اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

فإذا دخل أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النّار النّار ، رفعت الجنة لأهل النّار فينظروا إلى منازلهم فيها فيقال لهم : هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله ـ تعالى ـ ثمّ يقال : يا أهل الجنة ، رثوهم بما كنتم تعملون ، فيقسم بين أهل الجنة منازلهم» (١).

فإن قيل : هذه الآية تدلّ على أنّ العبد يدخل الجنّة بعمله ، وقوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «لن يدخل أحد الجنة بعمله ، وإنّما يدخلونها برحمة الله» (٢) ، وبينهما تناقض (٣).

فالجواب : أنّ العمل لا يوجب دخول الجنّة لذاته ، وإنّما يوجبه لأن الله بفضله جعله علامة عليه ، وأيضا لمّا كان الموفق للعمل الصّالح هو الله تعالى ـ كان دخول الجنّة في الحقيقة ليس إلّا بفضل الله ـ تعالى ـ.

قوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٤٤)

لمّا شرح وعيد الكفار وثواب أهل الإيمان أتبعه بذكر المناظرات التي تدور بين الفريقين في هذه الآية.

قوله : «أن قد وجدنا» «أن» يحتمل أن تكون تفسيرية للنّداء ، وأن تكون مخففة من الثّقيلة ، واسمها ضمير الأمر والشّأن ، والجملة بعدها خبرها ، وإذا كان الفعل متصرّفا غير دعاء ، فالأجود الفصل ب «قد» كهذه الآية أو بغيرها. وقد تقدّم تحقيقه في المائدة.

قال الزّمخشريّ (٤) : فإن قلت : هلا قيل : ما وعدكم ربكم ، كما قيل : (ما وَعَدَنا رَبُّنا).

قلت : حذف ذلك تخفيفا لدلالة «وعدنا» عليه.

ولقائل أن يقول : أطلق ليتناول كلّ ما وعد الله من البعث والحساب والعقاب والثواب ، وسائر أحوال القيامة ، لأنّهم كانوا مكذّبين بذلك أجمع ، ولأنّ الموعود كله ممّا ساءهم ، وما نعيم أهل الجنّة إلّا عذاب لهم فأطلق لذلك.

قال شهاب الدّين (٥) : قوله : «ولقائل ... إلى آخره.

هذا الجواب لا يطابق سؤاله ؛ لأنّ المدعي حذف المفعول الأوّل ، وهو ضمير المخاطبين.

والجواب وقع بالمفعول الثّاني الذي هو الحساب والعقاب ، وسائر الأحوال ، [فهذا] إنّما يناسب لو سئل عن حذف المفعول الثاني ، لا المفعول الأول».

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٧ / ٢٠٩).

(٢) متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه ، أخرجه البخاري في الصحيح ١١ / ٢٩٤ ، كتاب الرقاق : باب القصد والمداومة الحديث (٦٤٦٣) واللفظ له ، وأخرجه مسلم في الصحيح ٤ / ١٦٩ ، كتاب المنافقين : باب لن يدخل أحد الجنة بعمله الحديث (٧١ / ٨١٦) و (الدلجة) : سير الليل.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٦٨.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ١٠٦.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٧٣.

١٢١

وأجاب ابن الخطيب (١) عن السّؤال بأن قوله : (ما وَعَدَنا رَبُّنا) يدلّ على أنّه تعالى خاطبهم بهذا الوعد وكونهم مخاطبين من قبل الله ـ تعالى ـ بهذا الوعد يوجب مزيد التّشريف ومزيد التشريف لائق بحال المؤمنين.

أمّا الكافر فليس أهلا لأن يخاطبه الله ـ تعالى ـ فلهذا السّبب لم يذكر الله تعالى أنّه خاطبهم بهذا الخطاب بل ذكر الله ـ تعالى ـ أنّه بيّن هذا الحكم.

و «نعم» حرف جواب ك «أجل» و «إي» و «جير» و «بلى» ، ونقيضتها «لا».

و «نعم» تكون لتصديق الإخبار ، أو إعلام استخبار ، أو وعد طالب ، وقد يجاب بها النّفي المقرون باستفهام وهو قليل جدّا كقول جحدر : [الوافر]

٢٤٦٩ ـ أليس اللّيل يجمع أمّ عمرو

وإيّانا فذاك بنا تداني

نعم ، وترى الهلال كما أراه

ويعلوها النّهار كما علاني (٢)

فأجاب قوله : «أليس» ب «نعم» ، وكان من حقه أن يقول : بلى ، ولذلك يروى عن ابن عباس في قوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] : لو قالوا : نعم لكفروا ، وفيه بحث يأتي إن شاء الله ـ تعالى ـ قريبا.

وقرأ الكسائيّ (٣) والأعمش ويحيى بن وثّاب بكسر عينها ، وهي لغة «كنانة» ، وطعن أبو حاتم عليها وقال : «ليس الكسر بمعروف».

واحتج الكسائيّ لقراءته بما يحكى عن عمر بن الخطاب أنّه سأل قوما فقالوا : نعم بالفتح ، فقال : «أمّا النّعم فالإبل فقولوا : نعم» أي بالكسر.

قال أبو عبيد : «ولم نر العرب يعرفون ما رووه عن عمر ونراه مولّدا».

قال شهاب الدين : وهذا طعن في المتواتر فلا يقبل ، وتبدل عينها حاء ، وهي لغة فاشية ، كما تبدل حاء «حتى» عينا.

قوله : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ).

التأذين في اللّغة النداء والتّصويت بالإعلام ، والأذان للصّلاة إعلام بها وبوقتها.

وقالوا في «أذّن مؤذّن» : نادى مناد أسمع الفريقين.

قال ابن عباس : «وذلك المؤذن من الملائكة وهو صاحب الصّور» (٤).

قوله : «بينهم» يجوز أن يكون منصوبا ب «أذّن» أو ب «مؤذن» فعلى الأول التقدير :

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٦٩.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : السبعة ٢٨١ ، والحجة ٤ / ١٩ ، وحجة القراءات ٢٨٢ ، ٢٨٣ ، وإعراب القراءات ١ / ١٨١ ، والعنوان ٩٥ ، وشرح شعلة ٣٨٩ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٩٥ ، وإتحاف ٢ / ٤٩.

وينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٠٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٠٣ ، والدر المصون ٣ / ٢٧٣.

(٤) ذكره الرازي في تفسيره (١٤ / ٧٠).

١٢٢

أنّ المؤذن أوقع ذلك الأذان بينهم أي في وسطهم.

وعلى الثّاني التّقدير : أنّ مؤذّنا من بينهم أذّن بذلك الأذان ، والأول أولى.

وأن يكون متعلّقا بمحذوف على أنّه صفة ل «مؤذّن» قال مكيّ (١) ـ عند إجازته هذا الوجه ـ : «ولكن لا يعمل في «أن» «مؤذّن» إذ قد نعته» يعني أنّ قوله : (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ) لا يجوز أن يكون معمولا ل «مؤذّن» ؛ لأنّه موصوف واسم الفاعل متى وصف لم يعمل.

