اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

فصل في دحض شبهة للملاحدة

لا يلتفت إلى ما ذكره بعض الملاحدة في قوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) ، وفي موضع آخر (الصَّيْحَةُ) [هود : ٦٧] ، وفي موضع آخر (بِالطَّاغِيَةِ) [الحاقة : ٥] واعتقد ما لا يجوز من وجوب التناقض إذ لا منافاة بين ذلك فإن الرجفة مترتبة على الصّيحة ؛ لأنّه لمّا صيح بهم ؛ رجفت قلوبهم فماتوا ، فجاز أن يسند الإهلاك إلى كل منهما.

وأمّا «بالطّاغية» فالباء للسببية ، والطّاغية : الطغيان مصدر كالعاقبة ، ويقال للملك الجبّار : طاغية ، والتّاء فيه كعلّامة ونسّابة ، ففي أهلكوا بالطاغية ، أي : بطغيانهم كقوله : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) [الشمس : ١١].

قال أبو مسلم (١) : «الطّاغية : اسم لكلّ ما تجاوز عن حدّه سواء كان حيوانا أو غير حيوان ، قال تعالى في الحيوان : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) [العلق : ٦] ، وقال : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) [الشمس : ١١].

وقال في غير الحيوان : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) [الحاقة : ١١] أي : غلب وتجاوز عن الحدّ.

فصل في شهود الناقة

قيل إنّ القوم قد شاهدوا خروج النّاقة من الصخرة ، وذلك معجزة قاهرة تلجىء المكلف ، وأيضا شاهدوا الماء الذي كان شربا لكل أولئك الأقوام في أحد اليومين ، كان شربا لتلك النّاقة الواحدة في اليوم الثّاني ، وذلك معجزة قاهرة تقرب المكلف من الإلجاء.

وأيضا إنّ القوم لما نحروها توعدهم صالح بالعذاب ، وشاهدوا صدقه على ما روي أنّهم احمروا في اليوم الأوّل ، واصفرّوا في اليوم الثّاني ، واسودّوا في اليوم الثالث ، مع مشاهدة تلك المعجزة (٢) العظيمة ، ثم شاهدوا علامات نزول العذاب الشديد في آخر الأمر ، هل يحتمل أن يبقى العاقل مع هذه الأحوال مصرّا على كفره؟

فالجواب : أن يقال : إنّهم قبل مشاهدتهم تلك العلامات من نزول العذاب كانوا يكذبون ، فلما نزلت بهم أول علامات العذاب وشاهدوها خرجوا عند ذلك عن حد التكليف فلم تكن توبتهم مقبولة.

قوله : «فأصبحوا» يجوز أن تكون النّاقصة و «جاثمين» خبرها و «في دارهم» متعلّق به ، ولا يجوز أن يكون الجارّ خبرا و «جاثمين» حال ، لعدم الفائدة بقولك : (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) ، وإن جاز الوجهان في قولك : أصبح زيد في الدّار جالسا.

ويجوز أن تكون التامة ، أي : دخلوا في الصباح ، و «جاثمين» حال ، والأول أظهر.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٣٥.

(٢) في أ : المعجزات.

٢٠١

قوله : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ).

قيل : إنه تولى عنهم بعد موتهم لقوله تعالى : (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ فَتَوَلَّى) و «الفاء» تقتضي التعقيب.

وقيل : تولّى عنهم قبل موتهم لقوله : (يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) فدلّ ذلك على كونهم أحياء من ثلاثة أوجه :

[الأول] : قوله لهم : «يا قوم» ، والأموات لا يوصفون بالقوم ، لاشتقاق لفظ القوم من القيام ، وهو مفقود في حقّ الميت.

والثاني : أنّ هذه الكلمات خطاب معهم ، وخطاب الميت لا يجوز.

والثالث : قوله : (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) يقتضي كونهم بحيث تصحّ حصول المحبّة فيهم.

ويمكن الجواب : بأنّه قد يقول الرّجل لصاحبه الميت ، وقد كان نصحه فلم يقبل النّصيحة ، حتى ألقى نفسه في الهلاك : يا أخي منذ كم نصحتك فلم تقبل ، وكم منعتك فلم تمتنع ، فكذا هاهنا.

وفائدته : إمّا لأن يسمعه الحيّ فيعتبر به ، وينزجر عن مثل تلك الطريقة ، وإما لإحراق (١) قلبه بسبب تلك الواقعة ، فإذا ذكر ذلك الكلام فرّجت تلك القضية من قلبه.

وذكروا جوابا آخر ، وهو أن صالحا ـ عليه‌السلام ـ خاطبهم بعد كونهم «جاثمين» ، كما خاطب نبينا ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ قتلى «بدر».

فقيل : تتكلم مع هؤلاء الجيف؟ فقال : «ما أنتم بأسمع منهم ، ولكن لا يقدرون على الجواب».

وقيل : في الآية تقديم وتأخير ، تقديره : فتولّى عنهم وقال : يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربّي ، فأخذتهم الرجفة.

قوله تعالى : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ)(٨١)

قوله تعالى : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) القصة. في نصب «لوطا» وجهان :

أحدهما : أنه منصوب ب «أرسلنا» الأوّل ، و «إذ» ظرف الإرسال.

والثاني : أنّه منصوب بإضمار «اذكر» ، وفي العامل في الظرف حينئذ وجهان :

أحدهما ـ وهو قول الزمخشريّ أنّه بدل من «لوطا» قال : «بمعنى : واذكر وقت إذ قال لقومه» وهذا على تسليم تصرف «إذ».

__________________

(١) في أ : لاحتراق.

٢٠٢

والثاني : أنّ العامل فيها مقدّر تقديره : «واذكر رسالة لوط إذ قال» ف «إذ» منصوب ب «رسالة». قاله أبو البقاء (١) ، والبدل حينئذ بدل اشتمال.

وصرّف نوح ولوط لخفّته ، فإنّه ساكن الوسط ، مركب من ثلاثة أحرف.

قال الزّجّاج (٢) : زعم بعض النّحويين يعني الفرّاء : أنّ لوطا يجوز أن يكون مشتقا من لطت الحوض إذا ملسته بالطين ، وهذا غلط ؛ لأنّ الأسماء الأعجميّة لا تشتق كإسحاق ، فلا يقال : إنه من السّحق وهو البعد ؛ وإنّما صرف لخفته ؛ لأنّه على ثلاثة أحرف ساكن الوسط ، فأمّا لطت الحوض ، وهذا أليط فصحيح ، ولكن الاسم أعجميّ كإبراهيم وإسحاق.

وهو : لوط بن هاران بن تارخ ابن أخي إبراهيم ، كان في أرض بابل مع عمه إبراهيم ، فهاجر إلى الشّام ، فنزل إبراهيم إلى فلسطين ، وأنزل لوطا الأردن ، فأرسله الله عزوجل إلى أهل سدوم.

قوله : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) أتفعلون السيئة المتناهية في القبح ، وذكرها باسم الفاحشة ليبين أنّها زنا (٣) لقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) [الإسراء : ٣٢].

(ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) في هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنّها مستأنفة لا محلّ لها من الإعراب ، وعلى الاستئناف يحتمل أن تكون جوابا لسؤال وألا تكون جوابا.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٧٩.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١٥٥.

(٣) يرجم اللائط والملوط به متى كانا مكلفين ، ويشترط في الرجم باللواطة بالنسبة للفاعل تكليفه ، وبالنسبة للمفعول تكليفه ، وتكليف الفاعل.

