اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٢

ذلك يبطل التّكليف ، ويخرج الإنسان عن استحقاق الثّواب.

والجواب من وجوه :

أحدها : أنه ـ تبارك وتعالى ـ ما شاء منهم أن يحملهم على الإيمان على سبيل القهر وهو الذي أقدر الكافر على الكفر فقدرة الكفر إن لم تصلح للإيمان ، فخالق تلك القدرة لا شكّ أنه كان مريدا للكفر ، فإن كانت صالحة للإيمان ، لم يترجّح جانب الكفر على جانب الإيمان ، إلّا عند حصول داع يدعو إلى الإيمان ، وإلّا لزم رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر [لا](١) لمرجّح. وهو محال ، ومجموع القدرة مع الدّاعي إلى الكفر ، يوجب الكفر ، فإذا كان خالق القدرة والدّاعي هو الله ـ تعالى ـ ، وثبت أنّ مجموعهما يوجب الكفر ، ثبت أنّ الله ـ تعالى ـ أراد الكفر من الكافر.

وثانيها : أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ كان عالما بعدم الإيمان من الكافر ، ووجود الإيمان مع العلم بعدم الإيمان متضادّان ، ومع وجود أحد الضّدّين كان حصول الضدّ الثاني محالا ، ومع العلم بكونه محالا غير مراد ، فامتنع أن يقال : إنه ـ تعالى ـ يريد الإيمان من الكافر.

وثالثها : هب أن الإيمان الاختياري أفضل وأنفع من الإيمان الحاصل بالجبر والقهر ، إلّا أنّه ـ تعالى ـ لما علم أنّ ذلك النّفع لا يحصل ألبتّة ، فقد كان يجب في رحمته وحكمته ، أن يخلق فيهم الإيمان على سبيل الإلجاء ؛ لأن هذا الإيمان وإن كان لا يوجب الثّواب العظيم ، فأقل ما فيه أن يخلّصه من العقاب العظيم ، وترك إيجاد هذا الإيمان فيه على سبيل الإلجاء ، يوجب وقوعه في أشدّ العذاب ، وذلك لا يليق بالرّحمة والإحسان ، كما إنّ الوالد إذا كان له ولد عزيز ، وكان الأب في غاية الشّفقة ، وكان الولد واقفا على طرف البحر ، فيقول له الوالد : غص في قعر هذا البحر ؛ لتستخرج اللآلىء العظيمة الرّفيعة الغالية ، وعلم الوالد قطعا أنّه إذا غاص في البحر ، هلك ، فهذا الأب وإن كان مشفقا عليه ، وجب عليه أن يمنعه من الغوض في قعر البحر ، ويقول له : اترك طلب اللآلىء ؛ فإنّك لا تجدها وتهلك ، والأولى لك أن تكتفي بالرّزق القليل مع السّلامة ، فأما أن يأمره بالغوص في قعر البحر مع تيقّن الهلاك ، فهذا يدلّ على عدم الرّحمة ؛ وكذا ههنا (٢).

قوله : (وَما جَعَلْناكَ) «جعل» بمعنى : صيّر فالكاف مفعول أوّل ، و «حفيظا» هو الثّاني ، و «عليهم» متعلّق به ، قدّم للاهتمام أو للفواصل ، ومفعول «حفيظ» محذوف ، أي : «حفيظا عليهم أعمالهم».

قال أبو البقاء (٣) : «هذا يؤيّد قول سيبويه (٤) في إعمال فعيل» يعني : أنه مثال مبالغة ، وللنّاس في إعماله وإعمال فعل خلاف أثبته سيبويه ، ونفاه غيره.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : الرازي ١٣ / ١١٤.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٧.

(٤) ينظر : الكتاب ٢ / ٢٥٥.

٣٦١

[قال شهاب الدين (١)](٢) : وكيف يؤيّده وليس شيء في اللّفظ يشهد له؟

قوله : (وَما أَنْتَ) يجوز أن تكون «ما» الحجازية ؛ فيكون «أنت» : اسمها ، و «بوكيل» : خبرها في محلّ نصب ، ويجوز أن تكون التّميميّة ؛ فيكون «أنت» : مبتدأ و «بوكيل» : خبره في محلّ رفع ، والباء زائدة على كلا التّقديرين ، و «عليهم» : متعلّق بوكيل قدّم لما تقدّم فيما قبله ، وهذه الجملة هي في معنى الجملة قبلها ؛ لأن معنى ما أنت وكيل عليهم ، هو بمعنى : ما جعلناك حفيظا عليهم ، أي : رقيبا.

واعلم أنه ـ تبارك وتعالى ـ لما بيّن أن لا قدرة لأحد على إزالة الكفر عنهم ، ختم الكلام بما يكمل معه تبصير الرّسول ؛ لأنّه لما بيّن له قدر ما جعل إليه ، فذكر أنّه ما جعله عليهم حفيظا ولا وكيلا ، وإنّما فوّض إليه البلاغ بالأمر ، والنّهي ، والبيان بذكر الدّلائل ، فإن انقادوا للقبول ، فنفعه عائد إليهم ، وإلا فضرره عائد إليهم.

قال عطاء : وما جعلناك عليهم حفيظا : تمنعهم منّي ، أي : لم تبعث لتحفظ المشركين من العذاب ، إنما بعثت مبلّغا ، وما أنت عليهم بوكيل على سبيل المنع لهم.

قوله تعالى : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٠٨)

اعلم أنّ متعلّق هذا بما قبله : أنّه لا يبعد أن بعض المسلمين كان إذا سمع قول المشركين للرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنّما جمعت هذا القرآن من مدارسة النّاس ، غضب ، وشتم آلهتهم المعارضة ، فنهى الله ـ تعالى ـ عن ذلك ؛ لأنّك متى شتمت آلهتهم ، غضبوا ، فربّما ذكر الله ـ تبارك وتعالى ـ بما لا ينبغي ، فلذلك وجب الاحتراز عن ذلك المقال ، وهذا تنبيه على أنّ الخصم إذا شافه خصمه بجهل وسفاهة ، لم يجز لخصمه أن يشافهه بمثل ذلك ، فإن ذلك يوجب فتح باب المشاتمة والسّفاهة ، وذلك لا يليق بالعقلاء.

فصل في المراد بالآية

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ لمّا نزل قوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] قال المشركون : يا محمّد ، لتنتهينّ عن سب آلهتنا ، أو لنهجرنّ ربّك ؛ فنزلت هذه الآية (٣) ، وههنا إشكالان.

أحدهما : أن النّاس اتّفقوا على أن هذه السّورة نزلت دفعة واحدة ، فكيف يمكن أن يقال : سبب نزول هذه الآية الكريمة كذا.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٥٣.

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٠٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٧١) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس وينظر : الرازي ١٣ / ١١٤.

٣٦٢

والثاني : أن الكفّار كانوا مقرّين بالله ـ تعالى ـ ؛ لقوله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥] وكانوا يقولون : إنّما نعبد الأصنام ؛ لتصير شفعاؤنا عند الله ، فكيف يعقل إقدامهم على شتم الله وسبّه.

وقال السّدّيّ : لما قربت وفاة أبي طالب ، قالت قريش : ندخل عليه ، ونطلب منه أن ينهى ابن أخيه عنّا ، فإنا نستحي أن نقتله بعد موته ، فتقول العرب : كان يمنعه عمّه ، فلما مات ، قتلوه ؛ فانطلق أبو سفيان ، وأبو جهل ، والنّضر بن الحارث ، وأميّة وأبي ابنا خلف ، وعاقبة بن أبي معيط ، وعمرو بن العاص ، والأسود بن أبي البختري إليه ، وقالوا : يا أبا طالب ، أنت كبيرنا وسيّدنا ، وإن محمّدا آذانا وآلهتنا ، فنحب أن تدعوه وتنهاه عن ذكر آلهتنا ، ولندعه وإلهه ، فدعاه ، فقال : يا محمّد ، هؤلاء قومك ، وبنو عمّك يطلبوك أن تتركهم على دينهم ، وأن يتركوك على دينك ، وقد أنصفك قومك ، فاقبل منهم ، فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب ، ودانت لكم بها العجم قال أبو جهل : نعم وأبيك ، لنعطينّكها ، وعشرة أمثالها ، فما هي؟ قال : «قولوا : لا إله إلّا الله» فأبوا ونفروا ، فقال أبو طالب : قل غيرها يا ابن أخي ، فقال : يا عمّ ، ما أنا بالّذي أقول غيرها ، ولو أتوني بالشّمس فوضعوها في يدي. فقالوا : لتكفّنّ عن سب آلهتنا ، أو لنشتمنّك أو لنشتمنّ من يأمرك بذلك ، فأنزل الله ـ تعالى ـ الآية الكريمة (١).

