اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٢

بعضها ك «ليس» ، فإنه لا يجيز حذف التاء منها لو قلت : «ليس هند قائمة» لم يجز.

الثاني : أن في «يكون» ضميرا يعود على الله تعالى ، و «له» خبر مقدّم ، و «صاحبة» مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر «يكون».

الثالث : أن يكون «له» وحده هو الخبر ، و «صاحبة» فاعل به لاعتماده وهذه أولى ممّا قبله ؛ لأن الجارّ أقرب إلى المفرد ، والأصل في الأخبار الإفراد.

الرابع : أنّ في «يكون» ضمير الأمر والشأن ، و «له» خبر مقدّم ، و «صاحبة» مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر «يكون» مفسّرة لضمير الشأن ، ولا يجوز في هذا أن يكون «له» هو الخبر وحده ، و «صاحبة» فاعل به ، كما جاز في الوجه قبله.

والفرق أن ضمير الشّأن لا يفسّر إلا بجملة صريحة ، وقد تقدّم أن هذا النّوع من قبيل المفردات ، و [«تكن»](١) يجوز أن تكون النّاقصة أو التامة حسبما تقدّم فيما قبلها.

وقوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) هذه جملة إخبارية مستأنفة ، ويجوز أن تكون حالا وهي حال لازمة.

فصل في إبطال نسبة الولد إلى الله تعالى عن ذلك

اعلم أنّ المقصود من الآية بيان إبطال من يثبت الولد منه تبارك وتعالى ، فيقال لهم : إما أن تريدوا بكونه ولدا لله تبارك وتعالى [كما هو المعهود من كون الإنسان ولدا لأبيه](٢) أو أبدعه من غير تقدّم نطفة ووالد ، وإما أن تريدوا بكونه ولدا لله كما هو المألوف ، وإما أن تريدوا بكونه ولدا لله مفهوما ثالثا مغايرا لهذين المفهومين ، أما الأول فباطل ؛ لأنه ـ تبارك وتعالى ـ وإن كان يحدث الحوادث في مثل هذا العالم الأسفل ، بناء على أسباب معلومة ، إلّا أنّ النصارى يسلمون أن العالم الأسفل محدث.

فصل في رد شبهة النصارى

وإذا كان كذلك لزمهم الاعتراف بأن الله ـ تعالى ـ خلق السّموات والأرض من غير سبق مادّة ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون إحداثه للسموات والأرض إبداعا ، فلو لزم من مجرد كونه مبدعا [لإحداث عيسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ كونه والدا له لزم من كونه مبدعا](٣) للسموات والأرض أن يكون والدا لهما ، وذلك محال ، فلزم من كونه مبدعا لعيسى عليه الصّلاة والسلام ألّا يكون والدا لهما وهذا هو المراد من قوله : (بَدِيعُ (٤) السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وإنما ذكر السّموات والأرض فقط ، ولم يذكر ما فيهما ، لأن حدوث ما في السماوات والأرض ليس على سبيل الإبداع ، أمّا حدوث ذات السماوات والأرض ،

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

٣٤١

فقد كان على سبيل الإبداع ، فحصل الإبداع بذكر السماوات والأرض لا بذكر ما فيهما ، وإن أرادوا من الولادة الأمر المعهود في الحيوانات ، فهذا أيضا باطل من وجوه :

أولها : أن الولادة لا تصحّ إلا ممن له زوجة وشهوة ينفصل عنه بجزء في باطن تلك الصّاحبة ، وهذه الأحوال إنما تثبت في حقّ الجسم الذي يصح عليه الاجتماع والافتراق ، والحركة والسكون والشّهوة واللّذّة ، وكل ذلك على خالق العالم محال ، وهذا هو المراد من قوله : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ).

ثانيها : أن تحصيل الولد بهذا الطريق المعتاد إنما يصح في حق من لا يكون قادرا على الخلق ، وأمّا الخالق لكل الممكنات ، القادر على كل المحدثات ، فإذا أراد إحداث شيء قال له : «كن فيكون» ومن كان هذا صفته يمتنع إحداث شخص بطريق الولادة ، وهذا هو المراد من قوله : (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ).

وثالثها : أن هذا الولد إمّا أن يكون قديما أو محدثا ، لا جائز أن يكون قديما ؛ لأن القديم يجب كونه واجب الوجود لذاته وما كان واجبا لذاته غني عن غيره ، فيمتنع كونه ولدا لغيره ، فبقي أن يكون الولد محدثا ، وإذا كان والدا كان محدثا فنقول : إنه تبارك وتعالى عالم بجميع المعلومات ، فإما أن يعلم أن له في تحصيل الولد كمالا ونفعا أو يعلم أنه ليس الأمر كذلك ، فإن كان الأول فلا وقت يفرض أن الله ـ تعالى ـ خلق هذا الولد فيه إلّا والدّاعي إلى إيجاد هذا الولد كان حاصلا قبله ، فيلزم حصول الولد قبل ذلك ، وهذا يوجب كون ذلك الولد أزليّا وهو محال.

وإن علم أنه ليس في تحصيل الولد كمال ونفع ، فيجب ألّا يحدثه ألبتة ، وهذا هو المراد من قوله تعالى : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وأما الاحتمال الثالث فذلك باطل غير متصوّر ، ولا مفهوم للعقل ، فالقول بإثبات الولادة بناء على ذلك محض الجهل ، وهو باطل.

قوله : «ذلكم» أي : ذلكم الموصوف بتلك الصّفات المتقدمة الله تعالى فاسم الإشارة مبتدأ ، و «الله» تعالى خبره ، وكذا «ربكم» ، وكذا الجملة من قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، وكذا «خالق».

قال الزمخشري (١) : «وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة».

قال شهاب الدين (٢) : وهذا عند من يجيز تعدّد الخبر مطلقا ، ويجوز أن يكون «الله» وحده هو الخبر ، وما بعده أبدال ، كذا قال أبو البقاء (٣) ، وفيه نظر من حيث إنّ بعضها مشتقّ ، والبدل يقلّ بالمشتقّات ، وقد يقال : إنّ هذه وإن كانت مشتقّة ولكنها بالنّسبة إلى

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٣.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٨.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٦.

٣٤٢

الله ـ تعالى ـ من حيث اختصاصها به صارت كالجوامد ، ويجوز أن يكون «الله» تعالى هو البدل ، وما بعده أخبار أيضا.

ومن منع تعدّد الخبر قدّر قبل كلّ خبر مبتدأ أو يجعلها كلها بمنزلة اسم واحد ، كأنه قيل : ذلكم الموصوف هو الجامع بين هذه الصفات.

فصل في إثبات وحدانية الله تعالى

اعلم أنه ـ تبارك وتعالى ـ لمّا أقام الحجّة على وجود الإله القادر المختار الحكيم ، وبيّن فساد كل من ذهب إلى الإشراك ، وفصّل مذهبهم ، وبيّن فساد كل واحد منها ، ثم حكى مذهب من أثبت لله البنين ، وبيّن فساد القول بها بالدليل القاطع ، فعند هذا ثبت أن إله العالم فرد أحد صمد منزّه عن الشّريك والنظير ، ومنزّه عن الأولاد ، فعند هذا صرّح بالنّتيجة ، فقال : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) ولا تعبدوا غيره ، فهو المطّلع بمهمّات جميع العباد ، وهو الذي يسمع دعاءهم وحاجتهم ، وهو الوكيل لكل أحد على حصول مهمّاته.

