اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

التي تظهر عليه شكّ وشبهة في أنّها حصلت بقدرة الله تبارك وتعالى ، لا بقدرته ، ولهذا السّبب قال تبارك وتعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) [الأنعام : ٩].

وثالثها : ما يحصل من الألفة وسكون القلب إلى أبناء الجنس ، بخلاف من لا يكون من الجنس ، فإنّه لا يحصل معه الألفة.

قوله : (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي).

قيل : الآيات : القرآن ، وقيل : الدلائل ، وقيل : الأحكام والشّرائع.

والأولى دخول الكلّ فيه ؛ لأنّ الرّسل إذا جاءوا فلا بدّ وأن يذكروا جميع هذه الأقسام.

قوله : «فمن» يحتمل أن يكون شرطية ، وأن تكون موصولة ، فإن كان الأوّل ؛ كانت هي وجوابها جوابا للشّرط الأوّل كما تقدّم ، وهي مستقلة بالجواب دون الجملة التي تفيد جوابها وهي (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) ، وإن كان الثاني كانت هي وجوابها ، والجملة المشار إليها كلاهما جوابا للشّرط ، كأنّه قسم جواب قوله : (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) إلى متّق ومكذب ، وجر كلّا منهما ، وقد تقدّم تحقيق هذا في البقرة.

وحذف مفعولي (اتَّقى وَأَصْلَحَ) اختصارا للعلم بهما أي : اتّقى ربه وأصلح عمله ، أو اقتصارا أي : فمن كان من أهل التّقوى والصّلاح من غير نظر إلى مفعول ، كقوله تعالى : (هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) [النجم : ٤٨] ولكن لا بدّ من تقدير رابط بين هذه الجملة ، وبين الجملة الشرطيّة ، والتقدير : فمن اتّقى منكم والذين كذّبوا منكم.

وقرأ أبيّ (١) والأعرج «تأتينكم» بتاء مثناة من فوق نظرا إلى معنى جماعة الرسل فيكون قوله تعالى «يقصّون» بالياء من تحت حملا على المعنى إذ لو حمل على اللفظ لقال : «تقصّ» بالتّأنيث أيضا.

مطلب : هل يلحق المؤمنين خوف يوم القيامة أو لا؟

المعنى : لا خوف عليهم بسبب الأحوال المستقبلة (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما فاتهم في الدّنيا ؛ لأنّ حزنهم على عقاب الآخرة بما حصل لهم من زوال الخوف ، فيكون كالمعاد ، وحمله على الفائدة الزائدة أولى.

واختلف العلماء في أنّ المؤمنين من أهل الطّاعات هل يلحقهم خوف أو حزن عند أهوال القيامة ، فقال بعضهم : لا يلحقهم لهذه الآية الكريمة ، ولقوله تعالى : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء : ١٠٣] ، وذهب بعضهم إلى أنّه يلحقهم ذلك الفزع الأكبر لقوله تعالى : (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ١٠٢ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٣٩٦ ، والدر المصون ٣ / ٢٩٦.

١٠١

النَّاسَ سُكارى) [الحج : ٢] أي : من شدة الخوف ، وأجاب هؤلاء عن هذه الآية الكريمة بأنّ معناها : أن أمرهم يؤول إلى الأمن والسرور ، كقول الطّبيب للمريض : «لا بأس عليك» أي: يؤول أمرك إلى العافية والسلامة ، وإن كان في الوقت في بأس من علته.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٣٦)

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ؛) أي الآيات التي يجيء بها الرّسل ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ «واستكبروا» أي أبوا عن قبولها وتكبروا عن الإيمان بها وذكر الاستكبار لأنّ كلّ كاذب وكافر متكبّر قال سبحانه وتعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) [الصافات : ٣٥] ألا (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وهذه الآية تدل على أنّ الفاسق من أهل الصّلاة لا يخلد في النار ؛ لأنّه تبارك وتعالى بين أن المكذبين بآيات الله والمستكبرين عن قبولها هم الذين يبقون مخلدين في النار.

قوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) (٣٧)

قوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) وهذا يرجع إلى قوله تعالى (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) أي فمن أظلم ظلما ممن يقول على الله ما لم يعلمه أو كذب بما قاله ، والأوّل : هو الحكم بوجود ما لم يوجد.

والثاني : هو الحكم بإنكار ما وجد.

والأول يدخل فيه قول من أثبت الشريك لله تعالى سواء كان ذلك الشريك عبارة عن الأصنام أو الكواكب أو عن مذهب القائلين بيزدان وأهريمن ويدخل فيه قول من أثبت لله تعالى البنات والبنين ويدخل فيه من أضاف الأحكام الباطلة إلى الله عزوجل.

والثاني : يدخل فيه قول من أنكر كون القرآن العظيم كتابا نازلا من عند الله تعالى وقول من أنكر نبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ).

قيل المراد بذلك النّصيب هو العذاب قاله الحسن والسّدّيّ أي : ما كتب لهم في اللّوح المحفوظ من العذاب وسواد الوجوه وزرقة العيون (١) قال عطية عن ابن عباس ـ

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٧٨) عن الحسن والسدي وأبي صالح.

ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٥٣) عن أبي صالح وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

١٠٢

رضي الله عنهما ـ : كتب لمن يفتري على الله سواد الوجه (١). قال تعالى (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر : ٦٠].

وقيل المراد ب «النصيب» أن أهل الذمة يجب علينا أن لا نتعدى عليهم ، وأن ننصفهم ونذب عنهم.

وقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ وسعيد بن جبير ـ رضي الله عنه ـ ومجاهد : ما سبق لهم من السّعاد والشّقاوة ، فإن قضى الله لهم بالختم على الشّقاوة أبقاهم على كفرهم ، وإن قضى لهم بالختم على السعادة ؛ نقلهم إلى الإيمان (٢) وقال الرّبيع ، وابن زيد ومحمّد بن كعب القرظيّ : ما كتب لهم من الأرزاق والأعمار ، والأعمال ، فإذا فنيت وانقضت (جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ)(٣).

قوله تعالى «من الكتاب» في محلّ الحال من نصيبهم أي : حال كونه مستقرا من الكتاب و «من» لابتداء الغاية.

قوله : «حتّى إذا» «حتّى» هنا غاية ، و «إذا» وما في حيزها تقدّم الكلام عليها هل هي جارة ، أو حرف ابتداء؟ وتقدّم عبارة الزّمخشريّ (٤).

واختلفوا فيها إذا كانت حرف ابتداء أيضا.

فقال ابن درستويه هي حينئذ جارّة ، وتتعلّق بما قبلها تعلّق حروف الجرّ من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، والجملة بعدها في محل جرّ.

وقال الجمهور : إذا كانت حرف ابتداء فليست جارّة ، بل حرف ابتداء فقط.

وإن كان معناها الغاية كقول القائل في ذلك : [الطويل]

٢٤٥٩ ـ سريت بهم حتّى تكلّ مطيّهم

وحتّى الجياد ما يقدن بأرسان (٥)

وقول الآخر في ذلك : [الطويل]

٢٤٦٠ ـ فما زالت القتلى تمجّ دماءها

بدجلة حتّى ماء دجلة أشكل (٦)

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٨١).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٧٨ ـ ٤٧٩) عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٥٣) عن ابن عباس وزاد نسبته لأبي الشيخ.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٨١) عن الربيع ومحمد بن كعب القرظي وابن زيد.

ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٥٣) عن القرظي وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره أيضا عن الربيع (٣ / ١٥٤) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ١٠٢.

