفها وقفا وهشام بإثباتها في الحالين ، والباقون بحذفها في الحالين ، وعن هشام

__________________

(١) ينظر : إتحاف ٢ / ٧١ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٤٨٩ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٤١.

(٢) ينظر : السبعة ٣٠٠ ، والحجة ٤ / ١١٤ ، وإعراب القراءات ١ / ٢١٩ ، وإتحاف فضلاء البشر ٢ / ٧٢.

٤٢٧

خلاف مشهور قال أبو حيان : وقرأ أبو عمرو وهشام بخلاف عنه فكيدوني بإثبات الياء وصلا ووقفا.

قال شهاب الدّين : أبو عمرو لا يثبتها وقفا ألبتّة ، فإنّ قاعدته في الياءات الزائدة ما ذكرته ، وفي قراءة فكيدوني ثلاثة ألفاظ ، هذه وقد عرف حكمها ، وفي هود : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً) أثبتها القراء كلهم في الحالين.

وفي المرسلات : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) [الآية ٣٩] حذفها الجميع في الحالين وهذا نظير ما تقدّم في قوله (وَاخْشَوْنِي) [البقرة : ١٥٠] فإنّها في البقرة ثابتة للكلّ وصلا ووقفا ، ومحذوفة في أوّل المائدة ، ومختلف في ثانيتها.

فصل

والمعنى : ادعوا شركاءكم يا معشر المشركين ثمّ كيدوني أنتم وهم فلا تنظرون أي لا تمهلون واعجلوا في كيدي ليظهر لكم أنّه لا قدرة لها على إيصال المضار بوجه من الوجوه.

قوله تعالى : (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١٩٨)

قوله : (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ) العامة على تشديد وليّي مضافا لياء المتكلم المفتوحة ، وهي قراءة واضحة أضاف الوليّ إلى نفسه.

وقرأ أبو عمرو في (١) بعض طرقه (إِنَّ وَلِيِّيَ) بياء واحدة مشددة مفتوحة ، وفيها تخريجان :

أحدهما : قال أبو عليّ : إن ياء «فعيل» مدغمة في ياء المتكلم ، وإنّ الياء التي هي لام الكلمة محذوفة ، ومنع من العكس.

والثاني : أن يكون وليّ اسمها ، وهو اسم نكرة غير مضاف لياء المتكلم ، والأصل : إنّ وليّا الله ف «وليّا» اسمها والله خبرها ، ثم حذف التنوين ؛ لالتقاء الساكنين ؛ كقوله : [المتقارب]

٢٦٥٢ ـ فألفيته غير مستعتب

ولا ذاكر الله إلّا قليلا (٢)

وكقراءة من قرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ) [الإخلاص : ١ ـ ٢] ولم يبق إلّا الإخبار عن نكرة بمعرفة ، وهو وارد.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٣٠٠ ، والحجة ٤ / ١١٦ ـ ١١٧ ، وإعراب القراءات ١ / ٢١٧ ، وإتحاف فضلاء البشر ٢ / ٧٢.

(٢) تقدم.

٤٢٨

قال الشاعر : [الطويل]

٢٦٥٣ ـ وإن حراما أن أسبّ مجاشعا

بآبائي الشمّ الكرام الخضارم (١)

وقرأ الجحدريّ (٢) في رواية إنّ وليّ الله بكسر الياء مشددة ، وأصلها أنّه سكن ياء المتكلم ، فالتقت مع لام التعريف فحذفت ، لالتقاء الساكنين ، وبقيت الكسرة تدلّ عليها نحو : إنّ غلام الرّجل.

وقرأ في رواية أخرى (٣) إنّ وليّ الله بياء مشددة مفتوحة ، والجلالة بالجرّ ، نقلهما عنه أبو عمرو الدّاني أضاف الولي إلى الجلالة.

وذكر الأخفش وأبو حاتم هذه القراءة عنه ، ولم يذكرا نصب الياء ، وخرّجها النّاس على ثلاثة أوجه : الأول : قول الأخفش ـ وهو أن يكون وليّ الله اسمها والّذي نزّل الكتاب خبرها ، والمراد ب «الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ» جبريل ، لقوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) [الشعراء : ١٩٣] : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) [النحل : ١٠٢] إلّا أنّ الأخفش قال في قوله (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) هو من صفة الله قطعا لا من صفة جبريل ، وفي تحتم ذلك نظر.