وفيه إشكالان ، ويمكن الجواب من وجوه :

الأول : أنه ربّما كان بعضهم قائلا بالدّهر ونفي الصّانع ، فيأتي بهذا النّوع من الشّفاعة.

الثّاني : أن الصّحابة ـ رضي الله عنهم ـ متى شتموا الأصنام ، فهم كانوا يشتمون الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فالله ـ تعالى ـ أجرى شتم الرّسول مجرى الله ـ تعالى ـ ؛ كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ) [الفتح : ١٠] وكقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب : ٥٧].

الثالث : أنه ربّما كان في جهّالهم ، من كان يعتقد أنّ شيطانا يحمله على ادّعاء النّبوّة والرّسالة ، ثمّ إنّه لجهله ، كان يسمّي ذلك الشّيطان بأنه إله محمّد ، فكان يشتم إله محمّد بناء على هذا التّأويل.

وقال قتادة : كان المسلمون يسبّون أصنام الكفّار ، فنهاهم الله ـ تعالى ـ عن ذلك ؛ لئلّا يسبّوا الله ، فإنهم جهلة (٢).

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٧١) وعزاه لابن أبي حاتم ، والبغوي في تفسيره ٢ / ١٢١.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٠٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٧٢) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

٣٦٣

فإن قيل : شتم الأصنام من أصول الطّاعات ، فكيف يحسن أن ينهى عنه.

فالجواب : أن هذا الشّتم وإن كان طاعة ، إلّا أنّه إذا وقع على وجه يستلزم وجود منكر عظيم ، وجب الاحتراز منه ، والأمر ههنا كذلك ؛ لأنّ هذا الشتم كان يستلزم إقدامهم على شتم الله ، وشتم رسوله ، وعلى فتح باب السّفاهة ، وعلى تنفيرهم عن قبول الدّين ، وإدخال الغيظ والغضب في قلوبهم ، فلهذه المنكرات وقع النّهي عنه.

قوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) يجوز أن يتعلّق ب «يدعون» وأن يتعلّق بمحذوف على أنّه حال : إمّا من الموصول ، وإمّا من عائده المحذوف ، أي : يدعونهم حال كونهم مستقرّين من دون الله.

قوله : «فيسبّوا» الظّاهر أنه منصوب على جواب النّهي بإضمار أن بعد الفاء ، أي : «لا تسبّوا آلهتهم ، فقد يترتّب عليه ما يكرهون من سبّ الله» ، ويجوز أن يكون مجزوما نسقا على فعل النّهي قبله ؛ كقولهم : «لا تمددها ، فتشقّها» وجاز وقوع «الّذين» ـ وإن كان مختصّا بالعقلاء ـ على الأصنام الّتي لا تعقل ، معاملة لها معاملة العقلاء ؛ كما أوقع عليها «من» في قوله : (كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النحل : ١٧].

قال شهاب الدّين (١) : وفيه نظر ؛ لأنّ «الّذي» و «الّتي» وسائر الموصولات ما عدا «من» فإنّها تدخل على العقلاء وغيرهم ، تقول : أنت الرّجل الّذي قام ، ورأيت الفرس الّذي اشتريته ، قال : ويجوز أن يكون ذلك للتّغليب ، لأن المعبود من دون الله عقلاء ؛ ك «المسيح» و «عزير» و «الملائكة» وغيرهم ، [فغلّب](٢) العاقل ، وهذا بعيد ؛ لأنّ المسلمين لا يسبّون هؤلاء ويجوز أن يراد بالّذين يدعون : المشركين ، أي : لا تسبّوا الكفرة الّذين يدعون غير الله من دون الله ، وهو وجه واضح.

قوله : «عدوا» الجمهور على فتح العين ، وسكون الدّال ، وتخفيف الواو (٣) ، ونصبه من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه منصوب على المصدر ؛ لأنّه نوع من العامل فيه ؛ لأنّ السّبّ من جنس العدو.

والثاني : أنّه مفعول من أجله ، أي : لأجل العدو ، وظاهر كلام الزّجّاج (٤) : أنه خلط القولين ، فجعلهما قولا واحدا ، فإنه قال : «وعدوا» منصوب على المصدر ؛ لأن المعنى : فتعدوا عدوا.

قال : «ويكون بإرادة اللّام» والمعنى : فيسبّوا الله للظّلم.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٥٣.

(٢) في أ : فعلنا.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٥٣ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٦ ، النشر ٢ / ٢٦١.

(٤) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣٠٨.

٣٦٤

والثالث : أنّه منصوب على أنّه واقع موقع الحال المؤكدة ؛ لأنّ السّبّ لا يكون إلا عدوا.

وقرأ الحسن (١) ، وأبو رجاء ، ويعقوب ، وقتادة ، وسلام ، وعبد الله بن زيد : «عدوا» بضم العين والدّال ، وتشديد الواو ، وهو مصدر أيضا ل «عدا» وانتصابه على ما تقدّم من الأوجه الثلاثة.

وقرأ ابن كثير (٢) في رواية ـ وهي قراءة أهل مكّة المشرفة (٣) فيما نقله النّحّاس : «عدوّا» بفتح العين ، وضمّ الدّال ، وتشديد الواو ، بمعنى : أعداء ، ونصبه على الحال المؤكدة ، و «عدوّ» يجوز أن يقع خبرا عن الجمع ، قال ـ تعالى ـ : (هُمُ الْعَدُوُّ) [المنافقون : ٤] ، وقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) [النساء : ١٠١] ، ويقال : عدا يعدو عدوا ، وعدوّا ، وعدوانا وعداء ، و (بِغَيْرِ عِلْمٍ) حال ، أي : «يسبّونه غير عالمين» أي : «مصاحبين للجهل» ؛ لأنّه لو قدّر حقّ قدره ، لما أقدموا عليه.

فصل في دحض شبهة للمعتزلة

قال الجبّائي (٤) : دلّت هذه الآية الكريمة ، على أنّه لا يجوز أن يفعل في الكفّار ما يزدادون به بعدا عن الحقّ ، إذ لو جاز أن يفعله ، لجاز أن يأمر به وكان لا ينهى عمّا ذكرنا ، ولا يأمر بالرّفق بهم عند الدّعاء ؛ كقوله لموسى ، ولهارون : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤] وذلك يبطل مذهب الجبرية.

قالوا : وهذه الآية الكريمة تدلّ على أنّ الأمر بالمعروف ، قد يقبح إذا أدّى إلى ارتكاب منكر ، والنّهي عن المنكر يقبح إذا أدّى إلى زيادة منكر ، وغلبة الظّنّ قائمة مقام العلم في هذا الباب ، وفيه تأديب لمن يدعو إلى الدّين ؛ لئلا يتشاغل بما لا فائدة له في المطلوب ؛ لأنّ وصف الأوثان بأنّها جمادات لا تنفع ولا تضرّ ، يكفي في القدح في إلهيّتها ، فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها.

قوله : «كذلك» : نعت لمصدر محذوف ، أي : زيّنّا لهؤلاء أعمالهم تزيينا ، مثل تزييننا لكلّ أمّة عملهم.

وقيل : تقديره : مثل تزيين عبادة الأصنام للمشركين (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) وهو قريب من الأوّل ، والمعنى : زينّا لكل أمّة عملهم من الخير والشّر ، والطّاعة والمعصية ، ثم إلى ربّهم مرجعهم ، فينبّئهم ويجازيهم بما كانوا يعملون.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون الموضع السابق النشر ٢ / ٢٦١ المحتسب ١ / ٢٢٦ إتحاف فضلاء ٢ / ٢٦١.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٥٣.

(٣) ينظر : إعراب القرآن ١ / ٥٧٣.

