اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٢

وأمّا قراءة الحسن فمخفّفة من المضموم ، وقرأه أبيّ بالأصل وهو المفرد.

وأما قراءة طلحة فهو ظرف مقطوع عن الإضافة ، معناه : أو يأتي بالله والملائكة قبله ، ولكن كان ينبغي أن يبنى ؛ لأن الإضافة مرادة.

قوله : (ما كانُوا) جواب «لو» وقد تقدّم أنّه إذا كان منفيّا ، امتنعت اللّام.

وقال الحوفي : «التّقدير لما كانوا حذفت اللّام وهي مرادة» وهذا ليس بجيّد ؛ لأن الجواب المنفي ب «ما» يقلّ دخولها ، بل لا يجوز عند بعضهم ، والمنفي ب «لم» ممتنع ألبتّة.

وهذه اللّام لام الجحود جارّة للمصدر المؤوّل من «أن» والمنصوب بها ، وقد تقدّم تحقيقه ـ بعون الله تعالى ـ.

قوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) يجوز أن يكون متّصلا ، أي : ما كانوا ليؤمنوا في سائر الأحوال إلّا في حال مشيئة الله ، أو في سائر الأزمان إلا في زمان مشيئته.

وقيل : إنه استثناء من علّة عامّة ، أي : «ما كانوا ليؤمنوا لشيء من الأشياء إلّا لمشيئة الله تعالى».

والثاني : أن يكون منقطعا ، نقل ذلك الحوفيّ وأبو البقاء ، واستبعده أبو حيّان.

فصل في معنى الآية ودحض شبهة المعتزلة

معنى الآية الكريمة : أنه ـ تعالى ـ لو أظهر جميع تلك الأشياء العجيبة لهؤلاء الكفّار ؛ فإنّهم لا يؤمنون إلا أن يشاء الله إيمانهم.

قال أهل السّنّة (١) : فلمّا لم يؤمنوا دلّ على أنّه ـ تعالى ـ ما شاء منهم الإيمان ، وهذا نصّ في المسألة.

قالت المعتزلة (٢) : دلّ الدّليل على أنّه ـ تبارك وتعالى ـ أراد الإيمان من جميع الكفّار ، وذكر الجبّائيّ الوجوه المذكورة المشهورة.

أولها : أنّه ـ تبارك وتعالى ـ لو لم يرد منهم الإيمان ، لما أمرهم ، ولم يجب عليهم.

وثانيها : لو أراد الكفر من الكافر ، لكان الكافر مطيعا لله تعالى بفعل الكفر ، لجاز أن يأمر به.

وثالثها : لو جاز من الله أن يريد منهم الكفر ، لجاز أن يأمر به.

رابعها : لو جاز أن يريد منهم الكفر لجاز أنه يأمرنا بأن نريد منهم الكفر. قالوا :

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ١٢٣.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

٣٨١

فثبت بهذه الدلائل أنه تعالى ما شاء إلّا الإيمان منهم وظاهر هذه الآية يقتضي أنه تعالى ما شاء الإيمان منهم والتناقض بين الدلائل ممتنع ، فوجب الجمع ، وطريقه أن نقول : إنه ـ تبارك وتعالى ـ شاء من الكلّ الإيمان الذي يفعلونه على سبيل الاختيار ، وأنّه ـ تعالى ـ ما شاء منهم الإيمان على سبيل الإلجاء والقهر ، وبهذا الطّريق زال الإشكال ، وهذا كلام ضعيف من وجوه :

الأول : أن الإيمان الّذي سمّوه بالإيمان الاختياري إن عنوا به أنّ قدرته صالحة إلى الإيمان والكفر على السّويّة ، ثمّ إنه يصدر عنها الإيمان دون الكفر لا لداعية مرجّحة ، ولإرادة مميّزة ، فهذا قول برجحان أحد طرفي الممكن على الآخر ، لا لمرجّح وهو محال ، وأيضا : فبتقدير أن يكون ذلك معقولا في الجملة ، إلّا أنّ حصول ذلك الإيمان لا يكون منه ، بل يكون حادثا لا لسبب ولا مؤثّر أصلا ؛ لأن الحاصل هنا ليس إلّا القدرة ، وهي بالنّسبة إلى الضّدّين على السّويّة ، ولم يصدر من هذا القدر تخصيص لأحد الطّرفين على الآخر بالوقوع والرّجحان ، ثم إنّ أحد الطّرفين قد حصل بنفسه ، فهذا لا يكون صادرا منه ، بل يكون صادرا لا عن سبب ألبتّة ، وذلك يبطل القول بالفعل ، والفاعل ، والتّأثير والمؤثّر أصلا ، وذلك لا يقوله عاقل ، وأمّا إن كان هذا الذي سمّوه بالإيمان الاختياري ، هو أنّ قدرته وإن كانت صالحة للضّدّين ، إلّا أنّه لا تصير مصدرا للإيمان ، إلّا إذا انضمّ إلى تلك القدرة حصول داعية الإيمان ، فهذا قول بأن مصدر الإيمان هو مجموع القدرة مع الدّاعي ، وذلك المجموع موجب للإيمان ، فهذا عين ما يسمّونه بالجبر ، وأنتم تنكرونه ، فثبت أنّ هذا الّذي سمّوه بالإيمان الاختياريّ لم يحصل منه معنى معقول مفهوم ، وهذا كلام في غاية القوّة.

الوجه الثاني : سلّمنا أن الإيمان الاختياري متميّز عن الإيمان الحاصل بتكوين الله ـ تعالى ـ ، إلّا أنا نقول قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) وكذا (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) معناه : ما كانوا ليؤمنوا إيمانا اختياريّا ؛ بدليل أنّ عند ظهور هذه الأشياء لا يبعد أن يؤمنوا إيمانا على سبيل الإلجاء والقهر ، فثبت أن قوله : (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) على سبيل الاختيار ، ثمّ استثنى عنه ، وقال : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) والمستثنى يجب أن يكون من جنس المستثنى منه ، والإيمان الحاصل بالإلجاء والقهر ليس من جنس الإيمان الاختياريّ ، فثبت أنّه لا يجوز أن يكون المراد منه الإيمان الاختياريّ ؛ وحينئذ يتوجّه دليل أهل السّنّة ، وتسقط أقوال المعتزلة.

فصل في دحض شبهة المعتزلة

قال الجبّائي (١) : قوله ـ تبارك وتعالى ـ : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) يدلّ على حدوث

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ١٢٤.

٣٨٢

المشيئة ؛ لأنّها لو كانت قديمة لم يجز أن يقال ذلك ، كما لا يقال : لا يذهب زيد إلى البصرة ، إلّا أن يوحّد الله ، وتقريره : أنّا إذا قلنا لا يكون كذا إلّا أن يشاء الله ، فهذا يقتضي تعليق حدوث هذا الجزاء على حصول المشيئة ، فلو كانت المشيئة قديمة ، لكان الشّرط قديما ، ويلزم من حصول الشّرط ، حصول المشروط ، فيلزم كون الجزاء قديما ، والحس على أنّه محدث ، فوجب كون الشّرط حادثا ، وإذا كان الشّرط هو المشيئة لزم القول بكون المشيئة حادثة.

والجواب أنّ المشيئة وإن كانت قديمة ، إلّا أنّ تعلّقها بإحداث ذلك المحدث في الحال ، إضافة حادثة وهذا القدر يكفي لصحّة هذا الكلام. ثمّ قال ـ تعالى ـ : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) أي : يجهلون بأنّ الكلّ من قضاء الله وبقضائه وقدره.