اعلم أنه ـ تبارك وتعالى ـ بيّن في هذا السورة بالدلائل القاطعة الكثيرة افتقار الخلق إلى خالق وموجد ومبدع ومدبّر ، ولم يذكر دليلا منفصلا يدلّ على نفي الشركاء والأضداد والأنداد ، بل نقل قولة من أثبت الشريك من الجن ، ثم أبطله ثم أتى بالتوحيد المحض بعده ، فقال : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) وإقامة الدليل على وجود الخالق وتزييف دليل من أثبت لله ـ تعالى ـ شريكا كيف يوجب الجزم بالتوحيد المحض ، وللعلماء في إثبات التوحيد طرق :

أحدها : قال المتقدّمون : الصّانع الواحد كاف في كونه إلها للعالم ومدبّرا له ، والقول بالزّائد على الواحد متكافىء ، لأن الزّائد على الواحد لم يدلّ الدليل على ثبوته ، ولم يكن إثبات عدد أولى من إثبات عدد آخر ، فلزم إمّا إثبات آلهة لا نهاية لها ، وهو محال ، أو إثبات عدد معيّن ، مع أنه ليس ذلك العدد أولى من سائر الأعداد ، وهو أيضا محال ، وإذا بطل القسمان تعيّن القول بالتوحيد.

الثاني : أن الإله القادر على كلّ الممكنات العالم بكلّ المعلومات كاف في تدبير العالم ، فلو قدرت إلها ثانيا لكان ذلك الثّاني إمّا أن يكون فاعلا مختارا أو موجد الشيء من حوادث العالم أولى بكون الأول باطلا لأنه لما كان كل واحد منهما قادرا على جميع الممكنات ، فكل فعل يفعله أحدهما صار كونه فاعلا لذلك الفعل مانعا للآخر عن تحصيل مقصوده ومقدوره ، وذلك يوجب كون كل واحد منهما سببا لعجز الآخر وهو محال ، وإن كان الثاني لا يفعل فعلا ، ولا يوجد شيئا كان ناقصا معطلا ، وذلك لا يصلح للإلهية.

٣٤٣

الثالث : أن الإله الواحد لا بد وأن يكون [كاملا](١) في صفة الإلهية ، فلو فرضنا إلها ثانيا لكان ذلك الثاني إما أن يكون مشاركا للأوّل في جميع صفات الكمال أو لا ، فإن كان مشاركا للأوّل في جميع صفات الكمال ، فلا بد وأن يكون متميزا بأمرها ، إذ لو لم يحصل الامتياز [بأمر من الأمور لم يحصل التعدّد والاثنينية ، وإذ حصل الامتياز بأمر ما ، فذلك الأمر المميز إما أن يكون من صفات الكمال أو لا يكون ، فإن كان من صفات الكمال مع أنه حصل الامتياز به](٢) لم يكن جميع صفات الكمال مشتركا فيه بينهما وإن لم يكن ذلك المميز من صفات الكمال ، فالموصوف به يكون موصوفا بصفة ليست من صفات الكمال ، وذلك نقصان ، فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الإله الواحد كاف في تدبير العالم ، وأن الزائد يجب نفيه.

تمسّك العلماء ـ رضي الله عنهم ـ بقوله تبارك وتعالى (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) على أنه ـ تبارك وتعالى ـ هو الخالق لأعمال العباد قالوا : لأن أعمال العباد أشياء ، والله خالق لكل شيء بحكم هذه الآية ، فوجب كونه خالقا لها.

قالت المعتزلة (٣) : هذا اللّفظ وإن كان عاما إلا أنه حصل مع هذه الآية وجوه تدلّ على أن أعمال العباد خارجة عن هذا العموم.

أحدها : أنه ـ تبارك وتعالى ـ قال : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) ولو دخلت أعمال العباد تحته لصار تقدير الآية الكريمة : إنا خلقنا أعمالكم ، فافعلوها بأعيانها أنتم مرة أخرى ، وذلك فاسد.

وثانيها : أنه ـ تبارك وتعالى ـ إنما [قال :](٤)(خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) في معرض المدح والثناء على نفسه ، فلو دخل تحت أعمال العباد لخرج عن كونه مدحا ؛ لأنه لا يليق به تعالى أن يمتدح بخلق الزنا واللواط ، والسرقة والكفر.

وثالثها : أنه ـ تبارك وتعالى ـ قال بعد هذه الآية : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) وهذا تصريح بكون العبد مستقلا بالفعل والترك ، وأنه لا مانع له ألبتّة من الفعل والترك ، وذلك يدلّ على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى [إذ لو كان مخلوقا لله ـ تعالى ـ لما](٥) كان العبد مستقلا به ؛ لأنه إذا أوجده الله تعالى امتنع من العبد دفعه ، وإذا لم يوجده الله ـ تعالى ـ امتنع من العبد تحصيله ، وإذا دلّت الآية على كون العبد مستقلا بالفعل والترك ، وامتنع أن يقال : فعل العبد مخلوق لله تعالى ثبت أن قوله تعالى : (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) يوجب تخصيص ذلك العموم.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ١٠٠.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في أ.

٣٤٤

والجواب : أن الدليل العقليّ قد ساعد على صحّة ظاهر هذه الآية الكريمة ؛ لأن الفعل موقوف على الداعي ، وخالق الداعي هو الله ـ تعالى ـ ومجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل ، وذلك [يقتضي](١) كونه ـ تعالى ـ خالق كل شيء فاعبدوه ، ويدلّ على أن كونه خالقا لكل الأشياء سبب للأمر [بالعبادة](٢) لأنه رتب الأمر بالعبادة على كونه خالقا للأشياء بفاء التعقيب ، وترتيب الحكم مشعر بالسّببيّة.

فصل في دحض شبهة للمعتزلة في الصفات وخلق القرآن

احتجّ كثير من (٣) المعتزلة بقوله تبارك وتعالى : (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) على نفي الصفات ، وعلى كون القرآن مخلوقا ، أما نفي الصّفات ، فإنهم قالوا : لو كان ـ تعالى ـ عالما بالعلم قادرا بالقدرة لكان ذلك العلم والقدرة إما أن يقال : إنهما قديمان أو محدثان ، والأوّل باطل ؛ لأن عموم قوله : (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) يقتضي كونه ـ تبارك وتعالى ـ خالقا لكلّ الأشياء وخصّصنا هذا العموم بحسب ذاته تعالى ضرورة أنه يمتنع أن يكون خالقا لنفسه ، فيبقى على عمومه فيما عداه.

وإن قلنا بحدوث علم الله تعالى وقدرته ، فهو باطل بالإجماع ، ولأنه يلزم افتقار إيجاد ذلك العلم والقدرة إلى سبق علم آخر ، وقدرة أخرى ، وذلك محال. أمّا تمسّكهم بهذه الآية على كون القرآن مخلوقا فقالوا : لأن القرآن شيء وكل شيء فهو مخلوق لله ـ تبارك وتعالى ـ بحكم هذا العموم وأقصى ما في الباب أن هذا العموم دخله التّخصيص في ذات الله ـ تبارك وتعالى ـ إلّا أن العام المخصوص حجّة في غير محلّ التخصيص.

وجوابه : أن تخصيص هذا العموم بالدّلائل الدّالّة على أن كلام الله ـ تبارك وتعالى ـ قديم.

قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(١٠٣)

قال سعيد بن المسيّب : لا تحيط به الأبصار.

وقال عطاء : كلّت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به.

وقال ابن عبّاس : لا تدركه الأبصار في الدنيا وهو يرى في الآخرة (٤).

قوله : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) أي : لا يخفى عليه شيء ولا يفوته (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).

قال ابن عباس : اللّطيف بأوليائه ، الخبير بهم (٥).

وقال الأزهري (٦) : اللّطيف الرفيق بعباده.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : بالعداوة.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ١٠٠.

(٤) ذكره القرطبي في تفسيره ٧ / ٣٠٧.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ينظر : تهذيب اللغة ١٣ / ٣٤٧.