(٤) ينظر : الرازي ١٣ / ١١٥.

٣٦٥

فصل في الاستدلال بالآية

احتجّ أهل السّنّة بهذه الآية الكريمة ، على أنّ الله ـ تعالى ـ زيّن للكافر الكفر ، وللمؤمن الإيمان ، وللعاصي المعصية ، وللمطيع الطّاعة.

قال الكعبي : حمل الآية على هذا المعنى محال ؛ لأنه ـ تبارك وتعالى ـ هو الّذي يقول (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) [محمد : ٢٥] ويقول (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) [البقرة : ٢٥٧] ثمّ إنهم ذكروا في الجواب وجوها :

الأول : قال الجبّائي (١) : زينّا لكلّ أمة تقدّمت ما أمرناهم به من قول الحقّ.

وقال الكعبي (٢) : إنّه ـ تعالى ـ زيّن لهم ما ينبغي أن يعملوا ، وهم لا ينتهون.

الثاني : قال الآخرون (٣) : زينّا لكلّ أمّة من أمم الكفار سوء عملهم ، أي : جعلناهم وشأنهم ، وأمهلناهم حتى حسن عندهم سوء عملهم.

الثالث : أمهلنا الشّيطان حتى زيّن لهم.

الرابع : زيّنّاه في زعمهم ، وهذه وجوه ضعيفة ؛ لأن الدّليل العقلي [القاطع](٤) دل على صحّة ما أشعر به ظاهر النّصّ ؛ لأنّا بينّا أن صدور الفعل عن العبد ، يتوقّف على حصول الدّاعي ، وأن تلك الدّاعية لا بدّ وأن تكون بتخليق الله ـ تعالى ـ ، ولا معنى لتلك الدّاعية إلا عمله واعتقاده ، أو ظنّه باشتمال ذلك الفعل على نفع زائد ، ومصلحة راجحة ، وإذا كانت تلك الدّاعية حصلت بفعل الله ـ تعالى ـ ، امتنع أن يصدر عن العبد فعل ، ولا قول ، ولا حركة ، إلا إذا زيّن الله ـ تعالى ـ ذلك الفعل في قلبه ، وضميره ، واعتقاده ، وأيضا : أن الإنسان لا يختار الكفر والجهل ، مع العلم بكونه كفرا وجهلا ، والعلم بذلك ضروريّ ، بل إنما يختاره لاعتقاد كونه إيمانا ، وعلما ، وصدقا ، وحقّا ، فلو لا سابقة الجهل الأوّل ، لما اختار هذا الجهل الثاني. ثمّ إنه لما اختار ذلك الجهل السّابق ، فإن كان اختيار ذلك لسابق آخر ، لزم أن يستمرّ ذلك إلى ما لا نهاية له من الجهالات ، وذلك محال ؛ فوجب انتهاء تلك الجهالات إلى جهل أوّل يخلقه الله ـ تعالى ـ فيه ابتداء ، وهو بسبب ذلك الجهل ظنّ في الكفر كونه إيمانا ، وحقا ، وعلما ؛ فثبت إنه يستحيل من الكافر اختيار الكفر والجهل ، إلّا إذا زيّن الله ـ تعالى ـ ذلك الجهل في قلبه ؛ فثبت بهذين البرهانين القاطعين ، أن الّذي يدلّ عليه ظاهر هذه الآية ؛ هو الحقّ الذي لا محيد عنه ، فبطلت تأويلاتهم بأسرها ؛ لأنّ المصير إلى التّأويل إنّما يكون عند تعذّر حمل الكلام على ظاهره ، وأمّا لما قال الدّليل على أنّه يمكن العدول عن الظّاهر ، فسقطت هذه التّكليفات ، وأيضا : فقوله : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) بعد قوله: (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ١١٦.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ١١٦.

(٤) سقط في أ.

٣٦٦

مشعر بأنّ إقدامهم على ذلك المنكر إنّما كان بتزيين الله تعالى ، فأمّا أن يحمل ذلك على أنّه ـ تبارك وتعالى ـ زيّن الأعمال الصّالحة في قلوب الأمم ، فكان هذا كلام منقطع عما قبله ، وأيضا : فقوله : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) : يتناول الأمم الكافرة والمؤمنة ، فتخصيص هذا الكلام بالأمّة المؤمنة ، ترك لظاهر العموم.

قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(١١٠)

قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) الآية الكريمة.

لما طعنوا في النّبوّة بمدارسة العلماء ، حتى عرف التّوراة والإنجيل ، ثم جعل السّور والآيات بهذا الطّريق ، وأجاب الله ـ تعالى ـ عن هذه الشّبهة ، ذكر في هذه الآية شبهة لهم أخرى ، وهي أنّ هذا القرآن العظيم ليس من جنس المعجزات البيّنة ، ولو أنّك يا محمّد جئتنا بمعجزة وبيّنة باهرة ، لآمنّا بك وحلفوا على ذلك ، وبالغوا على ذلك في تأكيد الحلف.

قال الواحدي (١) : إنّما سمّي اليمين بالقسم ؛ لأن اليمين موضوعة لتأكيد الخبر الّذي يخبر به الإنسان : إمّا مثبتا للشّيء ، وإمّا نافيا ، ولما كان الخبر يدخله الصّدق والكذب ، احتاج المخبر إلى طريق به يتوسّل إلى ترجيح جانب الصّدق على جانب الكذب ، وذلك هو الحلف ، ولما كانت الحاجة إلى ذكر الحلف ، إنّما تحصل عن انقسام النّاس عند سماع ذلك الخبر إلى مصدّق به ومكذّب به ، سمّوا الحلف بالقسم ، وبنوا تلك الصّيغة على «أفعل» وقالوا : أقسم فلان يقسم إقساما ، وأرادوا : أنه أكّد القسم الذي اختاره ، وأحال الصّدق إلى القسم الذي اختاره بواسطة الحلف واليمين.

قوله : (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) تقدم الكلام عليه في «المائدة» (٢).

وقرأ طلحة بن مصرّف (٣) : «ليؤمنن» مبنيا للمفعول مؤكّدا بالنون الخفيفة ، ومعنى (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) : قال الكلبيّ ومقاتل : اذا حلف الرّجل بالله جهد يمينه (٤) ، وقال الزّجّاج (٥) : بالغوا في الأيمان.

فصل في سبب النزول

قال محمّد بن كعب القرظي : قالت قريش : يا محمّد إنّك تخبرنا أنّ موسى ـ عليه الصّلاة والسلام ـ كانت معه عصا يضرب بها الحجر ، فينفجر منه الماء اثنتي عشرة عينا ،

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ١١٧.

(٢) الآية : ٥٣.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٥٤.

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٣ / ١١٧ ـ ١١٨).

(٥) ينظر : الرازي ١٣ / ١١٨.

٣٦٧

وتخبرنا : أنّ عيسى كان يحيى الموتى ، وأن صالحا أخرج النّاقة من الجبل ؛ فأتنا أنت أيضا بآية ، لنصدّقك. فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : ما الذي تحبّون؟ قالوا : تجعل لنا الصّفا ذهبا ، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسأله عنك ؛ أحقّ ما تقول ، أم باطل ، أو أرنا الملائكة يشهدون ذلك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإن فعلت بعض ما تقولون ، أتصدّقونني؟ قالوا : نعم ، والله ، لأن فعلت ، لنتّبعنّك ، فقام ـ عليه الصلاة والسلام ـ يدعو فجاءه جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقال : إن شئت ، كان ذلك ، ولئن كان ، فلم يصدّقوا عنده ، لنعذّبنهم ، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم ، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ بل حتّى يتوب تائبهم ، فأنزل الله ـ تعالى ـ الآية الكريمة (١).

وقيل : لما نزل قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [الشعراء : ٤] ، أقسم المشركون بالله ، لئن جاءتهم آية ، ليؤمننّ بها ، فنزلت الآية الكريمة.

واختلفوا في المراد بالآية.

فقيل : ما تقدّم من جعل الصّفا ذهبا.

وقيل : هي الأشياء المذكورة في قوله ـ تبارك وتعالى ـ : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠].