وقالت (١) المعتزلة : المراد : أنّهم جهلوا أنهم يبقون كفّارا عند ظهور الآيات الّتي طلبوها ، والمعجزات التي اقترحوها وكان أكثرهم يظنّون ذلك.

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ)(١١٢)

الكاف في «كذلك» في محلّ نصب ، نعتا لمصدر محذوف ، فقدّره الزّمخشري : «كما خلّينا بينك وبين أعدائك ، كذلك فعلّنا بمن قبلك».

وقال الواحدي : «وكذلك» منسوق على قوله : «و (كَذلِكَ زَيَّنَّا) أي : فعلنا ذلك كذلك (جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) ، ثم قال : وقيل : معناه جعلنا لك عدوّا كما جعلنا لمن قبلك من الأنبياء ، فيكون قوله : «وكذلك» عطفا على معنى ما تقدّم من الكلام ، وما تقدّم يدلّ معناه على أنّه جعل له أعداء [والمراد : تسلية النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : كما ابتليت بهؤلاء القوم ، فكذلك جعلنا لكلّ نبيّ قبلك أعداء](٢).

و «جعل» يتعدى لاثنين بمعنى : صيّر. وأعرب الزّمخشري ، وأبو البقاء (٣) والحوفي هنا نحو إعرابهم في قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) [الأنعام : ١٠٠] فيكون المفعول الأول «شياطين الإنس» ، والثاني «عدوا» ، و «لكلّ» : حال من «عدوا» لأنّه صفته في الأصل ، أو متعلّق بالجعل قبله ، ويجوز أن يكون المفعول الأول «عدوّا» و «لكلّ» هو الثّاني قدّم ، و «شياطين» : بدل من المفعول الأوّل.

والإضافة في : «شياطين الإنس» يحتمل أن تكون من باب إضافة الصّفة لموصوفها ، والأصل : الإنس والجن الشّياطين ، نحو : جرد قطيفة ، ورجّحته ؛ بأنّ المقصود : التّسلّي والاتّساء بمن سبق من الأنبياء ، إذ كان في أممهم من يعادلهم ، كما في أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ١٢٥.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٨.

٣٨٣

ويحتمل أن تكون من الإضافة الّتي بمعنى اللام ، وليست من باب إضافة صفة لموصوف ، والمعنى : الشّياطين التي للإنس ، والشّياطين التي للجنّ ، فإن إبليس قسّم جنده قسمين : قسم متسلّط على الإنس ، وآخر على الجنّ ، كذا جاء في التّفسير. ووقع «عدوا» مفعولا ثانيا ل «شياطين» على أحد الإعرابين بلفظ الإفراد ؛ لأنّه يكتفى به في ذلك ، وتقدّم شواهده ، ومنه ما أنشده ابن الأنباري: [الطويل]

٢٢٨٦ ـ إذا أنا لم أنفع صديقي بودّه

فإنّ عدوّي لن يضرّهم بغضي (١)

فأعاد الضّمير من «يضرّهم» على «عدوّ» فدل على جمعيّته ؛ وكقوله تعالى : (ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) [الذاريات : ٢٤] ، (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا) [النور : ٣١] (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [العصر : ٢ ، ٣].

وقيل لا حاجة إلى هذا التّكليف ، والتّقدير وكذلك جعلنا لكلّ واحد من الأنبياء عدوّا واحدا ، إذ لا يجب أن يكون لكلّ واحد من الأنبياء أكثر من عدوّ واحد.

فصل في دلالة الآية

دلّ ظاهر قوله ـ تعالى ـ : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) على أنّه ـ تبارك وتعالى ـ هو الذي جعل أولئك الأعداء أعداء للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا شكّ أن تلك العداوة معصية وكفر ، فهذا يقتضي أن خالق الخير ، والشّر ، والطّاعة ، والمعصية ، والإيمان والكفر هو الله تعالى.

وأجاب الجبّائي (٢) عنه ؛ بأن المراد من هذا الجعل : الحكم والبيان فإن الرّجل إذا حكم بكفر إنسان ، قيل : إنه كفّره ، وإذا أخبر عن عدالته ، قيل إنه عدّله ، فكذا ههنا أنّه ـ تعالى ـ لما بيّن للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ كونهم أعداء له لا جرم قال : إنّه جعلهم أعداء له وأجاب الأصمّ (٣) : بأنه ـ تعالى ـ لما أرسل محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى العالمين ، وخصّه بتلك المعجزات ، حسدوه ، وصار ذلك الحسد سببا للعداوة القويّة فلهذا قال إنّه ـ تعالى ـ : جعلهم أعداء له ونظيره قول المتنبّي : [الطويل]

٢٢٨٧ ـ ..........

وأنت الّذي صيّرتهم [لي] حسّدا (٤)

وأجاب الكعبي (٥) عنه : بأنّه ـ تبارك وتعالى ـ أمر الأنبياء بعداوتهم ، وأعلمهم

__________________

(١) ينظر : البيت في تفسير الفخر الرازي ١٣ / ١٥٤ ، البحر ٤ / ٢٠٩ ، الدر المصون ٣ / ١٦٠.

(٢) ينظر : الرازي ١٣ / ١٢٥.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) عجز بيت وصدره :

أزل حسد الحساد عني بكبتهم

ينظر : ديوان المتنبي ٢ / ١٢٦ ، والفخر الرازي ١٣ / ١٢٤.

(٥) ينظر : الرازي ١٣ / ١٢٥.

٣٨٤

كونهم أعداء له ، وذلك يقتضي صيرورتهم أعداء للأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ؛ لأنّ العداوة لا تحصل إلّا من الجانبين ، فلهذا جاز أن يقال : إنه ـ تعالى ـ جعلهم أعداء للأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ.

وهذه أجوبة ضعيفة لما تقدّم أنّ الأفعال مسندة إلى الدّواعي ، وهي حادثة من قبل الله ـ تعالى ـ ، وإذا كان كذلك ، صحّ مذهبنا ، ثم ههنا بحث آخر ، وهو أنّ العداوة ، والصداقة يمتنع أن تحصل باختيار الإنسان ؛ فإن الرّجل قد يبلغ في عداوة غيره إلى حيث لا يقدر ألبتّة على إزالة تلك الحالة عن قلبه ، بل قد لا يقدر على إخفاء آثار تلك العداوة ، ولو أتى بكل تكلّف وحيلة ، لعجز عنه ، ولو كان حصول العداوة والصّداقة في القلب باختيار الإنسان ، لوجب أن يكون الإنسان متمكنا من قلب العداوة بالصّداقة ، وبالعكس ، فكيف لا ، والشّعراء عرفوا أنّ ذلك خارج عن الوسع قال المتنبّي : [المتقارب]

٢٢٨٨ ـ يراد من القلب نسيانكم

وتأبى الطّباع على النّاقل (١)

والعاشق الّذي يشتد عشقه [قد] يحتال بجميع الحيل في إزالة عشقه ، ولا يقدر عليه ، ولو كان حصول ذلك الحبّ والبغض باختياره ، لما عجز عن إزالته.

فصل في معنى الآية

قال عكرمة ، والضّحّاك ، والكلبي (٢) : المعنى : شياطين الإنس الّتي مع شياطين الجنّ ، وذلك أنّ إبليس قسّم جنده فريقين ، فبعث فريقا منهم إلى الإنس ، وفريقا إلى الجنّ ، وكلا الفريقين أعداء للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأوليائه ، وهم يلتقون في كل حين ، فيقول شيطان الإنس لشيطان الجنّ : أضللت صاحبي بكذا ، فأضلل صاحبك بمثله ، ويقول شيطان الجن لشيطان الإنس كذلك. فلذلك وصّى بعضهم إلى بعض.

