اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٢

ومن قرأ بالتّاء من فوق ، فكذلك ولكن على لغة التأنيث ، ومن قرأ بالتاء من فوق ، ونصب «السبيل» فإنه [أسند الفعل إلى المخاطب ، ونصب «السبيل» على](١) المفعولية وذلك على تعديته أي : ولتستبين أنت سبيل المجرمين ، فالتاء في «تستبين» مختلفة المعنى ، فإنها في إحدى القراءتين للخطاب ، وفي الأخرى للتأنيث وهي في كلا الحالين للمضارعة ، و «تستبين» منصوب بإضمار «أن» بعد لام «كي» ، وفيما يتعلق به هذه اللام وجهان :

أحدهما : أنها معطوفة على علّة محذوفة ، وتلك العلّة معمولة لقوله : «نفصّل» والمعنى : وكذلك نفصّل الآيات لتستبين لكم ولتستبين.

والثاني : أنها متعلّقة بمحذوف مقدّر بعدها ، أي : ولتستبين سبيل المجرمين فصّلناها ذلك التّفصيل ، وفي الكلام حذف معطوف على رأي ، أي : وسبيل المؤمنين كقوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١].

وقيل : لا يحتاج إلى ذلك لأن المقام إنما يقتضي ذكر المجرمين فقط ؛ إذ هم الذين أثاروا ما تقدم ذكره وقيل : لأن الضّدين إذا كانا بحيث لا يحصل بينما واسطة ، فمتى بانت خاصيّة أحد القسمين بانت خاصيّة القسم الآخر ، والحق والباطل لا واسطة بينهما ، فمتى استبانت طريقة المجرمين ، فقد استبانت طريقة المحقّقين أيضا لا محالة.

قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) «أن أعبد» في محل «أن» الخلاف المشهور ، إذ هي على حذف حرف ، تقديره : نهيت عن أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل : لا أتّبع أهواءكم في عبادة الأوثان ، وطرد الفقراء.

قول ه «قد ضللت إذن» «إذن» حرف جواب وجزاء ، ولا عمل لها هنا لعدم فعل تعمل فيه ، والمعنى : «إن اتبعت أهواءكم ضللت وما اهتديت» فهي في قوّة شرط وجزاء.

وقرأ (٢) الجمهور «ضللت» بفتح «اللام» الأولى.

وقرأ (٣) أبو عبد الرحمن ، ويحيى ، وطلحة : بكسرها وقد تقدّم أنها لغة.

وقل صاحب «التحرير» عن يحيى ، وابن أبي ليلى أنهما قرءا هنا وفي «ألم السجدة» : (أَ(٤) إِذا ضَلَلْنا) [السجدة : ١٠] ، بصاد غير معجمة يقال : صل اللّحم أي : أنتن ، وهذا له بعض مناسبة في آية «السجدة» ، وأما هنا فمعناه بعيد أو ممتنع.

وروى العباس عن ابن مجاهد (٤) في «الشواذ» له : (ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) ، أي : دفنّا في الصّلّة ، وهي [الأرض] الصّلبة.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٧٧ ، البحر المحيط ٤ / ١٤٥.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٧٧ ، البحر المحيط ٤ / ١٤٥.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٧٧ ، البحر المحيط ٤ / ١٤٥.

١٨١

وقوله : (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) تأكيد لقوله : «قد ضللت» وأتى بالأولى جملة فعلية لتدلّ على تجدّد الفعل وحدوثه ، وبالثانية اسمية لتدل على الثبوت. والمعنى (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) ، يعني إن فعلت ذلك ، فقد تركت سبيل الحقّ ، وسلكت غير سبيل الهدى».

قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ)(٥٧)

قوله : (إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي : على بيان أو بصيرة وبرهان من ربي.

قوله : (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) في هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنها مستأنفة سيقت للإخبار بذلك.

والثاني : أنها في محلّ نصب على الحال ، وحينئذ هل يحتاج إلى إضمار «قد» أم لا؟

و «الهاء» في «به» يجوز أن تعود على «ربّي» ، وهو الظاهر.

وقيل : على القرآن ؛ لأنه كالمذكور.

وقيل : على استعجالهم بالعذاب ؛ لأنهم كانوا يقولون : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً) [الأنفال : ٣٢].

وقيل : على بيّنة ؛ لأنها في معنى البيان.

وقيل : لأن «التاء» فيها للمبالغة ، والمعنى على أمر بيّن من ربي.

و (مِنْ رَبِّي) في محلّ جرّ صفة ل «بيّنة».

قوله : «ما عندي ما تستعجلون به» كان عليه الصّلاة والسّلام يخوّفهم نزول العذاب ، فقال تعالى : قل يا محمّد : ما عندي ما تستعجلون به ، يعني قولهم : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) الآية.

وقيل : أراد به القيامة ؛ لقوله تعالى : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) [الشورى : ١٨].

قوله : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي : في تأخير عذابهم.

