اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

قال شهاب الدّين (١) : «وهذا ليس بشيء ، لأنّ ذلك قد يأتي في موضع لا زجر فيه ، ولأنّ كتابتها متصلة ينفي كون كلّ منهما كلمة مستقلة».

وقال قوم : إنّها مركّبة من «مه» بمعنى اكفف و «من الشّرطيّة» ؛ بدليل قول الشاعر : [الطويل]

٢٥٥٨ ـ أماويّ مهمن يستمع في صديقه

أقاويل هذا النّاس ماويّ يندم (٢)

فأبدلت نون «من» ألفا كما تبدل النّون الخفيفة بعد فتحة ، والتّنوين ألفا ، وهذا ليس بشيء بل «مه» على بابها من كونها بمعنى : اكفف ، ثم قال : من يستمع.

وقال قوم : بل هي مركّبة من «من» و «ما» فأبدلت نون «من» هاء ، كما أبدلوا من ألف «ما» الأولى هاء ، وذلك لمؤاخاة من ما في أشياء ، وإن افترقا في شيء واحد ، ذكره مكيّ.

ومحلّها نصب أو رفع ، فالرّفع على الابتداء وما بعده الخبر ، وفيه الخلاف المشهور هل الخبر فعل الشّرط أو فعل الجزاء أو هما معا؟ والنّصب من وجهين :

أظهرهما : على الاشتغال ويقدّر الفعل متأخرا عن اسم الشّرط ، والتقدير : مهما تحضر تأتنا ، ف «تأتنا» مفسّر ل تحضر ، لأنّه من معناه.

والثاني : النصب على الظرفية عند من يرى ذلك ، وقد تقدّم الرّدّ على هذا القول ، والضّميران من قوله به و «بها» عائدان على «مهما» ، عاد الأوّل على اللّفظ ، والثاني على المعنى ، فإنّ معناها الآية المذكورة ، ومثله قول زهير : [الطويل]

٢٥٥٩ ـ ومهما تكن عند امرىء من خليقة

وإن خالها تخفى على النّاس تعلم (٣)

ومثله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) [البقرة : ١٠٦] فأعاد الضّمير على «ما» مؤنثا ، لأنّها بمعنى الآية.

وقوله : «فما نحن» يجوز أن تكون «ما» حجازية أو تميمية والباء زائدة على كلا القولين ، والجملة جواب الشّرط فمحلّها جزم.

فصل

قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق :

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٢٩.

(٢) البيت قيل لحاتم الطائي ينظر : الخزانة ٩ / ١٦ ، شرح المفصل لابن يعيش ٤ / ٨ ، شرح القصائد العشر ٧٨ ، شرح الرضي ٢ / ٢٥٣ ، التهذيب ٥ / ٣٨٥ ، اللسان (مهه) الدر المصون ٣ / ٣٢٩.

(٣) ينظر ديوانه (٣٢) ، شرح القصائد العشر (٢٤٠) ، المغني ١ / ٣٢٣ ، الأشموني ٤ / ١٠ ، الهمع ٣٥١٢.

الدرر ٢ / ٧٤ ، مغني اللبيب ١ / ٣٢٣ ، ٣٣٠ ، البحر المحيط ٤ / ٣٧١ ، الجنى الداني (١٦٢) ، شرح قطر الندى ص ٣٧ ، همع الهوامع ٢ / ٣٥ ، ٥٨ ، الدر المصون ٣ / ٣٢٩.

٢٨١

لما قال قوم موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ) [الأعراف : ١٣٢] فهو سحر ، ونحن لا نؤمن بها وكان موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ رجلا جديدا ، فعند ذلك دعا عليهم فقال : يا ربّ إنّ عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وعتا ، وإنّ قومه نقضوا عهدك ؛ فخذهم بعقوبة تجعلها لهم نقمة ولقومي عظة ، ولمن بعدهم آية وعبرة ، فأرسل الله عليهم الطّوفان وهو الماء ، وبيوت بني إسرائيل ، وبيوت القبط مشتبكة ، فامتلأت بيوت القبط حتّى قاموا في الماء إلى تراقيهم ، ومن جلس منهم غرق ، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل قطرة ، ودام ذلك عليهم من السّبت إلى السبت.

فقالوا لموسى : ادع لنا ربّك يكشف عنّا المطر ؛ فنؤمن بك ، ونرسل معك بني إسرائيل.

فدعا ربّه فرفع عنهم الطوفان ، وأرسل الرّياح فجفّفت الأرض ، وخرج من النّبات ما لم يروا مثله قط ، وأخصبت بلادهم.

فقالوا : ما كان هذا الماء إلّا نعمة علينا لكنّا لم نشعر ؛ فمكثوا شهرا في عافية فنكثوا العهد.

وقالوا : لا نؤمن بك ، ولا نرسل معك بني إسرائيل ، فأرسل الله عليهم الجراد ، فأكل عامّة زرعهم ، وثمارهم ، وأوراق الشّجر ؛ حتّى أكلت الخشب وسقوف البيوت ومسامير الأبواب من الحديد حتّى وقع دورهم ، وابتلي الجراد بالجوع فكان لا يشبع ، ولم يصب بني إسرائيل شيء من ذلك فضجّوا إلى موسى.

وقالوا : ادع لنا ربّك لئن كشفت عنّا الرجز لنؤمن لك ولنرسلنّ معك بني إسرائيل ، وأعطوه عهد الله وميثاقه.

فدعا موسى ربّه فكشف عنهم الجراد بعد سبعة أيام ، وفي الخبر «مكتوب على صدر كلّ جرادة جند الله الأعظم» فأرسل الله ريحا فحمل الجراد ؛ فألقاه في البحر.

وقيل : إنّ موسى برز إلى الفضاء ، وأشار بعصاه إلى المشرق والمغرب ؛ فرجعت الجراد من حيث جاءت.

وكانت قد بقيت من زروعهم ، وغلاتهم بقيّة.

فقالوا : قد بقي لنا ما يكفينا ، فنقضوا العهد ولم يؤمنوا ، فأقاموا شهرا في عافية.

فأرسل الله القمل سبتا إلى سبت ، فلم يبق بأرضهم عود أخضر إلّا أكلته.

فصاحوا بموسى فسأل ربّه ، فأرسل الله عليها ريحا حارّة فأحرقتها ، وألقتها في البحر فلم يؤمنوا.

فأرسل الله عليهم الضّفادع سبعة أيّام ؛ فخرج من البحر مثل اللّيل الدّامس ووقع في النّبات والأطعمة ، فكان الرّجل يجلس في الضّفادع إلى رقبته ، ويهم أن يتكلّم ؛ فيثب الضّفدع في فيه.

٢٨٢

فصرخوا إلى موسى وحلفوا له لئن رفعت عنّا هذا العذاب لنؤمننّ بك ، فدعا الله تعالى

فأمات الضّفادع ، فأرسل عليها المطر ؛ فأحملتها ، ثمّ أقاموا شهرا ثم نقضوا العهد وعادوا لكفرهم.

فأرسل الله عليهم الدّم فجرت أنهارهم دما ، فما يستقون من الآبار والأنهار إلّا وجدوه دما عبيطا أحمر ، فشكوا إلى فرعون.