وقال قتادة ، ومجاهد ، والحسن : إن من الإنس شياطين ، كما أن من الجنّ شياطين (٣) ، والشّيطان الثّاني المتمرد من كلّ شيء.

قالوا : إن الشّيطان إذا أعياه المؤمن ، وعجز عن إغوائه ، ذهب إلى متمرّد من الإنس ، وهو شيطان الإنس ، فأغراه بالمؤمن ليفتنه ، يدلّ عليه ما روي عن أبي ذرّ ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل تعوّذت بالله من شياطين الجنّ والإنس ، قلت يا رسول الله ، وهل للإنس من شياطين ، قال: نعم ، هم شرّ من شياطين الجن (٤).

__________________

(١) ينظر : ديوان المتنبي ٢ / ١٧. والفخر الرازي ١٣ / ١٢٦.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٧ / ٤٥).

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٧٤) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر.

وذكره القرطبي في «تفسيره» (٧ / ٤٥) عن ابن عباس وضعفه.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣١٤ ـ ٣١٥) وأحمد (٥ / ١٧٨) من حديث أبي ذر.

وذكره ابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٣١٢) وقال : هذا فيه انقطاع.

٣٨٥

وقال مالك بن دينار : إن شياطين الإنس أشد عليّ من شياطين الجنّ ، وذلك أنّي إذا تعوّذت بالله ، ذهب عني شيطان الجنّ ، وشيطان الإنس يجيبني ، فيجرّني إلى المعاصي (١).

قوله : «يوحي» يحتمل أن يكون مستأنفا ، أخبر عنهم بذلك ، وأن يكون حالا من «شياطين» وأن يكون وصفا ل «عدوّا» وقد تقدّم أنه واقع موقع أعداء ، فلذلك عاد الضّمير عليه جمعا في قوله «بعضهم» انتهى.

فصل في معنى قوله : «يوحي»

الوحي : هو عبارة عن الإيماء ، والقول السّريع ، والزّخرف هو الذي يكون باطنه باطلا ، وظاهر مزيّنا ، يقال : فلان يزخرف كلامه ، إذا زيّنه بالباطل والكذب ، وكلّ شيء حسن مموّه ، فهو مزخرف والزّخرف : الزّينة ، وكلام مزخرف ، [أي] : منمّق ، وأصله الذّهب ، ولما كان الذّهب معجب لكل أحد ، قيل لكل مستحسن مزين : زخرف.

وقال أبو عبيدة : كل ما حسّنته ، وزيّنته ، وهو باطل : فهو زخرف ، وهذا لا يلزم ، إذ قد يطلق على ما هو زينة حقّ ، وبيت مزخرف ، أي : مزيّن بالنّقش ، ومنه الحديث : أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يدخل الكعبة حتى أمر بالزّخرف فنحّي يعني : أنهم كانوا يزيّنون الكعبة بنقوش وتصاوير مموّهة بالذّهب ، فأمر بإخراجها.

قوله : «غرورا» قيل : نصب على المفعول له ، أي : لا يغرّوا غيرهم.

وقيل : هو مصدر في موضع الحال ، أي : غارّين ، وأن يكون منصوبا على المصدر ؛ لأن العامل فيه بمعناه ، كأنه قيل : «يغرّون غرورا بالوحي».

قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) ما ألقوه من الوسوسة في القلوب ، وقد تقدّم الكلام في المشيئة ومدلولها مع المعتزلة.

قوله : (وَما يَفْتَرُونَ) «ما» موصولة اسميّة ، أو نكرة موصوفة ، والعائد على كلا هذين القولين محذوف ، أي : «وما يفترونه» أو مصدريّة ، وعلى كلّ قول فمحلّها نصب ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنها نسق على المفعول في : «فذرهم» أي : اتركهم ، واترك افتراءهم.

والثاني : أنّها مفعول معه ، وهو مرجوح ؛ لأنه متى أمكن العطف من غير ضعف في التركيب ، أو في المعنى ، كان أولى من المفعول معه.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ يريد بقوله : (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) : ما زيّن لهم إبليس وغرّهم (٢).

__________________

(١) ذكره أبو حيان في «البحر المحيط» ٤ / ٢١٠.

(٢) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (١٣ / ١٢٨) وكذلك أبو حيان في «البحر المحيط» (٤ / ٢١٠).

٣٨٦

قوله تعالى : (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ)(١١٣)

في هذه اللّام ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها لام «كي» والفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» وفيما يتعلّق به احتمالان :

الاحتمال الأول : أن يتعلّق ب «يوحي» على أنّها نسق على «غرورا» و «غرورا» مفعول له ، والتقدير : «يوحي بعضهم إلى بعض للغرور وللصّغو» ، ولكن لما كان المفعول له الأوّل مستكملا لشروط النّصب ، نصب ، ولما كان هذا غير مستكمل للشّروط ، وصل الفعل إليه بحرف العلّة ، وقد فاته من الشّروط كونه لم يتّحد فيه الفاعل ، فإنّ فاعل الوحي : «بعضهم» ، وفاعل الصّغو : «الأفئدة» وفات أيضا من الشّروط صريح المصدريّة.

والاحتمال الثاني : أن يتعلّق بمحذوف متأخّر بعدها ، فقدّره الزّجّاج : ولتصغى إليه فعلوا ذلك ، وكذا قدّره الزّمخشري ، فقال : ولتصغى جوابه محذوف ، تقديره : وليكون ذلك جعلنا لكلّ نبي عدوا على أن اللّام لام الصّيرورة.

والوجه الثاني : أن اللّام لام الصّيرورة وهي الّتي يعبّرون عنها بلام العاقبة ، وهو رأي الزّمخشري ، كما تقدّم حكايته عنه.

الوجه الثالث : أنها لام القسم.

قال أبو البقاء (١) : «إلا أنّها كسرت لمّا لم يؤكد الفعل بالنّون» وما قاله غير معروف ، بل المعروف في هذا القول : أنّ هذه لام كي ، وهي جواب قسم محذوف ، تقديره : والله لتصغى فوضع «لتصغى» موضع «لتصغينّ» فصار جواب القسم من قبيل المفرد ؛ كقولك : «والله ليقوم زيد» أي : «أحلف بالله لقيام زيد» هذا مذهب الأخفش وأنشد : [الطويل]

٢٢٨٩ ـ إذا قلت قدني قال بالله حلفة

لتغني عنّي ذا إنائك أجمعا (٢)

فقوله : «لتغني» جواب القسم ، فقد ظهر أن هذا القائل يقول بكونها لام كي ، غاية

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٨.

(٢) البيت لحريث بن عناب.

ينظر : خزانة الأدب ١١ / ٤٣٤ ، ٤٣٥ ، ٤٣٩ ، ٤٤١ ، ٤٤٣ ، الدرر ٤ / ٢١٧ ، مجالس ثعلب ص (٦٠٦) ، المقاصد النحوية ١ / ٣٥٤ ، تخليص الشواهد ص (١٠٧) ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص (٥٥٩) ، شرح شواهد المغني ٢ / ٥٥٩ ، ٨٣٠ ، شرح المفصل ٣ / ٨ ، مغني اللبيب ١ / ٢١٠ ، المقرب ٢ / ٧٧ ، همع الهوامع ٢ / ٢٠٤١ الدر المصون ٣ / ١٦٢.

٣٨٧

ما في الباب أنّها وقعت موقع جواب القسم لا أنّها جواب بنفسها ، وكسرت لمّا حذفت منها نون التّوكيد ، ويدلّ على فساد ذلك ، أنّ النّون قد حذفت ، ولام الجواب باقية على فتحها ، قال القائل في ذلك : [الطويل]

٢٢٩٠ ـ لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم

ليعلم ربّي أنّ بيتي واسع (١)

فقوله : «ليعلم» جواب القسم الموطّأ له باللّام في «لئن» ومع ذلك فهي مفتوحة مع حذف نون التّوكيد.

