اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

مراعاة الضّمير السّابق ، وهو الأكثر ، ومراعاة الاسم الظّاهر فيقول : أنا رجل أفعل كذا مراعاة ل «أنا» ، وإن شئت أنا رجل يفعل كذا مراعاة لرجل ، ومثله : أنت رجل يفعل وتفعل بالخطاب والغيبة.

وقرأ أبو عمرو (١) : «أبلغكم» بالتّخفيف ، والباقون بالتّشديد ، وهذا الخلاف جار هنا في الموضعين (٢) ، وفي الأحقاف (٣) والتّضعيف والهمزة للتّعدية كأنزل ، ونزّل ، وجمع «رسالة» باعتبار أنواعها من أمر ونهي ، ووعظ ، وزجر ، وإنذار ، وإعذار ، وقد جاء الماضي على أفعل في قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) [هود : ٥٧] فهذا شاهد لقراءة أبي عمرو ، وجاء على فعّل في قوله : (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) [المائدة : ٦٧] فهذا شاهد لقراءة الجماعة.

واعلم أنّه ذكر ما هو المقصود من الرّسالة ، وهو أمران : أن يبلغ الرّسالة ، وتقرير النّصيحة ، والفرق بينهما أنّ تبليغ الرّسالة معناه : أن يعرفهم أنواع تكاليف الله ، وأوامره ، ونواهيه ، وأمّا النّصيحة فهو ترغيبهم في الطّاعة ، وتحذيرهم عن المعاصي.

قوله : «وأنصح لكم».

قال الفرّاء : العرب لا تكاد تقول : نصحتك ، إنّما يقولون : نصحت لك ، ويجوز أيضا : نصحتك (٤).

قال النابغة : [الطويل]

٢٤٩٨ ـ نصحت بني عوف فلم يقبلوا نصحي

وسؤلي ، ولم تنجح لديهم رسائلي (٥)

فصل في بيان حقيقة النصح

وحقيقة النّصح الإرشاد إلى المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه ، والمعنى : إنّي أبلّغ لكم تكاليف الله ، ثمّ أرشدكم إلى الأصوب ، والأصلح ، وأدعوكم إلى ما دعاني ، وأحبّب لكم ما أحبه لنفسي (٦).

قوله : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

قيل : أعلم أنكم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطّوفان.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤١٥ وفيه : وقال ابن عباس : «الملؤ ، بواو ، وكذلك هي في مصاحف الشام» ، ولم أجد هذه القراءة لابن عامر في القراءات السبع.

(٢) الموضع الثاني في الآية ٦٨.

(٣) آية : ٢٣.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٢٣.

(٥) ينظر : ديوانه (١٤٣) ، إصلاح المنطق ص ٢٨١ ، البحر المحيط ٤ / ٣٢٥.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٢٣.

١٨١

وقيل : أعلم أنّه يعاقبكم في الآخرة عذابا شديدا ، خارجا عمّا تتصوّرة عقولكم.

وقيل : أعلم من توحيد الله وصفات جلاله ما لا تعلمون. والمقصود من ذكر هذا الكلام : حمل القوم على أن يرجعوا إليه في طلب تلك العلوم.

واعلم أنّ نوحا ـ عليه الصلاة والسلام ـ أزال تعجبهم وقال : إنّه تعالى خالق الخلق ، فله بحكم الإلهية أن يأمر عبيده ببعض الأشياء وينهاهم عن بعضها ، ولا يجوز أن يخاطبهم بتلك التّكاليف من غير واسطة ؛ لأنّ ذلك ينتهي إلى حدّ الإلجاء ، وهو ينافي التّكليف ، ولا يجوز أن يكون ذلك الرسول من الملائكة ، لما تقدّم في «الأنعام» في قوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) [الأنعام : ٩] ، فلم يبق إلا أن إيصال التّكاليف إلى الخلق بواسطة إنسان يبلغهم ، وينذرهم ويحذرهم ، وهذا جواب شبههم (١).

قوله : (أَوَعَجِبْتُمْ) ألف استفهام دخلت على واو العطف ، وقد تقدّم الخلاف في هذه الهمزة السّابقة على الواو ، وقدّر الزمخشري على قاعدته معطوفا عليه محذوفا تقديره : أكذّبتم وعجبتم (أَنْ جاءَكُمْ) أي : من أن جاءكم ، فلما حذف الحرف جرى الخلاف المشهور.

(مِنْ رَبِّكُمْ) صفة ل «ذكر».

«على رجل» : قال ابن قتيبة : «[قال الفرّاء](٢) : يجوز أن تكون على حذف مضاف ، أي : على لسان رجل».

وقيل : على بمعنى «مع» ، أي : مع رجل فلا حذف.

وقيل : لا حاجة إلى حذف ، ولا إلى تضمين حرف ؛ لأنّ المعنى أنزل إليكم ذكر على رجل ، وهذا أولى ؛ لأنّ التّضمين في الأفعال أحسن منه في الحروف لقوّتها وضعف الحروف.

فصل في معنى «الذكر»

قال ابن عبّاس : الذّكر الموعظة (٣).

وقال الحسن : إنه الوحي الّذي جاءهم به (٤).

وقيل : المراد بالذّكر المعجز.

وقيل : بيان (عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) أي تعرفون نسبه ، فهو منكم نسبا.

«لينذركم» أي : لأجل أن ينذركم عذاب الله.

(وَلِتَتَّقُوا) أي : لكي تتّقوا.

(وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي : لكي تتّقوا.

(وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي : لكي ترحموا.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٤ / ١٢٤.

(٢) سقط من أ.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ١٦٩).

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٤ / ١٢٤).

١٨٢

فصل في دحض شبهة للمعتزلة

قال الجبّائيّ ، والكعبيّ ، والقاضي (١) : دلّت هذه الآية على أنّه تعالى أراد من بعثة الرّسل إلى الخلق التّقوى ، والفوز بالرّحمة ، وذلك يبطل قول من قال : إنّه تعالى أراد من بعضهم الكفر والعناد ، وخلقهم لأجل العذاب والنار.

والجواب بأن نقول : إن لم يتوقّف الفعل على الدّاعي لزم رجحان الممكن لا لمرجح ، وإن توقّف لزم الجبر ، ومتى لزم ذلك ، وجب القطع بأنّه تعالى أراد الكفر ، وذلك يبطل مذهبكم.

قوله : «فكذّبوه» : أي في ادّعاء النّبوّة والرّسالة.

«فأنجيناه» من الطّوفان ، وأنجينا من كان معه [وكانوا أربعين رجلا ، وأربعين امرأة](٢).

وقيل : عشرة : بنوه : حام ، وسام ، ويافث ، وسبعة ممن آمن معه من المؤمنين.

«في الفلك» أي : في السّفينة ، وأغرقنا الكفّار والمكذّبين ، وبين العلّة في ذلك فقال : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ).

قوله : «في الفلك» يجوز أن يتعلق ب «أنجيناه» ، أي : أنيجناه في الفلك ، [ويجوز أن تكون «في» حينئذ سببيّة أي : بسبب الفلك](٣) كقوله : «إنّ امرأة دخلت النّار في هرّة» (٤) ، ويجوز (٥) أن يتعلق في الفلك بما تعلّق به الظّرف الواقع صلة ، أي : الذين استقرّوا في الفلك معه.

«وعمين» جمع عم ، وقد تقدّم الكلام على هذه المادة (٦).