٣٤٥

وقيل : اللطيف الذي ينسي العباد ذنوبهم لئلّا يخجلوا ، واللّطافة ضدّ الكثافة ، والمراد منه الرقة ، وذلك في حقّ الله تعالى ممتنع ، فوجب المصير إلى التأويل ، وهو من وجوه (١) :

أحدها : لطف صنعه في تركيب أبدان الحيوانات من الأجزاء الدقيقة ، والمنافذ الضيقة التي لا يعلمها أحد إلا الله تبارك وتعالى.

وثانيها : لطيف بعباده حيث يثني عليهم عند الطّاعة ، ويأمرهم [بالتّوبة عند](٢) المعصية ، ولا يقطع عنهم موادّ رحمته ، سواء كانوا مطيعين أو عصاة.

وثالثها : لطيف بهم حيث لا يأمرهم فوق طاقتهم ، وينعم عليهم بما هو فوق استحقاقهم.

وأما الخبير فهو من الخبر ، وهو العلم ، والمعنى : أنه لطيف بعباده مع كونه عالما بما هم عليه من ارتكاب المعاصي والقبائح.

وقال الزمخشري (٣) : اللّطيف معناه : أنه يلطف عن أن تدركه الأبصار الخبير بكل لطيف ، فهو يدرك الأبصار ولا يلطف شيء عن إدراكه.

فصل فيما تدل عليه الآية

احتج أهل السّنّة بهذه الآية على أنه ـ تبارك وتعالى ـ لا تدركه الأبصار ، وذلك مما يساعد الخصم عليه ، وعليه بنوا استدلالهم على نفي الرؤية ، فنقول : لو لم يكن تعالى جائز الرّؤية لما حصل التّمدّح بقوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ؛ ألا ترى أن المعدوم لا تصحّ رؤيته ، والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم لا يصح رؤية شيء منها ولا مدح لشيء منها في كونها بحيث لا يصحّ رؤيتها ، فثبت أن قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) يفيد المدح ، وثبت أن ذلك إنما يفيد المدح لو كان صحيح الرّؤية ، وهذا يدلّ على أن قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) يفيد كونه ـ تعالى ـ جائز الرّؤية ، وتحقيقه أن الشيء إذا كان في نفسه بحيث يمتنع رؤيته ، فحينئذ لا يلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم لذلك الشيء ، أما إذا كان في نفسه جائز الرؤية ، ثم إنه قدر على حجب الأبصار عن رؤيته ، وعن إدراكه كانت هذه القدرة دالّة على المدح والعظمة ، فثبت أن هذه الآية دالّة على أنه ـ تعالى ـ يجوز رؤيته بحسب ذاته ، وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن المؤمنين يرونه [يوم القيامة ، والدليل عليه أن القائل قائلان قائل قال بجواز الرؤية ، مع أن المؤمنين يرونه ، وقال قال : لا يرونه ، ولا تجوز](٤) رؤيته.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٣ / ١٠١.

(٢) في ب : بالطاعة عن.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٤.

(٤) سقط في أ.

٣٤٦

فأما القول بأنه ـ تعالى ـ تجوز رؤيته ، مع أنه لا يراه أحد من المؤمنين ، فهذا قول لم يقل به أحد من الأمّة ، فكان باطلا (١).

الثاني : أن نقول : المراد ب «الأبصار» في قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ليس هو نفس الإبصار ، فإن البصر لا يدرك شيئا ألبتة في موضع من المواضع ، بل المدرك هو المبصر ، فوجب القطع بأن المراد من قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) هو إدراك المبصرين ، ومعتزلة (٢) البصرة يوافقون بناء على أنه ـ تعالى ـ يبصر الأشياء ، فكان تعالى من جملة المبصرين ، فقوله تعالى : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) يقتضي كونه تعالى مبصرا لنفسه ومن قال : إن المؤمنين يرونه يوم القيامة ، فدلّت الآية الكريمة على أنه جائز الرؤية ، وعلى أنّ المؤمنين يرونه يوم القيامة ، وإذا اختصرنا هذا الاستدلال قلنا قوله تعالى : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) المراد منه إنما نفس البصر ، أو المبصر على التقديرين يلزم كونه ـ تعالى ـ مبصرا لإبصار نفسه ، أو كونه مبصرا لذات نفسه ، وإذا ثبت هذا وجب أن يراه [المؤمنون](٣) يوم القيامة ضرورة أنه لا قائل بالفرق (٤).

الثالث : أن لفظ «الأبصار» صيغة جمع دخل عليها الألف واللام ، فهي تفيد الاستغراق في قوله : (تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ).

[فإذا كان كذلك كان قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ)(٥) يفيد أنه لا تراه جميع الأبصار ، فهذا يفيد سلب العموم ، ولا يفيد عموم السّلب ، وإذا عرف هذا فنقول : تخصيص هذا السّلب بالمجموع يدلّ على ثبوت الحكم في بعض أفراد المجموع ؛ ألا ترى أن الرّجل إذا قال : إن زيدا ما ضربه كل الناس فإنه يفيد أنه ضربه بعضهم ، وإذا قيل : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما آمن به كل الناس أفاد أنه آمن به بعض الناس ، فكذلك قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) معناه أنه : لا تدركه كل الأبصار ، فوجب أن يفيد أنه تدركه بعض الأبصار أقصى ما في الباب أن يقال : هذا تمسّك بدليل الخطاب ، فنقول : هب أنه كذلك إلّا إنه دليل صحيح ؛ لأن بتقدير ألّا يحصل الإدراك لأحد البتّة كان تخصيص هذا السّلب بالمجموع من حيث هو مجموع عبثا ، وصون كلام الله ـ تعالى ـ عن العبث واجب.

الرابع : نقل أن ضرار بن عمرو الكوفيّ كان يقول : إن الله ـ تعالى ـ لا يرى بالعين ، وإنما يرى بحاسّة سادسة يخلقها يوم القيامة واحتج بهذه الآية الكريمة ، فقال : دلّت [هذه] الآية الكريمة على تخصيص نفي إدراك الله ـ تبارك وتعالى ـ بالبصر ، وتخصيص الحكم بالشيء يدلّ على أن الحال في غيره بخلافه ، فوجب أن يكون إدراك الله ـ تبارك وتعالى ـ بغير البصر جائزا في الجملة ، ولما ثبت أن سائر الحواسّ الموجودة

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ١٠٢.

(٢) ينظر : الرازي ١٣ / ١٠٣.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : الرازي ١٣ / ١٠٣.

(٥) سقط في ب.

٣٤٧

الآن لا تصلح لذلك وجب أن يقال : إنه تعالى يخلق يوم القيامة حاسّة سادسة بها تحصل رؤية الله ـ تعالى ـ (١) وإدراكه.

واستدلّ المعتزلة بهذه الآية الكريمة على نفي الرّؤية من وجهين :

الأول : قالوا : الإدراك بالبصر عبارة عن الرّؤية بدليل لو قال قائل : أدركته ببصري ، وما رأيته ، أو قال : رأيته ، وما أدركته ببصري ، فإنّ كلامه يكون متناقضا ، فثبت أن الإدراك بالبصر عبارة عن الرّؤية ، وإذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) يقتضي أنه لا يراه شيء من الأبصار في شيء من الأحوال ، ويدل على صحّة هذا العموم وجهان :

الأول : أنه يصح استثناء جميع الأشخاص ، وجميع الأحوال عنه ، فيقال : لا تدركه الأبصار إلّا بصر فلان وإلّا في الحالة الفلانيّة ، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل ، فثبت أن عموم هذه الآية الكريمة يفيد عموم النفي عن كلّ الأشخاص ، وفي جميع الأحوال ، وذلك يدلّ على أن أحدا لا يرى الله ـ تعالى ـ في حال من الأحوال.

الثاني : أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ لما أنكرت قول ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ في أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربّه ليلة المعراج تمسّكت بهذه الآية ، ولو لم تكن هذه الآية تفيد العموم بالنسبة إلى كلّ الأشخاص ، وكلّ الأحوال لما تمّ ذلك الاستدلال ، وكانت من أعظم (٢) الناس بلغة العرب.