فقال : إنّه سحركم وكان فرعون يجمع القبطيّ والإسرائيلي على الإناء الواحد ؛ فيكون ما يلي الإسرائيليّ ماء ، وما يلي القبطي دما ، ويقومان إلى البحيرة فيها الماء ، فيخرج للإسرائيلي ماء وللقبطيّ دما ، حتى كانت المرأة من آل فرعون تأتي المرأة من بني إسرائيل حين جهدهم العطش فتقول : اسقني من مائك فتصب لها من قربتها ؛ فيعود دما في الإناء ، حتّى كانت تقول اجعليه في فيك ثم مجّيه في فيّ فتأخذ في فيها ماء ، فإذا مجّته في فيها ؛ صار دما ، وإنّ فرعون اضطره العطش حتّى مضغ الأشجار الرّطبة فصار ماؤها في فيه ملحا أجاجا ، فمكثوا في ذلك سبعة أيام (١) ، فقالوا : يا موسى (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ) [١٣٤]. إلى آخر الآية.

الطّوفان فيه قولان :

أحدهما : أنّه جمع : طوفانة ، أي : هو اسم جنس ك : قمح وقمحة ، وشعير وشعيرة.

وقيل : هو مصدر كالنّقصان والرّجحان ، وهذا قول المبرّد في آخرين والأوّل قول الأخفش.

وقال : هو «فعلان» من الطّواف ، لأنّه يطوف حتّى يعمّ الأرض ، وواحدته في القياس «طوفانة» ؛ وأنشد : [الرمل].

٢٥٦٠ ـ غيّر الجدّة من آياتها

خرق الرّيح وطوفان المطر (٢)

والطّوفان : الماء الكثير ، قاله اللّيث ؛ وأنشد للعجّاج : [الرجز]

٢٥٦١ ـ وعمّ طوفان الظّلام الأثأبا (٣)

شبّه ظلام اللّيل بالماء الذي يغشى الأمكنة.

وقال أبو النّجم : [الرجز]

٢٥٦٢ ـ ومدّ طوفان مبيد مددا

شهرا شآبيب وشهرا بردا (٤)

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٤ ـ ٣٨).

(٢) البيت لحسيل بن عرفطة : ينظر الوساطة (٤٤١) ، البحر ٤ / ٣٧٢١ ، التهذيب ١٤ / ٣٣ ، النوادر (٧٧) ، المنصف ٢ / ٢٢٨ ، معاني الأخفش ٢ / ٥٣١ ، اللسان : طوف ، الدر المصون ٣ / ٣٣٠.

(٣) ينظر : التاج واللسان (طوف) ، الدر المصون ٣ / ٣٣٠.

(٤) ينظر جامع البيان ١٣ / ٥٤ ، البحر ٤ / ٣٧٢ ، الدر المصون ٣ / ٣٣٠ النكت والعيون ٢ / ٤٩.

٢٨٣

وقيل : الطّوفان من كلّ شيء : ما كان كثيرا محيطا مطبقا بالجماعة من كلّ جهة كالماء الكثير ، والقتل الذّريع ، والموت الجارف ، قاله الزّجّاج.

وقد فسّره النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالموت تارة ، وبأمر من الله أخرى ، وتلا قوله : (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ) [القلم : ١٩] وهذه المادّة وإن كانت قد تقدّمت في «طائفة» إلّا أنّ لهذه البنية خصوصية بهذه المعاني المذكورة.

والجراد معروف ، وهو جمع : جرادة ، الذّكر والأنثى فيه سواء.

يقال : جرادة ذكر وجرادة أنثى ، ك : نملة ، وحمامة.

قال أهل اللّغة : وهو مشتقّ من «الجرد».

قالوا : والاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جدا.

يقال : أرض جرداء ، أي : ملساء وثوب جرد ، إذا ذهب زئبره.

فصل

قال القرطبيّ : اختلف الفقهاء في جواز قتل الجراد.

فقيل : يقتل ، لأنّ في تركها فساد الأموال ، وقد رخّص النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتال المسلم إذا أخذ ماله ، فالجراد إذا أرادت فساد الأموال كانت أولى بجواز قتلها ، كما أنّهم اتفقوا على جواز قتل الحيّة ، والعقرب ؛ لأنّهما يؤذيان النّاس فكذلك الجراد.

وروى ابن ماجة عن أنس أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا دعا على الجراد قال : «اللهمّ أهلك كباره واقتل صغاره ، وأفسد بيضه ، واقطع دابره ، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا إنّك سميع الدّعاء»(١).

فقال رجل : يا رسول الله ، كيف تدعو إلى جند من أجناد الله بقطع دابره؟

قال : «إنّ الجراد نثرة حوت في البحر». وهذا قول جمهور الفقهاء.

وقيل : لا يقتل ، لأنّه خلق عظيم من خلق الله يأكل من رزق الله.

وقد روي «لا تقتلوا الجراد فإنّه جند الله الأعظم».

والقمّل : قيل : هي القردان ، وقيل : دوابّ تشبهها أصغر منها.

وقال سعيد بن جبير : هو السّوس الذي يخرج من الحنطة (٢).

وقال ابن السّكّيت : إنّه شيء يقع في الزّرع ليس بجراد ؛ فيأكل السّنبلة ، وهي غضة

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه (٣٢٢١) من طريق موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه عن جابر وأنس وإسناده ضعيف جدا.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٠٥) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر.

٢٨٤

قبل أن تقوى ، وحينئذ يطول الزّرع ولا سنبل له.

وقيل : إنّها الحمتان الواحدة : حمنانة ، نوع من القردان.

وقال سعيد بن جبير : كان إلى جنبهم كثيب أعفر بقرية من قرى مصر تدعى «بعين شمس» فذهب موسى إلى ذلك الكثيب فضربه بعصاه فانهال عليهم القمّل (١) ، وعلى هذا هو القمل المعروف الذي يكون في بدن الإنسان وثيابه ، ويؤيد هذا قراءة الحسن (٢) «والقمل» بفتح القاف وسكون الميم ، فيكون فيه لغتان : القمّل» كقراءة العامة و «القمل» كقراءة الحسن البصري.

وقيل : القمل البراغيث ، وقيل : الجعلان.

والضفادع : جمع ضفدع ، بزنة درهم ، ويجوز كسر داله فتصير بزنة «زبرج» وقد تبدل عين جمعه ياء ، كقوله : [الرجز]

٢٥٦٣ ـ ومنهل ليس له حوازق

ولضفادي جمّه نقانق (٣)

وشذّ جمعه على : ضفدعات ، والضّفدع : مؤنّث ، وليس بمذكر ، فعلى هذا يفرّق بين مذكّره ومؤنثه بالوصف.

فيقال : ضفدع ذكر وضفدع أنثى ، كما قلنا ذلك في المتلبّس بتاء التأنيث ، نحو : حمامة ، وجرادة ، ونملة.

فصل

روى أبو داوود وابن ماجة عن أبي هريرة قال : نهى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤) عن قتل : الصّرد والضّفدع ، والنّملة ، والهدهد. ولمّا خرج إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ من الشّام إلى الحرم في بناء البيت كانت السّكينة معه والصّرد ، فكان الصّرد دليله إلى الموضع ، والسكينة مقداره ، فلمّا صار إلى البقعة ؛ وقعت السّكينة على موضع البيت ونادت : ابن يا إبراهيم على مقدار ظلّي.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٤ / ١٧٨) عن سعيد بن جبير.

(٢) ينظر : الشواذ ٤٥ ، الدر المصون ٣ / ٣٣٠.