وقيل : إن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخبرهم : بأنّ عذاب الاستئصال كان ينزل بالأمم الماضية الذين كذّبوا أنبياءهم ، فالمشركون طلبوا مثلها.

قوله : (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) ذكروا في لفظة «عند» وجوها :

فقيل : معناه : أنه ـ تبارك وتعالى ـ هو المختصّ بالقدرة على أمثال هذه الآيات دون غيره ؛ لأن المعجزات الدّالّة النبّوّات ، شرطها أن لا يقدر على تحصيلها أحد إلا الله ـ تعالى ـ.

وقيل : المراد بالعنديّة : أن العلم بأن إيجاد هذه المعجزات ، هل يقتضي إقدام هؤلاء الكفّار على الإيمان أم لا؟ ليس إلا عند الله ، كقوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) [الأنعام : ٥٩].

وقيل : المراد : أنّها وإن كانت معدومة في الحال ، إلا أنّه ـ تعالى ـ متى شاء ، أوجدها ، فهي جارية مجرى الأشياء الموضوعة عند الله ، يظهرها متى شاء ، وليس لكم أن تتحكّموا في طلبها ، ولفظ «عند» على هذا ؛ كما في قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) [الحجر : ٢١].

__________________

(١) أخرجه الطبري في تفسيره (٥ / ٣٠٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٧٢) وانظر الرازي (١٣ / ١١٧) والقرطبي (٧ / ٤٢).

٣٦٨

قوله : (وَما يُشْعِرُكُمْ) «ما» : استفهاميّة مبتدأ ، والجملة بعدها خبرها ، وفاعل «يشعر» يعود عليها ، وهي تتعدى لاثنين.

الأوّل : ضمير الخطاب.

والثاني : محذوف ، أي : وأيّ شيء يدريكم إيمانهم [إذا جاءتهم الآيات التي اقترحوها.

قال أبو علي (١) : «ما» استفهام ، وفاعل «يشعركم» ضمير «ما» والمعنى : وما يدريكم إيمانهم؟ فحذف المفعول ، وحذف المفعول كثير](٢).

والمعنى أي : بتقدير أن تجيئهم هذه الآيات ، فهم لا يؤمنون.

وقرأ العامّة (٣) : أنها بفتح الهمزة ، وابن كثير وأبو عمرو ، وأبو بكر بخلاف عنه بكسرها.

فأمّا قراءة الكسر : فواضحة استجودها النّاس : الخليل وغيره ، لأن معناها : استئناف إخبار بعدم إيمان من طبع على قلبه ، ولو جاءتهم كلّ آية.

قال سيبويه (٤) : سألت الخليل عن هذه القراءة يعني : قراءة الفتح فقلت : ما منع أن يكون كقولك : ما يدريك أنّه لا يفعل؟ فقال : لا يحسن ذلك في هذا الموضع ، إنّما قال : (وَما يُشْعِرُكُمْ) ثم ابتدأ ؛ فأوجب ، فقال : (أَنَّها إِذا جاءَتْ ، لا يُؤْمِنُونَ) ولو فتح ، فقال : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) ، لكان عذرا لهم ، وقد شرح النّاس قول الخليل ، وأوضحوه ، فقال الواحدي وغيره : لأنّك لو فتحت «أنّ» وجعلتها الّتي في نحو : بلغني أنّ زيدا منطلق ، لكان عذرا لمن أخبر عنهم أنّهم لا يؤمنون ؛ لأنّه إذا قال القائل : «إنّ زيدا لا يؤمن» فقلت : وما يدريك أنّه لا يؤمن؟ كان المعنى : أنه يؤمن ، وإذا كان كذلك ، كان عذرا لمن نفى عنه الإيمان ، وليس مراد الآية الكريمة ، إقامة عذرهم ، ووجود إيمانهم.

وقال الزّمخشري (٥) : «وقرىء «إنّها» بالكسر ؛ على أنّ الكلام قد تمّ قبله بمعنى : «ما يشعركم ما يكون منهم» ثمّ أخبرهم بعلمه فيهم ، فقال : إنّها إذا جاءت ، لا يؤمنون».

وأما قراءة الفتح : فقد وجّهها النّاس على ستّة أوجه :

أظهرها : أنّها بمعنى : لعلّ ، حكى الخليل «أتيت السّوق أنّك تشتري لنا منه شيئا» أي : «لعلّك» فهذا من كلام العرب ـ كما حكاه الخليل ـ شاهد على كون «أنّ» بمعنى لعلّ وأنشد أبو جعفر النّحّاس : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ١١٨.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : الحجة للفارسي ٣ / ٣٧٦ ، الدر المصون ٣ / ١٥٤ المحتسب ١ / ٢٢٦ ، النشر ٢ / ٢٦١ ، الوسيط ٣ / ٣١١. التبيان ١ / ٥٣٠ ومجاز القرآن ١ / ٢٠٤ الأخفش ٢ / ٥٠١ الحجة لأبي زرعة ص ٢٦٥. السبعة ٢٦٥.

(٤) ينظر : الكتاب ١ / ٤٦٢.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٧.

٣٦٩

٢٢٨٠ ـ أريني جوادا مات هزلا لأنّني

أرى ما ترين أو بخيلا مخلّدا (١)

وقال امرؤ القيس ـ أنشده الزّمخشريّ ـ [الكامل]

٢٢٨١ ـ عوجا على الطّلل المحيل لأنّنا

نبكي الدّيار كما بكى ابن حذام (٢)

وقال جرير : [الوافر]

٢٢٨٢ ـ هل أنتم عائجون بنا لعنّا

نرى العرصات أو أثر الخيام (٣)

وقال عديّ بن زيد : [الطويل]

٢٢٨٣ ـ أعاذل ما يدريك أنّ منيّتي

إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد (٤)

وقال آخر : [الرجز]

٢٢٨٤ ـ قلت لشيبان ادن من لقائه

أنّا نغذّي النّاس من شوائه (٥)

ف «أنّ» في هذه المواضع كلّها بمعنى : «لعلّ» ، قالوا : ويدلّ على ذلك أنّها في مصحف أبيّ وقراءته (٦) : «وما أدراكم لعلّها إذا جاءت لا يؤمنون» ونقل عنه : «وما يشعركم لعلّها إذا جاءت لا يؤمنون» ذكر ذلك أبو عبيد وغيره ، ورجّحوا ذلك أيضا بأنّ «لعلّ» قد كثر ورودها في مثل هذا التّركيب ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشورى : ١٧] ، (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) [عبس : ٣] ، وممّن جعل «أنّ» بمعنى : «لعل» أيضا ، يحيى بن زياد الفرّاء (٧).

ورجّح الزّجّاج (٨) ذلك ، فقال : «زعم سيبويه عن الخليل ، أن معناها : «لعلّها» قال : «وهذا الوجه أقوى في العربيّة وأجود» ونسب القراءة لأهل المدينة ، وكذا أبو جعفر (٩).

قال شهاب الدّين (١٠) : وقراءة الكوفيّين ، والشّاميّين أيضا ، إلّا أن أبا عليّ الفارسيّ ضعّف هذا القول الّذي استجوده النّاس ، وقوّوه تخريجا لهذه القراءة ، فقال : «التّوقّع الّذي تدلّ عليه «لعلّ» لا يناسب قراءة الكسر ، لأنّها تدلّ على حكمه ـ تعالى ـ عليهم بأنّهم لا يؤمنون» ولكنّه لمّا منع كونها بمعنى : «لعل» ، لم يجعلها معمولة ل «يشعركم» بل جعلها على حذف لام العلّة ، أي : لأنّها ، والتّقدير عنده : (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) ،

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٣ / ١٤٤ ، تفسير الطبري ١٢ / ٤١ ، لسان العرب (أنن). الدر المصون ٣ / ١٥٤.

(٥) البيت لأبي النجم العجلي.

ينظر : الكتاب ٣ / ١١٦ ، الإنصاف ٢ / ٥٩١ ، القرطبي ٧ / ٦٤ ، الطبري ١٢ / ٤٣ ، مجالس ثعلب ١ / ١٢٧ ، الدر المصون ٣ / ١٥٤.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٥٥.

(٧) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٥٠.

(٨) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣١٠.

(٩) ينظر : إعراب القرآن ١ / ٥٧٣.