والثاني : أن يكون الموصوف بتنزيل الكتاب هو الله تعالى ، والمراد بالموصول النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويكون ثمّ عائد محذوف لفهم المعنى والتقدير إنّ وليّ الله النبيّ الذي نزّل الله الكتاب عليه ، فحذف عليه وإن لم يكن مشتملا على شروط الحذف ، لكنّه قد جاء قليلا ، كقوله : [الطويل]

٢٦٥٤ ـ وإنّ لساني شهدة يشتفى بها

وهوّ على من صبّه الله علقم (٤)

أي : صبه الله عليه ، وقال آخر : [الطويل]

٢٦٥٥ ـ فأصبح من أسماء قيس كقابض

على الماء لا يدري بما هو قابض (٥)

أي بما هو قابض عليه. وقال آخر : [الطويل]

٢٦٥٦ ـ لعلّ الّذي أصعدتني أن يردّني

إلى الأرض إن لم يقدر الخير قادره (٦)

أي : أصعدتني به.

وقال آخر : [الوافر]

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٩٠ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٤٢ ، والدر المصون ٣ / ٣٨٦.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٤٢ ، والدر المصون ٣ / ٣٨٦.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٤٢ ، والدر المصون ٣ / ٣٨٧.

(٦) تقدم.

٤٢٩

٢٦٥٧ ـ ومن حسد يجوز عليّ قومي

وأيّ الدّهر ذو لم يحسدوني (١)

أي يحسدوني فيه.

وقال آخر : [الطويل]

٢٦٥٨ ـ فقلت لها لا والّذي حجّ حاتم

أخونك عهدا إنّني غير خوّان (٢)

أي : حج إليه ، وقال آخر : [الرجز]

٢٦٥٩ ـ فأبلغنّ خالد بن نضلة

والمرء معنيّ بلوم من يثق (٣)

أي : يثق به.

وإذا ثبت أنّ الضمير يحذف في مثل هذه الأماكن ، وإن لم يكمل شرط الحذف فلهذه القراءة الشاذة في التخريج المذكور أسوة بها.

والثالث : أن يكون الخبر محذوفا تقديره : إنّ وليّ الله الصّالح ، أو من هو صالح وحذف ، لدلالة قوله : (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) وكقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) [فصلت : ٤١] أي : معذبون ، وكقوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ) [الحج : ٢٥].

فصل

المعنى (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) يعني القرآن ، أي : يتولّاني وينصرني كما أيّدني بإنزال الكتاب (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) قال ابن عباس : «يريد الذين لا يعدلون بالله شيئا ، فالله يتولاهم بنصره ولا يضرهم عداوة من عاداهم» (٤).

قوله : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ).

وفيه قولان :

الأول : أن المراد منه وصف الأصنام.

فإن قيل : هذه الأشياء مذكورة في الآيات المتقدمة ، فما الفائدة في تكريرها؟

فالجواب : قال الواحديّ : إنّما أعيد ؛ لأنّ الأول مذكور للتّقريع ، وهذا مذكور للفرق بين من تجوز له العبادة ومن لا تجوز ، كأنّه قيل : الإله المعبود يجب أن يكون

__________________

(١) البيت لحاتم الطائي. ينظر ديوانه ص ٢٧٦ ، وشرح التصريح ١ / ١٤٧ ، والمقاصد النحوية ١ / ٤٥١ ، وتخليص الشواهد ص ١٦٤ ، وأوضح المسالك ١ / ١٧٥ ، وشرح الأشموني ١ / ٨١ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٤٣ ، والدر المصون ٣ / ٣٨٧.

(٢) البيت لعريان الجرمي. ينظر الخزانة ٦ / ٥٦ ، ونوادر أبي زيد ص ٦٥ والبحر المحيط ٤ / ٤٤٣ ، وتذكرة النحاة ص ٤٧٧ ، وحاشية يس ١ / ١٤٧ ، ولسان العرب «خون» والدر المصون ٣ / ٣٨٧.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٤٣ ، وتخليص الشواهد ص ١٦٥ ، وشرح الجمل ١ / ١٨٥ ، والدر المصون ٣ / ٣٨٧.

(٤) ذكره الواحدي في «الوسيط» (٢ / ٤٣٦) والبغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٢٣) ، والرازي (١٥ / ٧٧).

٤٣٠

بحيث يتولّى الصّالحين ، وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تكن صالحة للإلهية.

القول الثاني : أنّ هذه الأحوال المذكورة صفات لهؤلاء المشركين الذين يدعون غير الله يعني أنّ الكفار كانوا يخوفون رسول الله وأصحابه ، فقال تعالى : إنهم لا يقدرون على شيء بل إنهم قد بلغوا في الجهل والحماقة إلى أنك لو دعوتهم وأظهرت أعظم أنواع الحجة والبرهان لم يسمعوا ذلك بعقولهم ألبتة.

فإن قيل : لم يتقدّم ذكر المشركين ، وإنما تقدّم ذكر الأصنام فكيف يصح ذلك؟

والجواب : أن ذكرهم تقدم في قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ) [الأعراف : ١٩٥].

