اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٢

فالجواب : أنه قد تقدّم هذا الوجه ، وجعله مقابلا لهذا ، فلا بد أن يكون هذا غيره ، فإنه قال قبل ذلك : وفي رفعه وجهان :

أحدهما : هو مبتدأ ، وفي خبره وجهان :

أحدهما : هو (مِنَ النَّخْلِ) ، و (مِنْ طَلْعِها) بدل بإعادة الجار.

قال أبو حيان (١) : وهذا إعراب فيه تخليط.

الخامس : أن يكون مبتدأ محذوف الخبر لدلالة «أخرجنا» عليه ، تقديره : ومخرجه من طلع النخل «قنوان». هذا نص الزمخشري (٢) ، وهو كما قال أبو حيان (٣) لا حاجة إليه ؛ لأن الجملة مستقلّة في الإخبار بدونه.

السادس : أن يكون (مِنَ النَّخْلِ) متعلقا بفعل مقدر ، ويكون (مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ) جملة ابتدائية في موضع المفعول ب «نخرج» وإليه ذهب ابن عطية (٤) ، فإنه قال : (وَمِنَ النَّخْلِ) تقديره : «نخرج من النخل» ، و (مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ) ابتداء خبر مقدم ، والجملة موضع المفعول ب «نخرج».

قال الشيخ (٥) : وهذا خطأ ؛ لأن ما يتعدى إلى مفعول واحد لا تقع الجملة في موضع مفعوله إلا إذا كان الفعل مما يعلق ، وكان في الجملة مانع يمنع من العمل في شيء من مفرداتها على ما شرح في النحو ، و «نخرج» ليس مما يعلّق ، وليس في الجملة ما يمنع من العمل في مفرداتها ؛ إذ لو سلّط الفعل على شيء من مفردات الجملة لكان التركيب : ويخرج من النخل من طلعها قنوان [بالنصب مفعولا به.

وقال أبو حيّان (٦) : ومن قر أ«يخرج منه حبّ متراكب» جاز أن يكون قوله (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ)](٧) معطوفا عليه نحو : ضرب في الدار زيد وفي السوق عمرو أي : إنه يعطف «قنوان» على حب (وَمِنَ النَّخْلِ) على «منه» ، ثم قال : «وجاز أن يكون مبتدأ وخبرا وهو الأوجه».

والقنوان جمع ل «قنو» ، كالصّنوان جمع ل «صنو» والقنو : العذق بكسر العين وهو عنقود النخلة ، ويقال له : الكباسة.

قال امرؤ القيس : [الطويل]

٢٢٦٨ ـ وفرع يغشّي المتن أسود فاحم

أثيث كقنو النّخلة المتعثكل (٨)

وقال الآخر [الطويل] :

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٩٣.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٥١.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٩٣.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٢٧.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٩٣.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٩٣.

(٧) سقط في أ.

(٨) تقدم.

٣٢١

٢٢٦٩ ـ سوامق جبّار أثيث فروعه

وعالين قنوانا من البسر أحمرا (١)

والقنوان : جمع تكسير.

قال أبو علي : الكسرة التي في قنوان ليست التي في «قنو» ؛ لأن تلك حذفت في التكسير ، وعاقبتها كسرة أخرى كما قدّر تغيّر كسرة «هجان» جمعا عن كسرته مفردا ، فكسرة «هجان» جمعا ككسرة «ظراف».

قال الواحدي ـ رحمه‌الله ـ : وهذا مما توضّحه الضمة في آخر «منصور» على قول من قال «يا حار» يعني بالضمة ليست التي كانت فيه في قول من قال : «يا حار» يعني بالكسر.

وفيه لغات :

فلغة «الحجاز» : «قنوان» بكسر القاف ، وهي قراءة (٢) الجمهور وقرأ الأعمش ، والحباب (٣) عن أبي عمرو ـ رضي الله عنه ـ ، والأعرج بضمها ، ورواها السلمي عن علي بن أبي طلحة ، وهي لغة «قيس».

ونقل (٤) ابن عطية عكس هذا ، فجعل الضم لغة «الحجاز» ، فإنه قال : «وروي عن الأعرج ضم القاف على أنه جمع «قنو» بضم القاف».

قال الفراء : «وهي لغة «قيس» ، وأهل «الحجاز» ، والكسر أشهر في العرب».

واللغة الثالثة «قنوان» بفتح القاف ، وهي قراءة أبي عمرو ـ رحمه‌الله تعالى ـ في رواية هارون عنه ، وخرّجها ابن (٥) جني على أنها اسم جمع «قنو» لا جمعا ؛ إذ ليس في صيغ الجموع ما هو على وزن «فعلان» بفتح الفاء ، ونظّره الزمخشري (٦) ب «ركب» ، وأبو البقاء (٧) ـ رحمه‌الله ب «الباقر» ، وتنظير أبي البقاء أولى ؛ لأنه لا خلاف في «الباقر» أنه اسم جمع ، وأما «ركب» ففيه خلاف لأبي الحسن مشهور ، ويدلّ على ذلك أيضا شيء آخر وهو أنه قد سمع في المفرد كسر القاف ، وضمها ، فجاء الجمع عليهما ، وأما الفتح فلم يرد في المفرد.

واللغة الرابعة «قنيان» بضم القاف مع الياء دون الواو.

والخامسة : «قنيان» بكسر القاف مع الياء أيضا ، وهاتان لغتا «تميم» و «ربيعة».

وأما المفرد فلا يقولونه بالياء أصلا ، بل بالواو ، سواء كسروا القاف أم ضموها ، فلا يقولون إلا قنوا وقنوا ، ولا يقولون : قنيا ولا قنيا ، فخالف الجمع مفرده في المادة ، وهو

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٣٩ ، البحر المحيط ٤ / ١٩٣.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٣٩ ، البحر المحيط ٤ / ١٩٣.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٢٨.

(٥) ينظر : المحتسب ١ / ٢٢٣.

(٦) ينظر : الكشاف ٢ / ٥١.

(٧) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٥.

٣٢٢

غريب ، واختلف في مدلول «القنو» ؛ فقيل : هو الجمّار ، وهذا يكاد يكون غلطا ، وكيف يوصف بكونه دانيا ؛ أي : قريب الجنى ، والجمّار إنما هو في قلب النخلة؟ والمشهور أنه العذق كما تقدم ذلك.

وقال ابن عباس : يريد العراجين الّتي قد تدلّت من الطلع دانية ممن يجتنيها (١).

وروي عنه أنه قال قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض (٢).

قال الزجاج (٣) ولم يقل : ومنها قنوان بعيدة ؛ لأن ذكر أحد القسمين يدلّ على الثاني ، لقوله: (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] ، ولم يقل : سرابيل تقيكم البرد.

وقيل أيضا : ذكر الدانية القريبة ، وترك البعيدة ؛ لأن النعمة (٤) في القريبة أكثر.

قال أبو عبيد : «وإذا ثنّيت «قنوا» قلت : قنوان بكسر النون ثم جاء جمعه على لفظ الاثنين مثل : صنو وصنوان ، والإعراب على النون في الجمع [وليس لهما في كلام العرب نظير ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٢٢٧٠ ـ ..........

ومال بقنوان البسر أحمرا (٥)

قال شهاب الدين (٦) : إذا وقف على «قنوان» المثنّى رفعا ، وعلى «قنوان» جمعا وقع الاشتراك اللفظي ، ألا ترى أنك إذا قلت «عندي قنوان» وقفا احتمل ما ذكرته في التثنية والجمع ، وإذا وصلت وقع الفرق ، فإنك تجعل الإعراب على النون حال جمعه كغربان وصردان ، وتكسر النون في التثنية ، ويقع الفرق أيضا بوجوه أخر :

منها انقلاب الألف ياء نصبا وجرا في التثنية نحو رأيت قنويك وصنويك ، ومررت بقنويك وصنويك.