الوجه الثاني : أن قوله : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) مدح وثناء ، فوجب أن يكون قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) مدحا وثناء ، وإلّا لزم أن يقال : إن ما ليس بمدح وثناء وقع في خلال ما هو مدح وثناء ، وذلك يوجب الرّكاكة وهي غير لائقة بكلام الله ـ تبارك وتعالى ـ وإذا ثبت هذا فنقول: كل ما كان عدمه (٣) مدحا ، ولم يكن من باب الفعل كان ثبوته نقصا في حقّ الله ـ تبارك وتعالى ـ والنّقصان على الله محال. واعلم أن القوم إنما قيدوا ذلك بما لا يكون من باب الفعل ؛ لأنه تعالى تمدّح بنفي الظّلم عن نفسه في قوله : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) [آل عمران : ١٠٨] (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] مع أنه تبارك وتعالى قادر على الظّلم عندهم ، وذكروا هذا القيد دفعا لهذا النّقض عن كلامهم فهذا [غاية](٤) تقرير كلامهم في هذا الباب.

والجواب عن الأوّل من وجوه :

أحدها : لا نسلّم أن إدراك البصر عبارة عن الرّؤية ؛ لأن لفظ الإدراك في أصل اللغة عبارة عن اللّحوق والوصول ؛ قال تعالى : (قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء : ٦١]

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ١٠٣.

(٢) في أ : أهل.

(٣) في أ : عريمه.

(٤) سقط في أ.

٣٤٨

أي لملحقون ، وقال : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) [يونس : ٩٠] أي : لحقه ، ويقال : أدرك فلان فلانا ، وأدرك الغلام الحلم ، أي : بلغ ، وأدركت الثمرة ، أي : نضجت ، فثبت أن الإدراك هو الوصول إلى الشيء ، وإذا عرف هذا فنقول المرئيّ إذا كان له حدّ ونهاية ، وأدركه البصر بجميع حدوده وجوانبه ونهايته صار ذلك الإبصار كأنه أحاط به فتسمّى هذه الرّؤية إدراكا.

أما إذا لم يحط البصر بجوانب المرئيّ لم تسمّ تلك الرؤية [إدراكا ، فالحاصل أن الرؤية](١) جنس تحته نوعان : رؤية مع الإحاطة [ورؤية لا مع الإحاطة ، والرؤية مع الإحاطة](٢) هي التي تسمى إدراكا ، فنفي الإدراك يفيد نفي الجنس ، فلم يلزم من نفي الإدراك على الله ـ تعالى ـ نفي الرؤية عن الله ، وهذا وجه حسن في الاعتراض على كلامهم ، فإن قالوا : إن قلتم : إنّ الإدراك يغاير الرؤية ، فقد أفسدتم على أنفسكم الوجوه الأربعة التي تمسّكتم بها في هذه الآية الكريمة على إثبات الرؤية.

قلنا : هذا يفيد أنه إدراك أخصّ من الرّؤية ، وإثبات الأخصّ يوجب إثبات الأعمّ ، أما نفي الأخصّ فلا يوجب نفي الأعمّ ، فثبت أن البيان الذي ذكرناه يبطل كلامهم ، ولا يبطل كلامنا.

وثانيها : أن نقول : هب أن الإدراك يفيد عموم النّفي عن كل الأشخاص في كلّ الأحوال ، فلا نسلّم أنه يفيد نفي العموم ، إلّا أن نفي العموم غير ، وعموم النفي غير ، وقد دلّلنا على أن هذا اللّفظ لا يفيد إلا نفي العموم ، وبيّنّا أن نفي العموم يوجب ثبوت الخصوص (٣).

وأما قولهم : إن عائشة تمسّكت بهذه الآية في نفي الرؤية ، فنقول : معرفة مفردات اللغة إنما تكتسب من علماء اللغة ، فأمّا كيفية الاستدلال بالدليل ، فلا يرجع فيه إلى التّقليد ، وبالجملة فالدليل العقليّ دلّ على أن قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) يفيد نفي العموم وثبت بصريح العقل أن نفي لعموم مغاير لعموم النّفي ، ومقصودهم إنما يتمّ لو دلّت الآية الكريمة على عموم النفي ، فسقط كلامهم (٤).

وثالثها : أن نقول : صيغة الجمع كما تحمل [على الاستغراق فقد تحمل](٥) على المعهود السّابق أيضا ، وإذا كان كذلك ، فقوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) وهي الأحداق وما دامت تبقى على هذه الصفات التي هي موصوفة بها في الدنيا لا تدرك الله تعالى ، وإنما تدرك الله تعالى إذا تبدّلت صفاتها ، وتغيّرت أحوالها ، فلم قلتم : إن حصول هذه التغيرات لا تدرك الله تعالى.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ١٠٥.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) سقط في أ.

٣٤٩

ورابعها : سلّمنا أن الأبصار لا تدرك الله ـ تبارك وتعالى ـ فلم لا يجوز حصول إدراك لله تبارك وتعالى بحاسّة سادسة مغايرة لهذه الحواسّ ، كما قال ضرار بن عمرو به ، وعلى هذا التقدير فلا يبقى بالتمسّك بهذه الآية الكريمة فائدة.

وخامسها : هب أن هذه الآية عامّة ، إلّا أنّ الآيات الدّالّة على إثبات رؤية الله تعالى خاصّة ، والخاصّ مقدّم على العام ، وحينئذ ينتقل الكلام إلى أنّ بيان أن تلك الآيات هل تدلّ على حصول رؤية الله تعالى أم لا؟

وسادسها : أن نقول بموجب الآية الكريمة ، فنقول : سلمنا أن الأبصار لا تدرك الله ـ تعالى ـ فلم قلتم : إن المبصرين لا يدركون الله تعالى.

وأما الوجه الثاني فقد بيّنّا أنه يمتنع حصول التّمدّح بنفي الرؤية لو كان تعالى في ذاته بحيث تمتنع رؤيته ، ثم إنه تبارك وتعالى يحجب الإبصار عن رؤيته فسقط كلامهم بالكلية ، ثم نقول : إن النفي يمتنع أن يكون سببا لحصول المدح والثناء ، لأن النّفي المحض ، والعدم الصرف لا يكون سببا موجبا إلى المدح والثناء ، والعلم به ضروري ، بل إذا كان النّفي دليلا على حصول صفة ثابتة من صفات المدح والثناء ، فإن ذلك النّفي يوجب المدح.

مثاله : أن قوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥] أن هذا النفي في حقّ الباري ـ تعالى ـ يدل على كونه عالما بجميع المعلومات أبدا من غير تبدّل ولا زوال ، وكذا قوله : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) [الأنعام : ١٤] يدلّ على كونه قائما بنفسه غنيّا في ذاته ؛ لأن الجماد أيضا لا يأكل ولا يطعم ، وإذا ثبت هذا فقوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) يمتنع أن يفيد المدح والثناء ، إلا إذا دلّ على معنى موجود يفيد المدح والثناء ، وذلك هو الذي قلنا : إنه ـ تبارك وتعالى ـ قادر على حجب الأبصار ، ومنعها عن إدراكه ورؤيته ، فانقلب الكلام على المعتزلة ، وسقط الاستدلال. واعلم أن القاضي ذكر وجوها أخر تدلّ على نفي الرؤية ، وهي خارجة عن التّمسّك بهذه الآية الكريمة.