(٥) تقدم.

(٦) تقدم.

١٠٣

وقال صاحب «التّحرير» : «حتّى» هنا ليست للغاية ، بل هي ابتداء وخبر وهذا وهم إذ الغاية معنى لا يفارقها.

وقوله «بل هي ابتداء وخبر» تسامح في العبارة يريد بل الجملة بعدها ثمّ الجملة التي في هذا المكان ليست ابتداء وخبر ، بل هي جملة فعليّة ، وهي قالوا و «إذا» معموله لها.

وممن ذهب إلى أنّها ليست للغاية الواحديّ فإنّه حكى في معنى الآية الكريمة أقوالا ، ثم قال: فعلى هذا القول معنى «حتّى» للانتهاء والغاية وعلى القولين الأوّلين ليست «حتى» في هذه الآية الكريمة للغاية بل هي التي يقع بعدها الجمل وينصرف الكلام بعدها إلى الابتداء ك «أما» و «إذا» ولا تعلق لقوله : «حتّى إذا» بما قبله ، بل هذا ابتداء خبر أخبر عنهم كقوله في ذلك : [الطويل]

٢٤٦١ ـ فيا عجبا حتّى كليب تسبّني

كأنّ أباها نهشل أو مجاشع (١)

وهذا غير مرضي منه لمخالفته الجمهور.

وقوله «لا تعلّق لها بما قبلها» ممنوع على جميع الأقوال التي ذكرها.

والظّاهر أنّها إنما تتعلّق بقوله (يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ).

فصل في إمالة «حتى»

قال الخليل وسيبويه : لا يجوز إمالة «حتى» و «ألّا» و «أمّا» وهذه ألفات ألزمت الفتح لأنّها أواخر حروف جاءت لمعان يفصل بينها وبين أواخر الأسماء التي فيها الألف نحو : حبلى وهدى إلا أن «حتّى» كتبت بالياء لأنّها على أربعة أحرف فأشبهت سكرى ، قال بعض النحويين : لا يجوز إمالة «حتّى» لأنّها حرف لا يتصرف والإمالة ضرب من التصرف.

قوله : (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) في محلّ نصب على الحال ، وفي المراد بقوله : (رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) قولان :

المراد بالرّسل ملك الموت وبقوله : (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) يقبضون أرواحهم ؛ لأنّ لفظ الوفاة يفيد هذا المعنى.

قال ابن عبّاس : إنّ الملائكة يطالبون بهذه الأشياء عند الموت على سبيل الزّجر والتّوبيخ(٢).

الثاني : قال الحسن والزّجّاج في أحد قوليه : إنّ هذا لا يكون في الآخرة ومعنى قوله : (جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) أي يتوفون مدتهم عند حشرهم إلى النار بمعنى يستكملون عدتهم حتّى لا ينفلت منهم أحد.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٤ / ٥٩) عن ابن عباس.

١٠٤

قوله (أَيْنَ ما كُنْتُمْ) أي أين الشّركاء الذين كنتم تعبدونهم من دون الله وكتبت «أينما» متصلة وحقّها الانفصال ، لأنّ «ما» موصولة لا صلة إذ التقدير : أين الذين تدعونهم ولذلك كتبت (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ) [الأنعام : ١٣٤] منفصلا و (إِنَّمَا اللهُ) [النساء : ١٧١] متصلا.

قوله «ضلّوا» جواب من حيث المعنى لا من حيث اللّفظ ، وذلك أنّ السّؤال إنّما وقع عن

مكان الذين كانوا يدعونهم من دون الله ، فلو جاء الجواب على نسق السّؤال لقيل : هم في المكان الفلانيّ ، وإنّما المعنى : ما فعل معبودكم ومن كنتم تدعونهم ، فأجابوا بأنّهم ضلّوا عنهم وغابوا.

قوله : «وشهدوا» يحتمل أن يكون نسقا على «قالوا» الذي وقع جوابا لسؤال الرسل ، فيكون داخلا في الجواب أيضا.

ويحتمل أن يكون مستأنفا منقطعا عما قبله ليس داخلا في حيّز الجواب كذا قال أبو حيّان(١) وفيه نظر ؛ من حيث إنّه جعل هذه الجملة جوابا لعطفها على «قالوا» ، و «قالوا» في الحقيقة ليس هو الجواب ، إنّما الجواب هو مقول هذا القول ، وهو (ضَلُّوا عَنَّا) ف (ضَلُّوا عَنَّا) هو الجواب الحقيقي الذي يستفاد منه الكلام.

ونظيره أن يقول : سألت زيدا ما فعل؟ فقال : أطعمت وكسوت فنفس أطعمت ، وكسوت هو الجواب.

وإذا تقرّر هذا فكان ينبغي أن يقول : «فيكون» معطوفا على «ضلّوا عنّا» ، ثمّ لو قال كذلك لكان مشكلا من جهة أخرى ، وهو أنّه كان يكون التركيب الكلامي : «ضلّوا عنّا وشهدنا على أنفسنا أنّا كنّا» ، إلا أن يقال : حكى الجواب الثّاني على المعنى ، فهو محتمل على بعد بعيد.

ومعنى الآية أنّهم اعترفوا عند معاينة الموت أنّهم كانوا كافرين.

قوله تعالى : (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) (٣٨)

اختلفوا في هذا القائل ، فقال مقاتل : «هو كلام خازن النّار» (٢) ، وقال غيره : «هو كلام الله» ، وهذا الاختلاف مبني على أنّ الله ـ تعالى ـ هل يتكلّم مع الكفار أم لا؟ ، وقد تقدمت هذه المسألة.

قوله : «في أمم» يجوز أن يتعلّق قوله : «في أمم» وقوله «في النّار» كلاهما ب «ادخلوا» ، فيجيء الاعتراض المشهور وهو كيف يتعلّق حرفا جرّ متحدا اللفظ والمعنى بعامل واحد؟ ، فيجاب بأحد وجهين :

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٩٧.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٤ / ٦٠) عن مقاتل.

١٠٥

إمّا أنّ «في» الأولى ليست للظّرفية ، بل للمعيّة ، كأنّه قيل : ادخلوا مع أمم أي : مصاحبين لهم في الدّخول ، وقد تأتي «في» بمعنى «مع» كقوله تعالى : (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) [الأحقاف : ١٦].

وقول الشاعر : [الطويل]

٢٤٦٢ ـ شموس ودود في حياء وعفّة

رخيمة رجع الصّوت طيّبة النّشر (١)

وإمّا بأن «في النّار» بدل من قوله «في أمم» وهو بدل اشتمال كقوله : (أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ) [البروج : ٤ ، ٥].

فإنّ النّار بدل من الأخدود ، كذلك «في النّار» بدل من «أمم» بإعادة العامل بدل اشتمال ، وتكون الظرفية في [«في»] الأولى مجازا ؛ لأنّ الأمم ليسوا ظروفا لهم حقيقة ، وإنّما المعنى : ادخلوا في جملة أمم وغمارهم.

ويجوز أن تتعلّق «في أمم» بمحذوف على أنّه حال أي : كائنين في جملة أمم.

و «في النّار» متعلّق ب «خلت» أي : تسبقكم في النّار.

ويجوز أن تتعلّق بمحذوف على أنّه صفة ل «أمم» ، فتكون «أمم» قد وصفت بثلاثة أوصاف :

الأولى : الجملة الفعليّة ، وهي قوله «قد خلت».