(٣) ينظر الكتاب ٢ / ٢٧٣ ، ابن يعيش ١٠ / ٢٨ ، المقرب ٢ / ١٧١ ، الهمع ٢ / ١٥٧ ، الدرر ٢ / ٢١٣ ، الأشموني ٤ / ٣٣٧ ، اللسان : حزق ، الدرر المصون ٣ / ٣٣١.

(٤) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٣٣٢ ، ٣٤٧ ، والدارمي في السنن ٢ / ٨٨ ـ ٨٩ كتاب الأضاحي باب النهي عن قتل الضفادع والنحلة وأبو داود في السنن ٥ / ٤١٨ كتاب الأدب باب في قتل الذر الحديث (٥٢٦٧) ، وابن ماجه في السنن ٢ / ١٠٧٤ ، كتاب الصيد باب ما ينهى عن قتله الحديث (٣٢٢٤) ، وصححه ابن حبان ، وأورده الهيثمي في موارد الظمآن ص ٢٦٥ كتاب الأضاحي باب ما نهي عن قتله الحديث (١٠٧٨) والصّرد : طائر ضخم الرأس والمنقار ، له ريش عظيم ونصفه أسود (ابن الأثير ، النهاية في غريب الحديث ٣ / ٢١).

٢٨٥

فنهى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتل الصّرد ؛ لأنه كان دليل إبراهيم ، وعن قتل الضّفدع ؛ لأنها كانت تصب الماء على نار إبراهيم ، ولما تسلّطت على فرعون جاءت ، وأخذت الأمكنة كلها ، فلما صارت إلى التّنّور وثبت فيها وهي نار تسعر طاعة لله ، ولكن نار يسعرها الله بها ؛ فجعل «نقيقها» تسبيحا.

والدّم ذكرناه وهو معروف.

قال زيد بن أسلم : الدّم الذي سلطة الله عليهم كان الرّعاف ، ونقله الزمخشريّ.

قوله : (آياتٍ مُفَصَّلاتٍ). آيات منصوبة على الحال من تلك الأشياء المتقدّمة أي : أرسلنا عليهم هذه الأشياء حال كونها علامات مميزا بعضها من بعض ، ومفصّلات فيها وجهان :

أحدهما : مفصّلات أي : مبينات لا يشكل على عاقل أنّها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره.

وقيل : مفصّلات أي : فصّل بعضها من بعض بزمان يمتحن فيه أحوالهم هل يقبلون الحجّة ، أو يستمرون على المخالفة؟ فاستكبروا عن عبادة الله (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ).

فصل

فإن قيل : لمّا علم الله تعالى من حالهم أنّهم لا يؤمنون بتلك المعجزات ، فما الفائدة في تواليها؟ وقوم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلبوا المعجزات فما أجيبوا فما الفرق؟

فالجواب : قال بعض أهل السّنّة : يفعل الله ما يشاء ، ويحكم ما يريد.

وقال آخرون : إنّما فعل ذلك زجرا لنا ، وموعظة وإعلاما بأنّ المصرّ على الكفر يستوجب العذاب المؤبّد. وأجاب المعتزلة : برعاية الصالح ، فلعلّه علم من قوم موسى أنّ بعضهم كان يؤمن عند ظهور المعجزة الزّائدة كمؤمن آل فرعون وكالسّحرة ، وعلم من قوم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ أحدا منهم لا يزداد بظهور المعجزة الزّائدة إلّا كفرا. فظهر الفرق.

قوله : «ولمّا وقع عليهم الرّجز» ، أي نزل بهم العذاب من الطّوفان ، وغيره.

وقال سعيد بن جبير : الطاعون.

وقيل : مات منهم سبعون ألفا في يوم واحد. وتقدم الكلام على الرّجز في البقرة عند قوله : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) [البقرة : ٥٩].

قوله «بما عهد عندك». يجوز في هذه الباء وجهان :

أظهرهما : أن تتعلّق ب ادع أي : ادعه بالدّعاء الذي علّمك أن تدعوه به.

والثاني : أنّها باء القسم.

قال الزمخشريّ : والباء إمّا أن تتعلّق ب «ادع» على وجهين :

٢٨٦

أحدهما : أسعفنا إلى ما نطلب إليك من الدّعاء بحق ما عندك من عهد الله ، وكرامته إيّاك بالنّبوّة أو ادع الله لنا متوسّلا إليه بعهده عندك ، وإمّا أن يكون قسما مجابا ب «لنؤمننّ» أي : «أقسمنا بعهد الله عندك».

فصل

اعلم أنّه تعالى بيّن ما كانوا عليه من المناقضة القبيحة ، لأنّهم تارة يكذبون موسى عليه الصّلاة والسّلام ، وأخرى عند الشّدائد يفزعون إليه فزع الأمة إلى نبيّها ويسألونه أن يسأل ربّه رفع العذاب عنهم ، وذلك يقتضي أنهم سلّموا كونه نبيّا مجاب الدّعوة ، ثمّ بعد زوال تلك الشّدائد يعودون إلى تكذيبه.

وقوله : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ). أي : العذاب. إلى أجل فيه وجهان : أحدهما : أن يتعلّق ب «كشفنا» وهو المشهور ، وعليه إشكال وهو أنّ ما دخلت عليه «لمّا» يترتّب جوابه على ابتداء وقوعه ، والغاية تنافي التعليق على ابتداء الوقوع ، فلا بدّ من تعقل الابتداء والاستمرار حتّى تتحقّق الغاية ، ولذلك لا تقع الغاية في الفعل غير المتطاول.

لا يقال : لمّا قتلت زيدا إلى يوم الخميس جرى كذا ، ولا لمّا وثبت إلى يوم الجمعة اتّفق كذا ، وقد يجاب بأنّ المراد بالأجل هنا : وقت إيمانهم ، وإرسالهم بني إسرائيل معه ، ويكون المراد بالكشف : استمرار رفع الرّجز.

كأنه قيل : فلمّا تمادى كشفنا عنهم إلى أجل ، وأمّا من فسّر «الأجل» بالموت أو بالغرق فيحتاج إلى حذف مضاف تقديره : فلمّا كشفنا عنهم الرجز إلى أجل قرب أجل هم بالغوه ، وإنّما احتاج إلى ذلك ، لأنّ بين موتهم أو غرقهم حصل منهم نكث ، فكيف يتصوّر أن يكون النّكث منهم بعد موتهم ، أو غرقهم؟

والثاني : أنّه متعلّق بمحذوف على أنّه حال من «الرّجز» أي : فلمّا كشفنا عنهم الرجز كائنا إلى أجل ، والمعنى : أنّ العذاب كان مؤجّلا.

قال أبو حيّان (١) : ويقوّي هذا التأويل كون جواب «لمّا» جاء ب «إذا» الفجائية أي: فلمّا كشفنا عنهم العذاب المقرّر عليهم إلى أجل فاجؤوا بالنّكث ، وعلى معنى تغييته الكشف بالأجل المبلوغ لا تتأتى المفاجأة إلّا على تأويل الكشف بالاستمرار المغيّا فيمكن المفاجأة بالنّكث إذ ذاك ممكن.

قوله : «هم بالغوه» في محلّ جر صفة ل «أجل» والوصف بهذه الجملة أبلغ من وصفه بالمفرد ، لتكرر الضّمير المؤذن بالتّفخيم.

