اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٢

الجملة قبلها ، والإشارة ب «ذلك» إلى المصدر المفهوم من قوله : «يصرف» ، أي : ذلك الصرف.

و «المبين» يحتمل أن يكون متعدّيا ، فيكون المفعول محذوفا ، أي : المبين غيره ، وأن يكون قاصرا بمعنى يبين ، وقد تقدّم أنّ «أبان» ، يكون قاصرا بمعنى «ظهر» ، ومتعدّيا بمعنى «أظهر».

قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٧)

هذا دليل آخر في بيان أنه لا يجوز للعاقل أن يتّخذ وليّا غير الله.

و «الباء» في قوله : «بضرّ» للتعدية ، وكذلك في «بخير» ، والمعنى : وإن يمسسك الله الضّرّ ، أي : يجعلك ماسّا له ، وإذا مسست الضر فقد مسّك ، إلّا أن التّعدية بالباء في الفعل المتعدّي قليلة جدا ، ومنه قولهم : «صككت أحد الحجرين بالآخر» (١).

وقال أبو حيان (٢) : ومنها قوله تعالى (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) [البقرة : ٢٥١].

وقال الواحديّ (٣) ـ رحمه‌الله ـ : «إن قيل : إن المسّ من صفة الأجسام فكيف قال : وإن يمسسك الله؟

فالجواب «الباء» للتعدية ، والباء والألف يتعاقبان في التّعدية ، والمعنى : إن أمسّك الله ضرّا ، أي : جعله ماسّك ، فالفعل للضّرّ ، وإن كان في الظاهر قد أسند إلى اسم الله تعالى ، كقولك : «ذهب زيد بعمرو» ، وكان الذّهاب فعلا لعمرو ، غير أن زيدا هو المسبّب له والحامل عليه ، كذلك هنا المسّ للضّرّ ، والله ـ تعالى ـ جعله ماسّا».

قوله : (فَلا كاشِفَ لَهُ) : «له» : خبر «لا» ، وثمّ محذوف تقديره : فلا كاشف له عنك ، وهذا المحذوف ليس متعلّقا ب «كاشف» ، إذ كان يلزم تنوينه وإعرابه ، بل يتعلّق بمحذوف ، أي : أغنى عنه. و «إلّا هو» فيه وجهان :

أحدهما : أنه بدل من محلّ «لا كاشف» فإن محلّه الرفع على الابتداء.

والثاني : أنه بدل من الضمير المستكنّ في الخبر ، ولا يجوز أن يرتفع باسم الفاعل ، وهو «كاشف» ؛ لأنه يصير مطوّلا [ومتى كان مطوّلا](٤) أعرب نصبا ، وكذلك لا يجوز أن يكون بدلا من الضمير المستكنّ في «كاشف» للعلّة المتقدّمة ؛ إذ البدل يحلّ محلّ المبدل منه.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٩٢ الدر المصون ٣ / ٢٥.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٩٢.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٥.

(٤) سقط في أ.

٦١

فإن قيل : المقابل للخير هو الشّر ، فكيف عدل عن لفظ الشّرّ؟ والجواب أنه أراد تغليب الرحمة على ضدّها ، فأتى في جانب الشّرّ بأخصّ منه وهو الضّرّ ، وفي جانب الرّحمة بالعام الذي هو الخير تغليبا لهذا الجانب.

قال ابن عطية (١) : ناب الضّرّ مناب الشّرّ ، وإن كان الشّرّ أعمّ منه ، فقابل الخير. وهذا من الفصاحة عدول عن قانون التكليف والصيغة ، فإن باب التكليف وترصيع الكلام أن يكون الشيء مقترنا [بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مضاهاة فمن ذلك](٢)(إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) [طه : ١١٨ ـ ١١٩] فجاء بالجوع مع العري ، وبابه أن يكون مع الظّمأ.

ومنه قول امرىء القيس : [الطويل]

٢١١٩ ـ كأنّي لم أركب جوادا للذّة

ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال

ولم أسبإ الزّقّ الرّويّ ولم أقل

لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال (٣)

ولم يوضّح ابن عطيّة ذلك ، وإيضاحه في آية «طه» اشتراك الجوع والعرى في شيء خاص وهو الخلوّ ، فالجوع خلوّ وفراغ من الباطن ، والعري خلوّ وفراغ من الظّاهر ، واشتراك الظّمأ والضّحى في الاحتراق ، فالظّمأ احتراق في الباطن ، ولذلك تقول : «بردّ الماء حرارة كبدي وأوام (٤) عطشي».

والضّحى : احتراق الظّاهر.

وأمّا البيتان ، فالجامع بين الرّكوب للذّة وهو الصيد وتبطّن الكاعب اشتراكهما في لذّة الاستعلاء ، والقهر والاقتناص والظّفر بمثل هذا المركوب ، ألا ترى إلى تسميتهم هن المرأة «ركبا» ، بفتح الراء والكاف ، وهو فعل بمعنى مفعول كقوله : [الرجز]

٢١٢٠ ـ إنّ لها لركبا إرزبّا

كأنّه جبهة ذرّى حبّا (٥)

وأمّا البيت الثاني فالجامع بين سبأ الخمر ، والرّجوع بعد الهزيمة اشتراكهما في البذل ، فشراء الخمر بذل المال ، والرجوع بعد الانهزام بذل الروح.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٧٤ ، الدر المصون ٣ / ٢٥.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر البيتان في ديوانه (٣٥) ، العمدة ١ / ٢٥٩ ، الوساطة ١٩٥ ، حاشية الشيخ يس ١ / ٢٢٠ والمحرر الوجيز ٢ / ٢٧٤ والبيت الأول في التصريح ١ / ١١٢ ، التهذيب «نبط» الدر المصون ٣ / ٢٥.

(٤) في ب : أروى.

(٥) ينظر : جمهرة اللغة ص (٣٠٨) شرح المفصل ١ / ٢٨ ، الكتاب ٣ / ٣٢٦ ، لسان العرب (حبب) ، (رزب) ، ما ينصرف وما لا ينصرف ص (١٢٣) ، مجالس ثعلب ١ / ٢٠٢ ، المقتضب ٤ / ٩ ، الدر المصون ٣ / ٢٦.

٦٢

وقدّم تبارك وتعالى مسّ الضّرّ على مسّ الخير لمناسبة اتّصال مسّ الضّرّ بما قبله من التّرهيب المدلول عليه بقوله تعالى : (إِنِّي أَخافُ) ، وجاء جواب الشّرط الأوّل بالحصر إشارة إلى استقلاله بكشف الضّرّ دون غيره ، وجاء الثاني بقوله تعالى (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إشارة إلى قدرته الباهرة ، فيندرج فيها المسّ بخير وغيره ، على أنّه لو قيل : إنّ جواب الثاني محذوف لكان وجها أي : وإن يمسسك بخير فلا رادّ لفضله ، للتصريح بمثله في موضع آخر.