ومنها : حذف نون التثنية إضافة وثبوت النون في الجمع](٧).

نحو : جاء قنواك وصنواك [وقنوانك وصنوانك](٨) ومنها في النسب فإنك تحذف علامتي التثنية ، فتقول : قنوي وصنوي ، ولا تحذف الألف والنون إذا أردت الجمع بل تقول : قنواني وصنواني ، وهذان اللفظان في الجمع تكسيرا يشبهان الجمع تصحيحا ، وذلك أن كلّا منهما لحق آخره علامتان في حال الجمع مزيدتان ، ولم يتغير معهما بناء الواحد ، والفرق ما تقدم.

وأيضا فإن الجمع من قنوان وصنوان إنما فهمناه من صيغة فعلان ، لا من الزيادتين ، بخلاف «الزيدين» فإن الجمع فهمناه منهما ، وهذا الفصل الذي ذكرته من محاسن علم الإعراب والتصريف واللغة.

__________________

(١) انظر تفسير الرازي (١٣ / ٨٨).

(٢) انظر المصدر السابق.

(٣) ينظر : معاني القرآن ١٣ / ٨٩.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) تقدم.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٠.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في أ.

٣٢٣

وقال الراغب (١) بعد أن ذكر أنه العذق : والقناة تشبه القنو في كونهما غصنين ، وأما القناة التي يجري فيها الماء قيل لها ذلك ؛ لأنها تشبه القناة في الخطّ والامتداد.

وقيل : أصله من قنيت الشيء إذا ادّخرته ؛ لأنها مدّخرة للماء.

وقيل : هو من قاناه أي : خالطه.

قال امرؤ القيس : [الطويل]

٢٢٧١ ـ كبكر مقاناة البياض بصفرة

غذاها نمير الماء غير محلّل (٢)

وأمّا «القنا» الذي هو الاحديداب في الأنف فيشبّه في الهيئة بالقنا يقال : رجل أقنى ، وامرأة قنواء ، كأحمر وحمراء.

والطّلع : أوّل ما يخرج من النّخلة في أكمامه.

قال أبو عبيد : الطّلع : الكفرّى قبل أن تنشقّ عن الإغريض والإغريض يسمى طلعا يقال : أطلعت النخلة إذا أخرجت طلعها تطلع إطلاعا وطلع الطلع يطلع طلوعا ؛ ففرقوا بين الإسنادين ، وأنشد بعضهم في مراتب ما تثمره النخل قول الشاعر : [الرجز]

٢٢٧٢ ـ إن شئت أن تضبط يا خليل

أسماء ما تثمره النّخيل

فاسمعه موصوفا على ما أذكر

طلع وبعده خلال يظهر

وبلح ثمّ يليه بسر

ورطب تجنيه ثمّ تمر

فهذه أنواعها يا صاح

مضبوطة عن صاحب الصّحاح (٣)

قوله : (وَجَنَّاتٍ) الجمهور على كسر التاء (٤) من «جنات» ؛ لأنها منصوبة نسقا على «نبات» أي : فأخرجنا بالماء النبات وجنات ، وهو من عطف الخاصّ على العام تشريفا لهذين الجنسين على غيرهما كقوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] وعلى هذا فقوله : (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ) جملة معترضة وإنما جيء بهذه الجملة معترضة وأبرزت في صورة المبتدأ والخبر تعظيما للمنّة به لأنه من أعظم قوت العرب ، ولأنه جامع بين التّفكّه والقوت.

__________________

(١) ينظر : المفردات ٤١٤.

(٢) ينظر : ديوانه ص (١٦) ، شرح المفصل ٦ / ٩١ ، لسان العرب (نمر) ، (حلل) (قنا). شرح المفضليات للتبريزي ١ / ٤٧ ، شرح القصائد العشر ٩٧ ، ابن يعيش ٦ / ٩١ ، التهذيب ٩ / ١١٤ (قنا) الدر المصون ٣ / ١٤٠.

(٣) ينظر الأبيات في الدر المصون ٣ / ١٤٠ وفي الصحاح : الخلال (بالفتح) : البلح.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٠ ، البحر المحيط ٤ / ١٩٣ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٤ ، الوسيط في تفسير القرآن المجيد ٢ / ٣٠٥ ، الحجة لأبي زرعة ٢٦٤ ، التبيان ١ / ٥٢٥ ، الحجة لابن خالويه ١٤٦ ، الزجاج ٢ / ٣٠٣ ، الطبري ٧ / ١٩٥ ، القرطبي ٧ / ٤٩.

٣٢٤

ويجوز أن ينتصب «جنات» نسقا على «خضرا» ، وجوز الزمخشري (١) ـ وجعله الأحسن ـ أن ينتصب على الاختصاص ، كقوله : (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) [الحج : ٣٥].

قال : «لفضل هذين الصّنفين» وكلامه يفهم أن القراءة الشهيرة عنده رفع «جنّات» والقراءة بنصبهما شاذّة ، فإنه أوّل ما ذكر توجيه الرّفع كما سيأتي ، ثم قال : وقرىء (٢) «وجنات» بالنصب ، فذكر الوجهين المتقدمين.

وقرأ الأعمش ، ومحمد (٣) بن أبي ليلى ، وأبو بكر في رواية عنه عن عاصم «وجنات» بالرفع وفيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها مرفوعة بالابتداء ، والخبر محذوف ، واختلفت عبارة المعربين في تقديره فمنهم من قدّره متأخرا ومنهم من قدّره متقدّما ؛ فقدّره الزمخشري (٤) متقدما أي : وثمّ جنات ، وقدره أبو البقاء : ومن الكرم جنّات ، وهذا تقدير حسن لمقابلة قوله : (وَمِنَ النَّخْلِ) أي : من النخل كذا ، ومن الكرم كذا ، وقدّره (٥) النّحّا س «ولهم جنّات» ، وقدره ابن عطية (٦) : «ولكم جنّات».

ونظيره قوله في قراءته (وَحُورٌ عِينٌ) [الواقعة : ٢٢] بعد قوله : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ) [الواقعة : ١٧ ، ١٨] أي : ولهم حور عين ، ومثل هذا اتّفق على جوازه سيبويه ، والكسائي ، والفراء.

وقدره الزمخشري (٧) ، وأبو حيان متأخرا ؛ فقال : أي : وجنات من أعناب أخرجناها قال الشيخ : ودلّ على تقديره قوله قبل : «فأخرجنا» كما تقول : أكرمت عبد الله وأخوه ، أي : وأخوه أكرمته.

قال شهاب الدين (٨) : وهذا التّقدير سبقه إليه ابن الأنباريّ ، فإنه قال : «الجنّات» رفعت بمضمر بعدها تأويلها : وجنات من أعناب أخرجناها ، فجرى مجرى قول العرب «أكرمت عبد الله وأخوه» تريد وأخوه أكرمته.

قال الفرزدق : [الطويل]

٢٢٧٣ ـ غداة أحلّت لابن أصرم طعنة

حصين عبيطات السّدائف والخمر (٩)

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٢.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٠ ، البحر المحيط ٤ / ١٩٣ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٤ ، الوسيط في تفسير القرآن المجيد ٢ / ٣٠٥ ، الحجة لأبي زرعة ٢٦٤ ، التبيان ١ / ٥٢٥ ، الحجة لابن خالويه ١٤٦.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٩٣ ، الدر المصون ٣ / ١٤٠ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٣٢٨.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٢.

(٥) ينظر : إعراب القرآن ١ / ٥٦٩.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٢٨.

(٧) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٢.

(٨) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤١.

