اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٢

المشهوران ، ولم يذكر الزّمخشريّ غير هذا الوجه (١).

الثاني : أنّها في محل نصب على الحال ، والتّقدير : وأيّ شيء لكم تاركين للأكل ، ويؤيّد ذلك وقوع الحال الصّريحة في مثل هذا التّركيب كثيرا ، نحو : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر : ٤٩] ، إلّا أن هذا مردود بوجهين :

أحدهما : أنّ «أن» تخلّص الفعل للاستقبال ، فكيف يقع ما بعدها حالا؟

والثاني : أنّها مع ما بعدها مؤوّلة بالمصدر ، وهو أشبه بالمضمرات كما تقدّم تحريره ، والحال إنّما تكون نكرة.

قال أبو البقاء (٢) : إلّا أن يقدّر حذف مضاف ، فيجوز ، أي : «وما لكم ذوي ألا تأكلوا» وفيه تكلّف ، فمفعول «تأكلوا» محذوف بقيت صفته ، تقديره : «شيئا مما ذكر اسم الله» ويجوز ألّا يراد مفعول ، بل المراد : وما لكم ألا يقع منكم الأكل ، وتكون «من» لابتداء الغاية ، أي : أن لا تبتدئوا بالأكل من المذكور عليه اسم الله ، وزعم : أنّ «لا» مزيدة ، وهذا فاسد ؛ إذ لا داعي لزيادتها.

قوله : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ) قرأ (٣) ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر : ببنائهما للمفعول ، ونافع ، وحفص عن عاصم : ببنائهما للفاعل ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم (٤) : ببناء الأوّل للفاعل ، وبناء الثّاني للمفعول ، ولم يأت عكس هذه ، وقرأ عطيّة العوفيّ كقراءة الأخوين ، إلّا أنّه خفف الصّاد من «فصّل» والقائم مقام الفاعل : هو الموصول ، وعائده من قوله: (حَرَّمَ عَلَيْكُمْ). والفاعل في قراءة من بنى للفاعل ضمير الله ـ تعالى ـ ، والجملة في محلّ نصب على الحال.

فصل في المراد من الآية

قوله : (فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) قال أكثر المفسّرين : هو المراد من قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) في أوّل المائدة [الآية : ٣] ، وفيه إشكال ، وهو أنّ سورة الأنعام مكيّة ، وسورة المائدة من آخر ما أنزل الله ـ تعالى ـ بالمدينة ، فقوله : «فصّل» يجب أن يكون ذلك المفصّل متقدّما على هذا المجمل ، والمدنيّ متأخّر عن المكّيّ ، فيمتنع كونه متقدّما ، ولقائل أن يقول : المفصّل : هو قوله ـ تبارك وتعالى ـ بعد هذه الآية الكريمة : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) [الأنعام : ١٤٥] ، الآية ، وهي وإن كانت مذكورة بعد هذه الآية بقليل ، إلا أنّ هذا القدر من التّأخير لا يمنع أن يكون هو المراد ، خصوصا أن السّورة نزلت دفعة واحدة بإجماع المفسّرين على ما تقدّم ، فيكون في حكم المقارن.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٦١.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٩.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٦٨. إعراب القراءات ١ / ٦٨ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٩.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٦٨ ، المحرر الوجيز ٢ / ٣٣٩.

٤٠١

قوله : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) في الاستثناء وجهان :

أحدهما : أنّه منقطع ، قاله ابن عطيّة ، والحوفي.

والثاني : أنه [استثناء](١) متّصل.

قال أبو البقاء (٢) : «ما» في موضع نصب على الاستثناء من الجنس من طريق المعنى ؛ لأنه وبّخهم بترك الأكل ممّا سمّي عليه ، وذلك يتضمّن الإباحة مطلقا.

قال شهاب الدّين (٣) : الأوّل أوضح والاتّصال قلق المعنى ، ثم قال : «وقوله : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) أي : في حال الاختيار ، وذلك حلال حال الاضطرار».

قوله : (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ) قرأ الكوفيّون (٤) بضمّ الياء ، وكذا الّتي في يونس : (رَبَّنا لِيُضِلُّوا) [الآية : ٨٨] والباقون : بالفتح ، وسيأتي لذلك نظائر في إبراهيم وغيرها ، والقراءتان واضحتان ؛ فإنه يقال : ضلّ في نفسه ، وأضلّ غيره ، فالمفعول محذوف على قراءة الكوفيين ، وهي أبلغ في الذّمّ ، فإنها تتضّمن قبح فعلهم ، حيث ضلوا في أنفسهم ، وأضلّوا غيرهم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) [المائدة : ٧٧].

قيل المراد به : عمرو بن لحيّ فمن دونه من المشركين الّذين اتخذوا البحائر والسّوائب وقراءة الفتح لا تحوج إلى حذف ، فرجّحها بعضهم بهذا وأيضا : فإنهم أجمعوا على الفتح في «ص» عند قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [٢٦].

وقوله : «بأهوائهم» متعلّق ب «يضلّون» والباء سببيّة ، أي : بسبب اتّباعهم أهواءهم ، وشهواتهم.

وقوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) متعلّق بمحذوف ، لأنّه حال ، أي : يضلّون مصاحبين للجهل ، أي : ملتبسين بغير علم.

فصل في المراد بالآية

قيل : المراد : عمرو بن لحيّ كما تقدّم ؛ لأنّه أول من غير دين إسماعيل.

وقال الزّجّاج (٥) : المراد منه الّذين يحلّلون الميتة ، ويناظرونكم في إحلالها ، ويحتجون عليها بقولهم لما أحلّ ما تذبحونه أنتم ، فبأن يحلّ ما يذبحه الله أولى ، وكذلك كل ما يضلّون فيه من عبادة الأوثان ، والطّعن في نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما يتّبعون فيه الهوى

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٩.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٦٨.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٦٨ ، المحرر الوجيز ٢ / ٣٣٩.

(٥) ينظر : معاني القرآن ١٣ / ١٣٦.

٤٠٢

والشّهوة [بغير علم ، وهذه الآية تدلّ على أن التقليد حرام ؛ لأنّه قول بمحض الهوى والشّهوة](١) ثم قال : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي : هو العالم بما في ضمائرهم من التعدّي ، وطلب نصرة الباطل ، والسّعي في إخفاء الحقّ ، وإذا كان عالما بأحوالهم وقادرا على مجازاتهم فهو تعالى يجازيهم عليها والمقصود منه التّهديد والتخويف.

قوله تعالى : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ)(١٢٠)

لما بين أنّه فصّل المحرّمات ، أتبعه بما يجب تركه بالكلّيّة ، والمراد به : ما يوجب الإثم ، وهي الذّنوب كلّها.

قال قتادة : المراد «بباطنه وظاهره» : علانيته وسرّه.

وقال مجاهد : ظاهره ممّا يعمله الإنسان بالجوارح من الذّنوب ، وباطنه : ما ينويه ويقصده بقلبه ؛ كالمصرّ على الذّنب (٢).

وقال الكلبيّ : ظاهره : الزّنا ، وباطنه المخالة (٣) ، وأكثر المفسّرين على أنّ ظاهره : الإعلان بالزّنا ، وهم أصحاب الرّايات ، وباطنه : الاستسرار ، وكانت العرب يحبّون الزّنا ، وكان الشّريف يستسرّ به ، وغير الشّريف لا يبالي به ، فيظهره.

وقال سعيد بن جبير : ظاهر الإثم : نكاح المحارم ، وباطنه : الزّنا (٤).

وقال ابن زيد : ظاهره : التّعرّي من الثياب في الطّواف والباطن : الزّنا (٥) ، وروى حيّان عن الكلبي ـ رحمه‌الله ـ ظاهر الإثم : طواف الرّجال بالبيت نهارا عراة ، وباطنه : طواف النّساء باللّيل عراة(٦).

