اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وثالثها : أنّ يوم القيامة يوم طويل وموافقها كثيرة فأخبر عن بعض الأوقات بحصول السّؤال ، وعن بعضها بعدم السّؤال ، وهذه الآية تدلّ على أنّه تعالى يحاسب كلّ عباده المرسلين والمرسل إليهم ، ويبطل قول من زعم أنّه لا حساب على الأنبياء والكفار.

قوله تعالى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٨)

الوزن مبتدأ ، وفي الخبر وجهان :

أحدهما : هو الظّرف أي : الوزن كائن أو مستقرّ يومئذ أي : يوم إذ يسأل الرّسل والمرسل إليهم. فحذف الجملة المضاف إليها «إذ» وعوّض منها التّنوين ، هذا مذهب الجمهور خلافا للأخفش. وفي «الحقّ» على هذا الوجه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه نعت للوزن أي : الوزن الحق في ذلك اليوم.

الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف كأنّه جواب سؤال مقدّر من قائل يقول : ما ذلك الوزن؟ فقيل : هو الحقّ لا الباطل.

الثالث : أنه بدل من الضّمير المستكن في الظّرف وهو غريب ذكره مكيّ.

والثاني : من وجهي الخبر أن يكون الخبر «الحق» ، و «يومئذ» على هذا فيه وجهان :

أحدهما : أنّه منصوب على الظّرف ناصبه «الوزن» أي : يقع الوزن ذلك اليوم.

والثاني : أنّه خبر مبتدأ محذوف كأنّه جواب سؤال مقدّر من قائل يقول : ما ذلك الوزن؟ فقيل : هو الحقّ لا الباطل.

الثالث : أنه بدل من الضّمير المستكن في الظّرف وهو غريب ذكره مكيّ.

والثاني : من وجهي الخبر أن يكون الخبر «الحق» ، و «يومئذ» على هذا فيه وجهان :

أحدهما : أنّه منصوب على الظّرف ناصبه «الوزن» أي : يقع الوزن ذلك اليوم.

والثاني : أنّه مفعول به على السّعة وهذا الثاني ضعيف جدّا لا حاجة إليه.

ولمّا ذكر أبو البقاء (١) كون «الحق» خبرا ، وجعل «يومئذ» ظرفا للوزن قال : «ولا يجوز على هذا أن يكون صفة ، لئلا يلزم الفصل بين الموصول وصلته».

قال شهاب الدّين (٢) : وأين الفصل؟ فإن التركيب القرآنيّ إنما جاء فيه «الحق» بعد تمام الموصول بصلته ، وإذا تمّ الموصول بصلته جاز أن يوصف. تقول : «ضربك زيدا يوم الجمعة الشديد حسن».

فالشّديد صفة لضربك. فإن توهّم كون الصّفة محلّها أن تقع بعد الموصوف وتليه ، فكأنّها مقدّمة في التّقدير فحصل الفصل تقديرا فإن هذا لا يلتفت إليه ؛ لأنّ تلك المعمولات من تتمّة الموصول فلم تل إلّا الموصول وعلى تقدير اعتقاد ذلك له ، فالمانع من ذلك أيضا صيرورة المبتدأ بلا خبر ، لأنّك إذا جعلت «يومئذ» ظرفا للوزن و «الحقّ» صفته فأين خبره؟ فهذا لو سلم من المانع الذي ذكره كان فيه هذا المانع الآخر.

وقد طوّل مكيّ بذكر تقدير تقديم «الحقّ» على «يومئذ» وتأخيره عنه باعتبار الإعرابات المتقدمة ، وهذا لا حاجة إليه لأنّا مقيّدون في القرآن بالإتيان بنظمه. وذكر أيضا

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٦٩.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٣٦.

٢١

أنه يجوز نصبه ، يعني أنّه لو قرىء به لكان جائزا ، وهذا أيضا لا حاجة إليه.

قوله : «موازينه» فيها قولان :

أحدهما : أنّها جمع ميزان : الآلة [التي] يوزن بها ، وإنّما جمع ؛ لأن كلّ إنسان له ميزان يخصّه على ما جاء في التّفسير ، أو جمع باعتبار الأعمال الكثيرة وعبّر عن هذا الحال بالمحل.

والثاني : أنّها جمع موزون ، وهي الأعمال ، والجمع حينئذ ظاهر. قيل : إنّما جمع الميزان ههنا ، وفي قوله : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [الأنبياء : ٤٧] ؛ لأنّه لا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزان ، ولأفعال الجوارح ميزان ، ولما يتعلق بالقول ميزان.

وقال الزّجّاج (١) : إنّما جمع الموازين ههنا لوجهين :

الأوّل : أنّ العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد فيقولون : خرج فلان إلى مكّة راكبا البغال.

والثاني : أن الموازين ههنا جمع موزون لا جمع ميزان.

قال القرطبيّ (٢) : والموازين جمع ميزان وأصله : «موزان» قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها.

فصل في المراد بالميزان

قال مجاهد والأعمش والضّحّاك : المراد بالميزان العدل والقضاء (٣) ، وذهب إلى هذا القول كثير من المتأخّرين قالوا : لأنّ لفظ الوزن على هذا المعنى شائع في اللّغة ؛ لأن العدل في الأخذ والإعطاء لا يظهر إلّا بالكيل ، والوزن في الدّنيا ، فلم يبعد جعل الوزن كناية عن العدل ، ويؤيّد ذلك أنّ الرّجل إذا لم يكن له قدر ولا قيمة عند غيره يقال : إنّ فلانا لا يقيم لفلان وزنا. قال تعالى : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) [الكهف : ١٠٥] ، ويقال هذا الكلام في وزن هذا وفي وزانه ، أي : يعادله ويساويه مع أنّه ليس هناك وزن في الحقيقة ؛ قال الشّاعر : [الكامل]

٢٤٠٥ ـ قد كنت عند لقائكم ذا قوّة

عندي لكلّ مخاصم ميزانه (٤)

أي عندي لكل مخاصم كلام يعادل كلامه ، فجعل الوزن مثلا للعدل وإذا ثبت هذا فنقول: المراد من الآية هذا المعنى فقط ، والدّليل عليه أنّ الميزان إنّما يراد ليتوصل به

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٤ / ٢٣.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١٠٨.

(٣) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» ١٤ / ٢٢.

(٤) ينظر : اللسان (وزن) ، والقرطبي ١٧ / ٥٨ ، والرازي ١٤ / ٢٢.

٢٢

إلى معرفة مقدار الشيء ، ومقادير الثواب والعقاب لا يمكن إظهارها بالميزان ؛ لأن أعمال العباد أعراض ، وهي قد فنيت وعدمت ، ووزن المعدوم محال ، وأيضا فبتقدير بقائها كان وزنها محالا (١).

وأجيب بأنّ فائدته أنّ جميع المكلفين يعلمون يوم القيامة أنّه تعالى منزّه عن الظّلم والجور. وفائدة وضع الميزان أن يظهر ذلك الرّجحان لأهل الموقف ، فإن رجحت الحسنات ازداد فرحه وسروره ، وإن كان بالضّدّ فيزداد غمّه.

وقال القرطبيّ (٢) : «الصّحيح أنّ المراد بالميزان وزن أعمال العباد».

فإن قيل : الموزون صحائف الأعمال ، أو صور مخلوقة على حسب مقادير الأعمال.