وقيل : عم هنا إذا كان أعمى البصيرة ، [قال ابن عباس : عميت قلوبهم عن معرفة التّوحيد ، والنّبوة والمعاد (٧) قال أهل اللّغة](٨) : غير عارف بأموره ، وأعمى أي في البصر.

قال زهير : [الطويل]

٢٤٩٩ ـ وأعلم علم اليوم والأمس قبله

ولكنّني عن علم ما في غد عم (٩)

قاله اللّيث وقيل : عم وأعمى بمعنى ، كخضر وأخضر.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٢٥.

(٢) سقط من أ.

(٣) سقط من أ.

(٤) أخرجه البخاري (٦ / ٤٠٩) كتاب بدء الخلق : باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه حديث (٣٣١٤) ومسلم (٤ / ٢٠٢٢) كتاب البر والصلة : باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان الذي لا يؤذي حديث (١٣٣ / ٢٦٤٢) من حديث ابن عمر.

(٥) في أ : ويحق.

(٦) ينظر تفسير الآية (١٨) من سورة البقرة.

(٧) ذكره البغوي في تفسيره ٢ / ١٦٩.

(٨) سقط من ب.

(٩) تقدم.

١٨٣

وقال بعضهم : «عم» فيه دلالة على ثبوت الصّفة واستقرارها [كفرح] وضيّق ، ولو أريد الحدوث لقيل : عام كما يقال : فارح وضائق.

وقال الزّمخشريّ (١) : قريء «قوما عامين».

قوله تعالى : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)(٧١)

قوله «أخاهم» نصب ب «أرسلنا» الأولى ، كأنه قيل : لقد أرسلنا نوحا ، وأرسلنا إلى عاد أخاهم ، وكذلك ما يأتي من قوله : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ) [الأعراف : ٧٣] ، (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) [الأعراف : ٨٥] (وَلُوطاً) [الأعراف : ٨٥] ، ويكون ما بعد «أخاهم» بدلا أو عطف [بيان]. وأجاز مكيّ (٢) أن يكون النّصب بإضمار «اذكر» وليس بشيء لأنّ المعنى على ما ذكرنا مع عدم الاحتياج إليه.

و «عاد» اسم للحيّ ، ولذلك صرفه ، ومنهم من جعله اسما للقبيلة ولذلك [منعه] قال: [الرجز]

٢٥٠٠ ـ لو شهد عاد في زمان عاد

لابتزّها مبارك الجلاد (٣)

وعاد في الأصل اسم الأب الكبير ، وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح فسمّيت به القبيلة ، أو الحيّ.

وقيل : عاد بن أرم بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح وهود بن عبد الله بن رباح بن الجارود ابن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح ، وهي عاد الأولى ، وكذلك ما أشبهه من نحو «ثمود» إن جعلته اسما لمذكّر صرفته ، وإن جعلته اسما لمؤنث منعته ، وقد بوّب له سيبويه بابا(٤).

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ١١٥.

(٢) ينظر : المشكل ١ / ٣٢٣.

(٣) البيت ينظر : الكتاب ٣ / ٢٥١ ، البحر المحيط ٤ / ٣٢٦ الإنصاف ٢ / ٥٠٤ ، الدر المصون ٣ / ٢٩٠ المخصص ١٧ ـ ٤٢ والبيت من الخمسين في الكتاب وشاهده : ترك صرف «عاد» الأولى لجعله إياها اسما للقبيلة ؛ وقد سكّن الهاء في قوله «شهد» تخفيفا ، وأصلها الكسر.

(٤) ينظر : الكتاب ٢ / ٢٦.

١٨٤

وأمّا هو فاشتهر في ألسنة النّحاة أنه عربيّ ، وفيه نظر ؛ لأنّ الظّاهر من كلام سيبويه (١) لمّا عدّه مع نوح ، ولوط أنّه أعجمي ، ولأن : أبا البركات النّسّابة الشّريف حكى : أن أهل اليمن تزعم أنّ يعرب بن قحطان بن هود هو أوّل من تكلّم بالعربيّة وسمّيت به العرب عربا ، وعلى هذا يكون «هود» أعجميا ، وإنّما صرف لما ذكر في أخوته نوح ولوط.

وهود اسمه عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح.

فصل في نسب هود

اتّفقوا [على] أن هودا ما كان أخاهم في الدّين ، واختلفوا في أنّه هل كان هناك قرابة أم لا.

قال الكلبيّ : «كان واحدا منهم» (٢).

وقال آخرون : كان من غيرهم ، وذكروا في تفسير هذه الأخوة وجهين (٣) :

الأول : قال الزّجّاج (٤) : كان من بني آدم ، ومن جنسهم ، لا من الملائكة ، ويكفي هذا القدر في تسمية الأخوة ، والمعنى : أنّا بعثنا إلى عاد واحدا من جنسهم ، ليكون الفهم والأنس بكلامه وأفعاله أكمل ، ولم يبعث إليهم من غير جنسهم مثل ملك أو جني.

قال ابن إسحاق : وكان أوسطهم نسبا ، وأفضلهم حسنا.

روي أن عادا كانت ثلاث عشرة قبيلة ينزلون الرّمال ، وكانوا أهل بساتين وزروع وعمارة ، وكانت بلادهم أخصب البلاد ، فسخط الله عليهم ؛ فجعلهم مفاوز لأجل عبادتهم الأصنام ، ولحق هود حين أهلك قومه بمن آمن معه بمكّة ، فلم يزالوا بها حتى ماتوا.

الثاني : «أخاهم» أي صاحبهم ، ورسولهم ، والعرب تسمّي صاحب القوم أخا القوم ، ومنه قوله تعالى : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) [الأعراف : ٣٨] أي : صاحبتها ، وقال عليه الصّلاة والسّلام : «إن أخا صداء قد أذن» يريد صاحبهم (٥).

فصل في مكان قوم عاد

اعلم أنّ عادا قوما كانوا باليمن بالأحقاف.

قال ابن إسحاق : «والأحقاف : الرّمل الذي بين عمان إلى حضرموت» (٦).

واعلم أن ألفاظ هذه القصّة موافقة للألفاظ المذكورة في قصّة نوح ـ عليه‌السلام ـ إلا في أشياء :

__________________

(١) ينظر : الكتاب ٢ / ١٩.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٤ / ١٢٦).

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٢٦.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) أخرجه أبو داود ١ / ٣٥٢ كتاب الصلاة : باب في الرجل يؤذن ويقيم آخر (٥١٤) والترمذي في السنن ١ / ٣٠٣ ـ ٣٨٤ كتاب الصلاة : باب من أذن فهو يقيم (١٩٩). وابن ماجه ١ / ٢٣٧ كتاب الأذان : باب السنة في الأذان (٢١٧) والبيهقي ١ / ٣٩٩ كتاب الصلاة : باب الرجل يؤذن ويقيم غيره.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ٢ / ١٢٦.

١٨٥

[الأول] : أن في قصّة نوح : «فقال يا قوم» بالفاء ، وهنا قال بغير فاء ، فالفرق أنّ نوحا ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ كان مواظبا على دعوتهم ، وما كان يؤخر الجواب عن شبهاتهم لحظة واحدة ، وأما هود فلم يبلغ إلى هذا الحدّ ؛ فلا جرم جاء بفاء التعقيب في كلام نوح دون كلام هود.

قال الزّمخشريّ : فإن قلت : لم حذف العاطف من قوله [قال يا قوم] ولم يقل «فقال» كما في قصّة نوح؟.