وقيل هذا النّهي عام في جميع المحرّمات ، وهو الأصحّ ؛ لأن تخصيص اللّفظ العام بصورة معيّنة من غير دليل ، غير جائز ، ثم قال : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) والاقتراف : الاكتساب كما تقدّم ، وظاهر النّصّ يدلّ على أنّه لا بدّ وأن

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٢٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٧٨) وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ.

(٣) انظر البحر المحيط لأبي حيان (٤ / ٢١٤).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٢٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٧٧ ـ ٧٨) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وانظر البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (٤ / ٢١٤).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٢٤) وذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٤ / ٢١٤).

(٦) ذكره البغوي في تفسيره ٢ / ١٢٧.

٤٠٣

يعاقب المذنب على الذّنب ، إلا أنّ المسلمين أجمعوا على أنّه إذا تاب ، لم يعاقب ، وأهل السّنّة زادوا شرطا ، وهو أنّه ـ تبارك وتعالى ـ قد يعفو عن المذنب ؛ لقوله ـ تبارك وتعالى ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] الآية.

قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (١٢١)

لما بين حلّ كلّ ما ذبح على اسم الله ـ تعالى ـ ذكر بعده تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه ، ويدخل فيه الميتة ، وما ذبح على ذكر الأصنام.

قال عطاء : كل ما لم يذكر اسم الله عليه من طعام أو شراب ، فهو حرام ؛ لعموم الآية (١).

وقال ابن عبّاس : الآية الكريمة في تحريم الميتات وما في معناها (٢) ، ونقل عن عطاء الآية الكريمة ، وفي تحريم الذّبائح الّتي كانوا يذبحونها على اسم الأصنام ، واختلف العلماء ـ رضي الله عنهم ـ في ذبيحة المسلم ، إذا لم يذكر اسم الله عليه.

فذهب قوم إلى تحريمها سواء ترك التّسمية عامدا أو ناسيا ، وهو قول ابن سيرين ، والشّعبي ، وأحمد في رواية ، وطائفة من المتكلّمين لظاهر الآية الكريمة.

وذهب قوم إلى تحليلها ، يروى ذلك عن ابن عبّاس (٣) ، وهو قول مالك ، والشّافعي ، وأحمد في رواية.

وذهب قوم إلى أنه إن ترك التّسمية عامدا ، لم يحلّ ، وان تركها سهوا ، أحلت ، وهو قول الثّوري ، وأصحاب الرّأي ، ومذهب أحمد.

ومن أباحها ، قال : المراد من الآية الكريمة : الميتات ، وما ذبح على غير اسم الله ؛ لقوله : «وإنه لفسق» والفسق في غير ذكر اسم الله ؛ كما قال في آخر السّورة العظيمة : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) ... إلى قوله (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) وأجمع المسلمون على أنّه لا يفسّق آكل ذبيحة المسلم الذي ترك التّسمية ، وأيضا : قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) وهذه المناظرة إنّما كانت في مسألة الميتة على أنّ المشركين قالوا للمسلمين : ما يقتله الصّقر والكلب تأكلونه ، وما يقتله الله

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٣ / ١٣٨) عن عطاء.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٧٨) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٧٨) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس بلفظ : من ذبح فنسي أن يسمي فليذكر اسم الله عليه وليأكل ولا يدعه للشيطان إذا ذبح على الفطرة فإن اسم الله في قلب كل مسلم.

٤٠٤

فلا تأكلونه ، وعن ابن عباس : إنّهم قالوا : تأكلون ما تقتلونه ، ولا تأكلون ما يقتله الله ـ تعالى ـ (١) ، وهذه المناظرات مخصوصة بأكل الميتة ، وقال ـ تبارك وتعالى ـ : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) وهذا مخصوص بما ذبح على اسم النّصب ، يعني : لو رضيتم بهذه الذّبيحة الّتي ذبحت على اسم الهديّة للأوثان ، فقد رضيتم بإلهيّتها فذلك يوجب الشّرك.

قال الشّافعي : فأوّل الآية الكريمة ، وإن كان عامّا بحسب الصّيغة ، إلّا أن آخرها لمّا حصلت فيه هذه القيود الثلاثة ، علمنا أن المراد من العموم : الخصوص ، وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالوا : يا رسول الله إن هنا أقواما حديث عهدهم بشرك يأتوننا باللّحم ، لا يدرى يذكرون اسم الله عليها أم لا ، قال : «اذكروا أنتم اسم الله ، وكلوا» ولو كانت التّسمية شرطا للإباحة ، كان الشكّ في وجودها مانعا كالشكّ في أصل الذّبح.

قوله : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) هذه الجملة فيها أربعة أوجه :

أحدها : أنّها مستأنفة ، قالوا : ولا يجوز أن تكون منسوقة على ما قبلها ؛ لأن الأولى طلبيّة ، وهي خبريّة ، وتسمّى هذه الواو ، واو الاستئناف.

والثاني : أنّها منسوقة على ما قبلها ، ولا يبالى بتخالفهما ، وهو مذهب سيبويه ، وقد تقدّم تحقيق ذلك ، [وقد أوردت من ذلك شواهد صالحة من شعر وغيره](٢).

الثالث : أنّها حاليّة ، أي : «لا تأكلوه ، والحال : أنّه فسق». وقد تبجّح الإمام (٣) الرّازي بهذا الوجه على الحنفيّة ، حيث قلب دليلهم عليهم بهذا الوجه ، وذلك أنّهم يمنعون من أكل متروك التّسمية ، والشّافعيّة لا يمنعون منه استدل عليهم الحنفيّة بظاهر هذه الآية.

فقال الرّازي : هذه الجملة حاليّة ، ولا يجوز أن تكون معطوفة لتخالفهما طلبا وخبرا ، فتعيّن أن تكون حاليّة ، وإذا كانت حاليّة ، كان المعنى : «لا تكلوه حال كونه مفسّقا» ، ثم هذا الفسق مجمل قد فسّره الله تعالى في موضع آخر ، فقال : (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) يعني : أنه إذا ذكر على الذّبيحة غير اسم الله ، فإنّه لا يجوز أكلها ؛ لأنّه فسق.

ونحن نقول به ، ولا يلزم من ذلك أنّه إذا لم يذكر اسم الله ، ولا اسم غيره ، أن تكون حراما ؛ لأنه ليس بالتّفسير الذي ذكرناه ، والنّزاع فيه محال من وجوه :

منها : أنّنا لا نسلّم امتناع عطف الخبر على الطّلب ، والعكس ، كما قدّمته عن سيبويه ، وإن سلّم ، فالواو للاستئناف ، كما تقدم ، وما بعدها مستأنف ، وإن سلّم أيضا ،

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٢ / ١١١) كتاب الصيد : باب في أكل ذبائح أهل الكتاب حديث (٢٨١٩) عن ابن عباس.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ١٣٩.

٤٠٥

فلا نسلّم أنّ «فسقا» في الآية الأخرى مبيّن للفسق في هذه الآية ، فإن هذا ليس من باب المجمل والمبيّن (١) ؛ لأن له شروطا ليست موجودة هنا. وهذا الذي قاله مشتمل من كلام الزّمخشري ، فإنه قال (٢) :

فإن قلت : قد ذهب جماعة من المجتهدين إلى جواز أكل ما لم يذكر اسم الله عليه بنسيان أو عمد.