(٩) ينظر : ديوانه ١ / ٢٥٤ ، سمط اللآلي ص (٣٦٧) ، شرح التصريح ١ / ٢٧٤ ، المقاصد النحوية ٢ / ـ

٣٢٥

فرفع «الخمر» وهي مفعولة على معنى : والخمر أحلّها الطّعنة.

والوجه الثاني : أن يرتفع عطفا على «قنوان» تغليبا للجوار ؛ كقول الشاعر : [الوافر]

٢٢٧٤ ـ ..........

وزجّجن الحواجب والعيونا (١)

فنسق «العيون» على «الحواجب» تغليبا للمجاورة ، والعيون لا تزجّج كما أن الجنّات من الأعناب لا يكنّ من الطّلع ، هذا نص مذهب ابن الأنباري أيضا ، فتحصّل له في الآية الكريمة مذهبان ، وفي الجملة فالجواب ضعيف ، وقد تقدّم أنه من خصائص النّعت.

والثالث : أن يعطف على «قنوان».

قال الزمخشري (٢) : على معنى محاطة أو مخرجة من النخل قنوان ، وجنات من أعناب أي من نبات أعناب.

قال أبو حيان (٣) رحمه‌الله تعالى : وهذا العطف على ألّا يلحظ فيه قيد من النخل ، فكأنه قال : ومن النخل قنوان دانية ، وجنات من أعناب حاصلة ، كما تقول : «من بني تميم رجل عاقل ورجل من قريش منطلقان».

قال شهاب الدين (٤) رحمه‌الله : وقد ذكر الطبري أيضا هذا الوجه أعني عطفها على «قنوان» ، وضعّفه ابن عطية (٥) ، كأنه لم يظهر له ما ظهر لأبي القاسم من المعنى المشار إليه ، ومنع أبو البقاء (٦) عطفه على «قنوان» ، قال : «لأن العنب لا يخرج من النخل».

وأنكر أبو عبيد وأبو حاتم هذه القراءة قال أبو حاتم : «هذه القراءة محال لأن الجنات من الأعناب لا تكون من النخل».

قال شهاب الدين (٧) : أما جواب أبي البقاء فبما قاله الزمخشري.

وأما جواب أبي عبيد وأبي حاتم فبما تقدّم من توجيه الرفع ، و «من أعناب» صفة ل «جنات» فتكون في محلّ رفع ونصب بحسب القراءتين ، وتتعلق بمحذوف.

قوله : (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) لم يقرأهما أحد إلّا منصوبين ، ونصبهما : إما عطف على «جنات» ، وإما على «نبات» وهذا ظاهر قول الزمخشري (٨) ، فإنه قال : وقرىء «وجنات» بالنصب عطفا على (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) أي : وأخرجنا به جنات من أعناب ، وكذلك قوله : (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ).

__________________

ـ ٤٥٦ ، والإنصاف ١ / ١٨٧ ، وأوضح المسالك ٢ / ٩٦ ، شرح المفصل ١ / ٣٢ ، ٨ / ٧٠. الدر المصون ٣ / ١٤١ وحصين هذا : هو ابن أصرم ، فارس من سادات ضبّة ، قتل بين يدي أم المؤمنين عائشة.

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٢.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٩٤.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤١.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٢٨.

(٦) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٥.

(٧) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤١.

(٨) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٢.

٣٢٦

ونص أبو البقاء (١) على ذلك فقال : «وجنات» بالنصب عطفا على «نبات» ومثله (الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ).

وقال ابن عطية (٢) : عطفا على «حبّا» وقيل على «نبات» وقد تقدم أن في المعطوف الثالث فصاعدا احتمالين :

أحدهما : عطفه على ما يليه.

والثاني : عطفه على الأوّل نحوه مررت بزيد وعمرو وخالد ، فخالد يحتمل عطفه على زيد وعمرو ، وقد تقدم أن فائدة الخلاف تظهر في نحو : «مررت بك وبزيد وبعمرو» ، فإن جعلته عطفا على الأول لزمت الباء ، وإلّا جازت.

و «الزّيتون» وزنه «فيعول» فالياء مزيدة ، والنون أصليّة لسقوط تلك في الاشتقاق ، وثبوت ذي ، قالوا : أرض زتنة ، أي : كثيرة الزيتون ، فهو نظير قيصوم ، لأن فعلولا مفقود ، أو نادر ولا يتوهم أن تاءه أصلية ونونه مزيدة لدلالة الزّيت ، فإنهما مادّتان متغايرتان ، وإن كان الزيت معتصرا منه ، ويقال : زات طعامه ، أي : جعل فيه زيتا ، وزات رأسه أي : دهنه به ، وازدات : أي ادّهن أبدلت تاء الافتعال دالا بعد الزاي كازدجر وازدان.

و «الرّمّان» وزنه فعّال نونه أصلية ، فهو نظير : عنّاب وحمّاض ، لقولهم : أرض رمنه أي : كثيرته.

قال الفراء : قوله تعالى : (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) يريد شجر الزيتون ، وشجر الرمان ؛ كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] يريد أهلها.

فصل في معنى تقدم النخل على الفواكه في الآية

ذكر تبارك وتعالى هاهنا أربعة أنواع من الأشجار : النخل والعنب والزيتون والرمان ، وقدّم الزرع على الشّجر ؛ لأن الزّرع غذاء ، وثمار الأشجار فواكه ، والغذاء مقدّم ، وقدم النخل على الفواكه ؛ لأن الثمر يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب.

قال الحكماء (٣) : بينه وبين الحيوان مشابهة في خواصّ كثيرة لا توجد في النبات ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : «أكرموا النّخلة فإنّها عمّتكم فإنّها خلقت من طين آدم عليه الصّلاة والسّلام»(٤).

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٥.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٢٨.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ٨٩.

(٤) أخرجه العقيلي (٤ / ٢٥٦) وابن عدي في «الكامل» (١ / ٣٣٠) وأبو نعيم في الحلية (٦ / ١٢٣) من طريق مسرور بن سعيد عن الأوزاعي عن عروة بن رويم عن علي بن أبي طالب به مرفوعا.

قال أبو نعيم : غريب من حديث الأوزاعي عن عروة تفرد به مسرور بن سعيد وقال العقيلي : حديثه غير محفوظ ولا يعرف إلّا به.

وقال الألباني : موضوع ينظر : سلسلة الأحاديث الضعيفة (٢٦٣).

٣٢٧

وذكر العنب عقيب النخل ؛ لأن العنب أشرف أنواع الفواكه ؛ لأنه أول ما يظهر يصير منتفعا به إلى آخر الحال ، فأول ما يظهر على الشجر خيوط خضر رقيقة حامضة الطعم لذيذة ، وقد يمكن اتّخاذ الصبائغ منه ، ثم يظهر بعده الحصرم ، وهو طعام شريف للأصحّاء والمرضى ، وقد يتخذون من الحصرم أشربة لطيفة المذاق نافعة لأصحاب الصفراء ، وقد يتخذ الطبيخ منه ، لأنه ألذّ الطبائخ الحامضة ، ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه [وأشهاها فيمكن ادّخار العنب المعلق سنة أو أكثر وهو ألذ الفواكه](١) المدّخرة ، ثم يخرج منه أربعة أنواع من المتناولات : وهي الزّبيب والدبس والخمر والخلّ ، ومنافع هذه الأربع لا تنحصر إلا في مجلدات والخمر فإن كان الشّرع قد حرّمها ، ولكنه تبارك وتعالى قال في صفتها : (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) ثم قال : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) [البقرة : ٢١٩] والأطباء يتخذون من عجمه جوارشات عظيمة النفع للمعدة الضعيفة الرطبة ، فتبيّن أن العنب كأنه سلطان الفواكه ، وأما الزّيتون فهو أيضا كثير النّفع كثير البركة ؛ لأنه يمكن تناوله كما هو ، وينفصل عنه أيضا دهن كثير عظيم النفع في الأكل ، وسائر وجوه الاستعمال وأما الرمان فحاله عجيب (٢) جدا ؛ لأنه جسم مركّب من أربعة أقسام : قشره وشحمه وعجمه وماؤه ، فأما الأقسام الثلاثة وهي القشر والشحم والعجم ، فهي باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عفصة قوية في هذه الصفات وأما ماء الرمان فبالضّدّ من هذه الصفات ، فإنه ألذّ الأشربة وألطفها ، وأقربها (٣) إلى الاعتدال ، وأشدّها مناسبة للطّبائع المعتدلة ففيه تقوية للمزاج الضعيف ، وهو غذاء من وجه ، ودواء من وجه آخر ، فإذا تأمّلت في الرّمّان وجدت الأقسام الثلاثة في غاية الكثافة التامة الأرضية ، ووجدت القسم الرابع وهو ماء الرّمّان في غاية اللّطافة والاعتدال ، فكأنه تبارك وتعالى جمع فيه بين المتضادّين المتغايرين ، فكانت دلالة القدرة والحكمة فيه أكمل وأتم.

