اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٢

الفعل حينئذ حكم ما لم يتّصل به ساكن فيعود فيه التّفصيل المتقدّم ، كما إذا وقفت على «رأى» من نحو : (رَأَى الْقَمَرَ) [الأنعام : ٧٧]. فأمّا إمالة الرّاء من «رأى» فلإتباعها لإمالة الهمزة ، هكذا عبارتهم ، وفي الحقيقة الإمالة إنما هي الألف لانقلابها عن الياء ، والإمالة أن تنحي بالألف نحو الياء وبالفتحة قبلها نحو الكسرة ، فمن ثمّ صحّ أن يقال : أميلت الراء لإمالة الهمزة ، وأما تفصيل ابن ذكوان بالنسبة إلى اتّصاله بالضمير وعدمه ، فوجهه أن الفعل لما اتّصل بالضمير بعدت ألفه عن الظّرف ، فلم تمل.

ووجه من أمال الهمزة في (رَأَى الْقَمَرَ) مراعاة للألف وإن كانت محذوفة ، إذ حذفها عارض ، ثم منهم من اقتصر على إمالة الهمزة ؛ لأن اعتبار وجودها ضعيف ، ومنهم من لم يقتصر أعطى لها حكم الموجودة حقيقة ، فأتبع الراء للهمزة في ذلك.

والكوكب : النجم ، ويقال فيه : كوكبة.

وقال الراغب (١) : «لا يقال فيه أي في النجم : كوكب إلا عند ظهوره». وفي اشتقاقه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه من مادة «وكب» فتكون الكاف زائدة ، وهذا القول قاله الشيخ رضي الدين الصّغاني (٢) قال رحمه‌الله تعالى : «حق كوكب أن يذكر في مادة «وكب» عند حذّاق النحويين ، فإنها وردت بكاف زائدة عندهم ، إلا أنّ الجوهري (٣) أوردها في تركيب «ك وك ب» ولعلّه تبع في ذلك اللّيث ، فإنه ذكره في الرباعي ذاهبا إلى أن الواو أصليّة». فهذا تصريح من الصّغاني بزيادة الكاف ، وزيادة الكاف عند النحويين لا يجوز ، وحروف الزيادة محصورة في تلك العشرة ، فأما قولهم : «هنديّ وهندكيّ» بمعنى واحد ، وهو المنسوب إلى «الهند» ، وقول الشاعر : [الطويل]

٢٢١٣ ـ ومقربة دهم وكمت كأنّها

طماطم من فوق الوفاز هنادك (٤)

فظاهره زيادة الكاف ، ولكن خرّجها النحويون على أنه من باب «سبط وسبطر» أي : مما جاء فيه لفظان ، أحدهما أطول من الآخر ، وليس بأصل له ، فكما لا يقال : الراء زائدة باتّفاق ، كذلك هذه الكاف ، وكذلك قال أبو حيّان : «وليت شعري ، من حذّاق النحويين الذين يرون زيادتها لا سيّما أول الكلمة».

والثاني : أن الكلمة كلّها أصول رباعية مما كرّرت فيها الفاء ، فوزنها فعفل ك «فوفل» وهو بناء قليل.

__________________

(١) ينظر : المفردات ٤٢٠.

(٢) ينظر : التكملة والذيل ١ / ٢٦١.

(٣) ينظر : الصحاح ١ / ٢١٣.

(٤) البيت لكثير عزة ينظر : ديوانه ص (٣٤٧) ، سر صناعة الإعراب ١ / ٢٨١ ، لسان العرب (هند) ، الممتع في التصريف ١ / ٢٠٢. الدر المصون ٣ / ١٠٥.

٢٤١

والثالث : ساق الرّاغب (١) أنه من مادة : كبّ وكبكب ، فإنه قال : والكبكبة تدهور الشيء في هوّة ، يقل : كبّ وكبكب ، نحو : كفّ وكفكف ، وصرّ الريح وصرصر.

والكواكب النجوم البادية ، فظاهر هذا السّياق أن الواو زائدة ، والكاف بدل من إحدى الياءين وهذا غريب جدا.

قوله : «قال هذا ربي» في «قال» ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنه استئناف أخبر بذلك القول ، أو استفهم عنه على حسب الخلاف.

والثاني : أنه نعت ل «كوكبا» فيكون في محلّ نصب ، وكيف يكون نعتا ل «كوكبا» ولا

يساعد من حيث الصّناعة ، ولا من حيث المعنى؟ أما الصّناعة فلعدم الضمير العائد من الجملة الواقعة صفة إلى موصوفها ، ولا يقال : إن الرابط حصل باسم الإشارة ؛ لأن ذلك خاصّ بباب المبتدأ والخبر ، ولذلك يكثر حذف العائد من الصّفة ، ويقلّ من الخبر ، فلا يلزم من جواز شيء في هذا جوازه في شيء ، وادّعاء حذف ضمير بعيد ، أي قال فيه : هذا ربّي ، وأمّا المعنى فلا يؤدّي إلى أن التّقدير : رأى كوكبا متّصفا بهذا القول ، وذلك غير مراد قطعا.

والثالث : أنه جواب (فَلَمَّا جَنَّ) وعلى هذا فيكون قوله : (رَأى كَوْكَباً) في محل نصب على الحال ، فلما جنّ عليه الليل رائيا كوكبا و (هذا رَبِّي) محكيّ بالقول ، فقيل : هو خبر محض بتأويل ذكره أهل التفسير.

وقيل : بل هو على حذف همزة الاستفهام ، أي : أهذا ربي ، وأنشدوا : [الطويل]

٢٢١٤ ـ لعمرك ما أدري وإن كنت داريا

بسبع رمين الجمر أم بثمان (٢)

وقوله : [المنسرح]

٢٢١٥ ـ أفرح أن أرزأ الكرام وأن

أورث ذودا شصائصا نبلا

وقوله : [الطويل]

٢٢١٦ ـ طربت وما شوقا إلى البيض أطرب

ولا لعبا منّي وذو الشّيب يلعب (٣)

وقوله : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ) [الشعراء : ٢٢] قالوا : تقديره أبسبع؟ وأأفرح؟ وأذو؟ وأتلك؟

قال ابن الأنباريّ : «وهذا لا يجوز إلا حيث يكون ثمّ فاصل بين الخبر والاستفهام ، إن دلّ دليل لفظي كوجود «أم» في البيت الأول ، بخلاف ما بعده». والأفول : الغيبة والذّهاب ؛ يقال : أفل يأفل أفولا.

قال ذو الرمة : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : المفردات ٤٢٠.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

٢٤٢

٢٢١٧ ـ مصابيح ليست باللّواتي تقودها

نجوم ولا بالآفلات شموسها (١)

والإفال : صغار الغنم.

والأفيل : الفصيل الضّئيل.

فصل في بيان رؤية الملك

قال أكثر المفسرين : أن ملك ذلك الزّمان رأى رؤيا وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام يكون هلاك ملكه على يديه ، فأمر بذبح كلّ غلام يولد ، فحملت أمّ إبراهيم به ، وما أظهرت حملها للناس ، فلما جاءها الطّلق ذهبت إلى كهف في جبل ، ووضعت إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وسدّت الباب بحجر فجاء جبريل ـ عليه‌السلام ـ ووضع أصبعه في فمه ، فخرج منه رزقه ، وكان يتعهّده جبريل ـ عليه‌السلام ـ وكانت الأمّ تأتيه أحيانا ترضعه ، وبقي على هذه الصفة حتى كبر وعقل ، وعرف أن له ربّا ، فسأل أمه فقال لها : من ربي؟ قالت : أنا ، فقال : ومن ربّك؟ قالت : أبوك فقال : ومن ربّ أبي؟ فقالت : ملك البلد.