قلت : قد تأوّله هؤلاء بالميتة ، وبما ذكر غير اسم الله عليه ؛ كقوله : (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) فهذا أصل ما ذكره ابن الخطيب وتبجّح به والضّمير في «أنّه» يحتمل أن يعود على الأكل المدلول عليه ب «لا تأكلوا» ، وأن يعود على الموصول ، وفيه حينئذ تأويلان :

أن تجعل الموصول نفس الفسق مبالغة.

أو على حذف مضاف ، أي : «وإنّ أكله لفسق» أو على الذكر المفهوم من قوله : «ذكر».

قال أبو حيّان (٣) : «والضّمير في «إنّه» : يعود على الأكل ، قاله الزّمخشري ، واقتصر عليه».

قال شهاب الدّين (٤) ـ رحمه‌الله ـ : لم يقتصر عليه بل ذكر : أنّه يجوز أن يعود على الموصول ، وذكر التّأويلين المتقدّمين ، فقال : «الضّمير راجع على مصدر الفعل الدّاخل عليه حرف النّهي ، بمعنى : وإنّ الأكل منه لفسق ، أو على الموصول على أنّ أكله لفسق ، أو جعل ما لم يذكر اسم الله عليه في نفسه فسقا».

قوله : «وإنّ الشّياطين ليوحون إلى أوليائهم» من المشركين ليخاصموا محمّدا وأصحابه في أكل الميتة.

وقال عكرمة : المراد بالشّياطين : مردة المجوس ، ليوحون إلى أوليائهم من مشركي قريش ، وذلك لأنّه لما نزل تحريم الميتة ، سمعه المجوس من أهل فارس ، فكتبوا إلى قريش ـ وكانت بينهم مكاتبة ـ أنّ محمّدا وأصحابه يزعمون أنّهم يتبعون أمر الله ـ تعالى ـ ثم يزعمون أن ما يذبحونه حلالا ، وما يذبحه الله حرام فوقع في نفس ناس من المسلمين من ذلك ، فأنزل الله هذه الآية الكريمة.

__________________

(١) المبين لغة : الموضح ، وفي الاصطلاح له معنيان :

الأول ما احتاج إلى البيان ، وقد ورد عليه بيانه.

الثاني : الخطاب المبتدأ المستغني عن البيان.

ينظر : المصباح المنير (١ / ٧٠) ، المعتمد (١ / ٣١٩) ، المحصول (١ ـ ٣ / ٢٢٧) ، الإحكام للآمدي (٢ / ١٧٨) ، المستصفى (١ / ٣٤٥) ، شرح تنقيح الفصول ص (٣٨) ، المنهاج بشرح نهاية السول (٢ / ٥٢٤) ، شرح الكوكب (٣ / ٤٣٧) ، إرشاد الفحول ص (١٦٧) ، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ص (٢٦٦).

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٦١ ـ ٦٢.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٦٩ ـ ١٧٠.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٦٠.

٤٠٦

قوله : «ليجادلوكم» متعلّق ب «يوحون» أي : «يوحون لأجل مجادلتكم» ، وأصل «يوحون» يوحيون ؛ فأعلّ.

قوله : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) قيل : إنّ التّوطئة للقسم ، فلذلك أجيب القسم المقدّر بقوله : (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) وحذف جواب الشّرط ؛ لسدّ جواب القسم مسدّه.

وجاز الحذف ؛ لأن فعل الشّرط ماض.

وقال أبو البقاء (١) : حذف الفاء من جواب الشّرط ، وهو حسن إذا كان الشّرط بلفظ الماضي ، وهو ههنا كذلك ، وهو قوله : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ).

قال شهاب الدّين (٢) : كأنه زعم : أنّ جواب الشّرط هو الجملة من قوله : (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) والأصل : «فإنكم» بالفاء ؛ لأنّها جملة اسميّة ، ثم حذفت الفاء ؛ لكون فعل الشّرط بلفظ المضيّ ، وهذا ليس بشيء ؛ فإن القسم مقدّر قبل الشّرط ويدل على ذلك حذف اللّام الموطّئة قبل «إن» الشّرطية ، وليس فعل الشّرط ماضيا ؛ كقوله تعالى : (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَ) [الأعراف : ٢٣] فههنا لا يمكنه أن يقول : إن الفاء محذوفة ؛ لأن فعل الشّرط مضارع ، وكأن أبا البقاء ـ والله أعلم ـ أخذ هذا من الحوفي ؛ فإني رأيته فيه كما ذكره أبو البقاء ، وردّه أبو حيّان بنحو ما تقدم.

فصل في معنى الآية

والمعنى : وإن أطعتموهم في استحلال الميتة ، إنكم لمشركون ، وإنّما سمّي مشركا ؛ لأنه أثبت حاكما سوى الله ، وهذا هو الشّرك.

وقال الزّجّاج : وفيه دليل على أنّ كلّ من أحلّ شيئا مما حرّم الله ، وحرّم ما أحلّ الله ، فهو مشرك.

قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٢٢)

لما ذكر تعالى في الآية الأولى ؛ أنّ المشركين يجادلون المؤمنين في دين الله ـ تعالى ـ ذكر مثلا يدلّ على حال المؤمن المهتدي ، وعلى حال الكافر الضال فبيّن أن المؤمن بمنزلة من كان ميتا ؛ فجعل حيّا بعد ذلك ، وأعطي نورا يهتدي به في مصالحه ، وأنّ الكافر بمنزلة المنغمس في ظلمات لا خلاص له منها ، فيكون متحيّرا دائما.

قوله : (أَوَمَنْ كانَ) تقدّم أن الهمزة يجوز أن تكون مقدّمة على حرف العطف ، وهو رأي الجمهور ، وأن تكون على حالها وبينها وبين الواو فعل مضمر ، و «من» في محلّ رفع

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٧٠.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٨١) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

٤٠٧

بالابتداء ، و «كمن» خبره ، وهي موصولة ، و «يمشي» في محلّ نصب صفة ل «نورا».

قال قتادة : أراد ب «النور» : كتاب الله ـ تعالى ـ بيّنة مع المؤمن ، بها يعمل ، وبها يأخذ ، وإليها ينتهي (١) ، و «مثله» مبتدأ و (فِي الظُّلُماتِ) : خبره ، والجملة صلة «من» و «من» مجرورة بالكاف ، والكاف ومجرورها كما تقدّم في محلّ رفع خبرا ل «من» الأولى و (لَيْسَ بِخارِجٍ) في محلّ نصب على الحال من الموصول ، أي : «مثل الّذي استقرّ في الظّلمات حال كونه مقيما فيها».

وقال أبو البقاء (٢) : «ليس بخارج في موضع الحال من الضّمير في «منها» ولا يجوز أن يكون حالا من الهاء في «مثله» للفصل بينه وبين الحال بالخبر».

وجعل مكّي (٣) الجملة حالا من الضّمير المستكنّ في «الظّلمات» وقرأ طلحة بن مصرّف : «أفمن كان» بالفاء بدل الواو.

فصل في المراد بالآية

اختلفوا في هذه الآية الكريمة على قولين :

أحدهما : أنّها نزلت في رجلين بأعيانهما.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : (جَعَلْنا لَهُ نُوراً) يريد : حمزة بن عبد المطّلب ، (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) يريد : أبا جهل بن هشام ، وذلك أنّ أبا جهل رمى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بفرث ، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قدومه من صيد ، وبيده قوس وحمزة لم يؤمن بعد ، فأقبل غضبانا حتى علا أبا جهل بالقوس ، وهو يتضرّع إليه ، ويقول : أبا يعلى ، أما ترى ما جاء به ، سفّه عقولنا ، وسبّ آلهتنا ، وخالف آباءنا ، فقال حمزة : ومن أسفه منكم ، تعبدون الحجارة من دون الله ؛ أشهد ألّا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، فأنزل الله الآية(٤).