والثاني : الجارّ والمجرور ، وهو قوله : (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ).

الثالث : قوله : «في النّار» ، والتقدير : في أمم خالية من قبلكم كائنة من الجنّ والإنس ، ومستقرّة في النّار.

ويجوز أن تتعلّق «في النّار» بمحذوف أيضا ، لا على الوجه المذكور ، بل على كونه حالا من «أمم» ، وجاز ذلك وإن كانت نكرة لتخصّصها بالوصفين المشار إليهما.

ويجوز أن يكون حالا من الضّمير في «خلت» ؛ إذ هو ضمير الأمم ، وقدّمت الجنّ على الإنس ؛ لأنّهم الأصل في الإغواء.

قوله : «كلّما دخلت» تقدّم نظيرها ، وهذه الجملة يحتمل أن تكون صفة ل «أمم» أيضا ، والعائد محذوف أي : كلما دخلت أمة منهم أي : من الأمم المتقدّمة لعنت أختها ، والمعنى: أن أهل النّار يلعن بعضهم بعضا ، ويتبرّأ بعضهم من بعض كما قال تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧]. والمراد بقوله أختها أي : في الدّين.

قوله : «حتّى» هذه غاية لما قبلها ، والمعنى : أنّهم يدخلون فوجا فوجا ، لاعنا بعضهم لبعض إلى انتهاء تداركهم فيها.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٦٦.

١٠٦

وقرأ الجمهور : «إذا ادّاركوا» بوصل الألف وتشديد الدّال ، والأصل : تداركوا ، فلما أريد إدغامه فعل به ما فعل ب «ادّارأتم» ، وقد تقدّم تصريفه في البقرة [٧٢].

قال مكيّ (١) : ولا يستطاع اللفظ بوزنها مع ألف الوصل ؛ لأنّك تردّ الزائد أصليا فتقول : افاعلوا ، فتصير تاء «تفاعل» فاء الفعل لإدغامها في فاء الفعل ؛ وذلك لا يجوز ، فإن وزنتها على الأصل فقلت : تفاعلوا جاز.

وهذا الذي ذكر من كونه لا يمكن وزنه إلا بالأصل ، وهو «تفاعلوا» ممنوع.

قوله : «لأنّك تردّ الزّائد أصليّا».

قلنا : لا يلزم ذلك ؛ لأنّا نزنه بلفظه مع همزة الوصل ، وتأتي بناء التفاعل بلفظها ، فتقول : وزن ادّاركوا : اتفاعلوا ، فيلفظ بالتاء اعتبارا بأصلها ، لا بما صارت إليه حال الإدغام.

وهذه المسألة نصّوا على نظيرها ، وهو أنّ تاء الافتعال إذا أبدلت إلى حرف مجانس لما قبلها كما تبدل تاء طاء ، أو دالا في نحو : اصطبر ، واضطرب ، وازدجر ، وادّكر ، إذا وزن ما هي فيه قالوا : يلفظ في الوزن بأصل تاء الافتعال ، ولا يلفظ بما صارت إليه من طاء أو دال ، فتقول : وزن اصطبر افتعل لا افطعل ، ووزن ازدجر افتعل لا افدعل ، فكذلك تقول هنا : وزن ادّاركوا اتفاعلوا لا افّاعلوا ، فلا فرق بين تاء الافتعال والتّفاعل في ذلك.

وقرأ ابن مسعود (٢) والأعمش ، ورويت عن أبي عمرو : تداركوا وهي أصل قراءة العامة.

وقرأ أبو عمرو (٣) «إذا إدّاركوا» بقطع همزة الوصل.

قال ابن جني (٤) : «هذا مشكل ، ومثل ذلك لا ينقله ارتجالا ، وكأنّه وقف وقفة مستنكر ، ثم ابتدأ فقطع».

وهذا الذي يعتقد من أبي عمرو ، وإلا فكيف يقرأ بما لا يثبت إلا في ضرورة الشّعر في الأسماء؟ كذا قال ابن جنيّ ، يعني أن قطع ألف الوصل في الضّرورة إنّما جاء في الأسماء.

وقرأ حميد (٥) «أدركوا» بضم همزة القطع ، وسكون الدّال وكسر الراء ، مثل «أخرجوا» جعله مبنيا للمفعول بمعنى : أدخلوا في دركاتها أو أدراكها.

ونقل عن مجاهد بن جبر قراءتان : فروى عنه مكي «ادّركوا» بوصل الألف وفتح الدال مشدّدة وفتح الراء ، وأصلها «ادتركوا» على افتعلوا مبنيا للفاعل ، ثم أدغم ، كما أدغم «ادّان» من الدّين.

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ٣١٥.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٩٩ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٩٨ ، والدر المصون ٣ / ٢٦٧.

(٣) ينظر : القراءة السابقة.

(٤) ينظر : المحتسب لابن جني ١ / ٢٤٧.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٩٩ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٩٨ ، والدر المصون ٣ / ٢٦٧.

١٠٧

وروى عنه غيره «أدركوا» بفتح الهمزة مقطوعة ، وسكون الدّال وفتح الرّاء ، أي : أدرك بعضهم بعضا.

وقال أبو البقاء (١) : وقرىء (٢) : «إذا ادّاركوا» بألف واحدة ساكنة بعدها دال مشدّدة ، وهو جمع بين ساكنين ، وجاز في المنفصل كما جاز في المتّصل ، وقد قال بعضهم : «اثنا عشر» بإثبات الألف وسكون العين ، يعني بالمتصل نحو : «الضّالين» وجانّ ، ومعنى المنفصل أنّ ألف «إذا» من كلمة ، والسّاكن الثاني من كلمة أخرى.

و «ادّاركوا» بمعنى تلاحقوا ، وتقدّم تفسير هذه المادة [النساء : ٧٨].

و «جميعا» حال من فاعل «ادّاركوا».

قوله : (أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ) يحتمل أن تكون فعلى أنثى أفعل الذي للمفاضلة ، والمعنى على هذا كما قال الزمخشريّ (٣) : «أخراهم منزلة ، وهم الأتباع [والسّفلة] ، لأولاهم منزلة وهم القادة والرؤساء».

ويحتمل أن تكون «أخرى» بمعنى آخرة تأنيث آخر مقابل الأوّل ، لا تأنيث «آخر» الذي للمفاضلة كقوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [فاطر : ١٨].

والفرق بين أخرى بمعنى آخرة ، وبين أخرى تأنيث آخر بزنة أفعل للتفضيل ، أن التي للتفضيل لا تدلّ على الانتهاء ، كما لا يدلّ عليه مذكّرها ، ولذلك يعطف أمثالها عليها في نوع واحد تقول : مررت بامرأة وأخرى وأخرى كما تقول : مررت برجل وآخر وآخر ، وهذه تدلّ على الانتهاء ، كما يدلّ مذكّرها ، ولذلك لا يعطف أمثالها عليها ، ولأنّ الأولى تفيد إفادة «غير» ، وهذه لا تفيد إفادة «غير».

والظّاهر في هذه الآية الكريمة أنّهما ليستا للتّفضيل ، بل لما ذكرنا.

قال ابن عباس ومقاتل : «أخراهم دخولا في النار لأولاهم دخولا فيها» (٤).

واللام في «لأولاهم» للتّعليل أي : لأجل ، ولا يجوز أن تكون التي للتّبليغ كهي في قولك: قلت لزيد افعل.