ومن هذا يستنتج أن الفاعل لو كان مكلفا فقط لم يرجم المفعول ، وأن الفاعل لو كان غير مكلف لم يرجم واحد منهما كما لو كانا غير مكلفين ، ولما كانت اللواطة من فظائع الأمور ، وكان المرتكب لها مخالفا للسنن الإلهية ، وقد عاقب الله قوم لوط بأشد أنواع العذاب قال تعالى في حقهم : (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) عن ابن عباس قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» رواه الخمسة إلا النسائي.

حكم الإمام مالك في اللواطة بالرجم (وهو مذهب الشعبي ، والزهري ومالك ، وأحمد ، والشافعي في قول له) ، وذهب جمع أنه يحرق بالنار منهم أبو بكر ، وعبد الله بن الزبير ، وهشام بن عبد الله.

وذهب سعيد بن المسيب ، وعطاء بن أبي رباح ، والحسن ، والثوري ، والأوزاعي والإمام يحيى ، والشافعي في قول له أنه كالزنا.

وذهب أبو حنيفة ، والشافعي في قول له ، والمرتضى ، والمؤيد بالله إلى أنه يعزّر اللوطي فقط.

ولم يشترط ما اشترطه في الرجم من الإحصان ، والإسلام ، والحرية واختلفوا في الفاعل المكره فقيل يرجم بناء على المشهور من أن الانتشار اختيار وقيل لا يرجم لأن الإكراه شبهة تدرأ الحد.

أما المفعول به المكره فينبغي أن لا يرجم قولا واحدا.

إذا كان المرتكب لهذه الجريمة ممن لم يبلغوا الحلم ، وقد كان مميزا فعقابه التأديب بما يراه الإمام زاجرا.

٢٠٣

قال الزّمخشريّ (١) : «فإن قلت : ما موقع هذه الجملة»؟

قلت : لا محلّ لها لأنّها مستأنفة ، أنكر عليهم أوّلا بقوله : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) ثمّ وبخهم عليها فقال : أنتم أوّل من عملها. أو تكون جوابا لسؤال مقدّر ، كأنّهم قالوا : لم لا تأتيها؟

فقال : «ما سبقكم بها أحد ؛ فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به» وعلى هذا فتكون صفة للفاحشة ، كقوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧] وقال الشّاعر : [الكامل]

٢٥١١ ـ ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني

 .......... (٢)

والباء في «بها» فيها وجهان :

أظهرهما أنها حالية ، أي : ما سبقكم أحد مصاحبا لها أي : ملتبسا بها.

والثاني : أنّها للتعدية.

قال الزمخشريّ (٣) : الباء للتعدية من قولك : «سبقته بالكرة» إذا ضربتها قبله. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : «سبقك بها عكّاشة» (٤).

قال أبو حيان : «والتّعدية هنا قلقة جدا ؛ لأنّ «الباء» المعدّية في الفعل المتعدي لواحد [هي] بجعل المفعول الأوّل يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة ، وبيان ذلك أنّك إذا قلت : «صككت الحجر بالحجر» كان معناه : أصككت الحجر بالحجر أي : جعلت الحجر يصكّ الحجر ، فكذلك : دفعت زيدا بعمرو عن خالد ، معناه : أدفعت زيدا عمرا عن خالد أي جعلت زيدا يدفع عمرا عن خالد فللمفعول الأوّل تأثير في الثّاني ولا يصحّ هذا المعنى هنا ؛ إذ لا يصحّ أن يقدّر : أسبقت زيدا الكرة أي : جعلت زيدا يسبق الكرّة إلا بمجاز متكلّف ، وهو أن تجعل ضربك للكرة أول جعل ضربة قد سبقها أي : تقدّمها في الزمان فلم يجتمعا».

و «من» الأولى لتأكيد استغراق النفي والثانية للتبعيض.

والوجه الثاني من وجهي الجملة : أنّها حال ، وفي صاحبها وجهان :

أحدهما : هو الفاعل أي : أتأتون مبتدئين بها.

والثاني : هو المفعول أي : أتأتونها مبتدأ بها غير مسبوقة من غيركم.

قال عمرو بن دينار : «ما يراد ذكر على ذكر في الدّنيا حتى كان قوم لوط».

قوله : «أإنّكم» قرأ نافع (٥) وحفص عن عاصم : «إنكم» على الخبر المستأنف ، وهو بيان لتلك الفاحشة. وقرأ الباقون بالاستفهام المقتضي للتّوبيخ ، فقرأ ابن كثير بهمزة غير

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ١٢٥.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ١٢٥.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : السبعة ٢٨٥ ، ٢٨٦ ، والحجة ٤ / ٤٣ ، ٤٤ ، وحجة القراءات ٢٨٧ ، وإعراب القراءات ١ / ١٩٢ ، والعنوان ٩٦ ، وشرح شعلة ٣٩٢ ، وإتحاف ٢ / ٥٤.

٢٠٤

ممدودة وتليين الثّانية ، وقرأ أبو عمرو بهمزة ممدودة للتّخفيف وتليين الثانية ، والباقون بهمزتين على الأصل.

قال الواحديّ (١) : «كان هذا استفهاما معناه الإنكار لقوله تعالى : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ،) وكلّ واحد من الاستفهامين جملة مستقلة غير محتاجة في تمامها إلى شيء آخر».

قوله : (لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً) قيل : نصب «شهوة» على أنه مفعول من أجله ، أي : لأجل الاشتهاء لا حامل لكم عليه إلّا مجرّد الشّهوة لا غير.

وقيل : إنّها مصدر واقع موقع الحال ، أي : مشتهين أو باق على مصدريّته ، ناصبه «أتأتون» ؛ لأنّه بمعنى أتشتهون.

ويقال : شهي يشهى شهوة ، [وشها يشهو شهوة](٢) قال الشّاعر : [الطويل]

٢٥١٢ ـ وأشعث يشهى النّوم قلت له : ارتحل

إذا ما النّجوم أعرضت واسبكرّت (٣)

وقد تقدّم ذلك في آل عمران (٤).

قوله : «من دون النّساء» فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه متعلق بمحذوف ، لأنّه حال من «الرّجال» أي : أتأتونهم منفردين عن النّساء.

والثاني : أنّه متعلّق ب «شهوة» ، قاله الحوفيّ. وليس بظاهر أن تقول : «اشتهيت من كذا» ، إلّا بمعنى غير لائق هنا.

والثالث : أن يكون صفة ل «شهوة» أي : شهوة كائنة من دونهن.

قوله : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) «بل» للإضراب ، والمشهور أنه إضراب انتقال من قصّة إلى قصّة ، فقيل : عن مذكور ، وهو الإخبار بتجاوزهم عن الحدّ في هذه الفاحشة ، أو عن توبيخهم وتقريرهم ، والإنكار عليهم.

وقيل : بل للإضراب عن شيء محذوف. واختلف فيه :

فقال أبو البقاء (٥) : «تقديره : ما عدلتم بل أنتم».

وقال الكرمانيّ : «بل» ردّ لجواب زعموا أن يكون لهم عذرا أي : «لا عذر لكم بل».

وجاء هنا بصفة القوم اسم الفاعل وهو «مسرفون» ؛ لأنّه أدلّ على الثّبوت ولموافقة رءوس الآي ؛ فإنّها أسماء.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٣٧.

(٢) سقط من أ.

(٣) البيت للحطيئة ينظر : ديوانه (١١٨) ، الطبري ١٢ / ٥٤٨ ، الدر المصون ٣ / ٢٩٨.

(٤) ينظر تفسير الآية (١٤) من سورة آل عمران.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٧٩.

٢٠٥

وجاء في النمل [٥٥] (تَجْهَلُونَ) دلالة على أنّ جهلهم يتجدد كل وقت ولموافقة رءوس الآي فإنها أفعال.

فصل في الإسراف

معنى «مسرفون» أي : يتجاوزون الحلال إلى الحرام.