قوله : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) فإن حملنا هذه الصفات على الأصنام فالمراد من كونها ناظرة كونها مقابلة بوجهها وجوه القوم من قولهم : جبلان متناظران أي : متقابلان ، وإن حملناها على المشركين أي إنهم وإن كانوا ينظرون إلى النّاس إلّا أنهم لشدّة إعراضهم عن الحقّ لم ينتفعوا بذلك النّظر ، والرّؤية ؛ فصاروا كأنّهم عمي.

قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٢٠٣)

قوله : «خذ العفو».

قال عبد الله بن الزّبير : أمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأخذه العفو من أخلاق النّاس.

قال مجاهد : يعني خذ العفو من أخلاق النّاس وأعمالهم من غير تجسّس وذلك مثل قبول الاعتذار ، والعفو المتساهل ، وترك البحث عن الأشياء ونحو ذلك (١). روي أنّه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل : ما هذا؟ قال : لا أدري حتى أسأل ثم رجع فقال : «إنّ الله يأمر أنّ تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمّن ظلمك» (٢).

قال العلماء : تفسير جبريل ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ مطابق للفظ الآية ؛ لأنّك إن وصلت من قطعك فقد عفوت عنه ، وإن أعطيت من حرمك فقد أتيت بالمعروف ، وإذا عفوت عمّن ظلمك فقد أعرضت عن الجاهلين.

وقال ابن عبّاس ، والسديّ ، والضحاك ، والكلبيّ : المعنى خذ ما عفا لك من

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٥٢).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٥٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٨٠) وزاد نسبته لابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

٤٣١

أموالهم وهو الفضل من العيال ، وذلك معنى قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) [البقرة : ٢١٩] ثم نسخت هذه الآية بالصّدقات المفروضات (١).

قوله : (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) ، أي : بالمعروف ، وهو كلّ ما يعرفه الشّرع ، وقال عطاء : (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) بلا إله إلا الله (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) يعني أبا جهل وأصحابه ، نسختها آية السّيف ، وقيل : إذا تسفه عليك الجاهل ، فلا تقابله بالسّفه كقوله : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣].

قال جعفر الصّادق : ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية.

فصل

اعلم أنّ تخصيصهم قوله : (خُذِ الْعَفْوَ) بما ذكروه من أخذ الفضل تقييد للمطلق من غير دليل ، وأيضا إذا حملناه على أداء الزّكاة ، كالمقادير المخصوصة منافيا لذلك ؛ لأنّ أخذ الزكاة مأمور بأن لا يأخذ كرائم الأموال ولا يشدد الأمر على المزكي ، فلم يك إيجاب الزّكاة ناسخا لهذه الآية.

وأمّا قوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) فالمقصود منه أمر الرّسول بأن يصبر على سوء أخلاقهم ، وأن لا يقابل أقوالهم الركيكة وأفعالهم الخسيسة بأمثالها وليس فيه دلالة على المنع من القتال ؛ لأنّه لا يمتنع أن يؤمر عليه الصّلاة والسّلام بالإعراض عن الجاهلين مع الأمر بقتال المشركين فإنّه لا تناقض بأن يقول الشّارع لا تقابل سفاهتهم بمثلها ولكن قاتلهم ، وإذا أمكن الجمع بين الأمرين ؛ فلا حاجة إلى التزام النّسخ.

قوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) الآية.

قال : عبد الرحم بن زيد : لما نزل قوله : (خُذِ الْعَفْوَ) الآية : قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف يا رب بالغضب (٢)؟

فنزل قوله : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) الآية والنّزغ : أدنى حركة تكون ، قاله الزّجّاج ، ومن الشّيطان أدنى وسوسة وقال عبد الرحمن بن زيد لما نزلت : قوله وأكثر ما يسند للشيطان ؛ لأنه أسرع في ذلك وقيل النّزغ الدخول في أمر لإفساده.

وقال الزمخشري (٣) : والنّزغ والنّسغ : الغرز والنّخس ، وجعل النزغ نازغا كما قيل «جدّ جدّه» يعني : قصد بذلك المبالغة.

وقيل : النّزغ : الإزعاج ، وأكثر ما يكون عند الغضب وأصله الانزعاج بالحركة إلى الشّرّ ، وتقريره : أنّ الآمر بالمعروف إذا أمر بما يهيج السفيه ويظهر السّفاهة فعند ذلك

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٥ / ٧٨ ـ ٧٩).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٥٥).

(٣) ينظر : تفسير الزمخشري ٢ / ١٩٠.