فعرف إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ جهالتها بربها ، فنظر من باب ذلك الغار ليرى شيئا يستدلّ به على وجود الرّبّ ـ سبحانه وتعالى ـ فرأى النّجم الذي كان هو أضوء نجم في السماء (٢).

فقيل : كان المشتري ، وقيل : كان الزهرة ، فقال : هذا ربّي إلى آخر القصّة.

ثم القائلون بهذا القول اختلفوا ، فمنهم من قال : هذا كان بعد البلوغ ، ومنهم من قال : كان هذا قبل البلوغ والتكليف ، واتّفق أكثر المحققين (٣) على فساد هذا القول.

وقالوا : لا يجوز أن يكون لله رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو موحّد به عارف ، ومن كلّ معبود سواه بريء ، وكيف يتوهّم هذا على من عصمه الله وطهّره وآتاه رشده من قبل ، وأخبر عنه فقال تعالى : (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الصافات : ٨٤].

وأراه ملكوت السّموات والأرض ، أفتراه أراه الملكوت ليوقن؟ فلما أيقن رأى كوكبا قال : (هذا رَبِّي) معتقدا فهذا لا يكون أبدا.

واحتجوا بوجوه :

أحدها : أن القول بربوبيّة الجماد كفر بالإجماع (٤) ، والكفر لا يجوز على الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ بالإجماع.

والثاني : أن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان قد عرف ربّه قبل هذه الواقعة

__________________

(١) ينظر : ديوانه (٤٢٥) اللسان (دلك) ، مجاز القرآن ١ / ١٩٩ ، الدر المصون ٣ / ١٠٦.

(٢) ينظر : الرازي ١٣ / ٣٩.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : الرازي ١٣ / ٣٩.

٢٤٣

بالدليل ؛ لأنه أخبر عنه قال قبل هذه الواقعة لأبيه آزر (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٧٤].

الثالث : حكي عنه أنه دعا أباه إلى التّوحيد ، وترك عبادة الأصنام بالرّفق حيث قال :(يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم : ٤٢] وحكي في هذا الموضع أنه دعا أباه إلى التوحيد ، وترك عبادة الأصنام بالكلام الخشن ، ومن المعلوم أن من دعا غيره إلى الله ، فإنه يقدّم الرّفق على العنف ، ولا يخوض في التّغليظ إلا بعد اليأس التام ، فدلّ على أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن دعا أباه مرارا ، ولا شكّ أنه إنما اشتغل بدعوة أبيه بعد فراغه من مهمّ نفسه ، فثبت أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن أراه الله ملكوت السّموات والأرض ، ومن كان منصبه في الدّين كذلك ، وعلمه بالله كذلك ، فكيف يليق به أن يعتقد ألوهيّة الكواكب؟

الرابع : أنّ دلائل الحدوث في الأفلاك ظاهرة من وجوه كثيرة ، ومع هذه الوجوه الظاهرة كيف يليق بأقلّ العقلاء نصيبا من العقل والفهم أن يقول بربوبية الكواكب فضلا عن أعقل العقلاء ، وأعلم العلماء؟

الخامس : أنه قال في صفته (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الصافات : ٨٤] وقال تعالى :

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) [الأنبياء : ٥١] أي : آتيناه رشده من قبل أوّل زمان الفكرة وقوله (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) أي بطهارته وكماله ، ونظيره قوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤].

السادس : قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أي : بسبب تلك الإراءة يكون من الموقنين ، ثم قال بعده : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) و «الفاء» تقتضي الترتيب ، فدلّت الفاء في قوله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) على أن هذه الواقعة حصلت بعد أن صار من الموقنين العارفين بربّه.

السابع : أن هذه الواقعة إنما حصلت بسبب مناظرة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع قومه ، لأنه ـ تعالى ـ لما ذكر هذه القصّة قال : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [الأنعام : ٨٣] ولم يقل : على نفسه ، فعلم أن هذه المباحثة إنما جرت مع قومه ؛ لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان والتوحيد ، لا لأجل أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ كان يطلب الدّين والمعرفة لنفسه.

الثامن : أن قولهم : إن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما اشتغل بالنظر في الكواكب والشمس والقمر حال كونه في الغار باطل ؛ لأن لو كان الأمر كذلك ، فكيف يقول : يا قوم إني بريء مما تشركون ، مع أنه كان في الغار لا قوم ولا صنم.

التاسع : قوله تعالى : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ) [الأنعام : ٨٠].

فكيف يحاجّونه وهم لم يروه ولم يرهم ، وهذا يدلّ على أنه ـ عليه الصّلاة والسلام

٢٤٤

ـ إنما اشتغل بالنّظر في الكواكب والشمس والقمر بعد مخالطة قومه ، ورآهم يعبدون الأصنام ، ودعوه إلى عبادتها ، فقال : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) ردّا عليهم ، وتنبيها على فساد قولهم.

العاشر : أنه ـ تعالى ـ حكي عنه أنه قال للقوم : (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ) [الأنعام : ٨١] وهذا يدلّ على أن القوم كانوا خوّفوه بالأصنام كما قال قوم هود عليه الصلاة والسلام : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) [هود : ٥٤] وهذا الكلام لا يليق بالغار.

الحادي عشر : أن تلك اللّيلة كانت مسبوقة بالنهار ، ولا شك أن الشمس كانت طالعة في اليوم المتقدم ، ثم غربت ، فكان ينبغي أن يستدلّ بغروبها السّابق على أنها لا تصلح للإلهية ، وإذا بطل صلاحيّة الشمس للإلهية بطل ذلك في القمر والكوكب بطريق الأولى (١).

هذا إذا قلنا : إن هذه الواقعة كان المقصود منها تحصيل المعرفة لنفسه ، أما إذا قلنا : المقصود منها إلزام القوم وإلجاؤهم ، فهذا السؤال غير وارد ، لأنه يمكن أن يقال : إنه إنما اتّفقت مكالمته مع القوم حال طلوع ذلك النجم ، ثم امتدّت المناظرة إلى أن طلع القمر ، وطلع الشمس بعده ، وعلى هذا التقدير فالسّؤال غير وارد ، فثبت بهذه الدلائل الظّاهرة أنه لا يجوز أن يقال : إن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال على سبيل الجزم (هذا رَبِّي) ، وإذا بطل هذا بقي هاهنا احتمالان :

الأول : أن يقال : هذا كلام إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعد البلوغ ، ولكن ليس الغرض منه إثبات ربوبيّة الكواكب ، بل الغرض منه أحد أمور ستة (٢) :

أولها : أن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يقل : (هذا رَبِّي) على سبيل الإخبار ، بل الغرض منه أنه كان يناظر عبدة الكواكب ، وكان مذهبهم أن الكواكب ربّهم ، فذكر إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذلك القول الذي قالوه بلفظهم وعبارتهم ، حتى يرجع إليه فيبطله كما يقول الواحد منا إذا ناظر من يقول بقدم الجسم ، فيقول : الجسم قديم فإن كان كذلك فلم نراه؟ ولم نشاهده مركّبا متغيرا؟ فقوله : الجسم قديم إعادة لكلام الخصم حتى يلزم المحال عليه ، فكذا هاهنا قال : (هذا رَبِّي) حكاية لقول الخصم ، ثم ذكر عقيبه ما يدلّ على فساده ، وهو قوله : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) ، ويؤيد هذا أنه ـ تعالى ـ مدحه في آخر الآية على هذه المناظرة بقوله : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ).