قال شهاب الدّين (٢) : «وهذا يوهم أنّا إذا لم نجعل «بينهم» نعتا ل «مؤذّن» جاز أن يعمل في «أن» ، وليس الأمر كذلك ؛ لأنّك لو قلت : ضرب ضارب [زيدا تنصب زيدا ب «ضرب» لا ب «ضارب»].

لكني قد رأيت الواحدي أجاز ما أجاز مكيّ من كون «مؤذّن» عاملا في «أن» ، وإذا وصفته امتنع ذلك ، وفيه ما تقدّم وهو حسن.

قوله : (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) «أن» يجوز أن تكون المفسّرة ، وأن تكون المخففة ، والجملة الاسميّة بعدها الخبر ، فلا حاجة هنا لفاصل.

وقرأ الأخوان (٣) ، وابن عامر ، والبزّي : «أنّ» بفتح الهمزة وتشديد النون ، ونصب «اللّعنة» على أنّها اسمها ، و «على الظالمين» خبرها ، وكذلك في [النور ٧] (أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ) خفّف «أن» ورفع اللّعنة نافع وحده ، والباقون بالتشديد والنّصب.

[قال الواحديّ : من شدّد فهو الأصل ، ومن خفّف فهو مخففة من التشديد على إرادة إضمار القصّة والحديث تقديره : أنه لعنة الله ، ومثله قوله تعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) [يونس : ١٠] التقدير : أنّه ، ولا يخفف «أن» هذه إلا وتكون بعد إضمار الحديث والشأن].

وقرأ (٤) عصمة عن الأعمش : «إنّ» بالكسر والتشديد ، وذلك : إمّا على إضمار القول عند البصريين ، وإمّا على إجراء النّداء مجرى القول عند الكوفيّين.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ)(٤٥)

قوله : «الّذين» يجوز أن يكون مرفوع المحل ومنصوبه على القطع فيهما ، ومجروره على النّعت ، أو البدل ، أو عطف البيان.

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ٣١٧.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٧٣.

(٣) ينظر : السبعة ٢٨١ ، ٢٨٢ ، والحجة ٤ / ٢١ ، ٢٢ ، وحجة القراءات ٢٨٣ ، وإعراب القراءات ١ / ١٨٢ ، والعنوان ٩٥ ، وشرح شعلة ٣٨٩ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٩٧ ، وإتحاف ٢ / ٤٩.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٠٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٠٣ ، والدر المصون ٣ / ٢٧٣ ، والتخريجات النحوية ٧٩.

١٢٣

ومفعول «يصدّون» محذوف أي : يصدّون النّاس ، ويجوز ألّا يقدر له مفعول.

والمعنى : الّذين من شأنهم الصّدّ كقولهم : «هو يعطي ويمنع».

ومعنى «يصدّون» أي : يمنعون النّاس من قبول الدين الحقّ ، إمّا بالقهر ، وإمّا بسائر الحيل.

ويجوز أن يكون «يصدّون» بمعنى يعرضون من : صدّ صدودا ، فيكون لازما.

قوله : (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي بإلقاء الشكوك والشّبهات في دلائل الدّين الحق ، ثم قال: و (بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ).

وهذا يدلّ على فساد ما قاله القاضي من أنّ ذلك اللعن يعم الفاسق والكافر (١).

والعوج بكسر العين في الدّين والأمر وكلّ ما لم يكن قائما ، وبالفتح في كلّ ما كان قائما كالحائط والرّمح ونحوه.

قوله تعالى :(وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ)(٤٦)

أي بين أصحاب الجنّة وأصحاب النّار ، وهذا هو الظّاهر كقوله : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) [الحديد : ١٣].

وقيل : بين الجنّة والنّار ، وبه بدأ الزّمخشريّ.

فإن قيل : وأي حاجة إلى ضرب هذا السّور بين الجنّة والنّار ، وقد ثبت أن الجنّة فوق والنّار في أسفل السّافلين؟.

فالجواب : بعد إحداهما عن الأخرى لا يمنع أن يحصل بينهما سور وحجاب.

قوله : «وعلى الأعراف» : قال الزّمخشريّ (٢) : أي : وعلى أعراف الحجاب.

قال القرطبيّ (٣) : أعراف السّور وهي شرفه ، ومنه عرف الفرس وعرف الدّيك ، كأنّه جعل «أل» عوضا من الإضافة وهو مذهب كوفي ، وتقدّم تحقيقه.

وجعل بعضهم نفس الأعراف هي نفس الحجاب المتقدم ذكره ، عبر عنه تارة بالحجاب ، وتارة بالأعراف.

قال الواحديّ ـ ولم يذكر غيره ـ : «ولذلك عرّفت الأعراف ؛ لأنّه عني بها الحجاب» قاله ابن عباس.

والأعراف : جمع عرف بضمّ العين ، وهو كلّ مرتفع من أرض وغيرها استعارة من عرف الدّيك ، وعرف الفرس.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٧١.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ١٠٦.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١٣٥.

١٢٤

قال يحيى بن آدم : سألت الكسائيّ عن واحد الأعراف فسكت ، فقلت : حدثتنا امرأتك عن جابر عن مجاهد عن ابن عباس قال : «الأعراف سور له عرف مثل عرف الدّيك» فقال : نعم ، وإن واحده عرف بعير ، وإن جماعته أعراف ، يا غلام هات القرطاس كأنّه عرف بارتفاعه دون الأشياء المنخفضة ، فإنّها مجهولة غالبا.

قال أمية بن أبي الصلت : [البسيط]

٢٤٧٠ ـ وآخرون على الأعراف قد طمعوا

في جنّة حفّها الرّمّان والخضر (١)

ومثله أيضا قوله : [الرجز]

٢٤٧١ ـ كلّ كناز لحمه نياف

كالجبل الموفي على الأعراف (٢)

وقال الشّمّاخ : [الطويل]

٢٤٧٢ ـ فظلّت بأعراف تعادى كأنّها

رماح نحاها وجهة الرّيح راكز (٣)

وقال الزّجّاج ، والحسن في أحد قوليه : إن قوله : «وعلى الأعراف» وعلى معرفة أهل الجنّة والنّار ، كتبة رجال يعرفون كل من أهل الجنة والنّار بسيماهم ، للحسن : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فضرب على فخذه ثم قال : هم قوم جعلهم الله على تعرف أهل الجنّة وأهل النّار ، يميزون البعض من البعض والله لا أدري لعل بعضهم الآن معنا (٤).

قال المهدويّ : «إنّهم عدول القيامة الذين يشهدون على النّاس بأعمالهم ، وهم في كلّ أمّة» ، واختار هذا القول النّحّاس وقال : «هو من أحسن ما قيل فيه ، فهم على السور بين الجنّة والنّار».

فأمّا القائلون بالقول الأوّل فقد اختلفوا في الذين هم على الأعراف على قولين :

فقيل : هم الأشراف من أهل الطّاعة ، وقال أبو مجلز : «هم ملائكة يعرفون أهل الجنّة وأهل النّار» ، فقيل له : يقول الله ـ عزوجل ـ (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ) ، وتزعم أنّهم ملائكة ، فقال : «الملائكة ذكور لا إناث».

