اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

قوله : «أرني» مفعوله الثّاني محذوف ، تقديره : أرني نفسك ، أو ذاتك المقدّسة ، وإنّما حذفه مبالغة في الأدب ، حيث لم يواجهه بالتّصريح بالمفعول ، وأصل «أرني» «أراني» فنقلت حركة الهمزة ، وقد تقدّم تحريره.

فصل

فإن قيل : النّظر إمّا أن يكون عبارة عن الرّؤية ، أو عن مقدّمتها ، وهي تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التماسا لرؤيته ، وعلى التّقدير الأول : يكون المعنى : أرني حتّى أراك ، وهذا فاسد ، وعلى التقدير الثاني : يكون المعنى : أرني حتى أقلّب الحدقة إلى جانبك وهذا فاسد لوجهين : أحدهما : أنّه يقتضي إثبات الجهة. والثاني : أنّ تقليب الحدقة إلى جهة المرئي مقدمة للرؤية ؛ فجعله كالنّتيجة عن الرّؤية وذلك فاسد.

فالجواب : أن معنى أرني : اجعلني متمكنا من رؤيتك حتّى أنظر إليك وأراك.

فإن قيل : كيف سأل الرّؤية وقد علم أنّه لا يرى؟

قال الحسن : هاج به الشّوق ؛ فسأل الرؤية.

وقيل : سأل الرّؤية ظنّا منه أنّه يجوز أن يرى في الدّنيا.

قوله : «لن تراني» قد تقدّم أنّ «لن» لا يلزم من نفيها التّأبيد ، وإن كان بعضهم فهم ذلك ، حتى إنّ ابن عطيّة قال «فلو بقينا على هذا النّفي المجرّد لتضمن أنّ موسى لا يراه أبدا ، ولا في الآخرة لكن ورد من جهة أخرى في الحديث المتواتر أنّ أهل الجنّة يرونه».

قال شهاب الدّين (١) : «وعلى تقدير أنّ «لن» ليست مقتضية للتّأبيد ، فكلام ابن عطيّة وغيره ممّن يقول : إنّ نفي المستقبل بعدها يعمّ جميع الأزمنة المستقبلة ـ صحيح ، لكن لمدرك آخر ، وهو أنّ الفعل نكرة ، والنكرة في سياق النّفي تعمّ ، وللبحث فيه مجال».

والدليل على أنّ «لن» لا تقتضي التّأبيد قوله تعالى : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) [البقرة : ٩٥] أخبر عن اليهود ، ثم أخبر عنهم أنهم يتمنون الموت في الآخرة يقولون : (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) [الزخرف : ٧٧] (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) [الحاقة : ٢٧].

فإن قيل : كيف قال : «لن تراني» ولم يقل : لن تنظر إليّ ، حتّى يطابق قوله أنظر إليك؟ فالجواب أنّ النّظر لمّا كان مقدمة للرّؤية كان المقصود هو الرّؤية لا النّظر الذي لا رؤية معه.

والاستدراك في قوله : (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) واضح ، فإن قلت : كيف اتصل الاستدراك في قوله : (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) فالجواب : المقصود منه تعظيم أمر الرّؤية ، وأنّ أحدا لا يقوى على رؤية الله تعالى إلّا إذا قواه الله بمعونته وتأييده ؛ ألا ترى أنّه لما

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٣٨.

٣٠١

ظهر أثر التّجلي والرّؤية للجبل اندكّ ؛ فدل ذلك على تعظيم أمر الرّؤية.

فصل

وقال الزمخشريّ (١) : فإن قلت : كيف اتّصل الاستدراك في قوله : ولكن انظر.

قلت : اتّصل به على معنى أنّ النّظر إليّ محال فلا تطلبه ، ولكن اطلب نظرا آخر ، وهو أن تنظر إلى الجبل. وهذا على رأيه من أنّ الرّؤية محال مطلقا في الدّنيا ، والآخرة.

قوله : «فإن استقرّ مكانه فسوف تراني» : علّق الرّؤية على استقرار الجبل ، واستقرار الجبل على التّجلي غير مستحيل إذا جعل الله له تلك القوة ، والمعلق بما لا يستحيل لا يكون محالا.

قوله : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) : قال الزّجّاج : «تجلّى» أي : «ظهر وبان».

ومنه يقال : جلوت العروس إذا أبرزتها ، وجلوت السّيف والمرآة : إذا أزلت ما عليهما من الصّدأ. وهذا الجبل أعظم جبل بمدين يقال له : زبير.

قال ابن عباس : ظهر نور ربّه للجبل.

قوله : (جَعَلَهُ دَكًّا) قرأ الأخوان (٢) «دكّاء» بالمدّ ، غير منوّن ، على وزن «حمراء» والباقون بالقصر والتّنوين ، فقراءة الأخوين تحتمل وجهين :

أحدهما : أنّها مأخوذة من قولهم : «ناقة دكّاء» أي : منبسطة السّنام ، غير مرتفعة ، والمعنى جعله مستويا. وإما من قولهم : أرض دكاء للناشزة روي أنّه لم يذهب كله ، بل ذهب أعلاه.

وأمّا قراءة الجماعة ف «الدّكّ» مصدر واقع موقع المفعول به بمعنى المدكوك ، أي : مدكوكا ، أو من دكّ ، أو على حذف مضاف أي ذا دكّ ، والمعنى : جلعه مدقوقا والدّك والدّقّ واحد ، وهو تفتيت الشيء وسحقه.

وقيل : تسويته بالأرض.

في انتصابه على القراءتين وجهان ، أشهرهما : أنّه مفعول ثان ل «جعل» بمعنى : صيّر.

والثاني ـ وهو رأي الأخفش ـ : أنّه مصدر على المعنى ، إذ التقدير : دكّه دكّا ، وأما على القراءة الأولى فهو مفعول فقط أي صيره مثل ناقة دكاء أو الأرض دكا.

وقرأ ابن وثّاب (٣) دكّا بضم الدّال والقصر ، وهو جمع دكّاء بالمد ، ك : حمر في حمراء ، وغرّ في غرّاء أي : جعله قطعا.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ١٥٤.

(٢) ينظر : السبعة ٢٩٣ ، والحجة ٤ / ٧٥ ، وإعراب القراءات ١ / ٢٠٥ ، وحجة القراءات ٢٩٥ ، وإتحاف فضلاء البشر ٢ / ٦٢.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ١٥٥ ، والبحر المحيط ٤ / ١٨٤ ، والدر المصون ٣ / ٣٣٩.

٣٠٢

قال الكلبي : كسرا جبالا صغارا. ووقع في بعض التّفاسير أنّه تكسر ستّة أجبل ، ووقعت ثلاثة بالمدينة : أحد ، وودقان ، ورضوى ، ووقعت ثلاثة بمكة : ثور ، وثبير ، وحراء (١).

قوله : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً). الخرور : السّقوط كذا أطلقه أبو حيّان وقيّده الرّاغب بسقوط يسمع له خرير ، والخرير يقال لصوت الماء والريح.

ويقال كذلك لما يسقط من علوّ وصعقا حال مقارنة.

قال اللّيث : الصّعق مثل الغشي يأخذ الإنسان والصّعقة الغشي.

يقال : صعق الرّجل يصعق ، فهو مصعوق.

قال ابن عبّاس : مغشيا عليه (٢).

وقال قتادة : ميتا (٣).

يقال : صعق إذا مات.

قال تعالى : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الزمر : ٦٨] فسّروه بالموت.

وقال : (يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) [الطور : ٤٥] أي : يموتون.

قال الزمخشريّ : «صعق أصله من الصّاعقة».

والقول الأوّل أولى ؛ لقوله تعالى (فَلَمَّا أَفاقَ).