وثانيها : أن قوله تعالى : (هذا رَبِّي) في زعمكم واعتقادكم ، فلما غاب قال : لو كان إلها لما غاب كما قال : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩] ، أي : عند

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ٤٠ ـ ٤١.

(٢) ينظر : الرازي ١٣ / ٤١.

٢٤٥

نفسك وبزعمك ، وكقوله تعالى : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) [طه : ٩٧] يريد إلهك بزعمك ، وقوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ) [القصص : ٦٢] أي: في زعمهم.

وثالثها : أن المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار ، تقديره : أهذا ربّي ، إلا أنه أسقط حرف الاستفهام استغناء لدلالة الكلام عليه ، كقوله (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) [الأنبياء : ٣٤].

ورابعها : أن يكون القول مضمرا فيه ، والتقدير : يقولون : هذا ربّي ، وإضمار القول كثير كقوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا) [البقرة : ١٢٧] أي يقولون :

ربنا ، وقوله : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] أي : يقولون : ما نعبدهم ، فكذا هاهنا تقديره : أن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال لقومه : يقولون : هذا ربي ، أي : هذا الذي يدبّرني ويربّيني.

خامسها : أن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذكر هذا الكلام على سبيل الاستهزاء.

سادسها : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان مأمورا بالدعوة ، فأراد أن يستدرج القوم بهذا القول ، ويعرفهم خطأهم وجهلهم في تعظيم ما عظّموه ، وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ، فذكر كلاما يوهم كونه مساعدا لهم على مذهبهم ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، ومقصوده من ذلك أن يريهم النّقص الدّاخل على فساد مذهبهم وبطلانه ، فأراهم أنه يعظم ما عظموه ، فلما أفل أراهم النّقص الدّاخل على النجوم ليريهم ، ويثبت خطأ ما يدّعون كمثل الحواري الذي ورد على قوم يعبدون الصّنم فأظهر تعظيمه فأكرموه حتى صدروا عن رأيه في كثير من الأمور إلى أن دهمهم عدوّ فشاوروه في أمره ، فقال : الرأي أن تدعوا هذا الصّنم حتى يكشف عنّا ما قد أظلنا ، فاجتمعوا عليه يتضرّعون ، فلما تبيّن لهم أنه لا ينفع ولا يدفع ، دعاهم إلى أن يدعوا الله ، فدعوه فصرف عنهم ما كانوا يحذرون وأسلموا.

واعلم أن المأمور بالدعوة إلى الله كان بمنزلة المكره على كلمة الكفر ، وهو عند الإكراه يجوز إجراء كلمة الكفر على اللسان ؛ قال تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦] وإذا جاز ذكر كلمة الكفر لإصلاح بقاء شخص واحد فبأن يجوز إظهار كلمة الكفر لتخليص عالم من العقلاء عن الكفر والعقاب المؤبّد أولى.

وأيضا المكره على ترك الصلاة ، ثم صلّى حتى قتل ، استحقّ الأجر العظيم ، ثم إذا كان وقت القتال مع الكفار ، وعلم أنه لو اشتغل بالصّلاة انهزم عسكر الإسلام وجب عليه ترك الصّلاة ، والاشتغال بالقتال ، حتى لو صلّى وترك القتال أثم ، ولو ترك الصلاة وقاتل ، استحق الثّواب ، بل نقول : إنّ من كان في الصلاة ورأى طفلا ، أو أعمى أشرف على الحرق أو غرق ، وجب عليه قطع الصلاة لإنقاذ الطفل ، والأعمى من البلاء ، فكذا هاهنا

٢٤٦

تكلم إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ بهذه الكلمات ليظهر من نفسه موافقة القوم ، حتى إذا أورد عليهم الدّليل المبطل لقولهم ، كان قبولهم لذلك الدليل أتمّ ، وانتفاعهم به أكمل ، ويقوي هذا الوجه أنه ـ تعالى ـ حكى عنه مثل هذا الطريق في قوله : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) [الصافات : ٨٨ ـ ٩٠].

وذلك لأنهم كانوا يستدلّون بعلم النجوم على حصول الحوادث المستقبلة ، فوافقهم إبراهيم على هذا الطريق في الظّاهر ، مع أنه كان بريئا عنه في الباطن ، ومقصوده أن يتوسّل بهذا الطريق إلى كسر الأصنام ، فإذا جازت الموافقة في الظاهر هاهنا مع كونه بريئا عنه في الباطن ، فلم لا يجوز أن يكون في مسألتنا كذلك؟

وأما الاحتمال الثاني : فهو أنه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ذكر هذا الكلام قبل البلوغ ، وتقريره أن يقال : كان قد خصّ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بالعقل الكامل ، والقريحة الصّافية ، فخطر بباله قبل بلوغه إثبات الصانع ـ تعالى ـ فتفكّر فرأى النجوم ، فقال : (هذا رَبِّي) فلمّا شاهد حركاته قال : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) ثم إنه ـ تعالى ـ أكمل بلوغه في قوله تعالى : (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).

والاحتمال الأول أولى بالقبول ؛ لما ذكرنا من الدلائل.

فإن قيل : إن إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ استدلّ بأفول الكواكب ، على أنه لا يجوز أن يكون ربّا له ، والأفول عبارة عن غيبوبة الشيء بعد ظهوره فيدلّ على الحدوث من حيث إنه حركة ، وعلى هذا التقدير فيكون الطّلوع أيضا دليلا على الحدوث ، فلم ترك إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ الاستدلال على حدوثها بالطلوع ، وعوّل في إثبات هذا المطلوب على الأفول؟

الجواب : أن الطلوع والأفول يشتركان في الدلالة على الحدوث ، إلا أن الدّليل الذي يحتج به الأنبياء في معرض دعوة الخلق كلهم إلى الله لا بدّ وأن يكون ظاهرا ، بحيث يشترك في فهمه الذّكيّ والغبيّ ، والعاقل والغافل ، ودلالة الحركة على الحدوث وإن كانت يقينيّة إلا أنها دقيقة لا يعرفها إلا الأفاضل من الخلق ، أما دلالة الأفول على هذا المقصود ، فإنها ظاهرة يعرفها كل أحد ، فإن الآفل يزول سلطانه وقت الأفول ، فكانت دلالة الأفول على هذا المقصود أتمّ ، وأيضا فيحتمل أنه إنما استدلّ بالأفول من حيث إن الأفول غيبوبة ، فإن الإله المعبود العالم العادل لا يغيب ، ولهذا استدلّ بظهور الكواكب ، وبزوغ القمر والشمس على الإلهية ، واستدلّ بأفولهم على عدم الإلهية ، ولم يتعرض للاستدلال بالحركة ، وهل هي تدلّ على الحدوث أم لا؟

قال ابن الخطيب : وفيه دقيقة (١) وهو أنه ـ عليه الصّلاة والسلام ـ إنما كان يناظرهم

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ٤٣ ـ ٤٤.

٢٤٧

وهم كانوا منجّمين ، ومذهبهم أن الكواكب إذا كان في الرّبع الشرقي ، ويكون صاعدا إلى وسط السماء كان قويّا عظيم التأثير ، أما إذا كان غربيّا وقريبا من الأفول ، فإنه يكون ضعيف الأثر قليل القوّة ، فنبّه بهذه الدقيقة على أن الإله هو الذي لا تتغير قدرته إلى العجز ، وكماله إلى النقصان ، ومذهبكم أن الكوكب حال كونه في الرّبع الغربي يكون ضعيف القوة ، ناقص التأثير ، عاجزا عن التّدبير ، وذلك يدلّ على القدح في إلهيته ، فظهر على قول المنجمين أن للأفول مزيد خاصية في كونه موجبا للقدح في إلهيته والله أعلم.