قال الحسن : «كانوا لا ينكحون إلا الغرباء» (١).

وقال الكلبيّ : «إنّ أوّل من عمل عمل قوم لوط إبليس ؛ لأنّ بلادهم أخصبت فانتجعها (٢) أهل البلدان ، فتمثل لهم إبليس في صورة شابّ ، ثم دعا إلى دبره فنكح في دبره ، فأمر الله ـ تعالى ـ السّماء أن تحصبهم ، والأرض أن تخسف بهم (٣).

قوله تعالى : (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (٨٢)

قوله : (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) العامّة على نصب «جواب» خبرا للكون ، والاسم «أن» وما في حيّزها وهو الأفصح ؛ إذ فيه جعل الأعراف اسما.

وقرأ الحسن (٤) «جواب» بالرّفع ، وهو اسمها ، والخبر «إلّا أن قالوا» وقد تقدّم ذلك.

وأتى هنا بقوله «وما» ، وفي النّمل [٥٦] والعنكبوت [٢٤] «فما» ، والفاء هي الأصل في هذا الباب ؛ لأنّ المراد أنّهم لم يتأخر جوابهم عن نصيحته ، وأما الواو فالتعقيب أحد محاملها ، فتعيّن هنا أنّها للتعقيب لأمر خارجي وهي العربية في السّورتين المذكورتين لأنّها اقتضت ذلك بوضعها.

قوله : (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي : أخرجوا لوطا وأتباعه ، (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي : يتنزهون عن أدبار الرّجال.

وقيل : «يتطهّرون» يتباعدون عن المعاصي والآثام.

وقيل : «يتطهّرون» أي على سبيل السخرية بهم ، كما يقول بعض الفسقة لمن وعظه من الصلحاء : أبعدوا عنّا هذا المتقشّف ، وأريحونا من هذا المتزهّد (٥).

قوله تعالى : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ)(٨٣)

المراد ب «أهله» : أنصاره وأتباعه.

__________________

(١) ذكره القرطبي في تفسيره (٧ / ١٥٦) عن الحسن.

(٢) النّجعة : عند العرب : المذهب في طلب الكلإ في موضعه. ينظر اللسان (نجع).

(٣) ذكره القرطبي في تفسيره ٧ / ١٥٦.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٢٥ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٣٧ ، والدر المصون ٣ / ٢٩٨.

(٥) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٤ / ١٣٩).

٢٠٦

وقال ابن عباس : «المراد : ابنتاه» وقوله : «إلا امرأته» أي : زوجته ، يقال : امرأة الرّجل أي زوجته ويقال : رجل المرأة بمعنى زوجها ؛ لأنّ الزوج بمنزلة المالك لها ، وليست المرأة بمنزلة المالك للرّجل.

وقوله : «من الغابرين» يعني الباقين في العذاب.

وقيل : من الباقين المعمّرين قد أتى عليها دهر طويل فهلكت ، فهي مع من هلك.

يقال : غبر الشيء يغبر غبورا إذا مكث وبقي.

وقوله : «كانت من الغابرين» جواب السؤال مقدّر ، وهذا كما تقدم في البقرة ، وفي أوّل هذه السّورة في قصة «إبليس».

والغابر : المقيم وهذا [هو] مشهور اللّغة ، وأنشدوا قول أبي ذؤيب الهذلي : [الكامل]

٢٥١٣ ـ فغبرت بعدهم بعيش ناصب

وإخال أنّي لاحق مستتبع (١)

ومنه غبّر اللبن لبقيته في الضّرع ، وغبّر الحيض أيضا ، قال أبو كبير الهذليّ ، ويروى لتأبّط شرّا : [الكامل]

٢٥١٤ ـ ومبرّأ من كلّ غبّر حيضة

وفساد مرضعة وداء معضل (٢)

ومعنى «من الغابرين» في الآية أي : من المقيمين في الهلاك.

وقال بعضهم : «غبر بمعنى مضى وذهب» ومعنى الآية يساعده ؛ وأنشد للأعشى : [السريع]

٢٥١٥ ـ عضّ بما أبقى المواسي له

من أمّه في الزّمن الغابر (٣)

أي : الزمان الماضي.

وقال بعضهم : غبر : أي غاب ، ومنه قولهم : «غبر عنّا زمانا».

وقال أبو عبيدة (٤) : «غبر : عمّر دهرا طويلا حتّى هرم» ، ويدلّ له : (إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) [الصافات : ١٣٥].

وقد تقدّم. والحاصل أنّ الغبور مشترك ك «عسعس» ، أو حقيقة ومجاز وهو المرجح. والغبار : ما يبقى من التّراب المثار ومنه : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) [عبس : ٤٠]

__________________

(١) البيت لأبي ذؤيب الهذلي ينظر تخليص الشواهد ٤٤٨ ، الدرر ٢ / ٢٥٩ ، شرح شواهد المغني ١ / ٢٦٢ ، شرح أشعار الهذليين ١ / ٨ ، المقاصد النحوية ٣ / ٤٩٤ ، المنصف ١ / ٣٢٢ ، همع الهوامع ١ / ١٥٣ ، وللهذلي في مغني اللبيب ١ / ٢٣١ ، الدر المصون ٣ / ٢٩٩.

(٢) البيت ينظر : ديون الهذليين ٢ / ٩٣ ، الدر المصون ٣ / ٢٩٩.

(٣) البيت للأعشى ينظر : ديوانه ١٩٥ ، اللسان (غبر) الدر المصون ٣ / ٢٩٩.

(٤) ينظر مجاز القرآن ١ / ٢١٨.

٢٠٧

تخييلا لتغيرها واسودادها والغبراء : الأرض ؛ قال طرفة : [الطويل]

٢٥١٦ ـ رأيت بني غبراء لا ينكرونني

ولا أهل هذاك الطّراف الممدّد (١)

قوله تعالى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)(٨٤)

قوله : «وأمطرنا» قال أبو عبيد : «يقال : مطر في الرحمة ، وأمطر في العذاب».

وقال [أبو القاسم](٢) الرّاغب (٣) : ويقال : مطر في الخير ، وأمطر في العذاب ، قال تعالى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً) [الحجر : ٧٤].

وهذا مردود بقوله تعالى : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) [الأحقاف : ٢٤] فإنهم إنّما عنوا بذلك الرحمة ، وهو من أمطر : رباعيا ، ومطر وأمطر بمعنى واحد يتعدّيان لواحد ، يقال : مطرتهم السّماء وأمطرتهم ، وقوله تعالى هنا : «وأمطرنا» ضمّن معنى «أرسلنا» ولذلك عدّي ب «على» ، وعلى هذا ف «مطرا» مفعول به لأنّه يراد به الحجارة ، ولا يراد به المصدر أصلا ، إذ لو كان كذلك لقيل : أمطار.

ويوم مطير : أي : ممطور. ويوم ماطر وممطر على المجاز كقوله : (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) [إبراهيم : ١٨] ، وواد مطير فقط فلم يتجوّز فيه ومطير بمعنى ممطر ؛ قال : [الطويل]

٢٥١٧ ـ حمامة بطن الواديين ترنّمي

سقاك من الغرّ الغوادي مطيرها (٤)

فعيل هنا بمعنى فاعل ؛ لأنّ السّحاب يمطر غيرها. ونكّر «مطرا» تعظيما ، والمراد بالمطر هنا يعني حجارة من سجيل.

قال وهب : «هي الكبريت والنّار فانظر كيف كان عاقبة المجرمين».

فصل في إيجاب اللواط الحد

اللّواط يوجب الحد ، وهذه الآية تدلّ عليه من وجوه :

الأول : أنّه ثبت في شريعة لوط رجم اللوطيّ ، والأصل بقاء ما ثبت إلى أن يرد الناسخ ، ولم يرد في شرع محمّد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما ينسخه ، فوجب الحكم ببقائه.