قلت : هو على تقدير سؤال سائل قال : فما قال لهم هود؟ فقيل له : «قال يا قوم».

الثاني : قال في قصة نوح : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ،) وهنا قال : (أَفَلا تَتَّقُونَ) ، والفرق بينهما أنّ قبل نوح لم يظهر في العالم مثل تلك الواقعة العظيمة ، وهي الطّوفان العظيم ، فلا جرم أخبر نوح عن تلك الواقعة فقال : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

وأمّا واقعة هود ـ عليه‌السلام ـ فقد سبقتها واقعة نوح ، وكان عهد النّاس بتلك الواقعة قريبا ، فلا جرم قال : (أَفَلا تَتَّقُونَ) أي : تعرفون أنّ قوم نوح لمّا لم يتقوا الله ولم يطيعوه أنزل بهم ذلك العذاب الذي اشتهر خبره في الدّنيا ، فكان ذلك إشارة إلى التّخويف بتلك الواقعة.

الثالث : قال في قصّة نوح (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ).

وقيل في هود : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فوصف الملأ بالكفر ، ولم يوصفوا في قصّة نوح ، والفرق أنّه كان في أشراف قوم هود من آمن به منهم مرثد بن سعد أسلم ، وكان يكتم إيمانه بخلاف قوم نوح ، لأنّه لم يؤمن منهم أحد (١).

قاله الزّمخشريّ (٢) وغيره ، وفيه نظر لقوله تعالى : (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ٣٦] وقال : (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود : ٤٠] ويحتمل أنّ حال مخاطبة نوح لقومه لم يؤمن منهم أحد بعد ثمّ آمنوا ، بخلاف قصّة هود فإنّه حال خطابهم كان فيهم مؤمن ويحتمل أنها صفة لمجرّد الذّمّ من غير قصد تميز بها.

الرابع : حكي عن قوم نوح قولهم : (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وحكي عن قوم هود قولهم : (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) [الأعراف : ٦٦] الفرق أنّ نوحا خوف الكفّار بالطّوفان العام وكان مشتغلا بإعداد السّفينة ، فلذلك قالوا : (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) حيث تتعب نفسك في إصلاح سفينة كبيرة في مفازة ليس فيها قطرة من الماء ، ولم يظهر شيء من العلامات تدلّ على ظهور الماء في تلك المفازة.

وأمّا هود فلم يذكر شيئا إلا أنه زيّف عبادة الأوثان ، ونسب من اشتغل بعبادتها إلى

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ١١٦.

١٨٦

السّفاهة وقلّة العقل ، فلّما سفّههم قابلوه بمثله ، ونسبوه إلى السّفاهة ، ثم قالوا : (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) في ادّعاء الرّسالة.

قال ابن عبّاس : في سفاهة أي تدعو إلى دين لا نقر به.

وقيل : في حمق ، وخفّة عقل ، وجهالة.

(وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) اختلفوا في هذا الظن فقيل : المراد القطع والجزم كقوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤٦] وهو كثير.

وقال الحسن والزّجّاج (١) : كان ظنّا لا يقينا ، كفروا به ظانين لا متيقّنين وهذا يدلّ على أنّ حصول الشّكّ والتّجويز في أصول الدّين يوجب الكفر.

الخامس : قال نوح ـ عليه‌السلام ـ : «أبلّغكم رسالات ربّي وأنصح لكم».

وقال هود عليه‌السلام : «وأنا لكم ناصح أمين» ، فأتى نوح بصيغة الفعل ، وهود أتى بصيغة اسم الفاعل ، ونوح ـ عليه‌السلام ـ قال : «وأعلم من الله ما لا تعلمون» ، وهود لم يقل ذلك ، وإنّما زاد كونه «أمينا» ، والفرق بينهما أنّ الشّيخ عبد القاهر النّحويّ ذكر في كتاب «دلائل الإعجاز» أن صيغة الفعل تدلّ على التّجدّد ساعة فساعة.

وأما صيغة اسم الفاعل فهي دالّة على الثّبات ، والاستمرار على ذلك الفعل (٢).

وإذا ثبت هذا فنقول : إنّ القوم كانوا مبالغين في السّفاهة على نوح ـ عليه‌السلام ـ ثم إنّه في اليوم الثّاني كان يعود إليهم ، ويدعوهم إلى الله كما ذكر الله ـ تعالى ـ عنه في قوله : (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) [نوح : ٥].

فلما كانت عادته ـ عليه‌السلام ـ العود إلى تجديد الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة ، لا جرم ذكره بصيغة الفعل فقال : «وأنصح لكم».

وأما قول هود ـ عليه‌السلام ـ : «وأنا لكم ناصح أمين» فإنّه يدلّ على كونه مثبتا مستقرا في تلك النّصيحة ، وليس فيها إعلام بأنه سيعود إليها حالا فحالا ، ويوما فيوما.

وأما قول نوح ـ عليه‌السلام ـ «وأعلم من الله ما لا تعلمون» وهود ـ عليه‌السلام ـ وصف نفسه بكونه أمينا ، فالفرق أنّ نوحا ـ عليه‌السلام ـ كان منصبه في النّبوّة أعلى من منصب هود عليه‌السلام ، فلم يبعد أن يقال : إن نوحا ـ عليه‌السلام ـ كان يعلم من أسرار حكم الله ما لا يصل إليه هود ، فلهذا أمسك هود لسانه عن ذكر تلك الجملة ، واقتصر على وصف نفسه بالأمانة ومقصود منه أمور(٣):

أحدها : الرّدّ عليهم في قولهم : (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ).

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٢٧.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٢٧.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٧.

١٨٧

وثانيها : أن مدار الرّسالة والتبليغ عن الله على الأمانة ، فوصف نفسه بالأمانة تقريرا للرّسالة والنبوة.

وثالثها : كأنّه قال لهم : كنت قبل هذه الدعوى أمينا فيكم ، وما وجدتم منّي غدرا ولا مكرا ولا كذبا ، واعترفتم لي بكوني أمينا ، فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب؟.

والأمين هو الثقة ، وهو فعيل من أمن يأمن فهو آمن وأمين بمعنى واحد.

واعلم أنّ القوم لمّا قالوا له : «إنّا لنراك في سفاهة» لم يقابل سفاهتهم بالسّفاهة ، بل قابلها بالحلم ، ولم يزد على قوله : «ليس بي سفاهة» ، وذلك يدلّ على أنّ ترك الانتقام أولى كما قال : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢].

وقوله : (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) مدح نفسه بأعظم صفات المدح ، وإنّما فعل ذلك ؛ لأنّه كان يجب عليه إعلام القوم بذلك ، وذلك يدلّ على أنّ مدح الإنسان لنفسه في موضع الضّرورة جائز.

السادس : قال نوح عليه‌السلام : «أو عجبتم أن جاءكم ذكر من رّبّكم» إلى قوله : (وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ، [وفي قصّة هود حذف قوله : (وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)](١) ، والفرق أنّه لمّا ظهر في قصّة نوح ـ عليه‌السلام ـ أنّ فائدة الإنذار هي حصول التقوى الموجبة للرحمة ، لم يكن لإعادته في هذه القصّة حاجة (٢).