وقال الضّحّاك : نزلت في عمر بن الخطّاب ، وأبي جهل (٥).

وقال عكرمة ، والكلبي : نزلت في عمّار بن ياسر ، وأبي جهل (٦).

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٦٠.

(٢) ينظر : المشكل ١ / ٢٧٨.

(٣) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١٣ / ١٤١).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٣٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٨١) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

وينظر : تفسير الرازي (١٣ / ١٤١).

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٨١) عن زيد بن أسلم وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٣٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٨١) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٦) انظر تفسير الرازي (١٣ / ١٤١).

٤٠٨

وقال مقاتل : نزلت في النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي جهل ، وذلك أنّه قال : زاحمنا بنو عبد مناف في الشّرف ، حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منّا نبيّ يوحى إليه ، والله لا نؤمن به إلّا أن يأتينا وحي كما يأتيه ، فنزلت الآية الكريمة (١).

القول الثاني : أنّ هذه الآية الكريمة عامّة في حقّ المؤمنين والكافرين ، وهذا هو الحقّ ؛ لأن تخصيص العامّ بغير دليل تحكّم ؛ وأيضا : فلقولهم إن السّورة نزلت دفعة واحدة ، فالقول بأنّ سبب هذه الآية الكريمة المعيّنة كذا وكذا مشكل.

قوله : (كَذلِكَ زُيِّنَ) نعت لمصدر ، فقدّره بعضهم : «زيّن للكافرين تزيينا كما أحيينا المؤمنين» وقدّره آخرون : «زين للكافرين تزيينا لكون الكافرين في ظلمات مقيمين فيها» والفاعل المحذوف من «زيّن» المنوب عنه هو الله ـ تعالى ـ ويجوز أن يكون الشّيطان ، وقد صرّح بكلّ من الفاعلين مع لفظ «زيّن» ، قال ـ تعالى ـ : (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) [النمل : ٤] ، وقال ـ تعالى ـ : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [العنكبوت : ٣٨] ، و (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) : هو القائم مقام الفاعل ، و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسميّة أو حرفيّة أو نكرة موصوفة والعائد على القول الأول والثالث محذوف ، دون الثاني عند الجمهور ، على ما عرف غير مرّة.

وقال الزجاج (٢) : «موضع الكاف رفع ، والمعنى : مثل ذلك الذي قصصنا عليك ، زيّن للكافرين أعمالهم».

فصل في بيان خلق الأفعال

دلّت هذه الآية الكريمة على أن الكفر ، والإيمان من الله تعالى ؛ لأن قوله «فأحييناه» وقوله: (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) كناية عن المعرفة ، والهدى ؛ وذلك يدلّ على أنّ هذه الأمور من الله ـ تبارك وتعالى ـ والدلائل العقلية ساعدت على صحّته ، وهو دليل الداعي المتقدم.

وأيضا فالعاقل لا يختار الجهل ، والكفر لنفسه ؛ فمن المحال أن يختار الإنسان جعل نفسه كافرا جاهلا ، فلما قصد لتحصيل الإيمان والمعرفة ، ولم يحصل له ذلك ، وإنما حصل ضدّه ، وهو : الكفر ، والجهل ؛ علمنا أنّ ذلك بإيجاد غيره.

فإن قيل : إنّما اختاره لاعتقاده في ذلك الجهل ، أنّه علم.

فالجواب : أنّ حاصل هذا الكلام أنه إنما اختار هذا الجهل لسابقة جهل آخر ، والكلام في ذلك الجهل السّابق كما في المسبوق كذلك إلى غير نهاية ، فوجب الانتهاء إلى جهل يحصل فيه لا بإيجاده ، وهو المطلوب.

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣١٧.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٦٣.

٤٠٩

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ)(١٢٣)

قيل «كذلك» نسق على «كذلك» قبلها ففيها ما فيها.

وقدّره الزّمخشريّ (١) بأنّ معناه : «وكما جعلنا في مكّة المشرفة صناديدها ليمكروا فيها ، كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها» واللام في «ليمكروا» يجوز أن تكون للعاقبة ؛ وأن تكون للعلّة مجازا ، و «جعل» تصييريّة ؛ فتتعدّى لاثنين ، واختلف في تقديرهما : والصحيح أن تكون (فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) مفعولا ثانيا قدّم على الأوّل ، والأول «أكابر» مضافا لمجرميها.

والثاني : أنّ (فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) مفعول ـ أيضا ـ مقدّم ، و «أكابر» هو الأول ، و «مجرميها» بدل من «أكابر» ؛ ذكر ذلك أبو البقاء (٢).

الثالث : أن يكون «أكابر» مفعولا ثانيا قدّم ، و «مجرميها» مفعول أول أخّر ، والتقدير : جعلنا في كلّ قرية مجرميها أكابر ، فيتعلق الجارّ بنفس الفعل قبله ؛ ذكر ذلك ابن عطيّة (٣).

قال أبو حيّان (٤) : «وما أجازاه ـ يعني : أبا البقاء ، وابن عطيّة ـ خطأ وذهول عن قاعدة نحويّة ، وهي : أنّ أفعل التفضيل إذا كانت ب «من» ملفوظا بها ، أو مقدرة ، أو مضافة إلى نكرة كانت مفردة مذكرة على كل حال ، سواء كانت لمذكر ، أم مؤنث ، مفرد أم مثنى أم مجموع ، وإذا ثنّيت أو جمعت أو أنّثت وطابقت ما هي له ، لزمها أحد أمرين : إمّا الألف واللام ، وإمّا الإضافة لمعرفة.

وإذا تقرّر ذلك ، فالقول بكون «مجرميها» بدلا ، أو بكونه مفعولا أول ، و «أكابر» مفعول ثان ـ خطأ ؛ لاستلزام أن يبقى «أكابر» مجموعا وليست فيه ألف ولام ، ولا هي مضافة لمعرفة». قال : «وقد تنبّه الكرمانيّ إلى هذه القاعدة فقال : أضاف «أكابر» إلى «مجرميها» لأن أفعل لا يجمع إلّا مع الألف واللام ، أو مع الإضافة».

قال أبو حيّان (٥) : «وكان ينبغي أن يقيّد بالإضافة إلى معرفة».

قال شهاب الدّين (٦) : أما هذه القاعدة فمسلمة ، ولكن قد ذكر مكّي (٧) مثل ما ذكر عن ابن عطيّة سواء ، وما أظنّه أخذ إلّا منه ، وكذلك الواحديّ أيضا ، ومنع أن تجوّز إضافة «أكابر» إلى «مجرميها» ؛ قال رحمه‌الله : «والآية على التّقديم ، والتأخير تقديره :

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٦٠.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٤١.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢١٧.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢١٧.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٧١.

(٦) ينظر : المشكل ١ / ٢٨٧.

(٧) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٧١.

٤١٠

«جعلنا مجرميها أكابر» ولا يجوز أن تكون الأكابر مضافة ؛ لأنه لا يتمّ المعنى ، ويحتاج إلى إضمار المفعول الثاني للجعل ؛ لأنك إذا قلت : «جعلت زيدا» وسكتّ لم يفد الكلام حتى تقول : رئيسا أو دليلا ، أو ما أشبه ذلك ، ولأنّك إذا أضفت الأكابر ، فقد أضفت النعت إلى المنعوت ؛ وذلك لا يجوز عند البصريّين».

قال شهاب الدّين (١) : هذان الوجهان اللذان ردّ بهما الواحديّ ليسا بشيء.

أمّا الأول فلا نسلم أنا نضمر المفعول الثاني ، وأنه يصير الكلام غير مفيد ، وأمّا ما أورده من الأمثلة ، فليس مطابقا ؛ لأنّا نقول : إنّ المفعول الثّاني ـ هنا ـ مذكور مصرّح به ، وهو الجارّ والمجرور السابق.