قال الزّجّاج : «ولا يقال للميت : قد أفاق من موته ، وقال تعالى في الذين ماتوا ثم أحيوا : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) [البقرة : ٥٦].

قوله : (فَلَمَّا أَفاقَ) الإفاقة : رجوع الفهم والعقل إلى الإنسان بعد جنون أو سكر ومنه إفاقة المريض ، وهي رجوع قوته ، وإفاقة الحلب ، وهي رجوع الدّرّ إلى الضّرع.

يقال : استفق ناقتك أي : اتركها حتّى يعود لبنها ، والفواق : ما بين حلبتي الحالب.

وسيأتي بيانه [ص ١٥] إن شاء الله تعالى.

قوله سبحانك أي : تنزيها لك من أن أسألك شيئا بغير إذنك تبت إليك من سؤال الرّؤية في الدّنيا ، أو من سؤال الرّؤية بغير إذنك. (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) بأنّك لا ترى في الدنيا ، أو بأنّه لا يجوز السّؤال منك إلّا بإذنك.

وقيل : أوّل المؤمنين من قومي.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٢٢) عن أنس بن مالك مرفوعا وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي الشيخ.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٢٢) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في الرؤية.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٣) عن قتادة.

٣٠٣

وقيل : من بني إسرائيل في هذا العصر.

قوله تعالى : (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ)(١٤٥)

قوله : (يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ). الاصطفاء : استخلاص الصّفوة أي : اخترتك واتّخذتك صفوة على النّاس.

قال ابن عبّاس : «فضّلتك على النّاس» (١). قرأ (٢) ابن كثير ، وأبو عمرو إنّي بفتح الياء ، وكذلك (أَخِي اشْدُدْ) [طه : ٣٠ ، ٣١].

قوله برسالاتي أي : بسبب.

وقرأ الحرميّان (٣) : برسالتي بالإفراد ، والمراد به المصدر ، أي : بإرسالي إيّاك ، ويجوز أن يكون على حذف مضاف ، أي : بتبليغ رسالتي. والرّسالة : نفس الشّيء المرسل به إلى الغير.

وقرأ الباقون بالجمع اعتبارا بالأنواع ، وقد تقدّم ذلك في المائدة والأنعام.

قال القرطبيّ (٤) : ومن جمع على أنه أرسل بضروب من الرسالة فاختلف أنواعها ، فجمع المصدر لاختلاف أنواعه ؛ كقوله : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان : ١٩] واختلاف المصوتين ، ووحّد في قوله : لصوت لما أراد به جنسا واحدا من الأصوات.

قوله : «وبكلامي» هي قراءة العامّة ، فيحتمل أن يراد به المصدر ، أي : بتكليمي إيّاك ، كقوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] وقوله : [الطويل]

٢٥٦٩ ـ ..........

تكلّمني فيها شفاء لما بيا (٥)

أي : بتكليمي إيّاها ، ويحتمل أن يراد به التّوراة ، وما أوحاه إليه من قولهم للقرآن «كلام الله» تسمية للشيء بالمصدر. وقدّم الرّسالة على الكلام ؛ لأنّها أسبق ، أو ليترقّى إلى الأشرف ، وكرّر حرف الجرّ ، تنبيها على مغايرة الاصطفاء.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٤ / ١٩٠) عن ابن عباس.

(٢) ينظر : إتحاف ٢ / ٦٢.

(٣) ينظر : السبعة ٢٩٣ ، والحجة ٤ / ٧٧ ، وإعراب القراءات ١ / ٢٠٧ ، وحجة القراءات ٢٩٥ ، وإتحاف ٢ / ٦٢.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١٨٧.

(٥) عجز بيت لذي الرمة وصدره :

ألا هل إلى ميّ سبيل وساعة

ينظر ملحقات ديوانه (٦٧٠) ، الهمع ٢ / ٩٥ ، الدرر ٥ / ٢٦٣ شرح المفصل ١ / ٢١ ، الدر المصون ٣ / ٣٣٩.

٣٠٤

وقرأ الأعمش (١) : «برسالاتي وبكلمي» جمع «كلمة» وروى عنه المهدويّ (٢) أيضا «وتكليمي» على وزن التّفعيل ، وهي تؤيّد أنّ الكلام مصدر.

وقرأ أبو رجاء (٣) «برسالتي» بالإفراد و «بكلمي» بالجمع ، أي : وبسماع كلمي.

فصل

لما طلب موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ الرؤية ومنعه الله تعالى ، عدد عليه وجوه نعمه العظيمة ، وأمره بشكرها.

كأنّه قال له : إن كنت قد منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النّعم العظيمة كذا وكذا ، فلا يضيق صدرك بسبب منع الرّؤية ، وانظر إلى أنواع النّعم التي خصصتك بها واشتغل بشكرها ، والمراد : تسلية موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن منع الرؤية.

فإن قيل : كيف اصطفاه على النّاس برسالاته مع أنّ كثيرا من النّاس قد ساواه في الرسالة؟ فالجواب : أنّه تعالى بيّن أنّه خصّه من دون النّاس بمجموع الأمرين : وهو الرسالة مع الكلام بغير واسطة ، وهذا المجموع لم يحصل لغيره ، وإنّما قال : «على النّاس» ولم يقل : على الخلق ؛ لأنّ الملائكة تسمع كلام الله من غير واسطة كما سمعه موسى.

قال القرطبيّ : «ودلّ هذا على أنّ قومه لم يشاركه أحد منهم في التّكليم ولا أحد من السّبعين».

قوله : (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) أي : اقنع بما أعطيتك. (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) ، أي : المظهرين لإحساني إليك ، وفضلي عليك.

يقال : دابّة شكور ، إذا ظهر عليها من السّمن فوق ما تعطى من العلف ، والشّاكر متعرض للمزيد ؛ كما قال تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم : ٧].

قوله تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً). قوله : في الألواح يجوز أن تكون لتعريف الماهيّة ، وأن تكون للعهد ؛ لأنّه يروى في القصّة أنّه هو الذي قطّعها وشقّقها.

وقال ابن عطيّة (٤) أل عوض من الضمير ، تقديره : في ألواحه ، وهذا كقوله : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٤١] أي : مأواه. أمّا كون أل عوضا من الضّمير فلا يعرفه البصريون. وأمّا قوله : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) فإنّا نحتاج فيه إلى رابط يربط بين الاسم والخبر ، والكوفيون : يجعلون أل عوضا من الضمير. والبصريون : يقدّرونه ، أي : هي المأوى له ، وأما في هذه الآية فلا ضرورة تدعو إلى ذلك.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٨٥ ، والدر المصون ٣ / ٣٤٠.

(٢) ينظر : السابق.

(٣) السابق.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٥٢.

٣٠٥

وفي مفعول «كتبنا» ثلاثة أوجه ، أحدها : أنّه «موعظة» ، أي : كتبنا له موعظة وتفصيلا. و «من كلّ شيء» على هذا فيه وجهان ، أحدهما : متعلّق ب «كتبنا» والثاني : أنّه متعلّق بمحذوف ؛ لأنّه في الأصل صفة ل «موعظة» فلمّا قدّم عليها نصب حالا ، و (لِكُلِّ شَيْءٍ) صفة ل «تفصيلا».

والثاني : أنّه (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ).

قال الزمخشريّ (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) في محل نصب مفعول «كتبنا» ، و «موعظة وتفصيلا» بدل منه ، والمعنى : كتبنا له كلّ شيء كان بنو إسرائيل يحتاجون إليه في دينهم من المواعظ ، وتفصيل الأحكام وتفصيل الحلال والحرام.

الثالث : أنّ المفعول محل المجرور.