نبّه تعالى بذكر هذه الأقسام الأربعة [التي هي أشرف أنواع النبات](٤) على الباقي.

قوله : «مشتبها» حال ؛ إما من «الرّمّان» لقربه ، وحذفت الحال من الأول ؛ تقديره : والرمان مشتبها ، ومعنى التشابه أي في اللّون ، وعدم التشابه أي في الطعم.

وقيل : هي حال من الأول ، وحذفت حال الثاني ، وهذا كما تقدّم في الخبر المحذوف ، نحو : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] وإلى هذا نحا الزمخشري (٥) ، فإنه قال : تقديره: والزيتون مشتبها ، وغير مشتبه ، والرمان كذلك ؛ كقول القائل في ذلك : [الطويل]

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : عظيم.

(٣) في ب : وأقومها.

(٤) سقط في ب.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٢.

٣٢٨

٢٢٧٥ ـ رماني بأمر كنت منه ووالدي

بريئا ... (١)

أي : ولم يقل : مشتبهين اكتفى بوصف أحدهما أو على تقدير : «والزيتون مشتبها وغير متشابه ، والرّمّان كذلك».

قال أبو حيان (٢) : «فعلى قوله يكون تقدير البيت : كنت منه بريئا ، ووالدي كذلك ، أي : بريئا ، والبيت لا يتعيّن فيه ما ذكره ؛ لأن «بريئا» على وزن «فعيل» كصديق ورفيق ، فصحّ أن يخبر به عن المفرد والمثنى والمجموع ، فيحتمل أن يكون «بريئا» خبر «كان» على اشتراك الضمير والظاهر المعطوف عليه فيه إذ لا يجوز أن يكون خبرا عنهما ، ولا يجوز أن يكون حالا عنهما ، إذ لو كان كذلك لكان التركيب مشتبهين وغير مشتبهين».

وقال أبو البقاء (٣) : حال من «الرمان» ومن الجميع ، فإن عنى في المعنى فصحيح ، ويكون على الحذف ، وكما تقدم فإن أراد بالصّناعة ، فليس بشيء ؛ لأنه كأنه يلزم المطابقة.

والجمهور على «مشتبها». وقرىء (٤) شاذّا «متشابها» وغير متشابه كالثانية ، وهما بمعنى واحد قال الزمخشري : «كقولك اشتبه الشيئان ، وتشابها كاستويا وتساويا والافتعال والتّفاعل يشتركان كثيرا». انتهى وقد جمع بينهما في هذه الآية الكريمة في قوله (مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ).

فصل في معنى «متشابه» في الآية

قال بعضهم : متشابه في اللون والشكل ، مع أنها تكون متشابهة في الطعم واللّذّة ، فإن الأعناب والرمان قد تكون متشابهة في الصورة واللون والشكل ، مع أنها تكون مختلفة في الحلاوة والحموضة.

وقيل : إن أكثر الفواكه يكون ما فيها من القشر والعجم متشابهة في الطعم والخاصيّة.

وقال قتادة : مشتبها ورقها مختلفا (٥) ثمرها ؛ لأن ورق الزيتون يشبه ورق الرمان.

وقيل : إنك إذا أخذت عنقود العنب وجدت جميع حبّاته ناضجة حلوة طيبة إلّا حبّات مخصوصة لم تدرك ، بل بقيت على أوّل حالها في الحموضة والعفوصة ، وعلى هذا فبعض حبّات ذلك العنقود متشابه ، وبعضها غير متشابه.

__________________

(١) جزء بيت لعمرو بن أحمر وينسب للأزرق بن طرفة. والبيت بتمامه :

رماني بأمر كنت منه ووالدي

بريئا ومن أجل الطويّ رماني

ينظر : الكتاب ١ / ٧٥ ، شرح الحماسة ٢ / ٩٣٦ ، الهمع ١ / ١١٦ ، الدرر ١ / ٨٥ ، الدر المصون ٣ / ١٤٣.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٩٤.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٥.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٢ ، البحر المحيط ٤ / ١٩٤ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٤.

(٥) ينظر : الرازي ١٣ / ٩٠.

٣٢٩

قوله : «إلى ثمره» متعلق ب «انظروا» وهو بمعنى الرّؤية ، وإنما تعدّت ب «إلى» لما تتضمنّه من التفكر.

وقرأ (١) الأخوان «ثمره» بضمتين ، والباقون (٢) : بفتحتين.

وقرىء (٣) شاذا بضم الأوّل ، وسكون الثاني.

وأما قراءة (٤) الأخوين فتحتمل أربعة أوجه :

أحدها : أن يكون اسما مفردا ؛ كطنب وعنق.

والثاني : أنه جمع الجمع ، فثمر جمع : ثمار ، وثمار جمع ثمرة وذلك نحو : أكم جمع إكام ، وإكام جمع أكمة ، فهو نظير كثبان وكثب.

والثالث : أنه جمع «ثمر» كما قالوا : أسد وأسد.

والرابع : أنه جمع : ثمرة.

قال الفارسي : «الأحسن أن يكون جمع ثمرة ، كخشبة وخشب ، وأكمة وأكم ، ونظيره في المعتل : لابة ولوب ، وناقة ونوق ، وساحة وسوح».

وأما قراءة (٥) الجماعة ، فالثّمر اسم جنس ، مفرده ثمرة ، كشجر وشجرة ، وبقر وبقرة ، وجرز وجرزة.

وأما قراءة (٦) التسكين فهي تخفيف قراءة الأخوين وقيل : بل هي جمع «ثمرة» كبدن جمع «بدنة» ، ونقل بعضهم أنه يقال : ثمرة بزنة سمرة ، وقياسها على هذا ثمر كسمر بحذف التاء إذا قصد جمعه ، وقياس تكسيره أثمار ، كعضد وأعضاد.

وقد قرأ (٧) أبو عمرو الذي في سورة «الكهف» بالضم وسكون الميم ، فهذه القراءة التي هنا فصيحة كان قياس أبي عمرو أن يقرأهما شيئا واحدا لو لا أن القراءة مستندها النقل.

وقرأ أبو عمرو (٨) والكسائي وقنبل «خشب» والباقون بالضم (٩) فهذه القراءة نظير تيك.

وهذا الخلاف أعني في «ثمره» والتوجيه بعينه جار في سورة يس [آية ٣٥] وأما

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٣ ، البحر المحيط ٤ / ١٩٥ ، الكشاف ٢ / ٥٢ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٥ ، الحجة لأبي زرعة (٢٦٤).

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٣ ، البحر المحيط ٤ / ١٩٥ ، الكشاف ٢ / ٥٢ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٥ ، الحجة لأبي زرعة (٢٦٤).

