اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٢

٢٣٨٧ ـ فثبّت الله ما آتاك من حسن

تثبيت عيسى ونصرا كالّذي نصروا (١)

وقد تقدّم تحقيق هذا.

وفتح نون «أحسن» قراءة العامّة (٢) ، وقرأ يحيى بن يعمر ، وابن أبي إسحاق برفعها ، وفيها وجهان :

أظهرهما : أنّه خبر مبتدأ محذوف ، أي : على الذي هو أحسن ، فحذف العائد ، وإن لم تطل الصّلة ، فهي شاذّة من جهة ذلك ، وقد تقدّم بدلائله عند قوله : (ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) [البقرة : ٢٦] ، فيمن رفع «بعوضة».

الثاني : أن يكون «الّذي» واقعا موقع الذين ، وأصل «أحسن» : أحسنوا بواو الضّمير ، حذفت الواو اجتزاء بحركة ما قبلها ، قاله التبريزيّ ؛ وأنشد في ذلك فقال : [الوافر]

٢٣٨٨ ـ فلو أنّ الأطبّا كان حولي

وكان مع الأطبّاء الأساة (٣)

وقال الآخر في ذلك هذا البيت : [الوافر]

٢٣٨٩ ـ إذا ما شاء ضرّوا من أرادوا

ولا يألوهم أحد ضرارا (٤)

وقول الآخر في ذلك : [الرجز]

٢٣٩٠ ـ شبّوا على المجد وشابوا واكتهل (٥)

يريد : اكتهلوا ، فحذف الواو ، وسكن الحرف قبلها ، وقد تقدّم أبيات أخر كهذه في غضون هذا الكتاب ، ولكن جماهير النّحاة تخصّ هذا بضرورة الشّعر.

وقوله : «وتفصيلا» وما عطف عليه ؛ منصوب على ما ذكر في «تماما» [والمعنى : بيانا لكلّ شيء يحتاج إليه من شرائع الدّين. و (هُدىً وَرَحْمَةً) هذا في صفة السّورة.

(لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ).

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «كي يؤمنوا بالبعث ، ويصدّقوا بالثّواب والعقاب»(٦)](٧).

__________________

(١) البيت لعبد الله بن رواحة ينظر : ديوانه ٩٤ ، شرح الكافية ١ / ٢٦٦ ، العمدة لابن رشيق ١ / ٢١٠ ، الدر المصون ٣ / ٢٢١.

(٢) ينظر : المحتسب ١ / ٢٣٤ إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٣٨ ، الدر المصون ٣ / ٢٢١.

(٣) ينظر : الهمع ١ / ٥٨ ، ابن يعيش ٧ / ٥ ، الإنصاف ١ / ٣٨٥ ، البحر ٤ / ٢٥٦ ، الخزانة ٥ / ٢٢٩ ، مجالس ثعلب ١ / ٨٨ ، الدر المصون ٣ / ٢٢١.

(٤) ينظر : الهمع ١ / ٥٨ ، الإنصاف ١ / ٣٨٦ ، معاني الفراء ١ / ٩١ ، المغني ٢ / ٥٥٢ ، الدرر ١ / ٣٤ ، الدر المصون ٣ / ٢٢١.

(٥) ينظر : البحر ٤ / ٢٥٦ ، الدر المصون ٣ / ٢٢١.

(٦) ذكره البغوي في تفسيره ٢ / ١٤٣.

(٧) سقط في ب.

٥٢١

قوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ)(١٥٧)

قوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) الآية.

يجوز أن يكون «كتاب» ، و «أنزلناه» ، و «مبارك» إخبارا عن اسم الإشارة ، عند من يجيز تعدّد الخبر مطلقا ، أو بالتّأويل عند من لم يجوّز ذلك ، ويجوز أن يكون «أنزلناه» ، و «مبارك» : وصفين ل «كتاب» عند من يجيز تقديم الوصف غير الصّريح على الوصف الصّريح ، وقد تقدم تحقيق ذلك في السّورة قبلها ، في قوله ـ سبحانه ـ : (بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤].

قال أبو البقاء (١) : «ولو كان قرىء : «مباركا» بالنّصب على الحال ، لجاز» ولا حاجة إلى مثل هذا ، وقدّم الوصف بالإنزال ؛ لأن الكلام مع منكري أنّ الله ينزّل على البشر كتابا ، ويرسل رسولا ، وأما وصف البركة ؛ فهو أمر متراخ عنهم ، وجيء بصفة الإنزال بجملة فعليّة أسند الفعل فيها إلى ضمير المعظّم نفسه مبالغة في ذلك ، بخلاف ما لو جيء بها اسما مفردا.

والمراد بالكتاب : القرآن ، ووصفه بالبركة ، أي : لا يتطرّق إليه النّسخ ، كما في الكتابين ، والمراد : كثير الخير والنّفع.

(فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

قيل : «اتّقوا مخالفته على رجاء الرّحمة».

وقيل : «اتّقوا لترحموا ، أي : ليكون الغرض بالتّقوى ، رحمة الله ـ تعالى ـ.

قوله : (أَنْ تَقُولُوا) فيه وجهان :

أحدهما : أنه مفعول من أجله.

قال أبو حيّان (٢) : «والعامل فيه «أنزلناه» مقدّرا ، مدلولا عليه بنفس «أنزلناه» الملفوظ به ، تقديره : أنزلناه أن تقولوا».

قال : «ولا جائز أن يعمل فيه «أنزلناه» الملفوظ به ؛ لئلا يلزم الفصل بين العامل ومعموله بأجنبيّ ، وذلك أنّ «مبارك» : إمّا صفة ، وإما خبر ، وهو أجنبيّ بكل من التقديرين». وهذا الذي منعه هو ظاهر قول الكسائي ، والفرّاء (٣).

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٦٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٥٧.

(٣) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٦٦.

٥٢٢

والثاني : أنّها مفعول به ، والعامل فيه : «واتّقوا» أي : واتّقوا قولكم كيت وكيت ، وقوله : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) معترض جار مجرى التّعليل ، وعلى كونه مفعولا من أجله ، يكون تقديره عند البصريّين على حذف مضاف ، تقديره : كراهة أن تقولوا ، وعند الكوفيّين يكون تقديره : «ألّا يقولوا».

قال الكسائيّ (١) ، والفرّاء : والتقدير : أنزلناه لئلا تقولوا ، ثم حذف الجارّ ، وحرف النّهي ، كقوله ـ تبارك وتعالى ـ : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦] ، وكقوله : (رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) [النحل : ١٥] ، أي ألّا تميد بكم ، وهذا مطّرد عندهم في هذا النّحو ، وقد تقدّم ذلك مرارا.

وقرأ الجمهور : «تقولوا» بتاء الخطاب ، وقرأ (٢) ابن محيصن : «يقولوا» بياء الغيبة ، ومعنى الآية الكريمة : كراهة أن يقول أهل مكّة : أنزل الكتاب ، وهو التّوراة ، والإنجيل على طائفتين من قبلنا ، وهم اليهود والنّصارى.

قوله : (وَإِنْ كُنَّا) [«إن»] مخفّفة من الثّقيلة عند البصريّين ، وهي هنا مهملة ؛ ولذلك وليتها الجملة الفعليّة ، وقد تقدّم تحقيق ذلك ، وأنّ الكوفيّين يجعلونها بمعنى : «ما» النّافية ، واللام بمعنى : «إلّا» ، والتقدير : ما كنّا عن دراستهم إلّا غافلين.