فنقول : إنّ المكلف يوم القيامة إمّا أن يكون مقرا بأنّ الله ـ تعالى ـ عادل حكيم ، أو لا يكون مقرّا بذلك فإن كان مقرّا بذلك فحينئذ كفاه حكم الله تعالى بمقادير الثّواب والعقاب في علمه بأنه عدل وصواب ، وإن لم يكن مقرّا بذلك لم يعرف من رجحان كفّة الحسنات على كفّة السيّئات أو بالعكس من حصول الرّجحان لا على سبيل العدل والإنصاف ، فثبت أنّ هذا الوزن لا فائدة فيه ألبتّة (٣) وقال أكثر المفسرين : أراد وزن الأعمال بالميزان ، وذلك أنّ الله ـ تعالى ـ ينصب ميزانا له لسان يوزن بها أعمال العباد خيرها وشرها وكفتان ، كل كفّة بقدر ما بين المشرق والمغرب.

واختلفوا في كيفيّة الوزن ، فقال بعضهم : توزن صحائف الأعمال.

وروي أنّ رجلا ينشر عليه تسعة وتسعون سجلّا ، كل سجّلّ منها مدّ البصر فيها خطاياه وذنوبه فتوضع في كفّة الميزان ثم يخرج له بطاقة فيها شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، فتوضع السّجلات في كفة ، والبطاقة في كفّة فطاشت السّجلات وثقلت البطاقة.

وقيل : توزن الأشخاص.

روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ليأتي الرّجل العظيم السّمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة» (٤).

وقيل : توزن الأعمال. روي ذلك ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ فيؤتى بالأعمال

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٤ / ٢٣.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١٠٧.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٢٣.

(٤) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أخرجه البخاري في الصحيح ٨ / ٤٢٦ ، كتاب التفسير سورة الكهف : باب «أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» الحديث (٤٧٢٩) ومسلم في الصحيح ٤ / ٢١٤٧ ، كتاب صفة القيامة والجنة والنار الحديث (١٨ / ٢٧٨٥).

٢٣

الحسنة على صورة حسنة ، وبالأعمال السيّئة على صورة قبيحة ، فتوضع في الميزان.

والحكمة في وزن الأعمال امتحان الله عباده بالإيمان به في الدّنيا ، وإقامة الحجّة عليهم في العقبى (١).

قوله تعالى : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ)(٩)

هذه الآية تدلّ على أنّ أهل القيامة فريقان ، منهم من يزيد حسناته على سيئاته ، ومنهم من يزيد سيئاته على حسناته ، فأمّا القسم الثّالث ، وهو الّذي تكون حسناته وسيئاته متعادلة فإنه غير موجود.

قال أكثر المفسرين (٢) : المراد ب (مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) الكافر لقوله تعالى : (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ)، ولا معنى لكون الإنسان ظالما بآيات الله إلّا كونه كافرا بها منكرا لها ، وهذا هو الكافر.

وروي أنّه إذا خفّت حسنات المؤمن يخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطاقة كالأنملة فيلقيها في كفّة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح ، فيقول ذلك العبد المؤمن للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بأبي أنت وأمّي ، ما أحسن وجهك وأحسن خلقك فمن أنت؟

فيقول : «أنا نبيّك محمّد ، وهذه صلواتك الّتي كنت تصلّيها عليّ ، وقد وفيتك أحوج ما تكون إليها» (٣). رواه الواحديّ في «البسيط».

والخبر الذي تقدّم أيضا من أنّه تعالى يلقي في كفة الحسنات الكتاب المشتمل على شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله ، وأمّا قول ابن عباس ، وأكثر المفسرين حملوا هذه الآية على أهل الكفر.

وقال أبو بكر الصّدّيق ـ رضي الله عنه ـ حين حضره الموت لعمر بن الخطاب في وصّيته: إنّما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتّباعهم الحقّ في الدّنيا ، وثقله عليهم ، وحقّ لميزان يوضع فيه الحقّ غدا أن يكون ثقيلا ، وإنّما خفّت موازين من خفّت موازينه يوم القيامة باتّباعهم الباطل في الدّنيا ، وخفته عليهم ، وحقّ لميزان يوضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا (٤).

قوله : «بما كانوا» متعلّق ب «خسروا» ، و «ما» مصدريّة ، و «بآياتنا» متعلّق ب «يظلمون» قدّم عليه للفاصلة. وتعدّى «يظلمون» بالباء : إمّا لتضمّنه معنى التّكذيب نحو : (كَذَّبُوا بِآياتِنا) وإمّا لتضمّنه معنى الجحد نحو (وَجَحَدُوا بِها) [النمل : ١٤].

__________________

(١) انظر : تفسير الرازي ١٤ / ٢٢.

(٢) انظر : تفسير الرازي ١٤ / ٢٣.

(٣) انظر : المصدر السابق (١٤ / ٢٣) وذكره القشيري في «تفسيره» كما في «القرطبي» (٧ / ١٠٨)

(٤) ذكره البغوي في تفسيره ٢ / ١٤٩.

٢٤

قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)(١٠)

لمّا أمر الخلق بمتابعة الأنبياء ، ثمّ خوّفهم بعذاب الدّنيا وهو قوله : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) ، وبعذاب الآخرة وهو السّؤال ووزن الأعمال رغبهم في دعوة الأنبياء في هذه الآية بطريق آخر ، وهو أنّ ذكر كثرة نعم الله عليهم ، وكثرة النّعيم توجب الطّاعة فقال : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا ومكّنّاكم ، والمراد بالتّمكين التمليك والقوة والقدرة.

قوله «وجعلنا لكم» يجوز أن يكون «جعل» بمعنى «خلق» فيتعدّى لواحد فيتعلّق الجاران ب «الجعل» ، أو بمحذوف على أنّهما حالان من «معايش» لأنهما لو تأخرا لجاز أن يكونا وصفين. ويجوز أن تكون التصييريّة فتتعدّى لاثنين أوّلهما : «معايش» ، والثّاني أحد الجارين ، والآخر : إمّا حال متعلّقة بمحذوف ، وإمّا متعلّقة بنفس الجعل وهو الظّاهر.

و «معايش» جمع معيشة ، وفيها ثلاثة مذاهب :

مذهب سيبويه (١) والخليل : أنّ وزنها مفعلة بضمّ العين ، أو مفعلة بكسرها ، فعلى الأوّل جعلت الضّمّة كسرة ، ونقلت إلى فاء الكلمة. وقياس قول الأخفش (٢) في هذا النّحو أن يغيّر الحرف لا الحركة ، ف «معيشة» عنده شاذّة إذ كان ينبغي أن يقال فيها معوشة.

وأمّا على قولنا إنّ أصلها «معيشة» بكسر العين فلا شذوذ فيها ومذهب الفرّاء (٣) : أنّ وزنها مفعلة بفتح العين ، وليس بشيء.

والمعيشة اسم لما يعاش به أي : يحيا وقال الزّجّاج : المعيشة ما يتوصلون به إلى العيش وهي في الأصل مصدر ل «عاش» يعيش عيشا ، وعيشة قال تعالى : (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة: ٢١] ، ومعاشا : قال تعالى : (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) [النبأ : ١١] ، ومعيشا قال رؤبة : [الرجز]

٢٤٠٦ ـ إليك أشكو شدّة المعيش

وجهد أعوام نتفن ريشي (٤)

والعامّة على «معايش» بصريح الياء. وقد خرج خارجة (٥) فروى عن نافع «معائش» بالهمز ، وقال النّحويّون (٦) : هذا غلط ؛ لأنّه لا يهمز عندهم إلا ما كان فيه حرف المدّ زائدا نحو : صحائف ومدائن ، وأمّا «معايش» فالياء أصل ؛ لأنها من «العيش».

__________________

(١) ينظر : الكتاب لسيبويه ٢ / ٣٦٤ ـ ٣٦٧.

(٢) ينظر : معاني القرآن للأخفش ٢ / ٢٩٣.