قال الزمخشريّ (٥) : «لأنّ خطابهم مع الله لا معهم» ، وقد بسط القول قبله في ذلك الزّجّاج (٦) فقال : «والمعنى : وقالت أخراهم : يا ربّنا هؤلاء أضلّونا ، لأولاهم» فذكر نحوه.

قال شهاب الدّين : وعلى هذا فاللّام الثّانية في قوله : (أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ) يجوز أن

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٧٣.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٧٣.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ١٠٣.

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٤ / ٦١) عن مقاتل.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ١٠٣.

(٦) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٢ / ٣٧١.

١٠٨

تكون للتّبليغ ، لأنّ خطابهم معهم بدليل قوله : (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ).

قوله : (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا) يعني : أنّ الأتباع يقولون : إنّ المتقدّمين أضلّونا ، يعني : أنّ القادة أضلونا عن الهدى والدين فأتهم عذابا ضعفا من النّار.

قال أبو عبيدة «الضّعف : مثل الشّيء مرة واحدة».

قال الأزهريّ : ما قاله أبو عبيدة هو ما يستعمله النّاس في مجاز كلامهم ، وقد قال الشّافعيّ قريبا منه فقال في رجل أوصى : «أعطوه ضعف ما يصيب ولدي» قال : «يعطى مثله مرتين».

قال الأزهريّ (١) : «الوصايا يستعمل فيها العرف ، وما يتفاهمه النّاس ، وأما كتاب الله فهو عربيّ مبين ، ويردّ تفسيره إلى لغة العرب ، وموضوع كلامها الذي هو صنعة ألسنتها.

والضّعف في كلام العرب المثل إلى ما زاد ، ولا يقتصر به على مثلين ، بل تقول : هذا ضعفه أي مثلاه ، وثلاثة أمثاله ، لأنّ الضّعف في الأصل زيادة غير محصورة ، ألا ترى إلى قوله الله تعالى : (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ) [سبأ : ٣٧] لم يرد به مثلا ولا مثلين ، وأولى الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله كقوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠] فأقلّ الضّعف محصور وهو المثل وأكثره غير محصور».

ومثل هذه المقالة قال الزّجّاج أيضا (٢) فإنّه قال : أي عذابا مضاعفا ؛ لأنّ الضعف في كلام العرب على ضربين :

أحدهما : المثل ، والآخر : أن يكون في معنى تضعيف الشيء أي زيادته إلى ما لا يتناهى ، وقد تقدّم طرف من هذا في البقرة.

وأما قول الشّافعيّ في «الوصيّة» : إنّه المثل ، فلأن التركة متعلقة بحقوق الورثة ، إلا أنّا لأجل الوصيّة صرفنا طائفة منها إلى الموصى له ، والقدر المتيقن في الوصيّة هو المثل ، والباقي مشكوك فيه فيأخذ المتيقّن ويطرح المشكوك فيه فلهذا السّبب حملنا الضّعف في الوصيّة على المثلين.

قوله : «ضعفا» صفة ل «عذابا» ، و «من النّار» يجوز أن يكون صفة ل «عذابا» ، وأن يكون صفة ل «ضعفا» ، ويجوز أن يكون «ضعفا» بدلا من «عذابا».

قوله : «لكلّ» أي : لكلّ فريق من الأخرى ، والأولى أو القادة والأتباع.

قوله : (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) قراءة العامّة بتاء الخطاب : إمّا خطابا للسّائلين ، وإمّا خطابا

__________________

(١) ينظر تهذيب اللغة للأزهري ١٠ / ٤٨٠.

(٢) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٢ / ٣٧٢.

١٠٩

لأهل الدّنيا أي : ولكن لا تعلمون ما أعدّ من العذاب لكل فريق.

وقرأ أبو بكر (١) عن عاصم بالغيبة ، وهي تحتمل أن يكون الضّمير عائدا على الطائفة السّائلة تضعيف العذاب ، أو على الطّائفتين ، أي : لا يعلمون قدر ما أعدّ لهم من العذاب.

فإن قيل : إن كان المراد من قوله : لكلّ أحد من العذاب ضعف ما يستحقه ، فذلك غير جائز ؛ لأنّه ظلم ، وإن لم يكن المراد ذلك فما معنى كونه ضعفا (٢)؟.

فالجواب : أنّ عذاب الكفّار يزيد فكل ألم يحصل فإنّه يعقبه حصول ألم آخر إلى غير نهاية ، فكانت تلك الآلام متضاعفة متزايدة لا إلى آخر.

قوله تعالى : (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)(٣٩)

قوله : (وَقالَتْ أُولاهُمْ) أي في ترك الكفر والضّلال وإنّا متشاركون في استحقاق العذاب.

فإن قيل : إن هذا منهم كذب ؛ لأنّهم لكونهم رؤساء سادة وقادة ، قد دعوا إلى الكفر والتّرغيب فيه ، فكانوا ضالّين مضلّين ، وأمّا الأتباع والضّعفاء وإن كانوا ضالين إلّا أنّهم ما كانوا مضلّين ، فبطل قولهم : إنّه لا فضل للأتباع على الرّؤساء في ترك الضّلال والكفر (٣).

فالجواب : أنّ أقصى ما في الباب أنّهم كذبوا في هذا القول يوم القيامة ، وعندنا أنّ ذلك جائز كما قرّرناه في سورة الأنعام في قوله : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣].

قوله : «فما» : هذه الفاء عاطفة هذه الجملة المنفيّة على قول الله تعالى للسّفلة : «لكلّ ضعف» أي : فقد ثبت أنّ لا فضل لكم علينا ، وأنا متساوون في استحقاق الضّعف فذوقوا.

قال أبو حيّان (٤) ـ بعد أن حكى بعض كلام الزّمخشري (٥) ـ : والذي يظهر أنّ المعنى انتفاء كون فضل عليهم من السّفلة في الدّنيا بسبب اتباعهم إيّاهم ، وموافقتهم لهم في الكفر أي : اتّباعكم إيّانا ، وعدم اتّباعكم سواء ؛ لأنّكم كنتم في الدّنيا عندنا أقلّ من أن يكون لكم علينا فضل باتّباعكم ، بل كفرتم اختيارا ، لا أنّا حملناكم على الكفر إجبارا ، وأنّ قوله : «فما كان» جملة معطوفة على جملة محذوفة بعد القول دلّ عليها ما سبق من

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٨٠ ، والحجة ٤ / ١٧ ، وحجة القراءات ٢٨١ ، وإعراب القراءات ١ / ١٨١ ، والعنوان ٩٥ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٩٤ ، وشرح شعلة ٣٨٨ ، وإتحاف ٢ / ٤٨.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٦٢.

(٣) ينظر : الرازي ١٤ / ٦٢.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٩٩.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ١٠٣.

١١٠

الكلام ، والتّقدير : قالت أولاهم لأخراهم : ما دعاؤكم الله أنّا أضللناكم وسؤالكم ما سألتم ، فما كان لكم علينا من فضل بضلالكم ، وأنّ قوله : «فذوقوا» من كلام الأولى خطابا للأخرى على سبيل التشفّي ، وأن ذوق العذاب هو بسبب ما كسبتم لا بأنّا أضللناكم.

وقيل : فذوقوا من خطاب الله لهم.