فأولها : أن الحاسّة إذا كانت سليمة ، وكان المرئي حاضرا ، وكانت الشرائط المعتبرة حاصلة ، وهو ألّا يحصل القرب القريب ، ولا البعد البعيد ، ولا يحصل الحجاب ، ويكون المرئي مقابلا ، أو في حكم المقابل ، فإنه يجب حصول الرؤية ؛ إذ لو جاز مع حصول هذه الأمور ألا تحصل الرؤية جاز أن يكون بحضرتنا بوقات وطبلات ولا نسمعها ولا نراها ، وذلك يوجب السّفسطة وإذا ثبت هذا فنقول: إن انتفاء القرب القريب ، والبعد البعيد ، والحجاب ، وحصول المقابلة في حق الله ـ تعالى ـ ممتنع ، فلو صحّت رؤيته لوجب أن يكون المقتضي لحصول تلك الرؤية هو سلامة الحاسّة ، وكون المرئي بحيث تصحّ رؤيته.

وثانيها : أنّ كل ما كان مرئيا كان مقابلا ، أو في حكم المقابل ، والله ـ تعالى ـ ليس كذلك ، فوجب أن تمتنع رؤيته.

٣٥٠

وثالثها : قال القاضي (١) : ويقال لهم كيف يراه أهل الجنة دون أهل النار ، فإما أن يقرب منهم أو يقابلهم ، فيكون حاله معهم دون أهل النار ، وهذا يوجب أنه جسم يجوز عليه القرب والبعد والحجاب.

ورابعها : قال : أهل الجنّة دون أهل النار يرونه في كل حال حتى عند الجماع وغيره ، وهو باطل ، ويرونه في حال دون حال ، وهو أيضا باطل ؛ لأن ذلك يوجب أنه ـ تبارك وتعالى ـ مرّة يقرب ، وأخرى يبعد ، وأيضا فرؤيته أعظم اللّذّات ، وإذا كان كذلك وجب أن يكونوا مشتهين (٢) لتلك الرّؤية أبدا ، فإذا لم يروه في بعض الأوقات وقعوا في الغمّ والحزن ، وذلك لا يليق بصفات أهل الجنّة. وهذه الوجوه في غاية الضّعف.

أمّا الأول : فيقال : هب أن الأجسام والأعراض عند سلامة الحاسّة ، وحضور المرئي ، وحصول سائر الشّرائط واجبة فلم قلتم : إنه يلزم منه وجوب حصول الرؤية إذا كان المرئي بحيث تصحّ رؤيته ألم تعلموا أنّ ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات ، ولا يلزم من ثبوت حكمه في شيء ثبوت مثل ذلك الحكم فيما يخالفه.

وأما الثاني : يقال : النزاع وقع في أن الموجود الذي لا يكون مختصا بمكان وجهة هل تجوز رؤيته أم لا؟ فإما أن تدّعوا أن العلم بامتناع رؤية هذا الموجود الموصوف بهذه الصفة علم بديهي ، أو تقولوا : علم استدلاليّ ، والأوّل باطل ؛ لأنه لو كان العلم به بديهيا لما وقع الخلاف فيه بين العقلاء ، وأيضا فبتقدير أن يكون هذا العلم بديهيا كان الاشتغال بذكر الدليل عبثا فاتركوا الدليل ، واكتفوا بذكر هذه البديهية.

وإن كان الثاني : فنقول قولكم المرئيّ يجب أن يكون مقابلا ، أو في حكم المقابل ، فلا فائدة في هذا الكلام إلا إعادة الدّعوى.

وأما الثالث : فيقال له : لم لا يجوز أن يقال : إنّ أهل الجنّة يرونه ، وأهل النار لا يرونه؟ لا لأجل القرب والبعد ، بل لأنّه ـ تعالى ـ يخلق الرؤية في عيون أهل الجنّة ، ولا يخلقها في عيون أهل النار ، فلو رجعت في إبطال هذا الكلام (٣) إلى أن تجويزه يفضي إلى تجويز أن يكون بحضرتنا بوقات وطبلات لا نراها ولا نسمعها ، كان هذا رجوعا إلى الطريقة الأولى ، وقد سبق جوابها.

وأما الرابع : فيقال : لم لا يجوز أن يقال : إنّ المؤمنين بدون الله ـ تبارك وتعالى ـ في حال دون حال [وقوله : فإنه يقتضي أن يقرب منه مرة ويبعد أخرى ، فنقول : هذا عود إلى أن الإبصار لا يحصل إلّا عند الشّرائط المذكورة وقد سبق جوابه ، وقوله : الرؤية أعظم اللّذّات ، فيقال له : إنّها وإن كانت كذلك ، إلّا أنه لا يبعد أن يقال : يشتهونها في حال دون حال بدليل أن سائر لذّات الجنّة ، ومنافعها لذيذة طيبة ، ثم إنها تحصل في حال

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ١٠٦.

(٢) في أ : مستهزئين.

(٣) في أ : المقام.

٣٥١

دون حال](١). فهذا تمام الكلام في الجواب عن الوجوه التي ذكرها.

وأما الدّلالة الدّالّة على أن المؤمنين يرون الله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣].

وقال مقاتل : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين : ١٥] قال مالك : لو لم ير المؤمنون ربّهم يوم القيامة لم يعدّ الله للكفار الحجاب ، وقال : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) [الإنسان : ٢٠] بفتح الميم وكسر اللام على إحدى القراءات ، ولما طلب موسى عليه الصلاة والسلام من الله تعالى الرؤية دلّ ذلك على جواز رؤية الله تعالى.

وأيضا علّق الرؤية على استقرار الجبل حيث قال : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] واستقرار الجبل جائز ، والمعلّق على الجائز جائز.

والوجوه الأربعة المتقدّمة في أوّل الآية الكريمة سيأتي الكلام عليها وعلى هذه الآيات ، وما يشبهها في الدّلالة في مواضعها إن شاء الله تعالى.

وأمّا الأخبار فكثيرة منها قوله عليه الصلاة والسلام : «سترون ربّكم كما ترون القمر ليلة البدر» (٢) وقال عليه‌السلام : «إنّكم سترون ربّكم عيانا» وقرأ عليه الصلاة والسلام قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] قال : «الحسنى» هي الجنّة و «الزّيادة» هي النّظر إلى وجه الله (٣).

واختلف الصحابة في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل رأى ربّه ليلة المعراج؟ ولم يكفّر بعضهم بعضا بهذا السّبب ، ولا نسبه إلى البدعة والضلالة ، وهذا يدلّ على أنهم كانوا مجتمعين على أنه لا امتناع عقلا في رؤيته تعالى ، والله تعالى أعلم ، وصلّى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلّم.

قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)(١٠٤)

لمّا بيّن بالبيّنات الباهرة ، والدلائل القاهرة المطالب الإلهية عاد إلى تقرير الدّعوة والتبليغ والرسالة ، وإنما ذكر الفعل لشيئين :

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) متفق عليه ، أخرجه البخاري في الصحيح ٢ / ٣٣ ، كتاب مواقيت الصلاة باب فضل صلاة العصر وفي ١٣ / ٤١٩ ، كتاب التوحيد باب قول الله تعالى : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ القيامة الآية (٢٣ ، ٢٤) الحديث (٧٤٣٤) ومسلم في الصحيح ١ / ٤٣٩ كتاب المساجد (٥) باب فضل صلاتي الصبح والعصر الحديث (٢١١ / ٦٣٣) وقوله : «لا تضامون» بضم التاء وتخفيف الميم من الضيم ، وهو الظلم ، قال الحافظ ابن حجر وهو الأكثر ، وفي نسخة بفتح التاء وتشديد الميم من التضامّ بمعنى التزاحم.

(٣) أخرجه مسلم في الصحيح ١ / ١٦٣ ، كتاب الإيمان باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى الحديث (٢٩٧ / ١٨١) و (٢٩٨ / ١٨١).

٣٥٢

أحدهما : الفصل بالمفعول.

والثاني : كون التأنيث مجازيّا.