(٣) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٣٧٣.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : السبعة ٢٧٨ ، والحجة ٤ / ٧ ، وإعراب القراءات ١ / ١٧٦ ، وإتحاف ٢ / ٤٤.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٣٧.

٢٥

قال الفارسيّ ـ عن أبي عثمان ـ : «أصل أخذ هذه القراءة عن نافع» قال : «ولم يكن يدري ما العربيّة».

قال شهاب الدّين (١) : وقد فعلت العرب مثل هذا ، فهمزوا «منائر ومصائب» جمع «منارة ومصيبة» والأصل «مناور ، ومصاوب» وقد غلّط سيبويه (٢) من قال مصائب ، ويعني بذلك أنّه غلطه بالنسبة إلى مخالفة الجادّة ، وهذا كما تقدّم عنه أنه قال : «واعلم أنّ بعضهم يغلط فيقول : إنّهم أجمعون ذاهبون» [قال] ومنهم من يأتي بها على الأصل فيقول : مصاوب ومناور ، وهذا كما قالوا في جمع «مقال» و «مقام» : «مقاول» و «مقاوم» في رجوعهم بالعين إلى أصلها قال : وأنشد النّحويّون على ذلك : [الطويل]

٢٤٠٧ ـ وإنّي لقوّام مقاوم لم يكن

جرير ولا مولى جرير يقومها (٣)

ووجه همزها أنّهم شبّهوا الأصليّ بالزّائد فتوهموا أن «معيشة» بزنة «صحيفة» فهمزوها كما همزوا «تيك» قالوا : ونظير ذلك في تشبيههم الأصل بالزائد قولهم في جمع «مسيل» «مسلان» ، توهّموه على أنّه على زنة «قضيب وقضبان» وقالوا في جمعه «أمسلة» كأنّهم توهّموا أنّه بزنة «رغيف ، وأرغفة» وإنّما مسيل وزنه «مفعل» ؛ لأنه من سيلان الماء ، وأنشدوا على «مسيل ، وأمسلة» قول أبي ذؤيب الهذليّ : [الوافر]

٢٤٠٨ ـ بواد لا أنيس به يباب

وأمسلة مذانبها خليف (٤)

وقال الزّجّاج (٥) : جميع نحاة البصرة يزعمون أنّ همزها خطأ ، ولا أعلم لها وجها إلّا التّشبيه ب «صحيفة» و «صحائف» ، ولا ينبغي التّعويل على هذه القراءة.

قال شهاب الدّين (٦) : وهذه القراءة لم ينفرد بها نافع بل قرأها جماعة جلّة معه ؛ فإنّها منقولة عن ابن عامر الذي قرأ على جماعة من الصّحابة ك «عثمان» و «أبي الدّرداء» و «معاوية» ، وقد سبق ذلك في «الأنعام» (٧) ، فقد قرأ بها قبل ظهور اللّحن ، وهو عربي فصيح وقرأ بها أيضا زيد بن عليّ ، وهو على جانب من الفصاحة والعلم الذي لا يدانيه فيه إلّا القليل ، وقرأ بها أيضا الأعمش والأعرج وكفى بهما في الإتقان والضّبط. وقد نقل الفرّاء (٨) أنّ قلب هذه الياء تشبيها لها بياء «صحيفة» قد جاء ، وإن كان قليلا.

وقوله : «قليلا ما تشكرون» كقوله : «قليلا ما تذكّرون».

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٣٧.

(٢) ينظر : الكتاب لسيبويه ٤ / ٣٥٦.

(٣) البيت للأخطل ينظر : ديوانه ٢٣٣ ، الخصائص ٣ / ١٤٥ ، ابن يعيش ١٠ / ٩٠ ، المنصف ١ / ٣٠٦ ، المقتضب ١ / ٢٦٠ ، الدر المصون ٣ / ٢٣٨.

(٤) البيت ينظر : أشعار الهذليين ١ / ١٨٥ ، الدر المصون ٣ / ٢٣٨.

(٥) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٢ / ٣٥٣.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٣٨.

(٧) ينظر : تفسير سورة الأنعام آية (١٣٧).

(٨) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٣٧٣.

٢٦

قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)(١١)

لما ذكر كثرة نعم الله على العبد أتبعه بذكر أنّه خلف أبانا [آدم] وجعله مسجود الملائكة ، والإنعام على الأب يجري مجرى الإنعام على الابن.

واختلف النّاس في «ثمّ» في هذين الموضعين : فمنهم من لم يلتزم [فيها] ترتيبا ، وجعلها بمنزلة «الواو» فإنّ خلقنا وتصويرنا بعد قوله تعالى للملائكة «اسجدوا».

ومنهم من قال : هي للتّرتيب لا في الزمان بل للترتيب في الإخبار ولا طائل في هذا.

ومنهم من قال : هي للتّرتيب الزّمانيّ ، وهذا هو موضوعها الأصليّ.

ومنهم من قال : الأولى للتّرتيب الزّمانيّ والثّانية للتّرتيب الإخباريّ.

واختلفت عبارة القائلين بأنّها للتّرتيب في الموضعين فقال بعضهم : إنّ ذلك على حذف مضافين ، والتقدير : ولقد خلقنا آباءكم ثم صوّرنا آباءكم ثم قلنا ، ويعني بأبينا آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وإنّما خاطبه بصيغة الجمع وهو واحد تعظيما له ، ولأنه أصل الجميع ، والتّرتيب أيضا واضح.

وقال مجاهد : المعنى خلقناكم في ظهر آدم ثم صوّرناكم حين أخذنا عليكم الميثاق (١). رواه عنه أبو جريج وابن أبي نجيح.

قال النّحّاس : وهذا أحسن الأقوال يذهب مجاهد إلى أنه خلقهم في ظهر آدم ثمّ صوّرهم حين أخذ عليهم الميثاق ، ثمّ كان السّجود [بعد ذلك](٢) ويقوّي هذا قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الأعراف : ١٧٢].

وفي الحديث أنّه أخرجهم أمثال الذّرّ ، فأخذ عليهم الميثاق (٣).

وقال بعضهم : المخاطب بنو آدم ، والمراد بهم أبوهم وهذا من باب الخطاب لشخص ، والمراد به غيره كقوله : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [البقرة : ٤٩] ، وإنّما المنجّى والذي كان يسام سوء العذاب أسلافهم. وهذا مستفيض في لسانهم. وأنشدوا على ذلك : [الطويل]

٢٤٠٩ ـ إذا افتخرت يوما تميم بقوسها

وزادت على ما وطّدت من مناقب

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٣٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٣٤) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٢) في أ : بعده.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٢٧٢.

٢٧

فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم

عروش الّذين استرهنوا قوس حاجب (١)

وهذه الوقعة إنّما كانت في أسلافهم.

والترّتيب أيضا واضح على هذا.

ومن قال : إن الأولى للتّرتيب الزّماني ، والثّانية للتّرتيب الإخباريّ اختلفت عباراتهم أيضا. فقال بعضهم : المراد بالخطاب الأوّل آدم ، وبالثّاني ذرّيّته ، والترتيب الزّمانيّ واضح و «ثمّ» الثّانية للتّرتيب الإخباريّ.

وقال بعضهم : ولقد خلقناكم في ظهر آدم ثمّ صوّرناكم في بطون أمهاتكم.

وقال بعضهم : [ولقد خلقنا] أرواحكم ثم صوّرنا أجسامكم ، وهذا غريب نقله القاضي أبو عليّ (٢) في «المعتمد».

وقال بعضهم : خلقناكم نطفا في أصلاب الرّجال ، ثمّ صوّرناكم في أرحام النّساء.

وقال بعضهم : ولقد خلقناكم في بطون أمّهاتكم وصوّرناكم فيها بعد الخلق بشقّ السّمع والبصر ، ف «ثمّ» الأولى للتّرتيب الزّمانيّ ، والثانية للترتيب الإخباري أي : ثم أخبركم أنا قلنا للملائكة.