قوله : (يَقُصُّ الْحَقَّ) قرأ نافع ، وابن كثير (١) ، وعاصم «يقصّ» [بصاد مهملة مشددة](٢) مرفوعة ، وهي قراءة ابن عبّاس ، والباقون بضاد (٣) معجمة مخففة مكسورة ، وهاتان في المتواتر.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٧٧ ، البحر المحيط ٤ / ١٤٥ ، حجة القراءات ص (٢٥٤) ، النشر ٢ / ٢٥٨ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٤ ، الكشاف ٢ / ٣٠.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٧٧ ، البحر المحيط ٤ / ١٤٥ ، حجة القراءات ص (٢٥٤) ، النشر ٢ / ٢٥٨ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٤ ، الفراء ١ / ٣٣٧ ـ ٣٣٨ ، الزجاج ٢ / ٢٨١ ـ ٢٨٢ ، التبيان ١ / ٥٠١ ، الحجة لابن خالويه (١٤٠ ـ ١٤١).

١٨٢

وقرأ عبد الله ، وأبيّ ، ويحيى (١) بن وثّاب ، والنخعي ، والأعمش ، وطلحة : «يقضي بالحقّ» من القضاء.

وقرأ سعيد بن جبير (٢) ، ومجاهد : «يقضي بالحقّ وهو خير القاضين». فأما قراءة «يقضي» فمن القضاء.

ويؤيده قوله : (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) فإن الفصل يناسب القضاء ، ولم يرسم إلّا بضاد ، كأن «الباء» حذفت خطّا كما حذفت لفظا لالتقاء الساكنين ، كما حذفت من نحو : (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) [القمر : ٣].

وكما حذفت «الواو» في (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) [العلق : ١٨] ، (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) [الشورى : ٢٤] كما تقدّم.

وأمّا قراءة نصب «الحقّ» بعده ، ففيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي : يقضي القضاء الحقّ.

والثاني : أنه ضمّن «يقضي» معنى «ينفذ» ، فلذلك عدّاه إلى المفعول به.

الثالث : أن «قضى» بمعنى «صنع» فيتعدّى بنفسه من غير تضمين ، ويدلّ على ذلك قول الهذليّ شعرا : [الكامل]

٢١٨٥ ـ وعليهما مسرودتان قضاهما

داود أو صنع السّوابغ تبّع (٣)

[أي : صنعهما](٤) داود.

الرابع : أنه على إسقاط حرف الجرّ ، أي : يقضي بالحق ، فلما حذف انتصب مجروره على حدّ قوله : [الوافر]

٢١٨٦ ـ تمرّون الدّيار ولم تعوجوا

 .......... (٥)

ويؤيّد ذلك القراءة بهذا الأصل.

وأمّا قراءة «يقصّ» فمن «قصّ الحديث» ، أو من «قصّ الأثر» أي : تتّبعه.

قال تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف : ٣].

ورجّح أبو عمرو بن العلاء القراءة الأولى بقوله : «الفاصلين» وحكي عنه أنه قال : «أهو يقصّ الحقّ أو يقضي الحقّ» فقالوا : «يقصّ» فقال : لو كان «يقصّ» لقال : «وهو خير

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٧٧ ، البحر المحيط ٤ / ١٤٦.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٧٧ ، البحر المحيط ٤ / ١٤٦ ، الوسيط في تفسير القرآن المجيد ٢ / ٢٧٩ ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٥٤) ، السبعة ص (٢٥٩) ، النشر ٢ / ٢٥٨ ، الفراء ١ / ٣٣٧ ـ ٣٣٨ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٤.

(٣) تقدم.

(٤) سقط في ب.

(٥) تقدم.

١٨٣

القاصّين» أقرأ أحد بهذا؟ وحيث قال : وهو خير الفاصلين فالفصل إنما يكون في القضاء. وكأن أبا عمرو لم يبلغه «وهو خير القاصين» قراءة ، وقد أجاب أبو علي الفارسي عما ذكره أبو العلاء ، فقال : «القصص» هنا بمعنى القول ، وقد جاء القول في الفصل أيضا ، قال تعالى (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) [الطارق : ١٣].

وقال تعالى : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) [هود : ١].

وقال تعالى : (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ) فقد حمل الفصل على القول ، واستعمل معه كما جاء مع القضاء ، فلا يلزم من الفاصل أن يكون معينا ل «يقضي».

فصل في الاحتجاج بالآية لأهل السّنة

أحتج أهل السّنّة بقوله : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) على أنه لا يقدر العبد على أمر من الأمور إلّا إذا قضاه الله ، فيمتنع منه فعل الكفر إلا إذا قضى الله وحكم به ، وكذلك في جميع الأفعال ؛ لأن قوله : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) [يفيد الحصر](١).

واحتج المعتزلة بقوله : «يقضي الحق» ، ومعناه : أن كل ما قضى به فهو الحقّ ، وهذا يقتضي ألّا يريد الكفر من الكافر ، ولا المعصية من العاصي ؛ لأن ذلك ليس بحق (٢) ، والله أعلم.

قوله تعالى : (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ)(٥٨)

أي : لو أن في قدرتي وإمكاني ما تستعجلون به من العذاب لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي واقتصاصا من تكذيبكم به ، ولتخلصت سريعا.