وقيل : هم الأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ أجلسهم الله على أعلى ذلك السّور إظهارا لشرفهم وعلوّ مرتبتهم.

وقيل : هم الشّهداء.

__________________

(١) البيت ينظر ديوانه ٣٣ ، الدر المصون ٣ / ٢٧٤.

(٢) البيت ينظر : مجاز القرآن ١ / ٢١٥ ، البحر ٤ / ٢٨٧ ، اللسان (نون) ، الدر المصون ٣ / ٢٧٤.

(٣) البيت ينظر : ديوانه (٢٠١) مجاز القرآن ١ / ٢١٥ ، تفسير الطبري ١٣ / ٤٤٩ ، الدر المصون ٣ / ٢٧٤.

(٤) ذكره الرازي في تفسيره (١٤ / ٧٠).

١٢٥

فإن قيل : هذه الوجوه باطلة لأنه تعالى قال في صفة أصحاب الأعراف : «لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها» ، وهذا الوصف لا يليق بالملائكة والأنبياء والشّهداء.

فالجواب : قالوا : لا يبعد أن يقال : إنّه تعالى بيّن من صفة أهل الأعراف أن دخولهم الجنة يتأخر ، والسّبب فيه أنّه تعالى ميّزهم عن أهل الجنّة وأهل النّار ، وأجلسهم على تلك الأماكن المرتفعة ليشاهدوا أحوال أهل الجنّة في الجنّة ، وأحوال أهل النّار في النّار ، وأهل النّار في النّار ، فحينئذ ينقلهم الله إلى أماكنهم العالية في الجنّة. فثبت أنّ كونهم غير داخلين في الجنّة لا يمنع من كمال شرفهم وعلو درجتهم.

وأمّا قوله : «وهم يطمعون» والطمع هنا يحتمل أن يكون على بابه أو يكون بمعنى اليقين قال تعالى حكاية عن إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء : ٨٢].

وذلك الطمع طمع يقين ، وقال الشّاعر : [المتقارب]

٢٤٧٣ ـ وإنّي لأطمع أنّ الإله

قدير بحسن يقيني يقيني (١)

القول الثاني : أن أصحاب الأعراف أقوام يكونون في الدرجة النازلة](٢) من أهل الثواب وهؤلاء ذكروا وجوها :

أحدها : أنّهم أقوام تساوت حسناتهم وسيّئاتهم ، فأوقفهم الله تعالى على الأعراف ، لكونها درجة متوسطة بين الجنّة والنار ، ثم يدخلهم الله الجنّة بفضله ورحمته ، وهذا قول حذيفة وابن مسعود ، واختيار الفرّاء ، وطعن الجبّائيّ والقاضي في هذا القول (٣) ، واحتجّوا على فساده من وجهين :

الأوّل : قالوا : إن قوله تعالى : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يدلّ على أنّ كلّ من دخل الجنة فلا بدّ وأن يكون مستحقا لدخولها ، وذلك يمنع من القول بوجود أقوام لا يستحقون الجنّة ولا النّار ، ثم إنّهم يدخلون الجنة بمحض التفضل ، لا بسبب الاستحقاق.

الثاني : أنّ كونهم من أصحاب الأعراف يدلّ على أنّه تعالى ميّزهم من جميع أهل القيامة ، ثمّ أجلسهم على الأماكن العالية [وقيل هذا التشريف لا يليق إلّا بالأشراف وأما الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم فدرجتهم قاصرة ، فلا يليق بهم ذلك التشريف](٤).

والجواب عن الأوّل : أنّه يحتمل أن يكون قوله : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها)

__________________

(١) البيت ينظر : البحر ٤ / ٣٠٥ ، الدر المصون ٣ / ٢٧٥.

(٢) سقط من ب.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٧٣.

(٤) سقط من ب.

١٢٦

خطاب مع أقوام معيّنين ، فلم يلزم أن يكون كلّ أهل الجنّة كذلك.

والجواب عن الثّاني : أنّا لا نسلّم أنّه تعالى أجلسهم على تلك الأماكن العالية على سبيل التّخصيص بمزيد التّشريف وإنّما أجلسهم عليها ؛ لأنّها كالمرتبة المتوسّطة بين الجنّة والنّار وهل النزاع إلّا في ذلك؟!.

الوجه الثاني : أنّهم أقوام خرجوا إلى الغزو بغير إذن آبائهم فاستشهدوا فحبسوا بين الجنّة (١) والنّار ، وهذا داخل في القول الذي قبله ؛ لأنّ معصيتهم ساوت طاعتهم بالجهاد.

الثالث : قال عبد الله بن الحارث (٢) : «إنّهم مساكين أهل الجنّة».

الرابع : قيل : إنّهم الفسّاق من أهل الصّلاة يعفو الله عنهم ويسكنهم في الأعراف (٣).

وأمّا القول الثّاني بأن الأعراف عبارة عن الرّجال الذين يعرفون أهل الجنّة والنّار ، فهذا قول غير بعيد ؛ لأنّ هؤلاء الأقوام لا بدّ لهم من مكان عال ، يشرفون منه على أهل الجنّة وأهل النّار(٤).

قوله : «يعرفون» في محلّ رفع نعتا ل «رجال» ، و «كلّا» أي : كل فريق من أصحاب الجنّة ، وأصحاب النّار.

قوله : «بسيماهم» قال ابن عبّاس : «إنّ سيما الرجل المسلم من أهل الجنّة بياض وجهه(٥). قال تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦] [وكون وجوههم مسفرة ضاحكة مستبشرة وكون كل واحد أغر محجلا من آثار الوضوء وعلامة الكفار سواد وجوههم](٦). وكون وجوههم عليها غبرة ترهقها قترة ، وكون عيونهم زرقا» (٧).

وقيل : إنّ أصحاب الأعراف كانوا يعرفون المؤمنين في الدنيا بظهور علامات الإيمان والطّاعة عليهم ، ويعرفون الكافرين في الدّنيا أيضا بظهور علامات الكفر والفسق عليهم ، فإذا شاهدوا أولئك الأقوام في محفل القيامة ميزوا البعض عن البعض بتلك العلامات التي شاهدوها عليهم في الدّنيا ، وهذا هو المختار ؛ لأنّهم لمّا شاهدوا أهل الجنّة [في الجنة] وأهل النّار في النّار فأيّ حاجة إلى أن يستدلّ على كونهم من أهل الجنّة بهذه العلامات؟ لأنّ هذا يجري مجرى الاستدلال على ما علم وجوده بالحسّ ، وذلك باطل.

والآية تدلّ على أنّ أصحاب الأعراف مختصّون بهذه المعرفة فلو حملناه على هذا

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٧٣.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٧٣.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٧٤.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٧٤.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٥٠٢) عن ابن عباس.

(٦) سقط من ب.

(٧) ينظر : الفخر الرازي ١٤ / ٧٤.

١٢٧

الوجه لم يبق لهذا الاختصاص فائدة ؛ لأنّها أمور محسوسة ، فلا يختص بمعرفتها شخص دون شخص.