وقال الزّجّاج (٣) بمثل ذلك ، فنحا نحو الكوفيّين.

وقال قطرب : «إن» بمعنى «قد» واللّام زائدة.

وقال الزّمخشري (٤) بعد أن قرّر مذهب البصريين كما قدّمنا : «والأصل : إنه كنّا عن عبادتهم» فقدّر لها اسما محذوفا ، هو ضمير الشّأن ، كما يقدّر النّحويّون ذلك في «أن» بالفتح إذا خفّفت ، وهذا مخالف لنصوصهم ، وذلك أنّهم نصّوا على أنّ : «إن» بالكسر إذا خفّفت ، وليتها الجملة الفعلية النّاسخة ، فلا عمل لها ، لا في ظاهر ولا مضمر.

و (عَنْ دِراسَتِهِمْ) متعلّق بخبر «كنّا» وهو : «غافلين» ، وفيه دلالة على بطلان مذهب الكوفيين في زعمهم أن اللام بمعنى : «إلّا» ، ولا يجوز أن يعمل ما بعد «إلّا» فيما قبلها ؛ فكذلك ما هو بمعناها.

قال أبو حيّان (٥) : «ولهم أن يجعلوا «عنها» متعلّقا بمحذوف» وتقدّم أيضا خلاف أبي عليّ ، في أنّ هذه اللّام ليست لام الابتداء ، بل لام أخرى ، ويدلّ أيضا على أن اللّام لام ابتداء لزمت للفرق ، فجاز أن يتقدّم معمولها عليها ، لمّا وقعت في غير ما هو لها

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٤ / ٥.

(٢) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٣٩ ، الدر المصون ٣ / ٢٢٢.

(٣) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣٣٨.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٨١.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٥٧.

٥٢٣

أصل ، كما جاز ذلك في : «إنّ زيدا طعامك لآكل» حيث وقعت في غير ما هو لها [أصل](١) ولم يجز ذلك فيها إذا وقعت فيما هو لها أصل ، وهو دخولها على المبتدأ.

وقال أبو البقاء (٢) واللّام في «لغافلين» : عوض أو فارقة بين «إن» و «ما».

قال شهاب الدين (٣) : قوله : «عوض» عبارة غريبة ، وأكثر ما يقال : إنها عوض عن التّشديد الّذي ذهب من «إن» وليس بشيء.

فصل في معنى الآية

قال المفسّرون : «إن» هي المخفّفة من الثّقيلة ، واللّام هي الفارقة بينهما وبين النّافية ، والأصل : وإن كنّا عن دراستهم غافلين ، والمعنى : إثبات الحجّة عليهم بإنزال القرآن عليهم ، وقوله : (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) أي : لا نعلم ما هي ، لأن كتابهم ليس بلغتنا.

قوله : (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ).

أي : لئلّا تقولوا أو تحتجّوا بذلك ، ثمّ إنّه ـ تعالى ـ قطع احتجاجهم بهذا ، فقال : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) وهو القرآن العظيم بيّنة فيما يعلم سمعا ، وهو هدى فيما يعلم سمعا وعقلا ، فلما اختلفت الفائدة ، صحّ هذا العطف ، ومعنى «رحمة» أي : نعمة في الدّين.

قوله : (فَقَدْ جاءَكُمْ) : جواب شرط مقدّر فقدّره الزّمخشريّ : إن صدقتم فيما كنتم تعدّون من أنفسكم ، فقد جاءكم ، قال : «وهو من أحسن الحذوف» وقدّره غيره : إن كنتم كما تزعمون : أنّكم إذا أنزل عليكم كتاب ، تكونون أهدى من اليهود والنّصارى ، فقد جاءكم ، ولم يؤنّث الفعل ؛ لأن التّأنيث مجازيّ ، وللفصل بالمفعول ، و (مِنْ رَبِّكُمْ) يجوز أن يتعلّق ب «جاءكم» وأن يتعلّق بمحذوف على أنّه صفة ل «بيّنة».

وقوله : (هُدىً وَرَحْمَةٌ) : محذوف بعدهما : من ربّكم.

قوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ) الظّاهر أنّها جملة مستقلة.

وقال بعضهم : هي جواب شرط مقدّر ، تقديره : فإن كذّبتم ، فلا أحد أظلم منكم.

والجمهور (٤) على «كذّب» مشدّدا ، وبآيات الله متعلّق به ، وقرأ يحيى بن (٥) وثاب ، وابن أبي عبلة : «كذب» بالتخفيف ، و (بِآياتِ اللهِ) : يجوز أن يكون مفعولا ، وأن يكون

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٦٦.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٢٢.

(٤) ينظر : المحتسب ١ / ٢٣٥ الدر المصون ٣ / ٢٢٣.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٥٨ ، والدر المصون ٣ / ٢٢٣ والمحرر الوجيز ٢ / ٣٦٦.

٥٢٤

حالا ، أي : كذّب ومعه آيات الله ، و «صدف» مفعوله محذوف ، أي : «وصدف عنها غيره» وقد تقدّم تفسير ذلك [الأنعام : ١٥٧]. والمراد : تعظيم كفر من كذّب بآيات الله (وَصَدَفَ عَنْها) أي منع ؛ لأنّ الأوّل ضلال ، والثاني منع عن الحقّ وإضلال.

ثم قال ـ تعالى ـ : (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ) وهو كقوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) [النحل : ٨٨].

قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)(١٥٨)

لمّا بيّن أنّه إنّما أنزل الكتاب إزالة للعذر ، وإزاحة للعلّة ؛ بيّن أنّهم لا يؤمنون ألبتّة ، وشرح أحوالا توجب اليأس عن دخولهم في الإيمان ، فقال ـ سبحانه وتعالى ـ : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي : بالعذاب ، أو عند الموت لقبض أرواحهم ، ونظير هذه الآية في سورة البقرة : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البقرة : ٢١٠].

و «هل» استفهام ، معناه : النّفي ، ومعنى «ينظرون» : ينتظرون ، والتقدير : أنّهم لا يؤمنون بك ، إلّا إذا جاءهم أحد هذه الأمور الثلاثة.

قوله : (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) : تقدّم أنه على حذف مضاف.

وقرأ (١) الأخوان : «إلا أن يأتيهم الملائكة» بياء منقوطة من تحت ؛ لأن التأنيث مجازيّ ، وهو نظير : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) [آل عمران : ٣٩].

وقرأ أبو العالية ، وابن سيرين : «يوم تأتي بعض» بالتأنيث ؛ كقوله تعالى : تلتقطه [يوسف : ١٠].

فإن قيل : (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) هل يدلّ على جواز المجيء والغيبة على الله ـ تعالى ـ.

فالجواب من وجوه :

الأول : أن هذا حكاية عن الكفّار ، واعتقاد الكافر ليس بحجّة.

والثاني : أنّ هذا مجاز ، ونظيره قوله ـ تعالى ـ : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) [النحل : ٢٦].

والثالث : قيام الدّلائل القاطعة على أنّ المجيء والغيبة على الله محال ، وأقربها قول إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الردّ على عبدة الكواكب : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) [الأنعام : ٧٦].

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٧٤ ، النشر ٢ / ٢٦٦ إتحاف ٢ / ٣٩ الكشف ١ / ٤٥٨ الحجة لأبي زرعة ٢٧٧ ، الدر المصون ٣ / ٢٢٣.