فإن قيل : إن تلك اللّيلة كانت مسبوقة بنهار وليل ، فكان أفول الكواكب والقمر والشمس حاصلا في الليل السّابق والنهار السابق ، وبهذا التقدير لا يبقى للأفول الحاصل في تلك الليلة فائدة؟

فالجواب : أنا قد بيّنّا أنه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ إنما أورد هذا الدّليل على القوم الذين كان يدعوهم من عبادة النجوم إلى التوحيد ، فلا يبعد أن يقال : إنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان جالسا مع أولئك الأقوام ليلة من الليالي ، فزجرهم عن عبادة الكواكب ، فبينما هو في تقرير ذلك الكلام ، إذ رفع بصره إلى كوكب مضيء ، فلما أفل قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام : لو كان هذا الكوكب إلها لما انتقل من الصّعود إلى الأفول ومن القوّة إلى الضعف ، ثم في أثناء ذلك الكلام طلع القمر وأفل فأعاد عليهم ذلك ، وكذا القول في الشمس (١).

فصل في الدلالة في الآية

دلّت الآية على أحكام :

أحدها : دلّت على أنه ليس بجسم ، إذ لو كان جسما غائبا أبدا لكان آفلا أبدا.

وأيضا يمتنع أن يكون ـ تعالى ـ بحيث ينزل من العرش إلى السماء تارة ، ويصعد من السماء إلى العرش أخرى ، وإلّا يحصل معنى الأفول.

وثانيها : دلّت الآية على أنه ـ تعالى ـ ليس محلّا للصّفات المحدثة ، كما يقول الكرامية ، وإلّا لكان متغيرا ، وحينئذ يحصل معنى الأفول ، وذلك محال.

ثالثها : دلّت الآية على أنّ الدين يجب أن يكون مبنيا على الدليل ، لا على التّقليد ، وإلّا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة.

ورابعها : دلّت الآية على أن معارف الأنبياء بربّهم استدلاليّة لا ضرورية ، وإلّا لما احتاج إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ إلى الاستدلال.

وخامسها : دلّت الآية على أنه لا طريق إلى تحصيل معرفة الله ـ تعالى ـ إلّا بالنّظر

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ٤١.

٢٤٨

والاستدلال في أحوال مخلوقاته ، إذ لو أمكن تحصيلها بطريق آخر لما عدل إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ لهذه الطريقة.

قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)(٧٧)

«بازغا» حال من «القمر» ، والبزوغ : الطّلوع ، يقال : بزغ بفتح الزاي ، يبزغ بضمها بزوغا ، والبزوغ : الابتداء في الطلوع.

قال الأزهري (١) : كأنه مأخوذ من البزغ وهو الشّقّ كأنه بنوره يشقّ الظّلمة شقّا ، ويستعمل قاصرا ومتعديا ، يقال : بزغ البيطار الدّابّة ، أي : أسال دمها ، فبزغ هو ، أي : سال ، هذا هو الأصل.

ثم قيل لكل طلوع : بزوغ ، ومنه بزغ ناب الصبي والبعير تشبيها بذلك.

والقمر معروف سمّي بذلك لبياضه ، وانتشار ضوئه ، والأقمر : الحمار الذي على لون الليلة القمراء ، والقمراء ضوء القمر.

وقيل : سمّي القمر قمرا ؛ لأنه يقمر ضوء الكواكب ويفوز به ، واللّيالي القمر : ليالي تدوّر القمر ، وهي الليالي البيض ؛ لأن ضوء القمر يستمر فيها إلى الصباح.

قيل : ولا يقال له قمرا إلا بعد امتلائه في ثالث ليلة وقبلها هلال على خلاف بين أهل اللغة تقدم في البقرة عند قوله : (عَنِ الْأَهِلَّةِ) [البقرة : ١٨٩] فإذا بلغ بعد العشر ثالث ليلة ، قيل له : «بدر» إلى خامس عشر.

ويقال : قمرت فلانا ، أي : خدعته عنه ، وكأنه مأخوذ من قمرت القربة : فسدت بالقمراء.

قوله : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) يدلّ على أن الهداية ليست إلّا من الله ، ولا يمكن حمل لفظ الهداية إلا على التمكين ، وإزاحة الأعذار ، ونصب الدلائل ؛ لأن كل ذلك كان حاصلا لإبراهيمعليه‌السلام.

قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)(٧٨)

إنما ذكر اسم الإشارة مذكرا والمشار إليه مؤنث لأحد وجوه :

إما ذهابا بها مذهب الكواكب ، وإما ذهابا بها مذهب الضوء والنور ، وإما بتأويل الطّالع أو الشخص ؛ كما قال الأعشى : [السريع]

٢٢١٨ ـ قامت تبكّيه على قبره

من لي بعدك يا عامر

__________________

(١) ينظر : تهذيب اللغة ١٣ / ٤٦.

٢٤٩

تركتني في الدّار ذا غربة

قد ذلّ من ليس له ناصر (١)

أو الشيء ، أو لأنه لما أخبر عنها بمذكّر أعطيت حكمه ؛ تقول : هند ذاك الإنسان وتيك الإنسان ؛ قال : [البسيط]

٢٢١٩ ـ تبيت نعمى على الهجران غائبة

سقيا ورعيا لذاك الغائب الزّاري (٢)

فأشار إلى «نعمى» وهي مؤنث إشارة المذكر لوصفها بوصف الذكور ، أو لأن فيها لغتين : التذكير والتأنيث ، وإن كان الأكثر التأنيث ، فقد جمع بينهما في الآية الكريمة فأنّث في قوله : «بازغة» ، وذكّر في قوله : «هذا».

وقال الزمخشري (٣) : «جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد ؛ كقولهم : ما جاءت حاجتك ، ومن كانت أمك ، و (لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) [الأنعام : ٢٣] وكان اختيار هذه الطريقة واجبا لصيانة الرّبّ عن شبهة التأنيث ، إلا تراهم قالوا في صفة الله : علّام ، ولم يقولوا : علّامة ، وإن كان أبلغ ؛ احترازا من علامة التأنيث».

قلت : وهذا قريب ممّا تقدّم في أن المؤنث إذا أخبر عنه بمذكّر عومل معاملة المذكّر ، نحو : «هند ذاك الإنسان».

وقيل : لأنها بمعنى : هذا النّيّر ، أو المرئي.

قال أبو حيّان (٤) : «ويمكن أن يقال : إن أكثر لغة الأعاجم لا يفرقون في الضمائر ، ولا في الإشارة بين المذكّر والمؤنث سواء ، فلذلك أشار إلى المؤنّث عندنا حين حكى كلام إبراهيم بما يشار به إلى المذكر ، بل لو كان المؤنث بفرج لم يكن له علامة تدلّ عليه في كلامهم ، وحين أخبر ـ تعالى ـ عنها بقوله : «بازغة» و «أفلت» أتت على مقتضى العربية ، إذ ليس ذلك بحكاية» انتهى.

وهذا إنما يظهر أن لو حكى كلامهم بعينه في لغتهم ، أما شيء يعبر عنه بلغة العرب ، ويعطى حكمه في لغة العجم ، فهو محلّ نظر.

فصل في بيان سبب تسمية العبرية والسريانية

قال الطبري : إن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما نطق بالعبرانية حين عبر النّهر فارّا من النّمرود حيث قال للذين أرسلهم في طلبه : إذا وجدتم من يتكلم بالسريانية فأتوني

__________________

(١) ينظر البيتان في : شرح المفصل ٥ / ١٠١ ، والإنصاف ٢ / ٥٠٧ ، وسمط اللآلي ١ / ١٧٤ ، والأشباه والنظائر ٥ / ١٧٧ ، ٢٣٨ ، وأمالي المرتضى ١ / ٧١ ـ ٧٢ ، ولسان العرب (عمر).