وأما الثاني : فلا نسلّم أنه من باب إضافة الصّفة لموصوفها ؛ لأن المجرمين أكابر وأصاغر ، فأضاف للبيان لا لقصد الوصف.

الرابع : أنّ المفعول الثّاني محذوف ، قالوا : وتقديره : «جعلنا في كلّ قرية أكابر مجرميها فسّاقا ليمكروا» وهذا ليس بشيء ؛ لأنه لا يحذف شيء إلّا لدليل ، والدليل على ما ذكروه غير واضح.

وقال ابن عطيّة (٢) : «ويقال أكابرة كما يقال أحمر وأحامرة» ؛ قال الشاعر : [الكامل]

٢٣٠٣ ـ إنّ الأحامرة الثّلاثة أتلفت

ما لي وكنت بهنّ قدما مولعا (٣)

قال أبو حيان (٤) : «ولا أعلم أحدا أجاز في جمع أفضل أفاضلة ، بل نصّ النحويون على أن: أفعل التّفضيل يجمع للمذكّر على الأفضلين ، أو على الأفاضل».

قال شهاب الدين (٥) : وهذه التاء يذكرها النحويون أنها تكون دالّة على النسب في مثل هذه البنية ، قالوا : الأزارقة ، والأشاعثة ؛ في الأزرق ورهطه ، والأشعث وبنيه ، وليس بقياس ، وليس هذا من ذلك في شيء.

والجمهور على «أكابر» جمعا.

وقرأ (٦) ابن مسلم : «أكبر مجرميها» بالإفراد ، وهو جائز ، وذلك أنّ أفعل التفضيل إذا أضيفت لمعرفة وأريد بها غير الإفراد ، والتذكير ؛ جاز أن يطابق ، كالقراءة المشهورة

__________________

(١) المحرر الوجيز ٢ / ٣٤١.

(٢) البيت للأعشى وهو في المقرب (٢ / ٢٨) ، الطبري ٥ / ٣٣٤ ، اللسان (حمر) ، الدر المصون ٣ / ١٧٢ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٣٤١ ، والبحر المحيط ٤ / ١٧.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢١٧.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٧٢.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٧٢ ، البحر المحيط ٤ / ٢١٧.

(٦) أخرجه الترمذي (١١٦٢) وأحمد (٢ / ٢٥٠) وأبو داود (٤٦٨٢) والحاكم (١ / ٣) وابن حبان (٤١٦٤ ـ الإحسان) من حديث أبي هريرة بلفظ : أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خيارهم لنسائهم.

٤١١

هنا ، وفي الحديث : «أحاسنكم أخلاقا» (١) وجاز أن يفرد ، وقد أجمع على ذلك في قوله : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ) [البقرة : ٩٦].

فصل

قال الزجاج : إنما جعل المجرمين أكابر لأنهم لأجل رياستهم أقدر على المكر [والغدر](٢) ، وترويج الأباطيل على الناس من غيرهم ، ولأن كثرة المال ، والجاه تحمل الناس على المبالغة في حفظها ، وذلك الحفظ لا يتمّ إلّا بجميع الأخلاق الذّميمة : من الغدر ، والمكر ، والكذب ، والغيبة ، والنميمة ، والأيمان الكاذبة ، ولو لم يكن للمال والجاه سوى أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ وصف بهذه الصفات الذّميمة من كان له مال وجاه لكفى ذلك دليلا على خساسة المال والجاه.

قوله : (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ).

والمراد ما ذكره الله تعالى في قوله : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر : ٤٣].

واعلم أنّ سنّة الله [ـ تبارك و] تعالى ـ أنه يجعل في كلّ قرية أتباع الرسل ضعافهم لقوله في قصة نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء : ١١١] وجعل فساقهم أكابرهم ليمكروا فيها ، وذلك أنهم أجلسوا في كلّ طريق من طرق مكّة [المشرفة](٣) أربعة نفر (٤) ليصرفوا النّاس عن الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون لكل من يقدم : إياكم وهذا الرجل ، فإنه كاهن ، ساحر ، كذّاب.

وقوله : (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) [لأنّ وبال مكرهم عليهم وهم ما يشعرون أنه كذلك.

قالت المعتزلة : «وما يمكرون إلّا بأنفسهم»](٥) مذكور في معرض التهديد ، والزّجر ، فلو كان ما قبل هذه الآية الكريمة ، يدلّ على أنه تعالى أراد منهم أن يمكروا بالناس ـ فكيف يليق بالرّحيم الحكيم أن يريد منهم المكر ، ويخلقه فيهم ، ثمّ يهدّدهم عليه ، ويعاقبهم أشدّ العقاب ، ومعارضتهم تقدّمت مرارا.

قوله تعالى : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ)(١٢٤)

قال المفسّرون (٦) : إنّ الوليد بن المغيرة قال : والله لو كانت النّبوّة حقا لكنت أولى

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.

(٥) انظر تفسير الرازي (١٣ / ١٤٣).

(٦) انظر المصدر السابق.

٤١٢

بها منك ؛ لأني أكبر منك سنّا ، وأكثر منك مالا ، وولدا ؛ فنزلت الآية الكريمة.

وقال الضحاك : أراد كلّ واحد منهم أن يخصّ بالوحي ، والرسالة ؛ كما أخبر تعالى عنهم : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً)(١) [المدثر : ٥٢] فظاهر هذه الآية الكريمة التي نحن في تفسيرها يدلّ على ذلك أيضا ، وهذا يدلّ على أنّ جماعة منهم كانوا يقولون هذا الكلام.

وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل ؛ وذلك أنّه قال : زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف ؛ حتّى إذا صرنا كفرسي رهان ، قالوا منّا نبيّ يوحى إليه ، والله لن نؤمن به ، ولن نتّبعه أبدا ؛ إلّا أن يأتينا وحي ، كما يأتيه ؛ فأنزل الله ـ تبارك وتعالى ـ الآية (٢).

وقوله : (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ).

فيه قولان :

أشهرهما : أن القوم أرادوا أن تحصل لهم النبوة ، والرّسالة ؛ كما حصلت لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن يكونوا متبوعين لا تابعين.

والقول الثاني : نقل عن الحسن ، وابن عبّاس أن المعنى : وإذا جاءتهم آية من القرآن تأمرهم باتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً.) ..» إلى قوله : (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٣] من الله ـ عزوجل ـ إلى أبي جهل ، وإلى فلان وفلان ، كتابا على حدة (٣) ؛ وعلى هذا فالتقدير ما طلبوا النبوة وإنّما طلبوا أن يأتيهم بآيات قاهرة مثل معجزات الأنبياء المتقدمين ؛ كي تدل على صحّة نبوّة محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ.

قال المحقّقون (٤) : والأوّل أقوى لأنّ قوله تبارك وتعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) لا يليق إلّا بالقول الأوّل.

وقوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) فيه تنبيه على أنّ أقلّ ما لا بدّ منه في حصول النّبوة ، والرسالة ؛ البراءة عن المكر ، والخديعة ، والغدر ، والغلّ ، والحسد ، وقولهم (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) عين المكر ، والغل والحسد ؛ فكيف تحصل النبوة ، والرسالة مع هذه الصفات الذّميمة؟.

قوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ).

في «حيث» هذه وجهان :

أحدهما : أنّها خرجت عن الظرفيّة ، وصارت مفعولا بها على السّعة ، وليس العامل

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) ينظر : تفسير الرازي (١٣ / ١٤٣).

(٣) ينظر : تفسير الرازي (١٣ / ١٤٤).

(٤) ينظر : المصدر السابق.