وقيل : إنّ «ثمّ» الثانية بمعنى «الواو» [أي] وقلنا للملائكة فلا تكون للتّرتيب.

وقيل : فيه تقديم وتأخير تقديره : ولقد خلقناكم يعني آدم ، ثمّ قلنا للملائكة اسجدوا ، ثمّ صوّرناكم.

وقال بعضهم : إنّ الخلق في اللّغة عبارة عن التقدير ، وتقدير الله عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته بتخصيص كلّ شيء بمقداره المعيّن ، فقوله «خلقناكم» إشارة إلى حكم الله ، وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم.

وقوله «صوّرناكم» إشارة إلى أنّه تعالى [أثبت في اللّوح المحفوظ صورة كل كائن يحدث](٣) إلى يوم القيامة ، فخلق الله تعالى عبارة عن حكمه ومشيئته ، والتّصوير عبارة عن إثبات صور الأشياء في اللّوح المحفوظ. ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم ، وأمر الملائكة بالسّجود.

قال ابن الخطيب (٤) : وهذا التّأويل عندي أقرب من سائر الوجوه.

وقد تقدّم الكلام في هذا السّجود ، واختلاف الناس فيه في سورة البقرة.

قوله : «إلّا إبليس» تقدّم الكلام عليه في البقرة (٥). وكان الحسن يقول : إبليس لم

__________________

(١) البيتان لأبي تمام ينظر : ديوانه ٤٢ ، الخزانة ١ / ٣٥٤ ، البحر ٤ / ٢٧٢ ، الدر المصون ٣ / ٢٣٩.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٣٩.

(٣) في أ : قال.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٢٦.

(٥) ينظر تفسير سورة البقرة الآيات (٤٠ ـ ٤٢)

٢٨

يكن من الملائكة ؛ لأنه خلق من نار والملائكة من نور لا يستكبرون عن عبادته ، ولا يستحسرون(١) ، و [هو ليس كذلك فقد عصى إبليس واستكبر ، والملائكة ليسوا من الجنّ وإبليس من الجنّ ، والملائكة رسل الله ، وإبليس ليس كذلك ، وإبليس أوّل خليقة الجنّ وأبوهم كما أنّ آدم أوّل خليقة الإنس وأبوهم ، وإبليس له ذرّيّة والملائكة لا ذرّيّة لهم.

قال الحسن : ولمّا كان إبليس مأمورا مع الملائكة استثناه الله وكان اسم إبليس شيئا آخر فلما عصى الله سمّاه بذلك ، وكان مؤمنا عابدا في السّماء حتّى عصى الله ؛ فأهبط إلى الأرض](٢).

قوله : «لم يكن» هذه الجملة استثنافيّة ؛ لأنها جواب سؤال مقدّر ، وهذا كما تقدّم في قوله في البقرة «أبى» وتقدّم أنّ الوقف على إبليس.

وقيل : فائدة هذه الجملة التّوكيد لما أخرجه الاستثناء من نفي سجود إبليس.

وقال أبو البقاء (٣) : إنّها في محلّ نصب على الحال أي : إلّا إبليس حال كونه ممتنعا من السّجود ، وهذا كما تقدّم (٤) له في البقرة من أن «أبى» في موضع نصب على الحال.

قوله تعالى : (قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(١٢)

في «لا» هذه وجهان :

أظهرهما : أنها زائدة للتوكيد.

قال الزّمخشريّ (٥) : «لا» في «ألّا تسجد» صلة بدليل قوله تعالى (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [سورة ص ٧٥] ومثلها (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد : ٢٩] بمعنى ليعلم ، ثم قال : فإن قلت ما فائدة زيادتها؟

قلت : توكيد بمعنى الفعل الذي يدخل عليه ، وتحقيقه كأنه قيل : يستحق علم أهل الكتاب ، وما منعك أن تحقق السّجود ، وتلزمه نفسك إذ أمرتك؟. وأنشدوا على زيادة «لا» قول الشّاعر : [الطويل]

٢٤١٠ ـ أبى جوده لا البخل واستعجلت نعم

به من فتى لا يمنع الجود نائلة (٦)

يروى «البخل» بالنصب والجر ، والنصب ظاهر الدلالة في زيادتها ، تقديره : أبى جوده البخل. وأمّا رواية الجر فالظّاهر منها عدم الدلالة على زيادتها ، ولا حجّة في هذا البيت على زيادة «لا» في رواية النّصب ، ويتخرّج على وجهين :

__________________

(١) في أ : ولا يعصون.

(٢) تقدم في البقرة.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٦٩.

(٤) أي لأبي البقاء. ينظر الإملاء ١ / ٣٠.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٨٩.

(٦) تقدم.

٢٩

أحدهما : أن تكون «لا» مفعولا بها ، و «البخل» بدل منها ؛ لأن «لا» تقال في المنع فهي مؤدّية للبخل.

والثاني : أنّها مفعول بها أيضا ، و «البخل» مفعول من أجله ، والمعنى : أبي جوده لفظ «لا» لأجل البخل أي : كراهة البخل ، ويؤيّد عدم الزّيادة رواية الجرّ.

قال أبو عمرو بن العلاء : «الرّواية فيه بخفض «البخل» ؛ لأن «لا» تستعمل في البخل» ، وأنشدوا أيضا على زيادتها قول الآخر : [الكامل]

٢٤١١ ـ أفعنك لا برق كأنّ وميضه

غاب تسنّمه ضرام مثقب (١)

يريد أفعنك برق ، وقد خرّجه أبو حيّان (٢) على احتمال كونها عاطفة ، وحذف المعطوف ، والتقدير : أفعنك لا عن غيرك.

وكون «لا» في الآية زائدة هو مذهب الكسائي ، والفرّاء (٣) والزّجّاج (٤) ، وما ذكرناه من كون البخل بدلا من «لا» ، و «لا» مفعول بها هو مذهب الزّجّاج.

وحكى بعضهم عن يونس قال : كان أبو عمرو بن العلاء يجرّ «البخل» ويجعل «لا» مضافة إليه ، أراد أبى جوده لا التي هي للبخل ؛ لأنّ «لا» قد تكون للبخل وللجود ، فالتي للبخل معروفة ، والّتي للجود أنّه لو قال له : «امنع الحقّ» أو «لا تعط المساكين» فقال : «لا» كان جودا.

قال شهاب الدّين (٥) : يعني فتكون الإضافة للتّبيين ، لأن «لا» صارت مشتركة فميّزها بالإضافة ، وخصّصها به ، وقد تقدّم طرف جيد من زيادة «لا» في أواخر الفاتحة.

وزعم جماعة أن «لا» في هذه الآية الكريمة غير زائدة لكن اختلفت عبارتهم في تصحيح معنى ذلك؟

فقال بعضهم : في الكلام حذف يصحّ به النّفي والتقدير : ما منعك فأحوجك ألّا تسجد؟

وقال بعضهم : المعنى ما ألجأك ألّا تسجد.

وقال بعضهم : من أمرك ألّا تسجد؟ أو من قال لك ألا تسجد ، أو ما دعاك ألّا تسجد.

قالوا : ويكون هذا استفهاما على سبيل الإنكار ، ومعناه أنّه ما منعك عن ترك السّجود شيء ، كقول القائل لمن ضربه ظلما : ما الذي منعك من ضربي ، أدينك أم عقلك أم جارك.

__________________

(١) البيت لساعدة بن جؤية ينظر : ديوان الهذليين ١ / ١٧٢ ، اللسان (لا) ، المحرر الوجيز ٣ / ٤٥ ، الصاحبي (٥٩) ، البحر المحيط ٣ / ٢٧٣ ، الدر المصون ٣ / ٢٤٠.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٧٣.