و «بما» «الباء» سببية ، و «ما» مصدرية ، أو بمعنى «الّذي» ، والعائد محذوف أي : تكسبونه.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) (٤٠)

هذا من تمام وعيد الكفّار فقوله : (كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بالدّلائل الدّالة التي هي أصول الدّين فالدهرية (١) ينكرون دلائل إثبات الذّات والصّفات ، والمشركون ينكرون دلائل إثبات التوحيد ، ومنكرو النّبوات يكذبون الدلائل الدالة على صحّة النّبوّات ومنكرو نبوة محمد ينكرون الدلائل الدالة على صحة نبوته ، ومنكرو المعاد ينكرون الدّلائل الدّالة على صحّة المعاد فقوله : (كَذَّبُوا بِآياتِنا) يتناول الكلّ ومعنى الاستكبار طلب التّرفّع بالباطل ، وهذا اللّفظ يدلّ على الذم في حقّ البشر.

قوله : «لا تفتّح».

قرأ أبو عمر (٢) : «لا تفتح» بضمّ التّاء من فوق والتّخفيف والأخوان بالياء من تحت والتخفيف أيضا ، والباقون : بالتّأنيث والتشديد.

فالتّأنيث والتّذكير باعتبار الجمع والجماعة ، والتّخفيف والتضعيف باعتبار التكثير وعدمه ، والتضعيف هنا أوضح لكثرة المتعلق ، وهو في هذه القراءات مبني للمفعول.

وقرأ أبو حيوة (٣) ، وأبو البرهسم [«تفتّح»] بفتح التّاء من فوق والتضعيف ، والأصل : لا تتفتح بتاءين فحذفت إحداهما ، وقد تقدّم في (تَذَكَّرُونَ) [الأنعام : ١٥٢] ونحوه ، ف «أبواب» على قراءة أبي حيوة فاعل ، وعلى ما تقدّم مفعول لم يسمّ فاعله.

وقرىء : «لا تفتح» بالتاء ، ونصب «الأبواب» على أن الفعل للآيات وبالياء على أن الفعل لله ذكره الزمخشريّ.

__________________

(١) في أ : فالدهريون.

(٢) ينظر : السبعة ٢٨٠ ، والحجة ٤ / ١٨ ، وحجة القراءات ٢٨٢ ، وإعراب القراءات ١ / ١٨٠ ، والعنوان ٩٥ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٩٤ ، وشرح شعلة ٣٨٨ ، وإتحاف ٢ / ٤٨.

(٣) وقع في المحرر الوجيز ٢ / ٤٠٠ أن قراءة أبي حيوة : «يفتّح» بالياء وفتح الفاء وشد التاء ، والمثبت عند المصنف كما في البحر ٤ / ٢٩٩ ، والدر المصون ٣ / ٢٦٩.

١١١

فصل في معنى «لا تفتح»

قال ابن عبّاس : لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم مأخوذ من قوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)(١) [فاطر : ١٠].

وقال السّدّيّ وغيره : لا تفتح لأرواحهم أبواب السّماء وتفتح لأرواح المؤمنين ، ويؤيد هذا ما ورد في الحديث أنّ روح المؤمن يعرج بها إلى السّماء فيستفتح لها فيقال : مرحبا بالنّفس الطيبة ، التي كانت في الجسد الطيب ، ويقال لها ذلك إلى أن تنتهي إلى السّماء السابعة ، ويستفتح لروح الكافر ، فيقال لها : ارجعي ذميمة فإنه لا تفتح لك أبواب السّماء (٢) ولا يدخلون الجنة بل يهوى بها إلى سجين.

وقيل : لا ينزل عليهم الخير والبركة لقوله : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) [القمر : ١١].

قوله : (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ).

الولوج : الدّخول بشدّة ، ولذلك يقال : هو الدّخول في مضيق ، فهو أخصّ من الدّخول ، والوليجة : كلّ ما يعتمده الإنسان ، والوليجة الدّاخل في قوم ليس منهم.

و «الجمل» قراءة العامة ، وهو الحيوان المعروف ، ولا يقال للبعير جملا إلا إذا بزل ، ولا يقال له ذلك إلا إذا بلغ أربع سنين وأول ما يخرج ولد النّاقة ، ولم تعرف ذكوريّته وأنوثته يقال له : «سليل» ، فإن كان ذكرا فهو «سقب» ، وإن كان أنثى «حائل» ، ثم هو «حوار» إلى الفطام ، وبعده «فصيل» إلى سنة ، وفي الثانية : «ابن مخاض» و «بنت مخاض» ، وفي الثالثة : «ابن لبون» و «بنت لبون» ، وفي الرابعة : «حقّ» و «حقّة» ، وفي الخامسة : جذع وجذعة ، وفي السّادسة : «ثنيّ» و «ثنيّة» ، وفي السّابعة : رباع ورباعية مخففة ، وفي الثامنة : «سديس» لهما. وقيل : «سديسة» للأنثى ، وفي التّاسعة : «بازل» ، و «بازلة» ، وفي العاشرة : «مخلف» و «مخلفة» ، وليس بعد البزول والإخلاف سنّ بل يقال : بازل عام ، أو عامين ، ومخلف عام ، أو عامين حتى يهرم ، فيقال له : فود. ورد التّشبيه في الآية الكريمة في غاية الحسن ، وذلك أنّ الجمل أعظم حيوان عند العرب ، وأكبره جثّة حتى قال : [البسيط]

٢٤٦٣ ـ ..........

جسم الجمال وأحلام العصافير (٣)

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ذ ٤٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٥٥) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) أخرجه مسلم ٣ / ٦٦٧ ، في الجنائز : باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه (٩٦ / ٩٧١) ، وأبو داود ٣ / ٢١٧ ، في الجنائز : باب في كراهية القعود على القبر (٣٢٢٨) وأخرجه النسائي ٤ / ٩٥ ، في الجنائز باب التشديد في الجلوس على القبر وابن ماجه ١ / ٤٩٩ ، في الجنائز : باب ما جاء في النهي عن المشي على القبور.

(٣) البيت لحسان بن ثابت وصدره :

لا عيب بالقوم من طول ولا عظم ـ

١١٢

[وقوله] : [الوافر]

٢٤٦٤ ـ لقد كبر البعير بغير لبّ

 .......... (١)

وسم الإبرة في غاية الضّيق ، فلما كان المثل يضرب بعظم هذا وكبره ، وبضيق ذلك حتّى قيل : أضيق من خرت إبرة ، ومنه الخرّيت وهو البصير بمضايق الطّرق قيل : لا يدخلون [الجنة حتى يتقحّم أعظم الأشياء وأكبرها عند العرب في أضيق الأشياء وأصغرها فكأنه لا يدخلون](٢) حتى يوجد هذا المستحيل ، ومثله في المعنى قول الشاعر : [الوافر]

٢٤٦٥ ـ إذا شاب الغراب أتيت أهلي

وصار القار كاللّبن الحليب (٣)

وقرأ ابن عبّاس (٤) في رواية ابن حوشب ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وأبو مجلز والشعبيّ ، ومالك بن الشّخّير ، وابن محيصن ، وأبو رجاء ، وأبو رزين ، وأبان عن عاصم : «الجمّل» بضمّ الجيم وفتح الميم مشددة وهو القلس ، والقلس : حبل غليظ ، يجمع من حبال كثيرة فيفتل ، وهو حبل السّفينة.

وقيل : الحبل الذي يصعد به [إلى] النّخل.

ويروى عن ابن عباس أنه قال : «إن الله أحسن تشبيها أن يشبه بالحبل من أن يشبه بالجمل» كأنّه رأى ـ إن صحّ عنه ـ أن المناسب لسم الإبرة شيء يناسب الخيط المسلوك فيها.

وقال الكسائي : «الرّاوي ذلك عن ابن عباس أعجمي فشدّد الميم».