٤١٣

«أعلم» هذه ؛ لما تقدّم من أنّ أفعل لا تنصب المفعول به.

قال أبو عليّ : «لا يجوز أن يكون العامل في «حيث» : «أعلم» هذه الظاهرة ، ولا يجوز أن تكون «حيث» ظرفا ؛ لأنه يصير التقدير : «الله أعلم في هذا الموضع» ولا يوصف الله تعالى بأنه أعلم في مواضع ، وأوقات ؛ لأن علمه لا يختلف باختلاف الأمكنة ، والأزمنة ، وإذا كان كذلك ، كان العامل في «حيث» فعلا يدلّ عليه «أعلم» و «حيث» لا يكون ظرفا ، بل يكون اسما ، وانتصابه على المفعول به على الاتّساع ، ومثل ذلك في انتصاب «حيث» على المفعول به اتساعا قول الشّمّاخ : [الطويل]

٢٣٠٤ ـ وحلّأها عن ذي الأراكة عامر

أخو الخضر يرمي حيث تكوى النّواجز (١)

ف «حيث» مفعولة ؛ لأنه ليس يريد أنه يرمي شيئا حيث تكون النواجز ، إنما يريد أنه يرمي ذلك الموضع». وتبع الناس الفارسيّ على هذا القول.

فقال الحوفيّ : «ليست ظرفا ؛ لأنه تعالى لا يكون في مكان أعلم منه في مكان آخر ، وإذا لم تكن ظرفا ، كانت مفعولا بها ؛ على السّعة ، وإذا كانت مفعولا ، لم يعمل فيها «أعلم» ؛ لأن «أعلم» لا يعمل في المفعول به فيقدّر لها فعل» وعبارة ابن عطيّة ، وأبي البقاء (٢) نحو من هذا.

وأخذ التبريزيّ كلام الفارسي [فنقله](٣) ، وأنشد البيت المتقدّم.

والثاني : أنّها باقية على ظرفيّتها بطريق المجاز ، وهذا القول ليس بشيء ، ولكن أجازه أبو حيّان مختارا له على ما تقدم.

فقال : «وما أجازوه من أنّه مفعول به على السعة أو مفعول به على غير السعة ـ تأباه قواعد النّحو ؛ لأن النحويّين نصّوا على أنّ «حيث» من الظروف التي لا تتصرف ، وشذّ إضافة «لدى» إليها ، وجرّها «بالياء» ، وب «في» ، ونصّوا على أن الظرف المتوسّع فيه لا يكون إلّا متصرّفا ، وإذا كان كذلك ، امتنع نصب «حيث» على المفعول به ، لا على السّعة ، ولا على غيرها.

والذي يظهر لي إقرار «حيث» على الظّرفية المجازيّة ، على أن يضمّن «أعلم» معنى ما يتعدّى إلى الظرف ، فيكون التقدير : «الله أنفذ علما حيث يجعل رسالاته» أي : «هو نافذ العلم في الموضع الذي يجعل فيه رسالاته ، والظرف هنا مجاز كما قلنا».

قال شهاب الدّين (٤) : قد ترك ما قاله الجمهور ، وتتابعوا عليه ، وتأوّل شيئا هو

__________________

(١) ينظر : ديوانه ص (١٨٢) ، المعاني الكبير ٢ / ٧٨٣ ، الأزمنة والأمكنة ٦ / ١٠٦ ، الاقتضاب (٤٥١) جمهرة أشعار العرب (١٥٤) ، الدر المصون ٣ / ١٧٢.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٦٠.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٧٣.

٤١٤

أعظم مما فرّ منه الجمهور ، وذلك أنه يلزمه على ما قدّر أنّ علم الله في نفسه يتفاوت بالنسبة إلى الأمكنة ، فيكون في مكان أبعد منه في مكان ، ودعواه مجاز الظرفيّة لا ينفعه ؛ فيما ذكرته من الإشكال ، وكيف يقال مثل هذا؟ وقوله : «نصّ النحاة على عدم تصرّفها» هذا معارض ـ أيضا ـ بأنهم نصّوا على أنها قد تتصرّف بغير ما ذكر هو من كونها مجرورة ب «لدى» أو «إلى» أو «في» فمنه : أنها جاءت اسما ل «إنّ» في قول الشاعر : [الخفيف]

٢٣٠٥ ـ إنّ حيث استقرّ من أنت راجي

ه حمى فيه عزّة وأمان (١)

ف «حيث» اسم «إنّ» ، و «حمى» خبرها ، أي : إنّ مكانا استقرّ من أنت راعيه مكان يحمى فيه العزّ والأمان ، ومن مجيئها مجرورة ب «إلى» قول القائل في ذلك : [الطويل]

٢٣٠٦ ـ فشدّ ولم ينظر بيوتا كثيرة

إلى حيث ألقت رحلها أمّ قشعم (٢)

وقد يجاب عن الإشكال الذي أوردته عليه ، بأنه لم يرد بقوله «أنفذ علما» التفضيل ، وإن كان هو الظاهر بل يريد مجرد الوصف ؛ ويدلّ على ذلك قوله : أي هو نافذ العلم في الموضع الذي يجعل فيه رسالاته ، ولكن كان ينبغي أن يصرّح بذلك ، فيقول : وليس المراد التفضيل.

وروي «حيث يجعل» بفتح الثاء ، وفيها احتمالان :

أحدهما : أنها فتحة بناء ؛ طردا للباب.

والثاني : أنها فتحة إعراب ؛ لأنها معربة في لغة بني فقعس ، حكاها الكسائي.

[وفي «حيث» ستّ لغات : حيث : بالياء بتثليث الثاء ، وحوث : بالواو ، مع تثليث الثاء](٣).

وقرأ (٤) ابن كثير ، وحفص عن عاصم «رسالته» بالإفراد ، والباقون : «رسالاته» بالجمع ، وقد تقدّم توجيه ذلك في المائدة (٥) ؛ إلا أن بعض من قرأ هناك بالجمع ـ وهو حفص ـ قرأ هنا بالإفراد ، وبعض من قرأ هناك بالإفراد ـ وهو أبو عمرو ، والأخوان ، وأبو بكر ، عن عاصم ـ قرأ هنا بالجمع ، ومعنى الكلام : «الله أعلم بمن هو أحقّ بالرّسالة».

قوله : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ) قيل : المراد بالصّغار ذل وهوان يحصل لهم في الآخرة.

__________________

(١) ينظر : الدرر ٣ / ١٢٩ ، مغني اللبيب ١ / ١٣٢ ، همع الهوامع ١ / ٢١٢ ، الدر المصون ٣ / ١٧٣.

(٢) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص (٢٢) ، خزانة الأدب ٣ / ١٥ ، ٧ / ٨ ، ١٣ ، ١٧ ، الدرر ٣ / ١٢٧ ، شرح شواهد المغني ١ / ٣٨٤ ، لسان العرب (قشعم) ، مغني اللبيب ١ / ١٣١ ، همع الهوامع ١ / ٢١٢ ، الدر المصون ٣ / ١٧٣.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٧٣ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٩.

(٥) الآية : ٦٧.

٤١٥

وقيل : الصغار في الدنيا ، وعذاب شديد في الآخرة.

قوله : (عِنْدَ اللهِ) يجوز أن ينتصب ب «يصيب» ويجوز أن ينتصب ب «صغار» ؛ لأنه مصدر ، وأجازوا أن يكون صفة ل «صغار» ؛ فيتعلق بمحذوف ، وقدّره الزجاج (١) فقال : «ثابت عند الله تعالى».

والصّغار : الذلّ والهوان ، يقال منه : صغر يصغر صغرا وصغرا وصغارا ، فهو صاغر.