فصل

روى ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ قال : «أهدي للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغلة أهداها له كسرى ، فركبها بحبل من شعر ، ثمّ أردفني خلفه ، ثمّ صار بي مليّا ، ثمّ التفت إليّ وقال (١) : يا غلام فقلت : لبّيك يا رسول الله فقال احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرّف إلى الله في الرّخاء يعرفك في الشّدّة ، وإذا سألت فأسأل الله ، وإن استعنت فاستعن بالله ، فقد مضى القلم بما هو كائن ، فلو جهد الخلائق على أن ينفعوك بشيء لم (٢) يقضه الله سبحانه لك لم يقدروا عليه ، ولو جهدوا أن يضرّوك عمّا لم يكتب الله عليك ما قدروا عليه ، فإن استطعت أن تعمل بالصّبر مع اليقين فافعل ، فإن لم تستطع ، فإنّ في الصّبر على ما تكره خيرا كثيرا ، واعلم أنّ النّصر مع الصّبر ، وأنّ مع الكرب الفرج ، وأنّ مع العسر يسرا» (٣).

قوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)(١٨)

والمراد بالقاهر الغالب ، وفي «القاهر» زيادة معنى على القدرة وهو منع غيره من بلوغ المراد.

وقيل : المنفرد بالتّدبير الذي يجبر الخلق على مراده.

قوله : «فوق» فيه أوجه (٤) :

أظهرها : أنه منصوب باسم الفاعل قبله ، والفوقيّة هنا عبارة عن الاستعلاء والغلبة.

والثاني : أنه مرفوع على [أنه] خبر ثان ، أخبر عنه بشيئين :

أحدهما : أنه قاهر.

والثاني : أنه فوق عباده بالغلبة.

والثالث : أنه بدل من الخبر.

والرابع : أنه منصوب على الحال من الضمير في «القاهر» كأنه قيل : وهو القاهر

__________________

(١) في ب : فقال.

(٢) في ب : بما لا.

(٣) أخرجه الحاكم (٣ / ٥٤١) من حديث ابن عباس وقال : هذا حديث عال كبير.

وله طريق آخر بلفظ مختصر عند الترمذي (٢٥١٦) وقد تقدم تخريجه.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٦.

٦٣

مستعليا أو غالبا ، ذكره المهدوي وأبو البقاء (١).

الخامس : أنها زائدة ، والتقدير : وهو القاهر عباده.

ومثله : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) [الأنفال : ١٢] وهذا مردود ؛ لأن الأسماء لا تزاد(٢).

ثم قال (وَهُوَ الْحَكِيمُ) أي في أمره ، «الخبير» بأعمال عباده.

قوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)(١٩)

قال الكلبيّ (٣) : أتى أهل «مكة» رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : أرنا من يشهد بأنك رسول الله ، فإنّا لا نرى أحدا يصدّقك ، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى ، فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) أي : أعظم شهادة ، فإن أجابوك ، وإلّا فقل : (اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) على ما أقول لأني أوحي إليّ هذا القرآن معجزا لأنكم أنتم البلغاء والفصحاء ، وقد عجزتم عن معارضته ، فكان معجزا ، وإذا كان معجزا كان إظهار الله ـ تعالى ـ له على وفق دعواي شهادة من الله على كوني صادقا في دعواي.

قوله تعالى : (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ) مبتدأ وخبر ، وقد تقدّم أن «أيّا» بعض ما تضاف إليه ، فإذا كانت استفهامية اقتضى الظّاهر أن يكون مسمّى باسم ما أضيف إليه.

قال أبو البقاء (٤) ـ رحمه‌الله ـ : «وهذا يوجب أن يسمّى الله تعالى «شيئا» ، فعلى هذا تكون الجلالة خبر مبتدأ محذوف [والتقدير : الله أكبر شهادة ، و «شهيد» على هذين القولين خبر مبتدأ محذوف](٥) أي : ذلك الشيء هو الله تعالى ، ويجوز أن تكون الجلالة مبتدأ خبره محذوف أي : هو شهيد بيني وبينكم ، والجملة من قوله : «قل الله» على الوجهين المتقدمين جواب ل «أي» من حيث اللفظ والمعنى ، ويجوز أن تكون الجلالة مبتدأ ، و «شهيد» خبرها ، والجملة على هذا جواب ل «أيّ» من حيث المعنى ، أي : إنها دالّة على الجواب ، وليست به.

قوله : «شهادة» نصب على التمييز ، وهذا هو الذي لا يعرف النحاة غيره.

وقال ابن عطية (٦) ـ رضي الله عنه ـ : ويصحّ على المفعول بأن يحمل «أكثر» على

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٦ الإملاء ١ / ٢٣٧ وأبو البقاء سقط في [ب].

(٢) في ب : لا تراه.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٢ / ١٤٥) عن ابن عباس.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٧.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٧٥ ، والدر المصون ٣ / ٢٧.

٦٤

التشبيه بالصفة المشبهة باسم الفاعل وهذا ساقط جدّا ؛ إذ نصّ النحويون على أن معنى شبهها باسم الفاعل في كونها تؤنّث وتثنّى ، وتجمع ، وأفعل من لا تؤنّث ولا تثنّى ولا تجمع ، فلم يشبه اسم الفاعل ، حتّى إنّ أبا حيّان (١) نسب هذا الخباط إلى النّاسخ دون أبي محمد.

قوله : (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) متعلّق ب «شهيد» ، وكان الأصل : قل الله شهيد بيننا ، فكرّرت «بين» توكيدا ، وهو نظير قوله : [الوافر]

٢١٢١ ـ فأيّي ما وأيّك كان شرّا

فسيق إلى المقامة لا يراها (٢)

وقوله : [الرجز]

٢١٢٢ ـ يا ربّ موسى أظلمي وأظلمه

أرسل عليه ملكا لا يرحمه (٣)

وقوله : [الكامل]

٢١٢٣ ـ فلئن لقيتك خاليين لتعلمن

أيّي وأيّك فارس الأحزاب (٤)

والجامع بينهما : أنّه لمّا أضاف إلى «الياء» وحدها احتاج إلى تكرير ذلك المضاف.

ويجوز أبو البقاء (٥) أن يكون «بيني» متعلّقا بمحذوف على أنّه صفة ل «شهيد» ، فيكون في محلّ رفع ، والظاهر خلافه.

قوله : «وأوحي» (٦) الجمهور على بنائه للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به ، وهو الله تبارك وتعالى.

و «القرآن» رفع به.

وقرأ أبو نهيك (٧) ، والجحدري ، وعكرمة ، وابن السّميفع : «وأوحى» ببنائه للفاعل ، «القرآن» نصبا على المفعول به.

و «لأنذركم» متعلّق ب «أوحي».

قيل : وثمّ معطوف حذف لدلالة الكلام عليه ، أي : لأنذركم به وأبشّركم به ، كقوله

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٩٥.

(٢) البيت للعباس بن مرداس.