الثاني : قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠].

الثالث : قوله تعالى : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ).

والمراد من هذه العاقبة ما سبق ذكره من إنزال الحجر عليهم ومن المجرمين الذين

__________________

(١) ينظر : ديوانه ٣١ ، جمهرة اللغة ٧٥٤ ، الجنى الداني ٣٤٧ ، الدرر اللوامع ١ / ٢٣٦ ، تخليص الشواهد ص ١٢٥ ، لسان العرب (غبر) ، (بنى) ، المقاصد النحوية ١ / ٤١٠ ، شرح ابن عقيل ٧٣ ، همع الهوامع ١ / ٧٦ ، الدر المصون ٣ / ٢٩٩.

(٢) سقط من أ.

(٣) ينظر : المفردات للراغب ٤٧٠.

(٤) تقدم.

٢٠٨

يعملون عمل قوم لوط ؛ لأنّ ذلك هو المدلول السابق ، فينصرف إليه ذكر الحكم عقيب الوصف مشعرا بالعليّة.

وقال أبو حنيفة : «اللّواط لا يوجب الحدّ».

واختلفوا في حدّ اللّائط : فقال بعضهم : «يرجم محصنا كان ، أو غير محصن ، وكذلك المفعول به إن كان محتلما».

وقال بعضهم : «إن كان محصنا رجم ، وإن كان غير محصن أدّب وحبس».

وقال أبو حنيفة : يعزّر ، [وحجة الجمهور أن الله تعالى] عذب قوم لوط بالرجم وقال عليه الصّلاة والسّلام : «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (١).

وروي عن أبي بكر الصديق أنّه حرّق رجلا يسمّى الفجاءة حين عمل عمل قوم لوط بالنّار(٢) ، وأحرقهم ابن الزّبير في زمانه ، ثم أحرقهم هشام بن الوليد ، ثم أحرقهم خالد القسريّ ب «العراق».

وروي أن سبعة أخذوا في زمان ابن الزّبير في لواط ، فسأل عنهم ، فوجد أربعة منهم أحصنوا ، فخرج بهم من الحرم ، فرجموا بالحجارة حتى ماتوا ، وحد الثلاثة ، وعنده ابن عباس وابن عمر فلم ينكرا ، وهذا مذهب الشافعي.

قال ابن العربيّ : الأوّل أصحّ سندا وهو مذهب مالك.

فإن أتى البهيمة قيل : يقتل هو والبهيمة (٣).

وقيل : يقتل دون البهيمة.

قوله تعالى : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٨٥)

قوله تعالى : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) القصة.

اختلف في «مدين» : فقيل : أعجميّ ، فمنعه للعجمة والعلمية ، وهو مدين بن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فسمّيت به القبيلة.

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٣٠٠ وأخرجه أبو داود في السنن ٤ / ٦٠٧ ـ ٦٠٨ ، كتاب الحدود. باب فيمن عمل عمل قوم لوط الحديث (٤٤٦٢) ، وأخرجه الترمذي في السنن ٤ / ٥٧ ، كتاب الحدود باب ما جاء في حد اللوطي الحديث (١٤٥٦). وأخرجه ابن ماجه في السنن ٢ / ٨٥٦ ، كتاب الحدود باب من عمل عمل قوم لوط الحديث وأخرجه الحاكم في المستدرك ٤ / ٣٥٥ كتاب الحدود باب يقتل من شتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصححه ووافقه الذهبي وأخرجه البيهقي السنن الكبرى ٨ / ٢٣٢ كتاب الحدود ، باب ما جاء في حد اللوطي.

(٢) انظر : تفسير القرطبي (٧ / ١٥٦).

(٣) في ب : والرأس.

٢٠٩

وقيل : هو عربيّ اسم بلد ، قاله الفرّاء ، وأنشد : [الكامل]

٢٥١٨ ـ رهبان مدين والّذين عهدتهم

يبكون من حذر العذاب قعودا

لو يسمعون كما سمعت كلامها

خرّوا لعزّة ركّعا وسجودا (١)

فمنعه للعلميّة والتّأنيث.

ولا بدّ حينئذ من حذف مضاف ، أي : وإلى أهل مدين ، ولذلك أعاد الضّمير في قوله : «أخاهم» على الأهل ، ويجوز أن يراد بالمكان ساكنوه ، فروعي ذلك بالنّسبة إلى عود الضمير عليه وعلى تقدير كونه عربيا قالوا : فهو شاذ ، إذ كان من حقّه الإعلال كمتاع ومقام ، ولكنهم شذّوا فيه كما شذوا في مريم ومكوذة (٢) ، وليس بشاذّ عند المبرّد ، لعدم جريانه على الفعل ، وهو حقّ وإن كان الجمهور على خلافه.

قوله : «شعيبا» يجوز أن يكون تصغير شعب أو شعب هكذا قالوا ، والأدب ألّا يقال ذلك ، بل هذا موضوع على هذه الزّنة ، وأمّا أسماء الأنبياء فلا يدخل فيها تصغير ألبتّة ، إلا ما نطق به القرآن على صيغة تشبهه كشعيب عليه‌السلام ، وهو عربي لا أعجمي.

فصل

قال عطاء : «هو شعيب بن نويب بن مدين بن إبراهيم».

وقال ابن إسحاق : «هو شعيب بن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم ، وأم ميكائيل بنت لوط» (٣).

وقيل : هو شعيب بن ميرون بن مدين ، وكان شعيب أعمى ، ويقال له : «خطيب الأنبياء» لحسن مراجعته قومه (٤) وكان قومه أهل كفر وبخس للكيل والميزان ، وهم أصحاب الأيكة.

(فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) وهذا أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء.

(قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) واعلم أنّ المراد من البيّنة هنا المعجزة ، ولم تذكر في القرآن. كما لم يذكر في القرآن كثير من معجزات رسولنا.

قال الزمخشريّ (٥) : «ومن معجزات شعيب أنّه دفع إلى موسى عصاه وصارت ثعبانا ، وأيضا قال لموسى ـ عليه [الصلاة] والسلام ـ : هذه الأغنام تلد أولادا فيها سواد وبياض ، وقد وهبتها لك ، فكان الأمر كذلك».

__________________

(١) تقدم.

(٢) في أ : ومكروه.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١٥٨.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١٥٨.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ١٠٢٧.

٢١٠

قوله : (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ).

اعلم أنّ قوم شعيب كانوا مشغوفين بالبخس والتّطفيف.

فإن قيل : «الفاء» في قوله : «فأوفوا» توجب أن يكون الأمر بإيفاء الكيل كالتعليل لما سبق ذكره ، وهو قوله : (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) فكيف وجهه؟

فالجواب : كأنّه يقول لهم : البخس والتطفيف عبارة عن الخيانة بالشّيء القليل ، وهو مستقبح في العقل ، ومع ذلك فقد جاءت البينة والشريعة بتحريمه فلم يبق فيه عذر «فأوفوا الكيل».

وقال هنا : «الكيل» ولم يقل : «المكيال» كما في سورة هود [٨٤] ؛ لأنّه أراد بالكيل آلة الكيل وهو المكيال ، أو يسمى ما يكال به الكيل كما يقال : «العيش» لما يعاش به.

قوله : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) قد تقدّم معنى هذه اللفظة في قوله : (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) [البقرة : ٢٨٢] ، وهو يتعدّى لاثنين ، وهما «النّاس» و «أشياءهم» ، أي : لا ينقصوهم أشياءهم ولا يظلموهم ، ويدخل فيه المنع من الغصب ، والسرقة والرشوة ، وقطع الطريق ، وانتزاع الأموال بطريق الحيل.