(٢) البيت للنابغة الذبياني ينظر : ديوانه (٤٩) ، مشاهد الانصاف ١ / ٢٦ ، الكشاف ١ / ٢٦ ، الدر المصون ٣ / ١٠٧.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٤١.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٧٢.

٢٥٠

به ، فلما أدركوه استنطقوه ، فحوّل الله نطقه لسانا عبرانيا ، وذلك حين عبر النّهر ، فسميت العبرانية لذلك.

وأما السّريانيّة فذكر ابن سلام أنها سميت بذلك ؛ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ حين علم آدم الأسماء علّمه سرّا من الملائكة ، وأنطقه بها حينئذ ، فسمّيت السريانية لذلك ، والله أعلم.

قوله : (هذا أَكْبَرُ) أي : أكبر الكواكب جرما ، وأقواها قوة ، فكان أولى بالإلهية.

قوله : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) «ما» مصدرية ، أي : بريء من إشراككم ، أو موصولة أي : من الذين يشركونه مع الله في عبادته ، فحذف العائد ، ويجوز أن تكون الموصوفة والعائد محذوف أيضا ، إلا أنّ حذف عائد الصّفة أقل من حذف عائد الصّلة ، فالجملة بعدها لا محلّ لها على القولين الأوّلين ، ومحلها الجر على الثالث ، ومعنى الكلام أنه لما ثبت بالدليل أن هذه الكواكب لا تصلح للرّبوبيّة والإلهية ، لا جرم تبرّأ من الشّرك.

فإن قيل : هب أن الدليل دلّ على أن الكواكب لا تصلح للربوبية ، لكن لا يلزم من هذا نفي الشرك مطلقا؟

فالجواب : أن القوم كانوا مساعدين على نفي سائر الشّركاء ، وإنما نازعوا في هذه الصورة المعينة ، فلما ثبت بالدليل أن هذه الأشياء ليست أربابا ، وثبت بالاتفاق نفي غيرها ، لا جرم حصل الجزم بنفي الشركاء.

قوله تعالى : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٧٩)

المراد : وجهت عبادتي وطاعتي لعبادته ورضاه ، كأنهم نفوا بذلك وهم من يتوهّم الجهة ، وسبب جواز هذا المجاز أن من كان مطيعا لغيره منقادا لأمره ، فإنه يتوجّه بوجهه إليه ، فجعل توجيه الوجه إليه كناية عن الطاعة.

وفتح الباء (٢) من وجهي نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم ، والباقون تركوا (٣) هذا الفتح.

قوله : (لِلَّذِي فَطَرَ) قدروا قبله مضافا ؛ أي : وجهت وجهي لعبادته كما تقدم و «حنيفا» حال من فاعل «وجّهت».

وقد تقدّم تفسير هذه الألفاظ ، و «ما» يحتمل أن تكون الحجازية ، وأن تكون التميمية.

قوله تعالى : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)(٨٠)

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٠.

(٣) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٠.

٢٥١

لما أورد إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ الحجّة عليهم المذكورة ، أورد القوم عليه حججا على صحة أقوالهم :

منها : أنهم تمسّكوا بالتقليد ، كقولهم : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) [الزخرف : ٢٢] وكقولهم للرسول عليه الصلاة والسلام : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥]. وكقول قوم هود : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) [هود : ٥٤]. فذكروا من جنس هذا الكلام ، وإلا فالله ـ تعالى ـ لم يحك محاجتهم.

فأجاب الله ـ تعالى ـ عن حجّتهم بقوله تعالى : (قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ).

قرأ نافع (١) ، وابن ذكوان ، وهشام بخلاف عنه بنون خفيفة ، والباقون بنون (٢) ثقيلة ، والتثقيل هو الأصل ؛ لأن النون الأولى نون الرفع في الأمثلة الخمسة ، والثانية نون الوقاية ، فاستثقل اجتماعهما ، وفيهما لغات ثلاث : الفكّ وتركهما على حالهما ، والإدغام ، والحذف ، وقد قرىء بهذه اللغات كلها في قوله تعالى : (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) [الزمر : ٦٤] وهنا لم تقرأ إلا بالحذف أو الإدغام ، ونافع بالحذف ، والباقون (٣) يفتحون النون ، لأنها عندهم نون رفع ، وفي سورة النحل : (تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) [آية : ٧٧] بفتح النون عند الجمهور ، لأنها نون رفع ، ويقرؤه نافع بنون مكسورة خفيفة على الحذف ، فنافع حذف إحدى النونين في جميع المواضع المذكورة فإنه يقرأ في الزّمر أيضا بحذف أحدهما.

وقوله تعالى : (أَتَعِدانِنِي) في الأحقاف [آية : ١٧] قرأه هشام بالإدغام (٤) ، والباقون بالإظهار (٥) دون الحذف.

واختلف النحاة (٦) في أيّتهما المحذوفة ؛ فمذهب سيبويه (٧) ومن تبعه أن المحذوفة

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٠٨ ، البحر المحيط ٤ / ١٧٤ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٠ ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٥٧ ـ ٢٥٨) ، السبعة ص (٢٦١) ، النشر ٢ / ٢٥٩ ، التبيان ٦ / ٥١٢ ـ ٥١٣ ، الحجة لابن خالويه ص (١٤٣) ، البيان ١ / ٣٢٨.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٠٨ ، البحر المحيط ٤ / ١٧٤ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٠ ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٥٧ ـ ٢٥٨) ، السبعة ص (٢٦١). النشر ٢ / ٢٥٩ ، التبيان ١ / ٥١٢ ـ ٥١٣ ، الحجة لابن خالويه ص (١٤٣) ، البيان ١ / ٣٢٨.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٠٨ ، البحر المحيط ٤ / ١٧٤ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٠ ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٥٧ ـ ٢٥٨) ، السبعة ص (٢٦١) النشر ٢ / ٢٥٩ ، التبيان ١ / ٥١٢ ـ ٥١٣ : الحجة لابن خالويه ص (١٤٣) ، البيان ١ / ٣٢٨.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٠٨ ، البحر المحيط ٤ / ١٧٤.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٠٨.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٠٨.

(٧) ينظر : الكتاب ٣ / ٥١٩ ، الدر المصون ٣ / ١٠٨.

٢٥٢

هي الأولى واستدلّ سيبويه على ذلك بأن نون الرفع قد عهد حذفها دون ملاقاة مثل رفعا ؛ وأنشد : [الطويل]

٢٢٢٠ ـ فإن يك قوم سرّهم ما صنعتم

ستحتلبوها لاقحا غير باهل (١)

أي : فستحتلبونها ، لا يقال : إن النون قد حذفت جزما في جواب الشرط ؛ لأن الفاء هنا واجبة الدخول لعدم صلاحية الجملة الجزائية شرطا ، وإذا تقرر وجوب الفاء ، وإنما حذفت ضرورة ثبت أن نون الرفع كان من حقها الثبوت ، إلا أنها حذفت ضرورة ، وأنشدوا أيضا قوله : [الرجز]

٢٢٢١ ـ أبيت أسري وتبيتي تدلكي

وجهك بالعنبر والمسك الذّكي (٢)

أي : تبيتين وتدلكين.