٥٢٥

فإن قيل : قوله ـ تعالى ـ : (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) لا يمكن حمله على إثبات أثر من آثار قدرته ؛ لأن على هذا التّقدير يصير هذا عين قوله : (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) مكرّرا ؛ فوجب حمله على أنّ المراد منه : إتيان الرّبّ.

قلنا : الجواب المعتمد : أنّ هذا حكاية مذهب الكفّار ؛ فلا يكون حجّة.

وقيل : يأتي ربّك بلا كيف ؛ لفصل القضاء يوم القيامة ؛ لقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢].

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «يأتي أمر ربّك فيهم بالقتل أو غيره» (١) ، وقيل : أتي ربّك بالعذاب.

وقيل : هذا من المتشابه الّذي لا يعلم تأويله إلّا الله.

(أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) : وهو المعجزات القاهرة.

قوله : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ).

الجمهور على نصب «يوم» ، وناصبه [ما] بعد «لا» ، وهذا على أحد الأقوال الثلاثة في «لا» ، وهي أنّها يتقدّم معمول ما بعدها عليها مطلقا ، ولا يتقدّم مطلقا ، ويفصّل في الثالث : بين أن يكون جواب قسم ، فيمتنع ؛ أو لا ، فيجوز.

وقرأ (٢) زهير الفرقبيّ : «يوم» بالرّفع ، وهو مبتدأ ، وخبره الجملة بعده ، والعائد منها إليه محذوف ، أي : لا تنفع فيه.

وقرأ الجمهور «ينفع» بالياء من تحت ، وقرأ (٣) ابن سيرين : «تنفع» بالتّاء من فوق.

قال أبو حاتم : «ذكروا أنّه غلط».

قال شهاب الدّين (٤) : لأنّ الفعل مسند لمذكّر ، وجوابه : أنّه لما اكتسب بالإضافة التّأنيث ، أجري عليه حكمه ؛ كقوله : [الطويل]

٢٣٩١ ـ وتشرق بالقول الّذي قد أذعته

كما شرقت صدر القناة من الدّم (٥)

وقد تقدّم تحقيق هذا أوّل السّورة ؛ وأنشد سيبويه : [الطويل]

٢٣٩٢ ـ مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت

أعاليها مرّ الرّياح النّواسم (٦)

وقيل : لأن الإيمان بمعنى : العقيدة ؛ فهو كقولهم : «أتته كتابي فاحتقرها» أي : صحيفتي ، ورسالتي.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٧ / ٩٤) عن ابن عباس والضحاك.

(٢) ينظر : المحتسب ١ / ٢٣٦ الدر المصون ٣ / ٢٢٣.

(٣) ينظر : المحتسب ١ / ٢٣٦ منسوبة لأبي العالية.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٢٣.

(٥) تقدم.

(٦) تقدم.

٥٢٦

قال النّحّاس (١) : «في هذا شيء دقيق ذكره سيبويه (٢) : وذلك أن الإيمان ، والنّفس كلّ منهما مشتمل على الآخر ، فأنّث الإيمان ، إذ هو من النّفس وبها» وأنشد سيبويه : [الطويل]

٢٣٩٣ ـ مشين كما اهتزّت ...

 .......... (٣)

وقال الزّمخشريّ (٤) : «في هذه القراءة ، يكون الإيمان مضافا إلى ضمير المؤنّث الذي هو بعضه ؛ كقولهم : ذهبت بعض أصابعه».

قال أبو حيّان (٥) : «وهو غلط ؛ لأن الإيمان ليس بعضا من النّفس».

قال شهاب الدّين (٦) : وقد تقدّم آنفا ما يشهد لصحّة هذه العبارة من كلام النّحّاس ، في قوله عن سيبويه : «وذلك أن الإيمان والنّفس كلّ منهما مشتمل على الآخر ، فأنّث الإيمان ، إذ هو من النّفس وبها» فلا فرق بين هاتين العبارتين ، أي : لا فرق بين أن يقول : هو منها وبها ، أو هو بعضها ، والمراد في العبارتين : المجاز.

فصل

أجمعوا على أنّ المقصود بهذه الآية : علامة القيامة ، عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : «كنّا نتذكر السّاعة [إذ أشرف علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما تتذاكرون؟

قلنا : نتذاكر السّاعة](٧).

قال : إنها لا تقوم حتّى تروا قبلها عشر آيات : الدّخان ، ودابّة الأرض ، وخسفا بالمشرق ، وخسفا بالمغرب ، وخسفا بجزيرة العرب ، والدّجّال ، وطلوع الشّمس من مغربها ، ويأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى ـ عليه‌السلام ـ ، ونارا تخرج من عدن» (٨).

وروى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقوم السّاعة حتى تطلع الشّمس من مغربها ؛ فإذا طلعت ورآها النّاس ، آمنوا أجمعين ، وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا» (٩).

__________________

(١) ينظر : إعراب القرآن ١ / ٥٩٤.

(٢) ينظر : الكتاب ١ / ٢٥.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٨٢.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٦٠.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٢٤.

(٧) سقط في أ.

(٨) أخرجه مسلم ٤ / ٢٢٢٥ ـ ٢٢٢٦ كتاب الفتن : باب الآيات التي تكون قبل الساعة (٣٩ ـ ٢٩٥١) وأبو داود ٤ / ١١٤ ـ ١١٥ كتاب الملاحم : باب أمارات الساعة (٤٢١١) وابن ماجه في المصدر السابق (٤٠٥٥).

(٩) والحديث أخرجه البخاري ٨ / ٢٩٧ في التفسير : باب لا ينفع نفسا إيمانها (٤٦٣٦) ومسلم ١ / ١٣٧ في الإيمان : باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان (٢٤٨ / ١٥٧).

٥٢٧

وروى أبو موسى الأشعريّ ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يد الله بسطان لمسيء اللّيل ، ليتوب بالنّهار ، ولمسيء النّهار ، ليتوب باللّيل ، حتى تطلع الشّمس من مغربها» (١).

وعن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تاب قبل أن تطلع الشّمس من مغربها تاب الله عليه» (٢).

وعن زرّ بن حبيش ، قال : أتيت صفوان بن العسّال المراديّ ؛ فذكر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله جعل بالمغرب بابا مسيرة عرضه سبعون عاما ، لا يغلق حتّى تطلع الشّمس من قبله ، وذلك قول الله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً)(٣).

وروى أبو هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا : الدجّال ، والدّابّة ، وطلوع الشّمس من مغربها» (٤).

قوله : (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ).

في هذه الجملة ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّها في محلّ نصب ؛ [لأنها] نعت ل «نفسا» ، وفصل بالفاعل ، وهو «إيمانها» بين الصّفة وموصوفها ، لأنّه ليس بأجنبيّ ، إذ قد اشترك الموصوف الّذي هو

__________________

(١) أخرجه مسلم ٤ / ٢١١٣ كتاب التوبة : باب قبول التوبة من الذنوب (٣١ ـ ٢٧٥٩).

(٢) أخرجه مسلم ٤ / ٢٠٧٦ كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار : باب استحباب الاستغفار والإكثار منه (٤٣ ـ ٢٧٠٣).