وقال أبو حيّان (١) ـ بعد ما حكى الوجه الأول عن الحوفي والثّاني عن الزمخشري ـ : ويحتمل عندي وجه ثالث ، وهو أن يكون مفعول «كتبنا» موضع المجرور ، كما تقول : «أكلت من الرغيف» و «من» للتبعيض ، أي : كتبنا له أشياء من كلّ شيء ، وانتصب «موعظة وتفصيلا» على المفعول من أجله ، أي : كتبنا له تلك الأشياء للاتّعاظ وللتفصيل.

قال شهاب الدّين (٢) : «والظّاهر أنّ هذا الوجه هو الذي أراده الزّمخشري ، فليس وجها ثالثا».

قوله : «بقوّة» حال : إمّا من الفاعل ، أي : ملتبسا بقوة ، وإمّا من المفعول ، أي : ملتبسه بقوة ، أي : بقوّة دلائلها وبراهينها ، والأول أوضح. والجملة من قوله : «فخذها» يحتمل أن تكون بدلا من قوله (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) وعاد الضّمير على معنى «ما» لا على لفظها. ويحتمل أن تكون منصوبة بقول مضمر ، ذلك القول منسوق على جملة «كتبنا» والتقدير : وكتبنا فقلنا : خذها ، والضّمير على هذا عائد على الألواح أو على التّوراة ، أو على الرّسالات ، أو على كلّ شيء ؛ لأنّه في معنى الأشياء.

قال القرطبيّ : «فكأنّ اللّوح تلوح فيه المعاني. ويقال : رجل عظيم الألواح إذا كان كبير عظم اليدين ، والرّجلين».

فصل

قال الكلبيّ : خرّ موسى صعقا يوم الخميس يوم عرفة ، وأعطي التّوراة يوم الجمعة يوم النّحر(٣) ، واختلفوا في عدد الألواح وجوهرها فقيل : كانت عشرة ، وقيل سبعة.

وقيل : إنّها لوحان.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٨٦.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٤٠.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٤ / ١٩٢).

٣٠٦

وقال الواحديّ : كانت من زمردة.

وقيل : من زبرجدة خضراء ، وقيل : ياقوتة ، وقيل : من خشب سور الجنّة طول كل لوح اثني عشر ذراعا.

وقال وهب : من صخرة صمّاء ليّنها الله لموسى.

قيل : رفع سبعها وبقيت ستة أسباعها ، وكان في الذي رفع تفصيل كلّ شيء وفي الذي بقي الهدى والرحمة ، وليس في الآية ما يدلّ على شيء من ذلك ، ولا على كيفية الكتابة فإن ثبت في ذلك شيء بدليل منفصل قويّ وجب القول به ، وإلّا وجب السّكوت عنه. وأمّا قوله من كلّ شيء فليس على العموم ، بل المراد من كلّ شيء يحتاج موسى وقومه إليه في دينهم.

وقوله : (مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) فهو كالبيان للجملة التي قدمها بقوله : «من كلّ شيء» ثم قال : «فخذها بقوّة» أي : بعزيمة قوية ونيّة صادقة.

قوله : (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها). الظّاهر أنّ يأخذوا مجزوم جوابا للأمر في قوله وأمر ولا بدّ من تأويله ، لأنّه لا يلزم من أمره إيّاهم بذلك أن يأخذوا ، بدليل عصيان بعضهم له في ذلك ، فإنّ شرط ذلك انحلال الجملتين إلى شرط وجزاء.

وقيل : الجزم على إضمار اللّام تقديره : ليأخذوا ؛ كقوله : [الوافر]

٢٥٧٠ ـ محمّد تفد نفسك كلّ نفس

إذا ما خفت من أمر تبالا (١)

وهو مذهب الكسائي.

وابن مالك يرى جوازه إذا كان في جواب «قل» ، وهنا لم يذكر «قل» ، ولكن ذكر شيء بمعناه ؛ لأنّ معنى «وأمر» و «قل» واحد.

قوله : «بأحسنها» يجوز أن يكون حالا كما تقدّم في : «بقوّة» ، وعلى هذا فمفعول «يأخذوا» محذوف تقديره : يأخذوا أنفسهم ، ويجوز أن تكون الباء زائدة ، وأحسنها مفعول به ، والتقدير : يأخذوا أحسنها كقوله : [البسيط].

٢٥٧١ ـ ..........

سود المحاجر لا يقرأن بالسّور (٢)

وقد تقدّم تحقيقه في قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ٩٥].

__________________

(١) البيت لأبي طالب في شرح شذور الذهب ص ٢٧٥ وله أو للأعشى في خزانة الأدب ٩ / ١١ ، وللأعشى أو لحسان أو لمجهول في الدرر ٥ / ٦١ ، / أسرار العربية ، ص ٣١٩ ، ٣٢١ ، الإنصاف ٢ / ٥٣٠ ، الجنى الداني ص ١١٣ ، رصف المباني ص ٢٥٦ ، صناعة الإعراب ١ / ٣٩١ ، شرح الأشموني ٣ / ٥٧٥ ، شواهد المغني ١ / ٥٩٧ ، شرح المفصل ٧ / ٣٥ ، ٦٠ ، ٦٢ ، ٩ / ٢٤ ، الكتاب ٣ / ٨ ، اللامات ص ٩٦ ، مغني اللبيب ١ / ٢٢٤ ، المقاصد النحوية ٤ / ٤١٨ ، المقتضب ٢ / ١٣٢ ، المقرب ١ / ٢٧٢ همع الهوامع ٢ / ٥٥.

(٢) تقدم.

٣٠٧

و «أحسن» يجوز أن تكون للتّفضيل على بابها ، وأن لا تكون بل بمعنى «حسنة».

كقول الفرزدق : [الكامل]

٢٥٧٢ ـ إنّ الذي سمك السّماء بنى لنا

بيتا دعائمة أعزّ وأطول (١)

أي : عزيزة طويلة.

فإن قيل : إنّه تعالى لمّا تعهد بكلّ ما في التّوراة ، وجب أن يكون الكلّ حسنا.

وقوله : (يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) يقتضي أن يكون فيه ما ليس بأحسن ، وأنّه لا يجوز لهم الأخذ به وهو متناقض.

وأجابوا بوجوه : منها : أنّ تلك التّكاليف منها ما هو حسن ، ومنها ما هو أحسن كالقصاص والعفو ، والانتصار ، والصبر ، أي : فمرهم أن يأخذوا بالأفضل فإنّه أكثر ثوابا ، لقوله (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الزمر : ٥٥] وقوله : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [الزمر : ١٨].

قالوا : فيحمل الأخذ بالأحسن على النّدب.

ومنها : قال قطرب :

(يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) أي : بحسنها ، وكلها حسن ؛ كقوله تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت : ٤٥] وأنشد بيت الفرزدق المتقدم. ومنها : أن الحسن يدخل تحته الواجب ، والمندوب ، والمباح وأحسن هذه الثلاثة : الواجب ، والمندوب.

قوله : (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) جوّزوا في الرّؤية هنا أن تكون بصريّة ، وهو الظّاهر فتتعدّى لاثنين ، أحدهما : ضمير المخاطبين ، والثاني : دار.

والثاني : أنّها قلبية ، وهو منقول عن ابن زيد وغيره ، والمعنى : سأعلمكم سير الأولين وما حلّ بهم من النّكال. وقيل : (دارَ الْفاسِقِينَ) ما دار إليه أمرهم ، وذلك لا يعلم إلا بالإخبار والإعلام.

قال ابن عطيّة (٢) ـ معترضا على هذا الوجه ـ : ولو كان من رؤية القلب ، لتعدّى بالهمزة إلى ثلاثة مفاعيل.