وفي الحديث : «والّذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنّة حتّى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتّى تحابّوا» ف «لا» الدّاخلة على «تدخلوا» و «تؤمنوا» نافية لا ناهية لفساد المعنى عليه ، وإذا ثبت حذفها دون ملاقاة مثل رفعا فلأن تحذف مع ملاقاة مثل استثقالا بطريق الأولى ، وأيضا فإن النون نائبة عن الضمة ، والضمة قد عهد حذفها في فصيح الكلام ؛ كقراءة أبي عمرو (يَنْصُرْكُمُ) [آل عمران : ١٦٠] و (يُشْعِرُكُمْ) [الأنعام : ١٠٩] و (يَأْمُرُكُمْ) [البقرة : ٦٧] وبابه بسكون آخر الفعل ، وقول الشاعر : [السريع]

٢٢٢٢ ـ فاليوم أشرب غير مستحقب

إثما من الله ولا واغل (٣)

وإذا ثبت حذف الأصل ، فليثبت حذف الفرع لئلا يلزم تفضيل فرع على أصله ، وأيضا فإنّ ادّعاء حذف نوع الرفع لا يحوج إلى حذف آخر ، وحذف نون الوقاية قد يحوج إلى ذلك ، وبيانه بأنه إذا دخل ناصب أو جازم على أحد هذه الأمثلة ، فلو كان المحذوف نون الوقاية لكان ينبغي أن تحذف هذه النون ، وهي تسقط للناصب والجازم ، بخلاف ادّعاء حذف نون الرفع ، فإنه لا يحوج إلى ذلك ؛ لأنه لا عمل له في الّتي للوقاية.

ولقائل أن يقول : لا يلزم من جواز حذف الأصل حذف الفرع ؛ لأن في الأصل قوة تقتضي جواز حذفه ، بخلاف نون الوقاية ، ودخول الجازم والناصب لم نجد له شيئا يحذفه ؛ لأن النون حذفت لعارض آخر.

واستدلّوا لسيبويه بأن نون الوقاية مكسورة ، فبقاؤها على حالها لا يلزم منه تغيير ، بخلاف ما لو ادّعينا حذفها ، فإنّا يلزمنا تغيير نون الرفع من فتح إلى كسر ، وتعليل العمل أولى ، واستدلوا أيضا بأنها قد حذفت مع مثلها ، وإن لم تكن نون وقاية ؛ كقوله : [البسيط]

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

٢٥٣

٢٢٢٣ ـ كلّ له نيّة في بغض صاحبه

بنعمة الله نقليكم وتقلونا (١)

أي : وتقلوننا ، فالمحذوف نون الرفع لا نون «نا» ؛ لأنها بعض ضمير ، وعورض هذا بأن نون الرفع أيضا لها قوة لدلالتها على الإعراب ، فحذفها أيضا لا يجوز ، وجعل سيبويه المحذوفة من قول الشاعر : [الوافر]

٢٢٢٤ ـ تراه كالثّغام يعلّ مسكا

يسوء الفاليات إذا فليني (٢)

نون الفاعل لا نون الوقاية ، واستدلّ الأخفش بأن الثقل إنما حصل بالثانية ؛ ولأنه قد استغني عنها ، فإنه إنما أتى بها لتقي الفعل من الكسر ، وهو مأمون لوقوع الكسر على نون الرفع ، ولأنها لا تدلّ على معنى ، بخلاف نون الرفع ، وأيضا فإنها تحذف في نحو ليتني ، فيقال : ليتي ؛ كقوله : [الوافر]

٢٢٢٥ ـ كمنية جابر إذ قال : ليتي

أصادفه وأتلف بعض مالي (٣)

واعلم أن حذف النون في هذا النحو جائز فصيح ، ولا يلتفت إلى قول من منع من ذلك إلّا في ضرورة أو قليل من الكلام ، ولهذا عيب على مكي بن أبي طالب حيث قال (٤) : «الحذف بعيد في العربية قبيح مكروه ، وإنما يجوز في الشعر للوزن ، والقرآن لا يحتمل ذلك فيه ؛ إذ لا ضرورة تدعو إليه».

وتجاسر بعضهم فقال : «هذه القراءة ـ أعني تخفيف النون ـ لحن».

وهذان القولان مردودان عليهما ؛ لتواتر ذلك ، وقد تقدم الدليل على صحّته لغة.

وأيضا فإن الثّقات نقلوا أنها لغة ثابتة للعرب ، وهم «غطفان» فلا معنى لإنكارها.

و (فِي اللهِ) متعلّق ب (أَتُحاجُّونِّي) لا ب «حاجّه» ، والمسألة من باب التّنازع ، وأعمل الثاني ؛ لأنه لمّا أضمر في الأول حذف ، ولو أعمل الأول لأضمر في الثاني من غير حذف ، ومثله : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) [النساء : ١٧٦] كذا قال أبو حيّان ، وفيه نظر من حيث إن المعنى ليس على تسلّط «وحاجّه» على قوله : (فِي اللهِ) ؛ إذ الظاهر انقطاع الجملة القولية عما قبلها.

__________________

(١) البيت للفضل بن العباس ينظر : شرح الحماسة ١ / ٢٢٦ ، روح المعاني ٧ / ٢٠٤ ، التبيان ١ / ٥١٣ ، الدر المصون ٣ / ١٠٩.

(٢) تقدم برقم ٨١٩.

(٣) البيت لزيد الخيل ينظر : ديوانه ص (٨٧) ، تخليص الشواهد ص (١٠٠) ، خزانة الأدب ٥ / ٣٧٥ ، ٣٧٧ ، الدرر ١ / ٢٠٥ ، شرح أبيات سيبويه ٢ / ٩٧ ، شرح المفصل ٣ / ١٢٣ ، الكتاب ٢ / ٣٧٠ ، لسان العرب (بيت) ، المقاصد النحوية ١ / ٣٤٦ ، نوادر أبي زيد ص (٦٨) ، وجواهر الأدب ص (١٥٣) ، ورصف المباني ص (٣٠٠ ، ٣٦١) ، سر صناعة الإعراب ٢ / ٥٥٠ ، شرح الأشموني ١ / ٥٦ ، شرح ابن عقيل ص (٦١) ، مجالس ثعلب ص (١٢٩) ، المقتضب ١ / ٢٥٠ ، همع الهوامع ١ / ٠٦٤ ، الدر المصون ٣ / ١٠٩.

(٤) ينظر : المشكل ١ / ٢٧٤.

٢٥٤

وقوله : (فِي اللهِ) أي : في شأنه ، ووحدانيته.

قول ه «وقد هداني» أي : للتوحيد والحق ، وهذه الجملة في محلّ نصب على الحال ، وفي صاحبها وجهان :

أظهرهما : أنّه الياء ف ي «أتحاجونني» ، أي : أتجادلونني فيه حال كوني مهديّا من عنده.

والثاني : أنّه حال من «الله» أي : أتخاصمون فيه حال كونه هاديا لي ، فحجتكم لا تجدي شيئا ؛ لأنها داحضة.

قوله : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) هذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفة ، أخبر عليه الصلاة والسلام بأنه لا يخاف ما يشركون به ، وإنما ثقته بربّه ، وكانوا قد خوّفوه من ضرر يحصل له بسبب سبّ آلهتهم.

ويحتمل أن تكون في محلّ نصب على الحال باعتبارين :

أحدهما : أن تكون ثانية عطفا على الأولى ، فتكون الحالان من الياء في «أتحاجّونّي».

والثاني : أنها حال من «الياء» في «هداني» ، فتكون جملة حالية من بعض جملة حالية ، فهي قريبة من الحال المتداخلة ، إلّا أنه لا بدّ من إضمار مبتدأ على هذا الوجه قبل الفعل المضارع ، لما تقدّم من أنّ الفعل المضارع المنفي ب «لا» حكمه حكم المثبت من حيث إنه لا تباشره الواو.