(٣) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٣٧٤.

(٤) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٢ / ٣٥٥.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٤٠.

٣٠

والمعنى أنّه لم يوجد أحد هذه الأمور ، وما امتنعت من ضربي.

وقال القاضي (١) : ذكر الله المنع وأراد الدّاعي فكأنه قال : ما دعاك إلى ألّا تسجد ؛ لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة عظيمة يتعجب منها ويسأل عن الدّاعي إليها.

وهذا قول من يتحرج من نسبة الزّيادة إلى القرآن ، وقد تقدّم تحقيقه ، وأنّ معنى الزّيادة على معنى يفهمه أهل العلم ، وإلّا فكيف يدّعي زيادة في القرآن بالعرف العام؟ هذا ما لا يقوله أحد من المسلمين.

و «ما» استفهامية في محل رفع بالابتداء ، والخبر الجملة بعدها أي : أي شيء منعك؟.

و «أن» في محلّ نصب ، أو جرّ ؛ لأنها على حذف حرف الجرّ إذ التّقدير : ما منعك من السّجود؟ و «إذ» منصوب ب «تسجد» أي : ما منعك من السّجود في وقت أمري إيّاك به.

فصل في دلالة الأمر

احتجوا بهذه الآية على أنّ الأمر يفيد الوجوب ؛ لأنه تعالى ذمّ إبليس على ترك ما أمر به ، ولو لم يفد الأمر الوجوب لما كان مجرد ترك المأمور به يوجب الذّمّ.

فإن قالوا : هب أنّ هذه الآية تدلّ على أنّ ذلك الأمر كان يفيد الوجوب فلعل تلك الصّيغة في ذلك الأمر كانت تفيد الوجوب ، فلم قلتم : إن جميع الصيغ يجب أن تكون كذلك؟

والجواب : أنّ قوله تعالى (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) يفيد تعليل ذلك الذّم بمجرد ترك الأمر ، لأن قوله : «إذ أمرتك» مذكور في معرض التعليل ، والمذكور في قوله : إذ أمرتك» هو الأمر من حيث إنه أمر لا كونه أمرا مخصوصا في صورة مخصوصة فوجب أن يكون ترك الأمر من حيث إنه أمر موجبا للذم.

فصل في دلالة الأمر على الفور أم التراخي

واحتجّوا أيضا بهذه الآية على أنّ الأمر يقتضي الفور ، قالوا : لأنّه تعالى ذمّ إبليس على ترك السّجود في الحال ، ولو كان الأمر لا يفيد الفور لما استوجب الذّمّ بترك السّجود في الحال.

قوله : «أنا خير منه» اعلم أنّ قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) طلب للدّاعي الذي دعاه إلى ترك السّجود ، فحكى تعالى عن إبليس ذكر ذلك الدّاعي ، وهو أنّه قال : «أنا خير منه».

قوله : «خلقتني من نّار» لا محلّ لهذه الجملة ؛ لأنها كالتّفسير والبيان للخيريّة ومعناه : أنا لم أسجد لآدم ؛ لأنّي خير منه ومن كان خيرا من غيره فإنّه لا يجوز أمر ذلك الأكمل بالسّجود لذلك الأدون ، ثم بيّن المقدّمة الأولى ، وهو قوله «أنا خير منه» بأن قال

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٤ / ٢٧.

٣١

خلقتني من نار ، وخلقته من طين ، والنّار أفضل من الطّين والمخلوق من الأفضل أفضل.

أمّا بيان أنّ النّار أفضل من الطّين فلأنّ النّار مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السّموات ، قوية التّأثير والفعل ، والأرض ليس لها إلّا القبول والانفعال ، والفعل أشرف من الانفعال ، وأيضا فالنّار مناسبة للحرارة الغريزيّة وهي مادّة الحياة. وأمّا الأرضيّة والبرد واليبس ، فهما يناسبان الموت والحياة أشرف من الموت ، وأيضا فالنضج متعلق بالحرارة ، وأيضا فسن النّموّ من النّبات لما كان وقت كمال الحرارة كان غاية كمال الحيوان حاصلا في هذين الوقتين ، وأمّا وقت الشّيخوخة فهو وقت البرد واليبس المناسب للأرضية ، لا جرم كان هذا الوقت أردى أوقات عمر الإنسان.

وأمّا بيان أنّ المخلوق من الأفضل أفضل فظاهر ؛ لأن شرف الأصول يوجب شرف الفروع.

وأمّا بيان أنّ الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون ، فإنّه قد تقرّر في العقول أنّ من أمر أبا حنيفة والشافعي رضي الله عنهما وسائر أكابر الفقهاء بخدمة فقيه نازل الدرجة كان ذلك قبيحا في العقول ، فهذا هو تقرير لشبهة إبليس.

والجواب عنها أن نقول : هذه الشّبهة مركّبة من مقدّمات ثلاث : أوّلها أنّ النّار أفضل من التّراب ، وهذا قد تقدّم الكلام فيه (١).

قال محمّد بن جرير (٢) : ظنّ الخبيث أنّ النّار خير من الطّين ولم يعلم أنّ الفضل ما جعل الله له الفضل ، وقد فضّل الطّين على النّار.

وقالت الحكماء (٣) : للطّين فضل على النّار من وجوه :

منها : أن من جوهر الطّين الرّزانة والوقار والحلم والصّبر وهو الدّاعي لآدم عليه‌السلام بعد السّعادة الّتي سبقت له إلى التّوبة والتّواضع والتّضرّع ، فأورثه المغفرة والاجتباء والتّوبة والهداية. ومن جوهر النّار الخفّة ، والطّيش ، والحدّة والارتفاع والاضطراب وهو الدّاعي لإبليس بعد الشّقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار فأورثه اللّعنة والشّقاوة ؛ ولأن الطّين سبب جمع الأشياء والنّار سبب تفرّقها ، [و] لأن التّراب سبب الحياة ؛ لأنّ حياة الأشجار ، والنّبات به ، والنّار سبب الهلاك ، ولأنّ التراب يكون منه وفيه أرزاق الحيوان ، وأقواتهم ولباس العباد وزينتهم وآلات معايشهم ومساكنهم والنّار لا يكون فيها شيء من ذلك ، وأيضا النّار مفتقرة إلى التّراب ، وليس التّراب مفتقر إليها ، فإنّ المحلّ الذي يكون مكونا من التّراب أو فيه فهي الفقيرة إلى التّراب ، وهو غنيّ عنها.

وأيضا إنّ النّار وإن حصل بها بعض المنفعة فالشّرّ كامن فيها ، لا يصدّها عنه إلا

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٤ / ٢٨.

(٢) ينظر : تفسير ابن جرير الطبري ٥ / ٤٤١.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١١١.