٤٣٢

أمره الله بالسكوت عن مقابلته فقال : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) ثمّ أمره الله تعالى بما يجري مجرى العلاج بهذا المرض إن حدث فقال : (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) وهذا الخطاب وإن كان للرّسول إلّا أنه عام لجميع المكلفين. وقد تقدّم الكلام في الاستعاذة ؛ وقوله : (إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يدلّ على أنّ الاستعاذة باللّسان لا تفيد إلّا إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة ، فكأنّه تعالى يقول : اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك ، فإني سميع ، واستحضر معنى الاستعاذة بقلبك ، وعقلك فإني عليم بما في ضميرك.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ) الآية.

بيّن تعالى في هذه الآية أنّ حال المتّقين يزيد على حال الرسول في هذا الباب ؛ لأنّ الرسول لا يحصل له من الشّيطان إلّا النزغ الذي هو كالابتداء في الوسوسة ، وجوز على المتقين ما يزيد عليه وهو أن يمسهم طائف من الشيطان.

قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو (١) ، والكسائيّ : طيف ، والباقون طائف بزنة فاعل.

فأما طيف ففيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه مصدر من : طاف يطيف ك : باع يبيع وأنشد أبو عبيدة : [الكامل]

٢٦٦٠ ـ أنّى ألمّ بك الخيال يطيف

ومطافه لك ذكرة وشغوف (٢)

والثاني : أنّه مخفف من فيعل والأصل : طيّف بتشديد الياء فحذف عين الكلمة ، كقولهم في : ميّت ميت ، وفي : ليّن لين ، وفي : هيّن هين.

ثم «طيّف» الذي هو الأصل يحتمل أن يكون من : طاف يطيف ، أو من : طاف يطوف والأصل : طيوف فقلب وأدغم.

وهذا قول ابن الأنباري ويشهد لقول ابن الأنباري قراءة سعيد بن جبير طيف بتشديد الياء.

والثالث : أنّ أصله طوف من طاف يطوف ، فقلبت الواو ياء.

قال أبو البقاء قلبت الواو ياء وإن كانت ساكنة كما قلبت في أيد وهو بعيد.

قال شهاب الدين (٣) : وقد قالوا أيضا في : حول حيل ، ولكن هذا من الشّذوذ بحيث لا يقاس عليه.

وقوله : وإن كانت ساكنة ليس هذا مقتضيا لمنع قلبها ياء ، بل كان ينبغي أن يقال :

__________________

(١) ينظر : السبعة ٣٠١ ، والحجة ٤ / ١٢٠ ، وحجة القراءات ٣٠٥ ، وإعراب القراءات ١ / ٢١٧ ، وإتحاف ٢ / ٧٣.

(٢) البيت لكعب بن زهير. ينظر : ديوانه (٨٤) والطبري ١٣ / ٣٣٥ ، واللسان «ذكر» والكشاف ٢ / ١٣٩ ، وشواهد الكشاف ٤ / ١٩٠ والبحر ٤ / ٤٤٥ ، والدر المصون ٣ / ٣٠٨.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٨٨.

٤٣٣

وإن كان ما قبلها غير مكسور. وأمّا طائف فاسم فاعل يحتمل أن يكون من : طاف يطوف ، فيكون ك : قائم وقائل. وأن يكون من : طاف يطيف ، فيكون ك : بائع ومائل وزعم بعضهم أنّ : طيفا وطائفا بمعنى واحد ويعزى للفرّاء ، فيحتمل أن يردّ طائفا ل : طيف فيجعلهما مصدرين ، وقد جاء فاعل مصدرا ، كقولهم : أقائما وقد قعد النّاس ، وأن يردّ طيفا ل : طائف أي : فيجعله وصفا على فعل.

وقال الفارسي (١) : الطّيف كالخطرة ، والطّائف كالخاطر ففرّق بينهما ، وقال الكسائيّ الطّيف : اللّمم ، والطّائف : ما طاف حول الإنسان.

قال ابن عطيّة : وكيف هذا ؛ وقد قال الأعشى : [الطويل]

٢٦٦١ ـ وتصبح من غبّ السّرى وكأنّها

ألمّ بها من طائف الجنّ أولق (٢)

ولا أدري ما تعجّبه؟ وكأنه أخذ قوله ما طاف حول الإنسان مقيّدا بالإنسان وهذا قد جعله طائفا بالنّاقة ، وهي سقطة ؛ لأنّ الكسائيّ إنّما قاله اتفاقا لا تقييدا.

وقال أبو زيد الأنصاريّ : طاف : أقبل وأدبر ، يطوف طوفا ، وطوافا ، وأطاف يطيف إطافة : استدار القوم من نواحيهم ، وطاف الخيال : ألمّ يطيف طيفا. فقد فرّق بين ذي الواو ، وذي الياء ، فخصّص كلّ مادة بمعنى ، وفرّق أيضا بين فعل وأفعل كما رأيت.