(١٠) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٥٥.

٣٧٠

لأنّها إذا جاءت لا يؤمنون». فهو لا يأتي بها ؛ لإصرارهم على كفرهم ، فيكون نظير : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) [الإسراء : ٥٩] ، أي بالآيات المقترحة ، وعلى هذا فيكون قوله : (وَما يُشْعِرُكُمْ) اعتراضا بين العلّة والمعلول.

الثاني : أن تكون «لا» مزيدة ، وهذا رأي الفرّاء (١) وشيخه ، قال : ومثله : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف : ١٢] أي : «أن تسجد» فيكون التّقدير : وما يشعركم أنّها إذا جاءت يؤمنون ، والمعنى على هذا : أنّها لو جاءت لم يؤمنوا ، وإنّما حمله على زيادتها ما تقدّم من أنّها لو تقدّر زائدة ، لكان ظاهر الكلام عذرا للكفّار ، وأنّهم يؤمنون كما عرفت تحقيقه أولا ، إلا أن الزّجّاج (٢) نسب ذلك إلى الغلط ، فقال : «والّذي ذكر أنّ «لا» لغو ، غالط ؛ لأن ما يكون لغوا ، لا يكون غير لغو ، ومن قرأ بالكسر ، فالإجماع : على أنّ «لا» غير لغو» فليس يجوز أن يكون معنى لفظه : مرة النّفي ، ومرّة الإيجاب في سياق واحد.

وانتصر الفارسيّ لقول الفرّاء ، ونفى عنه الغلط ، فإنّه قال : «يجوز أن تكون «لا» في تأويل زائدة ، وفي تأويل غير زائدة ؛ كقول الشّاعر في ذلك : [الطويل]

٢٢٨٥ ـ أبى جوده لا البخل واستعجلت نعم

به من فتى لا يمنع الجود نائله (٣)

ينشد بالوجهين ، أي : بنصب «البخل» وجرّه ، فمن نصبه ، كانت زائدة ، أي : «أبى جوده البخل» ومن خفض ، كانت غير زائدة ، وأضاف «لا» إلى البخل».

قال شهاب الدّين (٤) : وعلى تقدير النّصب ، لا يلزم زيادتها ؛ لجواز أن تكون «لا» مفعولا بها ، و «البخل» بدل منها ، أي : «أبى جوده لفظ «لا» ولفظ «لا» هو بخل». وقد تقدّم لك طرف من هذا محقّقا عند قوله ـ تعالى ـ : (وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة : ٧] [في أوائل هذا الموضوع](٥) وسيمرّ بك مواضع منها ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٥].

قالوا : تحتمل الزّيادة ، وعدمها وكذا (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف : ١٢] ، (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد : ٢٩].

الثالث : أن الفتح على تقدير لام العلّة ، والتّقدير : «إنما الآيات التي يقترحونها عند الله ؛ لأنّها إذا جاءت لا يؤمنون» ، و (ما يُشْعِرُكُمْ) اعتراض كما تقدّم تحقيق ذلك عن أبي عليّ ، فأغنى عن إعادته ، وصار المعنى : (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) ، أي : المقترحة لا يأتي بها ؛ لانتفاء إيمانهم ، وإصرارهم على كفرهم».

الرابع : أن في الكلام حذف معطوف على ما تقدّم.

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٥٠.

(٢) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣١٠.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٥٥.

(٥) سقط في ب.

٣٧١

قال أبو جعفر في معانيه : وقيل في الكلام حذف ، والمعنى : وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون ، فحذف هذا لعلم السّامع ، وقدّره غيره : «ما يشعركم بانتفاء الإيمان ، أو وقوعه».

الخامس : أن «لا» غير مزيدة ، وليس في الكلام حذف ، بل المعنى : «وما يدريكم انتفاء إيمانهم» ويكون هذا جوابا لمن حكم عليهم بالكفر ويئس من إيمانهم.

وقال الزّمخشري (١) : «وما يشعركم : وما يدريكم أنها ، أي : أن الآيات التي يقترحونها» «إذا جاءت لا يؤمنون بها» يعني : «أنا أعلم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون بها ، وأنتم لا تدرون بذلك». وذلك أنّ المؤمنين كانوا حريصين على إيمانهم ، وطامعين فيه إذا جاءت تلك الآية ، ويتمنّون مجيئها ، فقال ـ عزوجل ـ : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) على معنى : أنكم لا تدرون ما سبق علمي بهم ، أنهم لا يؤمنون ؛ ألا ترى إلى قوله : (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام : ١١٠] انتهى.

قال شهاب الدّين (٢) : بسط قوله إنّهم كانوا يطمعون في إيمانهم ، ما جاء في التّفسير : أنّ المشركين قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنزل علينا الآية الّتي قال الله فيها : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [الشعراء : ٤] ونحن والله نؤمن ، فأنزل الله تعالى : (وَما يُشْعِرُكُمْ) إلى آخرها وهذا الوجه : هو اختيار أبي حيّان (٣) ، فإنّه قال : «ولا يحتاج الكلام إلى زيادة «لا» ولا إلى هذا الإضمار ، يعني حذف المعطوف ، ولا إلى «أنّ» بمعنى : لعلّ ، وهذا كلّه خروج عن الظّاهر لغير ضرورة ، بل حمله على الظّاهر أولى ، وهو واضح سائغ ، أي : وما يشعركم ويدريكم بمعرفة انتفاء إيمانهم ، لا سبيل لكم إلى الشّعور بها».

السادس : أن «ما» حرف نفي ، يعني : أنه نفى شعورهم بذلك ، وعلى هذا فيطلب ل «يشعركم» فاعل.

فقيل : هو ضمير الله ـ تعالى ـ أضمر للدّلالة عليه ، وفيه تكلّف بعيد ، أي : «وما يشعركم الله أنّها إذا جاءت الآيات المقترحة لا يؤمنون». وقد تقدّم في البقرة كيفيّة قراءة أبي عمرو ل «يشعركم» ، و (يَنْصُرْكُمُ) [آل عمران : ١٦٠] ، ونحوهما عند قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ) [البقرة : ٦٧] ، وحاصلها ثلاثة أوجه : الضّمّ الخالص ، والاختلاس ، والسّكون المحض.

وقرأ الجمهور (٤) : «لا يؤمنون» بياء الغيبة ، وابن عامر ، وحمزة بتاء الخطاب.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٧.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٥٦.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٠٤.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٥٧ إعراب القراءات السبع ١ / ١٦٧ السبعة ٢٦٥ ، النشر ٢ / ٢٦١ الحجة لابن خالويه (١٤٧) الوسيط ٢ / ٣١١ الحجة لأبي زرعة (٢٦٧) إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٦.

٣٧٢

وقرأ أيضا في الجاثية [آية : ٦] فبأي حديث بعد الله وآياته تؤمنون : بالخطاب ، وافقهما عليها الكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، والباقون : بالياء للغيبة ، فتحصّل من ذلك أنّ ابن عامر ، وحمزة يقرآن بالخطاب في الموضعين ، وأن نافعا ، وابن كثير ، وأبا عمرو ، وحفصا عن عاصم ، بالغيبة في الموضعين ، وأنّ الكسائيّ ، وأبا بكر عن عاصم : بالغيبة هنا ، وبالخطاب في الجاثية ، فقد وافقا أحد الفريقين في إحدى السّورتين والآخر في أخرى.