وقوله : (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) هذه «إذا» الفجائيّة ، وتقدّم الكلام عليها قريبا. و «هم» مبتدأ ، و «ينكثون» خبره ، و «إذا» جواب «لمّا» كما تقدّم بالتّأويل المذكور.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٧٤.

٢٨٧

قال الزمخشريّ : (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) جواب «لمّا» يعني : فلمّا كشفنا عنهم العذاب فاجؤوا بالنّكث وبادروه ولم يؤخّروه ، ولكن لمّا كشف عنهم نكثوا.

قال أبو حيان : «ولا يمكن التّغيية مع ظاهر هذا التقدير». انتهى. يعني فلا بدّ من تأويل الكشف بالاستمرار ، كما تقدّم ، حتّى يصحّ ذلك. وهذه الآية تردّ مذهب من يدّعي في «لمّا» أنّها ظرف ، إذ لا بدّ لها حينئذ من عامل ، وما بعد «إذا» لا يعمل فيما قبلها ، كما تحرّر في موضعه.

وقرأ أبو حيوة (١) وأبو هاشم «ينكثون» بكسر الكاف ، والجمهور على الضّمّ ، وهما لغتان في المضارع.

والنّكث : النّقض ، وأصله : من نكث الصّوف المغزول ليغزل ثانيا ، وذلك المنكوث : نكث ك : ذبح ، ورعي. والجمع : أنكاث ، فاستعير لنقض العهد بعد إحكامه وإبرامه كما في خيوط الأكسية إذا نكثت بعدما أبرمت ، وهذا من أحسن الاستعارات.

قوله : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) هذه الفاء سببيّة ، أي : تسبّب عن النّكث الانتقام ثم إن أريد بالانتقام نفس الإغراق ، فالفاء الثّانية مفسّرة عند من يثبت لها ذلك وإلّا كان التقدير : فأردنا الانتقام ، والانتقام في اللّغة : سلب النعمة بالعذاب.

و «في اليمّ» متعلق ب «أغرقناهم» ، واليمّ : البحر ، والمشهور أنّه عربيّ.

قال ذو الرّمّة : [البسيط]

٢٥٦٤ ـ داويّة ودجى ليل كأنّهما

يمّ تراطن في حافاتها الرّوم (٢)

وقال ابن قتيبة : إنّه البحر بالسّريانيّة.

وقيل : بالعبرانيّة. والمشهور أنه لا يتقيّد ببحر خاص قال الزمخشري : اليمّ : البحر الذي لا يدرك قعره.

وقيل : هو لجّة البحر ومعظم مائه.

وقال الهرويّ ـ في «غريبيه» ـ : واليمّ : البحر الذي يقال له : إساف وفيه غرق فرعون. وهذا ليس بجيد ، لقوله تعالى : (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) [القصص : ٧] والمراد : نيل مصر ، وهو غير الذي غرق فيه فرعون.

فصل

قيل : واشتقاقه من التيمم ، وهو القصد ، لأنّ النّاس يقصدونه.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٣٢.

(٢) ينظر ديوانه ١ / ٤١٠ ، شرح المفصل لابن يعيش ٥ / ١٥٤ ، البحر ٤ / ٣٦٣ جامع البيان ١٣ / ٧٤ ، اللسان : رطن ، الدر المصون ٣ / ٣٣٢.

٢٨٨

قوله : «بأنّهم» الباء للسببيّة ، أي : أغرقناهم بسبب تكذيبهم بآياتنا ، وكونهم عنها غافلين ، أي : غافلين عن آياتنا ، فالضّمير في عنها يعود على الآيات ، وهذا هو الظّاهر.

وبه قال الزّجّاج (١) وغيره.

وقيل : يجوز أن يعود على النّقمة المدلول عليها ب «انتقمنا» ويعزى هذا لابن عباس ، وكأن القائل بذلك تخيّل أنّ الغفلة عن الآيات عذر لهم من حيث إنّ الغفلة ليست من كسب الإنسان.

وقال الجمهور : إنّهم تعاطوا أسباب الغفلة ، فذمّوا عليها ، كما يذمّ الناس على نسيانه لتعاطيه أسبابه.

فصل

قوله : «وأورثنا» يتعدى لاثنين ، لأنّه قبل النّقل بالهمزة متعدّ لواحد نحو : ورثت أبي ، فبالنّقل اكتسب آخر.

فأولهما : القوم والّذين وصلته في محل نصب نعتا له.

وأما المفعول الثّاني ففيه ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنّه (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا).

وفي قوله : (الَّتِي بارَكْنا فِيها) على هذا وجهان : أحدهما : أنّه نعت ل : مشارق ومغارب. والثاني : أنّه نعت للأرض ، وفيه ضعف من حيث الفصل بالمعطوف بين الصفة والموصوف.

وهو نظير قولك : قام غلام هند وزيد العاقلة.

وقال أبو البقاء (٢) هنا : وفيه ضعف ؛ لأنّ فيه العطف على الموصوف قبل الصّفة.

وهذا سبق لسان أو قلم ؛ لأنّ العطف ليس على الموصوف ، بل على ما أضيف إلى الموصوف.

والثاني من الأوجه الثلاثة : أن المفعول الثاني هو : (الَّتِي بارَكْنا فِيها) أي : أورثناهم الأرض التي باركنا فيها.

وفي قوله تعالى : (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) وجهان : أحدهما : هو منصوب على الظّرف ب «يستضعفون». والثاني : أنّ تقديره : يستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها فلمّا حذف الحرف وصل الفعل بنفسه ؛ فنصب ، هكذا قال أبو البقاء.

قال شهاب الدّين : ولا أدري كيف يكونان وجهين ، فإنّ القول بالظّرفية هو عين القول بكونه على تقدير في ؛ لأنّ كلّ ظرف مقدّر ب «في» فكيف يجعل شيئا واحدا شيئين؟

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٢ / ٤١٠.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٢٨٣.

٢٨٩

الوجه الثالث : أنّ المفعول الثّاني محذوف ، تقديره : أورثناهم الأرض ، أو الملك ، أو نحوه ويستضعفون يجوز أن يكون على بابه من الطّلب ، أي : يطلب منهم الضّعف مجازا وأن يكون استفعل بمعنى : وجده ذا كذا ، والمراد بالأرض : أرض الشّام.

وقيل : أرض مصر ، لأنها أرض القبط.

وقيل : مصر والشّام ، ومشارقها ، ومغاربها جهات المشرق ، والمغرب (الَّتِي بارَكْنا فِيها) بإخراج الزّرع ، والثّمار ، والأنهار.

وقيل : المراد جملة الأرض ؛ لأنّه خرج من بني إسرائيل داود وسليمان وقد ملكا الأرض.

قوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى). قرأ الحسن (١) ورويت عن أبي عمرو وعاصم كلمات بالجمع.

قال الزمخشريّ : ونظيره : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) [النجم : ١٨]. يعني في كون الجمع وصف بمفرد.

قال أبو حيّان : ولا يتعيّن في الكبرى ما ذكر لجواز أن يكون التقدير : لقد رأى الآية الكبرى ، فهو وصف مفرد لا جمع ، وهو أبلغ.

قال شهاب الدّين (٢) : في بعض الأماكن يتعيّن ما ذكره الزمخشريّ نحو (مَآرِبُ أُخْرى) [طه : ١٨] وهذه الآية ، فلذلك اختار فيها ما يتعيّن في غيرها والمراد بالكلمة الحسنى : قوله (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٥] إلى قوله (ما كانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص : ٦] والحسنى : تأنيث الأحسن صفة للكلمة.