قوله : (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ).

والمعنى : أنّهم إذا نظروا إلى أهل الجنّة سلّموا على أهلها والضمير في «نادوا» وما بعده لرجال.

وقوله : (أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) كقوله : (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [الأعراف : ٤٤] إلا أنّه لم يقرأ هنا إلّا ب «أن» الخفيفة فقط.

فصل في معنى السلام في الآية

والمعنى : يقولون لهم : سلام عليكم ، وقيل : سلمتم من العقوبة ، وقوله : «وهم يطمعون» على هذا التأويل يعني وهم يعلمون أنّهم يدخلوها ، وذلك معروف في اللّغة أن يكون طمع بمعنى علم ، ذكره النّحّاس ، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود وغيرهم أنّ المراد أصحاب الأعراف (١).

قال القرطبيّ (٢) : قوله : «لم يدخلوها» في هذه الجملة أوجه :

أحدها : أنّها حال من فاعل «نادوا» أي : نادى أهل الأعراف حال كونهم غير داخلين الجنّة.

وقوله : (وَهُمْ يَطْمَعُونَ) يحتمل أن يكون حالا من فاعل «يدخلوها» ، ثم لك اعتباران بعد ذلك.

الأول : أن يكون المعنى لم يدخلوها طامعين في دخولها بل دخلوها على يأس من دخولها.

والثاني : المعنى لم يدخلوها حال كونهم طامعين ، أي : لم يدخلوها بعد ، وهم في وقت عدم الدّخول طامعون ، ويحتمل أن يكون مستأنفا أخبر عنهم بأنّهم طامعون في الدّخول.

الوجه الثاني : أن تكون حالا من مفعول «نادوا» أي : نادوهم حال كونهم غير داخلين ، وقوله : (وَهُمْ يَطْمَعُونَ) على ما تقدم آنفا.

والوجه الثالث : أن تكون في محل رفع صفة ل «رجال» ، قاله الزمخشريّ (٣) وفيه ضعف من حيث إنّه فصل فيه بين الموصوف وصفته بجملة قوله : «ونادوا» ، وليست جملة اعتراض.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٥٠٣).

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٧ / ١٣٧).

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ١٠٨.

١٢٨

والوجه الرابع : أنها لا محلّ لها من الإعراب ؛ لأنّها جواب سائل سأل عن أصحاب الأعراف ، فقال : ما صنع بهم؟ فقال : لم يدخلوها ، وهم يطمعون في دخولها.

وقال مكي (١) كلاما عجيبا ، وهو أن قال : «إن حملت المعنى على أنّهم دخلوها كان (وَهُمْ يَطْمَعُونَ) ابتداء وخبرا في موضع الحال من الضّمير المرفوع في «يدخلوها» ، معناه : أنّهم يئسوا من الدّخول ، فلم يكن لهم طمع في الدّخول ، لكن دخلوا وهم على يأس من ذلك ، فإن حملت معناه أنّهم لم يدخلوا بعد ، ولكنهم يطمعون في الدّخول برحمة الله كان ابتداء وخبرا مستأنفا».

وقال بعضهم : جملة قوله : «لم يدخلوها» من كلام أصحاب الجنّة ، وجملة قوله : (وَهُمْ يَطْمَعُونَ) من كلام الملائكة.

قال عطاء ابن عباس : «إنّ أصحاب الأعراف ينادون أصحاب الجنة بالسّلام ، فيردّونعليهم‌السلام ، فيقول أصحاب اللجنّة للخزنة : ما لأصحابنا على أعراف الجنّة لم يدخلوها؟ فتقول لهم الملائكة جوابا لهم وهم يطمعون» (٢) ، وهذا يبعد صحته عن ابن عباس إذ لا يلائم فصاحة القرآن.

فصل في معنى الآية

قال ابن الخطيب (٣) : معنى الآية أنّه تعالى أخبر أنّ أهل الأعراف ، لم يدخلوا الجنة ، ومع ذلك فهم يطمعون في دخولها.

ثم إن قلنا : إنّ أصحاب الأعراف هم أشراف أهل الجنّة ، فالمعنى : أنه تعالى إنّما جعلهم على الأعراف وأخّر إدخالهم الجنّة ليطلعوا على أهل الجنّة والنّار ، ثم إنّه تعالى ينقلهم إلى الدّرجات العالية كما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «إنّ أهل الدّرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدريّ في أفق السّماء ، وإنّ أبا بكر وعمر منهم» (٤).

وتحقيق الكلام أن أصحاب الأعراف هم أشراف أهل القيامة فعند وقوف أهل القيامة في الموقف يجلس الله أهل الأعراف في الأعراف وهي المواضع العالية الشريفة ، فإذا أدخل أهل الجنّة الجنة ، وأهل النار النّار نقلهم إلى الدرجات العالية. فهم أبدا لا يجلسون إلا في الدرجات العالية. وإن قلنا : أصحاب الأعراف هم الذين يكونون في

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ٣١٨.

(٢) أخرجه الطبري في تفسيره (٥ / ٥٠٣).

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٧٤.

(٤) أخرجه أبو داود ٤ / ٣٤ ، كتاب الحروف والقراءات (٣٩٨٧) والترمذي ٥ / ٥٦٧ ، كتاب المناقب : باب مناقب أبي بكر وعمر (٣٦٥٨) وابن ماجه ١ / ٣٧ ، في المقدمة : باب فضائل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه عطية بن سعد العوفي قال في التقريب ٢ / ٢٤ : صدوق يخطىء كثيرا ، كان شيعيا مدلسا وضعفه في الميزان ٣ / ٧٩.

١٢٩

الدّرجة النازلة من أهل النجاة ، فالمعنى أنّه تعالى يجلسهم في الأعراف ، وهم يطمعون في فضل الله وإحسانه أن ينقلهم من تلك المواضع إلى الجنة.

قال الحسن : «الذي جعل الطمع في قلوبهم يوصلهم إلى ما يطمعون» (١).

قوله تعالى : (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٤٧)

قوله تعالى : (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ) معناه : كلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النّار تضرّعوا إلى الله في ألّا يجعلهم من زمرتهم.

وقرأ الأعمش (٢) : «وإذا قلبت» وهي مخالفة للسواد كقراءة «لم يدخلوها وهم ساخطون» أو وهم طامعون على أن هذه أقرب.

قوله : «تلقاء» منصوب على ظرف المكان.

قال مكيّ (٣) : «وجمعه تلاقيّ».

قال شهاب الدّين : «لأن «تلقاء» وزنه «تفعال» ك «تمثال» وتمثال وبابه يجمع على «تفاعيل» ، فالتقت الياء الزّائدة مع الياء التي هي لام الكلمة ، فأدغمت فصارت «تلاقيّ».

والتلقاء في الأصل ، مصدر ثم جعل دالّا على المكان أي : على جهة اللّقاء والمقابلة.