(٣) أخرجه من رواية صفوان بن عسّال رضي الله عنه ، أبو داود الطيالسي في المسند ص ١٦٠ ـ ١٦١ ، الحديث (١١٦٨) ، وأخرجه أحمد في المسند ٤ / ٢٤١ وأخرجه الترمذي في السنن ٥ / ٥٤٦ ـ ٥٤٧ ، برواية مطولة كتاب الدعوات : باب فضل التوبة الحديث (٣٥٣٦) وقال : (حسن صحيح) واللفظ له ، وأخرجه النسائي ، عزاه له المزي في تحفة الأشراف ٤ / ١٩٢ ، الحديث (٤٩٥٣) وأخرجه ابن ماجه في السنن ٢ / ١٣٥٣ ، كتاب الفتن : باب طلوع الشمس من مغربها ، الحديث (٤٠٧٠) ، وأخرجه الطبري في «تفسيره» جامع البيان ٨ / ٧٢ في تفسير سورة الأنعام ، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير ٨ / ٧٠ الحديث (٧٣٦٠) ، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى ١ / ٢٨٢ ، كتاب الطهارة ، باب رخصة المسح لمن لبس الخفين عل الطهارة ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» ٣ / ٥٩ وزاد عزوه لسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وأبي الشيخ وابن مردويه.

(٤) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أخرجه البخاري في الصحيح ١ / ١٨٢ ، كتاب العلم باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس الحديث (٨٥) وفي ١٣ / ١٣ ، كتاب الفتن (٩٢) ، باب ظهور الفتن الحديث (٧٠٦١) ، ومسلم في الصحيح ٤ / ٢٠٥٧ كتاب العلم : باب رفع العلم وقبضه الحديث (١١ / ٥٧) واللفظ له.

٥٢٨

المفعول والفاعل في العامل ، فعلى هذا يجوز : «ضرب هندا غلامها القرشيّة» ، وقوله (أَوْ كَسَبَتْ) عطف على (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ).

وفي هذه الآية بحوث حسنة تتعلّق بعلم العربيّة وعليها تبنى مسائل من «أصول الدّين» ، وذلك أنّ المعتزليّ يقول : «مجرّد الإيمان الصّحيح لا يكفي ، بل لا بدّ من انضمام عمل يقترن به ويصدّقه» ، واستدلّ بظاهر هذه الآية ، وذلك كما قال الزّمخشريّ : (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) : صفة لقوله «نفسا» وقوله : (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) عطفت على «آمنت» والمعنى : أنّ أشراط السّاعة إذا جاءت وهي آيات ملجئة مضطرّة ، ذهب أوان التّكليف عندها ؛ فلم ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدّمة إيمانها قبل ظهور الآيات ، أو مقدّمة إيمانها غير كاسبة خيرا في إيمانها ؛ فلم يفرّق كما ترى بين النّفس الكافرة إذا آمنت في غير وقت الإيمان ، وبين النّفس التي آمنت في وقته ولم تكسب خيرا ، ليعلم أن قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) جمع بين قرينتين ، لا ينبغي أن تنفكّ إحداهما عن الأخرى حتى يفوز صاحبها ويسعد ، وإلّا فالشقوة والهلاك.

وقد أجاب بعض النّاس هذا الظّاهر : بأن المعنى بالآية الكريمة : أنّه إذا أتى بعض الآيات ، لا ينفع نفسا كافرة إيمانها الّذي أوقعته إذ ذلك ، ولا ينفع نفسا سبق إيمانها وما كسبت فيه خيرا ، فقد علّق نفي نفع الإيمان بأحد وصفين : إمّا نفي سبق الإيمان فقط ، وإمّا سبقه مع نفي كسب الخير ، ومفهومه : أنّه ينفع الإيمان السّابق وحده أو السّابق ومعه الخير ، ومفهوم الصّفة قويّ. فيستدل بالآية لمذهب أهل السّنّة ، فقد قلبوا دليلهم دليلا عليهم.

وقد أجاب القاضي ناصر الدّين بن المنير عن قول الزّمخشري ـ رحمه‌الله ـ فقال : «قال أحمد : هو يروم الاستدلال على أنّ الكافر والعاصي في الخلود سواء ، حيث سوّى في الآية بينهما ؛ في عدم الانتفاع بما يستدركانه بعد ظهور الآيات ولا يتم ذلك ، فإنّ هذا الكلام في البلاغة يلقّب ب «اللّفّ» وأصله : يوم يأتي بعض آيات ربّك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن مؤمنة قبل إيمانها بعد ، ولا نفسا لم تكسب خيرا قبل ما تكسبه من الخير بعد ، فلفّ الكلامين ؛ فجعلهما كلاما واحدا إيجازا وبلاغة ، ويظهر بذلك أنّها لا تخالف مذهب الحقّ فلا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير ، وإن نفع الإيمان المتقدّم من الخلود ، فهي بالرّد على مذهبه أولى من أن تدلّ له».

الثاني : أن هذه الجملة في محلّ نصب على الحال من الضّمير المجرور ، قاله أبو البقاء (١) ، يعني : من «ها» في إيمانها.

الثالث : أن تكون مستأنفة. وبهذا بدأ أبو البقاء ، وثنّى بالحال ، وجعل الوصف

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٦٦.

٥٢٩

ضعيفا ؛ كأنه استشعر ما ذكره الزّمخشري ، ففرّ من جعلها نعتا ، وأبو حيّان جعل (١) الحال بعيدا ، والاستئناف أبعد منه.

ثم قال ـ تعالى ـ : (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) وهذا وعيد وتهديد.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ)(١٥٩)

قرأ الأخوان (٢) : «فارقوا» : من المفارقة.

قال القرطبي (٣) ـ رحمة الله عليه ـ : «وهي قراءة عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ من المفارقة والفراق ، على معنى : أنّهم تركوا دينهم وخرجوا عنه ، وكان عليّ ـ كرم الله وجهه ـ يقول : والله ما فرّقوه ، ولكن فارقوه».

وقال شهاب الدّين (٤) : فيها وجهان :

أحدهما : أن «فاعل» بمعنى : فعّل ، نحو : ضاعفت الحساب ، وضعّفته.

وقيل : هي من المفارقة ، وهي التّرك ، والتّخلية ، ومن فرّق دينه ؛ فآمن ببعض وكفر ببعض ، فقد فارق الدّين القيم.

وقرأ الباقون : «فرّقوا» بالتّشديد ، وقرأ الأعمش ، وأبو صالح ، وإبراهيم : «فرقوا» مخفف الراء.

قال أبو البقاء : «وهو بمعنى المشدّد ، ويجوز أن يكون بمعنى : فصلوه عن الدّين الحقّ» وقد تقدّم معنى الشّيع ، أي : صاروا فرقا مختلفة.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : يريد : المشركين ، بعضهم يعبدون الملائكة ، ويزعمون أنّهم بنات الله ، وبعضهم يعبدون الأصنام ، ويقولون : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ)(٥)(اللهِ) و (كانُوا شِيَعاً) أي : فرقا وأحزابا في الضّلالة.

وقال مجاهد ، وقتادة : هم اليهود والنّصارى ؛ لأن النّصارى تفرّقوا فرقا ، ويكفّر بعضهم بعضا ، واليهود أخذوا ببعض الكتاب ، وتركوا بعضه (٦).

وقيل : هم أهل البدع والشّبهات من هذه الأمّة وروى عمر بن الخطّاب ـ رضي الله

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٦٠.

(٢) ينظر : النشر ٢ / ٢٦٦ السبعة ٢٧٤ الحجة لأبي زرعة ٢٧٨ ولابن خالويه ١٥٢ ومعاني الفراء ١ / ٣٦٦ والدر المصون ٣ / ٢٥ إعراب القراءات ١ / ١٧٣.