وضعّف ابن عطية قول الكسائي بكثرة رواتها عن ابن عباس قراءة. قال شهاب الدّين (٥) : «ولذلك هي قراءة مشهورة بين النّاس». وروى مجاهد عن ابن عباس ضمّ الجيم وفتح الميم خفيفة ، وهي قراءة ابن جبير (٦) ، وقتادة ، وسالم الأفطس.

__________________

ـ ينظر ديوانه ص ١٧٨ ، وخزانة الأدب ٤ / ٧٢ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٥٥٤ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢١٠ ، والكتاب ٢ / ٧٣ ، ٢٧٤ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٣٦٢ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ١٠٧ ، واللسان (قوا) ، والبحر ٤ / ٣٠٠ ، والدر المصون ٣ / ٢٦٩.

(١) صدر بيت وروايته في البحر (٤ / ٣٠٠).

لقد عظم البعير بغير لب

فلا يستغن بالعظم البعير

ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٦٩.

(٢) سقط من ب.

(٣) البيت ينظر : تفسير الماوردي ٢ / ٢٨ ، الدر المصون ٣ / ٢٧٠.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٠٠ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٠٠ ، والدر المصون ٣ / ٢٧٠.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٧٠.

(٦) في هذه القراءات :

ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٠٠ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٠٠ ، والدر المصون ٣ / ٢٧٠.

١١٣

وقرأ ابن عبّاس أيضا في رواية عطاء : «الجمل» بضم الجيم والميم مخففة ، وبها قرأ الضحاك والجحدري.

وقرأ عكرمة ، وابن جبير بضمّ الجيم ، وسكون الميم.

[وقرأ المتوكل ، وأبو الجوزاء بالفتح والسّكون ، وكلّها لغات في القلس المذكور.

وسئل ابن مسعود عن الجمل في الآية فقال : «زوج النّاقة» ، كأنه فهم ما أراد السّائل واستغباه](١).

قوله : (فِي سَمِّ الْخِياطِ) متعلق ب «يلج» ، و «سمّ الخياط» ثقب الإبرة ، وهو الخرت ، وسينه مثلثة ، وكلّ ثقب ضيق فهو سمّ ، وكلّ ثقب في البدن ؛ وقيل : كلّ ثقب في أنف أو أذن فهو سمّ وجمعه سموم.

قال الفرزدق : [الطويل]

٢٤٦٦ ـ فنفّست عن سمّيه حتّى تنفّسا

وقلت له لا تخش شيئا ورائيا (٢)

والسّمّ : القاتل ، وسمي بذلك للطفه وتأثيره في مسامّ البدن حتى يصل إلى القلب ، وهو في الأصل مصدر ثم أريد به معنى الفاعل لدخوله باطن البدن ، وقد سمّه إذا أدخله فيه ، ومنه «السّامّة» للخاصة الذين يدخلون بواطن الأمور ومسامّها ، ولذلك يقال لهم : الدّخلل. والسموم الريح الحادة ؛ لأنّها تؤثر تأثير السّم القاتل. والخياط والمخيط الآلة التي يخاط بها فعال ومفعل ، كإزار ومئزر ، ولحاف وملحف ، وقناع ومقنع.

وقرأ (٣) عبد الله ، وقتادة ، وأبو رزين ، وطلحة «سمّ» بضمّ السّين ، وأبو عمران الجوني ، وأبو نهيك ، والأصمعيّ عن نافع «سمّ» بالكسر ، وقد تقدّم أنّها لغات.

وقرأ عبد الله ، وأبو رزين (٤) ، وأبو مجلز : «المخيط» بكسر الميم وسكون الخاء ، وفتح الياء.

وطلحة بفتح الميم ، وهذه مخالفة للسّواد.

قوله : «وكذلك» أي : ومثل ذلك الجزاء نجزي المجرمين ، فالكاف نعت لمصدر محذوف.

قوله تعالى : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٤١)

قوله : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) هذه الجملة محتملة للحاليّة والاستئناف ، ويجوز حينئذ

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) ينظر تهذيب اللغة ١٢ / ٣٢٢ ، واللسان (سمم) ، والدر المصون ٣ / ٢٦٩.

(٣) وبها قرأ ابن سيرين كما في المحرر الوجيز ٢ / ٤٠٠ ، وينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٠٠ ، والدر المصون ٣ / ٢٧٠.

(٤) ينظر القراءة السابقة.

١١٤

في «مهاد» أن تكون فاعلا ب «لهم» ، فتكون الحال من قبيل المفردات ، وأن تكون مبتدأ ، فتكون من قبيل الجمل.

و «من جهنّم» حال من «مهاد» ؛ لأنّه لو تأخر عنه لكان صفة ، أو متعلق بما تعلّق به الجار قبله.

و «جهنّم» لا تنصرف لاجتماع التّأنيث والتعريف.

وقيل : اشتقاقه من الجهومة ، وهي الغلظ يقال : رجل جهم الوجه أي غليظه ، فسميت بهذا لغلظ أمرها في العذاب.

و «المهاد» جمع : مهد ، وهو الفراش.

قال الأزهريّ (١) : «المهد في اللّغة الفرش ، يقال للفراش : مهاد».

قوله : (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) غواش : جمع غاشية ، وللنّحاة في الجمع الذي على فواعل إذا كان منقوصا بقياس خلاف : هل هو منصرف أو غير منصرف؟.

فبعضهم قال : هو منصرف ؛ لأنه قد زال [منه] صيغة منتهى الجموع ، فصار وزنه وزن جناح وقذال فانصرف.

وقال الجمهور : هو ممنوع من الصّرف ، والتنوين تنوين عوض.

واختلف في المعوّض عنه ماذا؟ فالجمهور على أنّه عوض من الياء المحذوفة.

وذهب المبرد إلى أنّه عوض من حركتها ، والكسر ليس كسر إعراب ، وهكذا : حوار وموال (٢) وبعضهم يجرّه بالفتحة ، قال : [الطويل]

٢٤٦٧ ـ ولو كان عبد الله مولى هجوته

ولكنّ عبد الله مولى مواليا (٣)

__________________

(١) ينظر : تهذيب اللغة للأزهري ٦ / ٢٢٩.

(٢) تنوين المنقوص مثل جوار وغواش ليس تنوين تمكين فلا يمتنع من الأفعال كما لا يمتنع تنوين الترنم وكان يونس وعيسى وأبو زيد والكسائي فيما حكاه أبو عثمان ينظرون إلى جوار ونحوه من المنقوص فكلما كان له نظير من الصحيح مصروف صرفوه ، وما لم يكن نظيره مصروفا لم يصرفوه ، وفتحوه في موضع الجر كما يفعلون في غير المعتل ويسكنونه في موضع الرفع خاصة ففتحوه في موضع الجر كما في البيت الذي معنا. وهو قول أهل بغداد ، والصرف قول الخليل وسيبويه وأبي عمرو بن العلاء وابن أبي إسحق وسائر البصريين. (ابن يعيش ١ / ٦٤) فالأكثر على أن جوار كقاض رفعا وجرا وقد جاء عن بعض العرب جواري كمولى مواليا فهو ضرورة إذا احتاج إليها الشاعر أو اضطر إليها فمن حقه أو إجراء للمعتل مجرى الصحيح إخراجا له على الأصل فلا يصرفه.