وزعم السّهيليّ : أنه لا يستعمل من طاف الخيال اسم فاعل ، قال : «لأنّه تخيّل لا حقيقة له» قال : فأما قوله تعالى : (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ) [القلم : ١٩] فلا يقال فيه «طيف» ؛ لأنه اسم فاعل حقيقة ؛ وقال حسان : [السريع]

٢٦٦٢ ـ جنّيّة أرّقني طيفها

يذهب صبحا ويرى في المنام (٣)

وقال السديّ : الطّيف الجنون ، والطائف : الغضب (٤) ، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ هو بمعنى واحد ، وهو النّزغ (٥).

فصل

قال المفسرون : الطّيف اللمة والوسوسة.

وقيل : الطّائف ما طاف به من سوسة الشيطان ، والطيف اللمم والمسّ وقال

__________________

(١) ينظر : الحجة ٤ / ١٢١.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : ديوانه ١٨٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٤٦ ، والدر المصون ٣ / ٣٨٩.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٥٦) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٨٣) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في «ذم الغضب» وابن المنذر وأبي الشيخ.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٥٧).

٤٣٤

سعيد بن جبير : هو الرّجل يغضب الغضبة فيذكر الله تعالى ، فيكظم الغيظ (١).

وقال مجاهد : هو الرّجل يهم بالذنب ، فيذكر الله تعالى فيدعه (٢).

(فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) هذه «إذا» الفجائيّة كقولك : خرجت فإذا زيد ، والمعنى : يبصرون مواقع خطاياهم بالتذكر والتّفكر ، وقال السديّ : إذا زلوا تابوا وقال مقاتل : إنّ المتقي إذا مسه نزغ من الشيطان تذكر وعرف أنه معصية فأبصر فنزع عن مخالفة الله.

واعلم أنّ إذا في قوله : (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ) تستدعي جزاء.

قوله : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ). في هذه الآية أوجه :

أحدها : أنّ الضمير في : «إخوانهم» يعود على الشّياطين لدلالة لفظ الشيطان عليهم ، أو على الشّيطان نفسه ؛ لأنّه لا يراد به الواحد ، بل الجنس.

والضمير المنصوب في يمدّونهم يعود على الكفّار ، والمرفوع يعود على الشياطين أو الشيطان كما تقدّم ، والتقدير : وإخوان الشياطين يمدّهم الشيطان ، وعلى هذا الوجه فالخبر جار على غير من هو له في المعنى ، ألا ترى أنّ الإمداد مسند إلى الشياطين في المعنى وهو في اللفظ خبر عن إخوانهم ومثله : [البسيط]

٢٦٦٣ ـ قوم إذا الخيل جالوا في كواثبها

 .......... (٣)

وقد تقدم البحث في هذا مع مكي وغيره من حيث جريان الفعل على غير من هو له ، ولم يبرز ضمير.

وهذا التأويل الذي ذكرناه : هو قول الجمهور وعليه عامة المفسّرين.

قال الزمخشريّ : هو أوجه ؛ لأنّ إخوانهم في مقابلة : (الَّذِينَ اتَّقَوْا).

الثاني : أنّ المراد بالإخوان الشياطين ، وبالضّمير المضاف إليه : الجاهلون ، أو غير المتّقين ، لأنّ الشيء يدلّ على مقابله ، والواو تعود على الإخوان ، والضمير المنصوب يعود على الجاهلين ، أو غير المتّقين ؛ والمعنى : والشياطين الذين هم إخوان الجاهلين أو غير المتقين يمدّون الجاهلين أو غير المتّقين في الغيّ ، والخبر في هذا الوجه جار على من هو له لفظا ومعنى ، وهذا تفسير قتادة.

__________________

(١) ذكره الواحدي في «الوسيط» (٢ / ٤٣٨) والسمرقندي في «بحر العلوم» تفسير سورة الأعراف آية ٢٠٢ وأبو حيان في البحر المحيط ٤ / ٤٥٠ ، والبغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٢٥).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط ٢ / ٤٣٨ ، والبغوي ٢ / ٢٢٥ ، وأبو حيان في البحر المحيط (٢ / ٢٢٥).

(٣) صدر بيت لزياد بن منقذ وعجزه :

فوارس الخيل لا ميل ولا قزم

ينظر : المحتسب ١ / ٢٩١ والبحر المحيط ٤ / ٤٤٧ ، والصحاح واللسان «قزم» والكشاف ٢ / ١٣٩ ، وشواهد الكشاف ٤ / ٥٢٥ والدر المصون ٣ / ٣٨٩.

٤٣٥

الثالث : أن يعود الضمير المجرور والمنصوب على الشياطين ، والمرفوع على الإخوان وهم الكفّار.