ينظر : ديوانه ص (١٤٨) ، خزانة الأدب ٤ / ٣٦٧ ، ذيل الأمالي ص (٦٠) ، شرح أبيات سيبويه ٢ / ٩٣ ، شرح ديوان زهير ص (١١٣) ، شرح المفصل ٢ / ١٣١ ، الكتاب ٢ / ٤٠٢ ، لسان العرب (قوم) (أيا). الدر المصون ٣ / ٢٧.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٨.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٦ ، البحر المحيط ٤ / ٩٥.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٩٦ ، الدر المصون ٣ / ٢٦ ، الشواذ ص (٣٦).

٦٥

تعالى : (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] ، وتقدم فيه نظائر ، وقيل : لا حاجة إليه ؛ لأن المقام مقام تخويف.

فصل في بيان معنى الآية

والمعنى : الله شهيد بيني وبينكم أنّي قد أبلغتكم وصدقت فيما قلته وادّعيته من الرسالة ، والقرآن أيضا شاهد بنبوّتي لأنذركم به يا أهل «مكة» ، ومن بلغه القرآن العظيم.

قوله تعالى : (وَمَنْ بَلَغَ) فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه في محلّ نصب عطفا على المنصوب في «لأنذركم» ، وتكون «من» موصولة ، والعائد عليها من صلتها محذوف.

أعني : ولأنذر الذي بلغه القرآن الكريم من العرب والعجم.

وقيل : من الثّقلين.

وقيل : من بلغه [من القرآن الكريم](١) إلى يوم القيامة.

وعن سعيد بن جبير : «من بلغه من القرآن ، فكأنما رأى محمّدا عليه الصّلاة والسّلام» (٢).

الثاني : أنّ في «بلغ» ضميرا مرفوعا يعود على «من» ، ويكون المفعول محذوفا ، وهو منصوب المحلّ أيضا نسقا على مفعول «لأنذركم» والتقدير : ولأنذر الذي بلغ الحلم (٣) ، فالعائد هنا مستتر في الفعل.

الثالث : أنّ «من» مرفوعة المحلّ نسقا على الضّمير المرفوع في «لأنذركم» ، وجاز ذلك ؛ لأنّ الفصل بالمفعول والجارّ والمجرور أغنى عن تأكيده ، والتقدير : لأنذركم به ، ولينذركم الذي بلغه القرآن.

قوله : «أإنّكم» الجمهور (٤) على القراءة بهمزتين : أولاهما للاستفهام ، وهو استفهام تقريع وتوبيخ.

قال الفراء (٥) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : ولم يقل آخر لأن الآلهة جمع ، والجمع يقع

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٦٢) عن محمد بن كعب القرظي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٣) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن الضريس وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ ، وينظر : تفسير الرازي ٢ / ١٤٧.

(٣) في ب : الحكم.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٨ ، البحر المحيط ٤ / ٩٦.

(٥) في أ : أبو حيان وينظر النقل عن الفراء في تفسير الرازي ١١ / ١٤٨.

٦٦

عليه التأنيث ، كقوله : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الأعراف : ١٨٠] وقوله : (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) [طه : ٥١] [ولم يقل الأوّل ، ولا الأوّلين ، وكل ذلك صواب] وقد تقدّم الكلام في قراءات مثل هذا.

قال أبو حيّان (١) : «وبتسهيل الثانية ، وبإدخال ألف بين الهمزة الأولى والهمزة المسهّلة ، روى هذه الأخيرة الأصمعي (٢) عن أبي عمرو ، ونافع» انتهى.

وهذا الكلام يؤذن بأنها قراءة مستغربة ، وليس كذلك ، بل المرويّ عن أبي عمرو ـ رضي الله عنه ـ المدّ بين الهمزتين ، ولم يختلف عن قالون في ذلك.

وقرىء بهمزة واحدة وهي محتملة للاستفهام ، وإنّما حذفت لفهم المعنى ، ودلالة القراءة الشهيرة عليها ، وتحتمل الخبر المحض.

ثم هذه الجملة الاستفهامية ، يحتمل أن تكون منصوبة المحلّ لكونها في حيّز القول ، وهو الظّاهر ، كأنه أمر أن يقول : أيّ شيء أكبر شهادة ، وأن يقول : أإنّكم لتشهدون.

ويحتمل أن تكون داخلة في حيّزه فلا محلّ لها حينئذ ، و «أخرى» صفة ل «آلهة» ؛ لأن ما لا يعقل يعامل جمعه معاملة الواحدة المؤنّثة ، كقوله : (مَآرِبُ أُخْرى) [طه : ١٨] ، و (الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الأعراف : ١٨٠] كما تقدّم.

قوله : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) [يجوز](٣) في «ما» هذه وجهان :

أظهرهما : أنها كافّة ل «إنّ» عن عملها ، و «هو» مبتدأ ، و «إله» خبر ، و «واحد» صفته.

والثاني : أنها موصولة بمعنى «الذي» ، وهو مبتدأ ، و «إله» خبره ، وهذه الجملة صلة وعائد ، والموصول في محلّ نصب اسما ل «إن» ، و «واحد» خبرها.

والتقدير : إنّ الذي هو إله واحد ، ذكره أبو البقاء (٤) ، وهو ضعيف ، ويدلّ على صحّة الوجه الأوّل تعيّنه في قوله تبارك وتعالى : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) [النساء : ١٧١] ، إذ لا يجوز فيه أن تكون موصولة لخلوّ الجملة عن ضمير الموصول.

وقال أبو البقاء (٥) في هذا الوجه : وهو أليق مما قبله.

قال شهاب الدّين (٦) : ـ رضي الله عنه ـ : ولا أدري ما وجه ذلك؟

فصل فيما تفيده الآية

اعلم أنّ هذا الكلام دلّ على إيجاب التّوحيد ، والبراءة من الشّرك من ثلاثة أوجه (٧) :

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٩٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٩٦ ، الدر المصون ٣ / ٢٨.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٨.

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٨.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٤٨.

٦٧

أولها : قوله : (قُلْ لا أَشْهَدُ) بما تذكرونه من إثبات الشّركاء.

وثانيها : قوله : (قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) ، وكلمة «إنّما» تفيد الحصر ، ولفظ الواحد صريح في التوحيد ، ونفي الشركاء.

وثالثها : قوله تبارك وتعالى : (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) ، وفيه تصريح بالبراءة عن إثبات الشّركاء.

قال العلماء (١) : يستحبّ لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين ، ويبرأ من كل دين سوى دين الإسلام.

ونصّ الشّافعي ـ رحمه‌الله تعالى ـ على استحباب ضمّ التّبرّي إلى الشهادة ، كقوله تبارك وتعالى : (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) عقيب التصريح بالتوحيد (٢).

قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٢٠)

اعلم أنّ الكفّار لمّا سألوا اليهود والنّصارى عن صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنكروا دلالة التّوراة والإنجيل على نبوّته بيّن الله ـ تعالى ـ في الآية الأولى أنّ شهادة الله على صحّة نبوّته كافية في ثبوتها ، ثمّ بيّن في هذه الآية أنهم كذبوا في قولهم : لا نعرف محمدا ، لأنهم يعرفونه بالنّبوّة والرسالة ، كما يعرفون أبناءهم.