والضّمير في قوله : (ما فَعَلُوهُ) وفي : «إليه» يعود : إمّا على الوحي ، وإمّا على الزّخرف ، وإما على القول ، وإمّا على الغرور ، وإمّا على العداوة ؛ لأنّها بمعنى : التّعادي. ولتصغى أي تميل وهذه المادّة تدل على الميل ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٥] ، وفي الحديث : «فأصغى لها الإناء» (٢) وصاغية الرجل : قرابته الّذين يميلون إليه ، وعين صغوى أي : مائلة ، قال الأعشى : [الطويل]

٢٢٩١ ـ ترى عينها صغواء في جنب مؤقها

تراقب في كفّي القطيع المحرّما (٣)

والصّغا : ميل في الحنك والعين ، وصغت الشمس والنجوم : أي مالت للغروب.

ويقال : «صغوت ، وصغيت ، وصغيت» فاللّام واو أو ياء ، ومع الياء تكسر عين الماضي وتفتح.

قال أبو حيّان (٤) : «فمصدر الأوّل صغو ، والثّاني صغي والثالث صغا ، ومضارعها يصغى بفتح العين».

قال شهاب الدّين (٥) : قد حكى الأصمعيّ في مصدر صغا يصغو صغا ، فليس «صغا» مختصا بكونه مصدرا ل «صغي» بالكسر.

وزاد الفرّاء : «صغيا» و «صغوا» بالياء والواو مشدّدتين ، وأما قوله : «ومضارعها ، أي مضارع الأفعال الثلاثة : يصغى بفتح الغين» فقد حكى أبو عبيد عن الكسائي : صغوت أصغو ، وكذا ابن السّكّيت حكى : صغوت أصغو ، فقد خالفوا بين مضارعها ، وصغوت أصغو هو القياس الفاشي ، فإن فعل المعتل اللّام بالواو قياس مضارعه : يفعل بضمّ العين.

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه أبو داود (١ / ٦٠) كتاب الطهارة : باب سؤر الهرة حديث (٧٥) والترمذي (١ / ١٥٣ ـ ١٥٤) كتاب الطهارة : باب سؤر الهرة ـ حديث (٩٢) والنسائي (١ / ٥٥) كتاب الطهارة : باب سؤر الهرة وابن ماجه (١ / ١٣١) كتاب الطهارة : باب الوضوء بسؤر الهرة حديث (٣٦٧) وأحمد (٥ / ٣٠٣) من حديث أبي قتادة وقال الترمذي : حسن صحيح.

(٣) ينظر : ديوانه ص (٣٤٥) ، التهذيب ٨ / ١٥٩ (صغا) شرح القصائد العشر (٣٤٢) ، اللسان (صغا) ، الدر المصون ٣ / ١٦٢.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢١١.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٦٢.

٣٨٨

وقال أبو حيّان أيضا : «وهي ـ يعني الأفعال الثلاثة ـ لازمة» أي : لا تتعدّى ، وأصغى مثلها لازم ، ويأتي متعدّيا ، فتكون الهمزة للنّقل ، وأنشد على «أصغى» اللّازم قول الشاعر : [البسيط]

٢٢٩٢ ـ ترى السّفيه به عن كلّ محكمة

زيغ وفيه إلى التّشبيه إصغاء (١)

قال شهاب الدّين : ومثله قول الآخر : [البسيط]

٢٢٩٣ ـ تصغي إذا شدّها بالرّحل جانحة

حتّى إذا استوى في غرزها تثب (٢)

وتقول : أصغى فلان بأذنه إلى فلان ، وأنشد على «أصغى» المتعدّي قول الآخر : [البسيط]

٢٢٩٤ ـ أصاخ من نبأة أصغى لها أذنا

صماخها بدخيس الذّوق مستور (٣)

وفي الحديث : «فأصغى لها الإناء» وهذا الذي زعمه من كون صغى ، أو صغى ، أو صغا يكون لازما غير موافق عليه ، بل قد حكى الرّاغب (٤) أنه يقال : صغيت الإناء وأصغيته [وصغيت بكسر الغين] يحتمل أن يكون من ذوات الياء ، ويحتمل أن يكون من ذوات الواو ، وإنّما قلبت الواو ياء ؛ لانكسار ما قبلها ؛ كقوي ، وهو من القوّة.

وقراءة (٥) النّخعي ، والجرّاح بن عبد الله : «ولتصغى» من أصغى رباعيا وهو هنا لازم.

وقرأ الحسن : «ولتصغى وليرضوه وليقترفوا» بسكون اللّام في الثّلاثة ، وقال أبو عمرو الداني : «قراءة الحسن إنّما هو : «ولتصغي» بكسر الغين».

قال شهاب الدّين (٦) : فتكون كقراءة النّخعيّ.

وقيل : قرأ الحسن : «ولتصغي» بكسر اللّام كالعامّة ، وليرضوه وليقترفوا بسكون اللّام ، وخرّجوا تسكين اللّام على أحد وجهين : إمّا أنها لام كي ، وإنّما سكّنت إجراء لها مع ما بعدها مجرى كبد ، ونمر.

__________________

(١) ينظر البيت في تفسير القرطبي ٧ / ٤٦ ، تفسير الطبري ٥ / ٣١٨ ، اللسان (صغا) ، الدر المصون ٣ / ١٦٣ ورواية اللسان : «عن كل مكرمة» بدل «عن كلّ محكمة».

(٢) البيت لذي الرمة في ديوانه ص (٤٨) ، شرح أبيات سيبويه ٢ / ١١٩ ، شرح المفصل ٤ / ٩٧ ، ٧ / ٤٧ ، الكتاب ٣ / ٦٠ ، لسان العرب (صغا) ، (عجل) ، جمهرة اللغة ص (٧٠٦) ، مجاز القرآن ١ / ٢٠٥ ، التهذيب ٨ / ١٦٠ (صغا) ، الدر المصون ٣ / ١٦٣.

وفي اللسان : «بالكور» بدل «بالرحل».

(٣) البيت للنابغة الذبياني ينظر : ديوانه ٧٢ ، البحر المحيط ٤ / ٢٠٨ ، الدر المصون ٣ / ١٦٣.

(٤) ينظر : المفردات ٢٨٢.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٦٣. المحتسب ١ / ٢٢٧ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٨.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٦٣.

٣٨٩

قال ابن جنّي : «وهو قويّ في القياس ، شاذّ في السّماع».

والثاني : أنّها لام الأمر ، وهذا وإن تمشّى في (لِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا) فلا يتمشّى في : (وَلِتَصْغى) إذ حرف العلة يحذف جزما.

قال أبو البقاء (١) : «وليست لام الأمر ؛ لأنه لم يجزم الفعل».

قال شهاب الدّين : قد ثبت حرف العلّة جزما في المتواتر ، فمنها : (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) [يوسف : ١٢] (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ) [يوسف : ٩٠] (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى : ٦] (لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) [طه : ٧٧] وفي كلّ ذلك تأويلات ستقف عليها ـ إن شاء الله تعالى ـ فلتكن هذه القراءة الشّاذّة مثل هذه المواضع ، والقول بكون لام «لتصغى» لام «كي» سكّنت ؛ لتوالي الحركات واللّامين بعدها لامي أمر بعيد وتشه.

وقال النّحّاس (٢) : ويقرأ : «وليقترفوا» يعني بالسّكون ، قال : «وفيه معنى التّهديد».