وقيل : معنى تمام الكلمة : إنجاز الوعد الذي تقدّم بإهلاك عدوهم. ومعنى : «تمّت» أي : مضت واستمرّت من قولهم : تمّ عليه الأمر إذا مضى عليه.

قوله بما صبروا متعلّق ب «تمّت» والباء للسببيّة ، و «ما» مصدرية ، أي : بسبب صبرهم ومتعلّق الصّبر محذوف أي : على أذى فرعون وقومه.

قوله : (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ). يجوز ههنا أوجه : أحدها : أن يكون فرعون اسم كان ، ويصنع خبر مقدم ، والجملة الكونيّة صلة «ما» والعائد محذوف ، والتقدير ودمّرنا الذي كان فرعون يصنعه ، واستضعف أبو البقاء هذا الوجه.

فقال : لأنّ يصنع يصلح أن يعمل في فرعون فلا يقدّر تأخيره ، كما لا يقدّر تأخير الفعل في قولك : قام زيد. يعني : أنّ قولك : «قام زيد» يجب أن يكون من باب الفعل والفاعل ، ولا يجوز أن يدّعى فيه أنّ «قام» فعل وفاعل ، والجملة خبر مقدم ، وزيد : مبتدأ

__________________

(١) ينظر : الشواذ ٤٥ ، الدر المصون ٣ / ٣٣٣.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٣٣.

٢٩٠

مؤخّر لأجل اللّبس بباب الفاعل ، فكذا هنا ؛ لأنّ يصنع يصحّ أن يتسلّط على فرعون فيرفعه فاعلا فلا يدّعى فيه التقديم ، وقد سبقه إلى هذا مكيّ.

وقال : ويلزم من يجيز هذا أن يجيز : يقوم زيد ، على الابتداء والخبر ، والتّقديم والتّأخير ، ولم يجزه أحد.

وقد تقدّمت هذه المسألة وما فيها ، وأنّه هل يجوز أن يكون من باب التّنازع أم لا؟ وهذا الذي ذكراه وإن كان متخيّلا في بادىء الرأي ، فإنه ك : باب الابتداء ، والخبر ، ولكن الجواب عن ذلك : أنّ المانع في «قام زيد» هو اللّبس ، وهو مفقود ههنا.

الثاني : أنّ اسم «كان» ضمير عائد على «ما» الموصولة ، ويصنع مسند ل «فرعون» والجملة خبر «كان» والعائد محذوف أيضا ، والتّقدير : ودمّرنا الذي كان هو يصنعه فرعون.

الثالث : أن تكون «كان» زائدة و «ما» مصدرية والتقدير : ودمّرنا ما يصنع فرعون.

أي : صنعه ، ذكره أبو البقاء.

قال شهاب الدّين (١) : وينبغي أن يجيء هذا الوجه أيضا ، وإن كانت «ما» موصولة اسمية ، على أنّ العائد محذوف تقديره : ودمّرنا الذي يصنعه فرعون.

الرابع : أن «ما» مصدرية أيضا و «كان» ليست زائدة ، بل ناقصة ، واسمها ضمير الأمر والشّأن ، والجملة من قوله يصنع فرعون خبر «كان» فهي مفسّرة للضمير.

وقال أبو البقاء (٢) هنا : وقيل : ليست «كان» زائدة ، ولكن «كان» النّاقصة لا يفصل بها بين «ما» وبين صلتها ، وقد تقدّم ذلك في قوله : (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة : ١٠] وعلى هذا القول تحتاج «كان» إلى اسم.

ويضعف أن يكون اسمها ضمير الشّأن ؛ لأنّ الجملة التي بعدها صلة «ما» فلا تصلح للتّفسير ، فلا يحصل بها الإيضاح ، وتمام الاسم ، والمفسّر يجب أن يكون مستقلا ، فتدعو الحاجة إلى أن يجعل «فرعون» اسم «كان» وفي : «يصنع» ضمير يعود عليه.

قال شهاب الدّين (٣) بعد فرض كونها ناقصة : يلزم أن تكون الجملة من قوله : يصنع فرعون خبرا ل «كان» ويمتنع أن تكون صلة ل «ما».

وقوله : فتدعو الحاجة أي : ذلك الوجه الذي بدأت به ، واستضعفه ، هو الذي احتاج إليه في هذا المكان فرارا من جعل الاسم ضمير الشّأن ، لمّا تخيّله مانعا ، والتّدمير : الإهلاك.

قال الليث : الدّمار : الهلاك التّام ، يقال : دمر القوم يدمرون دمارا : أي : هلكوا

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٣٤.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٢٨٣.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٣٤.

٢٩١

وهو متعدّ بنفسه ، فأمّا قوله : (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) [محمد : ١٠] فمفعوله محذوف ، أي : خرّب عليهم منازلهم وبيوتهم.

وقوله : «ما كان يصنع فرعون وقومه» أي : في أرض مصر من العمارات.

قوله : «يعرشون» قرأ (١) ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم هنا وفي النّحل (يَعْرِشُونَ) بضم الرّاء.

والباقون بالكسر فيهما ، وهما لغتان : عرش الكرم يعرشه ويعرشه. والكسر لغة الحجاز.

قال اليزيديّ : وهي أفصح.

وقال مجاهد : ما كانوا يبنون من القصور والبيوت (٢). وقرىء شاذّا بالغين المعجمة والسّين المهملة ، من غرس الأشجار. وقال الزمخشري وبلغني أنه قرأ بعض الناس يعرشون من عرش وما أظنّه إلّا تصحيفا. وقرأ ابن أبي عبلة يعرّشون بضمّ الياء وفتح العين ، وكسر الرّاء مشدّدة على المبالغة والتّكثير. وهذا آخر قصة فرعون.

قوله تعالى : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ)(١٤٠)

قوله : «وجاوزنا ببني إسرائيل» كقوله : (فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) [البقرة : ٥٠] من كون الباء يجوز أن تكون للتّعدية ، وأن تكون للحاليّة ، كقوله : [الوافر]

٢٥٦٥ ـ ..........

تدوس بنا الجماجم والتّريبا (٣)

وقد تقدّم. و «جاوز» بمعنى : جاز ، ف «فاعل» بمعنى «فعل».

وقرأ الحسن (٤) ، وإبراهيم ، وأبو رجاء ويعقوب جوّزنا بالتّشديد وهو أيضا بمعنى «فعل» المجرد ك قدر وقدّر.

قوله : يعكفون صفة ل «قوم». وقرأ الأخوان (٥) «يعكفون» بكسر الكاف ، وتروى

__________________

(١) ينظر البشر ٢ / ٢٧١ الحجة ص ٢٩٤ إتحاف فضلاء النشر ٢ / ٦١ السبعة ص ٢٩٢ ، الدر المصون ٣ / ٣٣٤.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢١٢) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٣٤.

(٥) ينظر : النشر ٢ / ٢٧١ الحجة ٢٩٤ ، السبعة ٢٩٢ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٦١ ، الدر المصون ٣ / ٣٣٤ ـ ٣٣٥.

٢٩٢

عن أبي عمرو أيضا ، والباقون بالضمّ ، وهما لغتان في المضارع ك «يعرشون». وقد تقدّم معنى «العكوف» واشتقاقه في البقرة.

قال قتادة : كان أولئك القوم من لخم ، وكانوا نزولا بالرّقّة (١).