قوله : «إذ جعلكم» في «إذ» وجهان :

أحدهما : أنّه ظرف منصوب بما تضمنته الآلاء من معنى الفعل ، كأنه قيل : «واذكروا نعم الله عليكم في هذا الوقت» ، ومفعول «اذكروا» محذوف لدلالة قوله بعد ذلك : «فاذكروا آلاء الله» ، ولأن قوله : «إذ جعلكم خلفاء» ، وزادكم كذا هو نفس الآلاء وهذا ظاهر قول الحوفي.

قال الزّمخشريّ (٣) : «إذ» مفعول «اذكروا» أي : اذكروا هذا الوقت المشتمل على هذه النعم الجسيمة ، وتقدّم الكلام في الخلفاء والخلائف والخليف.

قوله : «في الخلق» يحتمل أن يراد به المصدر بمعنى في امتداد قامتكم وحسن صوركم ، وعظم أجسامكم ، ويحتمل أن يراد به معنى المفعول به ، أي : في المخلوقين بمعنى زادكم في النّاس مثلكم بسطة عليهم ، فإنّه لم يكن في زمانهم مثلهم في عظم الأجرام.

قال الكلبيّ والسّدّيّ : «كانت قامة الطّويل منهم مائة ذراع ، وقامة القصير ستّون ذراعا»(٤).

وتقدم الكلام على «بسطة» في البقرة.

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٢٨.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ١١٧.

(٤) تقدم.

١٨٨

قوله : (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) ، أي : نعمه ، وهو جمع مفرده «إلي» بكسر الهمزة وسكون اللّام ؛ كحمل وأحمال ، أو «أليّ» بضمّ الهمزة وسكون اللّام ؛ كقفل ، وأقفال ، أو «إلى» بكسر الهمزة ، وفتح اللام ، كضلع وأضلاع ، وعنب وأعناب ، أو «ألى» بفتحهما كقفا وأقفاء ؛ قال الأعشى : [المنسرح]

٢٥٠١ ـ أبيض لا يرهب الهزال ولا

يقطع رحما ولا يخون ألى (١)

ينشد بكسر الهمزة ، وهو المشهور ، وبفتحها ؛ ومثلها «الآناء» جمع «إنّي» أو «أنّي» أو «إنّى» أو «أنّى».

وقال الأخفش (٢) : «إنو». والآناء الأوقات كقوله : (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) [طه : ١٣٠]. وسيأتي.

ثم قال : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فلا بدّ هاهنا من إضمار ؛ لأنّ الصّلاح الذي هو الظّفر بالثّواب لا يحصل بمجرد التذكر ، بل لا بدّ من العمل ، والتقدير : فاذكروا آلاء الله واعملوا عملا يليق بذلك الإنعام لعلّكم تفلحون.

قوله : «لنعبد» متعلق بالمجيء الذي أنكروه عليه.

واعلم أنّ هودا ـ عليه‌السلام ـ لما دعاهم إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالدّليل القاطع ، وهو أنّه بيّن أنّ نعم الله عليهم كثيرة والأصنام لا نعمة لها ؛ لأنّها جمادات ، والجماد لا قدرة له على شيء أصلا ـ لم يكن للقوم جواب عن هذه الحجّة ـ إلا التمسك بالتّقليد فقالوا : «أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا» فأنكروا عليه أمره لهم بالتّوحيد ، وترك التقليد للآباء ، وطلبوا منه وقوع العذاب المشار إليه بقوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ) وذلك أنّهم نسبوه إلى الكذب ، وظنّوا أنّ الوعيد لا يتأخر ، ثم قالوا : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) جوابه محذوف أو متقدّم ب «ما» ، وذلك لأنّ قوله : (اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) مشعر بالتّهديد والتّخويف بالوعيد ، فلهذا قالوا : «فأتنا بما تعدنا».

قوله : (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) جوابه محذوف أو متقدّم ، وهو فأت به.

واعلم أنّ القوم كانوا يعتقدون كذبه لقولهم : (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) فلهذا قالوا : «فأت به إن كنت من الصّادقين» وإنّما قالوا كذلك لظنهم أن الوعيد لا يجوز أن يتأخر ، فعند ذلك قال هود ـ عليه‌السلام ـ : «قد وقع عليكم» ، أي : وجب عليكم.

فصل في تفسير هذه الآية

قال القاضي (٣) : تفسير هذه الآية على قولنا ظاهر ؛ لأنّ بعد كفرهم وتكذيبهم

__________________

(١) ينظر : ديوانه (٢٨٥) ، مجاز القرآن (١ / ٢١٨) ، معاني الزجاج ٢ / ٣٨٤ ، الدر المصون ٣ / ٢٩١.

(٢) ينظر : معاني القرآن للأخفش ١ / ٢١٣.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٢٩.

١٨٩

حدثت هذه الإرادة ، واعلم أنّ هذا باطل ؛ لأنّ في الآية وجوها من التّأويل (١) :

أحدها : أنّه تعالى أخبر في ذلك الوقت بنزول العذاب عليهم ، فلمّا حدث الإعلام في ذلك الوقت ، لا جرم قال هود في ذلك الوقت : «قد وقع عليكم من ربّكم رجس».

وثانيها : أنّه جعل المتوقّع الذي لا بدّ من نزوله بمنزلة الواقع ، كقوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١].

وثالثها : أن يحمل قوله : «وقع» على معنى وجد وجعل ، والمعنى : إرادة إيقاع العذاب عليكم حصلت من الأزل.

قوله : «من ربّكم» إمّا متعلق ب «وقع» و «من» للابتداء مجازا ، وإمّا أن يتعلق بمحذوف لأنّها حال ، إذ كانت في الأصل صفة ل «رجس».

والرّجس : العذاب والسين مبدلة من الزاي.

وقال ابن الخطيب : لا يمكن أن يكون المراد لأنّ المراد من الغضب العذاب ، فلو حملنا الرّجس عليه لزم التّكرير ، وأيضا الرجس ضد التطهير قال تعالى : (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب : ٣٣] والمراد التّطهير عن العقائد الباطلة.

وإذا ثبت هذا فالمراد بالرجس أنّه تعالى خصّهم بالعقائد المذمومة ، فيكون المعنى أنّه تعالى زادهم كفرا ثم خصّهم بمزيد الغضب.

قوله : «أتجادلونني» استفهام على سبيل الإنكار في أسماء الأصنام وذلك أنهم كانوا يسمون الأصنام بالآلهة ، مع أن معنى الإلهية فيها معدوم ، سموا واحدا منها بالعزّى مشتقا من العزّ ، والله ـ تعالى ـ ما أعطاه عزّا أصلا ، وسمّوا آخر منها باللّات ، وليس له من الإلهية شيء.

قوله : «سمّيتموها» صفة ل «أسماء» ، وكذلك الجملة من قوله : «ما نزّل الله بها من سلطان» يدلّ على خلوّ مذاهبهم عن الحجّة.

و «من سلطان» مفعول «نزّل» ، و «من» مزيدة ، ثمّ إنّه عليه الصّلاة والسّلام ذكر لهم وعيدا مجرّدا فقال : فانتظروا ما يحصل لكم من عبادة الأصنام إنّي معكم من المنتظرين.

فقوله : «من المنتظرين» خبر «إني» ، و «معكم» فيه ما تقدّم في قوله : (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) ، ويجوز ـ وهو ضعيف ـ أن يكون «معكم» هو الخبر و «من المنتظرين» حال ، والتقدير : إني مصاحبكم حال كوني من المنتظرين النّصر والفرج من الله ، وليس بذلك ؛ لأنّ المقصود بالكلام هو الانتظار ، لمقابلة قوله : «فانتظروا» فلا يجعل فضلة.