٣٢

حبسها ، ولو لا الحابس لها لأفسدت الحرث والنّسل وأمّا التّراب فالخير والبركة [فيه] ، كلما قلّب ظهرت بركته وخيره. فأين أحدهما من الآخر؟

وأيضا فإنّ الله تعالى أكثر ذكر الأرض في كتابه ، وذكر منافعها وخلقها ، وأنّه جعلها : (مِهاداً) [النبأ : ٦] و (فَرْشاً) [البقرة : ٢٢] و (بِساطاً) [نوح : ١٩] ، و (قَراراً) [النمل : ٦١] و (كِفاتاً) [المرسلات : ٢٥] للاحياء والأموات ودعا عباده إلى التّفكر فيها ، والنّظر في آياتها وعجائب ما أودع فيها ، ولم يذكر النّار إلا في معرض العقوبة والتّخويف والعذاب إلا موضعا أو موضعين ذكرها بأنها (تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) [الواقعة : ٧٣] بذكره لنار الآخرة ، ومتاعا لبعض أفراد النّاس وهم المقوون النّازلون بالمفازة ، وهي الأرض الخالية إذا نزلها المسافر تمتّع بالنّار في منزله. فأين هذا من أوصاف الأرض؟

وأيضا فإنّ الله تعالى وصف الأرض بالبركة في مواضع من كتابه ، وأخبر أنّه بارك فيها ، وقدّر فيها أقواتها ، وقال : (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) [الأنبياء : ٧١] ، (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) [سبأ : ١٨] ، (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) [الأنبياء : ٨١] وأمّا النّار فلم يخبر بأنّه جعل فيها بركة أصلا بل المشهور أنّها مذهبة للبركات مبيدة لها. فأين المبارك في نفسه من المزيل للبركة؟ وما حقّها؟

وأيضا فإنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ جعل الأرض محل بيوته التي يذكر فيها اسمه ، ويسبّح له بالغدوّ ، والآصال ، وبيته الحرام الذي جعله قياما للنّاس مباركا ، وهدى للعالمين.

وأيضا فإنّ الله أودع في الأرض من المنافع ، والمعادن ، والأنهار والثّمرات والحبوب ، وأصناف الحيوان ما لم يرد في النّار شيء منه إلى غير ذلك.

وأمّا المقدّمة الثّانية ، وهي من كانت مادته أفضل فهو أفضل ، فهذا محلّ النّزاع ، والبحث ؛ لأنه لما كانت الفضيلة عطيّة من الله ـ تبارك وتعالى ـ ابتداء لم يلزم من فضيلة المادّة فضيلة الصّورة ، ألا ترى أنّه يخرج الكافر من المؤمن ، والمؤمن من الكافر ، والنّور من الظّلمة والظّلمة من النّور ، وذلك يدلّ على أنّ الفضيلة لا تحصل إلّا بفضل الله ، لا بسبب فضيلة الأصل والجوهر.

وأيضا ، فالتّكليف إنّما يتناول الحي بعد انتهائه إلى حدّ كمال العقل فالمعتبر بما انتهى إليه لا بما خلق منه.

وأيضا فالمفضل إنّما يكون بالأعمال ، وما يتّصل بها ، لا بسبب المادّة ؛ ألا ترى أنّ الحبشيّ المؤمن مفضل على القرشيّ الكافر.

٣٣

فصل في تخصيص العموم بالقياس

احتجّ من قال «إنّه لا يجوز تخصيص عموم بالقياس» بهذه الآية ؛ فإنّه لو كان تخصيص النّصّ بالقياس جائزا لما استوجب إبليس هذا التّعنيف الشّديد ، والتوبيخ العظيم ، ولمّا حصل ذلك دلّ على أن تخصيص عموم النّصّ بالقياس لا يجوز.

وبيانه أنّ قوله تعالى للملائكة : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) خطاب عامّ يتناول جميع الملائكة ، ثم إنّ إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس ، وهو أنّه مخلوق من النّار ، والنّار أشرف من الطّين ، ومن كان أصله أشرف فهو أشرف فيلزم كون إبليس أشرف من آدم ، ومن كان أشرف من غيره فإنّه لا يؤمر بخدمته لأن هذا الحكم ثابت في جميع النّظائر ، ولا معنى للقياس إلّا ذلك فثبت أنّ إبليس ما عمل في هذه الواقعة شيئا إلّا أنه خصص العموم بالقياس ، فاستوجب بذلك الذّمّ الشّديد ، فدلّ ذلك على أنّ تخصيص النّصّ بالقياس لا يجوز.

وأيضا فالآية تدلّ على صحّة هذه المسألة من وجه آخر ، وهو أن إبليس لمّا ذكر هذا القياس قال تعالى : (فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) [الآية ١٣ من الأعراف] ووصف إبليس بكونه «متكبّرا» بعد أن حكى عنه القياس [الذي يوجب تخصيص النص ، وهذا يقتضي أنّه من حاول تخصيص النّصّ بالقياس](١) تكبّر على الله ، ودلّت هذه الآية على أن التّكبّر على الله يوجب العقاب الشّديد ، والإخراج من زمرة الأولياء والإدخال في زمرة الملعونين ، فدلّ ذلك على أنّ تخصيص النّصّ بالقياس لا يجوز ، وهذا هو المراد بما نقله الواحديّ في «البسيط» عن ابن عباس أنّه قال : «كانت الطّاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربّه ، وقاس».

وأوّل من قاس إبليس ، وكفر بقياسه ، فمن قاس الدّين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس.

والجواب أنّ القياس الذي يبطل النّصّ بالكليّة باطل ، أمّا القياس الذي يخصّص [النّص] في بعض الصّور لم قلتم : إنه باطل؟

وتقريره : أنه لو قبح أمر من كان مخلوقا من النّار بالسّجود لمن كان مخلوقا من الأرض لكان قبح أمر من كان مخلوقا من النّور المحض بالسّجود لمن كان مخلوقا من الأرض أولى ؛ لأن النّور أشرف من النّار ، وهذا القياس يقتضي أن يقبّح أمر كل واحد من الملائكة بالسّجود لآدم ، فهذا القياس يقتضي رفع مدلول النّصّ بالكليّة وأنه باطل (٢).

أمّا القياس الذي يقتضي تخصيص مدلول النّصّ العامّ لم قلتم : إنّه [باطل؟

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٢٩.

٣٤

ويمكن أن يجاب بأن يقال : إن كونه أشرف من غيره يقتضي قبح أن يلجأ الأشرف](١) إلى خدمة الأدنى ، أما لو رضي ذلك الشّريف بتلك الخدمة لم يقبح ؛ لأنه لا اعتراض عليه في أن يسقط حقّ نفسه ، أمّا الملائكة فقد رضوا بذلك فلا بأس به ، وأمّا إبليس فإنه لم يرض بإسقاط هذا الحق ، فوجب أن يقبح أمره بذلك السجود ، فهذا قياس مناسب ، وإنه يوجب تخصيص النّصّ ، ولا يوجب رفعه بالكليّة ولا إبطاله ، فلو كان تخصيص النّصّ بالقياس جائزا لما استوجب الذّم العظيم ، فلمّا استوجب استحقاق هذا الذم العظيم علمنا أنّ ذلك إنّما كان لأجل أن تخصيص النّصّ بالقياس لا يجوز.

فصل في بيان قوله تعالى (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ)

قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) لا شكّ أن قائل هذا القول هو الله سبحانه وتعالى ، وقوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) لا شكّ أنّ قائل هذا القول هو إبليس ، وقوله : (فَاهْبِطْ مِنْها) لا شكّ أن قائل هذا القول هو الله سبحانه وتعالى ، وقوله : (فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) لا شكّ أنّ هذا قول إبليس ، ومثل هذه المناظرة بين الله وبين إبليس مذكور في سورة «ص» (٢).

وإذا ثبت هذا فنقول : إنه لم يتّفق لأحد من أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مكالمة مع الله مثل ما اتّفق لإبليس ، وقد عظّم الله شرف موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقوله : (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) [الأعراف : ١٤٣] ، (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] ، فإذا كانت المكالمة تفيد الشّرف العظيم فكيف حصلت على أعظم الوجوه لإبليس؟ وإن لم يوجب الشّرف العظيم فكيف ذكره الله تعالى في معرض التشريف لموسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

والجواب من وجهين (٣) :

أحدهما : قال بعض العلماء : إنّه تعالى قال ذلك لإبليس بواسطة على لسان بعض الملائكة ؛ لأنه ثبت أن غير الأنبياء لا يخاطبهم الله إلا بواسطة.