قال الواحديّ : «التّلقاء جهة اللّقاء ، وهي في الأصل مصدر استعمل ظرفا» ، ونقل الواحديّ بإسناده عن ثعلب عن الكوفيين ، والمبرد عن البصريّين أنّهما قالا : لم يأت من المصادر على «تفعال» بكسر التّاء إلّا لفظتان : التّلقاء ، والتّبيان ، وما عدا ذلك من المصادر فمفتوح نحو : التّرداد والتكرار ، ومن الأسماء مكسور نحو : تمثال وتمساح وتقصار.

وفي قوله : (صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ) فائدة جليلة ، وهو أنّهم لم يلتفتوا إلى جهة النّار [إلا] مجبورين على ذلك لا باختيارهم ؛ لأن مكان الشرّ محذور ، وقد تقدّم خلاف القرّاء في نحو : تلقاء أصحاب» بالنّسبة إلى إسقاط إحدى الهمزتين ، أو إثباتها ، أو تسهيلها في أوائل البقرة [٦ ، ١٣].

و «قالوا» هو جواب «إذا» والعامل فيها.

قوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) (٤٨)

لمّا بين بقوله : (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ) أتبعه أيضا بأن أصحاب

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٥٠٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٦٥) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ١٠٧ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٠٥ ، والدر المصون ٣ / ٢٧٦.

(٣) ينظر : المشكل ١ / ٣١٨.

١٣٠

الأعراف ينادون رجالا من أهل النار ، فاستغنى عن ذكر النار ؛ لأنّ الكلام المذكور لا يليق إلا بهم ، وهو قولهم : (ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ).

قوله : «ما أغنى» يجوز أن تكون استفهامية للتوبيخ والتقريع ، وهو الظاهر ، ويجوز أن تكون نافية.

وقوله : (وَما كُنْتُمْ) «ما» مصدرية لينسق مصدر على مثله أي : ما أغنى عنكم جمعكم المال والاجتماع والكثرة وكونكم مستكبرين عن قبول الحقّ ، أو استكباركم على الناس.

وقرىء (١) «تستكثرون» بثاء مثلثة من الكثرة.

قوله تعالى : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)(٤٩)

يجوز في هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنّها في محلّ نصب بالقول المتقدّم أي : قالوا : ما أغنى ، وقالوا : أهؤلاء الذين أقسمتم زيادة تبكيت.

والثاني : أن تكون جملة مستقلّة غير داخلة في حيّز القول ، والمشار إليهم على القول الأوّل هم أهل الجنّة ، والقائلون ذلك هم أهل الأعراف ، والمقول لهم هم أهل النّار.

[والمعنى : وقال أهل الأعراف لأهل النّار] : أهؤلاء الذين في الجنّة اليوم هم الذين كنتم تحلفون أنّهم لا يدخلون الجنة برحمة الله وفضله ، ادخلوا الجنّة أي : قالوا لهم ، أو قيل لهم : ادخلوا الجنة.

وأمّا على القول الثّاني وهو الاستئناف ، فاختلف في المشار إليه ، فقيل : هم أهل الأعراف ، والقائل ذلك ملك يأمره الله بهذا القول ، والمقول له هم أهل النّار.

وقيل : المشار إليهم هم أهل الجنّة ، والقائل هم الملائكة ، والمقول لهم هم أهل النار.

وقيل : المشار إليهم هم أهل الأعراف [وهم القائلون ذلك أيضا ، والمقول لهم الكفّار.

وقوله : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) من قول أهل الأعراف أيضا] أي : يرجعون فيخاطب بعضهم بعضا ، [فيقولون : ادخلوا الجنّة].

قال ابن الأنباري : إن قوله : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) من كلام أصحاب الأعراف ، وقوله : «ادخلوا» من كلام الله تعالى ، وذلك على إضمار قول أي : فقال لهم الله : ادخلوه ونظيره قوله تعالى : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) [الشعراء :

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ١٠٨ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٤٠٥ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٠٦ ، والدر المصون ٣ / ٢٧٦.

١٣١

٣٥] فهذا من كلام الملأ ، (فَما ذا تَأْمُرُونَ)؟ فهذا من فرعون أي : فقال : فماذا تأمرون؟ أي فيقولون : ادخلوا الجنة.

وقرأ الحسن ، وابن سيرين (١) : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) أمرا من «أدخل» وفيها تأويلان :

أحدهما : أنّ المأمور بالإدخال الملائكة ، أي : أدخلوا يا ملائكة هؤلاء ، ثمّ خاطب البشر بعد خطاب الملائكة ، فقال : لا خوف عليكم ، وتكون الجملة من قوله : «لا خوف» لا محلّ لها من الإعراب لاستئنافها.

والثاني : أنّ المأمور بذلك هم أهل الأعراف ، والتقدير : أدخلوا أنفسكم ، فحذف المفعول في الوجهين.

ومثل هذه القراءة هنا قوله تعالى : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ) [غافر : ٤٦] وستأتي إن شاء الله تعالى ، إلّا أنّ المفعول هناك مصرّح به في إحدى القراءتين.

والجملة من قوله : «لا خوف» على هذا في محلّ نصب على الحال أي : أدخلوا أنفسكم غير خائفين.

وقرأ عكرمة (٢) «دخلوا» ماضيا مبنيّا للفاعل.

وطلحة وابن وثاب (٣) والنّخعيّ : «أدخلوا» من أدخل ماضيا مبنيا للمفعول على الإخبار ، وعلى هاتين ، فالجملة المنفيّة في محل نصب بقول مقدّر ، وذلك القول منصوب على الحال ، أي : مقولا لهم : لا خوف.

فصل

قال الكلبيّ : ينادونهم وهم على السور : يا وليد بن المغيرة ، يا أبا جهل بن هشام ، يا فلان ، يا فلان ، ثم ينظرون إلى الجنّة فيرون فيها الفقراء والضّعفاء ممن كانوا يستهزءون بهم مثل سلمان ، وصهيب ، وخباب ، وبلال ، وأمثالهم ، فيقول أصحاب الأعراف لأولئك الكفار : «أهؤلاء» ـ يعني هؤلاء الصغار ـ (الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ) حلفتم (لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) أي : حلفتم أنّهم لا يدخلون الجنّة ، ثم يقال لأهل الأعراف : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ).

وقيل : إنّ أصحاب الأعراف إذا قالوا لأهل النّار ما قالوا ، قال لهم أهل النّار : إن أدخل أولئك الجنّة فأنتم لم تدخلوها فيعيرونهم بذلك ، ويقسمون أنّهم يدخلون النّار ، فتقول الملائكة الذين حبسوا أصحاب الأعراف على الصّراط لأهل النار : «هؤلاء» ـ يعني

__________________

(١) وقرأ بها ابن هرمز كما في المحرر الوجيز ٢ / ٤٠٦ ، وينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٠٦ ، والدر المصون ٣ / ٢٧٦.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٠٦ ، البحر المحيط ٤ / ٣٠٦ ، الدر المصون ٣ / ٢٧٦.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

١٣٢

أصحاب الأعراف ـ (الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ) يا أهل النار (لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) ، ثم قالت الملائكة لأصحاب الأعراف : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) فيدخلون الجنّة.

قوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) (٥٠)

قال عطاء عن ابن عباس : «لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنّة طمع أهل النّار في الفرج ، فقالوا : يا رب ، إنّ لنا قرابات من أهل الجنّة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فأمر الله الجنة فتزحزحت فنظروا إلى قراباتهم في الجنة ، وما هم فيه من النعيم ، فعرفوهم ، ولم يعرفهم أهل الجنة لسواد وجوههم ، فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم ، وأخبروهم بقراباتهم «أن أفيضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله» (١).

قوله : «أن أفيضوا» كأحوالها من احتمال التفسير والمصدرية ، و «من الماء» متعلق ب «أفيضوا» على أحد وجهين :

إمّا على حذف مفعول أي : شيئا من الماء ، فهي تبعيضية طلبوا منهم البعض اليسير ، وإمّا على تضمين «أفيضوا» معنى ما يتعدّى ب «من» أي : أنعموا منه بالفيض.

وقوله : «أو ممّا رزقكم» «أو» هنا على بابها من اقتضائها لأحد الشيئين ؛ إمّا تخييرا ، أو إباحة ، أو غير ذلك مما يليق بهما ، وعلى هذا يقال : كيف قيل : حرّمهما فأعيد الضّمير مثنى وكان من حق من يقول : إنّها لأحد الشيئين أن يعود مفردا على ما تقرّر غير مرّة؟

وقد أجابوا بأن المعنى : حرّم كلّا منهما.

وقيل : إن «أو» بمعنى الواو فعود الضمير واضح عليه.

و «ممّا» «ما» يجوز أن تكون موصولة اسميّة ، وهو الظّاهر ، والعائد محذوف أي : أو من الذي رزقكموه الله ، ويجوز أن تكون مصدرية ، وفيه مجازان :

أحدهما : أنّهم طلبوا منهم إفاضة نفس الرزق مبالغة في ذلك.

والثاني : أن يراد بالمصدر اسم المفعول ، كقوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ) [البقرة: ٦٠] في أحد وجهيه.

وقال الزمخشريّ (٢) : أو ممّا رزقكم الله من غيره من الأشربة لدخوله في حكم الإفاضة».

ويجوز أن يراد : أو ألقوا علينا من ما رزقكم الله من الطعام والفاكهة كقوله : [الرجز]

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٥٠٩).

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ١٠٨.

١٣٣

٢٤٧٤ ـ علفتها تبنا وماء باردا

 .......... (١)

قال أبو حيّان (٢) : وقوله : «وألقوا علينا ممّا رزقكم الله من الطّعام والفاكهة» يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون قوله : «أفيضوا» ضمن معنى قوله : «ألقوا علينا من الماء ، أو مما رزقكم الله» فيصحّ العطف.

ويحتمل ـ وهو الظاهر من كلامه ـ أن يكون أضمر فعلا بعد «أو» يصل إلى مما رزقكم الله ، وهو «ألقوا» ، وهما مذهبان للنحاة فيما عطف على شيء بحرف عطف ، والفعل لا يصل إليه ، والصّحيح منهما التّضمين لا الإضمار.

قال شهاب الدّين (٣) : «يعني الزمخشري : أن الإفاضة أصل استعمالها في الماء ، وما جرى مجراه في المائعات ، فقوله «أو من غيره من الأشربة» تصحيح ليسلّط الإفاضة عليه ؛ لأنّه لو حمل مما رزقكم الله على الطعام والفاكهة لم يحسن نسبة الإفاضة إليهما إلّا بتجوز ، فذكر وجه التجوز بقوله : «ألقوا» ، ثم فسّره الشيخ بما ذكر ، وهو كما قال ، فإن العلف لا يسند إلى الماء فيؤولان بالتضمين أي : فعلفتها ، ومثله : [الوافر]

٢٤٧٥ ـ ..........

وزجّجن الحواجب والعيونا (٤)

وقوله : [مجزوء الكامل]

٢٤٧٦ ـ يا ليت زوجك قد غدا

متقلّدا سيفا ورمحا (٥)

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) [الحشر : ٩] وقد مضى من هذا جملة صالحة».

وزعم بعضهم أن قوله : (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) عام يندرج فيه الماء المتقدّم ، وهو بعيد أو متعذّر للعطف ب «أو». والتّحريم هنا المنع كقوله : [الطويل]

٢٤٧٧ ـ حرام على عينيّ أن تطعما الكرى

 .......... (٦)

فصل في فضل سقي الماء

قال القرطبيّ (٧) : «هذه الآية دليل على أن سقي الماء أفضل الأعمال».

وقد سئل ابن عباس : أي الصّدقة أفضل؟ قال : الماء ، ألم تروا إلى أهل النّار حين

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٠٧.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٧٧.

(٤) تقدم.

(٥) تقدم.

(٦) البيت ينظر : مشاهد الإنصاف ٢ / ٨٥ ، حاشية الشهاب ٤ / ١٧٢ ، الدر المصون ٣ / ٢٧٨.

(٧) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١٣٨.

١٣٤

استغاثوا بأهل الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله (١).

وروى أبو داود «أن سعدا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أي الصدقة أحب إليك؟ قال : الماء ، فحفر بئرا وقال : هذه لأمّ سعد» (٢).

فصل في أحقية صاحب الحوض بمائه

قال القرطبي : «وقد استدلّ بهذه الآية من قال : إنّ صاحب الحوض والقربة أحقّ بمائه ، وأن له منعه ممن أراده ؛ لأن معنى قول أهل الجنّة : (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) لا حق لكم فيها».

قوله تعالى : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ)(٥١)

قوله : «الّذين» يجوز أن تكون في محل جر ، وهو الظاهر ، نعتا أو بدلا من «الكافرين» ، ويجوز أن تكون رفعا أو نصبا على القطع.

قوله : (اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً) فيه وجهان (٣) :

الأول : أنّهم اعتقدوا فيه أن يلاعبوا فيه ، وما كانوا فيه مجدين.

والثاني : أنّهم اتخذوا اللهو واللّعب دينا لأنفسهم ، وهو ما زين لهم الشيطان من تحريم البحيرة ، وأخواتها ، والمكاء والتصدية حول البيت ، وسائر الخصال الذّميمة التي كانوا يفعلونها في الجاهليّة.

قال ابن عباس : «يريد المستهزئين المقتسمين» (٤).

قوله : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) عطف على الصّلة ، وهو مجاز ؛ لأنّ الحياة لا تغرّ في الحقيقة ، بل المراد أنّه حصل الغرور عند هذه الحياة الدّنيا ؛ لأنّ الإنسان يطمع في طول العمر ، وحسن العيش ، وكثرة المال ، وقوّة الجاه ، فتشتدّ رغبته في هذه الأشياء ، ويصير محجوبا عن طلب الدين غارقا في طلب الدنيا.

قوله : «فاليوم» منصوب بما بعده.