يريد : أنّه أمر تهديد ؛ كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] ، ولم يحك التّسكين في «لتصغى» ، ولا في «ليرضوه».

و «ما» في (ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) موصولة اسميّة ، أو نكرة موصوفة مصدريّة ، والعائد على كلا القولين الأولين محذوف ، أي : «ما هم مقترفوه».

[و] قال أبو البقاء (٣) : «وأثبت النّون لما حذفت الهاء» يريد : أن الضّمير المتّصل باسم الفاعل المثنّى والمجموع على حدّه ، تحذف له نون التّثنية والجمع ، نحو : «هذان ضارباه» و «هؤلاء ضاربوه» فإذا حذف الضّمير زال الموجب ، فتعود النّون ، وهذا هو الأكثر ، أعني : حذف النّون مع اتّصال الضّمير ، وقد ثبتت ؛ قال القائل : [الطويل]

٢٢٩٥ ـ ولم يرتفق والنّاس محتضرونه

جميعا وأيدي المعتفين رواهقه (٤)

وقال القائل في ذلك : [الطويل]

٢٢٩٦ ـ هم الفاعلون الخير والآمرونه

 .......... (٥)

والاقتراف : الاكتساب ، واقترف فلان لأهله ، أي : اكتسب ، وأكثر ما يقال في الشّرّ والذّنب ، ويطلق في الخير ، قال ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) [الشورى : ٢٣].

وقال ابن الأنباريّ : «قرف واقترف : اكتسب» وأنشد في ذلك : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٨.

(٢) ينظر : إعراب القرآن ١ / ٥٧٦.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٨.

(٤) تقدم.

(٥) تقدم.

٣٩٠

٢٢٩٧ ـ وإنّي لآت ما أتيت وإنّني

لما اقترفت نفسي عليّ لراهب (١)

وأصل القرف والاقتراف : قشر لحاء الشّجر ، والجلدة من أعلى الحرج وما يؤخذ منه قرف ، ثمّ استعير الاقتراف للاكتساب حسنا كان ، أو سيّئا وفي السيّىء أكثر استعمالا وقارف فلان أمرا : تعاطى ما يعاب به.

وقيل : الاعتراف يزيل الاقتراف ، ورجل مقرف ، أي : هجين ، قال الشّاعر : [الرمل]

٢٢٩٨ ـ كم بجود مقرف نال العلى

وشريف بخله قد وضعه (٢)

وقرفته بكذا : اتّهمته ، أو عبته به ، وقارف الذّنب وعبره ، إذا أتاه ولا صقه ، وقارف امرأته ، إذا جامعها ، والمقترف من الخيل : الهجين ، وهو الّذي أمّه برذونة ، وأبوه عربيّ.

وقيل : بالعكس.

وقيل : هو الّذي دان الهجنة وقارفها ، ومن حديث عمر ـ رضي الله عنه ـ : كتب إلى أبي موسى في البراذين ما قارف العتاق منها ، فأجعل له منهما واحدا ، أي : قاربها وداناها ، نقله ابن الأثير.

فصل في تقدير الآية

قال ابن الخطيب [قال أصحابنا](٣) تقدير الآية الكريمة : وكذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدوّا من شياطين الجنّ والإنس ، وصفته : أنّه يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ، وإنّما فعلنا ذلك لتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة أي : أوجدنا العداوة في قلب الشّياطين الذين من صفتهم ما ذكرناه ، ليكون كلامهم المزخرف مقبولا عند هؤلاء الكفّار.

قالوا : وإذ حملنا الآية على هذا الوجه ، يظهر أنّه ـ تبارك وتعالى ـ يريد الكفر من الكافر.

أجاب المعتزلة عنه من ثلاثة أوجه :

الأول : قال الجبّائي (٤) : إن هذا الكلام خرج مخرج الأمر ، ومعناه : الزّجر ؛ كقوله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ) [الإسراء : ٦٤] وكذا قوله : (وَلِيَرْضَوْهُ ، وَلِيَقْتَرِفُوا) وتقدير الكلام : كأنّه قال للرّسول ـ عليه‌السلام ـ : «فذرهم

__________________

(١) البيت للبيد ينظر : ملحق ديوانه (٢٢١) الدر المصون ٣ / ١٦٤.

(٢) البيت لأنس بن زنيم وينسب لأبي الأسود الدؤلي ينظر البيت في : الكتاب ١ / ٦٧ ، المقتضب ٣ / ٦١ ، ابن يعيش ٤ / ١٣٢ ، الإنصاف ١ / ٣٠٣ ، الدر المصون ٣ / ١٦٤.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر : الرازي ١٣ / ١٢٨.

٣٩١

وما يفترون» ثم قال لهم على سبيل التّهدي د «ولتصغى إليه أفئدتهم ، (وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ).

الوجه الثاني : قال الكعبي (١) إنّ هذه اللّام لام العاقبة ، أي : ستئول عاقبة أمرهم إلى هذه الأحوال.

قال القاضي (٢) : ويبعد أن يقال : هذه العاقبة تحصل في الآخرة ؛ لأن الإلجاء حاصل في الآخرة.

قال : فلا يجوز أن تميل قلوب الكفّار إلى قبول المذهب الباطل ، ولا أن يرضوه ، ولا أن يقترفوا الذّنوب ، بل يجب أن تحمل على أنّ عاقبة أمرهم في الدّنيا تئول إلى أن يقبلوا الأباطيل ، ويرضوا بها ، ويعملوا بها.

الوجه الثالث : وهو الذي اختاره (٣) أبو مسلم ، قال : اللّام في قوله : (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ) متعلّق بقوله : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) والتّقدير : أن بعضهم يوحي إلى بعض زخرف القول ليغرّوا بذلك ، (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا) الذّنوب ، ويكون المراد أنّ مقصود الشّياطين من ذلك الإيحاء : هو مجموع هذه المعاني.

والجواب عمّا ذكره الجبّائي من وجوه ، ذكرها القاضي :

أحدها : أن الواو في قوله : «ولتصغى» تقتضي تعلّقه بما قبله ، فحمله على الابتداء بعيد.

وثانيها : أن اللّام في قوله : «ولتصغى» لام كي ، فيبعد أن يقال إنّه لام الأمر ، ويقرب ذلك من أن يكون تحريفا لكلام الله ـ تعالى ـ ، وأنه لا يجوز ، وأمّا قول الكعبي : بأنّها لام العاقبة ، فضعيف ؛ لأنهم أجمعوا على أن هذا مجاز ، وحمله على «كي» حقيقة أولى ، وأمّا قول أبي مسلم ، فهو أحسنها ، إلّا أن قوله : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) يقتضي أن يكون الغرض من ذلك الايحاء : هو التّغرير ، وإذا عطّفنا عليه قوله : (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ) فهذا أيضا عين التغرير ، لا معنى التغرير ؛ لأنه يستميل إلى ما يكون باطنه قبيحا ، وظاهره حسنا.

قوله : (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ) عين هذه الاستمالة ، فلو عطفنا عليه ، لزم أن يكون المعطوف عين المعطوف عليه ، وأنّه لا يجوز ، أمّا إذا قلنا : تقدير الكلام : وكذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدوّا من شأنه أن يوحي زخرف القول ؛ لأجل التّغرير ، وإنما جعلنا مثل هذا الشّخص عدوّا للنّبي ؛ لتصغى إليه أفئدة الكفّار ، فيبعدوا بذلك السّبب عن قبول دعوة ذلك النّبيّ ، وحينئذ لا يلزم منه عطف الشّيء على نفسه ، فما ذكرناه أولى.

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ١٢٩.