و «ما» يجوز فيها الأوجه الثلاثة : أن تكون مصدريّة ، وعلى هذا فالهاء في «به» لا تعود على «ما» عند الجمهور ، بل تعود على الله تعالى ، والتقدير : ولا أخاف إشراككم بالله ، والمفعول محذوف ؛ أي : ما تشركون غير الله به ، وأن تكون بمعنى «الذي» ، وأن تكو نكرة موصوفة ، والهاء في «به» على هذين الوجهين تعود على «ما» ، والمعنى : ولا أخاف الذين تشركون الله به ، فحذف المفعول أيضا ، كما حذفه في الوجه الأوّل.

وقدّر أبو البقاء (١) قبل الضمير مضافا ، فقال : ويجوز أن تكون الهاء عائدة على «ما» ؛ أي : ولا أخاف الذي تشركون به ، ولا حاجة إلى ذلك.

قوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) في هذا الاستثناء قولان :

أظهرهما : أنه متّصل.

والثاني : أنه منقطع ، والقائلون بالاتّصال اختلفوا في المستثنى منه ، فجعله الزمخشري (٢) زمانا ، فقال : «إلّا وقت مشيئة ربّي شيئا يخاف ، فحذف الوقت ، يعني : لا

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٠.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٢.

٢٥٥

أخاف معبوداتكم في وقت قط ؛ لأنها لا تقدر على منفعة ولا مضرّة ، إلّا إذا شاء ربّي».

وجعله أبو (١) البقاء حالا ، فقال : تقديره إلّا في حال مشيئة ربّي ، أي : لا أخافها في كلّ حال إلّا في هذه الحال.

وممن ذهب إلى انقطاعه ابن عطية (٢) ، والحوفي ، وأبو البقاء في أحد الوجهين.

فقال الحوفي : تقديره : «ولكن مشيئة الله إيّاي بضرّ أخاف».

وقال غيره : معناه : ولكن إن شاء ربّي شيئا ، أي سواء فيكون ما شاء.

وقال ابن عطية (٣) : استثناء ليس من الأوّل ، ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضرّا ، استثنى مشيئة ربّه في أن يريده بضرّ.

قوله : «شيئا» يجوز فيه وجهان :

أظهرهما : أنه منصوب على المصدر تقديره : إلّا أن يشاء ربي شيئا من المشيئة.

والثاني : أنّه مفعول به ل «شيئا» ، وإنما كان الأوّل أظهر لوجهين :

أحدهما : أن الكلام المؤكّد أقوى وأثبت في النّفس من غير المؤكّد.

والثاني : أنّه قد تقدّم أن مفعول المشيئة والإرادة لا يذكران إلّا إذا كان فيهما غرابة كقوله : [الطويل]

٢٢٢٦ ـ ولو شئت أن أبكي دما لبكيته

 .......... (٤)

فصل في بيان معنى الاستثناء

إنما ذكر عليه الصّلاة والسّلام هذا الاستثناء ؛ لأنه لا يبعد أن يحدث للإنسان في مستقبل عمره شيء من المكاره ، والحمقى من الناس يحملون ذلك على أنّه إنما حدث ذلك المكروه بسبب أنه طعن في إلهية الأصنام ، فذكر إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ذلك حتى إنّه لو حدث به شيء من المكاره لم يحمل على هذا السبب.

وقوله : (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) يعني : أنه عالم الغيوب ، فلا يفعل إلّا الخير والصلاح والحكمة ، فبتقدير أن يحدث من مكاره الدنيا شيء ، فذلك ؛ لأنه ـ تعالى ـ عرف وجه الصّلاح والخير فيه ، لا لأجل أنه عقوبة على الطّعن في إلهية الأصنام.

قوله : «علما» فيه وجهان :

أظهرهما : أنه منصوب على التمييز ، وهو محوّل عن الفاعل ، تقديره : «وسع علم ربّي كلّ شيء» كقوله : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٤] أي : شيب الرأس.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٠.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣١٥.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣١٥.

(٤) تقدم برقم ٢٧٠.

٢٥٦

والثاني : أنه منصوب على المفعول المطلق ، لأن معنى وسع : علم.

قال أبو البقاء (١) : «لأنّ ما يسع الشّيء فقد أحاط به ، والعالم بالشيء محيط بعلمه».

قال شهاب الدّين (٢) : وهذا الّذي ادّعاه من المجاز بعيد.

و «كل شيء» مفعول ل «وسع» على التقديرين.

و (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) جملة تقرير وتوبيخ ، ولا محلّ لها لاستئنافها ، والمعنى : أفلا تتذكرون أن نفي الشركاء والأضداد والأنداد عن الله لا يوجب حلول العذاب ونزول العقاب ، والسّعي في إثبات التوحيد والتنزيه لا يوجب استحقاق العذاب والعقاب.

قوله تعالى : (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٨٢)

قد تقدّم الكلام على «كيف» في أوّل البقرة [آية ٢٨] ، و «ما» يجوز فيها ثلاثة أوجه ، أعني كونها موصولة اسمية ، أو نكرة موصوفة ، أو مصدريّة ، والعائد على الأوّلين محذوف ، أي : ما أشركتموه بالله ، أو إشراككم بالله غيره.

وقوله : (وَلا تَخافُونَ) يجوز في هذه الجملة أن تكون نسقا على «أخاف» فتكون داخلة في حيّز التّعجّب والإنكار ، وأن تكون حالية ، أي : وكيف أخاف الذي تشركون حال كونكم أنتم غير خائفين عاقبة إشراككم ، ولا بدّ من إضمار مبتدأ قبل المضارع المنفي ب «لا» لما تقدّم غير مرّة ، أي : كيف أخاف الذي تشركون ، أو عاقبة إشراككم حال كونكم آمنين من مكر الله الذي أشركتم به غيره ، وهذه الجملة وإن لم يكن فيها رابط يعود على ذي الحال لا يضرّ ذلك ؛ لأن الواو بنفسها رابطة.

وانظر إلى حسن هذا النّظم السّويّ ، حيث جعل متعلّق الخوف الواقع منه الأصنام ، ومتعلق الخوف الواقع منهم إشراكهم بالله غيره تركا لأن يعادل الباري ـ تعالى ـ لأصنامهم لو أبرز التركيب على هذا ، فقال : «ولا تخافون الله» مقابلة لقوله : «وكيف أخاف معبوداتكم». وأتى ب «ما» في قوله : (ما أَشْرَكْتُمْ) وفي قوله : (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) إلّا أنهم غير عقلاء ؛ إذ هي جماد وأحجار وخشب كانوا ينحتونها ويعبدونها.

وقوله : (ما لَمْ يُنَزِّلْ) مفعول ل «أشركتم» ، وهي موصولة اسميّة أو نكرة ، ولا تكون مصدريّة لفساد المعنى ، و «به» و «عليكم» ، متعلّقان ب «ينزّل» ويجوز في «عليكم» وجه

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٠.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١١١.

٢٥٧

آخر ، وهو أن يكون حالا ، من «سلطانا» ؛ لأنّه لو تأخّر عنه لجاز أن يكون صفة.

وقرأ الجمهور (١) : «سلطانا» ساكن اللام حيث وقع ، وقرىء (٢) بضمّها ، وهل هي لغة مستقلّة ، فيثبت فيها بناء فعل بضم الفاء والعين ، أو هي إتباع حركة لأخرى.

ومعنى الآية : وكيف أخاف الأصنام التي لا قدرة لها على النّفع والضّرّ ولا تبصر ولا تسمع ، وأنتم لا تخافون من الشّرك الذي هو أعظم الذنوب ، وليس لكم حجّة على ذلك.

وقوله : (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ).