وأمّا ضدّ الكبر فيقال منه : صغر يصغر صغرا فهو صغير ، هذا قول اللّيث ، فوقع الفرق بين المعنيين بالمصدر ، والفعل.

وقال غيره : إنه يقال : صغر ، وصغر من الذل.

والعنديّة هنا : مجاز عن حشرهم يوم القيامة ، أو عن حكمه وقضائه بذلك ؛ كقولك : ثبت عند فلان القاضي ، أي : في حكمه ، ولذلك قدّم الصّغار على العذاب ؛ لأنه يصيبهم في الدنيا.

و (بِما كانُوا) الباء للسببيّة أي : إنما يصيبهم ذلك بسبب مكرهم ، وكيدهم ، وحسدهم و «ما» مصدرية ، ويجوز أن تكون بمعنى الذي.

قوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)(١٢٥)

قال المفسّرون : لمّا نزلت هذه ، سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شرح الصّدر ، قال : «نور يقذفه الله ـ تعالى ـ في قلب المؤمن ، فينشرح له وينفسح» (٢) قيل : فهل لذلك أمارة. قال : «نعم ، الإنابة إلى دار الخلود ، والتّجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله».

قوله : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) كقوله : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) و «من» يجوز أن تكون مرفوعة بالابتداء ، وأن تكون منصوبة بمقدّر بعدها على الاشتغال ، أي : من يوفّق الله يرد أن يهديه ، و (أَنْ يَهْدِيَهُ) مفعول الإرادة ، والشّرح : البسط والسّعة ، قاله الليث.

وقال ابن قتيبة (٣) : «هو الفتح ، ومنه : شرحت اللّحم ، أي : فتحته» وشرح الكلام :

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣١٨.

(٢) أخرجه الطبري (٥ / ٣٣٦) والحاكم (٤ / ٣١١) وابن أبي شيبة (٣ / ٢٢٢) من حديث ابن مسعود.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٨٣) وزاد نسبته لابن أبي الدنيا وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٣) ينظر : المشكل (١٥٩).

٤١٦

بسطه وفتح مغلقه ، وهو استعارة في المعاني ، حقيقة في الأعيان. و «للإسلام» أي : لقبوله.

قوله : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً).

يجوز أن يكون الجعل هنا بمعنى التّصيير ، وأن يكون بمعنى الخلق ، وأن يكون بمعنى سمّى ، وهذا الثّالث ذهب إليه المعتزلة ، كالفارسي وغيره من معتزلة النّحاة ؛ لأن الله ـ تعالى ـ لا يصيّر ولا يخلق أحدا كذا ، فعلى الأوّل يكون «ضيّقا» مفعولا ثانيا عند من شدّد ياءه ، وهم (١) العامّة غير ابن كثير ، وكذلك عند من خفّفها ساكنة ، ويكون فيه لغتان : التّثقيل والتّخفيف ؛ كميّت وميت ، وهيّن وهين.

وقيل : المخفّف مصدر ضاق يضيق ضيقا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) [النحل : ١٢٧] ، يقال : ضاق يضيق ضيقا وضيقا بفتح الضّاد وكسرها.

وبالكسر قرأ ابن كثير (٢) في النحل (٣) والنّمل (٤) ، فعلى جعله مصدرا يجيء فيه الأوجه الثلاثة في المصدر الواقع وصفا ل «جثّة» ، نحو : «رجل عدل» وهي حذف مضاف ، والمبالغة ، أو وقوعه موقع اسم الفاعل ، أي : يجعل صدره ذا ضيق ، أو ضائقا ، أو نفس الضّيق ؛ مبالغة ، والذي يظهر من قراءة ابن كثير : أنه عنده اسم صفة مخفّف من «فيعل» وذلك أنّه استغرب قراءته في مصدر هذا الفعل ، دون الفتح في سورة النّحل والنّمل ، فلو كان هذا عنده مصدرا ، لكان الظّاهر في قراءته الكسر كالموضعين المشار إليهما ، وهذا من محاسن علم النّحو والقراءات ، والخلاف الجاري هنا جار في الفرقان (٥).

وقال الكسائي : «الضّيّق بالتّشديد في الأجرام ، وبالتّخفيف في المعاني».

ووزن ضيّق : «فيعل» كميّت وسيّد عند جمهور النّحويّين ثم أدغم ، ويجوز تخفيفه كما تقدّم تحريره.

قال الفارسيّ : «والياء مثل الواو في الحذف وإن لم تعتلّ بالقلب كما اعتلّت الواو ، اتّبعت الياء الواو في هذا ؛ كما أتبعت في قولهم : «اتّسر» من اليسر ، فجعلت بمنزلة اتّعد».

وقال ابن الأنباريّ : «الذي يثقّل الياء يقول : وزنه من الفعل «فعيل» والأصل فيه ضييق على مثال كريم» و «نبيل» فجعلوا الياء الأولى ألفا ؛ لتحرّكها وانفتاح ما قبلها من حيث أعلّوا ضاق يضيق ، ثم أسقطوا الألف بسكونها وسكون ياء «فعيل» فأشفقوا من أن

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٧٤ ، السبعة ٢٦٨ ، الحجة لأبي زرعة ٢٧١ ، النشر ٢ / ٢٦٢ التبيان ١ / ٥٣٧.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٧٤.

(٣) الآية : ١٢٧.

(٤) الآية : ٧٠.

(٥) الآية : ١٣.

٤١٧

يلتبس «فعيل» ب «فعل» فزادوا ياء على الياء ليكمل بها بناء الحرف ، ويقع فيها فرق بين «فعيل» و «فعل».

والذين خفّفوا الياء قالوا : «أمن اللّبس ؛ لأنّه قد عرف أصل هذا الحرف ، فالثّقة بمعرفته مانعة من اللّبس».

وقال البصريون [وزنه من الفعل «فيعل» ، فأدغمت الياء في الّتي بعدها ، فشدّد ثم جاء التّخفيف ، قال : وقد ردّ الفرّاء وأصحابه هذا على البصريّين](١) وقالوا : «لا يعرف في كلام العرب اسم على وزن «فيعل» يعنون : بكسر العين ، إنما يعرف «فيعل» يعنون : بفتحها ، نحو : «صيقل» و «هيكل» فمتى ادّعى مدّع في اسم معتلّ ما لا يعرف في السّالم ، كانت دعواه مردودة» وقد تقدّم تحرير هذه الأقوال عند قوله ـ تبارك وتعالى ـ : (أَوْ كَصَيِّبٍ) [البقرة : ١٩] فليراجع ثمة.

وإذا قلنا : إنّه مخفّف من المشدّد ؛ فهل المحذوف الياء الأولى أو الثّانية؟ خلاف مرّت له نظائره.

وإذا كانت «يجعل» بمعنى : يخلق ، فيكون «ضيّقا» حالا ، وإن كانت بمعنى «سمّى» ، كانت مفعولا ثانيا ، والكلام عليه بالنّسبة إلى التّشديد والتّخفيف ، وتقدير المعاني كالكلام عليه أوّلا.

و «حرجا» و «حرجا» بفتح الرّاء وكسرها : هو المتزايد في الضّيق ، فهو أخصّ من الأوّل ، فكل حرج من غير عكس ، وعلى هذا فالمفتوح والمكسور بمعنى واحد ، يقال : «رجل حرج وحرج» قال الشّاعر : [الرجز]

٢٣٠٧ ـ لا حرج الصّدر ولا عنيف (٢)

قال الفراء (٣) ـ رحمه‌الله ـ : هو في كسره ونصبه بمنزلة «الوحد» و «الوحد» ، و «الفرد» و «الفرد» و «الدّنف» و «الدّنف».