الثاني : أنّه تعالى تكلّم مع إبليس بلا واسطة لكن على وجه الإهانة بدليل قوله تعالى : (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) ، وتكلّم مع الأنبياء على سبيل الإكرام بدليل قوله [تعالى] لموسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) [طه : ١٣] ، وقوله : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) [طه : ٤١] وهذا نهاية الإكرام.

قوله تعالى : (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)(١٣)

الضمير في «منها» قال ابن عباس : «يريد من الجنّة ؛ لأنه كان من سكّانها» (٤)

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سيأتي في تفسير سورة (ص).

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٣٠.

(٤) تقدم.

٣٥

قال ابن عباس : كان في عدن ، لا في جنّة الخلد (١).

وقيل : تعود على السّماء ، لأنه روي عن ابن عباس : «أنّه وسوس إليهما وهو في السّماء» (٢) ، ولأنّ الهبوط إنّما يكون من ارتفاع.

وقيل : يعود على الأرض ، أمر أن يخرج منها إلى جزائر البحار ولا يدخل في الأرض إلا كالسّارق.

وقيل : يعود على الرّتبة المنيفة ، والمنزلة الرّفيعة.

وقيل : يعود على الصّورة والهيئة الّتي كان عليها ؛ لأنّه كان مشرق الوجه فعاد مظلما.

قوله : «فاخرج» تأكيد ل «اهبط» إذ هو بمعناه.

وقوله : «فيها» لا مفهوم له يعني : أنّه لا يتوهّم أنّه يجوز أن يتكبّر في غيرها ولما اعتبر بعضهم هذا المفهوم ؛ احتاج إلى تقدير حذف معطوف كقوله : (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] قال : والتقدير : «فما يكون لك أن تتكبّر فيها ، ولا في غيرها إنّك من الصّاغرين الأذلّاء ، والصّغار الذّلّ والإهانة».

قوله تعالى : (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (١٦)

قوله : (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي : أخرني ، وأمهلني فلا تميتني إلى يوم يبعثون من قبورهم ، وهي النّفخة الأخيرة عند قيام السّاعة.

والضّمير في «يبعثون» يعود على بني آدم لدلالة السّياق عليهم ، كما دلّ على ما عاد عليه الضّميران في «منها» وفيها كما تقدم.

قوله : (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) قال بعض العلماء : إنّه تعالى أنظره إلى النّفخة الأولى ؛ لأنّه تعالى قال في آية أخرى : (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) [الحجر : ٣٧ ، ٣٨] ، المراد منه اليوم الذي يموت فيه الأحياء كلهم.

وقال آخرون : لم يوقّت الله تعالى له أجلا بل قال : (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) وقوله في الآية الأخرى (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) المراد منه الوقت المعلوم في علم الله تعالى.

قالوا : والدّليل على صحّته : أنّ إبليس كان مكلّفا ، والمكلّف لا يجوز أن يعلم أنّ الله تعالى أخّر أجله إلى الوقت الفلانيّ ، لأنّ ذلك المكلّف يعلم أنّه متى تاب قبلت توبته ، وإذا علم أنّ وقت موته هو الوقت الفلانيّ أقدم على المعصية بقلب فارغ ، فإذا قرب وقت أجله ؛ تاب عن تلك المعاصي ، فثبت أن تعريف وقت الموت بعينه يجري

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

٣٦

مجرى الإغراء بالقبيح ، وذلك غير جائز على الله تعالى (١).

وأجاب الأوّلون بأنّ تعريف الله ـ تعالى ـ كونه من المنظرين إلى يوم القيامة لا يقتضي إغراء ؛ لأنّه تعالى كان يعلم أنّه يموت على أقبح أنواع الكفر والفسق ، سواء علم وقت موته ، أو لم يعلمه ، فلم يكن ذلك الإعلام موجبا إغراءه بالقبيح ، ومثاله أنّه تعالى عرّف أنبياءه أنّهم يموتون على الطّهارة والعصمة ، ولم يكن ذلك موجبا إغراءهم بالقبيح ؛ لأجل أنه تعالى علم منهم أنّه سواء عرّفهم تلك الحالة ، أم لم يعرّفهم تلك الحالة ، فإنّهم يموتون على الطّهارة والعصمة ، فلمّا كان حالهم لا يتفاوت بسبب هذا التّعريف ، فلا جرم لم يكن ذلك التعريف إغراء بالقبيح فكذلك ههنا(٢).

قوله : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) في هذه «الباء» وجهان :

أحدهما : أنّها قسميّة وهو الظّاهر أي : بقدرتك عليّ ، ونفاذ سلطانك فيّ لأقعدنّ لهم على الطّريق المستقيم الذي يسلكونه إلى الجنّة بأن أزيّن لهم الباطل ، وما يكسبهم المآثم. ويدلّ على أنها باء القسم قوله تعالى في سورة «ص» : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ) [الآية : ٨٢].

والثاني : أنّها سببيّة ، وبه بدأ الزّمخشريّ (٣) قال : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) فبسبب إغوائك إيّاي ؛ لأقعدن لهم ، ثم قال : «والمعنى فبسبب وقوعي في الغيّ لأجتهدنّ في إغوائهم حتّى يفسدوا بسببي كما فسدت بسببهم».

فإن قلت : بم تعلّقت «الباء» ؛ فإنّ تعلقها ب «لأقعدنّ» يصدّ عنه لام القسم لا تقول : والله بزيد لأمرنّ؟

قلت : تعلّقت بفعل القسم المحذوف تقديره : فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدنّ [أي] : فبسبب إغوائك أقسم. ويجوز أن تكون «الباء» للقسم أي : فأقسم بإغوائك لأقعدنّ.

قال شهاب الدّين (٤) : وهذان الوجهان سبقه إليهما أبو بكر بن الأنباريّ ، وذكر عبارة قريبة من هذه العبارة.

وقال أبو حيان (٥) : «وما ذكره من أنّ اللّام تصدّ عن تعلّق الباء ب «لأقعدنّ» ليس حكما مجتمعا عليه ، بل في ذلك خلاف».

قال شهاب الدّين (٦) : أما الخلاف فنعم ، لكنّه خلاف ضعيف لا يعتد به أبو القاسم ، والشّيخ نفسه قد قال عند قوله تعالى : (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) [الأعراف : ١٨] في قراءة من كسر اللّام في «لمن» : إنّ ذلك لا يجيزه الجمهور ، وسيأتي مبينّا إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٣١.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٣١.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٩١.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٤١

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٧٥

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٤١.

٣٧

و «ما» تحتمل ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنّها مصدريّة أي : فبإغوائك إيّاي.

والثاني : أنّها استفهاميّة يعني أنّه استفهم عن السّبب الذي أغواه به فقال : فبأيّ شيء من الأشياء أغويتني؟ ثم استأنف جملة أقسم فيها بقوله : «لأقعدنّ» وهذا ضعيف عند بعضهم ، أو ضرورة عند آخرين من حيث إنّ «ما» الاستفهاميّة إذا جرّت حذفت ألفها ، ولا تثبت إلّا في شذوذ كقولهم : عمّا تسأل؟ أو ضرورة كقوله : [الوافر]

٢٤١٢ ـ على ما قام يشتمني لئيم

كخنزير تمرّغ في رماد (١)

والثالث : أنّها شرطية ، وهو قول ابن الأنباريّ ، ونصّه قال ـ رحمه‌الله ـ : ويجوز أن يكون «ما» بتأويل الشّرط ، و «الباء» من صلة الإغواء ، والفاء المضمرة جواب الشّرط ، والتقدير : فبأي شيء أغويتني فلأقعدن لهم صراطك ؛ فتضمر الفاء [في] جواب الشّرط كما تضمرها في قولك : «إلى ما أومأت أنّي قابله ، وبما أمرت أني سامع مطيع». وهذا الذي قاله ضعيف جدّا ، فإنّه على تقدير صحّة معناه يمتنع من حيث الصناعة ، فإن فاء الجزاء لا تحذف إلّا في ضرورة الشّعر كقوله : [البسيط]

٢٤١٣ ـ من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشّرّ بالشّرّ عند الله مثلان (٢)

أي : فالله. وكان المبرد لا يجوّز ذلك ضرورة أيضا ، وينشد البيت المذكور : [البسيط]

٢٤١٤ ـ من يفعل الخير فالرّحمن يشكره

 .......... (٣)

فعلى قول (٤) أبي بكر يكون قوله : «لأقعدنّ» جواب قسم محذوف ، وذلك القسم المقدّر ، وجوابه جواب الشّرط ، فيقدّر دخول الفاء على نفس جملة القسم مع جوابها تقديره : فبما أغويتني فو الله لأقعدنّ. هذا يتمم مذهبه.