وقوله «كما» نعت لمصدر محذوف ، أي : ينساهم نسيانا كنسيانهم لقاءه أي بتركهم.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٦٦) عن ابن عباس مرفوعا وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٢) أخرجه أحمد (٥ / ٢٨٥ ـ ٦ / ٧) والنسائي (٦ / ٢٥٤ ـ ٢٥٥) وابن ماجه (٣٦٨٤) والبيهقي (٤ / ١٨٥) وابن حبان (٨٥٨ ـ موارد).

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٧٧.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٥١٠) عن ابن عباس بمعناه.

١٣٥

و «ما» مصدرية ويجوز أن تكون الكاف للتّعليل ، أي : تركناهم لأجل نسيانهم لقاء يومهم.

و «يومهم» يجوز أن يكون المفعول متّسعا فيه ، فأضيف المصدر إليه كما يضاف إلى المفعول به ، ويجوز أن يكون المفعول محذوفا ، والإضافة إلى ظرف الحدث أي : لقاء العذاب في يومهم.

فصل في معنى «النسيان»

في تفسير هذا النسيان قولان :

الأول : هو التّرك والمعنى نتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاء يومهم ، وهذا قول الحسن ومجاهد والسّدّيّ (١) والأكثرين (٢).

والثاني : أنّ المعنى ننساهم أي : نعاملهم معاملة من نسي ، نتركهم في النّار كما فعلوا في الإعراض عن آياتنا. وبالجملة فسمّى الله ـ تعالى ـ جزاءهم بالنّسيان كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] والمراد من هذا النسيان أنه «لا يجيب دعاءهم ولا يرحم ضعفهم وذلّهم».

قوله : «وما كانوا» «ما» مصدرية نسقا على أختها المجرورة بالكاف أي : وكانوا بآياتنا يجحدون.

وفي الآية لطيفة عجيبة وهي أنّه ـ تعالى ـ وصفهم بكونهم كافرين ثم بيّن من حالهم أنّهم اتخذوا دينهم لهوا أولا ثم لعبا ثانيا ، ثم غرتهم الحياة الدّنيا ثالثا ، ثم صار عاقبة هذه الأحوال أنّهم جحدوا بآيات الله ، وذلك يدل أنّ حب الدّنيا مبتدأ كل آفة كما قال عليه الصّلاة والسّلام : «حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة» (٣) ، وقد يؤدي حبّ الدّنيا إلى الكفر والضّلال.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٥٢)

الضّمير في «جئناهم» عائد على كل ما تقدم من الكفرة ، والمراد ب «كتاب» الجنس.

وقيل : يعود على من عاصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد بالكتاب القرآن ، والباء في «بكتاب» للتعدية فقط.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٥١٠) عن ابن عباس ومجاهد.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٦٧) عن ابن عباس وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في «الأسماء والصفات».

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٧٧.

(٣) ذكره السخاوي في «المقاصد الحسنة» رقم (٣٨٤) وقال : أخرجه البيهقي في الشعب بإسناد حسن إلى الحسن البصري رفعه مرسلا وقد تقدم تخريجه.

١٣٦

قوله : «فصّلناه» صفة ل «كتاب» ، والمراد بتفصيله إيضاح الحقّ من الباطل ، أو تنزيله في فصول مختلفة كقوله : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) [الإسراء : ١٠٦].

وقرأ الجحدري (١) وابن محيصن بالضّاد المعجمة أي : فضّلناه على غيره من الكتب السماوية.

قوله : «على علم» حال إمّا من الفاعل ، أي : فصّلناه عالمين بتفصيله ، وإمّا من المفعول أي : فصّلناه مشتملا على علم ونكّر «علم» تعظيما.

قوله : «هدى ورحمة» الجمهور على النصب وفيه وجهان :

أحدهما : أنّه مفعول من أجله أي : فصّلناه لأجل الهداية والرحمة.

والثاني : أنّه حال ، إمّا من «كتاب» وجاز ذلك لتخصصه بالوصف ، وإمّا من مفعول «فصّلناه».

وقرأ زيد بن عليّ (٢) : «هدى ورحمة» بالجر ، وخرّجه الكسائي والفراء على النعت ل «كتاب» ، وفيه المذاهب المشهورة في نحو : [«مررت] برجل عدل» ، وخرّجه غيرهما على البدل منه.

وقرىء (٣) : «هدى ورحمة» بالرفع على إضمار المبتدأ.

وقال مكي (٤) : «وأجاز الفرّاء والكسائيّ «هدى ورحمة» بالخفض ، ويجعلانه بدلا من «علم» ، ويجوز «هدى ورحمة» على تقدير : «هو هدى ورحمة» ، وكأنّه لم يطّلع على أنّهما قراءتان مرويّتان حتّى نسبهما على طريق الجواز.

و «لقوم» صفة ل «رحمة» وما عطفت عليه.

وقوله : «هدى ورحمة لقوم يؤمنون» يدلّ على أنّ القرآن جعل هدى لقوم مخصوصين ، والمراد : أنّهم هم الّذين اهتدوا به دون غيرهم ، فهو كقوله تعالى في أوّل «البقرة» : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [الآية ٣].

قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٥٣)

قد تقدّم الكلام على «تأويله» في [آل عمران ٧].

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٠٨ ، الدر المصون ٣ / ٢٧٨ ، إتحاف الفضلاء ٢ / ٥١.

(٢) ينظر : البحر ٤ / ٣٠٨ ، الدر ٣ / ٢٧٩.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٠٨ ، الدر المصون ٣ / ٢٧٩.

(٤) ينظر : المشكل ١ / ٣١٩.

١٣٧

وقال الزّمخشريّ (١) هاهنا : والتّأويل مادته من همزة وواو ولام ، من «آل يؤول».

وقال الخطابي : أوّلت الشيء رددته إلى أوله ، واللفظة مأخوذة من الأول ، وهو خطأ ؛ لاختلاف المادتين والتأويل مرجع الشّيء ومصيره من قولهم : آل الشّيء يئول.

واحتجّ بهذه الآية من ذهب إلى أنّ قوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ٧] أي : [و] ما يعلم عاقبة الأمر فيه إلا الله.

فصل في معنى «ينظرون»

لمّا بيّن إزاحة العلّة بسبب إنزال هذا الكتاب المفصّل الموجب للهداية والرّحمة بيّن بعده حال من كذّب فقال : «هل ينظرون إلّا تأويله» ، والمعنى : هل ينتظرون أي يتوقّعون إلّا جزاءه ، قاله مجاهد.

وقال السّدّيّ : «عاقبته ، وما يؤول إليه» (٢).

فإن قيل : كيف يتوقعون وينتظرون مع جحدهم وإنكارهم؟

فالجواب : لعلّ فيهم أقواما تشككوا وتوقّفوا ، فلهذا السّبب انتظروه ، وأنهم وإن كانوا جاحدين إلّا أنّهم بمنزلة المنتظرين من حيث إن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة (٣).

قوله : «يوم» منصوب ب «يقول».

وقوله : (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ).

معناه : أنّهم صاروا في الإعراض عنه بمنزلة من نسي ، ويجوز أن يكون معنى نسوه أي : تركوا العمل والإيمان به كما تقدّم.