فأما قراءة الخطاب هنا : فيكون الظّاهر من الخطاب في قوله : (وَما يُشْعِرُكُمْ) أنه للكفّار ، ويتّضح معنى هذه القراءة على زيادة «لا» أي : وما يشعركم أنكم تؤمنون ، إذا جاءت الآيات الّتي طلبتموها كما أقسمتم عليه ، ويتّضح أيضا على كون «أنّ» بمعنى : لعلّ ، مع كون «لا» نافية ، وعلى كونها علّة بتقدير : حذف اللّام ، أي : «إنما الآيات عند الله فلا يأتيكم بها ؛ لأنّها إذا جاءت لا يؤمنون بها» ويتّضح أيضا على كون المعطوف محذوفا ، أي : «وما يدريكم بعدم إيمانكم ، إذا جاءت الآيات أو وقوعه ؛ لأن مآل أمركم مغيّب عنكم ، فكيف تقسمون على الإيمان عند مجيء الآيات؟» وإنّما يشكل ؛ إذا جعلنا «أنّ» معمولة ل «يشعركم» وجعلنا «لا» : نافية غير زائدة ؛ إذ يكون المعنى : «وما يدريكم أيّها المشركون بانتفاء إيمانكم ، إذا جاءتكم» ، ويزول هذا الإشكال بأنّ المعنى : أيّ شيء يدريكم بعدم إيمانكم ، إذا جاءتكم الآيات الّتي اقترحتموها؟ يعني : لا يمرّ هذا بخواطركم ، بل أنتم جازمون بالإيمان عند مجيئها ، لا يصدّكم عنه صادّ ، وأنا أعلم أنكم لا تؤمنون وقت مجيئها ؛ لأنكم مطبوع على قلوبكم.

وأمّا على قراءة الغيبة ، فتكون الهمزة معها مكسورة ؛ وهي قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، وأبي بكر عن عاصم ، ومفتوحة ؛ وهي قراءة نافع ، والكسائي ، وحفص عن عاصم.

فعلى قراءة ابن كثير ومن معه يكون الخطاب في : (وَما يُشْعِرُكُمْ) جائزا فيه وجهان :

أحدهما : أنّه خطاب للمؤمنين ، أي : «وما يشعركم أيّها المؤمنون إيمانهم» ثم استأنف إخبارا عنهم بأنّهم لا يؤمنون ، فلا تطمعوا في إيمانهم.

الثاني : أنه للكفّار ، أي : «وما يشعركم أيّها المشركون ما يكون منكم» ثم استأنف إخبارا عنهم بعدم الإيمان ؛ لعلمه السّابق فيهم وعلى هذا ففي الكلام التفات من خطاب إلى غيبة.

وعلى قراءة نافع يكون الخطاب للكفّار ، وتكون «أنّ» بمعنى : «لعلّ» كذا قاله أبو شامة ، وغيره.

وقال أبو حيّان (١) في هذه القراءة : «الظّاهر أن الخطاب للمؤمنين ، والمعنى : «وما

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٠٥.

٣٧٣

يدريكم أيّها المؤمنون ، أنّ الآية الّتي تقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون» يعني : أنا أعلم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون بها» ثم ساق كلام الزّمخشري بعينه الّذي قدّمت ذكره عنه في الوجه الخامس قال : «ويبعد جدا أن يكون الخطاب في (وَما يُشْعِرُكُمْ) للكفّار».

قال شهاب الدّين (١) : إنّما استبعده ؛ لأنّه لم ير في «أنّ» هذه أنّها بمعنى : «لعل» كما حكيته عنه.

وقد جعل أبو حيّان في مجموع (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) بالنّسبة إلى كسر الهمزة وفتحها ، والخطاب والغيبة أربع قراءات ، قال : وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والعليمي ، والأعشى عن أبي بكر.

وقال ابن عطيّة (٢) : ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم في رواية داود الأودي (٣) : إنّها بكسر الهمزة ، وقرأ باقي السّبعة : بفتحها ، وقرأ ابن عامر وحمزة : «لا تؤمنون» بتاء الخطاب ، والباقون بياء الغيبة ؛ فترتب أربع قراءات : الأولى : كسر الهمزة والياء ، وهي قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، وأبي بكر بخلاف عنه في كسر الهمزة ثم قال : القراءة الثّانية : كسر الهمزة والتّاء وهي رواية العليمي والأعشى عن أبي بكر عن عاصم ، والمناسب : أن يكون الخطاب للكفّار في هذه القراءة ، وكأنّه قيل : «وما يدريكم أيّها الكفّار وما يكون منكم»؟ ثم أخبرهم على جهة الجزم ، أنّهم لا يؤمنون على تقدير مجيئها ، ويبعد جدا أن يكون الخطاب في : (وَما يُشْعِرُكُمْ) للمؤمنين ، وفي «تؤمنون» للكفّار ، ثم ذكر القراءة الثّالثة ، والرّابعة ، ووجّههما بنحو ما نقلته عنه النّاس ، وفي إثباته القراءة الثّانية نظر لا يخفى ؛ وذلك أنّه لما حكى قراءة الخطاب في «تؤمنون» لم يحكها إلا عن حمزة ، وابن عامر فقط ، ولم يدخل معهما أبو بكر لا من طريق العليمي ، والأعشى ولا من طريق غيرهما ، والفرض : أن حمزة وابن عامر يفتحان همزة «أنّها» وأبو بكر يكسرها ويفتحها ولكنّه لا يقرأ : «يؤمنون» إلّا بياء الغيبة ، فمن أين تجيء لنا قراءة بكسر الهمزة ، والخطاب؟ وإنما أتيت بكلامه برمّته ؛ ليعرف المأخذ عليه ثم إني جوّزت أن تكون هذه رواية رواها ، فكشفت كتابه في القراءات ، وكان قد أفرد فيه فصلا انفرد به العليمي في روايته ، فلم يذكر أنه قرأ : «تؤمنون» بالخطاب ألبتّة ، ثم كشفت كتبا في القراءات عديدة ، فلم أرهم ذكروا ذلك ، فعرفت أنّه لما رأى للهمزة حالتين ، ولحرف المضارعة في «يؤمنون» حالتين ، ضرب اثنين في اثنين فجاء من ذلك أربع قراءات ، ولكن إحداها مهملة ، وقوله : (لا يُؤْمِنُونَ) متعلّقه محذوف ؛ للعلم به ، أي : «لا يؤمنون بها».

قوله : (وَنُقَلِّبُ) في هذه الجملة وجهان :

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٥٧.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٣٣.

(٣) في الأصل : الإيادي.

٣٧٤

أحدهما : ـ ولم يقل الزّمخشري غيره ـ أنّها وما عطف عليها من قوله : «ويذرهم» عطف على «يؤمنون» داخل في حكم (وَما يُشْعِرُكُمْ) ، بمعنى : «وما يشعركم أنّهم لا يؤمنون» «وما يشعركم أنّا نقلّب أفئدتهم وأبصارهم» ، «وما يشعركم أنّا نذرهم» وهذا يساعده ما جاء في التّفسير عن ابن عبّاس ، ومجاهد ، وابن زيد (١).

والثاني : أنّها استئناف إخبار ، وجعله أبو حيّان الظّاهر ، والظّاهر ما تقدّم.

و «الأفئدة» : جمع فؤاد ، وهو القلب ، ويطلق على العقل.

وقال الرّاغب (٢) : الفؤاد كالقلب ، لكن يقال له : فؤاد إذا اعتبر به معنى : «التّفؤد» أي : «التوقّد» يقال : «فأدت اللّحم» : «شويته» ومنه «لحم فئيد» أي : «مشويّ» وظاهر هذأ : أنّ الفؤاد غير القلب ، ويقال له : «فواد» بالواو الصّريحة ، وهي بدل من الهمزة ؛ لأنّه تخفيف قياسيّ ، وبه يقرأ ورش فيه وفي نظائره وصلا ووقفا ، وحمزة وقفا ويجمع على : أفئدة ، وهو جمع منقاس ، نحو : «غراب» ، و «أغربة» ويجوز «أفيدة» بياء بعد الهمزة ، وقرأ بها هشام في سورة إبراهيم (٣) ، وسيأتي إن ـ شاء الله تعالى ـ.

فصل في المراد من الآية

قال ابن عبّاس : يعني : ويحول بينهم وبين الإيمان ، فلو جئناهم بالآيات التي سألوا ما آمنوا بها كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة ، [أي : كما لو يؤمنوا بما قبلها من الآيات من انشقاق القمر وغيره (٤).

وقيل : كما لو يؤمنوا به أوّل مرة](٥) ؛ يعني : معجزات موسى وغيره من الأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ ؛ كقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) [القصص : ٤٨].

وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس : المرّة الأولى : دار الدنيا لو ردّوا من الآخرة إلى الدّنيا نقلّب أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان كما لم يؤمنوا في الدّنيا قبل مماتهم ؛ كقوله : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام : ٢٨].