وقال ابن جريج : كانت تلك الأصنام تماثيل بقر ، وذلك أول شأن قصة العجل (٢).

قال الكلبيّ : عبر بهم موسى البحر يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه ، فصاموه شكرا لله عزوجل.

قوله : (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً) أي : مثالا نعبده. ولم يكن ذلك شكّا من بني إسرائيل في وحدانية الله ، وإنّما معناه : اجعل لنا شيئا نعظمه ، ونتقرب بتعظيمه إلى الله ، وظنّوا أنّ ذلك لا يضر الدّيانة ، وكان ذلك لشدّة جهلهم ؛ لأنّ العبادة غاية التّعظيم ، فلا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام ، وهو خالق الجسم ، والحياة والقدرة ، والعقل ، والأشياء المنتفع بها. وليس ذلك إلّا الله تعالى.

فصل

واعلم أنّ هذا القول لم يصدر عن كلّهم ، وإنّما صدر من بعضهم ؛ لأنّه كان مع موسى السبعون المختارون ، وفيهم من يرتفع عن مثل هذا السّؤال.

قوله كما لهم آلهة الكاف في محلّ نصب صفة ل «إلها» ، أي : إلها مماثلا لإلههم. وفي «ما» ثلاثة أوجه : أحدها : موصولة حرفية ، أي : تتأوّل بمصدر ، وعلى هذا فصلتها محذوفة ، وإذا حذفت صلة «ما» المصدريّة ، فلا بدّ من إبقاء معمول صلتها ، كقولهم : لا أكلّمك ما أنّ حراء مكانه ، أي : ما ثبت أنّ حراء مكانه ، وكذا هنا تقديره : كما ثبت لهم آلهة ، ف «آلهة» فاعل «ثبت» المقدر ، أي : كما أنّ «أنّ» المفتوحة في المثال المتقدم فاعل «ثبت» المقدر.

وقال أبو البقاء (٣) ـ هذا الوجه ـ ليس بجيد «والجملة بعدها صلة لها ، وحسّن ذلك أنّ الظرف مقدّر بالفعل».

فصل

قال شهاب الدّين : كلامه على ظاهره ليس بجيّد ؛ لأنّ «ما» المصدرية لا توصل بالجملة الاسمية على المشهور ، وعلى رأي من يجوّز ذلك ، فيشترط فيها غالبا أن تفهم الوقت كقوله : [الكامل]

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢١٣) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٦) وابن المنذر كما في «الدرّ المنثور» (٣ / ٢١٣).

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٢٨٤.

٢٩٣

٢٥٦٦ ـ واصل خليلك ما التّواصل ممكن

فلأنت أو هو عن قريب ذاهب (١)

ولكنّ المراد أنّ الجارّ مقدّر بالفعل ، وحينئذ تؤول إلى جملة فعليّة ، أي : كما استقرّ لهم آلهة.

الثاني : أن تكون «ما» كافّة لكاف التّشبيه عن العمل ، فإنّها حرف جر ، وهذا كما تكفّ ربّ فيليها الجمل الاسميّة ، والفعليّة ، ولكن ليس ذلك على سبيل الوجوب ، بل يجوز في الكاف وفي «ربّ» مع «ما» الزّائدة بعدهما وجهان : العمل والإهمال ، وعلى ذلك قول الشّاعر : [الطويل]

٢٥٦٧ ـ وتنصر مولانا ونعلم أنّه

كما النّاس مجروم عليه وجارم (٢)

وقول الآخر : [الخفيف]

٢٥٦٨ ـ ربّما الجامل المؤبّل فيهم

وعناجيح بينهنّ المهار (٣)

وروي برفع «النّاس ، والجامل» وجرّهما ، هذا إذا أمكن الإعمال ، أمّا إذا لم يمكن تعيّن أن تكون كافّة كهذه الآية ، إذا قيل : بأن «ما» زائدة.

الثالث : أن تكون «ما» بمعنى «الذي» ، و «لهم» صلتها ، وفيه حينئذ ضمير مرفوع مستتر ، و «آلهة» بدل من ذلك الضّمير ، والتّقدير : كالذي استقرّ هو لهم آلهة.

وقال أبو البقاء (٤) ـ في هذا الوجه ـ : والعائد محذوف ، و «آلهة» بدل منه ، تقديره : كالّذي هو لهم وتسميته هذا حذفا تسامح ؛ لأنّ ضمائر الرفع إذا كانت فاعلة لا توصف بالحذف ، بل بالاستتار.

قوله إنّ هؤلاء متبّر ما هم فيه. هؤلاء إشارة لمن عكفوا على الأصنام ، ومتبّر فيه وجهان : أحدهما : أن يكون خبرا ل «إنّ» و «ما» موصولة بمعنى «الّذي» وهم فيه جملة اسمية صلة وعائده ، وهذا الموصول مرفوع باسم المفعول فتكون قد أخبرت بمفرد رفعت به سببيّا.

والثاني : أن يكون الموصول مبتدأ ، ومتبّر خبره قدّم عليه ، والجملة خبر ل «إنّ».

قال الزمخشريّ (٥) : وفي إيقاع «هؤلاء» اسما ل «إنّ» ، وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبرا لها وسم لعبدة الأصنام بأنّهم هم المعرّضون للتّبار ، وأنّه لا يعدوهم

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) البيت لأبي دؤاد الإيادي ينظر ديوانه ٣١٦ ، ابن الشجري ٢ / ٢٤٣ ، ابن يعيش ٨ / ٢٩ ، المغني ١ / ١٣٧ ، الهمع ٢ / ٢٦ ، الجنى الداني ٤٤٨ ، ٤٥٥ ، ابن الشجري ٢ / ٢٤٣ ، شرح الرضي ٢ / ٣٣٢ ، الأزهية (٩٤) ، الدرر ٢ / ٢٠ ، الخزانة ٩ / ٥٨٦ ، الدر المصون ٣ / ٣٣٥.

(٤) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٢٨٤.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ١٥٠.

٢٩٤

ألبتّة ، وأنّه لهم ضربة لازم ، ليحذّرهم عاقبة ما طلبوا ، ويبغض إليهم ما أحبّوا.

قال أبو حيّان (١) : «ولا يتعيّن ما قاله من تقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبرا ل «إنّ» ؛ لأنّ الأحسن في إعراب مثل هذا أن يكون متبّر خبرا ل «إنّ» وما بعده مرفوع» فذكر ما قرّرته ، ونظّره بقولك : «إنّ زيدا مضروب غلامه».

قال : فالأحسن أن يكون «غلامه» مرفوعا ب «مضروب» ، ثم ذكر الوجه [الثاني] وهو أن يكون «متبّر» خبرا مقدما من الجملة ، وجعله مرجوحا.

وهو كما قال ؛ لأنّ الأصل في الأخبار أن تكون مفردة ، فما أمكن فيها ذلك لا يعدل عنه ، إلا أنّ الزمخشريّ لم يذكر ذلك على سبيل التّعيين ، بل على أحد الوجهين وقد يكون هذا عنده أرجح من جهة ما ذكر من المعنى ، وإذا دار الأمر بين مرجّح لفظيّ ، ومرجّح معنويّ فاعتبار المعنويّ أولى ، ولا أظنّ حمل الزمخشري على ذلك إلا ما ذكرت.

وقوله «وباطل ما كانوا» كقوله «متبّر ما هم فيه» من جواز الوجهين وما ذكر فيهما.