(٣) البيت للفرزدق ينظر : خزانة الأدب ١ / ٢٣٥ ، شرح أبيات سيبويه ٢ / ٣١١ ، سيبويه ٢ / ٥٨ ، ٥٩ ، المقتضب ١ / ١٤٣ ، ما ينصرف وما لا ينصرف ١١٤ ، العيني ٤ / ٣٧٥ ، ابن سلام ١٧ ، الشعراء ٧٦ ، ابن يعيش ١ / ٦٤ ، التصريح ٢ / ٢٢٩ ، الهمع ١ / ٣٦ ، اللسان (ولى) أوضح المسالك ٣ / ١٦١ ، المقاصد النحوية ٤ / ٣٧٥ ، الدرر اللوامع ١ / ١١ ، طبقات الزبيدي ٢٧٥ ، منهج السالك ٣ / ٢٧٣. شرح اللمع ٢ / ٤٨٨ ، الإفصاح للفارقي ٢٩٤ ، الكافية ١ / ٥٨ ، ومراتب النحويين ٣١ ، والدر المصون ٣ / ٢٧.

١١٥

وقال آخر : [الرجز]

٢٤٦٨ ـ قد عجبت منّي ومن يعيليا

لمّا رأتني خلقا مقلوليا (١)

وهذا الحكم ليس مختصا بصيغة مفاعل ، بل كلّ غير منصرف إذا كان منقوصا ، فحكمه ما تقدّم نحو : يعيل تصغير يعلى ويرم اسم رجل ، وعليه قوله : «ومن يعيليا» ، وبعض العرب يعرب «غواش» ونحوه بالحركات على الحرف الذي قبل الياء المحذوفة ، فيقول : هؤلاء جوار.

وقرىء (٢) : «ومن فوقهم غواش» برفع الشين ، وهي كقراءة عبد الله : (وَلَهُ الْجَوارِ) [الرحمن : ٢٤] برفع الراء.

فإن قيل : «غواش» على وزن فواعل ؛ فيكون غير منصرف فكيف دخله التنوين؟.

فالجواب : على مذهب الخليل وسيبويه أنّ هذا جمع ، والجمع أثقل من الواحد ، وهو أيضا الجمع الأكبر الذي تتناهى الجموع إليه ، فزاده ذلك ثقلا ، ثم وقعت الياء في آخره وهي ثقيلة ، فلمّا اجتمعت فيه هذه الأشياء خفّفوه بحذف الياء ، فلّما حذفوا الياء نقص عن مثال «فواعل» فصار غواش بوزن جناح ، فدخله التّنوين لنقصانه عن هذا المثال (٣).

قال المفسّرون : معنى الآية : الإخبار عن إحاطة النّار بهم من كل جانب.

قوله : «وكذلك» تقدم مثله [الأعراف : ٤٠].

وقوله : «والظّالمين» يحتمل أن يكون من باب وقوع الظّاهر موقع المضمر ، والمراد ب «الظّالمين» المجرمون ، ويحتمل أن يكونوا غيرهم ، وأنّهم يجزون كجزائهم.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٤٢)

لمّا ذكر الوعيد أتبعه بذكر الوعد ، فقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) مبتدأ ، وفي خبره وجهان :

أحدهما : أنه الجملة من قوله : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً) ، وعلى هذا فلا بدّ من عائد وهو مقدّر ، وتقديره : نفسا منهم.

والثاني : هو الجملة من قوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ) ، وتكون هذه الجملة المنفيّة

__________________

(١) البيت للفرزدق ينظر : الكتاب ٣ / ٣١٥ ، الخصائص ١ / ٦ الهمع ١ / ٣٦ ، الأشموني ٣ / ٣٧٣ ، التصريح ٢ / ٢٢٨ ، المقتضب ١ / ٢٨٠ ، الدر المصون ٣ / ٢٧١ ، المنصف ٢ / ٦٨ ـ ٧٩ العيني ٤ / ٣٥٩ اللسان (علا ـ قلا).

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٠٠ ، والدر المصون ٣ / ٢٧١.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٦٤ ـ ٦٥.

١١٦

معترضة بينهما ، وهذا الوجه أعرب ، وإنّما حسن وقوع هذا الاعتراض بين المبتدأ والخبر ؛ لأنّه من جنس هذا الكلام ؛ لأنّه لمّا ذكر عملهم الصالح ذكر أنّ ذلك العمل في وسعهم ، وغير خارج عن قدرتهم ، وفيه تنبيه للكفار على أنّ الجنّة مع عظم محلّها يوصل إليها بالعمل السّهل من غير تحمل الصعب.

فصل في معنى قوله : «وسعها»

الوسع : ما يقدر الإنسان عليه في حال السّعة والسّهولة لا في حال الضّيق والشّدّة ، ويدلّ عليه قول معاذ بن جبل في هذه الآية : إلا يسرها لا عسرها (١).

وأمّا أقصى الطّاقة فلا يسمّى وسعا ، وغلط من قال : إن الوسع بذل المجهود.

قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٤٣)

قوله : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ) فالنزع هو بمعنى ينزع فهو على حد (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] ، والنزع : قلع الشّيء عن مكانه.

وقوله : «من غلّ» يجوز أن تكون «من» لبيان جنس «ما» ويجوز أن تكون حالا متعلّقا بمحذوف أي : كائنا من غلّ.

الغل : الحقد والإحنة والبغض ، وكذلك الغلول.

قال أهل اللّغة : وهو الذي يغل بلطفه إلى صميم القلب أي : يدخل ، ومنه الغلول ، وهو الوصول بالحيلة إلى الذّنوب الدقيقة.

ويقال : انغل في الشّيء ، وتغلغل فيه إذا دخل فيه بلطافته كما يدخل في صميم الفؤاد وجمع الغل غلال ، والغلول : الأخذ في خفية ، وأحسن ما قيل إنّ ذلك من لفظ الغلالة كأنّه تدرع ولبس الحقد والخيانة حتّى صار إليه كالغلالة الملبوسة.

فصل في تأويل الآية

في الآية تأويلان :

أحدهما : أزلنا الأحقاد التي كانت لبعضهم في دار الدّنيا ، ومعنى نزع الغل : تصفية الطّباع ، وإسقاط الوساوس ومنعها من أن ترد على القلوب ، فإن الشّيطان لمّا كان في العذاب لم يتفرغ لإلقاء الوساوس في القلوب ، وإلى هذا المعنى أشار عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ إذ قال: «إنّي لأرجو أن أكون أنا ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير من الذين

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٦٥.

١١٧

قال الله ـ جل ذكره ـ فيهم : ونزعنا ما في صدورهم من غلّ» (١).

والتأويل الثاني : أنّ المراد منه أن درجات أهل الجنّة متفاوتة بحسب الكمال والنّقصان ، فالله ـ تعالى ـ أزال الحسد عن قلوبهم حتّى إنّ صاحب الدّرجة النّازلة لا يحسد صاحب الدرجة الكاملة.

قال صاحب هذا التأويل (٢) : وهذا أولى من الوجه الأوّل ، حتّى يكون في مقابلة ما ذكره الله ـ تعالى ـ من تبرّؤ بعض أهل النّار من بعض ، ولعن بعضهم بعضا ، ليعلم أنّ حال أهل الجنّة في هذا المعنى مفارقة لحال أهل النّار ، فإن قيل : كيف يعقل أن يشاهد الإنسان النعم العظيمة والدرجة العالية ، ويرى نفسه محروما عنها ، عاجزا عن تحصيلها ، ثم إنّه لا يميل طبعه إليها ولا يغتم بسبب الحرمان عنها؟ فإن عقل ذلك فلم لا يعقل أيضا أن يغيرهم الله ـ تعالى ـ ، ولا يخلق فيهم شهوة الأكل والشّرب والوقاع ويغنيهم عنها (٣)؟.