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٣ ، البحر المحيط ٤ / ١٩٥ ، الكشاف ٢ / ٥٢ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٥ ، الحجة لأبي زرعة (٢٦٤).

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٣ ، البحر المحيط ٤ / ١٩٥.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٣.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٣.

(٧) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٣.

(٨) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٣.

(٩) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٣ ، البحر المحيط ٤ / ١٩٥ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٥.

٣٣٠

الذي في سورة «الكهف» ففيه ثلاث قراءات : فعاصم يقرؤه بفتحتين ، كما يقرؤه في هذه السورة ، وفي يس فاستمر على عمل واحد ، والأخوان يقرآنه بضمتين في السور الثلاث ، فاستمر على عمل واحد ، وأما نافع وابن كثير وابن عامر فقرأوا في «الأنعام» و «يس» بفتحتين ، وقرأوا ما في «الكهف» بضمتين.

وأما أبو عمرو فقرأ ما في «الأنعام» و «يس» بفتحتين ، وما في «الكهف» بضمة وسكون ، وقد ذكروا في توجيه الضمتين في «الكهف» ما لا يمكن أن يأتي في السورتين ، وذلك أنهم قالوا في الكهف : الثّمر بالضم : المال ، وبالفتح المأكول.

قوله : (إِذا أَثْمَرَ) ظرف لقوله : «انظروا» وهو يحتمل أن يكون متمحضا للظرف ، وأن يكون شرطا ، وجوابه محذوف أو متقدم عند من يرى ذلك أي : إذا أثمر فانظروا إليه.

قوله : (وَيَنْعِهِ) الجمهور (١) على فتح الياء من «ينعه» وسكون النون.

وقرأ (٢) ابن محيصن بضم الياء ، وهي قراءة قتادة والضحاك.

وقرأ إبراهيم (٣) بن أبي عبلة واليماني : يانعة ، ونسبها الزمخشري (٤) لابن محيصن ، فيجوز أن يكون عنه قراءتان ، والينع بالفتح والضم مصدر ينعت الثمرة ؛ أي : نضجت ، والفتح لغة «الحجاز» والضم لغة بعض «نجد» ، ويقال أيضا : ينع بضم الياء والنون وينوع بواو بعد ضمتين.

وقيل : الينع بالفتح جمع «يانع» كتاجر وتجر ، وصاحب وصحب ، ويقال : ينعت الثمرة ، وأينعت ثلاثيا ورباعيا بمعنى.

وقال الحجاج : «أرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها» ، ويانع : اسم فاعل.

وقيل : أينعت الثمرة وينعت احمرّت قاله الفراء (٥) ، ومنه الحديث في الملاعنة : «إن ولدته أحمر مثل الينعة» (٦). وهي خرزة حمراء ، قيل : هي العقيق ، أو نوع منه ويقال : ينعت تينع بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل ، هذا قول أبي عبيدة (٧) وأنشد : [المديد]

٢٢٧٦ ـ في قباب حول دسكرة

حولها الزّيتون قد ينعا (٨)

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٣ ، البحر المحيط ٤ / ١٩٥ ، الكشاف ٢ / ٥٢ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٥.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٣ ، البحر المحيط ٤ / ١٩٥ ، الكشاف ٢ / ٥٢ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٥.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٣ ، البحر المحيط ٤ / ١٩٥ ، الكشاف ٢ / ٥٢ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٥.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٢.

(٥) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٤٨.

(٦) سيأتي تخريجه في سورة النور ، تفسير آيات اللعان.

(٧) ينظر : الرازي ١٣ / ٩١.

(٨) البيت للأحوص ، وقيل لعبد الرحمن بن حسان أو للأخطل أو ليزيد بن معاوية ينظر : مجاز القرآن ١ / ٢٠٢ ، معاني القرآن للزجاج ٢ / ٢٠٤ ، لسان العرب (دسكر ـ ينع) الكامل ١ / ٣٨٤ ، الخزانة ٧ / ٣١٢ ، الدر المصون ٣ / ١٤٤.

٣٣١

وقال الليث بعكس هذا ، أي بكسرها في الماضي ، وبفتحها في المستقبل وأينعت فهي تينع وتونع إيناعا وينعا بفتح الياء ، وينعا بضم الياء ، والنّعت يانع ومونع.

فإن قيل هذا في أول حال حدوث الثمرة ، وقوله : «وينعه» أمر بالنظر في حال تمامها وكمالها ، والمقصود منه أنّ هذه الثمار في أول حدوثها على صفات مخصوصة عند كمالها تنتقل إلى أحوال متضادّة للأحوال السابقة.

قيل : إنها كانت موصوفة بالخضرة ، فتصير سوداء ، أو حمراء ، أو صفراء ، أو كانت موصوفة بالحموضة ، وربما كانت في أوّل الأمر باردة بحسب الطبيعة ، فتصير في آخر الأمر حارّة بحسب الطبيعة ، فحصول هذه التّبدّلات والتغيرات لا بدّ له من سبب ليس هو تأثير الطّبائع والفصول والأنجم والأفلاك ؛ لأن نسبة هذه الأفعال بأسرها إلى جميع هذه الأجسام المتباينة متساوية متشابهة ، والنّسب المتشابهة لا يمكن أن تكون سببا لحدوث الحوادث المختلفة ، ولما بطل إسناد حدوث هذه الحوادث إلى الطّبائع والأنجم والأفلاك ، وجب إسنادها إلى القادر الحكيم العليم المدبّر لهذا العالم على وفق الرحمة والمصلحة والحكمة ، فناسب ختام هذه الآية الكريمة بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) للدلالة على ما تقدم في وحدانيّته ، وإيجاده المصنوعات المختلفة من أنها نابتة من أرض واحدة ، وتسقى بماء واحد ، وهذه الدلائل إنما تنفع المؤمنين دون غيرهم ، كقوله تبارك وتعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢].

قال القاضي رحمه‌الله (١) : المراد لمن يطلب الإيمان بالله ـ تبارك وتعالى ـ ؛ لأنه لمن آمن ولمن لا يؤمن فإن قيل : لم أوقع الاختلاف بين الخلق في هذه المسألة مع وجود مثل هذه الدلالة [الجلية الظاهرة القوية؟].

أجيب عنه بأن قوة الدليل لا تفيد ولا تنفع إلّا إذا قدر الله للعبد حصول الإيمان ، فكأنه قيل : هذه الدلالة على قوتها وظهورها دلالة لمن سبق قضاء الله تعالى في حقه بالإيمان.

فأما من سبق قضاء الله له بالكفر لم ينتفع بهذه الدلالة ألبتة أصلا فكان المقصود من هذه التخصيص التنبيه على ما ذكرنا.

قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ)(١٠٠)

لما ذكر البراهين الخمسة من دلائل العالم الأعلى والأسفل على ثبوت الإلهية ، وكمال القدرة والحكمة ، ذكر بعد ذلك أنّ من النّاس من أثبت لله شركاء ، وهذه المسألة تقدّم ذكرها ، إلّا أن المذكور هنا غير ما تقدّم ذكره ؛ لأن مثبتي الشّريك طوائف منها عبدة

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ٩١.

٣٣٢

الأصنام فهم يقولون : الأصنام شركاء لله في العبودية والتكوين.

ومنها من يقول : مدبر هذا العالم هو الكواكب ، وهؤلاء فريقان منهم من يقول :إنها واجبة الوجود لذواتها ، ومنهم من يقول : إنها ممكنة الوجود لذواتها محدثة ، خالقها هو الله تبارك وتعالى ، إلا أنه تبارك وتعالى فوّض تدبير هذا العالم الأسفل إليها ، وهؤلاء هم الذين ناظرهم الخليل عليه‌السلام بقوله: (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) [الأنعام : ٧٦].