روي أنه لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المدينة» قال عمر لعبد الله بن سلام : أنزل الله على نبيّه هذه الآية ، فكيف هذه المعرفة؟ فقال : يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته ، كما أعرف ابني ، ولأنا أشدّ معرفة بمحمد منّي بابني ؛ لأني لا أدري ما صنع النساء وأشهد أنه حقّ من الله تعالى (٣).

قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) الموصول مبتدأ ، و «يعرفونه» خبره ، والضمير المنصوب يجوز عوده على الرسول عليه الصّلاة والسّلام ، وعلى القرآن لتقدّمه في قوله : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) أو على التوحيد لدلالة قوله : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) ، أو على كتابهم ، أو على جميع ذلك ، وأفرد الضمير باعتبار المعنى ، كأنّه قيل : يعرفون ما ذكرنا وقصصنا.

وقد تقدّم إعراب هذه الجملة في «البقرة» (٤).

قوله : (الَّذِينَ خَسِرُوا) في محلّه أربعة أوجه :

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٤٨.

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١٢ / ١٤٨).

(٤) ينظر : تفسير الآية رقم (١٢١).

٦٨

أظهرها : أنه مبتدأ ، وخبره الجملة من قوله : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، ودخلت «الفاء» لما تقدّم من شبه الموصول بالشرط.

الثاني : أنه نعت للذين آتيناهم الكتاب. قاله الزّجّاج (١).

الثالث : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين خسروا.

الرابع : أنه منصوب على الذّمّ ، وهذان الوجهان فرعان على النعت ؛ لأنهما مقطوعان عنه ، وعلى الأقوال الثلاثة الأخيرة يكون (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) من باب عطف جملة اسمية على مثلها ، ويجوز أن يكون عطفا على «خسروا» ، وفيه نظر من حيث إنه يؤدّي إلى ترتّب عدم الإيمان على خسرانهم ، والظاهر أنّ الخسران هو المترتب على عدم الإيمان وعلى الوجه الأول يكون (الَّذِينَ خَسِرُوا) أعمّ من أهل الكتاب الجاحدين والمشركين ، وعلى غيره يكون خاصّا بأهل الكتاب ، والتقدير : الذين خسروا أنفسهم منهم ، أي : من أهل الكتاب.

واستشكل على كونه نعتا الاستشهاد بهم على كفّار قريش وغيرهم من العرب ، يعني كيف يستشهد بهم ، ويذمّون في آية واحدة؟

فقيل : إنّ هذا سيق للذّمّ لا للاستشهاد.

وقيل : بل سيق للاستشهاد ، وإن كان في بعض الكلام ذمّ لهم ، لأنّ ذلك بوجهين واعتبارين.

قال ابن عطية (٢) : فصحّ ذلك لاختلاف ما استشهد بهم فيه ، وما ذمّوا فيه ، وأنّ الذّمّ والاستشهاد ليسا من جهة واحدة.

فصل في بيان المراد من ظاهر الآية

ظاهر هذه الآية الكريمة يقتضي أن يكون علمهم بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل علمهم بأبنائهم ، وهنا سؤال ـ وهو أن يقال : المكتوب في التّوراة والإنجيل مجرّد أنه سيخرج نبيّ في آخر الزمان يدعو الخلق إلى الحقّ ، أو المكتوب فيه هذا المعنى مع تعيين الزّمان والمكان والنّسب والصّفة والحلية والشّكل ، فإن كان الأول ، فذلك القدر لا يدلّ على أنّ ذلك الشّخص هو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكيف يصحّ أن يقال : علمهم بنبوته مثل علمهم ببنوّة أبنائهم وإن كان الثاني وجب أن يكون [جميع](٣) اليهود والنّصارى عالمين بالضرورة بأنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيّ من عند الله ، والكذب على الجمع العظيم لا يجوز ، ولأنّا نعلم بالضرورة أن التوراة والإنجيل ما كانا مشتملين على هذه التفاصيل التّامّة الكاملة ؛ لأن هذا التفصيل إمّا

__________________

(١) ينظر : المعاني له ٢ / ٢٥٥.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٧٦ ، الدر المصون ٣ / ٢٩.

(٣) سقط في ب.

٦٩

أن يقال : إنه كان باقيا في التّوراة والإنجيل ، أو كان معدوما في وقت ظهوره ، لأجل أن التّحريف قد تطرّق إليهما قبل ذلك ، والأول باطل ؛ لأنّ إخفاء مثل هذه التفاصيل التامة في كتاب وصل إلى أهل الشرق والغرب (١) ممتنع.

والثاني : أيضا باطل ؛ لأن على هذا التقدير لم يكن يهود أهل ذلك الزمان ، ونصارى ذلك الزّمان عالمين بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم علمهم بنبوّة أنبيائهم (٢) ، وحينئذ يسقط هذا الكلام.

والجواب (٣) أن يقال : المراد ب (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) اليهود والنّصارى ، وهم كانوا أهلا للنّظر والاستدلال ، وكانوا قد شاهدوا ظهور المعجزات على الرسول عليه الصّلاة والسّلام ، فعرفوا بواسطة تلك المعجزات كونه رسولا من عند الله تعالى ، والمقصود بمعرفتهم هي المعرفة من طريق النّظر ، والاستدلال من طريق النّقل.

فصل في المراد بالخسران

قال المفسرون (٤) : معنى هذا الخسران أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ جعل لكلّ آدمي منزلا في الجنّة ومنزلا في النّار ، فإذا كان يوم القيامة جعل الله تبارك وتعالى للمؤمنين منازل أهل النار في الجنة ولأهل النار منازل أهل الجنّة في النّار وذلك هو الخسران.

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)(٢١)

لمّا بيّن خسران المنكرين في الآية الأولى بيّن في هذه الآية الكريمة سبب ذلك الخسران وهو أمران (٥) :

أحدهما : الافتراء على الله كذبا ، وهذا الافتراء يحتمل وجوها :

أحدها : أن كفّار «مكة» المشرفة كانوا يقولون : هذه الأصنام شركاء الله ، الله أمرهم بعبادتها ، وكانوا يقولون : الملائكة بنات الله.

وثانيها : أنّ اليهود والنّصارى كانوا يقولون : حصل في التّوراة والإنجيل أن هاتين الشريعتين لا يتطرّق إليهما النّسخ والتغيير.

وثالثها : ما حكاه (٦) تعالى عنهم بقوله : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨].

ورابعها : قول اليهود : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] وقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا

__________________

(١) في ب : المشرق والمغرب.

(٢) في أ : أبنائهم.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٤٩.

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٤٩.

(٦) في أ : حكى.

٧٠

النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠] وقول جهّالهم : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١] ونحوه.

الأمر الثاني من أسباب خسارتهم ؛ تكذيبهم بآيات الله تعالى ، وقدحهم في معجزات محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وإنكارهم كون القرآن العظيم معجزة قاهرة منه ، ثم إنّه لمّا حكى عنهم سبب هذين الأمرين قال : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) ، أي : الكافرون ـ أي لا يظفرون بمطالبهم في الدنيا ولا في الآخرة.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)(٢٢)

قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ).