فالجواب : أنّ الكلّ ممكن ، والله تعالى قادر عليه ، إلّا أنّه تعالى وعد بإزالة الحقد والحسد عن القلوب ، وما وعد بإزالة شهوة الأكل والشّرب عن النّفوس (٤).

قوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ).

في هذه الجملة ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّها حال من الضّمير في «صدورهم» ، قاله أبو البقاء (٥) وجعل العامل في هذه الحال معنى الإضافة.

والثاني : أنّها حال أيضا ، والعامل فيها «نزعنا» ، قاله الحوفيّ.

الثالث : أنّها استئناف إخبار عن صفة أحوالهم.

وردّ أبو حيّان الوجهين الأوّلين ؛ أمّا الأوّل فلأنّ معنى الإضافة لا يعمل إلّا إذا أمكن تجريد المضاف ، وإعماله فيما بعده رفعا أو نصبا.

وأما الثاني فلأن (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) ليس من صفة فاعل «نزعنا» ، ولا مفعوله وهما «نا» و «ما» فكيف ينتصب حالا عنهما؟ وهذا واضح.

قال شهاب الدّين (٦) : «قد تقدّم غير مرة أنّ الحال تأتي من المضاف إليه إذا كان المضاف جزءا من المضاف إليه لمدرك آخر ، لا لما ذكره أبو البقاء من أنّ العامل هو معنى الإضافة ، بل العامل في الحال هو العامل في المضاف ، وإن كانت الحال ليست منه ؛ لأنّهما لمّا كانا متضايفين ، وكانا مع ذلك شيئا واحدا ساغ ذلك».

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٦٦.

(٢) يقصد بذلك الزمخشري.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٦٦.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٦٦.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٧٤.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٧٢.

١١٨

فصل في شرب المؤمنين من ساق الشجرة

قال السّدّيّ في هذه الآية : إنّ أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فيشربوا من أحديهما ، فينزع ما في صدورهم من غلّ ، وهو الشّراب الطّهور ، ويغتسلوا من الأخرى ، فجرت عليهم نضرة النّعيم فلم يشقوا ، ولم يسجنوا بعدها أبدا (١).

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) أي : إلى هذا يعني طريق الجنة.

وقال سفيان الثّوريّ : «معناه هدانا لعمل هذا ثوابه».

قوله تعالى : (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) قرأ الجماعة : «وما كنّا» بواو ، وكذلك هي في مصاحف الأمصار غير «الشّام» وفيها وجهان :

أظهرهما : أنّها «واو» الاستئناف ، والجملة بعدها مستأنفة.

والثاني : أنّها حاليّة.

وقرأ ابن عامر (٢) «ما كنا» بدون واو ، [و] الجملة على ما تقدّم من احتمال الاستئناف والحال ، وهي في مصحف الشّاميين كذا ، فقد قرأ كلّ بما في مصحفه.

ووجه قراءة ابن عامر أنّ قوله : (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) جار مجرى التّفسير لقوله : (هَدانا لِهذا) ، فلما كان أحدهما غير الآخر ؛ وجب حذف الحرف العاطف.

قوله : (لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) «أن» وما في حيزها في محلّ رفع بالابتداء ، والخبر محذوف على ما تقرّر ، وجواب «لو لا» مدلول عليه بقوله : «وما كنّا» تقديره : لو لا هدايته لنا موجودة لشقينا ، أو ما كنا مهتدين.

فصل في الدلالة في الآية

دلّت هذه الآية على أنّ المهتدي من هداه الله ، وإن لم يهده الله لم يهتد. ثم نقول : مذهب المعتزلة (٣) أنّ كلّ ما فعله الله في حقّ الأنبياء ، والأولياء من أنواع الهداية والإرشاد فقد فعله في حقّ جميع الكفّار والفسّاق ، وإنّما حصل الامتياز بين المؤمن والكافر ، والمحقّ والمبطل بسعي نفسه واختيار نفسه ، فكان يجب عليه أن يحمد نفسه ؛ لأنه هو الذي حصل لنفسه الإيمان ، وهو الذي أوصل نفسه إلى درجات الجنان ، وخلّصها من

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٩٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٥٨) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) ينظر : السبعة ٢٨٠ ، والحجة ٤ / ٢٥ ، والعنوان ٩٥ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٩٥ ، وشرح شعلة ٣٨٩ ، وإتحاف ٢ / ٤٩.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٧ د.

١١٩

دركات النّيران ، فلمّا لم يحمد نفسه ألبتّة إنّما حمد الله ـ تعالى ـ فقط علمنا أن الهادي ليس إلا الله تعالى.

قوله : (لَقَدْ جاءَتْ) جواب قسم مقدّر ، و «بالحقّ» يجوز أن تكون الياء للتعدية ، ف «بالحق» مفعول معنى ، ويجوز أن تكون للحال [أي :] جاءوا ملتبسين بالحقّ ، وهذا من قول أهل الجنّة حين رأوا ما وعدهم الرّسل عيانا ، «ونودوا» هذا النداء يحتمل أن يكون من الله ـ تعالى ـ ، وأن يكون من الملائكة.

قوله : (أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) يجوز أن تكون المفسّرة ، فسّرت النداء ـ وهو الظّاهر ـ بما بعدها ، ويجوز أن تكون المخففة واسمها ضمير الأمر محذوفا ، فهي وما بعدها في محلّ نصب أو جرّ ؛ لأنّ الأصل : «بأن تلكم» ، وأشير إليها بإشارة البعيد ؛ لأنّهم وعدوا بها في الدّنيا.

وعبارة بعضهم «هي إشارة لغائب» مسامحة ؛ لأنّ الإشارة لا تكون إلا لحاضر ، ولكنّ العلماء تطلق على البعيد غائبا مجازا.

قوله : «أورثتموها» يجوز أن تكون هذه الجملة حاليّة كقوله : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) [النمل : ٥٢].

ويجوز أن تكون خبرا عن «تلكم» ، ويجوز أن تكون «الجنّة» بدلا أو عطف بيان و «أورثتموها» الخبر.

ومنع أبو البقاء (١) أن تكون حالا من تلكم للفصل بالخبر ، ولأنّ المبتدأ لا يعمل في الحال.

وأدغم أبو عمرو (٢) والأخوان الثّاء في التاء ، وأظهرها الباقون.

و (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تقدّم [المائدة : ١٠٥].

فصل في معنى «أورثتموها»

قال أهل المعاني : معناه صارت إليكم كما يصير الميراث إلى أهله ، والإرث قد يستعمل في اللّغة ولا يراد به زوال الملك عن الميّت إلى الحي ، كما يقال : هذا الفعل يورثك الشّرف ويورثك العار أي : يصيرك إليه (٣).

ومنهم من يقول : إنّهم أعطوا تلك المنازل من غير تعب في الحال فصار شبيها بالميراث.

وقيل : إنّ أهل الجنّة يرثون منازل أهل النّار (٤).

قال عليه الصّلاة والسّلام : «ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله في الجنة والنّار منزل ،

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٧٤.

(٢) ينظر : السبعة ٢٨١ ، والحجة ٤ / ٢٥ ، والعنوان ٩٥ ، وإعراب القراءات ١ / ١٨٥ ، وإتحاف ٢ / ٤٩.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٦٧ ـ ٦٨.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٦٨.

١٢٠