ولو قال قائل : المفعول الثالث يتضمنه المعنى ، فهو مقدّر أي : مذمومة أو خربة أو مسعّرة ـ على قول من قال : إنّها جهنم ـ قيل له : لا يجوز حذف هذا المفعول ، ولا الاقتصار دونه ، لأنّها داخلة على الابتداء والخبر ، ولو جوّز لكان على قبح في اللّسان ، لا يليق بكتاب الله تعالى.

__________________

(١) ينظر ديوانه ٢ / ١٥٥ ، العمدة ١ / ٢٥٢ ، الصاحبي (٥٣٤) ، ابن يعيش ٦ / ٩٧ ، معاهد التنصيص ١ / ١٠٣ ، مجاز القرآن ٢ / ١٢١ ، العيني ٤ / ٤٢ ، الدر المصون ٣ / ٣٤١.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٥٣.

٣٠٨

قال أبو حيان (١) : «وحذف المفعول الثّالث في باب «أعلم» لدلالة المعنى عليه جائز ، فيجوز في جواب : هل أعلمت زيدا عمرا منطلقا؟ أعلمت زيدا عمرا ، وتحذف «منطلقا» لدلالة الكلام السّابق عليه».

فصل

قال شهاب الدّين (٢) : هذا مسلّم ، لكن أين الدّليل عليه في الكلام ، كما في المثال الذي أبرزه الشّيخ؟

ثم قال : «وأمّا تعليله بأنّها داخلة على الخبر لا يدلّ على المنع ، لأنّ خبر المبتدأ يجوز حذفه اختصارا ، والثاني ، والثّالث في باب «أعلم» يجوز حذف كلّ منهما اختصارا».

قال شهاب الدّين : «حذف الاختصار لدليل ، ولا دليل هنا».

ثم قال : «وفي قوله لأنّها ـ أي : «سأريكم» ـ داخلة على المبتدأ ، والخبر تجوّز» ويعني أنّها قبل النّقل بالهمزة داخلة على المبتدأ والخبر. وقرأ الحسن (٣) : «سأوريكم» بواو خالصة بعد الهمزة وفيها تخريجان : أحدهما قاله الزمخشريّ ـ : «وهي لغة فاشية بالحجاز يقال : أورني كذا وأوريته ، فوجهه أن يكون من أوريت الزّند ، فإن المعنى : بيّنه لي وأنره لأستبينه».

والثاني : ـ ذكره ابن جنيّ ـ وهو أنّه على الإشباع ، فيتولّد منها الواو ، قال «وناسب هذا كونه موضع تهديد ووعيد فاحتمل الإتيان بالواو».

قال شهاب الدّين : وهذا كقول الشاعر : [البسيط]

٢٥٧٣ ـ الله يعلم أنّا في تلفّتنا

يوم اللّقاء إلى أحبابنا صور

وأنّني حيثما يثني الهوى بصري

من حيثما سلكوا أدنو فأنظور (٤)

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٨٨.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٤١.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ١٥٨ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٠٨ ، والدر المصون ٣ / ٣٤١.

(٤) استشهد ابن هشام بالبيت الثاني في قوله : «أدنو فأنظور» على أن الواو واو الإشباع أشبعت ضمة الظاء فنشأت الواو (مغني اللبيب ٢ / ٣٦٨ رقم ٥٩٢ ، أسرار العربية للأنباري ٤٥٠ ، المفصل لابن يعيش ح ١٠ / ١٠٦).

واستشهد به من ذهب إلى أن حركة الإعراب على الباء في كلمة «أب» من الأسماء الستة أما الواو والألف والياء فنشأت عن إشباع حركات الإعراب مستدلا بقول الشاعر في البيت السابق : «فأنظور» فالواو ناتجة عن إشباع الضمة لأنه أراد «فأنظر» (الإنصاف ـ ١٥).

كما استشهد أبو حيان بقوله : «من حيث ما سلكوا» على أن «ما» زائدة ، وذهب الزجاج إلى أن «حيث» موصولة وليست مضافة ، فهي في هذا بمنزلة «الذي» توصل بالجملة فيكمل بها اسما ، ولا موضع لها للجمل في الأصل ، ولا يجوز على هذا أن يعمل عامل في صلة حيث ، كما لا يعمل في صلة الذي ـ

٣٠٩

لكن الإشباع بابه الضّرورة عند بعضهم. وقرأ ابن (١) عبّاس ، وقسامة بن زيد «سأورثكم» قال الزمخشريّ : وهي قراءة حسنة ، يصحّحها قوله تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ) [الأعراف : ١٣٧].

فصل

في قوله : (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) وجهان : الأول : أنّ المراد به التهديد والوعيد وعلى هذا ففيه وجهان :

أحدهما : قال ابن عباس (٢) والحسن ومجاهد : هي : جهنم وهي مصيرهم في الآخرة ، فاحذروا أن تكونوا منهم.

وثانيهما : قال قتادة وغيره : سأدخلكم الشّام ؛ فأريكم منازل القرون الماضية مثل الجبابرة ، والعمالقة ، ومنازل عاد وثمود الذين خالفوا أمر الله لتعتبروا بها (٣).

الوجه الثاني : المراد به الوعد والبشارة بأنّ الله تعالى سيوّرثهم أرض أعدائهم وديارهم وهي أرض مصر ، قاله عطية العوفيّ ؛ ويدلّ عليه قراءة قسامة.

وقال السّدّيّ : هي مصارع الكفار (٤).

قوله تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ)(١٤٦)

قوله : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ) الآية.

قال ابن عبّاس : يريد الّذين يتجبّرون على عبادي ، ويحاربون أوليائي حتّى لا يؤمنوا

__________________

ـ ومذهب البصريين أنه لا يجوز إضافتها للمفرد (ارتشاف الضرب لأبي حيان الأندلسي ٢ / ٢٦١).

ينظر : ديوانه ـ ٢٣٩ ، والخزانة ١ / ١٢١ الخصائص ١ / ٤٢ ، ٢ / ٣١٦ ، ٣ / ١٢٤ ، سر صناعة الإعراب ١ / ٢٩ ، المخصص ١٢ / ١٠٣ ، شروح سقط الزند ٢ / ٧٤٥ ، شرح شواهد المغني للسيوطي ٢٦٦ ، تاج العروس ٣ / ٣٤٣ ، ٥٧٥ ، والفرق بين الحروف الخمسة للسيد البطليوسي ٥٣١ ، شواهد السيرافي ٣ / ٢٧٥ ، الصاحبي ٥٠ ، حجة الفارسي ١ / ٥٩ ، المحتسب ١ / ٢٥٩ ، الأمالي الشجرية ١ / ٢٢١ الإنصاف ٢٣ ، ٢٤ ، المفصل لابن يعيش ١٠ / ١٠٦ ، المغني ٣٦٨ ، والهمع ١ / ١٥٦ ، ارتشاف الضرب ٢ / ٢٦١ ، أسرار العربية للأنباري ٤٥ ، المغني ح ٢ / ٣٦٨ رقم ٥٩٢ ، الدر المصون ٣ / ٣٤٢.

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٨٨ ، والدر المصون ٣ / ٣٤٢.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٩ ـ ٦٠) عن مجاهد والحسن وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٣٣) عن مجاهد وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

وذكره أيضا عن الحسن (٣ / ٢٣٣) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) ذكره الطبري في «تفسيره» (٦ / ٦٠) والرازي (١٤ / ١٩٤) عن الكلبي.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٧ / ١٧٩) عن قتادة.

٣١٠

سأصرفهم عن قبول آياتي والتّصديق بها (١) ، عوقبوا بحرمان الهداية لعنادهم الحقّ كقوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف : ٥]. واحتجّ أهل السّنّة بهذه الآية على أنّه تعالى قد يمنع الإيمان.