(٣) ينظر : القرطبي ٧ / ٩٧.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٢٥.

(٥) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٤ / ٧ ـ ٨).

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤١٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١١٨) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٥٣٠

عنه ـ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعائشة ـ رضي الله عنها ـ : «يا عائشة! إنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء من هذه الأمّة» (١).

وروى عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ بني إسرائيل تفرّقت على اثنين وسبعين ملّة ، وتفرّقت أمّتي على ثلاث وسبعين ملّة كلّها في النّار إلّا واحدة» ، قال : من هي يا رسول الله؟ قال : «ما أنا عليه وأصحابي» (٢).

قوله : (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ).

«لست» : في محلّ رفع خبرا ل «إنّ» ، و «منهم» : هو خبر «ليس» إذ به تتم الفائدة ؛ كقول النابغة : [الوافر]

٢٣٩٤ ـ إذا حاولت في أسد فجورا

فإنّي لست منك ولست منّي (٣)

ونظيره [في الإثبات](٤) : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) [إبراهيم : ٣٦].

وعلى هذا ، فيكون (فِي شَيْءٍ) متعلّقا بالاستقرار الذي تعلّق به منهم ، أي : لست مستقرّا منهم في شيء ، أي من تفريقهم. [ويجوز أن يكون (فِي شَيْءٍ) : الخبر ، و «منهم» : حال مقدّمة عليه ، وذلك على حذف مضاف ، أي : لست في شيء كائن من تفريقهم](٥) ، فلمّا قدّمت الصّفة نصبت حالا.

فصل في المراد بالآية

في المعنى قولان :

الأول : إذا أريد أهل الأهواء ، فالمعنى : أنت بريء منهم ، وهم منك براء ، أي : إنّك بعيد عن أهوائهم ومذاهبهم ، والعقاب اللّازم على تلك الأباطيل مقصور عليهم لا يتعدّاهم.

وإن أريد اليهود والنّصارى.

قال السّدّيّ : «معناه : يقولون يؤمر بقتالهم ؛ فلما أمر بقتالهم نسخ» وهذا بعيد ؛ لأن المعنى : لست من قتالهم في هذا الوقت في شيء ؛ فورود الأمر بالقتال في وقت آخر ، لا يوجب النّسخ. ثم قال : (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) ، يعني : في الجزاء ، والمكافأة ، والإمهال ، (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) والمراد : الوعيد.

قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(١٦٠)

إنما ذكّر العدد والمعدود مذكّر ؛ لأوجه :

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤١٤).

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

٥٣١

منها : أن الإضافة لها تأثير كما تقدّم غير مرّة ؛ فاكتسب المذكّر من المؤنّث التّأنيث ، فأعطي حكم المؤنّث من سقوط التّاء من عدده ؛ ولذلك يؤنّث فعله حالة إضافته لمؤنّث نحو : تلتقطه (بَعْضُ السَّيَّارَةِ) [يوسف : ١٠].

وقوله : [الطويل]

٢٣٩٥ ـ ..........

كما شرقت صدر القناة من الدّم (١)

وقوله : [الطويل]

٢٣٩٦ ـ ..........

تسفّهت أعاليها مرّ الرّبيع النّواسم (٢)

إلى غير ذلك مما تقدّم تحقيقه.

ومنها : أنّ هذا المذكر عبارة عن مؤنّث ، فروعي المراد دون اللّفظ ، وعليه قوله : [الطويل]

٢٣٩٧ ـ وإنّ كلابا هذه عشر أبطن

وأنت بريء من قبائلها العشر (٣)

لم يلحق التّاء في عدد أبطن ، وهي مذكّرة ؛ لأنّها عبارة عن مؤنّث ، وهي القبائل ؛ فكأنّه قيل : وإن كلابا هذه عشر قبائل ؛ ومثله قول عمر بن أبي ربيعة : [الطويل]

٢٣٩٨ ـ وكان مجنّي دون من كنت أتّقي

ثلاث شخوص كاعبان ومعصر (٤)

لم تلحق التاء في عدد «شخوص» وهي مذكّرة ؛ لمّا كانت عبارة عن النّسوة ، وهذا أحسن ممّا قبله ؛ للتّصريح بالمؤنّث في قوله : «كاعبان» و «معصر» ، وهذا كما أنّه إذا أريد بلفظ مؤنّث معنى مذكّر ؛ فإنّهم ينظرون إلى المراد دون اللفظ ، فيلحقون التّاء في عدد المؤنّث ، ومنه قول الشاعر : [الوافر]

٢٣٩٩ ـ ثلاثة أنفس وثلاث ذود

لقد جار الزّمان على عيالي (٥)

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) البيت للنّواح الكلابي ينظر : الدرر ٦ / ١٩٦ ، المقاصد النحوية ٤ / ٤٨٤ ، الأشباه والنظائر ٢ / ١٠٥ ، ٥ / ٤٩ ، وأمالي الزجاجي ص ١١٨ ، وشرح عمدة الحافظ ٥٢٠ ، الكتاب ٣ / ٥٦٥ ، همع الهوامع ٢ / ١٤٩ ، ٢ / ٤١٧ ، شرح الأشموني ٣ / ٦٢٠ ، خزانة الأدب ٧ / ٣٩٥ الإنصاف ٢ / ٧٦٩ ، الدر المصون ٣ / ٢٢٦.

(٤) ينظر : الكتاب ٢ / ٥٦٦ ، شرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٦٦ ، شرح التصريح ٢ / ٢٧١ ، شرح شواهد الإيضاح ص ٣١٣ ، المقاصد النحوية ٤ / ٤٨٣ ، الخصائص ٢ / ٤١٧ أمالي الزجاجي ١١٨ ، الإنصاف ٢ / ٧٧٠ ، الأغاني ١ / ٩٠ ، الأشباه والنظائر ٥ / ٤٨ ، ١٢٩ ، خزانة الأدب ٥ / ٣٢٠ ، ٣٢١ ، ٧ / ٣٩٤ ، ٣٩٦ ، ٣٩٨ ، وأوضح المسالك ٤ / ٢٥١ ، شرح الأشموني ٣ / ٦٢٠ ، شرح عمدة الحافظ ص ٥١٩ ، المقرب ١ / ٣٠٧ ، المقتضب ٢ / ١٤٨ ، عيون الأخبار ٢ / ١٧٤ ، الدر المصون ٣ / ٢٢٦.

(٥) البيت للحطيئة. ينظر : ديوانه (١١٩) ، الكتاب ٣ / ٥٦٥ ، الخصائص ٢ / ٤١٢ ، الإنصاف ٢ / ٧٧١ ، التصريح ٢ / ٢٧ ، الخزانة ٧ / ٣٦٧ ، الدر المصون ٣ / ٢٢٦.

٥٣٢

فألحق التّاء في عدد «أنفس» وهي مؤنّثة ؛ لأنّها يراد بها ذكور ، ومثله : (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً) [الأعراف : ١٦٠] في أحد الوجهين ، وسيأتي إن شاء الله في موضعه.

ومنها : أنّه راعى الموصوف المحذوف ، والتقدير : فله عشر حسنات أمثالها ، ثم حذف الموصوف ، وأقام صفته مقامه تاركا العدد على حاله ، ومثله : «مررت بثلاثة نسّابات» ألحقت التّاء في عدد المؤنّث مراعاة للموصوف المحذوف ، إذ الأصل : بثلاثة رجال نسّابات ، ويؤيّد هذا : قراءة يعقوب (١) ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، والأعمش ، وعيسى بن عمر : «عشر» بالتّنوين «أمثالها» بالرّفع صفة ل «عشر» أي : فله عشر حسنات أمثال تلك الحسنة ، وهذه القراءة سالمة من تلك التّأويل المذكورة في القراءة المشهورة.