والبصائر : جمع «بصيرة» وهي الدلالة التي توجب إبصار النفوس للشيء ومنه قيل للدّم الدال على القتيل «مبصرة» والبصيرة مختصّة بالقلب [كالبصر للعين ، هذا قول بعضهم.

وقال الراغب (١) : «ويقال لقوة القلب المدركة : «بصيرة وبصر»](٢) قال تبارك وتعالى : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) [القيامة : ١٤] وقال تعالى : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم : ١٧] وتقدّم تحقيق هذا في أوائل سورة «البقرة».

وأراد بالبصائر الآيات المتقدمة ، وهي في نفسها ليست بصائر إلا أنها لقوتها وجلائها توجب البصائر لمن عرفها ، ووقف على حقائقها ، فلما كانت سببا لحصول البصائر سميت بالبصائر.

قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) يجوز أن يتعلّق بالفعل قبله ، وأن يتعلّق بمحذوف على أنه صفة لما قبله ، أي : بصائر كائنة من ربكم و «من» في الوجهين لابتداء الغاية مجازا.

قوله : (فَمَنْ أَبْصَرَ) يجوز أن تكون شرطيّة ، وأن تكون موصولة فالفاء جواب الشّرط على الأوّل ، ومزيدة في الخبر لشبه الموصول باسم الشرط على الثّاني ، ولا بدّ قبل لام الجرّ من محذوف يصحّ به الكلام ، والتقدير : فالإبصار لنفسه ، ومن عمي فالعمى عليها ، فالإبصار والعمى مبتدآن ، والجارّ بعدهما هو الخبر ، والفاء داخلة على هذه الجملة الواقعة جوابا أو خبرا ، وإنما حذف مبتدؤها للعلم به ، وقدّر الزجاج (٣) قريبا من هذا ، فقال : «فلنفسه نفع ذلك ومن عمي فعليها ضرر ذلك».

وقال الزمخشري (٤) : «فمن أبصر الحق وآمن فلنفسه أبصر وإياها نفع ، ومن عمى فعليها ، أي : فعلى نفسه عمى ، وإياها ضر».

قال أبو حيّان (٥) : وما قدّرناه من المصدر أولى ، وهو : فالإبصار والعمى لوجهين :

أحدهما : أن المحذوف يكون مفردا لا جملة ، والجار يكون عمدة لا فضلة ، وفي تقديره هو المحذوف جملة ، والجار والمجرور فضلة.

والثاني : وهو أقوى ، وذلك أنه لو كان التقدير فعلا لم تدخل الفاء سواء كانت شرطيّة أم موصولة مشبهة بالشرط ؛ لأن الفعل الماضي إذا لم يكن دعاء ولا جامدا ، ووقع جواب الشّرط أو خبر مبتدأ مشبّه بالشرط لم تدخل الفاء في جواب الشرط ، ولا في خبر

__________________

(١) ينظر : المفردات ٤٩.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣٠٦.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٥.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٩٩.

٣٥٣

المبتدأ لو قلت : «من جاءني فأكرمته» لم يجز بخلاف تقديرنا ، فإنه لا بدّ فيه من الفاء ، ولا يجوز حذفها إلا في الشعر.

قال شهاب الدين (١) : «وهذا التقدير الذي قدّره الزمخشري سبقه إليه الكلبيّ ، فإنه قال : فمن أبصر صدّق وآمن بمحمد عليه الصلاة والسلام فلنفسه عمل ومن عمي فلم يصدّق فعلى نفسه جنى العذاب» (٢) وقوله : إن الفاء لا تدخل فيما ذكر قد ينازع فيه ، وإذا كانوا فيما يصلح أن يكون جوابا صريحا ، ويظهر فيه أثر الجازم كالمضارع يجوز فيه دخول الفاء نحو : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [البقرة : ٩٥] فالماضي بدخولها أولى وأحرى.

فصل في بيان عود المنافع للبشر

قال القاضي : إنه ـ تعالى ـ بيّن لنا أن المنافع تعود إلينا لا لمنافع تعود إلى الله تبارك وتعالى ، وأيضا إن المرء بعدوله عن النّظر يضرّ بنفسه ، ولم يؤت إلّا من قبله لا من قبل ربّه ، وأيضا إنه متمكّن من الأمرين ، فلذلك قال : (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) قال : وهذا يبطل قول المجبرة [في أنه ـ تعالى ـ يكلف بلا قدرة] وجوابه المعارضة بسؤال الداعي.

قوله تعالى : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي : برقيب أحصي عليكم أعمالكم ، إنما أنا رسوله أبلغكم رسالات ربي ، وهو الحفيظ عليكم الذي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم.

فصل في معنى الآية

قال المفسرون : هذا كان قبل الأمر بالقتال ، فلما أمر بالقتال صار حفيظا عليهم ، ومنهم من يقول : آية القتال ناسخة لهذه الآية الكريمة ، وهو بعيد ؛ لأن الأصل عدم النّسخ.

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١٠٥)

لما شرع في إثبات النّبوّات بدأ بحكاية شبهات المنكرين لنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الشّبهة الأولى : قولهم : يا محمد إن هذا القرآن الذي جئتنا به كلام تستفيده من مدارسة العلماء ، وتنظّمه من عند نفسك ، ثم تقرؤه علينا ، وتزعم أنه وحي نزّل عليك من عند الله تعالى.

و «الكاف» في محلّ نصب نعت لمصدر محذوف ، فقدّره الزجاج : ونصرّف الآيات مثل ما صرّفناها فيما تلي عليكم ، وقدّره غيره : نصرّف الآيات في غير هذه السّورة

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٩.

(٢) ذكر الرازي في تفسيره ١٣ / ١١٠.

٣٥٤

تصريفا مثل التصريف في هذه السورة.

والمراد بالتّصريف أنه ـ تبارك وتعالى ـ يأتي بها متواترة حالا بعد حال.

قوله : «وليقولوا» الجمهور على كسر (١) اللام وهي لام كي ، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» فهو في تأويل مصدر مجرور بها على ما عرف [غير مرّة] ، وسماها أبو البقاء (٢) وابن عطية (٣) لام الصّيرورة ، كقوله تبارك وتعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] وكقوله : [الوافر]

٢٢٧٩ ـ لدوا للموت وابنوا للخراب

 .......... (٤)

أي : لما صار أمرهم إلى ذلك عبّر بهذه العبارة ، والعلّة غير مرادة في هذه الأمثلة ، والمحقّقون يأبون جعلها للعاقبة والصّيرورة ، ويؤوّلون ما ورد من ذلك على المجاز.

وجوّز أبو البقاء (٥) فيها الوجهين ؛ أعني كونها «لام» العاقبة ، أو العلّة حقيقة ، فإنه قال : «واللام لام العاقبة ، أي : إن أمرهم يصير إلى هذا».

وقيل : إنه قصد بالتصريف أن يقولوا : درست عقوبة لهم ، يعني : فهذه علّة صريحة ، وقد أوضح بعضهم هذا ، فقال : المعنى : يصرّف هذه الدلائل حالا بعد حال ليقول بعضهم : دارست فيزدادوا كفرا ، وتنبيه لبعضهم فيزدادوا إيمانا ، ونحو : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) [البقرة : ٢٦].

وأبو علي جعلها في بعض القراءات لام الصّيرورة ، وفي بعضها لام العلّة ؛ فقال : واللام في «ليقولوا» في قراءة ابن عامر ، ومن وافقه بمعنى : لئلّا يقولوا ؛ أي : صرّفت الآيات ، وأحكمت لئلا يقولوا : هذه أساطير الأوّلين قديمة قد بليت وتكرّرت على الأسماع ، واللام على سائر القراءات لام الصّيرورة.

قال شهاب الدين (٦) : قراءة ابن عامر درست بوزن أكلت وسرقت فعلا ماضيا مسندا لضمير الآيات ، وسيأتي تحقيق القراءات في هذه الكلمة متواترها وشاذّها.