قوله : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها).

وذلك أنّه لما كان أخذ أموال النّاس بغير رضاهم يوجب المنازعة والخصومة ، وهما يوجبان الفساد ، لا جرم قال بعده : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها).

وقيل : أراد المنع من كلّ فساد.

وقيل : أراد بقوله : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) المنع من فساد الدّنيا ، وبقوله : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) المنع من فساد الدّين.

واختلفوا في معنى «بعد إصلاحها» : فقيل : بعد أن صلحت ببعثة الرسل.

وقيل : بعد أن أصلحها بتكثير النّعم.

ثم قال : «ذلكم» وهو إشارة إلى ما تقدّم من الأمر والنهي (خَيْرٌ لَكُمْ) في الآخرة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مصدّقين بما أقول.

قوله تعالى : (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)(٨٦)

يجوز أن تكون «الباء» على حالها من الإلصاق أو المصاحبة ، أو تكون بمعنى «في» يقال : قعد له بمكان كذا ، وعلى مكان كذا ، وفي مكان كذا ، فتتعاقب هذه الحروف في هذا الموضع لتقارب معانيها ، فقعد بمكان : الباء للإلصاق ، وقد التصق بذلك المكان ،

٢١١

و «على» للاستعلاء ، وقد علا ذلك المكان ، و «في» للحلول ، وقد حلّ ذلك المكان.

و «توعدون» ، و «تصدّون» ، و «تبغون» هذه الجمل أحوال [أي] : لا تقعدوا موعدين وصادّين وباغين.

ولم يذكر الموعد له لتذهب النّفس كلّ مذهب. ومفعول «تصدّون» «من آمن».

قال أبو البقاء (١) : «من آمن» مفعول «تصدّون» لا مفعول «توعدون» ، إذ لو كان مفعولا للأوّل لقال : «تصدّونهم» ، يعني أنّه لو كان كذلك لكانت المسألة من التّنازع ، وإذا كانت من التنازع وأعملت الأول لأضمرت في الثاني فكنت تقول : «تصدّونهم» لكنه ليس القرآن كذا ، فدل على أن «توعدون» ليس عاملا فيه ، وكلامه يحتمل أن تكون المسألة من التّنازع ـ ويكون ذلك على إعمال الثاني ، وهو مختار البصريين وحذف من الأوّل ـ وألّا تكون وهو الظّاهر.

وظاهر كلام الزمخشري (٢) : أنّها من التّنازع ، وأنّه من إعمال الأوّل ، فإنّه قال : فإن قلت : إلام يرجع الضّمير في «من آمن به»؟

قلت : إلى كلّ صراط ، تقديره : توعدون من آمن به وتصدّون عنه ، فوضع الظّاهر الذي هو «سبيل الله» موضع المضمر زيادة في تقبيح أمرهم.

قال أبو حيّان (٣) : «وهذا تعسّف وتكلّف مع عدم الاحتياج إلى تقديم وتأخير ، ووضع ظاهر موضع مضمر ، إذ الأصل خلاف ذلك كلّه ، ولا ضرورة تدعو إليه ، وأيضا فإنّه من إعمال الأوّل وهو مذهب مرجوح ، ولو كان من إعمال الأوّل لأضمر في الثاني وجوبا ، ولا يجوز حذفه إلا في ضرورة شعر عند بعضهم [كقوله] : [مجزوء الكامل]

٢٥١٩ ـ بعكاظ يعشي النّاظري

ن إذا هم لمحوا شعاعه (٤)

فأعمل «يغشي» ورفع به «شعاعه» وحذف الضمير من «لمحوا» تقديره : لمحوه.

وأجازه بعضهم بقلة في غير الشّعر.

والضّمير في «به» : إمّا لكل صراط كما تقدّم عن الزمخشريّ ، وإمّا على الله للعلم به ، وإمّا على سبيل الله ، وجاز ذلك ؛ لأنّه يذكّر ويؤنّث ، وعلى هذا فقد جمع بين الاستعمالين هنا حيث قال : «به» فذكّر ، وقال : «وتبغونها عوجا» فأنّث ، ومثله : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) [يوسف : ١٠٨] [وقد تقدّم](٥) نحو قوله : (تَبْغُونَها عِوَجاً) في آل عمران (٦).

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٧٩.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ١٢٨.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٤١.

(٤) البيت لعاتكة بنت عبد المطلب ينظر : المغني ٢ / ٦١١ ، التصريح ١ / ٣٢٠ ، الهمع ٢ / ١٠٩ ، الدر المصون ٣ / ٣٠١.

(٥) سقط من أ.

(٦) ينظر تفسير الآية (٩٩) من سورة آل عمران.

٢١٢

ومعنى الآية أنّهم كانوا يجلسون على الطّريق فيقولون لمن يريد الإيمان بشعيب : إنّ شعيبا كذاب فلا يفتننّك عن دينك ، ويتوعدون المؤمنين بالقتل ، ويخوفونهم.

قال الزمخشريّ (١) : قوله : «ولا تقعدوا بكلّ صراط» أي : ولا تقتدوا بالشّيطان في قوله: (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) قال : والمراد من قوله : «صراط» كلّ ما كان من مناهج الدّين ويدلّ عليه قوله : (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

قوله : «واذكروا» إمّا أن يكون مفعوله محذوفا ، فيكون هذا الظّرف معمولا لذلك المفعول أي : اذكروا نعمة الله عليكم في ذلك الوقت ، وإمّا أن يجعل نفس الظرف مفعولا به. قاله الزمخشريّ.

وقال ابن عطية (٢) : «إنّ «الهاء» في «به» يجوز أن تعود على شعيب عند من يرى أنّ القعود على الطريق للردّ عن شعيب ، وهو بعيد ؛ لأن القائل : «ولا تقعدوا» هو شعيب ، وحينئذ كان التركيب «من آمن بي» ، والادّعاء بأنّه من باب الالتفات بعيد جدا ؛ إذ لا يحسن أن يقال : «[يا] هذا أنا أقول لك لا تهن من أكرمه» أي : من أكرمني.

قوله : (إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ).

قل الزّجّاج : «هذا الكلام يحتمل ثلاثة أوجه : كثر عددكم بعد القلّة ، وكثركم بالغنى بعد الفقر ، وكثركم بالقوة بعد الضعف» قال السدي : «كانوا عشارين» (٣).

[قوله] : (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).

«كيف» وما في حيّزها معلّقة للنظر عن العمل ، فهي وما بعدها في محل نصب على إسقاط الخافض.

والنظر هنا التفكّر ، و «كيف» خبر كان ، واجب التقديم.

والمعنى : انظر كيف كان عاقبة المفسدين أي : جزاء قوم لوط من الخزي والنكال وعذاب الاستئصال.

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)(٨٧)

قوله : (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا) أي : اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين مؤمنين ومكذبين ، و «طائفة» الثانية عطف على «طائفة» الأولى فهي اسم كان و (لَمْ يُؤْمِنُوا) معطوف على «آمنوا» الذي هو خبر كان ، عطفت

__________________

(١) ينظر الكشاف ٢ / ١٠٢٨.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٢٧.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٩٠) وعزاه لأبي الشيخ عن مجاهد.

٢١٣

اسما على اسم ، وخبرا على خبر ، ومثله لو قلت : «كان عبد الله ذاهبا وبكر خارجا» ، عطفت المرفوع على مثله ، وكذلك المنصوب ، وقد حذف وصف طائفة الثانية لدلالة وصف الأولى عليه ، إذ التقدير : «طائفة منكم لم يؤمنوا» ، وحذف أيضا متعلق الإيمان في الثانية ، لدلالة الأولى عليه ، إذ التقدير : لم يؤمنوا بالذي أرسلت به ، والوصف بقوله : منكم الظاهر أو المقدّر هو الذي سوّغ وقوع «طائفة» اسما ل «كان» من حيث أن الاسم في هذا الباب كالمبتدأ ، والمبتدأ لا يكون نكرة إلا بمسوّغ تقدم التنبيه عليه.