قال ابن عطيّة : ويكون المعنى : وإخوان الشّياطين في الغيّ بخلاف الإخوة في الله يمدّون الشّياطين أي : بطاعتهم لهم وقبولهم منهم ، ولا يترتّب هذا التّأويل على أن يتعلّق في الغيّ بالإمداد ؛ لأنّ الإنس لا يغوون الشياطين ، يعني يكون في الغيّ حالا من المبتدأ ، أي : وإخوانهم حال كونهم مستقرّين في الغيّ ، وفي مجيء الحال من المبتدأ خلاف ، والأحسن أن يتعلّق بما تضمنه إخوانهم من معنى المؤاخاة والأخوة ، وسيأتي فيه بحث لأبي حيان.

قال أبو حيّان : ويمكن أن يتعلّق في الغيّ على هذا التّأويل ب : يمدّونهم على جهة السببية ، أي : يمدّونهم بسبب غوايتهم ، نحو : دخلت امرأة النّار في هرّة ، أي : بسبب هرّة ، ويحتمل أن يكون في الغيّ حالا ، فيتعلّق بمحذوف أي : كائنين في الغيّ ، فيكون في الغيّ في موضعه ، ولا يتعلّق ب : إخوانهم وقد جوّز ذلك ابن عطية.

وعندي في ذلك نظر.

فلو قلت : مطعمك زيد لحما ، تريد : مطعمك لحما زيد ، فتفصل بين المبتدأ ومعموله بالخبر ، لكان في جوازه نظر ، لأنّك فصلت بين العامل والمعمول بأجنبي لهما معا ، وإن كان ليس أجنبيا لأحدهما وهو المبتدأ.

قال شهاب الدين (١) : ولا يظهر منع هذا ألبتة لعدم أجنبيته وقرأ (٢) نافع يمدّونهم بضم الياء وكسر الميم من أمدّ والباقون : بفتح الياء وضم الميم ، وقد تقدم الكلام على هذه المادة هل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق في أوائل الكتاب [البقرة : ١٥٥].

فقيل : أمدّ ومدّ لغتان.

وقيل : مدّ معناه : جذب ، وأمدّ معناه من : الإمداد.

قال الواحدي عامة ما جاء في التنزيل ممّا يحمد ويستحب أمددت على أفعلت ، كقوله (أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) [المؤمنون : ٥٥] وقوله (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ) [الطور : ٢٢] (أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) [النمل : ٣٦] وما كان بخلافه فإنّه يجيء على : مددت ؛ قال تعالى (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [البقرة : ١٥] فالوجه ههنا قراءة العامة ، ومن ضمّ الياء استعمل ما هو الخير لضده كقوله (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١] وقرأ (٣)

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٩٠.

(٢) ينظر : السبعة ٣٠١ ، والحجة ٤ / ١٢٢ ، وإعراب القراءات ١ / ٢١٩ ، وحجة القراءات ٣٠٦ ، وإتحاف ٢ / ٧٣.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٩٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٤٧ ، والدر المصون ٣ / ٣٩٠.

٤٣٦

الجحدريّ : يمادّونهم من : مادّه بزنة : فاعله ، وقرأ العامّة يقصرون من : أقصر ، قال الشاعر : [الطويل]

٢٦٦٤ ـ لعمرك ما قلبي إلى أهله بحر

ولا مقصر يوما فيأتيني بقر (١)

وقال امرؤ القيس : [الطويل]

٢٦٦٥ ـ سما لك شوق بعد ما كان أقصرا

وحلّت سليمى بطن قوّ فعرعرا (٢)

أي : ولا نازع ممّا هو فيه ، وارتفع شوقك بعد ما كان قد نزع وأقلع ، وقرأ عيسى ابن عمر (٣) ، وابن أبي عبلة (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) بفتح الياء من : قصر ، أي : لا ينقصون من إمدادهم وهذه الجملة أعني : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ) زعم الزجاج : أنها متصلة بالجملة من قوله (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً) [الأعراف : ١٩٢] وهو تكلف بعيد.

وقوله «في الغيّ» قد تقدّم أنه يجوز أن يكون متعلقا بالفعل ، أو ب «إخوانهم» أو بمحذوف على أنه حال إمّا من «إخوانهم» وإمّا من واو «يمدّونهم» وإمّا من مفعوله.

فصل

قال اللّيث : الإقصار : الكفّ عن الشّيء ، وأقصر فلان عن الشّيء يقصر إقصارا إذا كفّ عنه وانتهى.

قال ابن عبّاس : ثمّ لا يقصرون عن الضّلال والإضلال ، أمّا الغاوي ففي الضّلال ، وأمّا المغوي ففي الإضلال. قال الكلبيّ لكل كافر أخ من الشياطين يمدّونهم أي : يطيلون لهم في الإغواء حتّى يستمرّوا عليه (٤).