فصل في بيان معنى التقليب

التّقليب ، والقلب واحد : وهو تحويل الشّيء عن وجهه ، وهذه الآية تدلّ على أنّ الكفر والإيمان بقضاء الله ، وقدره ، ومعنى تقليب الأفئدة والأبصار : هو أنه إذا جاءتهم الآيات القاهرة الّتي اقترحوها وعرفوا كيفيّة دلالتها على صدق الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم [إلّا أنه

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٠٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٧٣) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٢) ينظر : المفردات ٣٨٦.

(٣) الآية : ٣٧.

(٤) ينظر : القرطبي (٧ / ٤٤) والرازي (١٣ / ١٢٠) فقد ذكرا هذا المعنى.

(٥) سقط في ب.

٣٧٥

تعالى](١) إذا قلب قلوبهم وأبصارهم على ذلك الوجه ، بقوا على الكفر ولم ينتفعوا بتلك الآيات (٢).

قال الجبّائي (٣) : معناه : ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم في جهنّم ، على لهيب النّار وجمرها ؛ لنعذّبهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة في دار الدّنيا.

وقال الكعبي (٤) : المراد ب (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) : نفعل بهم كما نفعل بالمؤمنين من الفوائد والألطاف ، من حيث أخرجوا أنفسهم عن هذا الحدّ ؛ بسبب كفرهم.

وقال القاضي (٥) : المراد : ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم في الآيات الّتي ظهرت ، فلا تجدهم يؤمنون بها آخرا كما لم يؤمنوا بها أوّلا وهذه وجوه ضعيفة.

أما قول الجبّائي ؛ فمدفوع ؛ لأنه ـ تعالى ـ قال : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) ثم عطف عليه ، وقال : (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) فقوله : «ونذرهم» ليس مما يحصل في الآخرة ، فكان سوءا للنّظم في كلام الله ـ تعالى ـ حيث قدّم المؤخّر ، وأخّر المقدم من غير فائدة.

وأما قول الكعبي ؛ فضعيف ؛ لأنه إنما استحق الحرمان والخذلان على زعمه ؛ بسبب أنّهم قلّبوا أفئدة أنفسهم فكيف يحسن إضافته إلى الله تعالى في قوله : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) أي : نقلب القلب من حالة إلى حالة ، ومن صفة إلى صفة وعلى ما يقوله القاضي فليس الأمر كذلك ، بل القلب باق على حالة واحدة إلّا أنّه ـ تعالى ـ أدخل التّقليب والتّبديل في الدّلائل.

فصل

إنما قدّم الله ـ تعالى ـ ذكر تقليب الأفئدة على تقليب الأبصار ؛ لأن موضع الدّواعي والصّوارف هو القلب [فإذا حصلت الدّاعية في القلب ، انصرف البصر إليه شاء أم أبى ، وإذا حصلت الصّوارف في القلب](٦) انصرف البصر عنه هو ، وإن كان يبصره بحسب الظاهر إلّا أنه لا يصير ذلك الإبصار سببا للوقوف على الفوائد المطلوبة وهو معنى قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) [الأنعام : ٢٥] ، فلما كان المعدن هو القلب ، وأما السّمع والبصر ؛ فهما آلتان للقلب كانا لا محالة تابعين لأحوال القلب ، فلهذا السّبب وقع الابتداء بذكر تقلّب القلوب ههنا ، ثم أتبعه بذكر السّمع.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : الرازي ١٣ / ١٢٠.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : الرازي ١٣ / ١٢٠.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) سقط في أ.

٣٧٦

قوله : (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ) الكاف في محلّ نصب ، نعتا لمصدر محذوف و «ما» مصدريّة ، والتقدير كما قال أبو البقاء (١) : تقليبا ككفرهم عقوبة مساوية لمعصيتهم ، وقدّره الحوفيّ : فلا يؤمنون به إيمانا ثانيا ، كما لم يؤمنوا به أوّل مرة [وقيل : الكاف هنا للتّعليل ، أي : «نقلب أفئدتهم وأبصارهم ؛ لعدم إيمانهم أوّل مرّة».

وقيل : في الكلام حذف تقديره : «فلا يؤمنون به ثاني مرّة كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة](٢).

وقال بعض المفسّرين : الكاف هنا معناها : المجازاة ، أي : «لمّا لم يؤمنوا به أوّل مرّة ، نجازيهم بأن نقلّب أفئدتهم عن الهدى ، ونطبع على قلوبهم» ، فكأنّه قيل : ونحن نقلّب أفئدتهم ؛ جزاء لما لم يؤمنوا به أوّل مرّة ، قاله ابن عطية (٣) قال أبو حيان (٤) وهو معنى التّعليل الذي ذكرناه ، إلا أن تسميته ذلك بالمجازاة غريبة لا تعهد في كلام النّحويّين.

قال شهاب الدّين (٥) : قد سبق ابن عطيّة إلى هذه العبارة.

قال الواحدي (٦) : وقال بعضهم : معنى الكاف في (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا) : معنى الجزاء ، ومعنى الآية : ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم ، عقوبة لهم على ترك الإيمان في المرّة الأولى ، والهاء في «به» تعود على الله ـ تعالى ـ ، أو على رسوله ، أو على القرآن ، أو على القلب المدلول عليه بالفعل ، وهو أبعدها ، و «أوّل مرّة» : نصب على ظرف الزّمان ، وقد تقدم تحقيقه.

وقرأ إبراهيم النّخعي (٧) : «ويقلّب ـ ويذرهم ـ» بالياء ، والفاعل ضمير الباري ـ تعالى ـ.

وقرأ الأعمش : «تقلّب أفئدتهم وأبصارهم» على البناء للمفعول ، ورفع ما بعده على قيامه مقام الفاعل ، كذا رواها الزّمخشري (٨) عنه ، والمشهور بهذه القراءة ، إنّما هو النّخعيّ أيضا ، وروي عنه : «ويذرهم» بياء الغيبة كما تقدّم وسكون الرّاء ، وخرّج أبو (٩) البقاء هذا التّسكين على وجهين :

أحدهما : التّسكين لتوالي الحركات.

والثاني : أنه مجزوم عطفا على «يؤمنوا» والمعنى : جزاء على كفرهم ، وأنّه لم يذرهم في طغيانهم ، بل بيّن لهم ، وهذا الثّاني ليس بظاهر ، و «يعمهون» في محلّ حال ، أو مفعول ثان ؛ لأن التّرك بمعنى : التّصيير.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٧.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٣٤.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٠٦.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٥٨.

(٦) ينظر : الرازي ١٣ / ١٢٢.

(٧) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٥٨ إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٧.

(٨) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٨.

(٩) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٨.

٣٧٧

فصل في معنى الآية

قال عطاء : المعنى : أخذلهم ، وأدعهم في ضلالتهم يتمادون (١).

قال الجبّائي (٢) : المعنى : ونذرهم ، أي : لا نحول بينهم وبين اختيارهم من ذلك لكن نمنعهم من ذلك بمعاجلة الهلاك وغيره ، لكنّا نمهلهم إن أقاموا على طغيانهم ، فذلك من قبلهم وهو يوجب تأكيد الحجّة عليهم.

وقال أهل السّنّة (٣) : نقلّب أفئدتهم من الحقّ إلى الباطل ، ونتركهم في ذلك الطّغيان ، وفي ذلك الضّلال والعمه.

ويقال للجبّائي : إنّك تقول : إن إله العالم ما أراد بعباده إلّا الخير والرّحمة ، فلم ترك هذا المسكين حتى عمه في طغيانه؟ ولم لا يخلصه عنه على سبيل الإلجاء والقهر؟ أقصى ما في الباب ؛ أنه إن فعل به ذلك لم يكن مستحقا إلى الثّواب ، فيفوته الاستحقاق فقط ، وقد يسلم من العقاب ، أمّا إذا تركه في ذلك العمه مع علمه بأنه يموت عليه ، فإنه لا يحصل له استحقاق الثّواب ، ويحصل له العقاب العظيم الدّائم ، فالمفسدة الحاصلة عن خلق الإيمان فيه على سبيل الإلجاء ، مفسدة واحدة ؛ وهي فوات استحقاق الثّواب مع حصول العقاب الشّديد ، والرّحيم المحسن النّاظر إلى عباده ، لا بدّ وأن يرجّح الجانب الّذي هو أكثر إصلاحا ، وأقل فسادا ، فعلمنا أنّ إبقاء ذلك الكافر في ذلك العمه والطّغيان ، يقدح في أنّه لا يريد به إلّا الخير والإحسان (٤).