__________________

(١) ينظر المصدر السابق ١٤ / ١٢٩ ـ ١٣٠.

١٩٠

قوله تعالى : (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ)(٧٢)

قوله : (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) لأنهم استحقوا الرحمة بسبب إيمانهم و (وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي : استأصلناهم ، وأهلكناهم عن آخرهم وما كانوا مؤمنين ، فإن قيل : لما أخبر عنهم بأنّهم كانوا مكذبين لزم القطع بأنّهم كانوا غير مؤمنين فما الفائدة في قوله بعد ذلك : (وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ).

فالجواب : أن معناه أنّهم مكذبون في علم الله منهم أنّهم لو بقوا لم يؤمنوا أيضا ، فلو علم أنّهم سيؤمنون لأبقاهم.

قوله تعالى : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٧٣)

ثمود : اسم رجل ، وهو ثمود بن عاد بن إرم بن سام بن نوح ، وهو أخو جديس ، فثمود وجديس أخوان ، ثم سمّيت به هذه القبيلة.

قال أبو عمرو بن العلاء (١) : سميت ثمود لقلّة مائها ، والثّمد : الماء القليل : [قال النابغة: [البسيط]

٢٥٠٢ ـ أحكم كحكم فتاة الحيّ إذ نظرت

إلى حمام شراع وارد الثّمد (٢)](٣)

وكانت مساكنهم «الحجر» بين «الحجاز» و «الشّام» إلى «واد القرى» ، والأكثر منعه الصرف اعتبارا بما ذكرناه أوّلا ، ومن جعله اسما للحيّ صرفه ، وهي قراءة الأعمش ، ويحيى بن وثّاب في جميع القرآن ، وقد ورد القرآن بهما صريحا.

قال تعالى : (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) [هود : ٦٨].

وسيأتي الخلاف من القرّاء السّبعة في سورة «هود» وغيرها.

وصالح : اسم عربيّ ، وهو صالح بن آسف.

وقيل : ابن عبيد بن آسف بن كاشح بن أروم بن ثمود [ابن جاثر].

«قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره» أمرهم بعبادة الله ، ونهاهم عن عبادة غير الله ، كما ذكره عمن قبله من الأنبياء.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٤ / ١٣١.

(٢) ينظر : ديوانه ٢٣ ، الكتاب ١ / ١٦٨ ، شرح أبيات سيبويه ١ / ٣٣ ، الحيوان ٣ / ٢٢١ الدرر ١ / ٢١٧ ، ٢ / ٢٠٦ ، لسان العرب (حكم) ، (حمم) أدب الكاتب ٢٥ ، شرح التصريح ١ / ٢٢٥ ، البحر المحيط ٤ ؛ ٣٣٠ ، الدر المصون ٣ / ٢٠٢.

(٣) سقط من أ.

١٩١

قوله : (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).

قد كثر إيلاء هذه اللّفظة العوامل ، فهي جارية مجرى «الأبطح» و «الأبرق» في عدم ذكر موصوفها.

وقوله : «من ربّكم» يحتمل أن يتعلق ب «جاءتكم» و «من» لابتداء الغاية مجازا ، وأن تتعلق بمحذوف ؛ لأنّها صفة بيّنة ، ولا بدّ من حذف مضاف ، أي : من بينات ربكم ليتصادق الموصوف وصفته.

وهذا يدلّ على أنّ كلّ شيء كان يذكر الدلائل على صحّة التّوحيد ، ولم يكتف بالتّقليد ، وإلّا كان ذكر البينة ـ وهي الحجة ـ هاهنا لغوا.

قوله : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) أضاف النّاقة إليه على سبيل التفضيل ، كقولك : بيت الله ، وروح الله ؛ لأنّها لم تتوالد بين جمل وناقة ، بل خرجت من حجر.

و «آية» نصب على الحال ؛ لأنّها بمعنى العلامة ، والعامل فيها إمّا معنى التنبيه ، وإما معنى الإشارة ، كأنّه قال : أنبهكم عليها ، وأشير إليها في هذه الحال.

ويجوز أن يكون العامل مضمرا تقديره : انظروا إليها في هذه الحال ، والجملة لا محلّ لها ؛ لأنّها كالجواب لسؤال مقدّر ، كأنهم قالوا : أين آيتك؟ فقال : هذه ناقة الله.

وقوله : «لكم» أي : أعني لكم به ، وخصّوا بذلك ، لأنّهم هم السّائلوها ، أو المنتفعون بها من بين سائر النّاس لو أطاعوا.

ويحتمل أن تكون «هذه ناقة الله» مفسرة لقوله : «بيّنة» ؛ لأنّ البيّنة تستدعي شيئا يتبين به المدعى ، فتكون الجملة في محل رفع على البدل ، وجاز إبدال جملة من مفرد ؛ لأنّها في قوته.

فصل في إعجاز الناقة

اختلفوا في وجه كون النّاقة آية :

فقال بعضهم : «كانت آية بسبب خروجها بكمالها من الصخرة» (١).

قال القاضي (٢) : إن صحّ هذا فهو معجز من جهات :

أحدها : خروجها من الجبل.

والثانية : كونها لا من ذكر وأنثى.

والثالثة : كمال خلقها من غير تدريج.

وقيل : إنّما كانت آية ؛ لأجل أنّ لها شرب يوم ، ولجميع ثمود شرب يوم ، واستيفاء ناقة شرب أمّة من الأمم عجيب.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٣٢.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٣٢.

١٩٢

وقيل : إنّما كانت آية ؛ لأنّهم كانوا في شربها يحلبون منها القدر الذي يقوم مقام الماء في يوم شربهم.

وقال الحسن بالعكس من ذلك فقال : إنّها لم تحلب قطرة لبن قط (١).

وقيل : وجه كونها آية أن يوم مجيئها إلى الماء ، كانت جميع الحيوانات تمتنع من الورود على الماء ، وفي يوم امتناعها ترد جميع الحيوانات (٢).

واعلم أنّ القرآن قد دلّ على أنّها آية ، ولكن من أي الوجوه؟ فليس في القرآن ذكره.

فصل في تخصيص الناقة بهؤلاء القوم

فإن قيل : تلك النّاقة كانت آية لكلّ أحد ، فلم خصّ أولئك القوم بها بقوله : «لكم آية».

فالجواب : من وجهين :

الأول : أنّهم عاينوها ، وغيرهم أخبروا عنها ، وليس الخبر كالمعاينة (٣).

__________________

(١) ذكره الرازي في تفسيره (١٤ / ١٣٢).

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٣٢.