والتتبير : الإهلاك ، ومنه «التّبر» وهو كسارة الذّهب ، لتهالك النّاس عليه.

وقيل : التّتبير : التّكسير ، والتّحطيم. والبطلان قيل : عدم الشّيء إمّا بعدم ذاته ، وإما بعدم فائدته ومقصوده.

قوله «أغير الله» الهمزة للإنكار ، والتّوبيخ ، وفي نصب غير وجهان : أحدهما : أنّه مفعول به ل «أبغيكم» على حذف اللّام ، تقديره : أبغي لكم غير الله ، أي : أطلب لكم فلمّا حذف الحرف ، وصل الفعل بنفسه ، وهو غير منقاس ، وفي إلها على هذا وجهان : أظهرهما : أنّه تمييز ل «غير» ، والثاني : أنّه حال ، ذكره أبو حيان وفيه نظر.

والثاني من وجهي «غير» : أنّه منصوب على الحال من إلها وإلها هو المفعول به ل «أبغيكم» على ما تقرّر ، والأصل : أبغي لكم إلها غير الله ، ف «غير الله» صفة ل : إله ، فلمّا قدّمت صفة النّكرة عليها نصبت حالا.

وقال ابن عطيّة : و «غير» منصوبة بفعل مضمر ، هذا هو الظّاهر ، ويجوز أن يكون حالا. وهذا الذي ذكره من إضمار الفعل لا حاجة إليه فإن أراد أنّه على الاشتغال فلا يصحّ ؛ لأنّ شرطه أن يعمل المفسّر في ضمير الأوّل ، أو سببه.

قوله : «أبغيكم» قال الواحديّ :

يقال : بغيت فلانا شيئا وبغيت له.

قال تعالى : (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) [التوبة : ٤٧] أي : يبغون لكم. والمعنى : أطلب لكم غير الله معبودا.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨.

٢٩٥

واعلم أنّ موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لما قالوا له : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) أجابهم بوجوه كثيرة : أوّلها : حكم عليهم بالجهل فقال : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ).

وثانيها : قوله : «إنّ هؤلاء متبّر ما هم فيه» أي : بسبب الخسران والهلاك.

وثالثها : قوله : (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي هذا العمل الشّاق لا يفيدهم نفعا في الدّنيا والدّين.

ورابعها : استفهامه منهم على وجه الإنكار والتّوبيخ ، فقال : (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي : أن الإله ليس شيئا يطلب ويتخذ ، بل الإله هو الذي يكون قادرا على الإنعام بالإيجاد وإعطاء الحياة ، وجميع النّعم ، وهو المراد بقوله : (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) ، فهذا هو الذي يجب على الخلق عبادته ، فكيف يجوز العدول عن عبادته إلى عبادة غيره.

قوله : (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ) يجوز أن يكون في محلّ نصب على الحال ، إمّا من الله وإمّا من المخاطبين ؛ لأنّ الجملة مشتملة على كلّ من ضميريهما ، ويجوز ألّا يكون لها محلّ ، لاستئنافها.

وفي هذا التّفضيل قولان : الأول : أنّه تعالى فضلكم على عالمي زمانكم ، الثاني : أنّه تعالى خصّهم بتلك الآيات القاهرة ، ولم يحصل مثلها لأحد من العالمين ، وإن كان غيرهم فضلهم بسائر الخصال ، مثل : رجل تعلم علما واحدا ، وآخر تعلم علوما كثيرة سوى ذلك العلم ، فصاحب العلم الواحد يفضل على صاحب العلوم الكثيرة بذلك الواحد ، إلّا أنّ صاحب العلوم الكثيرة يفضل على صاحب العلم الواحد في الحقيقة.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (١٤٣)

قوله : (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ). قرأ العامة مسندا إلى المعظّم ، وابن عامر أنجاكم مسندا إلى ضمير الله (١) تعالى جريا على قوله : (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ) ، وقرىء (٢) : «نجّيناكم» مشدّدا ،

__________________

(١) ينظر : إعراب القراءات ١ / ٢٠٤ ، وحجة القراءات ٢٩٤ ، وإتحاف فضلاء البشر ٢ / ٦١.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٧٨ ، والدر المصون ٣ / ٣٣٧.

٢٩٦

و [قد] تقدّم الخلاف في تشديد «يقتلون» وتخفيفها قبل هذه الآية ، وتقدّم في البقرة إعراب هذه الآية وتفسيرها.

فصل

والفائدة في ذكرها ههنا : أنّه تعالى هو الذي أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة ، فكيف يليق الاشتغال بعبادة غير الله تعالى.

قوله : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ) تقدّم الخلاف في «وعدنا» و «واعدنا» وأنّ الظّرف بعد مفعول ثان على حذف مضاف ، ولا يجوز أن يكون ظرفا لفساد المعنى في البقرة فكذا هنا ، أي : وعدناه تمام ثلاثين ، أو إتيانها ، أو مناجاتها.

قوله : (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) في هذا الضمير قولان : أحدهما : أنّه يعود على المواعدة المفهومة من واعدنا أي : وأتممنا مواعدته بعشر.

الثاني : أنّه يعود على ثلاثين قاله الحوفي.

قال أبو حيّان : ولا يظهر ؛ لأنّ الثلاثين لم تكن ناقصة فتتمّ بعشر ، وحذف تمييز عشر لدلالة الكلام عليه أي : وأتممناها بعشر ليال ، وفي مصحف أبي وتمّمناها بالتّضعيف ، عدّاه بالتّضعيف.

قوله : (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ) الفرق بين الميقات ، والوقت ، أن الميقات : ما قدّر فيه عمل من الأعمال ، والوقت : وقت الشّيء من غير تقدير عمل ، أو تقريره.

وفي نصب «أربعين» أربعة أوجه :

أحدها : أنّه حال.

قال الزّمخشريّ : «وأربعين» نصب على الحال : أي تمّ بالغا هذا العدد.

قال أبو حيان فعلى هذا لا يكون الحال «أربعين» ، بل الحال هذا المحذوف فينافي قوله.

قال شهاب الدّين : لا تنافي فيه ؛ لأنّ النّحاة لم يزالوا ينسبون الحكم للمعمول الباقي بعد حذف عامله المنوب عنه ، وله شواهد منها : زيد في الدّار ، أو عندك.

فيقولون : الجارّ والظّرف خبر ، والخبر في الحقيقة : إنّما هو المحذوف المقدّر العامل فيهما ، وكذا يقولون : جاء زيد بثيابه ، ف «بثيابه» حال ، والحال إنّما هو العامل فيه إلى غير ذلك وقدّره الفارسي ب : معدودا.

قال : كقولك : ثمّ القوم عشرين رجلا ، أي : معدودين هذا العدد وهو تقدير حسن.

الثاني : أنّه ينتصب أربعين على المفعول به.

قال أبو البقاء (١) : «لأنّ معناه بلغ ، فهو كقولهم : بلغت أرضك جريبين» أي : بتضمين «تمّ» معنى «بلغ».

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٢٨٤.

٢٩٧

الثالث : أنّه منصوب على الظّرف.

قال ابن عطيّة : «ويصحّ أن يكون أربعين ظرفا من حيث هي عدد أزمنة» ، وفي هذا نظر ، كيف يكون ظرفا للتّمام ، والتّمام إنما هو بآخر جزء من تلك الأزمنة؟ إلا بتجوّز بعيد ، وهو أنّ كلّ جزء من أجزاء الوقت سواء كان أولا أم آخرا إذا نقص ذهب التّمام.