وقالت المعتزلة : لا يمكن حمل الآية على ذلك لوجوه :

الأوّل : قال الجبّائيّ : لا يجوز أن يكون المراد منه أنّه تعالى يصرفهم عن الإيمان ؛ لأن قوله: «سأصرف» يتناول المستقبل ، وقد بيّن تعالى أنّهم كفروا وكذّبوا من قبل هذا الصرف ، لأنّه وصفهم بكونهم : (يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) وبأنّهم : (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) فدلّت الآية على أنّ الكفر قد حصل لهم في الزّمان الماضي ؛ فدلّ على أن المراد من هذا الصرف ليس الكفر بالله.

الثاني : أن قوله «سأصرف عن آياتي» مذكور على وجه العقوبة على التّكبّر والكفر ، فلو كان المراد من هذا الصّرف هو كفرهم ، لكان معناه أنّه تعالى خلق فيهم الكفر عقوبة لهم على إقدامهم على الكفر ، والعقوبة على فعل الكفر بمثل ذلك الفعل المعاقب عليه لا يجوز ؛ فثبت أنّ المراد من هذا الصّرف ليس هو الكفر.

الثالث : أنّه تعالى لو صرفهم عن الإيمان وصدهم عنه ، فكيف يمكن أن يقول مع ذلك : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر : ٤٩] (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [الانشقاق : ٢٠] (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) [الإسراء : ٩٤] فثبت أنّ حمل الآية على هذا الوجه غير ممكن ؛ فوجب حملها على وجوه أخرى :

الأول : قال الكلبي وأبو مسلم الأصفهاني (٢) : إنّ هذا الكلام تمام لما وعد الله موسى به من إهلاك أعدائه ومعنى صرفهم : أهلكهم فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها ، ولا يمنع المؤمنين من الإيمان بها ، وهو تشبيه بقوله : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] فأراد تعالى أن يمنع أعداء موسى من إيذائه ومنعه من القيام بما يلزمه في تبليغ النبوة والرّسالة.

التّأويل الثّاني : قال الجبّائيّ : سأصرف المتكبرين عن نيل ما في آياتي من العزّة والكرامة المعدّين للأنبياء ، والمؤمنين. وإنّما صرفهم عن ذلك بواسطة إنزال الذل والإذلال بهم ، وذلك يجري مجرى العقوبة على كفرهم ، وتكبرهم على الله.

التّأويل الثالث : أنّ من الآيات ما لا يمكن الانتفاع بها إلّا بعد سبق الإيمان ، فإذا كفروا فقد صيّروا أنفسهم بحيث لا يمكنهم الانتفاع بتلك الآيات ، فحينئذ يصرفهم الله عنها.

التأويل الرابع : أنّ الله عزوجل إذا علم من حال بعضهم أنّه إذا شاهد تلك الآيات

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٢٠٠.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٥ / ٤.

٣١١

فإنّه لا يستدلّ بها بل يستخف بها ، ولا يقوم بحقّها ، فإذا علم الله ذلك منه ، صحّ أن يصرفه عنها.

التأويل الخامس : نقل عن الحسن أنّه قال : إنّ من الكفار من بالغ في كفره ، وانتهى إلى الحد الذي إذا وصل إليه مات قلبه ، فالمراد من قوله : «سأصرف عن آياتي» هؤلاء (١).

فصل

المراد من الصّرف المنع ، والمراد بالآيات : الآيات التسع الّتي أعطاها الله موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ والأكثرون على أنّ الآية عامّة. ومعنى «يتكبّرون» : أي : يرون أنّهم أفضل الخلق ، وأن لهم من الحقّ ما ليس لغيرهم ، وصفة التّكبر لا تكون إلا لله تعالى.

وقال بعضهم : التّكبر : إظهار كبر النّفس على غيرها ، والتّكبر صفة ذمّ في جميع العباد وصفة مدح في حقّ الله تعالى ؛ لأنّه يستحقّ إظهار الكبر على ما سواه ؛ لأنّ ذلك في حقه حقّ ، وفي حق غيره باطل.

قال عليه الصّلاة والسّلام يقول الله تعالى : «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ، فمن نازعني فيهما حرّمت عليه الجنّة» (٢).

قوله : «بغير الحقّ» فيه وجهان :

أحدهما : أنّه متعلّق بمحذوف على أنّه حال ، أي : يتكبّرون ملتبسين بغير الحقّ.

والثاني : أنه متعلّق بالفعل قبله ، أي : يتكبرون بما ليس بحق ، والتّكبّر بالحقّ لا يكون إلّا لله تعالى خاصّة.

قال بعضهم : وقد يكون إظهار الكبر على الغير بالحقّ ، فإنّ للمحقّ أن يتكبّر على المبطل وفي الكلام المشهور : التّكبر على المتكبر صدقة.

قوله : وإن يروا الظّاهر أنّها بصريّة ، ويجوز أن تكون قلبية ، والثّاني محذوف لفهم المعنى ، كقول عنترة : [الكامل]

٢٥٧٤ ـ ولقد نزلت فلا تظنّي غيره

منّي بمنزلة المحبّ المكرم (٣)

أي : فلا تظني غيره واقعا مني ، وكذا الآية الكريمة ، أي : وإن يروا هؤلاء

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٥ / ٤) عن الحسن.

(٢) أخرجه بلفظه : أحمد في المسند ٢ / ٢٤٨ ، ٤١٤ في مسند أبي هريرة رضي الله عنه وأبو داود في السنن ٢ / ٤٥٦ ـ ٤٥٧ كتاب اللباس من باب ما جاء في الكبر الحديث (٤٠٩٠) وابن ماجه في السنن ٢ / ٣٩٧ ، كتاب الزهد باب البراءة من الكبر والتواضع الحديث (٤١٧٤). بينما هو بمعناه عند مسلم في الصحيح ٤ / ٢٠٢٣ ، كتاب البر والصلة باب تحريم الكبر الحديث (١٣٦ / ٢٦٢٠).

(٣) تقدم.

٣١٢

المتكبرين كل آية جائية ، أو حادثة. وقرأ (١) مالك بن دينار (وَإِنْ يَرَوْا) مبنيا للمفعول من أري المنقول بهمزة التعدية.

قوله : (سَبِيلَ الرُّشْدِ) قرأ حمزة (٢) والكسائي هنا وأبو عمرو في الكهف في قوله : «ممّا علّمت رشدا» خاصة دون الأولين فيها بفتحتين ، والباقون بضمة وسكون واختلف النّاس فيهما هل هما بمعنى واحد.

فقال الجمهور نعم لغتان في المصدر كالبخل والبخل ، والسّقم والسّقم ، والحزن والحزن.

وقال أبو عمرو بن العلاء : «الرّشد ـ بضمة وسكون ـ الصّلاح في النّظر ، وبفتحتين الدّين» ولذلك أجمع على قوله : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) [النساء : ٦] بالضمّ والسّكون ، وعلى قوله (فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) [الجن : ١٤] بفتحتين.

وروي عن ابن عامر (٣) «الرّشد» بضمتين وكأنّه من باب الإتباع ، كاليسر والعسر وقرأ السلمي (٤) الرّشاد بألف فيكون : الرّشد والرّشد والرّشاد كالسّقم والسّقم والسّقام.

وقرأ ابن أبي عبلة (٥) لا يتّخذوها ، ويتّخذوها بتأنيث الضّمير ، لأنّ السبيل يجوز تأنيها.