قوله «فاصبروا» يجوز أن يكون الضمير للمؤمنين من قومه ، وأن يكون للكافرين منهم ، وأن يكون للفريقين ، وهذا هو الظاهر أمر المؤمنين بالصبر ليحصل لهم الظفر والغلبة ، والكافرون مأمورون به لينصر الله عليهم المؤمنين لقوله : (قُلْ تَرَبَّصُوا) [الطور : ٣١] ، أو على سبيل التنازل معهم أي : اصبروا فستعلمون من ينتصر ومن يغلب مع علمه بأن الغلبة له و «حتى» بمعنى «إلى» فقط.

وقوله «بيننا» غلّب ضمير المتكلم على المخاطب ، إذ المراد بيننا جميعا من مؤمن وكافر ، ولا حاجة إلى ادّعاء حذف معطوف تقديره : بيننا وبينكم. ثم قال : (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) أي : أنه حاكم منزه عن الجور والميل والحيف.

قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (٨٩)

قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) هم الرؤساء (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ) ونخرج أتباعك من قريتنا.

وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) عطف على الكاف ، و «يا شعيب» اعتراض بين المتعاطفين.

قوله : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) عطف على جواب القسم ، إذ التقدير : والله لنخرجنّك والمؤمنين أو لتعودنّ ، فالعود مسند إلى ضمير النبي ومن آمن معه.

فإن قيل : إن شعيبا لم يكن قطّ على دينهم ولا ملتهم ، فكيف يحسن أن يقال : «أو لتعودن في ملتنا» ، وقوله : (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ) يدل أيضا على ذلك؟.

فالجواب : أن «عاد» في لسان العرب لها استعمالان :

أحدهما ـ وهو الأصل ـ أنه الرجوع إلى ما كان عليه من الحال الأول.

والثاني : استعمالها بمعنى «صار» ، وحينئذ ترفع الاسم وتنصب الخبر ، فلا تكتفي بمرفوع وتفتقر إلى منصوب ، [وهذا عند بعضهم] ومنهم من منع أن تكون بمعنى «صار» ، فمن مجيئها بمعنى «صار» قوله : [الطويل]

٢١٤

٢٥٢٠ ـ وربّيته حتّى إذا ما تركته

أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه

وبالمحض حتّى عاد جعدا عنطنطا

إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه (١)

فرفع ب «عاد» ضمير الأول ونصب بها «جعدا» ، ومن منع ذلك يجعل المنصوب حالا قال : [الطويل]

٢٥٢١ ـ فإن تكن الأيّام أحسن مدّة

إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب (٢)

أي : صار لهن ذنوب ، ولم يرد أن ذنوبا كانت لهن قبل الإحسان ، وعلى هذا فزال الإشكال ، والمعنى : لتصيرنّ في ملتنا بعد أن لم تكونوا ، ف «في ملتنا» خبر على هذا وأمّا على الأول فالجواب من وجوه :

أحدها : أن هذا القول من رؤسائهم ، قصدوا به التلبيس على العوام ، والإيهام لهم أنه كان على دينهم وفي ملّتهم.

الثاني : أنهم خاطبوا شعيبا بخطاب أتباعه ، وأجروا عليه أحكامهم.

الثالث : أن يراد بعوده رجوعه إلى حالة سكوته قبل بعثته ؛ لأنه قبل أن يبعث إليهم كان يخفي إيمانه ، وهو ساكت عنهم بريء من معبودهم غير الله.

وعدّى «عاد» ب «في» الظرفية ، كأن الملّة لهم بمنزلة الوعاء المحيط بهم.

قوله : (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) الاستفهام للإنكار تقديره : أيوجد منكم أحد هذين الشيئين : أعني الإخراج من القرية ، والعود في الملة على كل حال حتى في حال كراهتنا لذلك؟.

وقال الزمخشري (٣) : «الهمزة للاستفهام ، والواو واو الحال تقديره : أتعيدوننا في ملّتكم في حال كراهتنا».

قال أبو حيان (٤) : «وليست هذه واو الحال ، بل واو العطف ، عطفت هذه الحال على حال محذوفة ، كقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «ردّوا السّائل ولو بظلف محرق» (٥)

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٢٨ ، والرازي ١٤ / ١٤٤. وروح المعاني ٩ / ٢.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ١٣٠.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٤٥.

(٥) أخرجه مالك في الموطأ ٢ / ٩٢٣ ، كتاب صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : باب ما جاد في المسكين الحديث (٨) وأخرجه أحمد في المسند ٦ / ٤٣٥ ضمن مسند حواء جدة عمرو بن معاذ رضي الله عنها ، وأخرجه أبو داود في السنن ٢ / ٣٠٧ ، كتاب الزكاة : باب حق السائل الحديث (١٦٦٧) ، وأخرجه الترمذي في السنن ٣ / ٥٢ ـ ٥٣ كتاب الزكاة باب ما جاء في حق السائل (٢٩) ، الحديث (٦٦٥) وقال : (حديث بجير حديث حسن صحيح). وأخرجه النسائي في المجتبى من السنن ٥ / ٨١ ، كتاب الزكاة باب رد السائل وأخرجه ابن حبان ذكره الهيثمي في موارد الظمآن ص ٢١١ كتاب الزكاة : باب إعطاء السائل ولو ظلفا محرقا. الحديث (٨٢٥) وأخرجه الحاكم في المستدرك ١ / ٤١٧ ، كتاب الزكاة باب تأكيد الإعطاء للسائل وقال : (صحيح الإسناد ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي.

٢١٥

ليس المعنى : ردّوه حال الصدقة عليه بظلف محرق ، بل معناه : ردّوه مصحوبا بالصدقة ولو مصحوبا بظلف محرق ، وقد تقدّمت هذه المسألة ، وأنه يصح أن تسمّى واو الحال وواو العطف [وتحرير ذلك ، ولو لا تكريره لما كرّرته](١).

وقال أبو البقاء (٢) : و «لو» هنا بمعنى «إن» لأنها للمستقبل ، ويجوز أن تكون على أصلها ، ويكون المعنى : لو كنا كارهين في هذا الحال أي إن كنا كارهين لذلك فتجبروننا عليه.

وقوله : «لأنها للمستقبل» ممنوع.

قوله : «إن عدنا» شرط جوابه محذوف عند الجمهور أي : فقد افترينا ، حذف لدلالة ما تقدم عليه ، وعند أبي زيد والمبرد (٣) والكوفيين هو قوله : «فقد افترينا» وهو مردود بأنه لو كان جوابا بنفسه لوجبت فيه الفاء.

وقال أبو البقاء (٤) : «قد افترينا بمعنى المستقبل ؛ لأنه لم يقع ، وإنما سدّ مسدّ جواب «إن عدنا» وساغ دخول «قد» هنا لأنهم نزّلوا الافتراء عند العود منزلة الواقع فقرنوه ب «قد» ، وكأنّ المعنى : قد افترينا الآن إن هممنا بالعود».

وفي هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنها استئناف إخبار فيه معنى التعجب ، قاله الزمخشري (٥) ، كأنه قيل : ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر.