أي : ما لكم تنكرون عليّ الأمن في موضع الأمن ، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف فقال : (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ) ولم يقل : «فأيّنا أحقّ نحن أم أنتم» إلزاما لخصمه بما يدّعيه عليه ، واحترازا من تزكية نفسه ، فعدل عنه إلى قوله : (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) ، يعني: فريق المشركين أم الموحدين؟ وهذا بخلاف قول الآخر : [الكامل]

٢٢٢٧ ـ فلئن لقيتك خاليين لتعلمن

أيّي وأيّك فارس الأحزاب (٣)

فلله فصاحة القرآن وآدابه.

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ) جوابه محذوف ، أي : فأخبروني ، ومتعلّق العلم محذوف ، ويجوز ألّا يراد له مفعول ؛ أي : إن كنتم من ذوي العلم.

قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) هل هو من كلام إبراهيم ، أو من كلام قومه ، أو من كلام الله تعالى؟ ثلاثة أقوال ، وعليها يترتّب الإعراب.

فإن قلنا : إنها من كلام إبراهيم كانت جوابا عن السؤال في قوله (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ).

وكذا إن قلنا : إنها من كلام قومه ، وأنهم أجابوا بما هو حجّة عليهم كأن الموصول خبر مبتدأ محذوف ؛ أي : هم الذين آمنوا ، وإن جعلناه من كلام الله تعالى ، وأنّه أمر نبيّه بأن يجيب به السّؤال المتقدم ، فكذلك أيضا.

وإن جعلناه لمجرّد الإخبار من الباري ـ تعالى ـ كان الموصول مبتدأ ، وفي خبره أوجه :

أحدها : أنه الجملة بعده ، فإن «أولئك» مبتدأ ثان ، و «الأمن» مبتدأ ثالث ، و «لهم» خبره ، والجملة خبر «أولئك» ، و «أولئك» وخبره خبر الأوّل.

الثاني : أن يكون «أولئك» بدلا أو عطف بيان ، و «لهم» خبر الموصول ، و «الأمن» فاعل به لاعتماده.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١١٢ ، البحر المحيط ٤ / ١٧٥.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١١٢ ، البحر المحيط ٤ / ١٧٥.

(٣) تقدم.

٢٥٨

الثالث : كذلك ، إلا أنّ «لهم» خبر مقدّم ، و «الأمن» مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر الموصول.

الرابع : أن يكون «أولئك» مبتدأ ثانيا ، و «لهم» خبره ، و «الأمن» فاعل به ، والجملة خبر الموصول.

الخامس : وإليه ذهب أبو جعفر النحاس ، والحوفي أن «لهم الأمن» خبر الموصول ، وأن «أولئك» فاصلة ، وهو غريب ؛ لأن الفصل من شأن الضمائر لا من شأن أسماء الإشارة.

وأمّا على قولنا بأن «الذين» خبر مبتدأ محذوف ، فيكون «أولئك» مبتدأ فقط ، وخبره الجملة بعده ، أو الجار وحده ، و «الأمن» فاعل به ، والجملة الأولى على هذا منصوبة بقول مضمر ، أي : قل لهم الذين آمنوا إن كانت من كلام الخليل ، أو قالوا هم الذين إن كانت من كلام قومه.

قوله : (وَلَمْ يَلْبِسُوا) يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنها معطوفة على الصّلة ، فلا محلّ لها حينئذ.

والثاني : أن تكون الواو للحال ، والجملة بعدها في محلّ نصب على الحال ، أي :آمنوا غير ملبسين إيمانهم بظلم.

وهو كقوله تعالى : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) [مريم : ٢٠] ، ولا يلتفت إلى قول ابن عصفور ، حيث جعل وقوع الجملة المنفية حالا قليلا ، ولا إلى قول ابن خروف ، حيث جعل الواو واجبة الدخول على هذه الجملة ، وإن كان فيها ضمير يعود على الحال.

والجمهور (١) على «يلبسوا» بفتح الياء بمعنى «يخلطونه».

وقرأ (٢) عكرمة بضمها من الإلباس. «وهم مهتدون» يجوز استئنافها وحاليتها.

فصل في تفسير الآية

روى علقمة عن عبد الله قال : لما نزلت (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) شقّ ذلك على المسلمين ، فقالوا : يا رسول الله ، فأيّنا لا يظلم نفسه ، فقال : ليس ذلك ، إنّما هو الشّرك ، ألم تسمعوا إلى ما قال لقمان لابنه : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(٣) [لقمان : ١٣].

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٦٣ ، البحر المحيط ٤ / ١٧٦.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١١٣ ، البحر المحيط ٤ / ١٧٦.

(٣) أخرجه البخاري ١ / ١٠٩ كتاب الإيمان : باب ظلم دون ظلم (٣٢) وفي ٦ / ٤٨ كتاب أحاديث الأنبياء : باب قول الله تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) (٣٣٦٠) وفي ٦ / ٥٣٧ (٣٤٢٨) ، (٣٤٢٩).

٢٥٩

قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(٨٣)

«تلك» إشارة إلى الدّلائل المتقدّمة من قوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) [الأنعام : ٧٥] إلى قوله : (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٧٩].

وقيل : إشارة إلى القوم لمّا خوّفوه بأنّ آلهتهم تخبله لأجل شتمه إيّاها ، فقال لهم : أفلا تخافون أنتم حيث أقدمتم على الشرك بالله ، وسوّيتم في العبادة بين خالق العالم ومدبّره ، وبين الخشب المنحوت.

وقيل : إشارة إلى الكلّ.

ويجوز في «حجّتنا» وجهان :

أحدهما : أن يكون خبر المبتدأ ، وفي «آتيناها» حينئذ وجهان :

أحدهما : أنه في محلّ نصب على الحال ، والعامل فيها معنى الإشارة ، ويدلّ على ذلك التّصريح بوقوع الحال في نظيرتها. كقوله تعالى : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) [النمل : ٥٢].

والثاني : أنّه في محلّ رفع على أنه خبر ثان أخبر عنها بخبرين ، أحدهما مفرد ، والآخر جملة.

والثّاني من الوجهين الأوّلين : أن تكون «حجّتنا» بدلا أو بيانا ل «تلك» ، والخبر الجملة الفعلية.

وقال الحوفي : «إن الجملة من «آتيناها» في موضع النعت ل «حجّتنا» على نيّة الانفصال ؛ إذ التقدير : حجّة لنا» يعني الانفصال من الإضافة ليحصل التنكير المسوّغ لوقوع الجملة صفة ل «حجتنا» وهذا لا ينبغي أن يقال.

وقال أيضا : إنّ «إبراهيم» مفعول ثان ل «آتيناها» ، والمفعول الأول هو «هاء» ، وقد تقدّم في أوّل البقرة ، فإنّ هذا مذهب السّهيليّ عند قوله : (آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) [البقرة : ٥٣]. وأنّ مذهب الجمهور أن تجعل الأول ما كان عاقلا ، والثاني غيره ، ولا يبالى بتقديم ولا تأخير.

فصل في الدلالة في الآية

قوله : (آتَيْناها إِبْراهِيمَ) يدلّ على أنّ تلك الحجّة إنما حصلت لإبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ بإيتاء الله وإظهاره تلك الحجّة في عقله ، وذلك يدلّ على أنّ الإيمان والكفر لا يحصلان إلّا بخلق الله تعالى ، ويؤكده قوله : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) فإن المراد أنه ـ تعالى ـ رفع درجات إبراهيم بسبب أنه ـ تعالى ـ أتاه تلك الحجّة.

ولو كان حصول العلم بتلك الحجة من قبل إبراهيم لا من قبل الله تعالى ، لكان إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ هو الذي رفع درجات نفسه.

٢٦٠