وقيل : يزيدونهم في الضّلالة.

قوله (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ) يعني إذا لم تأت المشركين بآية «قالوا لو لا اجتبيتها» أي : هلّا افتعلتها ، وأنشأتها من قبل نفسك ، الاجتباء : افتعال من : جباه يجبيه ، أي : يجمعه مختارا له ، ولهذا يقال : اجتبيت الشيء ، أي : اخترته.

وقال الزمخشريّ : اجتبى الشيء ، بمعنى جباه لنفسه ، أي جمعه ، كقولك : اجتمعه أو جبي إليه ، فاجتباه : أي أخذه ، كقولك : جليت له العروس فاجتلاها ، والمعنى هلّا اجتمعتها افتعالا من عند نفسك.

__________________

(١) البيت لامرىء القيس. ينظر : ديوانه (١٠٩) والبحر المحيط ٤ / ٤٤٧ ، واللسان «قرر» والدر المصون ٣ / ٣٩٠.

(٢) ينظر : ديوانه (٥٦) والدر المصون ٣ / ٢٩٠.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٩٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٤٧ ، والدر المصون ٣ / ٣٩٠.

(٤) انظر : تفسير الرازي (١٥ / ٨٢).

٤٣٧

قال الفراء : تقول العرب : اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك ؛ لأنهم كانوا يقولون : (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ) [الفرقان : ٤] أو يقال : هلّا اقترحتها على إلهك إن كنت صادقا ، وأنّ الله تعالى يقبل دعاءك ويجيب التماسك وذلك أنّهم كانوا يطلبون منه آيات معينة على سبيل التعنت كقوله : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠]. وعند هذا أمر رسوله أن يجيبهم بالجواب الشافي ، فقال : (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) أي ليس عليّ أن أقترح على ربي وإنما أنا أنتظر الوحي.

ثمّ بيّن أنّ عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحها لا يقدح في الغرض ؛ لأنّ ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة قاهرة ، فهي كافية في تصحيح النبوة ، فطلب الزيادة تعنت ؛ فلا جرم قال : قل هذا يعني : القرآن بصائر حجج ، وبيان ، وبرهان لذوي العقول في دلائل التّوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، والبصائر : جمع بصيرة ، وأصلها ظهور الشّيء واستحكامه حتى يبصر الإنسان فيهتدي به ، أي : هذه دلائل تقودكم إلى الحقّ ؛ فأطلق على القرآن لفظ البصيرة تسمية للسبب باسم المسبب.

قال أبو حيّان (١) : وأطلق على القرآن بصائر إمّا مبالغة ؛ وإمّا لأنّه سبب البصائر ، وإمّا على حذف مضاف أي : ذو بصائر ثم قال : وهدى والفرق بين هذه المرتبة وما قبلها أنّ النّاس في معارف التوحيد ، والنبوة والمعاد ثلاثة أقسام :

إحداها : الذين بلغوا في هذه المعارف بحيث صاروا كالمشاهدين لها ، وهم أصحاب عين اليقين.

والثاني : الذين بلغوا إلى ذلك الحد إلّا أنهم وصلوا إلى درجات المستدلّين ، وهم أصحاب علم اليقين فالقرآن في حقّ الأولين وهم السّابقون بصائر ، وفي حق القسم الثاني هدى ، وفي حق عامّة المؤمنين رحمة ، ولمّا كانت الفرق الثلاث من المؤمنين قال : «قوم يؤمنون».

قوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ)(٢٠٦)

قوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) الآية.

لمّا عظّم شأن القرآن بقوله : (هذا بَصائِرُ) أردفه بقوله : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ)».

قوله له متعلق ب : استمعوا على معنى لأجله ، والضمير للقرآن ، وقال أبو البقاء :

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٨.

٤٣٨

يجوز أن يكون بمعنى لله ، أي لأجله فأعاد الضمير على الله وفيه بعد ، وجوّز أيضا أن تكون اللام زائدة : أي فاستمعوه ، وقد تقدّم أنّ هذا لا يجوز عند الجمهور إلّا في موضعين إمّا تقديم المعمول ، أو كون العامل فرعا ، وجوّز أيضا أن تكون بمعنى إلى ، ولا حاجة إليه.

قوله «وأنصتوا» الإنصات : السّكوت للاستماع. قال الكميت : [الطويل]

٢٦٦٦ ـ أبوك الذي أجدى عليّ بنصره

فأنصت عنّي بعده كلّ قائل (١)

قال الفراء : ويقال : نصت وأنصت بمعنى واحد ، وقد جاء أنصت متعديّا.