فيه خمسة أوجه :

أحدها : أنه منصوب بفعل مضمر بعده ، وهو على ظرفيّته ، أي : ويوم نحشرهم كان كيت وكيت ، وحذف ليكون أبلغ في التّخويف.

والثاني : أنه معطوف على ظرف محذوف ، ذلك الظرف معمول لقوله : (لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) ، والتقدير : أنه لا يفلح الظّالمون اليوم في الدنيا ، ويوم نحشرهم ، قاله محمد ابن جرير(١).

الثالث : أنه منصوب بقوله : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا) ، وفيه بعد لبعده من عامله بكثرة الفواصل.

الرابع : أنه مفعول به ب «اذكر» مقدّرا.

الخامس : أنه مفعول به أيضا ، وناصبه : احذروا أو اتّقوا يوم نحشرهم ، كقوله : (وَاخْشَوْا يَوْماً) [لقمان : ٣٣] وهو كالذي قبله فلا يعدّ خامسا.

وقرأ (٢) الجمهور «نحشرهم» بنون العظمة ، وكذا «ثم نقول» ، وقرأ (٣) حميد ، ويعقوب بياء الغيبة فيهما ، وهو أنه تبارك وتعالى.

والجمهور (٤) على ضم الشين من «نحشرهم» ، وأبو هريرة بكسرها (٥) ، وهما لغتان في المضارع.

والضمير المنصوب في «نحشرهم» يعود على المفترين الكذب.

__________________

(١) ينظر : تفسير الطبري ٥ / ٢٧٧.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٩ ، البحر المحيط ٤ / ٩٨.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٩٨ ، الدر المصون ٣ / ٢٩ ، الشواذ ص (٣٨) ، النشر ٢ / ٢٥٧.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٩.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٩٨ ، الدر المصون ٣ / ٢٩.

٧١

وقيل : على النّاس كلهم ، فيندرج هؤلاء فيهم ، والتّوبيخ مختصّ بهم.

وقيل : يعود على المشركين وأصنامهم ، ويدلّ عليه قوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ) [الصافات : ٢٢].

و «جميعا» حال من مفعول «نحشرهم» ، ويجوز أن يكون توكيدا عند من أثبته من النحويين ك «أجمعين».

وعطف هنا ب «ثمّ» للتراخي الحاصل بين الحشر والقول.

ومفعولا «تزعمون» محذوفان للعلم بهما ، أي : تزعمونهم شركاء ، أو تزعمون أنهما شفعاؤكم.

وقوله : (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ) إن جعلنا الضمير في «نحشرهم» عائدا على المفترين الكذب ، كان ذلك من باب إقامة الظّاهر مقام المضمر ، إذ الأصل : ثم نقول لهم ، وإنما أظهر تنبيها على قبح الشرك.

وقوله : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ؟) سؤال تقريع وتوبيخ وتبكيت.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : «كلّ زعم في كتاب الله فالمراد به الكذب» (١).

قوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٢٤)

قرأ حمزة (٢) والكسائي : «يكن» بالياء من تحت ، «فتنتهم» نصبا.

وابن كثير ، وابن عامر ، وحفص (٣) عن عاصم : «تكن» بالتاء من فوق ، «فتنتهم» رفعا.

والباقون بالتاء (٤) من فوق أيضا ، «فتنتهم» نصبا.

فأمّا قراءة الأخوين فهي أفصح هذه القراءات لإجرائها على القواعد من غير تأويل (٥) ، ووجهها أنّ «فتنتهم» خبر مقدّم ، وإن قالوا بتأويل اسم مؤخر.

والتقدير : «ثم لم تكن فتنتهم إلّا قولهم». وإنما كانت أفصح ؛ لأنه إذا اجتمع اسمان :

أحدهما أعرف ، فالأحسن جعله اسما محدّثا عنه ، والآخر خبرا حديثا عنه.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٢٥٨.

(٢) ينظر : حجة القراءات ص (٢٤٣) ، الشواذ ص (٣٦) ، السبعة ص (٥٤) النشر ٢ / ٢٥٧ ، البحر المحيط ٤ / ٩٩ ، الدر المصون ٣ / ٣٠.

(٣) ينظر : حجة القراءات ص (٢٤٣) ، الدر المصون ٣ / ٣٠.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٩٩ ، الدر المصون ٣ / ٣٠.

(٥) في ب : تنوين.

٧٢

و «أن قالوا» يشبه المضمر ، والمضمر أعرف المعارف ، وهذه القراءة جعل الأعرف فيها اسما ل «كان» وغير الأعرف خبرها ، ولم يؤنّث الفعل لإسناده إلى مذكر.

قال الواحدي (١) : والاختيار قراءة من جعل «أن قالوا» الاسم ذوي الخبر ؛ لأنه إذا وصلت بالفعل لم توصف ، فأشبهت بامتناع وصفها المضمر ، فكما أنّ المضمر والمظهر إذا اجتمعا كان جعل المضمر اسما أولى من جعله خبرا ، تقول : كنت القائم.

وأما قراءة ابن كثير ومن معه ف «فتنتهم» اسمها ، ولذلك أنّث الفعل لإسناده إلى مؤنّث ، و (إِلَّا أَنْ قالُوا) خبرها ، وفيه أنك جعلت غير الأعرف اسما ، والأعرف خبرا ، فليست في قوّة الأولى.

وأمّا قراءة الباقين ف «فتنتهم» خبر مقدم ، و (إِلَّا أَنْ قالُوا) اسم مؤخّر ، وهذه القراءة وإن كان فيها جعل الأعرف اسما ـ كالقراءة الأولى ، إلا أنّ فيها لحاق علامة تأنيث في الفعل مع تذكير الفاعل ، ولكنه بتأويل.

فقيل : لأن قوله : (إِلَّا أَنْ قالُوا) في قوة مقالتهم (٢).

وقيل : لأنه هو الفتنة في المعنى ، وإذا أخبر عن الشّيء بمؤنّث اكتسب تأنيثا ، فعومل معاملته.

وجعل أبو علي منه (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠] لمّا كانت الأمثال هي الحسنات في المعنى عومل معاملة المؤنّث ، فسقطت «التاء» من عدده ، ومثل الآية قوله : [الطويل]

٢١٢٤ ـ ألم يك غدرا ما فعلتم بسمعل

وقد خاب من كانت سريرته الغدر (٣)

ف «كانت» مسند إلى «الغدر» وهو مذكّر ، لكن لما أخبر عنه بمؤنث أنّث فعله.

ومثله قول لبيد : [الكامل]

٢١٢٥ ـ فمضى وقدّمها وكانت عادة

منه إذا هي عرّدت إقدامها (٤)

قال أبو عليّ : فأنّث الإقدام لما كان كالعادة في المعنى قال : وقد جاء في الكلام : «ما جاءت حاجتك» فأنّث ضمير «ما» حيث كانت كالحاجة في المعنى ، ولذلك نصب «حاجتك».

وقال الزمخشري (٥) : «وإنما أنّث «[أن] قالوا» لوقوع الخبر مؤنّثا كقولهم : من كانت أمّك».