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)(١١١)

اعلم : أنه ـ تبارك وتعالى ـ بيّن في هذه الآية الكريمة تفصيل ما ذكره مجملا في قوله : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) بيّن أنّه ـ تعالى ـ لو أعطاهم ما طلبوه من إنزال الملائكة حتّى رأوهم عيانا ، وإحياء الموتى حتّى كلّموهم ، وشهدوا لك بالنّبوّة كما سألوا ، بل زاد في ذلك ما لا يبلغه اقتراحهم بأن يحشر عليهم كلّ شيء قبلا ، ما كانوا ليؤمنوا إلّا أن يشاء الله.

قال ابن عبّاس : المستهزئون بالقرآن العظيم كانوا خمسة : الوليد بن المغيرة المخزومي ، والعاص بن وائل السّهمي ، والأسود بن عبد يغوث الزّهري ، والأسود بن المطّلب ، والحارث بن حنظلة ، ثمّ إنّهم أتوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورهط من أهل مكّة المشرّفة ، وقالوا له : أرنا الملائكة يشهدوا بأنّك رسول الله ، أو ابعث لنا بعض موتانا

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره ٢ / ١٢٣.

(٢) ينظر : الرازي ١٣ / ١٢٢.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ١٢٢.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

٣٧٨

حتّى نسألهم أحقّ ما تقوله أم باطل ، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا ، أي : كفيلا بما تدّعيه ، فنزلت هذه الآية الكريمة (١).

وهذا يشكل باتّفاقهم على أنّ هذه السّورة نزلت دفعة واحدة ، بل الّذي ينبغي أن يكون المقصود منه : جواب ما ذكره بعضهم ، وهو أنّهم أقسموا بالله جهد أيمانهم ، لو جاءتهم آية ليؤمننّ بها ، فذكر الله ـ تبارك وتعالى ـ هذا الكلام بيانا لكونهم كاذبين ، وأنّه لا فائدة في إنزال الآيات ، وإظهار المعجزات بعد المعجزات ، بل المعجزة الواحدة لا بد منها ليتميّز الصّادق عن الكاذب ، فأمّا الزيادة عليها ، فتحكم محض لا حاجة إليه ، وإلّا فلهم أن يطلبوا بعد ظهور المعجزة الثّانية ثالثة ، وبعد الثّالثة رابعة ، ويلزم منه ألّا تستقرّ الحجة ، وأن لا ينتهي الأمر إلى مقطع ومفصل ، وذلك يوجب سدّ باب النّبوات.

قوله : «قبلا» قرأ (٢) نافع ، وابن عامر : «قبلا» هنا وفي الكهف بكسر القاف ، وفتح الباء ، والكوفيّون هنا وفي الكهف بضمّها وأبو عمرو ، وابن كثير بضمّها هنا ، وكسر القاف ، وفتح الباء في الكهف ، وقرأ الحسن البصري ، وأبو حيوة ، وأبو رجاء بالضّمّ والسّكون.

وقرأ أبيّ والأعمش «قبيلا» بياء مثنّاة من تحت بعد باء موحّدة مكسورة ، وقرأ طلحة بن مصرّف : «قبلا» بفتح القاف وسكون الباء.

فأما قراءة نافع ، وابن عامر ففيها وجهان :

أحدهما : أنّها بمعنى مقابلة ، أي : معاينة ومشاهدة ، وانتصابه على هذا الحال قاله أبو عبيدة(٣) ، والفرّاء (٤) ، والزّجّاج (٥) ، ونقله الواحدي أيضا عن جميع أهل اللّغة ، يقال : «لقيته قبلا» أي عيانا.

وقال ابن الأنباري : قال أبو ذرّ : قلت للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنبيّا كان آدم؟ فقال : نعم ، كان نبيّا كلّمه الله قبلا (٦) وبذلك فسّرها ابن عبّاس ، وقتادة ، وابن زيد ، ولم يحك الزّمخشري غيره ، فهو مصدر في موضع الحال كما تقدّم.

والثاني : أنّها بمعنى ناحية وجهة قاله المبرّد ، وجماعة من أهل اللّغة كأبي زيد ، وانتصابه حينئذ على الظّرف ، كقولهم : «لي قبل فلان دين» و «ما قبلك حقّ» ، ويقال :

__________________

(١) ذكره الفخر الرازي في «تفسيره» (١٣ / ١٢٣) عن ابن عباس.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٥٩ ، الحجة لأبي زرعة ٢٦٧ السبعة ٢٦٦ ، النشر ٢ / ٢٦٢ المشكل ١ / ٢٦٥ التبيان ١ / ٥٣٢ معاني القرآن للزجاج ٢ / ٣١١ للفراء ١ / ٣٥١ للأخفش ٢ / ٥٠١ إعراب القراءات ١ / ١٦٧.

(٣) ينظر : مجاز القرآن ١ / ٢٠٤.

(٤) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٥١.

(٥) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣١١.

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٥١) وعزاه لعبد بن حميد والآجري في الأربعين من حديث أبي ذر.

٣٧٩

«لقيت فلانا قبلا ، ومقابلة ، وقبلا ، وقبلا وقبليا ، وقبيلا». كله بمعنى واحد ، ذكر ذلك أبو زيد ، وأتبعه بكلام طويل مفيد فرحمه‌الله ـ تعالى ـ وجزاه الله خيرا.

وأمّا قراءة الباقين هنا ففيها أوجه :

أحدها : أن يكون «قبلا» جمع قبيل ، بمعنى : كفيل ؛ «كرغيف» و «رغف» ، و «قضيب» و «قضب» ، و «نصيب» و «نصب».

وانتصابه حالا.

قال الفرّاء (١) والزّجّاج (٢) : جمع قبيل بمعنى : كفيل أي : كفيلا بصدق محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ، ويقال : قبلت الرّجل أقبله قبالة بفتح الباء في الماضي والقاف في المصدر ، أي : تكفّلت به ، والقبيل ، والكفيل ، والزّعيم ، والأذين والضّمين ، والحميل ، بمعنى واحد.

وإنما سمّيت الكفالة قبالة ؛ لأنّها أوكد تقبّل ، وباعتبار معنى الكفالة سمّي العهد المكتوب : قبالة.

وقال الفرّاء (٣) في سورة الأنعام : «قبلا» جمع «قبيل» وهو «الكفيل» قال : وإنّما اخترت هنا أن يكون القبل في معنى الكفالة ؛ لقولهم : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [الإسراء : ٩٢] يضمنون ذلك.

الثاني : أن يكون جمع قبيل ، بمعنى : جماعة جماعة ، أو صنفا صنفا.

والمعنى : «وحشرنا عليهم كلّ شيء فوجا فوجا ، ونوعا نوعا من سائر المخلوقات».

الثالث : أن يكون «قبلا» بمعنى : قبلا كالقراءة الأولى في أحد وجهيها وهو المواجهة أي : مواجهة ومعاينة ، ومنه «آتيك قبلا لا دبرا» أي : آتيك من قبل وجهك ، وقال تعالى : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ) [يوسف : ٢٦]. وقرىء (٤) : «لقبل عدتهن» [الطلاق : ٤١] ، أي : لاستقبالها ، وقال الفرّاء (٥) : «وقد يكون قبلا : من قبل وجوههم».

وأمّا الذي في سورة الكهف : فإنه يصحّ فيه معنى المواجهة ، والمعاينة ، والجماعة صنفا صنفا ؛ لأن المراد بالعذاب : الجنس ، وسيأتي له مزيد بيان. و «قبلا» نصب على الحال ـ كما مرّ ـ من «كلّ» ، وإن كان نكرة ؛ لعمومه ، وإضافته ، وتقدّم أنّه في أحد أوجهه ينصب على الظّرف عند المبرّد.

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٥٠.

(٢) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣١١.

(٣) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٥٠.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٥٩ ، المحرر الوجيز ٢ / ٣٣٥.

(٥) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٥٠.

٣٨٠