قوله : «قد جاءت» منصوبة بالقول و «بالحقّ» يجوز أن تكون «الباء» للحال ، وأن تكون للتعدية أي : جاءوا ملتبسين بالحق ، أو جاءوا الحقّ.

والمعنى : أقرّوا بأنّ الذي جاءت الرّسل به من ثبوت الحشر ، والنّشر ، والبعث والقيامة ، والثواب ، والعقاب ، كل ذلك كان حقّا ؛ لأنهم شاهدوها وعاينوها.

قوله : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ) «من» مزيدة في المبتدأ و «لنا» خبر مقدّم ، ويجوز أن يكون «من شفعاء» فاعلا و «من» مزيدة أيضا ، وهذا جائز عند كل أحد لاعتماد الجار على الاستفهام.

قوله : «فيشفعوا» منصوب بإضمار «أن» في جواب الاستفهام فيكون قد عطف اسما

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ١٠٩.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٥١١ ـ ٥١٢) عن قتادة والسدي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٦٧) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٧٨.

١٣٨

مؤولا على اسم صريح ، أي : فهل لنا من شفعاء بشفاعة منهم لنا؟

قوله : «أو نردّ» الجمهور على رفع «نردّ» ونصب «فنعمل» ، فرفع «نردّ» على أنه عطف جملة فعليّة ، وهي «نردّ» على جملة [اسميّة] وهي : هل لنا من شفعاء فيشفعوا؟

ونصب «فنعمل» على ما انتصب عليه «فيشفعوا» ، وقرأ الحسن (١) برفعهما على ما تقدّم ، كذا روى عنه ابن عطية وغيره ، وروى عنه الزمخشري نصب «نردّ» ورفع «فنعمل».

وقرأ أبو حيوة (٢) ، وابن أبي إسحاق بنصبهما فنصب «نردّ» عطفا على «فيشفعوا» جوابا على جواب ، ويكون الشفعاء في أحد شيئين : إمّا في خلاصهم من العذاب ، وإمّا في رجوعهم للدّنيا ليعملوا صالحا ، والشّفاعة حينئذ [مستحبة] على الخلاص أو الرّدّ ، وانتصب «فنعمل» نسقا على «فنردّ».

ويجوز أن تكون «أو نردّ» من باب «لألزمنّك أو تقضيني حقّي» إذا قدرناه بمعنى : حتّى تقضيني ، أو كي تقضيني ، غيّا اللزوم بقضاء الحق ، أو علله به فكذلك الآية الكريمة أي : حتى نردّ أو كي نرد ، والشفاعة حينئذ متعلّقة بالرّدّ ليس إلّا.

وأمّا عند من يقدّر «أو» بمعنى «إلّا» في المثال المتقدم وهو سيبويه (٣) ، فلا يظهر معنى الآية عليه ؛ إذ يصير التقدير : «هل يشفع لنا شفعاء إلا أن نردّ» ، وهذا استثناء غير ظاهر.

فصل في معنى الآية

المعنى أنّه لا طريق لنا إلى الخلاص مما نحن فيه إلا أحد هذين الأمرين ، وهو أن يشفع لنا شفيع فيزول عنّا هذا العذاب ، أو نردّ إلى الدّنيا حتى نعمل غير ما كنّا نعمله حتى نوحد الله بدلا عن الكفر. ثمّ بيّن تعالى أنّهم (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ). أي الذي طلبوه لا يكون ؛ لأن ذلك المطلوب لو حصل لما حكم الله عليهم بأنّهم قد خسروا أنفسهم.

قوله : (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ).

«ما كانوا» «ما» موصولة عائدها محذوف ، و «ما كانوا» فاعل «ضلّ» ، والمعنى: أنّهم لم ينتفعوا بالأصنام التي عبدوها في الدّنيا.

فصل في دحض شبهة للمعتزلة

قال الجبّائيّ (٤) : هذه الآية تدل على حكمين :

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٠٨ ، البحر المحيط ٤ / ٣٠٨ ، الدر المصون ٣ / ٢٧٩ ، وينظر رواية النصب في : الكشاف ٢ / ١٠٩.

(٢) ينظر : المصادر السابقة.

(٣) ينظر : الكتاب لسيبويه ١ / ٤٢٧.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٧٩.

١٣٩

الأول : أنّها تدلّ على أنّهم كانوا في حال التّكليف قادرين على الإيمان والتّوبة ، فلذلك سألوا الرّدّ ليؤمنوا ويتوبوا ، ولو كانوا في الدّنيا غير قادرين ـ كما يقوله المجبرة ـ لم يكن لهم في الردّ فائدة ، ولا جاز أن يسألوا ذلك.

الثاني : أنّ الآية تدلّ على بطلان قول المجبرة بأنّ أهل الآخرة مكلفون ، لأنّه لو كان كذلك لما سألوا الرّدّ إلى حال وهم في الوقت على مثلها ، بل كانوا يتوبون ويؤمنون في الحال.

قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(٥٤)

قد تقدّم أنّ مدار القرآن على تقرير هذه المسائل الأربع وهي : التّوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، والقضاء والقدر ، ولا شك أنّ إثبات المعاد مبنيّ على إثبات التّوحيد والقدرة والعلم ، فلمّا بالغ الله في تقرير المعاد عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على التوحيد وكمال القدرة والعلم ، لتصير تلك الدلائل مقررة لأصول التّوحيد ، ومقررّة أيضا لإثبات المعاد.

قوله : «إنّ ربّكم الله» الجمهور على رفع الجلالة خبرا ل «إنّ» ، ويضعف أن تجعل بدلا من اسم «إنّ» على الموضع عند من يرى ذلك ، والموصول خبر ل «إنّ» وكذا لو جعله عطف بيان ، ويتقوّى هذا بنصب الجلالة في قراءة (١) بكار ، فإنّها فيها بدل ، أو بيان لاسم «إنّ» على اللفظ ، ويضعف أن تكون خبرها عند من يرى نصب الجزءين فيها كقوله : [الطويل]

٢٤٧٨ ـ إذا اسودّ جنح اللّيل فلتأت ولتكن

خطاك خفافا إنّ حرّاسنا أسدا (٢)

وقوله : [الرجز]

٢٤٧٩ ـ إنّ العجوز خبّة جروزا

تأكل كلّ ليلة قفيزا (٣)

قيل : ويؤيّد ذلك قراءة الرّفع أي : في جعلها إيّاه خبرا ، والموصول نعت لله ، أو بيان له ، أو بدل منه ، أو يجعل خبرا ل «إن» على ما تقدّم من التخاريج ، ويجوز أن يكون معطوفا على المدح رفعا ، أو نصبا.

قوله : «في ستّة» حكى الواحديّ عن الليث (٤) أنّه قال : «الأصل في الستّ والستّة : سدس وسدسة [أبدل السين تاء] ولما كان مخرج الدّال والتّاء قريبا ، وهي ساكنة أدغم أحدهما في الآخر ، واكتفى بالتّاء ، ويدلّ عليه أنّك تقول في تصغير ستة : سديسة ،

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٠٩ ، الدر المصون ٣ / ٢٨٠.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٨٠.

١٤٠