وقال أبو عليّ : اجتمع هاهنا أمران ، كلّ منهما يوجب التّأنيث ، فلما اجتمعا ، قوي التّأنيث: أحدهما : أن الأمثال في المعنى : «حسنات» فجاز التأنيث كقوله : [الطويل]

٢٤٠٠ ـ ..........

ثلاث شخوص كاعبان ومعصر (٢)

أراد بالشّخوص : النّساء.

والآخر : أنّ المضاف إلى المؤنّث قد يؤنّث وإن كان مذكّرا ؛ كقول من قال : «قطعت بعض أصابعه» ، تلتقطه (بَعْضُ السَّيَّارَةِ) [يوسف : ١٠].

فصل في هل المراد في العدد التحديد

قال بعضهم : التقدير بالعشرة ليس المراد منه : التّحديد ، بل المراد منه : الإضعاف مطلقا ؛ كقول القائل : «إذا أسديت إليّ معروفا لأكافئنّك بعشر أمثاله» وفي الوعيد : «لئن كلّمتني [كلمة](٣) واحدة ، لأكلّمنّك عشرا» ولا يريد التّحديد ، فكذلك هنا ، ويدلّ على أنّه ليس المراد التّحديد ، قوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦١].

وقال ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ : «الآية في غير الصّدقات».

قوله : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها).

أي : إلّا جزاء يساويها.

روى أبو ذرّ ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم قال : قال الله ـ تبارك وتعالى ـ : «الحسنة عشرة أو أزيد ، والسيئة واحدة ، أو عفو ، فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره» (٤).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٢٧ ، النشر ٢ / ٢٢٦.

(٢) تقدم.

(٣) سقط في ب.

(٤) تقدم.

٥٣٣

وقال ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ وأتم حكاية عن الله ـ تبارك وتعالى سبحانه ـ : «إذا همّ عبدي بحسنة ، فاكتبوها وإن لم يعملها ، فإن عملها ، فعشر أمثالها ، وإن همّ بسيّئة ، فلا تكتبوها ، فإن عملها ، فسيّئة واحدة» (١).

وروى أبو هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أحسن أحدكم إسلامه ، فكلّ حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ، وكلّ سيّئة يعملها ، تكتب بمثلها ، حتّى يلقى الله ـ عزوجل ـ» (٢).

ثم قال ـ تبارك وتعالى ـ : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

أي : لا ينتقص من ثواب طاعتهم ، ولا يزاد على عقاب سيّئاتهم ، وهاهنا سؤالان (٣) :

السؤال الأول : كفر ساعة كيف يوجب عقاب الأبد على نهاية التّغليظ فما وجه المماثلة؟.

فالجواب : أن الكافر كان على عزم أنّه لو عاش أبدا لبقي على ذلك الاعتقاد فلما كان ذلك العزم مؤبّدا عوقب بعقاب الأبد ؛ بخلاف المسلم المذنب ؛ فإنّه يكون على عزم الإقلاع من ذلك الذّنب ، فلا جرم كانت عقوبته منقطعة.

السؤال الثّاني : اعتاق الرّقبة الواحدة تارة جعلها بدلا عن صيام ستّين يوما في كفّارة الظّهار ، والجماع في نهار رضمان ، وتارة جعلها بدلا من صيام ثلاثة أيّام ، فدلّ على أنّ المساواة غير معتبرة؟

وجوابه : أنّ المساواة إنّما تحصل بوضع الشّرع وحكمه.

السؤال الثالث : إذا أوضح الإنسان موضّحتين (٤) ، وجب فيهما أرشان فإن رفع

__________________

(١) أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب والترمذي (٥ / ٢٤٧) كتاب التفسير باب سورة الأنعام حديث (٣٠٧٣) من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة وقال الترمذي : حديث حسن صحيح

(٢) أخرجه أحمد (٢ / ٣١٧) من حديث أبي هريرة.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ١٤ / ٩.

(٤) الموضحة لغة : هي الشجة التي توضح العظم ، أي : تظهره.

انظر : الصحاح ١ / ٤١٦.

اصطلاحا :

عرفها الحنفية بأنها : هي التي توضح العظم ، أي : تبينه.

عرفها الشافعية بأنها : التي توضح العظم ، وإن لم يشاهد من أجل الدم الذي يستره.

عرفها المالكية بأنها : ما أوضحت عظم الرأس ، والجبهة ، والخدين.

وعند الحنابلة : تطلق على الجراحة المخصوصة في الوجه والرأس. انظر : تبيين الحقائق ٦ / ١٣٢ ، مغني المحتاج ٤ / ٢٦ ، مواهب الجليل ٦ / ٢٤٦ ، المبدع ٩ / ٥.

٥٣٤

الحاجز بينهما ، صار الواجب أرش موضحة واحدة ؛ فههنا ازدادت الجناية وقلّ العقاب ، فالمساواة غير معتبرة.

وجوابه أنّ ذلك من قصد الشّرع وتحكّماته.

السؤال الرابع : أنه يجب في مقابلة تفويت أكثر كلّ واحد من الأعضاء دية كاملة ثم إذا قتله وفوّت كل الأعضاء وجب دية واحدة ، وذلك يمنع القول من رعاية المماثلة.

وجوابه : أن ذلك من باب تحكّمات الشّريعة.

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(١٦١)

لما علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظم دلائل التّوحيد ، والردّ على القائلين بالشّركاء والأضداد ، وبالغ في تقرير إثبات القضاء والقدر ، ورد على أهل الجاهليّة في أباطيلهم أمره ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يختم الكلام بقوله : «قل إنّني هداني ربّي إلى صراط مستقيم» ، وذلك يدلّ على أنّ الهداية لا تحصل إلّا بالله ـ تبارك وتعالى سبحانه ـ.

وقال القرطبيّ (١) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : «لمّا بيّن أنّ الكفّار تفرّقوا ، بيّن أنّه ـ تعالى ـ هداه إلى الصّراط المستقيم ، وهو ملّة إبراهيم ـ عليه الصلاة وأتم التسليم ـ».

قوله : «دينا» : نصبه من أوجه :

أحدها : من نصب على الحال ، قال قطرب وقيل : إنّه مصدر على المعنى ، أي : هداني هداية دين قيّم ، أو على إضمار : «عرّفني دينا» أو الزموا دينا.

وقال أبو البقاء (٢) ـ رحمة الله عليه ـ : إنّه مفعول ثان ل «هداني» وهو غلط ؛ لأنّ المفعول الثّاني هنا هو المجرور ب «إلى» فاكتفي به.

وقال مكّي (٣) ـ رحمة الله تعالى عليه ـ : «إنّه منصوب على البدل من محلّ إلى صراط مستقيم».

وقيل : ب «هداني» مقدّرة لدلالة «هداني» الأوّل عليها وهو كالذي قبله في المعنى.

قوله : «قيما» قرأ الكوفيّون (٤) ، وابن عامر : بكسر القاف وفتح الياء خفيفة ، والباقون بفتحها ، وكسر الياء مشدّدة ، ومعناه : القويم المستقيم ، وتقدّم توجيه إحدى القراءتين في النّساء والمائدة.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ٧ / ٩٨.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٦٧.