قال تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) [يوسف : ١٠٨]. والمراد بسبيل الرّشد سبيل الهدى والدين ، وسبيل الغيّ ضد ذلك. ثمّ بيّن العلة لذلك الصّرف ، وهو كونهم مكذّبين بآيات الله ، وكونهم عنها غافلين أي معرضين ، أي : أنّهم واظبوا على الإعراض حتى صاروا بمنزلة الغافلين عنها.

قوله : «ذلك» فيه وجهان : أظهرهما : أنّه مبتدأ ، خبره الجارّ بعده ، أي : ذلك الصرف بسبب تكذيبهم.

والثاني : أنّه في محلّ نصب ، ثم اختلف في ذلك.

فقال الزّمخشريّ : «صرفهم الله ذلك الصّرف بعينه». فجعله مصدرا.

وقال ابن عطيّة : فعلنا ذلك فجعله مفعولا به وعلى الوجهين فالباء في بأنّهم متعلقة بذلك المحذوف.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٨٨ ، والدر المصون ٣ / ٣٤٢.

(٢) ينظر : السبعة ٢٩٤ ، والحجة ٤ / ٧٨ ، وإعراب القراءات ٢ / ٢٠٥ ـ ٢٠٧ ، وحجة القراءات ٢٩٥ ، وإتحاف ٢ / ٦٢.

(٣) ينظر : القراءة السابقة.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٨٩ ، والدر المصون ٣ / ٣٤٢.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٥٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٨٩ ، والدر المصون ٣ / ٣٤٢.

٣١٣

قوله : (وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ). في هذه الجملة احتمالان :

أحدهما : أنّها نسق على خبر أنّ ، أي : ذلك بأنّهم كذّبوا ، وبأنّهم كانوا غافلين عن آياتنا.

والثاني : أنّها مستأنفة ، أخبر الله تعالى عنهم بأنهم من شأنهم الغفلة عن الآيات وتدبرها.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ)(١٤٨)

قوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) في خبره وجهان ، أحدهما : أنّه الجملة من قوله (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) و «(هَلْ يُجْزَوْنَ) ـ خبر ثان ، أو مستأنف والثاني : أنّ الخبر هل يجزون والجملة من قوله حبطت في محلّ نصب على الحال ، و «قد» مضمرة معه ، عند من يشترط ذلك ، وصاحب الحال فاعل كذّبوا.

قوله : ولقاء الآخرة فيه وجهان ، أحدهما : أنّه من باب إضافة المصدر لمفعوله ، والفاعل محذوف ، والتقدير : ولقائهم الآخرة. والثاني : أنّه من باب إضافة المصدر للظرف يعني : ولقاء ما وعد الله في الآخرة. ذكرهما الزمخشريّ.

قال أبو حيّان : «ولا يجيز جلّة النّحويين الإضافة إلى الظّرف ، لأنّ الظّرف على تقدير «في» ، والإضافة عندهم على تقدير اللّام ، أو «من» فإن اتّسع في العامل جاز أن ينصب الظرف نصب المفعول ، ويجوز إذ ذاك أن يضاف مصدره إلى ذلك الظّرف المتّسع في عامله ، وأجاز بعض النّحويين أن تكون الإضافة على تقدير «في» كما يفهم ظاهر كلام الزمخشري».

فصل

لمّا ذكر ما لأجله صرف المتكبرين عن آياته وأتبعه ببيان العلّة لذلك الصرف وهو كونهم مكذّبين بالآيات غافلين عنها ، فقد كان يجوز أن يظن أنّهم يختلفون في باب العقاب لأنّ فيهم من يعمل بعض أعمال البرّ ، بيّن تعالى أنه حال جميعهم ، سواء كان متكبرا أو متواضعا ، أو قليل الإحسان ، أو كثير الإحسان ، فقال : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) يعني ذلك بجحدهم للميعاد وجراءتهم على المعاصي ، فبيّن تعالى أنّ أعمالهم محيطة.

قوله : هل يجزون هذا الاستفهام معناه النّفي ، لذلك دخلت : «إلّا» ولو كان معناه التقرير لكان موجبا ، فيبعد دخول «إلّا» أو يمتنع.

وقال الواحديّ هنا : «لا بد من تقدير محذوف أي : إلّا بما كانوا أو على ما كانوا ، أو جزاء ما كانوا» وتقريره : أنّ نفس ما كانوا يعملونه لا يجزونه إنّما يجزون بمقابله.

٣١٤

فصل

احتجّوا على فساد قول أبي هاشم في أنّ تارك الواجب يستحقّ العقاب بمجرّد أن لا يفعل الواجب ، وإن لم يصدر منه فعل ضدّ ذلك الواجب بهذه الآية.

قالوا : لأنّها تدلّ على أنّه لا جزاء إلّا على العمل ، وترك الواجب ليس بعمل ؛ فوجب أن لا يجازى عليه ؛ فثبت أنّ الجزاء إنّما حصل على فعل ضده.

وأجاب أبو هاشم : بأنّي لا أسمّي ذلك العقاب جزاء ، فسقط الاستدلال.

وأجابوا عن هذا : بأنّ الجزاء إنّما سمّي جزاء ؛ لأنّه يجزي ، ويكفي في المنع عن المنهيّ ، وفي الحثّ على المأمور به ، فإن ترتّب العقاب على مجرد ترك الواجب ؛ كان ذلك العقاب كافيا في الزّجر عن ذلك التّرك ، فكان جزاء ، فلا سبيل إلى الامتناع من تسميته جزاء.

قوله تعالى : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ) الآية. أي : من بعد مضيّه وذهابه إلى الميقات والجارّان متعلّقان ب «اتّخذ» ، وجاز أن يتعلّق بعامل حرفا جرّ متحدا اللّفظ ، لاختلاف معنيهما لأنّ الأولى لابتداء الغاية ، والثّانية للتّبعيض ، ويجوز أن يكون «من حليّهم» متعلّقا بمحذوف على أنّه حال من عجلا لأنّه لو تأخّر عنه لكان صفة فكان يقال عجلا من حليهم.

وقرأ الأخوان (١) من حليّهم بكسر الحاء ووجهها الإتباع لكسرة اللّام ، وهي قراءة أصحاب عبد الله وطلحة ويحيى بن وثاب والأعمش.

والباقون بضمّ اللّام ، وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وشيبة بن نصاح ، وهو في القراءتين جمع «حلي» ك «طيّ» ، فجمع على «فعول» ك «فلس» و «فلوس» فأصله : حلويّ كئدي في «ثدوي» ، فاجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسّكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت ، وكسرت عين الكلمة ، وإن كانت في الأصل مضمومة لتصحّ الياء ، ثمّ لك فيه بعد ذلك وجهان : ترك الفاء على ضمّها ، أو إتباعها للعين في الكسرة ، وهذا مطّرد في كل جمع على «فعول» من المعتلّ اللّام ، سواء كان الاعتلال بالياء ك «حليّ» و «ثدي» أم بالواو نحو : «عصيّ» ، و «دليّ» جمع عصا ودلو. وقرأ يعقوب «من حليهم» بفتح الحاء وسكون اللّام ، وهي محتملة لأن يكون «الحلي» مفردا أريد به الجمع ، أو اسم جنس مفرده «حلية» على حدّ قمح وقمحة ، و «عجلا» مفعول «اتّخذ» و «من حليّهم» تقدّم حكمه. ويجوز أن يكون «اتّخذ» متعدية لاثنين بمعنى «صيّر» فيكون : «من حليّهم» هو المفعول الثاني.

وقال أبو البقاء : «وهو محذوف ، أي : إلها» ولا حاجة إليه. والحلي : اسم لما يحسّن به من الذّهب والفضّة.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٩٤ ، والحجة ٤ / ٨٠ ، وإعراب القراءات ١ / ٢٠٧ ، وحجة القراءات ٢٩٦ ، وإتحاف ٢ / ٦٢ ، ٦٣.