قال أبو حيّان (٧) : «وما أجازه من إضمار «لا» بعد اللام المضمر بعدها «أن» هو مذهب لبعض الكوفيين ، كما أضمروها بعد «أن» المظهرة في (أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦] ولا يجيز البصريّون إضمار «لا» إلا في القسم على ما تبيّن فيه».

ثم هذه «اللام» لا بد لها من متعلّق ، فقدّره الزمخشري وغيره متأخّرا ، قال الزمخشري (٨) : «وليقولوا» جوابه محذوف ، تقديره : وليقولوا درست تصرّفها.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٩.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٦.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٣١.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٦.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٥٠.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٠١.

(٨) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٥.

٣٥٥

فإن قلت : أيّ فرق بين اللّامين في «ليقولوا» و «لنبيّنه»؟

قال شهاب الدين (١) : الفرق بينهما أن الأولى مجاز ، والثانية حقيقة ، وذلك أن الآيات صرفت للتبيين ، ولم تصرف ليقولوا : دارست ، ولكن لأنه لمّا حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل للتّبيين شبّه به فسيق مساقه.

وقيل : ليقولوا كما قيل لنبيه.

قال شهاب الدين (٢) : فقد نصّ هنا على أنّ لام «ليقولوا» علّة مجازيّة.

وجوّز بعضهم أن تكون هذه اللام نسقا على علّة محذوفة.

قال ابن الأنباري : «دخلت الواو في «وليقولوا» عطفا على مضمر ، التقدير : وكذلك نصرف الآيات لنلزمهم الحجة وليقولوا». قال شهاب الدين (٣) وعلى هذا فاللام متعلّقة بفعل التّصريف ، من حيث المعنى ، ولذلك قدّره من قدّره متأخّرا ب «نصرّف».

وقال أبو حيّان (٤) : «ولا يتعيّن ما ذكره المعربون والمفسّرون من أن اللام لام كي ، أو لام الصّيرورة ، بل الظاهر أنها لام الأمر والفعل مجزوم بها ، ويؤيّده قراءة من سكّن اللام ، والمعنى عليه يتمكّن ، كأنه قيل : وكذلك نصرّف الآيات ، وليقولوا هم ما يقولون من كونها درستها وتعلّمتها أو درست هي ، أي : بليت وقدمت ، فإنه لا يحتفل بهم ولا يلتفت إلى قولهم وهو أمر معناه الوعيد والتهديد ، وعدم الاكتراث بقولهم ، أي : نصرّفها وليدّعوا فيها ما شاءوا ، فإنه لا اكتراث بدعواهم».

وفيه نظر من حيث إنّ المعنى على ما قاله النّاس وفهموه ، وأيضا فإن بعده «ولنبيّنه» وهو نصّ في لام كي ، وأمّا تسكين اللام في القراءة الشّاذّة ، فلا يدلّ لاحتمال أن تكون لام كي سكّنت إجراء للكلمة مجرى : كتف وكبد.

وقد ردّ أبو حيان على الزمخشري ؛ حيث قال (٥) : «وليقولوا جوابه محذوف» فقال : وتسميته ما يتعلّق به قوله : «وليقولوا» جوابا اصطلاح غريب لا يقال في «جئت» من قولك : «جئت لتقوم» إنه جواب.

قال شهاب الدين : هذه العبارة قد تكرّرت للزمخشري ، وسيأتي ذلك في قوله : (وَلِتَصْغى) [الأنعام : ١١٣] أيضا.

وقال الشيخ هناك : «وهذا اصطلاح غريب».

والذي يظهر أنه إنما يسمّى هذا النحو جوابا ، لأنه يقع جوابا لسائل ؛ تقول : أين الذي يتعلّق به هذا الجار؟ فيجاب به ، فسمّي جوابا بهذا الاعتبار ، وأضيف إلى الجارّ في

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٥٠.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٠١.

(٥) البحر المحيط ٤ / ٢٠٠.

٣٥٦

قوله : «وليقولوا» جوابه ؛ لأن الإضافة تقع بأدنى ملابسة ، وإلا فكلام إمام يتكرّر لا يحمل على فساد.

وأما القراءات التي في «درست» فثلاث في المتواتر : فقرأ ابن عامر : «درست» بزنة : ضربت ، وابن كثير وأبو عمرو «دارست» بزنة : قابلت أنت ، والباقون «درست» بزنة ضربت أنت.

فأمّا قراءة ابن عامر : فمعناها بليت وقدمت ، وتكرّرت على الأسماع ، يشيرون إلى أنها من أحاديث الأوّلين ، كما قالوا : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)(١).

وأما قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو : فمعناها : دارست يا محمد غيرك من أهل الأخبار الماضية ، والقرون الخالية حتى حفظتها فقلتها ، كما حكى عنهم فقال : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ) [النحل : ١٠٣].

وفي التفسير : أنهم كانوا يقولون : هو يدارس سلمان وعدّاسا.

وأما قراءة الباقين : فمعناها : حفظت وأتقنت بالدّرس أخبار الأوّلين ، كما حكي عنهم (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان : ٥] أي : تكرر عليها بالدرس يحفظها.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : وليقولوا أهل «مكة» حين تقرأ عليهم القرآن : ودرست تعلمت من يسار وجبر ، وكانا عبدين من سبي الروم قرأت علينا تزعم أنه من عند الله (٢).

حكى الواحدي (٣) في قوله : درس الكتاب قولين :

الأول : قال الأصمعيّ : أصله من قولهم : درس الطعام إذا درسه يدرسه دراسا ، والدّرس الدّياس بلغة أهل «الشام» ، قال : ودرس الكلام من هذا ، أي : يدرسه فيخفّ على لسانه.

والثاني : قال أبو الهيثم (٤) : درست الكتاب ، أي : ذللته بكثرة القراءة حتى خفّ حفظه من قولهم : درست الثوب أدرسه درسا ، فهو مدروس ودريس ، أي : أخلقته ، ومنه قيل للثوب الخلق : دريس لأنه قد لان والدراسة الرياضة ، ومنه درست السّورة حتى

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٥١ السبعة ٢٦٤ ، النشر ٢ / ٢٦١ الحجة للفارسي ٣ / ٣٧٣ ، المحتسب ١ / ٢٢٥ إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٥ الوسيط ٢ / ٣٠٩ الحجة لأبي زرعة (٢٦٣) التبيان ١ / ٢٥٨ الفراء ١ / ٣٤٩ المشكل ١ / ٢٦٤.

(٢) أخرجه الطبري (٥ / ٣٠٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٧) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ١١١.

(٤) ينظر : الرازي ١٣ / ١١١.

٣٥٧

حفظتها قال الواحدي : وهذا القول قريب مما قال الأصمعيّ ، بل هو نفسه لأن المعنى يعود إلى التّذليل والتّليين.

وقرىء هذا الحرف في الشّاذّ عشر قراءات أخر فاجتمع فيه ثلاث عشرة قراءة ؛ فقرأ ابن عباس بخلاف عنه ، وزيد بن علي ، والحسن البصري ، وقتادة «درست» فعلا ماضيا مبنيا للمفعول مسندا لضمير الإناث ، وفسّرها ابن جنّي والزمخشري بمعنيين في أحدهما إشكال.

قال أبو الفتح (١) : «يحتمل أن يراد عفت أو بليت».

وقال أبو القاسم : «بمعنى قرئت أو عفيت».

قال أبو حيّان (٢) : «أما معنى قرئت وبليت فظاهر لأن درس بمعنى كرّر القراءة متعدّ ، وأما «درس» بمعنى بلي وانمحى فلا أحفظه متعديا ، ولا وجدنا فيمن وقفنا على شعره [من العرب] إلا لازما».