٣٩٢

فصل في معنى الإنسان

قالوا : الإنسان شيء مغاير للبدن ، ثم اختلفوا : منهم من قال : المتعلّق الأوّل هو القلب ، وبواسطته تتعلّق النّفس ؛ كسائر الأعضاء ، كالدّماغ ، والكبد ، ومنهم من قال : القلب متعلّق النّفس الحيوانيّة ، والدّماغ متعلّق النّفس النّاطقة ، والكبد متعلّق النّفس الطّبيعيّة ، والأوّلون تمسّكوا بهذه الآية الكريمة ؛ فإنه ـ تبارك وتعالى ـ جعل محلّ الصّغى الذي هو عبارة عن الميل والإرادة : القلب ، فدلّ على أنّ متعلّق النّفس : القلب.

قوله تعالى : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)(١١٤)

لمّا حكى عن الكفّار أنّهم أقسموا بالله جهد أيمانهم ، لئن جاءتهم آية ، ليؤمننّ بها ، وأجاب عنه : بأنه لا فائدة في إظهار تلك الآيات ؛ لأنّه ـ تعالى ـ لو أظهرها ، لبقوا مصرّين على كفرهم ، بيّن في هذه الآية أنّ الدّليل الدّال على نبوته ، قد حصل فكلّ ما طلبوه من الزّيادة ، لا يجب الالتفات إليه.

قوله : «أفغير» يجوز نصب «غير» من وجهين :

أحدهما : أنّه مفعول ل «أبتغي» مقدّما عليه ، وولي الهمزة لما تقدّم في قوله : (أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) [الأنعام : ١٤] ويكون «حكما» حينئذ : إمّا حالا ، وإمّا تمييزا ل «غير» ذكره الحوفيّ ، وأبو البقاء (١) ، وابن عطيّة (٢) ؛ كقولهم : «إنّ لنا غيرها إبلا».

الثاني : أن ينتصب «غير» على الحال من «حكما» لأنّه في الأصل يجوز أن يكون وصفا له ، و «حكما» هذا المفعول به ؛ فتحصّل في نصب «غير» وجهان ، وفي نصب «حكما» ثلاثة أوجه : كونه حالا ، أو مفعولا ، أو تمييزا. والحكم أبلغ من الحاكم.

قيل : لأنّ الحكم من تكررّ منه الحكم ، بخلاف الحاكم ، فإنه يصدّق غيره.

وقيل : لأنّ الحكم لا يحكم إلا بالعدل ، والحاكم قد يجور ، ومعنى الآية الكريمة : قل لهم يا محمّد : أفغير الله أطلب قاضيا بيني وبينكم ، وذلك أنّهم كانوا يقولون للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اجعل بيننا وبينك حكما ، فأجابهم به.

قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ) هذه الجملة في محلّ نصب على الحال من فاعل : «أبتغي» ، و «مفصّلا» : حال من «الكتاب» أي مبيّنا فيه أمره ونهيه ، والمراد بالكتاب : القرآن العظيم ، وقيل «مفصّلا» أي : خمسا خمسا ، وعشرا عشرا ، كما قال : (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) [الفرقان : ٣٢].

وقوله : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) : مبتدأ ، «ويعلمون» : خبره ، والجملة مستأنفة ،

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٩.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٣٧.

٣٩٣

والمراد بهم : علماء اليهود والنّصارى الذين آتيناهم التّوراة والإنجيل.

وقيل : هم مؤمنوا أهل الكتاب ، وقال عطاء : رؤساء أصحاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) والمراد بالكتاب: القرآن العظيم ، يعلمون أنه منزّل.

قرأ (٢) ابن عامر ، وحفص عن عاصم : (مُنَزَّلٌ) بتشديد الزّاي ، والباقون بتخفيفها ، وقد تقدّم : أنّ أنزل ونزّل لغتان ، أو بينهما فرق ، و (مِنْ رَبِّكَ) لابتداء الغاية مجازا ، و «بالحقّ» حال من الضّمير المستكنّ في «منزّل» أي : ملتبسا بالحقّ ، فالباء للمصاحبة.

قوله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي : من الشّاكين أنّهم يعلمون ذلك.

وقيل : هذا من باب التّهييج والإلهاب ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٤].

وقيل : هذا خطاب لكلّ أحد ، والمعنى : لما ظهرت الدّلائل ، فلا ينبغي أن يمتري فيه أحد.

وقيل : هذا الخطاب وإن كان في الظّاهر للرّسول ، إلّا أن المراد أمته.

قوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(١١٥)

في نصب (صِدْقاً وَعَدْلاً) ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكونا مصدرين في موضع الحال ، أي : تمّت الكلمات صادقات في الوعد ، عادلات في الوعيد.

الثاني : أنهما نصب على التّمييز.

قال ابن عطيّة (٣) : «وهو غير صواب» وممن قال بكونه تمييزا : الطّبريّ ، وأبو البقاء (٤).

الثالث : أنهما نصب على المفعول من أجله ، أي : تمّت لأجل الصّدق والعدل الواقعين منهما ، وهو محلّ نظر ، ذكر هذا الوجه أبو البقاء (٥).

وقرأ الكوفيّون هنا ، وفي يونس في قوله : (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) [يونس : ٣٣] ، (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) [يونس : ٩٦] موضعان ، وفي غافر : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) [غافر : ٦] «كلمة» بالإفراد ، وافقهم ابن كثير ، وأبو عمرو على

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٧ / ٤٧).

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٦٥ السبعة ٢٦٦ إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٨ النشر ٢ / ٢٦٢.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٣٧.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٩.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

٣٩٤

ما في يونس وغافر ، دون هذه السّورة ، والباقون : بالجمع في المواضع الثّلاثة (١).

قال أبو حيّان (٢) : «قرأ الكوفيّون هنا وفي يونس في الموضعين وفي المؤمن : «كلمة» بالإفراد ، ونافع جميع ذلك «كلمات» بالجمع ، تابعه أبو عمرو ، وابن كثير هنا».

قال شهاب الدّين (٣) : كيف نسي ابن عامر؟ لا يقال : إنّه قد أسقطه النّاسخ وكان الأصل «ونافع وابن عامر» ؛ لأنّه قال : «تابعه» ولو كان كذلك ، لقال : «تابعهما».

ووجه الإفراد : إرادة الجنس ، وهو نظير : رسالته ورسالاته.

وقولهم : قال زهير في كلمته ، أي : قصيدته ، وقال قسّ في كلمته ، أي : خطبته ، فكذا مجموع القرآن العظيم ، وقراءة الجمع ظاهرة ؛ لأن كلماته ـ تعالى ـ متبوعة بالنّسبة إلى الأمر ، والنّهي ، والوعد ، والوعيد ، وأراد بالكلمات : أمره ونهيه ووعده ووعيده ، في الأمر والنّهي.

وقال قتادة ، ومقاتل : صدقا فيما وعد عدلا فيما حكم (٤) ، وهذا الكلام كما يدل على أن الخلف في وعد الله محال ؛ فيدلّ أيضا : على أنّ الخلف في وعيده محال ، بخلاف ما قاله الواحديّ في تفسير قوله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) [النساء : ٩٣] إن الخلف في وعيد الله جائز ؛ لأن وعد الله ووعيده كلمة الله ، فيجب كونها موصوفة بالصّدق ؛ لأن الكذب نقص ، والنّقص على الله محال ، ولا يجوز إثبات أنّ الكذب على الله محال بالدّلائل السّمعية ؛ لأن [صحّة الدّلائل السّمعية موقوفة على أن الكذب على الله محال ، فلو أثبتنا امتناع أن الكذب على الله محال](٥) لزم الدّور ، وهو باطل ، وأجمعوا على الجمع في قوله : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) [الأنعام : ٣٤].