٣١٥

و «جسدا» فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنّه نعت. الثّاني : أنّه عطف بيان ، والثالث : أنّه بدل قاله الزمخشريّ ، وهو أحسن ؛ لأنّ الجسد ليس مشتقا ، فلا ينعت به إلا بتأوّل ، وعطف البيان في النكرات قليل ، أو ممتنع عند الجمهور ، وإنّما قال : «جسدا» لئلّا يتوهّم أنّه كان مخطوطا ، أو مرقوما. والجسد : الجثة.

وقيل : ذات لحم ودم.

قوله : «له خوار» في محل النّصب نعتا ل «عجلا» ، وهذا يقوّي كون «جسدا» نعتا ؛ لأنه إذا اجتمع نعت وبدل قدّم النّعت على البدل ، والجمهور على خوار بخاء معجمة وواو صريحة ، وهو صوت البقر خاصّة ، وقد يستعار للبعير ، والخور : الضّعف ، ومنه أرض خوّارة وريح خوار والخوران : مجرى الرّوث ، وصوت البهائم أيضا.

وقرأ عليّ (١) ـ رضي الله عنه ـ وأبو السّمّال : جؤار بالجيم والهمز ، وهو الصّوت الشديد.

فصل

قال ابن عبّاس والحسن وقتادة وجماهير أهل التفسير : كان لبني إسرائيل عبيد يتزيّنون فيه ويستعيرون من القبط الحلي ، فاستعاروا حلي القبط لذلك اليوم ، فلمّا أغرق الله القبط بقي ذلك الحلي في أيدي بني إسرائيل ، فجمع السّامريّ تلك الحلي ، واسمه موسى بن ظفر ، من قرية يقال لها سامرة ، وكان رجلا مطاعا فيهم ، وكانوا قد سألوا موسى ـ عليه‌السلام ـ أن يجعل لهم إلها يعبدونه ، فصاغ السّامري لهم من ذلك الحليّ عجلا ، وألقى في فمه من تراب أثر فرس جبريل ؛ فتحول عجلا جسدا حيّا لحما ودما له خوار.

وقيل : كان جسدا مجسّدا من ذهب لا روح فيه ، كان يسمع منه صوت الرّيح يدخل في جوفه ويخرج (٢).

قال أكثر المفسّرين من المعتزلة : إنّه جعل ذلك العجل مجوفا ، وجعل في جوفه أنابيب على شكل مخصوص.

وكان قد وضع ذلك التمثال في مهبّ الرّيح ، فكانت تدخل في تلك الأنابيب فيظهر منه صوت مخصوص يشبه خوار العجل.

وقال آخرون : إنّه جعل ذلك التمثال أجوف ، وجعل تحته في الموضع الذي نصب فيه العجل من ينفخ فيه من حيث لا يشعر به النّاس ، فيسمعوا الصوت من جوفه كالخوار ، كما يفعلون الآن في هذه التّصاوير التي يجرون فيها الماء كالفوارات وغيرها.

قيل : إنّه ما خار إلّا مرة واحدة ، وقيل : كان يخور كثيرا كلّما خار سجدوا له وإذا

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ١٦٠ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٩٠ ، والدر المصون ٣ / ٣٤٤.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٥ / ٦).

٣١٦

سكت رفعوا رؤوسهم. وقال وهب : كان يجوز ولا يتحرّك.

وقال السدي : كان يخور ويمشي. ثم قال لهم هذا إلهكم وإله موسى.

فإن قيل لم قال : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى) والمتّخذ هو السّامريّ؟

فالجواب من وجهين : أحدهما : أنّ الله نسب الفعل إليهم ، لأنّ رجلا منهم باشره.

كما يقال : بنو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا ، والقائل والفاعل واحد ، والثاني : أنّهم كانوا مريدين لاتخاذه راضين به ، فكأنّهم اجتمعوا عليه.

فإن قيل : لم قال : «من حليّهم» ولم يكن الحلي لهم ، وإنّما استعاروها؟

فالجواب : أنّه لمّا أهلك الله قوم فرعون بقيت تلك الأموال في أيديهم ملكا لهم كقوله : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ) ـ إلى قوله ـ (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) [الدخان : ٢٥ ـ ٢٨].

فصل

قيل إنّ الذين عبدوا العجل كانوا كل قوم موسى.

قال الحسن : كلهم عبدوا العجل غير هارون ، لعموم هذه الآية.

ولقول موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي) [الأعراف : ١٥١] ، فتخصيص نفسه وأخيه بالدّعاء يدلّ على أنّ غيرهما ما كان أهلا للدعاء ، ولو بقوا على الإيمان لما كان الأمر كذلك. وقيل : بل كان منهم من ثبت على إيمانه لقوله تعالى : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف : ١٥٩].

قوله : «ألم يروا» إن قلنا : إنّ اتّخذ متعدية لاثنين ، وإنّ الثّاني محذوف ، تقديره : واتّخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا إلها ، فلا حاجة حينئذ إلى ادّعاء حذف جملة يتوجّه عليها هذا الإنكار ، وإن قلنا : إنّها متعدية لواحد بمعنى : صنع وعمل أو متعدية لاثنين ، والثاني هو : من حليّهم فلا بدّ من حذف جملة قبل ذلك ، ليتوجّه عليها الإنكار ، والتقدير : يعبدوه ، ويروا يجوز أن تكون العلمية ، وهو الظّاهر وأن تكون البصرية ، وهو بعيد.

فصل

اعلم أنّه تعالى احتجّ على فساد هذا المذهب وكون العجل إلها بقوله : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) وتقرير هذا الدّليل أنّ هذا العجل لا يمكنه أن يكلّمهم ، ولا يهديهم إلى الصّواب والرّشد ومن كان كذلك كان إمّا جمادا ، وإمّا حيوانا ، وكلاهما لا يصلح للإلهيّة.

ثم قال تعالى : (اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) لأنفسهم حيث أعرضوا عن عبادة الله واشتغلوا بعبادة العجل.

٣١٧

قوله : (وَكانُوا ظالِمِينَ) يجوز فيها وجهان : أظهرهما : أنّها استئنافية ، أخبر عنهم بهذا الخبر وأنه ديدنهم وشأنهم في كلّ شيء فاتّخاذهم العجل من جملة ذلك ، ويجوز أن تكون حالا ، أي : وقد كانوا ، أي : اتّخذوه في هذه الحال المستقرّة لهم وعلى هذا التفسير المتقدم.

قوله تعالى : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(١٥١)

قوله تعالى : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) الجارّ قائم مقام الفاعل.

وقيل القائم مقامه ضمير المصدر الذي هو السّقوط أي سقط السقوط في أيديهم ، ونقل أبو حيان عن بعضهم أنه قال : «سقط» تتضمّن مفعولا ، وهو ههنا المصدر ، الذي هو الإسقاط كقولك : «ذهب بزيد».

قال : وصوابه : وهو هنا ضمير المصدر الذي هو السّقوط ؛ لأنّ «سقط» ليس مصدره الإسقاط ، ولأن القائم مقام الفاعل ضمير المصدر ، لا المصدر ، ونقل الواحديّ عن الأزهريّ أن قولهم : «سقط في يده» ؛ كقول امرىء القيس : [الطويل]

٢٥٧٥ ـ دع عنك نهبا صيح في حجراته

ولكن حديثا ما حديث الرّواحل (١)

في كون الفعل مسندا للجار ، كأنه قيل : صاح المنتهب في حجراته ، وكذلك المراد سقط في يده ، أي : سقط النّدم في يده.