فصل

قوله : (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) أمر ، وظاهر الأمر للوجوب ، فيقتضي أن يكون الاستماع والسكوت واجبا ولعله يجوز أن تكون بحسب المخاطبين ، وأن تكون للتعليل وفيه أقوال:

أحدها : قال الحسن وأهل الظاهر : يجب الاستماع والإنصات لكل قارىء ، سواء كان معلم صبيان أو قارىء طريق.

الثاني : تحريم الكلام في الصّلاة.

قال أبو هريرة : كانوا يتكلّمون في الصّلاة فنزلت هذه الآية ، فأمروا بالإنصات (٢).

وقال قتادة : كان الرّجل يأتي وهم في الصّلاة ، فيسألهم : كم صلّيتم وكم بقي؟ وكانوا يتكلّمون في الصّلاة بحوائجهم (٣) فأنزل الله هذه الآية.

الثالث : نزلت في ترك الجهر بالقراءة وراء الإمام.

قال ابن عبّاس : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصّلاة المكتوبة ، وقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم ؛ فخلطوا عليه فنزلت هذه الآية (٤) ، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه.

وقال الكلبيّ : كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار (٥) ، وعن ابن مسعود أنّه سمع ناسا يقرءون مع الإمام فلمّا انصرف ، قال : أما آن لكم أن تفقهوا (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) وهو قول الحسن والزهري والنخعي (٦) وقال سعيد بن جبير ، وعطاء ، ومجاهد : إنّ الآية في الخطبة ، أمروا بالإنصات لخطبة الإمام

__________________

(١) البيت للراعي. ينظر : مجاز القرآن ٢ / ٤٧ ، الجمهرة ٢ / ٣٦٠ ، حاشية الشهاب ٤ / ٢٤٨ ، اللسان (نصت) ، الدر المصون ٣ / ٣٩٠.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٢٥).

(٣) ينظر : تفسير الرازي (١٥ / ٨٣).

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٢٦).

(٦) ينظر : المصدر السابق.

٤٣٩

يوم الجمعة ، وهذا بعيد لأنّ الآية مكّية والجمعة وجبت بالمدينة (١).

فصل

اختلفوا في القراءة خلف الإمام في الصّلاة ، فروي عن عمر ، وعثمان ، وعليّ ، وابن عباس ومعاذ ، وجوب القراءة سواء جهر الإمام بالقراءة أو أسرّ ، وهو قول الأوزاعي ، والشافعي ؛ وروي عن ابن عمر ، وعروة بن الزبير ، والقاسم بن محمد : أنّ المأموم يقرأ فيما أسر الإمام فيه ، ولا يقرأ إذا جهر ، وبه قال الزهري ، ومالك ، وابن المبارك ، وأحمد وإسحاق ، وروي عن جابر أنّ المأموم لا يقرأ سواء أسر الإمام أم جهر ، وبه (٢) قال الثّوري ، وأصحاب الرأي ، وتمسك من لا يرى القراءة خلف الإمام بظاهر هذه الآية ، ومن أوجبها قال : الآية في غير الفاتحة ، ويقرأ الفاتحة في سكتات الإمام ولا ينازع الإمام في القراءة.

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) الآية.

قال ابن عباس : يعني بالذّكر : القراءة في الصلاة ، يريد يقرأ سرا في نفسه (٣).

قوله (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) في نصبهما وجهان :

أظهرهما : أنّهما مفعولان من أجلهما ، لأنّه يتسبب عنهما الذّكر.

والثاني : أن ينتصبا على المصدر الواقع موقع الحال ، أي : متضرعين خائفين ، أو ذوي تضرع وخيفة.

وقرىء «وخفية» (٤) بتقديم الفاء ، وقيل : هما مصدران للفعل من معناه لا من لفظه ذكره أبو البقاء. وهو بعيد.

قوله : «ودون الجهر» قال أبو البقاء : معطوف على تضرّع ، والتقدير : ومقتصدين. وهذا ضعيف ؛ لأنّ دون ظرف لا يتصرّف على المشهور ، قال فالذي ينبغي أن يجعل صفة لشيء محذوف ذلك المحذوف هو الحال ، كما قدّره الزمخشري فقال : ودون الجهر ومتكلما كلاما دون الجهر ، لأنّ الإخفاء أدخل في الإخلاص ، وأقرب إلى حسن التفكر.

فصل

معنى تضرّعا وخيفة أي : تتضرّع إليّ وتخاف منّي ، هذا في صلاة السّر وقوله ودون الجهر أراد في صلاة الجهر لا تجهر جهرا شديدا ، بل في خفض وسكون تسمع من خلفك.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٦١).

(٢) أشار إليه البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٢٦).

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٤٤٠) والبغوي (٢ / ٢٢٦) والقرطبي في «تفسيره» (٧ / ٢٢٥).

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٩١.

٤٤٠