قوله : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) يحتمل أن لا يكون لها محلّ من الإعراب ؛ لأنّها مستأنفة ، وأن تكون جملة حاليّة من فاعل «تمّت».

فإن قلت : فأين الرّابط بين ذي الحال ، والحال؟

فالجواب أنّ الرّبط حصل بالظّاهر ، والأصل : لا مبدّل لها ، وإنّما أبرزت ظاهرة ؛ تعظيما لها ولإضافتها إلى لفظ الجلالة الشّريفة.

قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون حالا من «ربّك» ؛ لئلا يفصل بين الحال

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٦٤ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٨. إعراب القراءات ١ / ١٦٧ ـ ١٦٨.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢١٢.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٦٥.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣١٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٧٥) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٥) سقط في أ.

٣٩٥

وصاحبها بالأجنبيّ ، وهو : (صِدْقاً وَعَدْلاً) إلا أن يجعل (صِدْقاً وَعَدْلاً) : حالا من «ربّك» لا من «الكلمات».

قال شهاب الدّين (١) : فإنه إذا جعل (صِدْقاً وَعَدْلاً) : حالا من «ربّك» لم يلزم منه فصل ؛ لأنّهما حالان لذي حال ، ولكنّ قاعدته تمنع تعدّد الحال لذي حال واحدة ، وتمنع أيضا مجيء الحال من المضاف إليه ، وإن كان المضاف بعض الثّاني ، ولم يمنع هنا بشيء من ذلك ، والرسم في «كلمات» في المواضع الّتي أشرت [إلى] اختلاف القرّاء فيها محتمل لخلافهم ، فإنه في المصحف الكريم من غير ألف بعد الميم.

[وقوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ) ، (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) «إن» نافية ، بمعنى : ما في الموضعين «والخرص» : الحزر ويعبر به عن الكذب والافتراء ، وأصله من التّظنّي ، وهو قول ما لم يستيقن ، ويتحقق ؛ قاله الأزهري (٢).

ومنه خرص النّخل ، يقال : «خرصها» الخارص خرصا ، فهي «خرص» فالمفتوح مصدر ، والمكسور بمعنى : مفعول ؛ كالنّقض والنّقض ، والذّبح والذّبح](٣).

فصل في معنى الآية

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ معنى (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) : لا رادّ لقضائه ولا مغيّر لحكمه ، ولا خلف لوعده ، وهو السّميع العليم (٤).

وقيل المراد ب «الكلمات» : القرآن لا مبدّل له لا يزيد فيه المفترون ، ولا ينقصون ؛ كقوله ـ تبارك وتعالى ـ : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩].

وقيل : المراد : أنها محفوظة عن التّناقض ؛ كقوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

وقيل المراد : أنّ أحكام الله ـ تبارك وتعالى ـ لا تقبل التّبديل والزّوال ؛ لأنّها أزليّة ، والأزليّ لا يزول ، وهذا الوجه أحد الأصول القويّة في إثبات الخير ؛ لأنه ـ تبارك وتعالى ـ لمّا حكم على زيد بالسّعادة ، وعلى عمرو بالشّقاوة ، ثمّ قال : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) لزم منه امتناع أن يقلب السّعيد شقيّا ، والشّقي سعيدا ، وهو معنى قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة.

قوله تعالى : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ)(١١٦)

لمّا أجاب عن شبه الكفّار ، وبيّن صحّة نبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدليل ، بيّن بعد زوال

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٦٥.

(٢) ينظر : تهذيب اللغة ٧ / ١٣٠.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي (٧ / ٤٧) والبحر المحيط ٤ / ٢١٢).

٣٩٦

الشّبهة ، وظهور الحجّة ، أنه لا ينبغي للعاقل أن يلتفت إلى كلمات الجهّال ، وهذه الآية الكريمة تدلّ على أنّ أكثر أهل الأرض كانوا ضلالا.

وقيل : إنّهم جادلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين في أكل الميتة ، فقالوا : تأكلون ما تقتلون ، ولا تأكلون ما قتله الله ، فقال الله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) أي : أن تطعهم في أكل الميتة ، يضلّوك عن سبيل الله ، أي : عن الطّريق الحقّ ، ثم قال : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) يريد : أنّ دينهم الذي هم عليه ظنّ ، وهوى لم يأخذوه على بصيرة (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) : يكذبون في ادّعاء القطع.

فصل في رد شبهة نفاة القياس

تمسّك نفاة القياس بهذه الآية الكريمة ؛ لأن الله ـ تبارك وتعالى ـ بالغ في ذمّ الكفّار في كثير من آيات القرآن العظيم بكونهم متّبعين للظّنّ ، والشّيء الّذي جعله الله ـ تبارك وتعالى ـ موجبا للذّمّ ، [لا بد وأن يكون في أقصى مراتب الذّمّ ، والعمل بالقياس يوجب اتّباع الظّنّ ، فوجب كونه مذموما](١) محرما لا يقال : لما ورد الدّليل القاطع بكونه حجّة ، كان العمل به عملا بدليل مقطوع ، لا بدليل مظنون ؛ لأن هذا مدفوع من وجوه :

الأوّل : أن ذلك الدّليل القاطع : إمّا أن يكون عقليّا ، أو سمعيا ، والأوّل باطل ؛ لأنّ العقل لا مجال له في أنّ العمل بالقياس جائز ، أو غير جائز ، ولا سيّما عند من ينكر تحسين العقل وتقبيحه.

والثاني أيضا باطل ؛ لأن الدّليل السّمعي إنّما يكون قاطعا لو كان متواترا ، وكانت الدّلالة قاطعة غير محتملة لوجه آخر سوى هذا المعنى الواحد ، ولو حصل مثل هذا الدّليل ، لعلم النّاس بالضّرورة كون القياس حجّة ، ولارتفع الخلاف فيه ، فحيث لم يوجد ذلك ، علمنا أن الدّليل القاطع على صحّة القياس مفقود.

الثاني : هب أنه وجد الدّليل القاطع على أن القياس حجّة ، إلّا أنّ ذلك لا يتم العمل بالقياس إلّا مع اتّباع الظّنّ ؛ لأن التّمسّك بالقياس مبنيّ على مقامين : أحدهما : أن الحكم في محلّ الوفاق معلّل بكذا.

والثاني : أن ذلك المعنى حاصل في محلّ الخلاف ، فهذان المقامان إن كانا معلومين على سبيل القطع واليقين ، فهذا ممّا لا خلاف في صحّته بين العقلاء ، وإن كان مجموعهما أو كان أحدهما ظنّيّا ؛ فحينئذ لا يتمّ العمل بهذا القياس إلّا بمتابعة الظّنّ ، وحينئذ يدخل تحت النّصّ الدّال على أنّ متابعة الظّنّ مذمومة.

والجواب : لم لا يجوز أن يقال : إن الظّنّ عبارة عن الاعتقاد الرّاجح إذا لم يسند

__________________

(١) سقط في ب.

٣٩٧

إلى أمارة ، [وهو مثل اعتقاد الكفّار ، أمّا إذا كان الاعتقاد الرّاجح مستندا إلى أمارة](١) فهذا الاعتقاد لا يسمّى ظنّا ، وبهذا الطّريق سقط الاستدلال.

قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(١١٧)

في «أعلم» قولان :

أحدهما : أنّها ليست للتّفضيل ، بل بمعنى اسم فاعل في قوته ، كأنه قيل : إن ربّك هو يعلم.

قال الواحدي ـ رحمه‌الله ـ : «ولا يجوز ذلك ؛ لأنّه لا يطابق : وهو أعلم بالمهتدين».