والثاني : أنها جواب قسم محذوف حذفت اللام منه ، والتقدير : والله لقد افترينا ، ذكره الزمخشري أيضا ، وجعله ابن عطية احتمالا (٦) وأنشد : [الكامل]

٢٥٢٢ ـ بقّيت مالي وانحرفت عن العلى

ولقيت أضيافي بوجه عبوس (٧)

قال : «كما تقول : افتريت على الله إن كلّمت فلانا» ولم ينشد ابن عطية البيت الذي بعد هذا ، وهو محلّ الفائدة ؛ لأنه مشتمل على الشرط وهو : [الكامل]

٢٥٢٣ ـ إن لم أشنّ على ابن هند غارة

لم تخل يوما من نهاب نفوس (٨)

قوله : «بعد إذ نجّانا» منصوب ب «نعود» أي : ما يكون ولا يستقيم لنا عود بعد أن حصل لنا التنجية منها.

فصل في معنى التنجية

وفي معنى «نجّانا الله منها» وجوه :

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٧٩.

(٣) ينظر : المقتضب ٢ / ٦٦.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٨٠.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ١٣٠.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٢٨.

(٧) تقدم.

(٨) تقدم.

٢١٦

الأول : علمنا قبحه وفساده وبطلانه.

الثاني : أن الله نجّى قومه من تلك الملة ، وإنما نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئا منهم تغليبا للأكثر.

الثالث : أن القوم أوهموا المستضعفين أنه كان على ملتهم ، فقوله : (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) أي على حسب معتقدكم.

قوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) في هذا الاستثناء وجهان :

أحدهما : أنه متصل.

والثاني : أنه منقطع. ثم القائلون بالاتصال مختلفون : فمنهم من قال : هو مستثنى من الأوقات [العامة] والتقدير : وما يكون لنا أن نعود فيها في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله ذلك ، وهذا متصور في حقّ من عدا شعيبا ، فإن الأنبياء لا يشاء الله ذلك لهم ؛ لأنه عصمهم.

ومنهم من قال : «هو مستثنى من الأحوال العامة والتقدير : ما يكون لنا أن نعود فيها في

كل حال إلا في حال مشيئة الله تعالى».

وقال ابن عطية : «ويحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعبّد الله [به] المؤمنين ممّا تفعله الكفرة من القربات فلمّا قال لهم : إنا لا نعود في ملّتكم ، ثم خشي أن يتعبّد الله بشيء من أفعال الكفرة فيعارض ملحد بذلك ويقول : هذه عودة إلى ملّتنا استثنى مشيئة الله فيما يمكن أن يتعبّد به» (١).

قال أبو حيان (٢) : «وهذا الاحتمال لا يصحّ لأن قوله : «بعد إذ نجّانا الله منها» إنما يعني النجاة من الكفر والمعاصي لا من أعمال البر».

قال شهاب الدين (٣) : «قد حكى ابن الأنباري هذا القول عن المعتزلة الذين لا يؤمنون بالإرادة ثم قال : وهذا القول متناوله بعيد ، لأن فيه تبعيض الملّة».

وقيل : هذا استثناء على سبيل التسليم والتأدّب.

قال ابن عطية (٤) : «ويقلق هذا التأويل من جهة استقبال الاستثناء ، ولو كان الكلام : «إلا إن شاء» قوي هذا التأويل».

وهذا الذي قاله سهو ؛ لأنّ الماضي يتخلّص للاستقبال بعد «إن» الشرطية ، كما يتخلّص المضارع له ب «أن» المصدرية.

وقيل : إن الضمير في قوله : «فيها» ليس عائدا على الملّة ، بل عائد على الفرية ، والتقدير : وما يكون لنا أن نعود في الفرية إلا أن يشاء ربنا ، وهو حسن لو لا بعده.

__________________

(١) في أ : يتعبده.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٤٦.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٠٤.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٢٩.

٢١٧

فصل في بيان المشيئة

استدل أهل السنة بهذه الآية على أنه تعالى قد يشاء الكفر (١) ، واستدل المعتزلة بها على أنه لا يشاء إلا الخير.

فأمّا وجه استدلال أهل السنة فمن وجهين :

الأول : قوله : «إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجّانا الله منها» [يدل على أن المنجي من الكفر هو الله ـ تعالى ـ ، ولو كان الإيمان يحصل بخلق العبد ، لكانت النجاة من الكفر تحصل للإنسان من نفسه لا من الله تعالى وذلك على نقيض قوله «بعد إذ نجّانا الله منها»](٢).

الثاني : أن معنى الآية أنه ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى تلك الملة ، وتلك الملة كفر ، فكان هذا تجويزا من شعيب ـ عليه‌السلام ـ أن يعيدهم إلى الكفر (٣).

قال الواحدي (٤) : ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر ؛ ألا ترى إلى قول الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥] وكان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يا مقلّب القلوب والأبصار ثبّت قلوبنا على دينك وطاعتك» (٥). وقال يوسف ـ عليه‌السلام ـ : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) [يوسف : ١٠١].

وأجاب المعتزلة بوجوه (٦) :

أحدها : أن قوله : «ما لنا أن نعود إلى تلك الملة إلا أن يشاء [الله] أن يعيدنا إليها قضية [شرطية ، وليس فيها بيان أنه تعالى شاء ذلك أو ما شاء.

وثانيها : أن هذا مذكور على طريق التبعيد](٧) كما يقال : لا أفعل ذلك إلّا إذا ابيضّ القار وشاب الغراب ، فعلّق شعيب ـ عليه‌السلام ـ عوده إلى ملتهم على مشيئته بما علم أنه لا يكون منه ذلك أصلا على طريق التبعيد لا على وجه الشرط.

وثالثها : قوله : «إلا أن يشاء الله» ليس فيه بيان أن الذي يشاء الله ما هو؟ فنحمله على أن المراد إلا أن يشاء الله بأن يظهر الكفر من أنفسنا إذ أكرهتمونا عليه بالقتل ، وذلك لأن عند الإكراه على إظهار الكفر بالقتل يجوز إظهاره ، وما كان جائزا كان مرادا لله ـ تعالى ـ ، وكون الصبر أفضل من الإظهار لا يخرج الإظهار من أن يكون مرادا لله ـ تعالى

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٤٥.

(٢) سقط من ب.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٤٥.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٤٥.

(٥) أخرجه مسلم ٤ / ٢٠٤٥ ، كتاب القدر : باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء (١٧ / ٢٦٥٤) وأخرجه الترمذي ٤ / ٣٩٠ ـ ٣٩١ كتاب القدر : باب ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن (٢١٤٠) وقال : وفي الباب عن النواس بن سمعان وأم سلمة وعبد الله بن عمر وعائشة ، وهذا حديث حسن ، وهكذا روى غير واحد عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس ، وروى بعضهم عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحديث أبي سفيان عن أنس أصح.

(٦) ينظر : الفخر الرازي ١٤ / ١٤٥.

(٧) سقط من أ.

٢١٨

ـ كما أن المسح على الخفين مراد لله تعالى ، وإن كان غسل الرجلين أفضل (١).

__________________

(١) قد أجمع المسلمون على وجوب غسل الرجلين ، ولم يخالف في ذلك من يعتد به في الإجماع كما صرح بذلك الشيخ أبو حامد وغيره ـ وعليه الأئمة الأربعة وجمهور الفقهاء. وتنحصر أقوال المخالفين في ثلاثة أقوال : الأول : أن الواجب مسحهما ، وبه قالت الإمامية من الشيعة. الثاني : أن المتوضىء مخير بين غسلهما ومسحهما ، وعليه الحسن البصري ، وهو محكي عن ابن جرير الطبري ، وحكاه الخطابي عن الجبائي المعتزلي. الثالث : أن الواجب غسلهما ومسحهما جميعا ، وعليه بعض أهل الظاهر ك «داود» والصواب هو مذهب الأئمة الأربعة والجمهور ، لأمور :

أولا : الأحاديث الصحيحة المستفيضة ، في صفة وضوئه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفيها أنه غسل رجليه. منها أولا : ما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رأى جماعة توضّئوا وبقيت أعقابهم تلوح لم يمسّها الماء فقال : «ويل للأعقاب من النار» وفيه دلالة على أن استيعاب الرجلين بالغسل واجب. وثانيا ـ ما روى مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدميه ، فأبصره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ارجع فأحسن وضوءك».