(٣) رواه أحمد ١ / ٢٧١ وابن منيع والطبراني والمجمع ١ / ١٥٣ والعسكري وابن حبان وموارد ٢٠٨٧ والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما بزيادة أن الله قال لموسى إن قومك فعلوا كذا كذا فلما عاين ألقى الألواح. وفي لفظ أن موسى أخبر أن قومه قد ضلوا من بعده فلم يلق الألواح فلما رأى ما أحدثوا ألقى الألواح ، ورواه في الجامع الصغير عن أحمد والطبراني في الأوسط والحاكم عن ابن عباس بلفظ ليس الخبر كالمعاينة إن الله تعالى أخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت. وفي التحفة لابن حجر قبيل باب الربا ومن ثم ورد ليس الخبر العيان ـ بكسر العين ، وروى كثيرون منهم أحمد وابن حبان خبر يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه تبارك وتعالى أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح فتكسر منها ما تكسر ، ورواه البغوي والدارقطني في الأفراد والطبراني في الأوسط عن هشيم وصححه الحاكم وابن حبان وغيرهما ، وأورده الضياء في المختارة وابن عدي وأبو يعلى الخليلي في الإرشاد من حديث ثمامة عن أنس. ومن هذا الوجه أورده الضياء في المختارة. وفي لفظ قال العسكري أراد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لا يهجم على قلب المخبر من الهلع بالأمر والاستفظاع له بمثل ما يهجم على قلب المعاين. قال وطعن بعض الملحدين في حديث موسى عليه‌السلام فقال لم يصدق بما أخبره به ربه ، وردّ بأنه ليس في هذا ما يدل على أنه لم يصدق أو شكّ فيما أخبره ولكن للعيان روعة للقلب فهو أبعث لهلعه من المسموع. قال ومن هذا قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام ولكن ليطمئن قلبي لأن للمشاهدة والمعاينة حالا ليست لغيره ولله در من قال :

ولكن للعيان لطيف معنى

له سأل المعاينة الخليل

وقد أشار ابن الحاجب في المختصر إلى هذا الحديث. وقال الزركشي ظن أكثر الشراح أنه ليس بحديث ، وزاد الحافظ ابن حجر في المجلس الثامن والخمسين بعد المائة من تخريجه وأغفله ابن كثير وتنبه له السبكي. وقال في اللآلىء فإن قيل هو معلول بما قاله ابن عدي في الكامل من أن هشيما لم يسمع هذا الحديث من أبي بشر وإنما سمعه من أبي عوانة عن أبي بشر فدلسه. قلت قال ابن حبان في ـ

١٩٣

الثاني : لعلّه يثبت سائر المعجزات ، إلّا أنّ القوم التمسوا من صالح هذه المعجزة نفسها على سبيل الاقتراح ، فأظهرها الله تعالى لهم ، فلهذا المعنى حسن هذا التخصيص.

قوله : «فذروها تأكل» أي : العشب في أرض الله ، أي : ناقة الله ، [فذروها تأكل في أرض ربّها ، فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات من إنباتكم.

قوله «في أرض الله» (١)] الظاهر تعلقه ب «تأكل».

وقيل : يجوز تعلقه بقوله : «فذروها» ، وعلى هذا فتكون المسألة من التّنازع وإعمال الثّاني ، ولو أعمل الأوّل لأضمر في الثّاني فقال : «تأكل فيها في أرض الله» وانجزم «تأكل» جوابا للأمر وقد تقدّم الخلاف في جازمه : هل هو نفس الجملة الطّلبيّة أو أداة مقدّرة؟.

وقرأ أبو جعفر (٢) : «تأكل» برفع الفعل على أنّه حال ، وهو نظير : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي) [مريم : ٥ ، ٦] رفعا وجزما.

قوله : «ولا تمسّوها بسوء» أي لا يمسوها بسوء الظاهر أن «الباء» للتعدية ، أي : لا توقعوا عليها سوءا ولا تلصقوه بها. ويجوز أن تكون للمصاحبة ، أي : لا تمسّوها حال مصاحبتكم للسّوء.

قوله : «فيأخذكم» نصب على جواب النّهي ، أي : لا تجمعوا بين المسّ بالسّوء وبين أخذ العذاب إيّاكم ، وهم وإن لم يكن أخذ العذاب لهم من صنعهم إلا أنّهم تعاطوا أسبابه.

قال عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب : «أشقى الأوّلين عاقر ناقة صالح ، وأشقى الآخرين قاتلك» (٣).

قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)(٧٤)

قيل : لمّا أهلك الله ـ تعالى ـ عاد عمرت ثمود بلادها ، وخلفوهم في الأرض ، وعمّروا أعمارا طوالا.

قوله : (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) بوّأه : أنزله منزلا ، والمباءة المنزل ، وتقدّمت هذه

__________________

ـ صحيحه لم ينفرد به هشيم ، فقد رواه أبو عوانة عن أبي بشر أيضا. وله طرق أخرى ذكرتها في المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر انتهى. وأقول بما تقدم من رواية هذا الحديث عن أنس أيضا يعلم ما في قول القرطبي في التذكرة لم يروه أحد غير ابن عباس فتأمل والله أعلم.

(١) سقط من ب.

(٢) ينظر الكشاف ٢ / ١٢١ ، ١٢٢ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٣١ ، والدر المصون ٣ / ٢٩٢.

(٣) أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (٣ / ١ / ٢٣).

١٩٤

المادة في «آل عمران» (١) ، وهو يتعدى لاثنين ، فالثّاني محذوف أي : بوّأكم منازل.

و «في الأرض» متعلّق بالفعل ، وذكرت ليبنى عليها ما يأتي بعدها من قوله : «تتّخذون».

قوله : «تتّخذون» يجوز أن تكون المتعدية لواحد فيكون من سهولها متعلقا بالاتخاذ ، أو بمحذوف على أنّه حال من قصورا إذ هو في الأصل صفة لها لو تأخّر ، بمعنى أنّ مادة القصور من سهل الأرض كالطّين واللّبن والآجر كقوله : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ) [الأعراف : ١٤٨] [أي مادته من الحلي](٢).

وقيل : «من» بمعنى «في». وفي التّفسير أنّهم كانوا يسكنون في القصور صيفا ، وفي الجبال شتاء ، وأن تكون المتعدية لاثنين ثانيهما «من سهولها» والسهل من الأرض ما لان وسهل الانتفاع به ضد الحزن ، والسهولة : التّيسير.

قوله : «قصورا» [والقصور هو جمع قصر](٣) وهو البيت المنيف ، سمّي بذلك لقصور النّاس عن الارتقاء إليه ، أو لأن عامة النّاس يقصرون عن بناء مثله بخلاف خواصهم ، أو لأنّه يقتصر به على بقعة من الأرض ، بخلاف بيوت الشّعر والعمد ، فإنّها لا يقتصر بها على بقعة مخصوصة لارتحال أهلها ؛ أو لأنّه يقصر من فيه أي : يحبسه ، ومنه : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) [الرحمن : ٧٢].

قوله : (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) يجوز أن يكون نصب «الجبال» على إسقاط الخافض أي : من الجبال ، كقوله : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف : ١٥٥] ، فتكون «بيوتا» مفعوله.

ويجوز أن يضمّن «تنحتون» معنى ما يتعدّى لاثنين أي وتتخذون الجبال بيوتا بالنحت أو تصيرونها. [بيوتا بالنّحت.

ويجوز أن تكون «الجبال» هو المفعول به و «بيوتا» حال مقدرة كقولك : خط هذا الثّوب جبة [وابر هذه القصبة قلما ؛ وذلك لأن الجبال لا تكون بيتا في حال النحت ، ولا الثوب ولا القصبة قميصا وقلما في حالة الخياطة والبري](٤) ، أي : مقدّرا له كذلك](٥) و «بيوتا» وإن لم تكن مشتقة فإنّها في معناه أي : مسكونة.

وقرأ الحسن (٦) : «تنحتون» بفتح الحاء. وزاد الزّمخشريّ أنه قرأ (٧) «تنحاتون» بإشباع الفتحة [ألفا] ، وأنشد : [الكامل]

__________________

(١) ينظر تفسير الآية (١١٢) من سورة آل عمران.