وفرّق الزّجّاج (٤) والفارسيّ بينهما فقالا : «المفتوح مصدر ، والمكسور اسم فاعل».

قال الزّجّاج : «الحرج أضيق الضّيق ، فمن قال : رجل حرج ـ يعني بالفتح ـ فمعناه : ذو حرج في صدره ، ومن قال حرج ـ يعني بالكسر ـ جعله فاعلا ، وكذلك دنف ودنف».

وقال الفارسي : «من فتح الرّاء ، كان وصفا بالمصدر ، نحو : قمن وحرى ودنف ، ونحو ذلك من المصادر التي يوصف بها ، ولا تكون «كبطل» لأن اسم الفاعل في الأمر العام إنّما على فعل».

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر في اللسان (حرج) ، التهذيب (حرج) ، الدر المصون ٣ / ١٧٥.

(٣) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٥٤.

(٤) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣١٩.

٤١٨

ومن قرأ (١) «حرجا» ـ يعني بكسر الرّاء ـ فهو مثل «دنف وفرق بكسر العين».

وقيل : «الحرج» بالفتح جمع حرجة ؛ كقصبة وقصب ، والمكسور صفة ؛ كدنف وأصل المادّة من التّشابك وشدّة التّضايق ، فإنّ الحرجة غيضة من شجر السّلم ملتفة لا يقدر أحد أن يصل إليها.

قال العجّاج : [الرجز]

٢٣٠٨ ـ عاين حيّا كالحراج نعمه (٢)

الحراج : جمع حرج ، وحرج جمع حرجة ، ومن غريب ما يحكى : أن ابن عبّاس قرأ هذه الآية ، فقال : هل هنا أحد من بني بكر؟ فقال رجل : نعم ، قال : ما الحرجة فيكم؟ قال : الوادي الكثير الشّجر المستمسك ؛ الذي لا طريق فيه. فقال ابن عبّاس : «فهكذا قلب الكافر» هذه رواية عبيد بن عمير (٣). وقد حكى أبو الصّلت الثّقفي هذه الحكاية بأطول من هذا ، عن عمر بن الخطّاب ، فقال : قرأ عمر بن الخطّاب هذه الآية فقال : «ابغوني رجلا من بني كنانة ، واجعلوه راعيا» فأتوه به ، فقال له عمر : «يا فتى ما الحرجة فيكم»؟ قال : «الحرجة فينا الشّجرة تحدق بها الأشجار فلا تصل إليها راعية ولا وحشيّة». فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ : «وكذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيء من الخير» (٤).

وبعضهم يحكي هذه الحكاية عن عمر ـ رضي الله عنه ـ كالمنتصر لمن قرأ بالكسر قال : قرأها بعض أصحاب عمر له بالكسر ، فقال : «ابغوني رجلا من كنانة راعيا ، وليكن من بني مدلج». فأتوه به ، فقال : «يا فتى ، ما الحرجة تكون عندكم»؟ فقال : «شجرة تكون بين الأشجار لا يصل إليها راعية ولا وحشيّة». فقال : كذلك قلب الكافر ، لا يصل إليه شيء [من الخير](٥).

قال أبو حيّان (٦) : «وهذا تنبيه ـ والله أعلم ـ على اشتقاق الفعل من اسم العين «كاستنوق واستحجر».

قال شهاب الدين (٧) : ليس هذا من باب استنوق واستحجر في شيء ؛ لأن هذا معنى

__________________

(١) ينظر : الحجة لأبي زرعة ٢٧١ السبعة ٢٦٨ النشر ٢ / ٢٦٢ الحجة لابن خالويه ١٤٩ التبيان ١ / ٥٣٧ معاني القرآن للزجاج ٢ / ٣١٩.

(٢) ينظر : ديوانه ٤٣٤ ، اللسان (حرج) ، المنصف ٣ / ١٤ ، الدر المصون ٣ / ١٧٥ ، وبعده : يكون أقصى شلّه محرنجمه.

(٣) ذكره القرطبي (٧ / ٥٤).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٣٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٨٤) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ عن أبي الصلت الثقفي.

(٥) سقط في ب.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٢.

(٧) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٧٦.

٤١٩

مستقلّ ، ومادّة مستقلّة متصرّفة ، نحو : «حرج يحرج فهو حرج وحارج» بخلاف تيك الألفاظ ، فإنّ معناها يضطرّ فيه إلى الأخذ من الأسماء الجامدة ، فإن معنى قولك : استنوق الجمل ، أي : «صار كالنّاقة» ، واستحجر الطّين ، أي : «صار كالحجر» ، وليس لنا مادّة متصرّفة إلى صيغ الأفعال من لفظ الحجر والنّاقة ، وأنت إذا قلت : حرج صدره ليس بك ضرورة أن تقول : «صار كالحرجة» بل معناه : «تزايد ضيقه» ، وأما تشبيه عمر بن الخطّاب ، فلإبرازه المعاني في قوالب الأعيان ؛ مبالغة في البيان.

وقرأ (١) نافع وأبو بكر عن عاصم : «حرجا» بكسر الراء والباقون : بفتحها وقد عرفا ، فأمّا على قراءة الفتح ، فإن كان مصدرا ، جاءت فيه الأوجه الثلاثة المتقدّمة في نظائره ، وإن جعل صفة ، فلا تأويل.

ونصبه على القراءتين : إمّا على كونه نعتا ل «ضيّقا» ، وإمّا على كونه مفعولا به تعدّد ، وذلك أنّ الأفعال النّواسخ إذا دخلت على مبتدأ وخبر ، كان الخبران على حالهما ، فكما يجوز تعدّد الخبر مطلقا أو بتأويل في المبتدأ والخبر الصّريحين ، كذلك في المنسوخين حين تقول : «زيد كاتب شاعر فقيه» ثم تقول : ظننت زيدا كاتبا شاعرا فقيها ، فتقول : «زيدا» مفعول أوّل ، «كاتبا» مفعول ثان ، «شاعرا» مفعول ثالث ، «فقيها» مفعول رابع ؛ كما تقول : خبر ثان وثالث ورابع ولا يلزم من هذا أن يتعدّى الفعل لثلاثة ولا أربعة ؛ لأن ذلك بالنّسبة إلى تعدّد الألفاظ ، فليس هذا كقولك في : أعلمت زيدا عمرا فاضلا ، إذ المفعول الثّالث هناك ليس متكرّرا لشيء واحد ؛ وإنما بيّنت هذا لأن بعض النّاس وهم في فهمه ، وقد ظهر لك ممّا تقدّم أن قوله : (ضَيِّقاً حَرَجاً) ليس فيه تكرار.

وقال مكّي (٢) : «ومعنى حرج ـ يعني بالكسر ـ كمعنى ضيّق ، كرّر لاختلاف لفظه للتأكيد».

قال شهاب الدّين : إنما يكون للتأكيد حيث لم يظهر بينها فارق فتقول : كرّر لاختلاف اللّفظ ؛ كقوله : (صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) [البقرة : ١٥٧] وكقوله : [الوافر]

٢٣٠٩ ـ ..........

وألفى قولها كذبا ومينا (٣)

وقوله : [الطويل]

٢٣١٠ ـ ..........

وهند أتى من دونها النّأي والبعد (٤)

وأما هنا فقد تقدّم الفرق بينهما بالعموم والخصوص أو غير ذلك.

وقال أبو البقاء (٥) : «وقيل : هو جمع «حرجة» مثل قصبة وقصب ، والهاء فيه للمبالغة».

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٢٠ ، المحرر الوجيز ٢ / ٣٤٣ ، والدر المصون ٣ / ١٧٦.

(٢) ينظر : المشكل ١ / ٣٨٨.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٦٠.

٤٢٠