ومنها الذين قالوا : للعالم إلهان : أحدهما : يفعل الخير خالق النور والناس والدّوابّ والأنعام والثاني : يفعل الشّر ، [وهو إبليس](١) خالق الظلمة ، والسّباع والحيّات والعقارب ، وهم مذكورون هاهنا.

قال ابن عباس رضي الله عنهما والكلبي : نزلت هذه الآية في الزّنادقة أثبتوا الشرك لإبليس [في الخلق](٢).

قال ابن عباس رضي الله عنهما : والّذي يقوي هذا قوله تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً)(٣) [الصافات : ١٥٨] فإنما وصف بكونه من الجنّ ؛ لأن لفظ الجنّ مشتق من الاستتار ، والملائكة الروحانيون لا يرون بالعيون ، فصارت كأنها مستترة عن العيون ، فلهذا أطلق لفظ الجن عليها.

قال ابن الخطيب ـ رحمه‌الله ـ (٤) : هو مذهب المجوس ، وإنما قال ابن عباس رضي الله عنهما : هذا قول الزّنادقة ؛ لأن المجوس يلقبون بالزنادقة (٥) ؛ لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزّل عليه من عند الله تبارك وتعالى مسمى بالزند ، والمنسوب إليه يسمى زندي ، ثم أعرب فقيل : زنديق ، ثم جمع فقيل : الزنادقة.

واعلم أن المجوس قالوا في كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من يزدان ، وجميع ما فيه من الشر فهو من اهرمن وهو المسمى ب «إبليس» في شرعنا ، ثم اختلفوا فقال أكثرهم : هو محدث ، ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة (٦).

وقال بعضهم : إنه قديم أزليّ ، واتفقوا أنه شريك لله ـ تعالى ـ في تدبير هذا العالم ، فخيره من الله تبارك وتعالى ، وشرّه من إبليس لعنه الله ، فهذا شرح قول ابن عباس رضي الله عنهما (٧).

فإن قيل : القوم أثبتوا لله شريكا واحدا ، وهو إبليس ، فكيف حكى الله تعالى عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء.

فالجواب : أنهم يقولون : عسكر الله هم الملائكة ، وعسكر إبليس هم الشياطين ،

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٧ / ٣٤) عن الكلبي وذكره الرازي في تفسيره» (١٣ / ٩٢) عن ابن عباس.

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٣ / ٩٢).

(٥) ينظر : الفخر الرازي (١٣ / ٩٢).

(٦) ينظر : الرازي (١٣ / ٩٢).

(٧) ينظر : الرازي ١٣ / ٩٣.

٣٣٣

والملائكة فيهم كثرة عظيمة ، وهم أرواح طاهرة مقدّسة يلهمون الأرواح البشرية للخيرات والطاعات ، والشياطين فيهم أيضا كثرة عظيمة تلقي الوساوس الخبيثة إلى الأرواح البشريّة ، والله تبارك وتعالى مع عسكرة من الملائكة يحاربون إبليس مع عسكره من الشياطين ، فلهذا حكى الله تبارك وتعالى عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء الجنّ (١).

قوله : (شُرَكاءَ الْجِنَّ) الجمهور (٢) على نصب «الجنّ» وفيه خمسة أوجه :

أحدها : وهو الظاهر أن الجنّ هو المفعول الأوّل.

والثاني : هو «شركاء» قدم ، و «لله» متعلّق ب «شركاء» ، والجعل هنا بمعنى التّصيير ، وفائدة التقديم كما قال الزمخشري (٣) استعظام أن يتخذ لله شريك من كان ملكا أو جنيا أو إنسيّا ، ولذلك قدم اسم الله ـ تبارك وتعالى ـ على الشّركاء انتهى. ومعنى كونهم جعلوا الجنّ شركاء لله هو أنهم يعتقدون أنّهم يخلقون من المضارّ والحيّات والسباع ، [كما جاء في التفسير](٤).

وقيل : ثمّ طائفة من الملائكة يسمّون الجن كان بعض العرب يعبدها.

الثاني : أن يكون «شركاء» مفعولا أوّل ، و «لله» متعلّق بمحذوف على أنه المفعول الثاني ، و «الجن» بدل من «شركاء» أجاز ذلك الزمخشري (٥) ، وابن عطية (٦) ، والحوفي ، وأبو البقاء (٧) ، ومكي بن أبي (٨) طالب إلا أن مكيّا لما ذكر هذا الوجه جعل اللام من «لله» متعلّقة ب «جعل» فإنه قال : الجنّ مفعول أوّل ل «جعل» و «شركاء» مفعول ثان مقدم ، واللام في «لله» متعلّقة ب «شركاء» وإن شئت جعلت «شركاء» مفعولا أوّل ، و «الجن» بدلا من «شركاء» ، و «لله» في موضع المفعول الثاني ، واللام متعلقة ب «جعل».

قال شهاب الدين (٩) : بعد أن جعل «لله» مفعولا ثانيا كيف يتصوّر أن يجعل اللام متعلقة بالجعل؟ هذا ما لا يجوز لأنه لما صار مفعولا ثانيا تعيّن تعلّقه بمحذوف على ما عرفته غير مرّة.

قال أبو حيّان (١٠) : «وما أجازوه ـ يعني الزمخشري ومن معه ـ لا يجوز ؛ لأنه يصح للبدل أن يحل محلّ المبدل منه ، فيكون الكلام منتظما لو قلت : وجعلوا لله الجنّ لم يصح ، وشرط البدل أن يكون على نيّة تكرار العامل على أشهر القولين ، أو معمولا للعامل في المبدل منه على قول ، وهذا لا يصحّ هنا ألبتة لما ذكرنا».

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٥ ، البحر المحيط ٤ / ١٩٦ ، الكشاف ٢ / ٥٢.

(٣) الكشاف ٢ / ٥٢.

(٤) سقط في ب.

(٥) ينظر : الزمخشري ٢ / ٥٢.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٢٩.

(٧) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٥.

(٨) ينظر : المشكل ١ / ٢٨٢.

(٩) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٤.

(١٠) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٩٦.

٣٣٤

قال شهاب الدين (١) ـ رحمه‌الله تعالى ـ هذا القول المنسوب للزمخشري ، ومن ذكر معه سبقهم إليه الفرّاء (٢) وأبو إسحاق (٣) ، فإنهما أجازا أن يكونا مفعولين قدم ثانيهما على الأوّل ، وأجازا أن يكون «الجنّ» بدلا من «الشركاء» ومفسرا للشركاء هذا نصّ عبارتهم ، وهو معنى صحيح أعني كون البدل مفسرا ، فلا معنى لرد هذا القول ، وأيضا فقد ردّ على الزمخشري (٤) عند قوله تعالى : (إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا) [المائدة : ١١٧] فإنه لا يلزم في كل بدل أن يحل محل المبدل منه ، قال : «ألا ترى إلى تجويز النحويين «زيد مررت به أبي عبد الله» ولو قلت : «زيد مررت بأبي عبد الله» لم يجز إلّا على رأي الأخفش» ، وقد سبق هذا في «المائدة» فقد قرّر هو أنه لا يلزم حلول البدل محلّ المبدل منه ، فكيف يردّ به هنا؟

الثالث : أن يكون «شركاء» هو المفعول الأوّل ، و «الجن» هو المفعول الثاني قاله الحوفي ، وهذا لا يصحّ لما عرفت أنّ الأوّل في هذا الباب مبتدأ في الأصل ، والثاني خبر في الأصل ، وتقرّر أنه إذا اجتمع معرفة ونكرة جعلت المعرفة مبتدأ ، والنكرة خبرا من غير عكس ، إلا في ضرورة تقدّم التّنبيه على الوارد منها.