والثاني : أنّها على بابها من التّفضيل ، ثم اختلف هؤلاء في محلّ «من» : فقال بعض البصريّين : هو جرّ بحرف مقدّر حذف وبقي عمله ؛ لقوة الدّلالة عليه بقوله : (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) وهذا ليس بشيء ؛ لأنه لا يحذف الجارّ ويبقى أثره إلا في مواضع تقدّم التّنبيه عليها ، وما ورد بخلافها ، فضرورة ؛ كقوله : [الطويل]

٢٢٩٩ ـ ..........

أشارت كليب بالأكفّ الأصابع (٢)

وقوله : [الكامل]

٢٣٠٠ ـ ..........

حتّى تبذّخ فارتقى الأعلام (٣)

الثاني : أنّها في محلّ نصب على إسقاط الخافض ؛ كقوله : [الوافر]

٢٣٠١ ـ تمرّون الدّيار ولم تعوجوا

 .......... (٤)

قاله أبو الفتح. وهو مردود من وجهين :

الأول : أن ذلك لا يطّرد.

الثاني : أن أفعل التّفضيل لا تنصب بنفسها ؛ لضعفها.

الثالث : ـ وهو قول الكوفيين ـ أنّه نصب بنفس أفعل ، فإنها عندهم تعمل عمل الفعل.

الرابع : أنها منصوبة بفعل مقدّر يدل عليه أفعل ؛ قاله الفارسيّ ؛ وعليه خرّج قول الشاعر : [الطويل]

٢٣٠٢ ـ أكرّ وأحمى للحقيقة منهم

وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا (٥)

ف «القوانس» نصب بإضمار فعل ، أي : يضرب القوانس ؛ لأن أفعل ضعيفة كما تقرّر.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

(٥) تقدم.

٣٩٨

الخامس : أنّها مرفوعة المحلّ بالابتداء ، و «يضل» : خبره ، والجملة معلّقة لأفعل التّفضيل ؛ فهي في محلّ نصب بها ؛ كأنه قيل : أعلم أيّ النّاس يضل كقوله : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) [الكهف : ١٢] ، وهذا رأي الكسائيّ ، والزّجّاج (١) ، والمبرّد ، ومكّي (٢) ، إلا أن أبا حيّان (٣) ردّ هذا ؛ بأن التّعليق فرع ثبوت العمل في المفعول به ، وأفعل لا يعمل فيه ، فلا يعلّق.

والرّاجح من هذه الأقوال : نصبها بمضمر ، وهو قول الفارسيّ ، وقواعد البصريين موافقة له ، ولا يجوز أن تكون «من» في محلّ جرّ بإضافة أفعل إليها ؛ لئلّا يلزم محذور عظيم ، وذلك أنّ أفعل التّفضيل لا تضاف إلّا إلى جنسها ، فإذا قلت : «زيد أعلم الضّالّين» لزم أن يكون «زيد» بعض الضّالّين ، أي : متّصف بالضّلال ، فهذا الوجه مستحيل في الآية الكريمة ، وهذا عند من قرأ (٤) «يضلّ» بفتح حرف المضارعة ، أمّا من قرأ بضمّه : «يضلّ» ـ وهو الحسن ، وأحمد بن أبي سريج ـ ، فقال أبو البقاء (٥) : «يجوز أن تكون «من» في موضع جرّ بإضافة «أفعل» إليها».

قال : «إمّا على معنى : هو أعلم المضلّين ، أي : من يجد الضّلال وهو من أضللته ، أي : وجدته ضالا ؛ مثل أحمدته ، أي : وجدته محمودا ، أو بمعنى : أنه يضلّ عن الهدى».

قال شهاب الدّين (٦) : ولا حاجة إلى ارتكاب مثل هذا في مثل الأماكن الحرجة ، وكان قد عبّر قبل ذلك بعبارات استعظمت النّطق بها ، فضربت عنها إلى أمثلة من قولي ، والّذي تحمل عليه هذه القراءة ، ما تقدّم من المختار ؛ وهو النّصب بمضمر ، وفاعل «يضلّ» على هذه القراءة : ضمير يعود على الله ـ تعالى ـ على معنى : يجده ضالا ، أو يخلق فيه الضّلال (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) ويجوز أن يكون ضمير «من» أي : أعلم من يضلّ النّاس ، والمفعول محذوف. وأمّا على القراءة الشّهيرة ، فالفاعل ضمير «من» فقط ، و «من» : يجوز أن تكون موصولة ، وهو الظّاهر ، وأن تكون نكرة موصوفة ، ذكره أبو البقاء (٧).

فإن قيل هو (أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) يوجب وقوع التّفاوت في علم الله ، وهو محال؟

فالجواب : أن حصول التّفاوت في علم الله محال ، إلّا أن المقصود من هذا اللّفظ : العناية بإظهار هداية المهتدين فوق الهداية بإظهار ضلال الضّالّين ، ونظيره قوله ـ تعالى ـ :

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣١٤.

(٢) ينظر : المشكل ١ / ٢٨٥.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢١٣.

(٤) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٩ ، الدر المصون ٣ / ١٦٧.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٩.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٦٧.

(٧) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٩.

٣٩٩

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] فذكر الإحسان مرّتين ، والإساءة مرّة واحدة ، ومعنى قوله ـ تعالى ـ : (أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ، أي : يجازي كلّا بما يستحقّون.

قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) (١١٩)

في هذه الفاء وجهان :

أحدهما : أنّها جواب شرط مقدّر.

قال الزّمخشريّ بعد كلام : فقيل للمسلمين : إن كنتم متحقّقين بالإيمان ، فكلوا [وذلك أنّهم كانوا يقولون للمسلمين : إنّكم تزعمون أنّكم تعبدون الله ، فما قتله الله أحقّ أن تأكلوا ممّا قتلتموه أنتم ، وقال الله ـ تعالى ـ للمسلمين : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ)](١).

والثاني : أنها عاطفة على محذوف.

قال الواحدي : «ودخلت الفاء للعطف على ما دلّ عليه أوّل الكلام ، كأنه قيل : كونوا على الهدى ، فكلوا». والظّاهر : أنّها عاطفة على ما تقدّم من مضمون الجمل المتقدّمة ، كأنه قيل : «اتّبعوا ما أمركم الله تعالى من أكل المذكّى دون الميتة ، فكلوا».

فإن قيل : إنهم كانوا يبيحون أكل ما ذبح على اسم الله ـ تعالى ـ ، ولا ينازعون فيه ، وإنما النّزاع في أنّهم أيضا كانوا يبيحون أكل الميتة ، والمسلمون كانوا يحرّمونها ، وإذا كان كذلك ، كان ورود الأمر بإباحة ما ذكر اسم الله عليه عبئا ؛ لأنّه يقتضي إثبات الحكم في المتّفق عليه ، وترك الحكم في المختلف فيه.

فالجواب : لعلّ القوم كانوا يحرّمون أكل المذكّاة ، ويبيحون أكل الميتة ، فالله ـ تبارك وتعالى ـ ردّ عليهم في الأمرين ، فحكم بحلّ المذكّاة بقوله : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) وبتحريم الميتة بقوله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أو يحمل قوله : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) على أن المراد : اجعلوا أكلكم مقصورا على ما ذكر اسم الله عليه ، فيكون المعنى على هذا الوجه ، تحريم أكل الميتة فقط.

قوله : (وَما لَكُمْ) مبتدأ وخبر ، وقوله : (أَلَّا تَأْكُلُوا) فيه قولان :

أحدهما : هو على حذف حرف الجرّ ، أي : أيّ شيء استقرّ في منع الأكل ممّا ذكر اسم الله عليه ؛ وهو قول أبي إسحاق (٢) الزّجّاج ، فلما حذفت «في» جرى القولان

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣١٤.

٤٠٠