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٥١.

(٢) في أ : كلامهم.

(٣) البيت لأعشى تغلب.

ينظر : أمالي الشجري ١ / ٢٢٩ ، روح المعاني ٧ / ١٢٣ ، الدر المصون ٣ / ٣٠.

(٤) ينظر : ديوانه ص (١٧٠) ، شرح الزوزني على المعلقات السبع ١٠٥ ، شرح القصائد لابن النحاس ٧ / ١٤ ، شرح القصائد للتبريزي (١٧٥) ، الدر المصون ٣ / ٣٠.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ١٢.

٧٣

قال أبو حيّان (١) : وكلام الزّمخشري ملفق من كلام أبي عليّ ، وأمّا «من كانت أمك» فإنه حمل اسم «كان» على معنى «من» ، فإنّ لها لفظا مفردا مذكّرا ، ولها معنى بحسب ما تريد من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث ، وليس الحمل على المعنى لمراعاة الخبر ، ألا ترى أنه يجيء حيث لا خبر ، كقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) [يونس : ٤٢].

وقوله : [الطويل]

٢١٢٦ ـ ..........

تكن مثل من يا ذئب يصطحبان (٢)

قال شهاب الدين (٣) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : ليت شعري ، ولأي معنى خصّ الزمخشري بهذا الاعتراض ، فإنه وارد على أبي عليّ أيضا؟ إذ لقائل أن يقول : التأنيث في «جاءت» للحمل على معنى «ما» وإن لها هي أيضا لفظا ومعنى مثل «من» ، على أنه يقال : للتأنيث علّتان ، فذكر [إحداهما ، ورجّح](٤) أبو عبيدة قراءة الأخوين بقراءة أبي ، وابن مسعود (٥) : «وما كان فتنتهم إلّا أن قالوا» فلم يلحق الفعل علامة تأنيث ، ورجّحها غيره بإجماعهم على نصب «حجّتهم» من قوله تبارك وتعالى : (ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) [الجاثية : ٢٥].

وقرىء شاذا «ثم لم يكن فتنتهم إلا أنه قالوا» بتذكير «يكن» ، ورفع «فتنتهم».

ووجه شذوذها سقوط علامة التأنيث ، والفاعل مؤنّث لفظا ، وإن كان غير حقيقي ، وجعل غير الأعرف اسما ، والأعرف خبرا ، فهي عكس القراءة الأولى ، من الطّرفين ، و «أن قالوا» مما يجب تأخيره لحصره سواء أجعل اسما أم خبرا.

فصل في معنى الفتنة في الآية

معنى قوله : «فتنتهم» ، أي : قولهم وجوابهم.

وقال ابن عبّاس ، وقتادة (٦) : معذرتهم ، والفتنة التّجربة ، فلمّا كان سؤالهم تجربة لإظهار ما في قلوبهم قيل : فتنة.

فصل في بيان لطيفة في الآية

قال الزّجّاج (٧) ـ رحمه‌الله ـ : في قولهم : (لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) معنى لطيف ، وذلك لأنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ بيّن أنّ المشركين مفتونون بشركهم متهالكين على حبّه ، فأعلم

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٠٠.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣١.

(٤) سقط في ب.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٠ ، البحر المحيط ٤ / ٩٩ ، الكشاف ٢ / ١٢ ، حجة القراءات (٢٤٣).

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٦٦) عن ابن عباس وقتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٤) عن ابن عباس وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٥١ ، والقرطبي ٦ / ٢٥٩.

٧٤

في هذه الآية الكريمة أنه لم يكن افتتانهم بشركهم ، وإقامتهم عليه إلّا أن تبرّأوا عنه وتباعدوا ، فحلفوا أنهم ما كانوا مشركين ، ومثاله أن ترى إنسانا ما يحبّ طريقة مذمومة ، فإذا وقع في فتنة بسببه تبرّأ منه ، فيقال له : «ما كانت محبتك لفلان إلّا أن فررت منه» ، فالمراد بالفتنة هنا افتتانهم بالأوثان ، ويتأكد بما روى عطاء عن ابن عباس أنه قال : (لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) معناه : شركهم في الدنيا ، وهذا القول راجع إلى حذف المضاف ؛ لأن المعنى ثمّ لم تكن عاقبة أمرهم فتنتهم إلّا البراءة.

قوله : (وَاللهِ رَبِّنا) قرأ (١) الأخوان : «ربّنا» نصبا ، والباقون (٢) جرا.

ونصبه : إمّا على النّداء ، وإمّا على المدح ، قاله ابن عطيّة (٣) ـ رحمه‌الله ـ وإمّا على إضمار «أعني» ، قاله أبو البقاء (٤) ، والتقدير : يا ربنا.

وعلى كلّ تقدير فالجملة معترضة بين القسم وجوابه ، وهو قوله (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) وخفضه من ثلاثة أوجه : النعت ، والبدل ، وعطف البيان.

وقرأ عكرمة ، وسلام (٥) بن مسكين : «والله ربّنا» برفعهما على المبتدأ والخبر.

قال ابن عطية (٦) : «وهذا على تقديم وتأخير ، كأنهم قالوا : والله ما كنّا مشركين والله ربّنا» يعني : أن ثمّ قسما مضمرا.

فصل في الكلام على الآية

ظاهر الآية الكريمة يقتضي أنهم حلفوا في القيامة أنهم ما كانوا مشركين ، وهذا يقتضي إقدامهم على الكذب يوم القيامة ، وللناس فيه قولان (٧) :

الأول ـ وهو قول أبي على الجبائي والقاضي ـ : أن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب واحتج عليه بوجوه :

الأول : أن أهل القيامة يعرفون الله بالاضطرار وأنهم لو عرفوه بالاستدلال لصار موقف القيامة دار تكليف ، وذلك باطل ، وإذا كانوا عارفين بالله على سبيل الاضطرار

__________________

(١) ينظر : حجة القراءات ص (٢٤٤) ، السبعة ص (٢٥٥) ، النشر ٢ / ٢٥٧ الدر المصون ٣ / ٣١ ، الكشاف ٢ / ١٢.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣١ ، الوسيط في تفسير القرآن المجيد ٢ / ٢٦٠ ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٤٤) ، السبعة ص (٢٥٥) ، النشر ٢ / ٢٥٧ ، التبيان ١ / ٨٧ ، الزجاج ٢ / ٢٥٩ ، الفراء ١ / ٣٣٠ ، الأخفش ٢ / ٤٨٣ ، الحجة لابن خالويه ص (١٣٧).

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٧٨.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٨.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٠٠ ، الدر المصون ٣ / ٣١.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٧٨.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٥١.

٧٥

وجب أن يكونوا ملجئين إلى ألّا يفعلوا القبيح ، وذلك يقتضي ألّا يقدم أحد من أهل القيامة على الكذب ، فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إنهم لما أقدموا على فعل القبيح ؛ لأنهم لمّا عاينوا أهوال يوم القيامة اضطربت عقولهم ، فقالوا هذا الكذب عند اختلال عقولهم ، أو يقال : إنهم نسوا كونهم مشركين في الدنيا؟

فالجواب عن الأوّل : أنه لا يجوز أن يحشرهم ويوبخهم بقوله : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)؟ ثم يحكي اعتذارهم مع أنهم غير عقلاء ، هذا لا يليق بحكمة الله تعالى.