(٢) سقط من ب.

(٣) سقط من ب.

(٤) سقط من ب.

(٥) سقط من أ.

(٦) ينظر : الكشاف ٢ / ١٢٢ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٤٢٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٣٢ ، والدر المصون ٣ / ٢٩٣.

(٧) ينظر : الكشاف ٢ / ١٢٢.

١٩٥

٢٥٠٣ ـ ينباع من ذفرى غضوب جسرة

 .......... (١)

وقرأ يحيى (٢) بن مصرف وأبو مالك بالياء من أسفل على الالتفات إلا أن أبا مالك فتح الحاء كقراءة الحسن.

والنّحت : النّجر في شيء صلب كالحجر والخشب.

قال : [البسيط]

٢٥٠٤ ـ أمّا النّهار ففي قيد وسلسلة

واللّيل في بطن منحوت من السّاج (٣)

فصل في جواز البناء الرفيع

قال القرطبي (٤) : استدلّ بهذه الآية من أجاز جواز البناء الرفيع كالقصور ونحوها ، وبقوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف : ٣٢] ، وبقوله عليه الصّلاة والسلام : «إنّ الله إذا أنعم على عبد نعمة يحبّ أن يرى أثر النّعمة عليه»(٥).

ومن آثار النعمة البناء الحسن ، والثياب الحسنة ، ألا ترى أنه لو اشترى جارية جميلة بمال عظيم ، فإنّه يجوز ، وقد يكفيه دون ذلك ، فكذلك البناء ، وكرهه الحسن وغيره [لقوله عليه الصّلاة والسلام : «إذا أراد الله بعبد سوءا أهلك ماله في الطّين واللّبن».

وقوله عليه الصلاة والسلام : «من بنى فوق ما يكفيه جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه» (٦)](٧).

قوله : (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) أي نعم الله عليكم.

(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ) قرأ (٨) الأعمش بكسر حرف المضارعة وقد تقدم أن ذلك لغة.

و «مفسدين» حال مؤكدة إذ معناها مفهوم من عاملها.

و «في الأرض» متعلق بالفعل قبله أو ب «مفسدين».

قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ)(٧٦) (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٢٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٣٢ ، والدر المصون ٣ / ٢٩٣.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر تفسير القرطبي ٧ / ١٥٣.

(٥) تقدم.

(٦) أخرجه الطبراني في «الكبير» (١ / ١٨٧) وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٤ / ٧٠) وقال : رواه الطبراني في الكبير وفيه المسيب بن واضح وثقه النسائي وضعفه جماعة.

(٧) سقط من أ.

(٨) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٢٣ ، البحر المحيط ٤ / ٣٣٢ ، الدر المصون ٣ / ٢٩٣.

١٩٦

أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)(٧٩)

قوله : «قال الملأ» قرأ ابن عامر (١) وحده «وقال» بواو عطف نسقا لهذه الجملة على ما قبلها ، وموافقة لمصاحف الشّام ، فإنها مرسومة فيها ، والباقون بحذفها : إما اكتفاء بالربط المعنوي ، وإمّا لأنّه جواب لسؤال مقدّر كما تقدّم ، وهذا موافقة لمصاحفهم ، وهذا كما تقدّم في قوله : (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) إلا أنّه هو الذي حذف الواو هناك.

قوله : (الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا).

السين في «استكبروا» و «استضعفوا» يجوز أن تكون على بابها من الطلب ، أي : طلبوا ـ أولئك ـ الكبر من أنفسهم ومن المؤمنين الضعف.

ويجوز أن يكون «استفعل» بمعنى : فعل [كعجب] واستعجب.

واللّام في (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) للتبليغ ، ويضعف أن تكون للعلّة ، والمراد بالذين استكبروا الرّؤساء ، وبالذين استضعفوا المساكين.

قوله : (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل من (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) بإعادة العامل ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنّه بدل كلّ من كلّ ، إن عاد الضّمير في «منهم» على قومه ، ويكون المستضعفون مؤمنين فقط ، كأنّه قيل : قال المستكبرون للمؤمنين من قوم صالح.

والثاني : بدل بعض من كلّ ، إن عاد الضّمير على المستضعفين ، ويكون المستضعفون ضربين : مؤمنين وكافرين ، كأنّه قيل : قال المستكبرون للمؤمنين من الضّعفاء دون الكافرين من الضّعفاء.

وقوله : «أتعلمون» في محل نصب بالقول.

و «من رّبّه» متعلق ب «مرسل» ، و «من» لابتداء الغاية مجازا ، ويجوز أن تكون صفة فتتعلق بمحذوف.

واعلم أنّ المستكبرين لمّا سألوا المستضعفين عن حال صالح وما جاء به ، فأجاب المستضعفون بقولهم : إنّا بما أرسل به صالح مؤمنون ، أي : مصدّقون ، فقال المستكبرون : بل نحن كافرون بما آمنتم به ، أي : بالذي جاء به صالح.

قوله : «إنّما بما أرسل به» متعلق ب «مؤمنون» قدّم للاختصاص والاهتمام وللفاصلة.

قوله : «قال الذي» «ما» موصولة ، ولا يجوز هنا حذف العائد وإن اتحد الجار

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٨٤ ، والحجة ٤ / ٥١ ، ٥٢ ، وإعراب القراءات ١ / ١٩٣ ، وحجة القراءات ٢٨٧ ، وشرح شعلة ٣٩٢ ، والعنوان ٩٦ ، وإتحاف ٢ / ٥٤.

١٩٧

للموصول وعائده ؛ لاختلاف العامل في الجارين وكذلك قوله : (بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ).

قوله : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) أصل العقر : كشف العراقيب في الإبل ، وهو أن يضرب قوائم البعير أو النّاقة فتقع ، وكانت هذه سنتهم في الذّبح.

قال امرؤ القيس : [الطويل]

٢٥٠٥ ـ ويوم عقرت للعذارى مطيّتي

فيا عجبا من رحلها المتحمّل (١)

ثم أطلق على كل نحر «عقر» ، وإن لم يكن فيه كشف عراقيب تسمية للشّيء بما يلازمه غالبا ، إطلاقا للمسبّب على مسبّبه هذا قول الأزهري (٢).

وقال ابن قتيبة : «العقر : القتل كيف كان ، عقرتها فهي معقورة».

وقيل : العقر : الجرح. وعليه قول امرىء القيس : [الطويل]

٢٥٠٦ ـ تقول وقد مال الغبيط بنا معا

عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل (٣)

يريد : جرحته بثقلك وتمايلك ، والعقر والعقر بالفتح ، والضمّ [الأصل](٤) ، ومنه عقرته أي : أصبت عقره يعني أصله كقولهم : كبدته ورأسته أي : أصبت كبده ورأسه ، وعقرت النخل : قطعته من أصله ، والكلب العقور منه ، والمرأة عاقر ، وقد عقرت.

والعقر بالضّمّ آخر الولد وآخر بيضة يقال : عقر البيض.

والعقار بالفتح : الملك من الأبنية ، ومنه «ما غزي قوم في عقر دارهم إلّا ذلّوا» ، وبعضهم يخصه بالنّخل.

والعقار بالضّم : الخمر ؛ لأنّها كالعاقرة للعقل ، ورفع عقيرته أي : صوته ، وأصله أنّ رجلا عقر رجله فرفع صوته فاستعير لكلّ صائح ، والعقر بالضمّ : المهر.