(٣) ينظر : المشكل ١ / ٣٠١.

(٤) ينظر : السبعة ٢٧٤ الحجة لابن خالويه ١٥٢ ولأبي زرعة ٢٧٨ النشر ٢ / ٢٦٦.

٥٣٥

قال الزّمخشري (١) ـ رحمة الله عليه ـ : القيم : «فيعل» من «قام» كسيّد من ساد ، وهو أبلغ من القائم.

وأمّا قراءة أهل الكوفة فقال الزّجّاج (٢) ـ رحمة الله عليه ـ : هو مصدر بمعنى : القيام ، كالصّغر والكبر والجوع والشبع ، والتّأويل : دينا ذا قيم ، ووصف الدّين بهذا المصدر مبالغة.

قوله تعالى : «ملّة» بدلا من «دينا» أو منصوب بإضمار أعني ، و «حنيفا» قد ذكر في البقرة (٣) والنساء (٤).

والمعنى : هداني وعرّفني ملّة إبراهيم حال كونها موصوفة بالحنيفيّة. ثم وصف إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقوله : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) والمقصود منه : الردّ على المشركين.

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)(١٦٣)

لمّا عرّفه الدّين المستقيم ، عرّفه كيف يقوم به ويؤدّيه ، وهذه الآية الكريمة تدلّ على أنّه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ مؤدّي العبادة مع الإخلاص ، وأكده بقوله ـ تبارك وتعالى ـ : (لا شَرِيكَ لَهُ) وهذا من أقوى الدّلائل على أنّ شرط صحة الصّلاة : أن يؤتى بها مقرونة بالإخلاص.

واختلفوا في المراد بالنّسك :

فقيل : المراد به : الذّبيحة بعينها ، وجمع بين الصّلاة وبين النّحر ؛ كما في قوله ـ تبارك وتعالى ـ : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر : ٢] ، فقيل : المراد بالصلاة هاهنا صلاة النّحر ، وقيل : صلاة اللّيل (٥).

وروى ثعلب عن ابن الأعرابيّ (٦) أنه قال : النّسك : سبائك الفضّة ، كل نسيكة منها سبيكة ، وقيل للمتعبّد : ناسك ، لأنه خلّص نفسه من دنائس الآثام وصفّاها ، كالسّبيكة المخلّصة من الخبث ، وعلى هذا التّأويل فالنّسك : كل ما يتقرّب به إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ ، إلّا أن الغالب عليه في العرف : الذّبح.

قوله : (وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ).

قرأ نافع (٧) : «ومحياي» بسكون ياء المتكلّم ، وفيها الجمع بين ساكنين.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٨٣.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٤ / ١٠.

(٣) الآية : ١٣٥.

(٤) الآية : ١٢٥.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ١٤ / ١٠.

(٦) ينظر : المصدر السابق.

(٧) ينظر : السبعة ٢٧٤ النشر ٢ / ٢٦٧ الحجة لأبي زرعة ٢٧٩ الكشف ١ / ٤٥٩ الدر المصون ٣ / ٢٢٧.

الوسيط ٢ / ٣٤٤.

٥٣٦

قال الفارسي : كقوله : «التقت حلقتا البطان» و «لفلان ثلثا المال» بثبوت الألفين.

وقد طعن بعض النّاس على هذه القراءة بما ذكرت من الجمع بين السّاكنين ، وتعجّبت من كون هذا القارىء يحرك ياء «مماتي» ويسكّن ياء «محياي» وقد نقل بعضهم عن نافع الرّجوع عن ذلك.

قال أبو شامة ـ رحمة الله عليه ـ : «فينبغي ألّا يحلّ نقل تسكين ياء «محياي» عنه».

وقرأ (١) نافع في رواية : «محياي» بكسر الياء ، وهي تشبه قراءة حمزة في (بِمُصْرِخِيَ) [إبراهيم : ٢٢] ، وستأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ.

وقرأ ابن أبي إسحاق (٢) ، وعيسى الجحدريّ : «ومحييّ» بإبدال «الألف» «ياء» ، وإدغامها في ياء المتكلّم ، وهي لغة هذيل ، أنشد عليها قول أبي ذؤيب : [الكامل]

٢٤٠١ ـ سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم

فتخرّموا ولكلّ جنب مصرع (٣)

اعلم : أن المحيا والممات لله ليس بمعنى أنّهما يؤتى بهما لطاعة الله ـ عزوجل ـ ، فإن ذلك محال ، بل معنى كونهما لله أنّهما حاصلان بخلق الله ، وذلك من أدلّ الدّلائل على أنّ طاعة العبد مخلوقة منه ـ تعالى (٤) ـ.

وقال بعض المفسّرين (٥) : «محياي : بالعمل الصالح ، ومماتي : إذا متّ على الإيمان من رب العالمين».

واعلم : أنّه ـ تبارك وتعالى ـ أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يبيّن أنّ صلاته ، وسائر عباداته ، وحياته ، ومماته كلّها واقعة بخلق الله ـ تبارك وتعالى ـ وبقدره ، وقضائه ، وحكمه.

وقال القرطبيّ (٦) ـ رحمة الله عليه ـ : قوله : «ومحياي» أي : ما أعمله في حياتي ، و «مماتي» أي : ما أوصي به بعد وفاتي (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي : أفرده بالتّقرّب بها إليه ، ثمّ نصّ على أنّه لا شريك له في الخلق ، والتقدير ، ثم قال : (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ) وبهذا التّوحيد أمرت ، ثم يقول : «وأنا أول المسلمين» أي : المستسلمين لقضاء الله وقدره ، ومعلوم أنّه ليس أوّلا لكلّ مسلم ؛ فوجب أن يكون المراد : كونه أوّلا لمسلمي زمانه.

فصل في استفتاح الصلاة بهذا الدعاء

قال القرطبي (٧) ـ رحمه‌الله ـ : ذكر الطبري ، عن الشّافعي ـ رحمه‌الله ـ أن في قوله

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٦٢ ، الدر المصون ٣ / ٢٢٧ ، المحرر الوجيز ٢ / ٣٦٩.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٦٢ ، الدر المصون ٣ / ٢٢٧ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٣٦٩.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ١٤ / ١١.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ينظر : القرطبي ٧ / ٩٩.

(٧) ينظر : القرطبي ٧ / ٩٩.

٥٣٧

ـ تعالى ـ : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إلى قوله (رَبِّ الْعالَمِينَ) ما يدلّ على افتتاح الصّلاة بهذا الذّكر ؛ فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم به ، وأنزله في كتابه ، ثم ذكر حديث عليّ ـ رضي الله عنه ـ كان إذا افتتح الصلاة قال : وجّهت وجهي للّذي فطر السّموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أوّل المسلمين (١).

قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)(١٦٤)

لما أمره ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ بالتّوحيد المحض ، أمره أن يذكر ما يجري مجرى الدّليل على صحّة هذا التّوحيد ، وتقريره من وجهين :

الأول : أنّ أصناف المشركين أربعة ؛ لأنّ عبدة الأصنام أشركوا بالله ، وعبدة الكواكب أشركوا بالله ، والقائلون بيزدان وأهرمن أشركوا ، والقائلون بأنّ المسيح ابن الله والملائكة بنات الله أشركوا ، فهؤلاء هم فرق المشركين ، وكلّهم يعترفون بأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الخالق للكلّ ؛ لأن عبدة الأصنام معترفون بأن الله ـ تعالى ـ خالق السّموات والأرض وكلّ ما في العالم من الموجودات وهو الخالق للأصنام والأكوان بأسرها.