وأيضا فلا بدّ وأن يكونوا عقلاء يوم القيامة ليعلموا أنهم فيما يعاملهم الله به غير مظلومين. والجواب على الثاني : أنّ نسيانهم لما كانوا عليه طول عمرهم في دار الدنيا مع كمال العقل [بعيد](١) ، وإنما يجوز أن ينسى اليسير من الأمور.

الوجه الثاني : أنّ هؤلاء الذين أقدموا على الكذب إمّا أن يقال : إنهم عقلاء أو غير عقلاء ، فالثاني باطل ؛ لأنه لا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكي كلام المجانين في معرض تمهيد العذر وإن كانوا عقلاء يعلمون أنّ الله عالم أحوالهم مطّلع على أفعالهم ، ويعلمون أنّ تجويز الكذب على الله ـ تعالى ـ محال ، وأنهم لا يستفيدون بذلك الكذب إلّا زيادة المقت والغضب ، وإذا كان كذلك امتنع إقدامهم في مثل هذه الحالة على الكذب (٢).

الوجه الثالث : أنهم لو كذبوا في موقف القيامة ، ثمّ حلفوا على ذلك الكذب لكانوا قد أقدموا على نوعين من القبيح ، فإن قلنا : إنهم يستحقّون بذلك العقاب ، صارت الدار الآخرة دار تكليف ، وأجمعوا على أنّ الأمر ليس كذلك.

وإن قلنا : إنّهم لا يستحقّون على ذلك الكذب ، ولا على ذلك الحلف الكاذب عقابا ، فهذا يقتضي حصول الإذن من الله ـ تعالى ـ في ارتكاب القبائح ، وذلك باطل فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز إقدام أهل القيامة على القبيح والكذب ، وإذا ثبت هذا فيحمل قولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) في اعتقادنا وظنوننا ؛ لأن القوم يعتقدون (٣) ذلك.

فإن قيل : فعلى هذا التقدير يكونون صادقين في قولهم ، فلماذا قال تبارك وتعالى : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا) فالجواب أنه ليس يجب من قوله : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا) أنهم كذبوا فيما تقدّم ذكره من قولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) ، بل يجوز أن يكون المراد (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) في دار الدّنيا في أمور يخبرون عنها بأنّ ما هم عليه ليس بشرك ، وأنهم على صواب ونحوه ، فالمقصود من قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) اختلاف الحالتين ، وأنهم كانوا في دار الدنيا يكذبون ، وأنهم في الآخرة يتحرّزون عن الكذب ،

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٥١.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

٧٦

ولكن حيث لا ينفعهم الصّدق ، فلتعلّق أحد الأمرين بالآخر ، أظهر الله ـ تعالى ـ للرسول ذلك(١).

القول الثاني ـ قول جمهور المفسرين ـ : أن الكفار يكذبون في القيامة واستدلّوا بوجوه :

أحدها : ما حكى الله ـ تعالى ـ عنهم أنهم يقولون : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) [المؤمنون : ١٠٧] مع أنه ـ تعالى ـ أخبر عنهم بقوله : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨].

وثانيها : قوله تبارك وتعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) [المجادلة : ١٨] بعد قوله تعالى : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) فشبّه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا.

وثالثها : ما حكاه ـ تعالى ـ عنهم : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) [الكهف : ١٩].

والجواب عما قاله الجبّائي بأن يحمل قولهم ما كانوا مشركين في ظنونهم ، هذا مخالف للظّاهر ، ثمّ قوله بعد ذلك : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا) بأنه محمول على كذبهم في الدنيا يوجب تفكيك نظم الآية ، وصرف أول الآية إلى أحوال القيامة ، وصرف آخرها إلى أحوال الدنيا ، وهو في غاية البعد(٢).

وقولهم : كذبوا في حال كمال العقل ، وحال نقصانه ، فنقول : لا يبعد أنهم حال ما عاينوا أهوال القيامة ، وشاهدوا موجبات الخوف الشديد اختلّت عقولهم ، فذكروا هذا الكلام.

قولهم : كيف يليق بحكمة الله ـ تعالى ـ أن يحكي عنهم ما ذكروه في حال اضطراب العقول؟

فالجواب : هذا يوجب الخوف الشديد وذلك في دار الدنيا وأمّا قولهم : إنّ المكلفين لا بدّ وأن يكونوا عقلاء يوم القيامة فنقول : اختلال عقولهم ساعة واحدة حال ما يتكلمون بهذا الكلام لا يمنع من كمال عقولهم في سائر الأوقات (٣).

قوله : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا) «كيف» منصوب على حدّ نصبها في قوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) [البقرة : ٢٨] وقد تقدّم.

و «كيف» وما بعدها في محل نصب ب «انظر» ؛ لأنها معلقة لها عن العمل. و «كذبوا»

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٥٣.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

٧٧

وإن كان معناه مستقبلا ؛ لأنه في يوم القيامة ، فهو لتحقّقه أبرزه في صورة الماضي.

وقوله : «وضلّ» يجوز أن يكون نسقا على «كذبوا» ، فيكون داخلا في حيّز النّظر ، ويجوز أن يكون استئناف إخبار ، فلا يندرج في حيّز المنظور إليه.

قوله «ما كانوا» يجوز في «ما» أن تكون مصدرية ، أي : وضلّ عنهم افتراؤهم ، وهو قول ابن عطية ويجوز أن تكون موصولة اسمية أي : وضل عنهم الذي كانوا يفترونه ، فعلى الأول يحتاج إلى ضمير عائد على «ما» عند الجمهور ، وعلى الثاني لا بدّ من ضمير عند الجميع.

ومعنى الآية : انظر كيف كذبوا على أنفسهم باعتذارهم بالباطل وتبرّيهم عن الشرك.

و (ضَلَّ عَنْهُمْ) : زال وذهب ما كانوا يفترون من الأصنام ، وذلك أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها ، فبطل ذلك كله.

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)(٢٥)

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ).

راعى لفظ «من» فأفرد ، ولو راعى المعنى لجمع ، كقوله في موضع آخر : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ) [يونس : ٤٢].

وقوله : (عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) إلى آخره ، حمل على معناها قوله : «وجعلنا» «جعل» هنا يحتمل أن يكون للتّصيير ، فيتعدّى لاثنين ، أوّلهما : «أكنّة» ، والثاني : الجار قبله ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : صيّرنا الأكنّة مستقرّة على قلوبهم ، ويحتمل أن يكون بمعنى «خلق» ، فيتعدى لواحد ، ويكون الجار قبله حالا فيتعلق بمحذوف ؛ لأنه لو تأخر لوقع صفة ل «أكنّة».

ويحتمل أن يكون بمعنى «ألقى» فتتعلّق «على» بها ، كقولك : «ألقيت على زيد كذا»، (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طه : ٣٩].