والإغواء (٥) إيقاع الغيّ في القلب أي : بما أوقعت في قلبي من الغيّ والعناد والاستكبار وقد تقدّم في البقرة.

قوله : «صراطك» في نصبه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه منصوب على إسقاط الخافض.

قال الزّجّاج (٦) : ولا اختلاف بين النّحويين أنّ «على» محذوفة كقولك : «ضرب زيد الظّهر والبطن ، أي : على الظّهر والبطن». إلا أن هذا الذي قاله الزّجّاج ـ وإن كان ظاهره

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) في أ : رأي.

(٥) ينظر : القرطبي ٧ / ١١٣ ، والفخر الرازي ١٤ / ٣١.

(٦) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٢ / ٣٥٨.

٣٨

الإجماع ـ ضعيف من حيث إنّ حرف الجرّ لا يطّرد حذفه ، بل هو مخصوص بالضّرورة أو الشّذوذ (١) ؛ كقوله : [الوافر]

٢٤١٥ ـ تمرّون الدّيار فلم تعوجوا

 .......... (٢)

[وقوله] : [الطويل]

٢٤١٦ ـ ..........

لو لا الأسى لقضاني (٣)

[وقوله] : [الطويل]

٢٤١٧ ـ فبتّ كأنّ العائدات فرشنني

 .......... (٤)

والثاني : أنّه منصوب على الظّرف ، والتّقدير : لأقعدنّ لهم في صراطك.

وهذا أيضا ضعيف ؛ لأنّ «صراطك» ظرف مكان مختصّ ، والظّرف المكانيّ المختصّ ، لا يصل إليه الفعل بنفسه ، بل ب «في» تقول : صلّيت في المسجد ، ونمت في السّوق. ولا تقول : صليت المسجد إلا فيما استثني في كتب النحو ، وإن ورد غير ذلك ، كان شاذّا ؛ كقولهم «رجع أدراجه» و «ذهبت» مع «الشّام» خاصّة أو ضرورة ؛ كقوله : [الطويل]

٢٤١٨ ـ جزى الله بالخيرات ما فعلا بكم

رفيقين قالا خيمتي أمّ معبد (٥)

أي : قالا في خيمتي ، وجعلوا نظير الآية في نصب المكان المختصّ قول الآخر : [الكامل]

٢٤١٩ ـ لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه

فيه كما عسل الطّريق الثّعلب (٦)

وهذا البيت أنشده النّحاة على أنّه ضرورة ، وقد شذّ ابن الطّراوة عن مذهب النّحاة فجعل «الصّراط» و «الطّريق» في هذين الموضعين مكانين مبهمين. وهذا قول مردود ؛ لأن المختصّ من الأمكنة ما له أقطار تحويه ، وحدود تحصره ، والصّراط والطّريق من هذا القبيل.

الثالث : أنّه منصوب على المفعول به ؛ لأن الفعل قبله ـ وإن كان قاصرا ـ فقد ضمّن معنى فعل متعدّ. والتقدير : لألزمن صراطك المستقيم بقعودي عليه.

فصل في معنى إغواء إبليس

قول إبليس (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) يدلّ على أنّه أضاف إغواءه إلى الله ـ تعالى ـ ، وقوله في

__________________

(١) في أ : شذور.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

(٥) تقدم

(٦) البيت لساعدة بن جؤية. ينظر : ديوان الهذليين ١ / ٩٠١ ، الكتاب ١ / ١٦ ، الخصائص ٣ / ٣١٩ ، أمالي ابن الشجري ١ / ٤٢ ، الهمع ١ / ٢٠٠ ، الدرر ١ / ١٦٩ ، الدر المصون ٣ / ٢٤٢.

٣٩

آية أخرى : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٢] يدلّ على أنّه أضاف إغواء العباد إلى نفسه ، فالأول دلّ على مذهب أهل الجبر ، والثّاني يدلّ على مذهب [أهل](١) القدر ، وهذا يدلّ على أنه كان متحيرا في هذه المسألة. وقد يقال : إنّه كان معتقدا بأن الإغواء لا يحصل إلّا بالمغوي فجعل نفسه مغويا لغيره من الغاوين ثمّ زعم أنّ المغوي له هو الله ـ تعالى ـ قطعا للتّسلسل.

واختلفوا في تفسير هذه الكلمة ، فقال أهل السّنّة : الإغواء إيقاع الغيّ في القلب ، والغيّ هو الاعتقاد الباطل ، وذلك يدلّ على أنّه كان يعتقد أنّ الحقّ والباطل إنّما يقع في القلب من الله.

وأمّا المعتزلة فلهم ههنا مقامات (٢).

أحدها : أن يفسّروا الغيّ بما ذكرناه ، ويعتذروا عنه بوجوه.

منها : أن قالوا : هذا قول إبليس ، فهب (٣) أنّ إبليس اعتقد أنّ خالق الغيّ ، والجهل ، والكفر هو الله ، إلّا أنّ قول إبليس ليس بحجّة.

ومنها قالوا : إنّه تعالى لمّا أمره بالسّجود لآدم ؛ فعند ذلك ظهر غيه وكفره ، فجاز أن يضيف ذلك إلى الله ـ تعالى ـ لهذا المعنى ، وقد يقول القائل : لا تحملني على ضربك أي : لا تفعل ما أضربك عنده.

ومنها : أن قوله (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) أي : لعنتني ، والمعنى أنّك لمّا لعنتني بسبب آدم ؛ فأنا لأجل هذه العداوة ؛ ألقي الوساوس في قلوبهم.

المقام الثاني (٤) : أن يفسّروا الإغواء بالهلاك ، ومنه قوله تعالى : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم : ٥٩] أي : هلاكا وويلا ، ومنه أيضا قولهم : غوى الفصيل يغوي غوى ؛ إذا أكثر من اللّبن حتى يفسد جوفه ويشارف الهلاك والعطب. وفسّروا قوله تعالى : (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) [هود : ٣٤] إن كان الله يريد أن يهلككم بعنادكم للحق. فهذا جميع الوجوه المذكورة(٥).

قال ابن الخطيب (٦) : ونحن لا نبالغ في بيان أنّ المراد من الإغواء في هذه الآية الإضلال ؛ لأن حاصله يرجع إلى قول إبليس ، وإنّه ليس بحجة إلّا أنّا نقيم البرهان اليقينيّ على أنّ المغوي لإبليس هو الله ـ تعالى ـ وذلك ؛ لأنّ الغاوي لا بدّ له من مغو ، والمغوي له إمّا أن يكون نفسه ، أو مخلوقا آخر ، أو الله ـ تعالى ـ والأوّل باطل ؛ لأن

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٣١.

(٣) في أ : فثبت.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٣٢.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٣٢.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٣٢.

٤٠