وأضاف العقر إليهم مع أنّه ما كان باشره إلا بعضهم ؛ لأنّه كان برضاهم.

قوله : «وعتوا» العتوّ ، والعتيّ : النّبوّ أي : الارتفاع عن الطّاعة يقال منه : عتا يعتو عتوّا وعتيّا بقلب الواوين ياءين ، والأحسن فيه إذا كان مصدرا تصحيح الواوين كقوله : (وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) [الفرقان : ٢١] وإذا كان جمعا الإعلال نحو : قوم عتيّ ، لأنّ الجمع أثقل ، قياسه الإعلال تخفيفا.

وقوله : (أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) [مريم : ٦٦] محتمل للوجهين وقوله : (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ

__________________

(١) ينظر ديوانه ص ١١ ، رصف المباني ٣٤٩ ، ٤٤٧ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٥٥٨ ومغني اللبيب ١ / ٢٠٩ ، التصريح ١ / ٢٧١ ، الدر المصون ٣ / ٢٩٤.

(٢) ينظر : تهذيب اللغة ١ / ٢١٥.

(٣) تقدم.

(٤) سقط من أ.

١٩٨

الْكِبَرِ عِتِيًّا) [مريم : ٨] أي : حالة تتعذر مداواتي فيها كقوله : [الكامل]

٢٥٠٧ ـ ..........

ومن العناء رياضة الهرم (١)

وقيل : العاتي : الجاسي أي اليابس. ويقال : عثا يعثو عثوّا بالثاء المثلثة من مادة أخرى ؛ لأنّه يقال : عثي يعثى عثيّا وعثا يعثو عثوّا ، [فهو في إحدى لغتيه يشاركه «عتا» بالمثناة وزنا ومعنى ، ويقاربه في حروفه. والعيث أيضا ـ بتقديم الياء من أسفل](٢) على الثاء المثلثة ـ هو الفساد ، فيحتمل أن يكون أصلا ، وأن يكون مقلوبا فيه.

وبعضهم يجعل العيث الفساد المدرك حسّا ، والعثيّ في المدرك حكما ، وقد تقدّم طرف من هذا.

ومعنى الآية : استكبروا عن امتثال أمر ربّهم وكذّبوا بنبيهم.

قوله : (وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا) يجوز لك على رواية من يسهّل الهمزة وهو ورش والسوسي أن تقلب الهمزة واوا ، فتلفظ بصورة «يا صالح وتنا» في الوصل خاصة تبدل الهمزة بحركة ما قبلها ، وإن كانت منفصلة من كلمة أخرى.

وقرأ عاصم (٣) وعيسى بن عمر «أوتنا» بهمزة وإشباع ضم ولعله عاصم الجحدريّ لا عاصم بن أبي النجود ، وهذه القراءة لا تبعد عن الغلط ؛ لأن همزة الوصل في هذا النحو مكسورة فمن أين جاءت ضمة الهمزة إلّا على التوهّم؟

قوله : «بما تعدنا» العائد محذوف أي : «تعدناه» ولا يجوز أن تقدر «تعدنا» متعديا إليه بالباء ، وإن كان الأصل تعديته إليه بها ، لئلا يلزم حذف العائد المجرور بحرف من غير اتّحاد متعلقهما لأن «بما» متعلّق ب «الإتيان» ، و «به» متعلق ب «الوعد» ثم قالوا (إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) وإنما قالوا ذلك ؛ لأنّهم كانوا مكذبين في كل ما أخبر عنه من الوعد والوعيد.

قوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) قال الفراء والزجاج هي الزلزلة الشديدة يقال رجفت الأرض ترجف رجفا ورجيفا ورجفانا قال تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) [المزمل : ١٤].

وقال اللّيث : الرّجفة : الطّامة التي ينزعزع لها الإنسان ويضطرب. ومنه قيل للبحر رجّاف لاضطرابه.

وقيل : أصله من رجف به البعير إذا حركه في سيره ، كما يرجف الشجر إذا رجفه الريح.

__________________

(١) البيت ينظر : عيون الأخبار ٢ / ٣٦٩ ، وشرح المفضليات ١ / ٦٥ ، اللسان (جسا) ، الدر المصون ٣ / ٢٩٥.

(٢) سقط من أ.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٣٤ ، والدر المصون ٣ / ٢٩٥.

١٩٩

قال ابن أبي ربيعة : [الطويل]

٢٥٠٨ ـ ولمّا رأيت الحجّ قد حان وقته

وظلّت جمال الحيّ بالقوم ترجف (١)

والإرجاف إيقاع الرّجفة ، وجمعه الأراجيف ، ومنه «الأراجيف ملاقيح الفتن».

وقوله : (تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) [النازعات : ٦].

كقوله : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) [الزلزلة : ١].

ومنه : [الطويل]

٢٥٠٩ ـ تحيي العظام الرّاجفات من البلى

فليس لداء الرّكبتين طبيب (٢)

قوله : (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) [يعني في بلدهم ، كما يقال : دار الحرب ، ودار البزّازين].

الجثوم : اللّصوق بالأرض من جثوم الطّائر والأرنب ، فإنّه يلصق بطنه بالأرض ، ومنه رجل جثمة وجثّامة كناية عن النّؤوم الكسلان ، وجثمان الإنسان شخصه قاعدا وقال أبو عبيد : «الجثوم للنّاس والطير كالبرول للإبل» وأنشد لجرير : [الوافر]

٢٥١٠ ـ عرفت المنتأى وعرفت منها

مطايا القدر كالحدأ الجثوم (٣)

قال الكرمانيّ : حيث ذكرت الرجفة وحدت الدّار ، وحيث ذكرت الصيحة جمعت الدار ، لأنّ الصيحة كانت من السماء فبلوغها أكبر وأبلغ من الزلزلة ، فذكر كل واحد بالأليق [به] وقيل : في دارهم أي في بلدهم كما تقدّم ، وقيل : المراد بها الجنس.

فصل في بيان فائدة موضع الفاء في الآية

الفاء في «فأخذتهم» للتّعقيب ، وقوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) يقتضي أنّ الرّجفة أخذتهم عقيب قولهم : (ائْتِنا بِما تَعِدُنا) وليس الأمر كذلك لقوله تعالى في آية أخرى : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود : ٦٥].

فالجواب : أنّ أسباب الهلاك وجدت عقيب قولهم : (ائْتِنا بِما تَعِدُنا) ، وهو أنّهم اصفرت وجوههم في اليوم الأوّل ، واحمرّت في اليوم الثاني ، واسودّت في اليوم الثالث ، فكان ابتداء العذاب متعقبا قولهم.

ويمكن أن تكون عاطفة على الجملة من قوله : «فائتنا» أيضا وذلك على تقدير قرب زمان الهلاك من زمان طلب الإتيان. ويجوز أن يقدر ما يصحّ العطف عليه بالفاء ، والتقدير : فوعدهم العذاب بعد ثلاث فانقضت فأخذتهم.

__________________

(١) البيت ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣١٩ ، القرطبي ٧ / ٢٤٢ ، الدر المصون ٣ / ٢٩٦.

(٢) البيت ينظر : اللسان (رجف) ، الدر المصون ٣ / ٢٩٦.

(٣) البيت لجرير ينظر : ديوانه ٢١٧ ، مجاز القرآن ١ / ٢١٨ ، الدر المصون ٣ / ٢٩٦.

٢٠٠