وهذه الجملة تحتمل وجهين :

أظهرهما : أنها مستأنفة سيقت للإخبار بما تضّمنته من الختم على قلوبهم وسمعهم.

ويحتمل أن تكون في محلّ نصب على الحال ، والتقدير : ومنهم من يستمع في حال كونه مجعولا على قلبه كنان ، وفي أذنه وقر ، فعلى الأول يكون قد عطف جملة فعلية (١) على اسمية (٢) ، وعلى الثاني : تكون الواو للحال ، و «قد» مضمرة بعدها عند من يقدّرها قبل الماضي الواقع حالا.

__________________

(١) في ب : اسمية.

(٢) في ب : فعلية.

٧٨

والأكنّة : جمع «كنان» ، وهو الوعاء الجامع.

قال الشاعر :

٢١٢٧ ـ إذا ما انتضوها في الوغى من أكنّة

حسبت بروق الغيث تأتي غيومها (١)

وقال بعضهم : «الكنّ» ـ بالكسر ـ ما يحفظ فيه الشّيء ، وبالفتح المصدر. يقال : كننته كنّا ، أي : جعلته في كنّ ، وجمع على «أكنان» قال تبارك وتعالى : (مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) [النحل : ٨١].

والكنان : الغطاء السّاتر ، والفعل من هذه المادة يستعمل ثلاثيا ورباعيّا ، يقال : كننت الشّيء ، وأكننته كنّا وإكنانا ، إلّا أن الراغب فرّق بين «فعل» و «أفعل» ، فقال : «وخصّ كننت بما يستر من بيت ، أو ثوب ، أو غير ذلك من الأجسام» ، قال تعالى : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) [الصافات : ٤٩] وأكننت بما يستر في النفس ، قال تعالى : (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) [البقرة : ٢٣٥].

ويشهد لما قال قوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) [الواقعة : ٧٧ ـ ٧٨] وقوله تعالى : (ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) [القصص : ٦٩]. و «كنان» يجمع على «أكنّة» في القلّة والكثرة لتضعيفه ، وذلك أن فعالا وفعالا بفتح الفاء وكسرها يجمع في القلّة على «أفعلة» ك «أحمرة» و «أقذلة» ، وفي الكثرة على فعل ك «حمر» ، و «قذل» ، إلّا أن يكون مضاعفا ك «بتات» (٢) و «كنان» ، أو معتل اللام ك «خباء» و «قباء» ، فيلتزم جمعه على «أفعلة» ، ولا يجوز على «فعل» إلّا في قليل من الكلام كقولهم : «عنن» ، و «حجج» في جمع «عنان» و «حجاج».

قال القرطبي (٣) : والأكنّة : الأغطية مثل : الأسنّة والسّنان ، والأعنّة والعنان ، كننت الشيء في كنّة إذا صنته فيه ، وأكننت الشّيء أخفيته ، والكنانة معروفة ، والكنّة ـ بفتح الكاف والنون ـ امرأة أبيك ، ويقال : امرأة الابن أو الأخ لأنها في كنة.

قوله : «أن يفقهوه» في محلّ نصب على المفعول من أجله ، وفيه تأويلان سبقا.

أحدهما : كراهة أن يفقهوه ، وهو رأي البصريين.

والثاني : حذف «لا» ، أي : أن لا يفقهوه ، وهو رأي الكوفيين.

قوله : «وقرأ» عطف على «أكنّة» فينتصب انتصابه ، أي : وجعلنا في آذانهم وقرأ و «في آذانهم» كقوله : (عَلى قُلُوبِهِمْ).

وقد تقدّم أنّ «جعل» يحتمل معاني ثلاثة ، فيكون هذا الجار مبنيّا عليها من كونه مفعولا ثانيا قدّم ، أو متعلّقا بها نفسها أو حالا.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٠١ ، المحرر الوجيز ٢ / ٢٧٩ ، الدر المصون ٣ / ٣٢.

(٢) في ب : ثياب.

(٣) ينظر : القرطبي : ٦ / ٢٦٠.

٧٩

والجمهور على فتح (١) الواو من «وقرا».

وقرأ طلحة (٢) بن مصرّف بكسرها ، والفرق بين «الوقر» و «الوقر» أنّ المفتوح هو الثّقل في الأذن ، يقال منه : وقرت أذنه بفتح القاف وكسرها ، والمضارع تقر وتوقر ، بحسب الفعلين ك «تعد» و «توجل»

وحكى أبو زيد : أذن موقورة ، وهو جار على القياس ، ويكون فيه دليل على أنّ «وقر» الثلاثي يكون متعدّيا ، وسمع «أذن موقورة» والفعل على هذا «أوقرت» رباعيا ك «أكرم».

و «الوقر» ـ بالكسر ـ الحمل للحمار والبغل ونحوهما ، كالوسق للبعير.

قال تعالى : (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) [الذاريات : ٢] فعلى هذا قراءة الجمهور واضحة ، أي : وجعلنا في آذانهم ثقلا ، أي : صمما (٣).

وأمّا قراءة طلحة ، فكأنه جعل آذانهم وقرت من الصمم كما توقر الدّابّة بالحمل ، والحاصل أنّ المادة تدلّ على الثّقل والرّزانة (٤) ، ومنه الوقار للتّؤدة والسّكينة ، وقوله تعالى : (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) فيه الفصل بين حرف العطف وما عطفه بالجار مع كون العاطف [على حرف واحد](٥) وهي مسألة خلاف تقدّم تحقيقها في قوله : (أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء : ٥٨].

والظاهر أن هذه الآية ونظائرها مثل قوله تعالى : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) [البقرة : ٢٠١] ليس مما فصل فيه بين العاطف ومعطوفه كما تقدّم.

فصل في بيان سبب نزول الآية

قال الكلبيّ عن ابن عبّاس (٦) ـ رضي الله عنهما ـ : اجتمع أبو سفيان بن حرب ، وأبو جهل بن هشام ، والوليد بن المغيرة ، والنضر بن الحارث ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأميّة وأبيّ ابنا خلف والحرث بن عامر يستمعون القرآن العظيم ، فقالوا للنضر : يا أبا قتيلة : ما يقول محمد؟ قال : ما أدري ما يقول إلّا أنه يحرّك لسانه وشفتيه ويتكلّم بأساطير الأوّلين مثل ما كنت أحدّثكم عن القرون الماضية ، وكان النّضر كثير الحديث عن القرون وأخبارها ، فقال أبو سفيان : إني لأرى بعض ما يقول حقا.

فقال أبو جهل : كلّا ، لا تقرّ بشيء من هذا ، وفي رواية : للموت أهون (٧) علينا من هذا ، فأنزل الله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) أي : إلى كلامك ، (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ

__________________

(١) الدر المصون ٣ / ٣٣.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ١٤ ، الدر المصون ٣ / ٣٣.

(٣) في ب : وقرا ، أي صمما وثقلا.

(٤) في ب : الثقل والرواية والرزانة.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٥٣.

(٧) في ب : للموت علينا أهون.

٨٠