الرابع : أن يكون (شُرَكاءَ الْجِنَّ) مفعولين على ما تقدّم بيانه ، و «لله» متعلق بمحذوف على أنه حال من «شركاء» ؛ لأنه لو تأخّر عنها لجاز أن يكون صفة لها قاله أبو البقاء (٥) ، وهذا لا يصحّ ؛ لأنه يصير المعنى : جعلوهم شركاء في حال كونهم لله ، أي : مملوكين ، وهذه حال لازمة لا تنفكّ ، ولا يجوز أن يقال : إنها غير منتقلة ؛ لأنها مؤكدة ؛ إذ لا تأكيد فيها هنا ، وأيضا فإن فيه تهيئة العامل في معمول وقطعه عنه ، فإن «شركاء» يطلب هذا الجارّ ليعمل فيه ، والمعنى منصبّ على ذلك.

الخامس : أن يكون «الجنّ» منصوبا بفعل مضمر جواب لسؤال مقدر ، كأن سائلا سأل ، فقال بعد قوله تعالى (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) : من جعلوا لله شركاء؟ فقيل : الجنّ ، أي : جعلوا الجن.

نقله أبو (٦) حيّان عن شيخه أبي جعفر بن الزبير ، وجعله أحسن مما تقدم ؛ قال : «ويؤيد ذلك قراءة أبي حيوة (٧) ، ويزيد بن قطيب «الجنّ» رفعا على تقدير : هم الجنّ جوابا لمن قال : جعلوا لله شركاء؟ فقيل : هم الجنّ ، ويكون ذلك على سبيل الاستعظام لما فعلوه ، والاستنقاص بمن جعلوه شريكا لله تعالى».

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٤ ـ ١٤٥.

(٢) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٤٨.

(٣) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣٠٥.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٢.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٥.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٩٦.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٩٦ ، الدر المصون ٣ / ١٤٥ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٣٢٩.

٣٣٥

وقال مكي (١) : «وأجاز الكسائي رفع «الجنّ» على معنى هم الجنّ». فلم يروها عنه قراءة ، وكأنه لم يطّلع على أن غيره قرأها كذلك.

وقرأ شعيب بن أبي حمزة (٢) ، ويزيد بن قطيب ، وأبو حيوة في رواية عنهما أيضا «شركاء الجنّ» بخفض «الجنّ».

قال الزّمخشري (٣) : «وقرىء بالجر على الإضافة التي للتّبيين ، فالمعنى : أشركوهم في عبادتهم ؛ لأنهم أطاعوهم كما أطاعوا الله».

قال أبو حيّان (٤) : ولا يتّضح معنى هذه القراءة ؛ إذ التقدير : وجعلوا شركاء الجن لله.

قال شهاب الدين (٥) : معناها واضح بما فسّره الزمخشري (٦) في قوله ، والمعنى : أشركوهم في عبادتهم إلى آخره ، ولذلك سمّاها إضافة تبيين أي أنه بين الشركاء ، كأنه قيل : الشركاء المطيعين للجن.

قوله : «وخلقهم».

الجمهور (٧) على «خلقهم» بفتح اللام فعلا ماضيا ، وفي هذه الجملة احتمالان :

أحدهما : أنها حالية ف «قد» مضمرة عند قوم ، وغير مضمرة عند آخرين.

والثاني : أنها مستأنفة لا محلّ لها ، والضمير في «خلقهم» فيه وجهان :

أحدهما : أنه يعود على الجاعلين ، أي : جعلوا له شركاء ، مع أنه خلقهم وأوجدهم منفردا بذلك من غير مشاركة له في خلقهم ، فكيف يشركون به غيره ممن لا تأثير له في خلقهم؟

والثاني : أنه يعود على الجنّ ، أي : والحال أنه خلق الشركاء ، فكيف يجعلون مخلوقه شريكا له؟

وقرأ يحيى (٨) بن يعمر : «وخلقهم» بسكون اللام.

قال أبو حيان (٩) ـ رحمه‌الله ـ : «وكذا في مصحف عبد الله».

قال شهاب الدين (١٠) : قوله : «وكذا في مصحف عبد الله» فيه نظر من حيث إن الشّكل الاصطلاحي أعني ما يدل على الحركات الثلاث ، وما يدلّ على السكون كالجزء منه كانت حيث مصاحف السلف منها مجردة ، والضبط الموجود بين أيدينا اليوم أمر

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ٢٨٢.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٥ ، البحر المحيط ٤ / ١٩٦.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٢.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٩٦.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٥.

(٦) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٢.

(٧) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٥ ، البحر المحيط ٤ / ١٩٦.

(٨) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٦ ، البحر المحيط ٤ / ١٩٦.

(٩) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٩٧.

(١٠) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٦.

٣٣٦

حادث ، يقال : إن أوّل من أحدثه يحيى بن يعمر ، فكيف ينسب ذلك لمصحف عبد الله بن مسعود؟

وفي هذه القراءة تأويلان :

أحدهما : أن يكون «خلقهم» مصدرا بمعنى اختلاقهم.

قال الزمخشري (١) : أي اختلاقهم للإفك ، يعني : وجعلوا لله خلقهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) انتهى.

فيكون «لله» هو المفعول الثاني قدّم على الأول.

والتأويل الثاني : أن يكون «خلقهم» مصدرا بمعنى مخلوقهم ، فيكون عطفا على «الجنّ» ، ومفعوله الثاني محذوف ، تقديره : وجعلوا مخلوقهم وهو ما ينحتون من الأصنام كقوله تعالى : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) [الصافات : ٥٩] شركاء لله تعالى.

قوله تعالى : (وَخَرَقُوا) قرأ الجمهور (٢) «خرقوا» بتخفيف الراء ، ونافع بتشديدها.

وقرأ ابن (٣) عباس بالحاء المهملة والفاء وتخفيف الراء ، وابن عمر كذلك أيضا ، إلا أنه شدّد الراء ، والتخفيف في قراءة الجماعة بمعنى الاختلاق.

قال الفراء (٤) : يقال : «خلق الإفك وخرقه واختلقه وافتراه وافتعله وخرصه بمعنى كذب فيه».

والتشديد للتكثير ، لأن القائلين بذلك خلق كثير وجمّ غفير.

وقيل : هما لغتان ، والتخفيف هو الأصل [وحكى الزمخشري أنه سئل الحسن عن هذه الكلمة ، فقال : كلمة عربية كانت العرب تقولها كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم : قد خرقها والله أعلم](٥).

وقال الزمخشري (٦) : «ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقّه ، أي : اشتقوا له بنين وبنات».

وأما قراءة الحاء المهملة فمعناها التّزوير ، أي : زوّروا له أولادا ؛ لأن المزوّر محرّف ومغيّر الحق إلى الباطل.

وقوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) فيه وجهان :

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٣.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٦ ، البحر المحيط ٤ / ١٩٦ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٥ ، حجة أبي زرعة ص (٢٦٤).

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٦ ، البحر المحيط ٤ / ١٩٦ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٥ ، حجة أبي زرعة ص (٢٦٤).

(٤) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٤٨.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٣.

٣٣٧

أحدهما : أنه نعت لمصدر محذوف ؛ أي : خرقوا له خرقا بغير علم قاله أبو البقاء (١) ، وهو ضعيف المعنى.

الثاني : وهو الأحسن : أن يكون منصوبا على الحال من فاعل «خرقوا» أي : افتعلوا الكذب مصاحبين للجهل وهو عدم العلم كقول اليهود (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] وقول النصارى : (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] وقول كفّار العرب : الملائكة بنات الله ، ثم إنه تبارك وتعالى نزّه نفسه ، فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) ، والمقصود تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق به.

واعلم أنه تبارك وتعالى حكى عن الكفّار أنه أثبتوا له بنين وبنات ، أما الذين أثبتوا البنين فمنهم النّصارى ، وقوم من اليهود ، وأما الذين أثبتوا البنات فهم العرب الذين يقولون : الملائكة بنات الله.

وقوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) كالتّنبيه على ما هو الدليل القاطع على فساد هذا القول ؛ لأن الإله يجب أن يكون واجب الوجود لذاته [فولده إما أن يكون واجب الوجود لذاته ، أو لا يكون ، فإن كان واجب الوجود لذاته](٢) كان مستقلا بنفسه قائما بذاته لا تعلّق له في وجوده بالآخر ، ومن كان كذلك لم يكن له ولد ألبتّة ؛ لأن الولد مشعر بالفرعية والحاجة.

وإن كان ممكن الوجود ، فحينئذ يكون وجوده بإيجاد واجب الوجود لذاته ، فيكون عبدا له لا ولدا له ، فثبت أنّ من عرف أن الإله ما هو امتنع من أن يثبت له البنات والبنين.

وأيضا فإن الولد يحتاج إليه ليقوم مقامه بعد فنائه ، وهذا إنما يقال في حقّ من يفنى ، أما من تقدّس عن ذلك لم يعقل الولد في حقّه.

أيضا فإن الولد يشعر بكونه متولّدا عن جزء من أجزاء الوالد ، وذلك إنما يعقل في حقّ المركّب من الأجزاء ، أما الفرد الواجب لذاته فمحال ، فمن علم ما حقيقة الله ؛ استحال أن يقول : له ولد ، فكان قوله تبارك وتعالى : (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) إشارة إلى هذه الدقيقة.

قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(١٠٢)

لمّا بيّن فساد أقوال المشركين شرع في إقامة الدلالة على فساد قول من يثبت له الولد ، فقال : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٥.

(٢) سقط في أ.

٣٣٨

والإبداع : عبارة عن تكوين الشيء من غير سبق مثال ، وتقدّم الكلام عليه في «البقرة».

وقرأ الجمهور (١) برفع العين ، وفيها ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو بديع ، فيكون الوقف على قوله : «والأرض» فهي جملة مستقلة بنفسها.

الثاني : أنه فاعل بقوله : «تعالى» ، أي : تعالى بديع السماوات ، وتكون هذه الجملة الفعلية معطوفة على الفعل المقدر قبلها ، وهو النّاصب ل «سبحان» فإن «سبحان» كما تقدّم من المصادر اللازم إضمار ناصبها.

الثالث : أنه مبتدأ وخبره ما بعده من قوله : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ).

وقرأ المنصور (٢) «بديع» بالجر قال الزمخشري (٣) : ردّا على قوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ) ، أو على «سبحانه» كذا قاله ، ولم يبيّن على أي وجه من وجوه الإعراب هو وكذا أبو حيّان ـ رحمه‌الله ـ حكاه عنه ومرّ عليه ، ويريد بالرد كونه تابعا ، إما : لله ، أو للضمير المجرور في «سبحانه» ، وتبعيته له على كونه بدلا من «لله» تعالى أو من الهاء في «سبحانه» ، ويجوز أن يكون نعتا [لله على أن تكون إضافة «بديع» محضة كما ستعرفه.

وأما تبعيّته للهاء فيتعين أن يكون بدلا ، ويمتنع أن يكون نعتا] ، وإن اعتقدنا تعريفه بالإضافة لمعارض آخر ، وهو أن الضمير لا ينعت إلا ضمير الغائب على رأي الكسائي ، فعلى رأيه قد يجوز ذلك.

وقرأ أبو صالح الشّامي (٤) : «بديع» نصبا ، ونصبه على المدح ، وهي تؤيد قراءة الجر ، وقراءة الرفع المتقدمة يحتمل أن تكون أصليّة الإتباع بالجر على البدل ثم قطع التابع رفعا.

و «بديع» يجوز أن يكون بمعنى «مبدع» وقد سبق معناه ، أو تكون صفة مشبهة أضيفت لمرفوعها ، كقولك : فلان بديع الشعر ، أي : بديع شعره ، وعلى هذين القولين ، فإضافته لفظيّة ؛ لأنه في الأوّل من باب إضافة اسم الفاعل إلى منصوبه ، وفي الثّاني من باب إضافة الصفة المشبهة إلى مرفوعها ، ويجوز أن تكون بمعنى عديم النظير والمثل فيهما ، كأنه قيل : البديع في السماوات والأرض ، فالإضافة على هذا إضافة محضة.

قوله : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) «أنّى» بمعنى «كيف» [أو «من أين»](٥) وفيها وجهان:

أحدهما : أنها خبر كان الناقصة ، و «له» في محل نصب على الحال ، و «ولد» اسمها ،

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٦.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٦.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٣.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٢٥ ، البحر المحيط ٤ / ١٨٥ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٢.

(٥) سقط في ب.

٣٣٩

ويجوز أن تكون منصوبة على التشبيه بالحال أو الظرف ، كقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) [البقرة : ٢٨]. والعامل فيها قال أبو البقاء (١) : [«يكون»](٢) وهذا على رأي من يجيز في «كان» أن تعمل في الأحوال والظروف وشبههما ، و «له» خبر يكون ، و «ولد» اسمها.

ويجوز في «يكون» أن تكون تامّة ، وهذا أحسن أي : كيف يوجد له ولد ، وأسباب الولدية منتفية؟

قوله : (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) هذه «الواو» للحال ، والجملة بعدها في محل نصب على الحال من مضمون الجملة المتقدمة ، أي : كيف يوجد له ولد ، والحال أنه لم يكن له زوج ، وقد علم أن الولد إنما يكون من بين ذكر وأنثى ، وهو منزّه عن ذلك.

والجمهور (٣) على «تكن» بالتاء من فوق.

وقرأ النخعي (٤) بالياء من تحت وفيه أربعة أوجه :

أحدها : أن الفعل مسند إلى «صاحبة» أيضا كالقراءة المشهورة ، وإنما جاز التذكير للفصل كقوله : [الوافر]

٢٢٧٧ ـ لقد ولد الأخيطل أمّ سوء

 .......... (٥)

وقول القائل : [البسيط]

٢٢٧٨ ـ إنّ امرأ غرّه منكنّ واحدة

بعدي وبعدك في الدّنيا لمغرور (٦)

وقال ابن عطيّة (٧) : «وتذكير «كان» وأخواتها مع تأنيث اسمها أسهل من ذلك في سائر الأفعال».

قال أبو حيّان (٨) ـ رحمه‌الله ـ : «ولا أعرف هذا عن النحويين ، ولم يفرّقوا بين «كان» وغيرها».

قال شهاب (٩) الدين : هذا كلام صحيح ، ويؤيده أن الفارسيّ وإن كان يقول بحرفيّة

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٦.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٧.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٧ المحتسب ١ / ٢٢٤.

(٥) صدر بيت لجرير وعجزه :

على باب استها صلب وشام

ينظر : ديوانه ٢ / ٢٨٣ ، المقتضب ٢ / ١٤٥ ، الإنصاف ١ / ١٧٥ ، الأمالي لابن الشجري ٣ / ١٥٣ ، الدر المصون ٣ / ١٤٧.

(٦) ينظر : الإنصاف ١ / ١٧٤ ، تخليص الشواهد ص (٤٨١) ، الخصائص ٢ / ٤١٤ ، الدرر ٦ / ٢٧١ ، شرح الأشموني ١ / ١٧٣ ، شرح شذور الذهب ص (٢٢٤) ، شرح المفصل ٥ / ٩٣ ، اللسان (غرر) ، اللمع ص (١١٦) ، المقاصد النحوية ٢ / ٤٧٦ ، همع الهوامع ٢ / ١٧١ ، البحر ٢ / ٣٩٣.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٢٩.

(٨) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٩٧.

(٩) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٤٨.

٣٤٠