وأما القائلون بيزدان وأهرمن فهم أيضا معترفون بأنّ الشّيطان محدث ، وأنّ محدثه هو الله ـ تبارك وتعالى ـ.

وأمّا القائلون بالمسيح والملائكة ، فهم أيضا معترفون بأنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق الكلّ ؛ فثبت أنّ طوائف المشركين أطبقوا على أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ خلق هؤلاء الشّركاء.

وإذا عرف هذا ، فالله ـ سبحانه وتعالى ـ قال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قل يا محمّد أغير الله أبغي ربّا ، مع أنّ هؤلاء الذين اتّخذوا ربّا غير الله ، أقرّوا بأن الله تبارك وتعالى خالق تلك (٢) الأشياء.

وهل يدخل في العقل جعل المربوب شريكا للرّبّ ، وجعل العبد شريكا للمولى (٣) ، وجعل المخلوق شريكا للخالق؟ ولمّا كان الأمر كذلك ، ثبت أنّ إتّخاذهم ربّا غير الله [قول] فاسد ، ودين(٤) باطل.

__________________

(١) أخرجه مسلم (١ / ٥٣٤ ـ ٥٣٦) كتاب صلاة المسافرين : باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه حديث (٢٠١ / ٧٧١).

(٢) ينظر : الرازي ١٤ / ١١.

(٣) في أ : للمربي.

(٤) ينظر : الرازي ١٤ / ١١.

٥٣٨

الثاني : أن الموجود إمّا واجب لذاته وإمّا ممكن لذاته ، وثبت أن واجب الوجود واحد ، وثبت أنّ ما سواه ممكن لذاته ، وثبت أن الممكن لذاته لا يوجد إلّا بإيجاد الواجب لذاته ، وإن كان الأمر كذلك ، كان الله ـ تعالى ـ ربّا لكلّ شيء.

وإذا ثبت هذا ، فنقول : صريح العقل يشهد بأنّه لا يجوز جعل المربوب شريكا للرّبّ ، وجعل المخلوق شريكا للخالق ، وهذا هو المراد من قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ).

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ معنى ربّا : أي سيّدا وهو رب كلّ شيء ، وذلك أنّ الكفّار كانوا يقولون للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارجع إلى ديننا (١).

قال ابن عبّاس ، قال (٢) الوليد بن المغيرة : اتبعوا سبيلي ، أحمل عنكم (٣) أوزاركم ، فقال الله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) ومعناه : أنّ إثم الجاني عليه ، لا على غيره «ولا تزر وازرة وزر أخرى» أي : لا يؤاخذ أحد بذنب غيره.

قال القرطبيّ (٤) ـ رحمه‌الله ـ : وأصل الوزر : الثّقل ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ) [الشرح : ٢ ، ٣] وهو هنا : الذنب ؛ كما قال ـ تعالى ـ : (يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) [الأنعام : ٣١] وقد تقدّم قول الأخفش : يقال : وزر يوزر ، ووزر يزر ، ووزر يوزر وزرا.

قيل : نزلت ردا على العرب في الجاهليّة من مؤاخذة الرّجل بأبيه ، وابنه ، وبجريرة حليفه (٥).

قال القرطبي (٦) : يحتمل أن يكون المراد بهذه الآية في الآخرة ، وكذلك الّتي قبلها ، فأمّا في الدنيا : فقد يؤاخذ بعضهم بجرم بعض ، ولا سيّما إذا لم ينه الطّائع العاصي ، كما تقدّم في حديث أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) [المائدة : ١٠٥] وقال ـ تعالى ـ : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد : ١١].

وقالت زينب بنت جحش : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصّالحون؟ قال : نعم ، إذا كثر الخبث.

قال العلماء : معناه : أولاد الزّنا ، والخبيث بفتح الباء : اسم للزّنا ، وأوجب الله ـ تعالى ـ على لسان رسوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ دية الخطأ على العاقلة ، حتى لا يطل دم المسلم وذلك بالإجماع ؛ فدلّ ذلك على ما قلناه. ثم بيّن ـ تعالى ـ أنّ رجوع هؤلاء

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٧ / ١٠١).

(٢) ينظر : القرطبي ٧ / ١٠٢.

(٣) انظر المصدر السابق.

(٤) ينظر : القرطبي ٧ / ١٠٢.

(٥) ينظر : القرطبي ٧ / ١٠٢.

(٦) ينظر : القرطبي ٧ / ١٠٢.

٥٣٩

المشركين إلى موضع لا حاكم ولا آمر إلا الله ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٦٥)

فيه وجوه :

أحدها : أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النّبيّين ، فخلفت أمّته سائر الأمم ، والخلائف : جمع خليفة ؛ كالوصائف جمع وصيفة ، وكلّ من جاء تبعا له ، فهو خليفة ؛ لأنه يخلفه ، أي : أهلك القرون الماضية ، وجعلكم يا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلفاء منهم ، تخلفونهم في الأرض وتعمرونها بعدهم.

وثانيها : جعلهم يخلف بعضهم بعضا (١).

وثالثها : أنّهم خلفاء الله في أرضه ، يملكونها ويتصرّفون فيها (٢).

قوله : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) : في الشّرف ، والعقل والمال ، والجاه ، والرّزق ، (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) ليختبركم فيما رزقكم ، يعني : يبتلي الغنيّ ، والفقير ، والشّريف ، والوضيع ، والحر ، والعبد ، ليظهر منكم ما يكون عليه الثّواب والعقاب ، ثمّ قال ـ تعالى ـ : (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) لأنّ ما هو آت فهو سريع قريب.

وقيل : هو الهلاك في الدنيا (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

قال عطاء : سريع العقاب لأعدائه ، غفور رحيم لأوليائه رحيم بهم (٣) ، وأكد قوله : «لغفور» [باللام](٤) دلالة على سعة رحمته ، ولم يؤكد سرعة العقاب بذلك هنا ، وإن كان قد أكّد ذلك في سورة الأعراف ؛ لأنّ هناك المقام مقام تخويف وتهديد ، وبعد ذكر قصّة المعتدين في السّبت وغيره ، فناسب تأكيد العقاب هناك ، وأتى بصيغتي الغفران والرّحمة ، لا بصيغة واحدة ؛ دلالة على حلمه ، وسعة مغفرته ، ورحمته.

روى جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من قرأ ثلاث آيات في أوّل سورة الأنعام إلى قوله : (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) وكل الله به أربعين ألف ملك ، يكتبون له مثل أعمالهم إلى يوم القيامة ، وينزل ملك من السّماء السّابعة ، ومعه مرزبة من حديد ، فإن أراد الشّيطان أن يوسوس أو يوحي إلى قلبه ، ضربه بها ضربا ، فكان بينه وبينه سبعون حجابا ، فإذا كان يوم القيامة يقول الرّبّ ـ سبحانه وتعالى ـ امش في ظلّي ، وكل من ثمار جنّتي ، واشرب من ماء الكوثر ، واغتسل من ماء السّلسبيل ، وأنت عبدي وأنا ربّك (٥).

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٤ / ١٢.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) تقدم.

(٤) سقط في ب.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥) وقال : وأخرجه السلفي بسند واه عن ابن عباس مرفوعا.

٥٤٠