وثالثا : ما روى أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة «أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله ، كيف الطهور فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا» وذكر الحديث : إلى أن قال «ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا. ثم قال : هكذا الوضوء ، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم». وهو من أحسن الأدلة في المسألة.

ورابعا : ما قال البيهقي : روينا في الحديث الصحيح عن عمرو بن عبسة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في الوضوء ثم يغسل قدميه إلى الكعبين ، كما أمره الله تعالى. قال البيهقي : وفي هذا دلالة على أن الله تعالى أمر بغسلهما. وخامسا : حديث لقيط بن صبرة ؛ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «وخلل بين الأصابع» وهو حديث صحيح ، رواه الترمذي وغيره ، وصححوه. وفيه دلالة للغسل ـ وسادسا : بما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ثم يديه ثم يمسح برأسه ثم يغسل رجليه».

وثانيا : الإجماع قال الحافظ في الفتح : «ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك «يعني غسل الرجلين» ، إلا عن علي وابن عباس وأنس ، وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك «ا ه». رواه سعيد بن منصور ا ه شوكاني.

ثالثا : أنهما عضوان محدودان في كتاب الله تعالى كاليدين ، فإنه قال : «إلى الكعبين» كما قال : «إلى المرافق» فكان واجبهما الغسل كاليدين واحتج من لم يوجب غسل الرجلين أولا بقوله تعالى : وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ بالجر على إحدى القراءتين في السبع ، بعطف الأرجل على الرؤوس ، كما عطف الأيدي على الوجوه ، فعطف الممسوح على الممسوح. وثانيا : بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : «عضوان مغسولان وعضوان ممسوحان» وثالثا : بما روي عن أنس أنه بلغه أن الحجاج خطب فقال : «أمر الله تعالى بغسل الوجه واليدين وغسل الرجلين» فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج. فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم». قرأها جرا. ورابعا : بما روي عن ابن عباس أنه قال : «إنما هما غسلتان ومسحتان» وعنه أيضا : «أمر الله بالمسح» وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى : أجمع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على غسل القدمين ويأبى الناس إلا الغسل. وخامسا : بما روي عن رفاعة من حديث المسيء صلاته. قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه وسلّم : «إنه لا يتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء ، كما أمره الله تعالى ، فيغسل وجهه ويديه ويمسح رأسه ورجليه». وسادسا : بما روي عن علي رضي الله عنه أنه توضأ فأخذ حفنة من ماء ، فرش على رجله اليمنى ، وفيها نعله ثم فتلها ، ثم صنع بالأخرى كذلك.

وسابعا : بقياس حاصله : أنه عضو لا مدخل له في التيمم ، فجاز مسحه كالرأس. ـ

٢١٩

ورابعها : أن المراد بقوله : «لنخرجنك يا شعيب» أي من القرية ، فيكون المراد بقوله : «أن نعود فيها» أي القرية.

__________________

ـ والجواب عن احتجاجهم بالآية : أنها قرئت بالنصب والجر والرفع ، وقراءة النصب والجر سبعيتان. قرأ بالنصب نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه. وقرأ بالجر ابن كثير وحمزة وأبو عمر وعاصم في رواية أبي بكر عنه. وأما الرفع فقراءة الحسن.

أما قراءة النصب فيكون أرجلكم فيها معطوفا على الوجه والأيدي. وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قرأ بالنصب ، وقال : هو من المقدم والمؤخر ؛ يعني أن (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) مقدم على (وَأَرْجُلَكُمْ) وهو مؤخر عنه ـ ونظم الآية على الترتيب هكذا : «فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤسكم» وقرأ ابن عباس بالنصب ، وقال : يرجع إلى الغسل ، وكذلك مجاهد وعروة. والنصب صريح في الغسل فعلى هذه القراءة لا دلالة فيها على المسح.

وأما قراءة الرفع فأرجلكم مبتدأ والخبر يحتمل أن يكون مغسولة أو ممسوحة على السواء. ولعل هذه شبهة القائلين بالتمييز بين الغسل والمسح. لكن أدلة الجمهور المتقدمة تعين أن الخبر مغسولة. وأما قراءة الجر فالجواب عنها من وجوه ـ أولا : قال سيبويه والأخفش وغيرهما : إن جرها بالجوار للرؤوس «لا بحكم العطف عليها». مع أن الأرجل منصوبة. كما تقول العرب : «جحر ضبّ خرب» بجرّ خرب على جوار ضب ، وهو مرفوع صفة لجحر ، ومنه في القرآن (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) ، فجر أليما على جوار يوم ، وهو منصوب صفة لعذاب ، ولا يعكر على الجر بالمجاورة وجود الواو ، فإن الجر بالمجاورة مع الواو مشهور في أشعارهم. من ذلك قول الشاعر :

لم يبق إلّا أسير غير منفلت

وموثّق في عقال الأسر مكبول

فجر موثقا لمجاورته منفلت ، وهو مرفوع معطوف على أسير. فإن قيل : الجر بالمجاورة إنما يكون فيما لا لبس فيه ، وهذا فيه لبس. قلنا : لا لبس هنا لأنه حدد بالكعبين والمسح لا يكون إليهما اتفاقا ويدل على أن الجر بالمجاورة لا بالعطف أن المسح لو كان في كتاب الله تعالى لكان الاتفاق فيه ، والاختلاف في الغسل. وقد اتفقنا على جواز الغسل. على أن السنة والإجماع قد بينا أن المراد من فرض الرجلين الغسل. ومع هذا فلا لبس مطلقا. وثانيا : قال أبو علي الفارسي قراءة الجر وإن كانت عطفا على الرؤوس ، فالمراد بها الغسل ، لأن العرب تسمي خفيف الغسل مسحا ، ولهذا إنهم يقولون : مسحت للصلاة. يريدون به الغسل. وإنما عبر عن غسل الرجلين بالمسح طلبا للاقتصاد فيه ، لأنهما مظنة الإسراف ؛ لغسلهما بالصب عليهما. وبجعل الباء المقدرة على هذا للإلصاق ، ولا للتبعيض. يدل لهذا أنه حد فرض الرجلين بالكعبين مع أن المسح لا يجب فيه الاستيعاب ، فدل على أنه أراد به الغسل.

وثالثا : نقول إنها وإن كانت معطوفة على الرؤوس فإنه أراد به مسح الرجلين في حالة مخصوصة ، وهي حالة لبس الخف ، فالمراد بمسح الرجل مسح الخف.

والتحديد بالكعبين ، مع أن مسح الخف لا يجب فيه الاستيعاب ، إنما هو لبيان محل الإجزاء فيه. وأما قول علي رضي الله عنه ، فإنه أراد به : إذا لبس الخف. لما روي عنه أنه مسح على الخف وقال : لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره ، ولكني رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسح على ظاهر خفيه خطوطا بالأصابع ؛ ومن رأى المسح على الخفين لا يرى مسح الرجلين. وروى الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قال : «اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم». فدل على أنه أراد المسح في حالة لبس الخفين. وأما الجواب عن احتجاجهم بقول أنس فمن وجوه :

أحدها : أن أنسا أنكر على الحجاج كونه الآية تدل على يقين الغسل ، وكان يعتقد أن الغسل إنما علم وجوبه من بيان السنة ، فهو موافق للحجاج في الغسل مخالف له في الدليل. وهذا الجواب هو ـ

٢٢٠