قال شهاب الدين (٣) : لا يحتاج هذا إلى استقراء ، فإن معناه لا يحتمل أن يكون متعديا ؛ إذ حدثه لا يتعدّى فاعله ، فهو ك «قام» و «قعد» ، فكما أنا لا نحتاج في معرفة قصور «قام» و «قعد» إلى استقراء ، بل نعرفه بالمعنى ، فكذا هذا.

وقرىء (٤) «درّست» فعلا ماضيا مشدّدا مبنيا للفاعل المخاطب ، فيحتمل أن يكون للتكثير ، أي : درّست الكتب الكثيرة ك «ذبّحت الغنم» ، و «قطّعت الأثواب» وأن تكون للتّعدية ، والمفعولان محذوفان ، أي : درّست غيرك الكتاب ، وليس بظاهر ؛ إذ التفسير على خلافه.

وقرىء درّست كالذي قبله إلا أنه مبنيّ للمفعول ، أي : درّسك غيرك الكتب ، فالتضعيف للتعدية لا غير.

وقرىء «دورست» مسندا لتاء المخاطب من «دارس» ك «قاتل» إلا أنه بني للمفعول ، فقلبت ألفه الزّائدة واوا ، والمعنى : دارسك غيرك.

وقرىء (٥) «دارست» بتاء ساكنة للتأنيث لحقت آخر الفعل ، وفي فاعله احتمالان :

أحدهما : أنه ضمير الجماعة أضمرت ، وإن لم يجر لها ذكر لدلالة السياق عليها أي : دارستك الجماعة يشيرون لأبي فكيهة ، وسلمان ، وقد تقدّم ذلك في قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو رحمهما‌الله تعالى.

والثاني : ضمير الإناث على سبيل المبالغة ، أي : إن الآيات نفسها دارستك ، وإن كان المراد أهلها.

__________________

(١) ينظر : المحتسب ١ / ٢٢٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٠٠.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٥١.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٥١.

٣٥٨

وقرىء «درست» بفتح الدال ، وضم الراء مسندا إلى ضمير الإناث ، وهو مبالغة في «درست» بمعنى : بليت وقدمت وانمحت ، أي : اشتدّ دروسها وبلاها.

وقرأ أبيّ (١) «درس» وفاعله ضمير النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو ضمير الكتاب بمعنى قرأه النّبيّ ، وتلاه ، وكرّر عليه ، أو بمعنى بلي الكتاب وامّحى ، وهكذا في مصحف عبد الله «درس».

وقرأ الحسن (٢) في رواية «درسن» فعلا ماضيا مسندا لنون الإناث هي ضمير الآيات ، وكذا هي في بعض مصاحف ابن مسعود.

وقرىء «درّسن» كالذي قبله إلا أنه بالتّشديد بمعنى اشتدّ دروسها وبلاها ، كما تقدم.

وقرىء (٣) «دارسات» جمع «دارسة» ؛ بمعنى : قديمات ، أو بمعنى ذات دروس ، نحو : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١] و (ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٦] وارتفاعها على خبر ابتداء مضمر ، أي : هنّ دارسات ، والجملة في محلّ نصب بالقول قبلها.

قوله : «ولنبيّنه» تقدم أنّ هذا عطف على ما قبله ؛ فحكمه حكمه ، وفي الضمير المنصوب أربعة احتمالات :

أحدها : أنه يعود على الآيات ، وجاز ذلك وإن كانت مؤنّثة ؛ لأنّها بمعنى : القرآن.

الثاني : أنّه يعود على الكتاب ، لدلالة السّياق عليه ، ويقوّي هذا : أنّه فاعل ل «درس» في قراءة من قرأه كذلك.

الثالث : أنّه يعود على المصدر المفهوم من نصرّف ، أي : نبيّن التّصريف.

الرابع : أنه يعود على المصدر المفهوم من : «لنبيّنه» أي : نبيّن التّبيين ، نحو : «ضربته زيدا» أي : «ضربت الضّرب زيدا» ، و «لقوم» متعلّق بالفعل قبله ، و «يعلمون» : في محل جرّ صفة للنّكرة قبلها.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يريد أولياءه الذين هداهم إلى سبيل الرّشاد.

وقيل : نصرّف الآيات ليشقى بها قوم ، ويسعد بها آخرون ؛ فمن قال : «درست» فهو شقي ، ومن تبيّن له الحقّ ، فهو سعيد.

قوله تعالى : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)(١٠٧)

لما حكى عن المشركين أنّهم ينسبونه في إظهار هذا القرآن العظيم إلى الافتراء ، وإلى مدارسة من يستفيد هذه العلوم منهم ، ثمّ ينظّمها قرآنا ، ويدّعي أنّه نزل عليه من

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٠٠ ، الدر المصون ٣ / ١٥١ ، المحرر الوجيز ٢ / ٣٣١.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٠٠ ، الدر المصون ٣ / ١٥٢.

(٣) ينظر : المصدران السابقان.

٣٥٩

الله ، أتبعه بقوله : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) لئلا يصير ذلك القول سببا لفتوره عن تبليغ الدّعوة والرّسالة ، والمقصود : تقوية «قلبه» ، وإزالة الحزن الذي حصل بسماع تلك الشّبهة (١).

قوله : «ما أوحي» يجوز أن تكون «ما» : اسميّة ، والعائد هو القائم مقام الفاعل ، و «إليك» : فضلة ، وأجازوا أن تكون مصدريّة ، والقائم مقام الفاعل حينئذ : الجار والمجرور ، أي : الإيحاء الجائي من ربّك ، و «من» لابتداء الغاية مجازا ، ف (مِنْ رَبِّكَ) : متعلّق ب «أوحي».

وقيل : بل هو حال من «ما» نفسها.

وقيل : بل هو حال من الضّمير المستتر في «أوحي» وهو بمعنى ما قبله.

وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) جملة معترضة بين هاتين الجملتين الأمريّتين ، هذا هو الأحسن.

وجوّز أبو البقاء (٢) أن تكون حالا من «ربّك» وهي حال مؤكّدة ، تقديره : من ربّك منفردا.

قوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أي : لا تجادلهم.

وقيل : المراد : ترك المقاتلة ؛ فلذلك قالوا : إنّه منسوخ ، وهذا ضعيف ؛ لأن الأمر بترك المقاتلة في الحال لا يفيد الأمر بتركها دائما ، وإذا كان الأمر كذلك لم يجب التزام النّسخ (٣).

قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ) : مفعول المشيئة محذوف ، أي : «لو شاء الله إيمانهم» وقد تقدّم أنه لا يذكر إلا لغرابته ، والمعنى : لا تلتفت إلى سفاهات هؤلاء الكفّار ، فإنّي لو أردت إزالة الكفر عنهم ، لقدرت ، ولكنّي تركتهم مع كفرهم ، فلا يشتغل قلبك بكلماتهم (٤).

وتمسّك أهل السّنّة بقوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) والمعنى : لو شاء ألّا يشركوا ، ما أشركوا ، وحيث لم يحصل الجزاء ، لم يحصل الشّرط.

وقالت المعتزلة : ثبت بالدّليل أنّه ـ تعالى ـ أراد من الكلّ الإيمان ، وما شاء من أحد الكفر ، وهذه الآية الكريمة تقتضي : أنّه ـ تعالى ـ ما شاء من الكلّ الإيمان ؛ فوجب التّوفيق بين الدّليلين ، فيحمل مشيئة الله لإيمانهم ، على مشيئة الإيمان الاختياريّ الموجب للثّواب ، ويحمل عدم مشيئته لإيمانهم ، على الإيمان الحاصل بالقهر والجبر ، يعني : أنه ـ تبارك وتعالى ـ ما شاء منهم أن يحملهم على الإيمان على سبيل القهر والإلجاء ؛ لأنّ

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ١١٣.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٧.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ١١٣.

(٤) ينظر : الرازي ١٣ / ١١٣.

٣٦٠