الرابع : أن ينتصب على التّمييز.

قال أبو حيّان (١) : والأصل : فتمّ أربعون ميقات ربّه ، ثمّ أسند التّمام إلى ميقات وانتصب أربعون على التّمييز. فهو منقول من الفاعليّة ، يعني فيكون كقوله : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٤] وهذا الذي قاله وجعله هو الذي يظهر يشكل بما ذكره هو في الرّدّ على الحوفيّ ؛ حيث قال هناك «إنّ الثلاثين لم تكن ناقصة ، فتتمّ» لذلك ينبغي أن يقال هنا : إن الأربعين لم تكن ناقصة فتتم فكيف يقدّر : فتمّ أربعون ميقات ربّه؟ فإن أجاب هنا بجواب ، فهو جواب هناك لمن اعترض عليه.

وقوله : (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) في هذه الجملة قولان.

أظهرهما : أنّها للتأكيد ؛ لأنّ قوله قبل ذلك : (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) فهم أنّها أربعون ليلة.

وقيل : بل هي للتّأسيس ، لاحتمال أن يتوهّم متوهّم بعشر ساعات ، أو غير ذلك ، وهو بعيد.

وقوله ربّه ولم يقل : ميقاتنا جريا على «واعدنا» لما في إظهار هذا الاسم الشّريف من الاعتراف بربوبية الله له وإصلاحه له.

فصل

روي أنّ موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وعد بني إسرائيل وهو بمصر : إن أهلك الله عدوّهم ؛ أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلمّا هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب فهذه الآية في بيان كيفية نزول التّوراة.

فصل

فإن قيل : «الأربعون» المذكورة في البقرة : هي هذه الأربعون المفصّلة ههنا ، فما فائدة التّفصيل؟ فالجواب من وجوه :

الأول : أنّه تعالى أمر موسى بصوم ثلاثين يوما ، وهو شهر ذي القعدة فلمّا تمّ الثّلاثين أنكر خلوف فيه فتسوّك فقالت الملائكة : كنا نشم من فيك رائحة المسك ؛ فأفسدته بالسّواك ، فأوحى الله إليه أما علمت أنّ خلوف فم الصّائم أطيب عندي من ريح

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٧٩.

٢٩٨

المسك؟ فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجّة لهذا السّبب.

الثاني : أنّ الله تعالى أمره بصوم ثلاثين يوما ، وأن يعمل فيها ما يقرّبه إلى الله تعالى ، ثم أنزل التّوراة العشر من ذي الحجّة ، وكلّمه أيضا فيه فهذه فائدة تفصيل الأربعين إلى الثّلاثين ، وإلى العشرة.

قال ابن عبّاس ومسروق ومجاهد : الثّلاثين ليلة هي شهر ذي القعدة بكماله ، وأتمت أربعين ليلة بعشر ذي الحجّة ، فعلى هذا يكون كلام ربه له يوم عيد النّحر (١).

وفي مثله أكمل الله عزوجل دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الثالث : قال أبو مسلم في سورة طه : إنّ موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ بادر إلى ميقات ربه قبل قومه ، لقوله تعالى : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) [طه : ٨٣ ، ٨٤].

فجائز أن يكون موسى أتى الطّور عند تمام الثلاثين ، فلمّا أعلمه الله خبر قومه مع السّامري ، رجع إلى قومه قبل تمام ما وعده ، ثمّ عاد إلى الميقات في عشر أخر ، فتم ميقات ربه أربعين ليلة.

الرابع : قيل لا يمتنع أن يكون الوعد الأول حضره موسى عليه الصلاة والسلام وحده ، والوعد الثاني حضره المختارون معه ليسمعوا كلام الله ، فصار الوعد مختلفا لاختلاف الحاضرين.

قوله : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي). الجمهور على فتح نون هارون وفيه ثلاثة أوجه :

الأول : أنه مجرور بدلا من أخيه. الثاني : أنّه عطف بيان له. الثالث : أنه منصوب بإضمار: أعني ، وقرىء (٢) شاذا بالضّمّ ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنّه منادى حذف منه حرف النّداء ، أي : يا هارون كقوله : (يُوسُفُ) [يوسف : ٢٩].

والثاني : أنّه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو هارون. وهذا في المعنى كالوجه الذي تقدّم من أنه منصوب بإضمار : أعني ، فإنّ كليهما قطع.

وقال أبو البقاء (٣) : «ولو قرىء بالرّفع» وذكرهما ، وكأنّه لم يطّلع على أنها قراءة.

قال : «ومن دعاك منهم إلى الفساد ؛ فلا تتبعه ، ولا تطعه» وقال اخلفني أي : كن

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٨) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢١٤) عن ابن عباس وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ من طرق عنه.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ١٥١ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٧٩ ، والدر المصون ٣ / ٣٣٨.

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٢٨٤.

٢٩٩

خليفتي في قومي وأصلح وكن مصلحا ، أو وأصلح ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائيل.

(وَقالَ مُوسى) عند انطلاقه إلى المناجاة لأخيه هارون.

فإن قيل : إن هارون كان شريك موسى ـ عليهما الصّلاة والسّلام ـ في النبوّة ، فكيف جعله خليفة لنفسه ؛ فإن شريك الإنسان أعلى حالا من خليفته ورد الإنسان من منصبه الأعلى إلى الأدنى يكون إهانة له.

فالجواب : أن الأمر ، وإن كان كما ذكرتم ، إلّا أنّ موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ كان هو الأصل في تلك النبوّة.

فإن قيل : لما كان هارون نبيّا ، والنّبيّ لا يفعل إلّا الأصلح فكيف وصّاه بالإصلاح؟ فالجواب : أنّ المقصود من هذا الأمر : التّأكيد كقوله تعالى : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠].

قوله : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) اللام في لميقاتنا للاختصاص ، وكذا في قوله تعالى : (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨] ، وليست بمعنى عند.

قوله : (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) ، هذه الفائدة التي لأجلها حضر موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ الميقات واختلفوا في أنّه تعالى كلّم موسى وحده ، أو مع أقوام آخرين. وظاهر الآية أنّه تعالى كلّمه وحده ؛ لأنّه يدلّ على تخصيص موسى بهذا التّشريف.

وقال القاضي : «بل السّبعون المختارون سمعوا كلام الله ؛ لأن الغرض بإحضارهم أن يخبروا قوم موسى عمّا يجري هناك».

فصل

دلّت الآية على أنّه تعالى يجوز أن يرى ؛ لأنّ موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ سأل الرّؤية ، ولا شكّ أنّه كان عارفا بما يجب ويجوز ويمتنع على الله ، فلو كانت الرّؤية ممتنعة على الله تعالى لما سألها ، وأنكرت المعتزلة ذلك ، والبحث في هذه المسألة مذكور في كتب أصول الدّين.

فصل

نقل عن ابن عبّاس أنه قال : جاء موسى ومعه السّبعون ، وصعد موسى الجبل وبقي السّبعون في أسفل الجبل ، وكلّم الله موسى ، وكتب له في الألواح كتابا وقرّبه نجيّا ، فلمّا سمع موسى صرير القلم عظم شوقه.

فقال : «ربّ أرني أنظر إليك» (١).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٩٠) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٢٠) وعزاه لأبي الشيخ.

٣٠٠