فقوله : أي سقط النّدم في يده ، تصريح بأنّ القائم مقام الفاعل حرف الجرّ ، لا ضمير المصدر.

ونقل الفرّاء والزّجّاج أنه يقال : سقط في يده وأسقط أيضا ، إلّا أنّ الفرّاء قال : سقط ـ أي الثلاثي ـ أكثر وأجود. وهذه اللّفظة تستعمل في التندّم والتحير. وقد اضطربت أقوال أهل اللّغة في أصلها.

فقال أبو مروان بن سراج اللّغوي : «قول العرب سقط في يده ممّا أعياني معناه». وقال الواحدي : قد بان من أقوال المفسّرين وأهل اللّغة أنّ «سقط في يده» ندم ، وأنّه يستعمل في صفة النّادم فأمّا القول في أصله وما حدّه فلم أر لأحد من أئّمة اللّغة شيئا أرتضيه إلّا ما ذكر الزّجّاجي فإنّه قال : قوله تعالى : (سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) بمعنى ندموا ،

__________________

(١) تقدم.

٣١٨

نظم لم يسمع قبل القرآن ، ولم تعرفه العرب ، ولم يوجد ذلك في أشعارهم ، ويدلّ على صحّة ذلك أنّ شعراء الإسلام لما سمعوا هذا النّظم واستعملوه في كلامهم خفي عليهم وجه الاستعمال ، لأنّ عادتهم لم تجر به.

فقال أبو نواس : [الرجز]

٢٥٧٦ ـ ونشوة سقطت منها في يدي (١)

وأبو نواس هو العالم النّحرير ، فأخطأ في استعمال هذا اللفظ ، لأنّ «فعلت» لا يبنى إلّا من فعل متعدّ ، و «سقط» لازم ، لا يتعدّى إلّا بحرف الصفة لا يقال : «سقطت» كما لا يقال : رغبت وغضبت ، إنّما يقال : رغب فيّ ، وغضب عليّ ، وذكر أبو حاتم : «سقط فلان في يده» بمعنى ندم. وهذا خطأ مثل قول أبي نواس ، ولو كان الأمر كذلك لكان النّظم (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) و «سقط القوم في أيديهم».

وقال أبو عبيدة : «يقال لمن على أمر وعجز عنه : سقط في يده».

وقال الواحديّ : «وذكر اليد ههنا لوجهين أحدهما : أنه يقال للّذي يحصل وإن كان ذلك ممّا لا يكون في اليد : «قد حصل في يده مكروه» يشبه ما يحصل في النّفس وما يحصل في القلب بما يرى بالعين ، وخصّت اليد بالذّكر ؛ لأنّ مباشرة الذّنوب بها. فاللأئمة ترجع عليها ، لأنّها هي الجارحة العظمى ، فيسند إليها ما لم تباشره ، كقوله : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) [الحج : ١٠] وكثير من الذّنوب لم تقدّمه اليد».

الوجه الثاني : أنّ النّدم حدث يحصل في القلب ، وأثره يظهر في اليد ؛ لأنّ النّادم يعضّ يده ، ويضرب إحدى يديه على الأخرى كقوله : (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) [الكهف : ٤٢] فتقليب الكفّ عبارة عن النّدم ، وكقوله : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) [الفرقان : ٣٧] فلمّا كان أثر النّدم يحصل في اليد من الوجه الذي ذكرناه أضيف سقوط النّدم إلى اليد ؛ لأنّ الذي يظهر للعيون من فعل النّادم هو تقليب الكفّ وعضّ الأنامل واليد كما أنّ السّرور معنى في القلب يستشعره الإنسان ، والذي يظهر منه حالة الاهتزاز والحركة والضّحك وما يجري مجراه.

وقال الزمخشريّ : «ولمّا سقط في أيديهم» أي ولمّا اشتدّ ندمهم ؛ لأنّ من شأن من اشتدّ ندمه وحسرته أن يعضّ يده غما ، فتصير يده مسقوطا فيها ، لأنّ فاه قد وقع فيها.

وقيل : من عادة النّادم أن يطأطىء رأسه ، ويضع ذقنه على يده معتمدا عليها ، ويصير على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه ، فكأنّ اليد مسقوط فيها. ومعنى «في» «على» ، فمعنى «في أيديهم» كقوله : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١].

وقيل : هو مأخوذ من السّقاط ، وهو كثرة الخطأ ، والخاطىء يندم على فعله.

__________________

(١) ينظر : حاشية الشهاب ٤ / ٢٢٠ ، مجمع الأمثال ٢ / ١٠٢ ، والدر المصون ٣ / ٣٤٥.

٣١٩

قال ابن أبي كاهل : [الرمل]

٢٥٧٧ ـ كيف يرجون سقاطي بعدما

لفّع الرّأس بياض وصلع (١)

وقيل : هو مأخوذ من السّقيط ، وهو ما يغشّي الأرض من الجليد يشبه الثّلج.

يقال منه : سقطت الأرض كما يقال : ثلجت ، والسّقط والسّقيط يذوب بأدنى حرارة ولا يبقى. ومن وقع في يده السّقيط لم يحصل منه على شيء فصار هذا مثلا لكل من خسر في عاقبته ، ولم يحصل من بغيته على طائل. واعلم أنّ «سقط في يده» عدّه بعضهم في الأفعال الّتي لا تتصرّف ك «نعم وبئس».

وقرأ ابن السّميفع (٢) سقط في أيديهم مبنيا للفاعل وفاعله مضمر ، أي : سقط النّدم هذا قول الزّجّاج.

وقال الزمخشريّ : «سقط العضّ».

وقال ابن عطيّة : «سقط الخسران ، والخيبة». وكل هذه أمثلة.

وقرأ ابن أبي عبلة (٣) : أسقط رباعيا مبنيا للمفعول ، وقد تقدّم أنّها لغة نقلها الفرّاء والزّجّاج.

فصل

قوله : ورأوا أنّهم هذه قلبيّة ، ولا حاجة في هذا إلى تقديم وتأخير ، كما زعم بعضهم.

قال القاضي (٤) : يجب أن يكون المؤخّر مقدما ؛ لأنّ النّدم والتّحسّر إنّما يقعان بعد المعرفة فكأنه تعالى قال : ولما رأوا أنهم قد ضلّوا سقط في أيديهم لما نالهم من عظيم الحسرة.

ويمكن أن يقال لا حاجة إلى ذلك ، لأنّ الإنسان إذا شكّ في العمل الذي يقدم عليه هل هو صواب أو خطأ؟ فقد يندم عليه من حيث أنّ الإقدام على ما لا يعلم كونه صوابا أو خطأ غير جائز.

قوله : (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا) لما ظهر لهم أنّ الذي عملوه كان باطلا ، أظهروا الانقطاع إلى الله تعالى وقالوا : (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا).

قرأ الأخوان (٥) «ترحمنا» و «تغفر» بالخطاب ، «ربّنا» بالنّصب ، وهي قراءة الشعبي

__________________

(١) ينظر شرح المفضليات ٢ / ٧٣٧ ، الخزانة ٦ / ١٢٥ ، الصاحبي ٢٤٣ ، الدر المصون ٣ / ٣٤٦.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ١٦٠ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٩٢ ، والدر المصون ٣ / ٣٤٦.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٥٥ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٩٢ ، والدر المصون ٣ / ٣٤٦.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٥ / ٩.

(٥) ينظر : السبعة ٢٩٤ ، والحجة للقراء السبعة ٤ / ٨٨ ، وإعراب القراءات ١ / ٢٠٨ ، وحجة القراءات ٢٩٦ ـ ٢٩٧ ، وإتحاف ٢ / ٦٣ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٤٥٦ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٩٢.

٣٢٠