قوله (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) من باب إقامة الظاهر مقام المضمر تنبيها على استحقاقهم ذلك بصفة الظلم ، إذ لو جاء على الأصل لقال والله أعلم بكم والمعنى أني لا أعلم وقت عقوبة الظالمين ، والله ـ تعالى ـ يعلم ذلك ، فهو يؤخّر إلى وقته. والله أعلم.

قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٥٩)

في «مفاتح» ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه جمع «مفتح» بكسر الميم والقصر ، وهو الآلة التي يفتح بها نحو : «منجل ومناجل».

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : الرازي ١٣ / ٧.

١٨٤

والثاني : أنه جمع «مفتح» بفتح الميم وهو المكان. ويؤيده تفسير ابن عبّاس : هي خزائن المطر (١).

قال الفراء (٢) : قوله تعالى : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) [القصص : ٧٦] يعني : خزائنه.

فعلى الأول فقد جعل للغيب [مفاتيح](٣) على الاستعارة ؛ لأن المفاتيح يتوصّل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالأغلاق والأقفال.

وعلى الثاني : فالمعنى : وعنده خزائن الغيب ، والمراد منه القدرة على كل الممكنات.

والثالث : أنه جمع «مفتاح» بكسر الميم والألف ، وهو الآلة أيضا إلّا أن هذا فيه ضعف من حيث إنه كان ينبغي أن تقلب ألف المفرد ياء ، فيقال : مفاتيح ك «دنانير» ولكنه قد نقل في جمع «مصباح» «مصابح» ، وفي جمع «محراب» «محارب» ، وفي جمع «قرقور» «قراقر» ، وهذا كما أتوا بالياء في جمع ما لا مدة في مفرده كقولهم : «دراهيم» و «صياريف» في جمع «درهم» و «صيرف» قال : [البسيط]

٢١٨٧ ـ تنفي يداها الحصى في كلّ هاجرة

نفي الدّراهيم تنقاد الصّياريف (٤)

وقالوا : عيّل وعياييل ؛ قال : [الرجز]

٢١٨٨ ـ فيها عياييل أسود ونمر (٥)

الأصل عياييل ونمور [فزاد في](٦) ذلك ونقص.

وقد قرىء (٧) «مفاتيح» بالياء ، وهي تؤيد أن «مفاتح» جمع «مفتاح» ، وإنما حذفت مدّته.

وجوّز الواحديّ أن يكون «مفاتح» جمع «مفتح» بفتح الميم ، على أنه مصدر قال بعد كلام حكاه عن أبي إسحاق : فعلى هذا «مفاتح» جمع «المفتح» بمعنى الفتح كأن المعنى : وعنده فتوح الغيب ، أي : هو يفتح الغيب على من يشاء من عباده. وقال أبو البقاء (٨) : «مفاتح» جمع «مفتح» ، والمفتح الخزانة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٨) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٣ / ٨.

(٣) سقط في أ.

(٤) تقدم.

(٥) البيت لحكيم بن معية. ينظر : الكتاب ٣ / ٥٧٤ ، المقتضب ٢ / ٢٠١ ، الأشموني ٤ / ٢٩٠ ، المقرب ٢ / ١٠٨ ـ ١٦٣ ، شرح شواهد الشافية ٣٧٦ ، اللسان (عيل) ، الدر المصون ٣ / ٧٩.

(٦) سقط في أ.

(٧) ينظر : الدر المصون ٣ / ٧٩ ، البحر المحيط ٤ / ١٤٨.

(٨) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٥.

١٨٥

فأما ما يفتح به فهو «المفتاح» ، وجمعه «مفاتيح» ، وقد قيل : «مفتح» أيضا انتهى يريد جمع «مفتح» أي : بفتح الميم.

وقد قيل : مفتح ، يعني أنها لغة قليلة في الآلة ، والكثير فيها المد ، وكان ينبغي أن يوضح عبارته فإنها موهمة ، ولذلك شرحناها.

فصل

روى ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلّا الله. لا يعلم ما تفيض الأرحام أحد إلّا الله ، ولا يعلم ما في غد إلّا الله ، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلّا الله ، ولا تدري نفس بأيّ أرض تموت إلّا الله ، ولا يعلم متى تقوم السّاعة إلّا الله» (١).

وقال الضحّاك ، ومقاتل : «مفاتح الغيب» : خزائن الله ، وعلم نزول العذاب (٢).

وقال عطاء : ما غاب عنكم من الثواب والعقاب (٣).

وقيل : انقضاء الآجال وقيل : أحوال العباد من السّعادة والشّقاوة ، وخواتيم أعمالهم.

وقيل : إنه ما لم يكن بعد أنه يكون أم لا يكون وما يكون كيف يكون ، وما لا يكون أن لو كان كيف يكون.

وقال ابن مسعود : أوتي نبيكم كلّ شيء إلّا مفاتح الغيب (٤).

[نقل القرطبي (٥) عن ابن عبد البر قال في كتاب «الكافي» (٦) : من المكاسب

__________________

(١) أخرجه البخاري من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيح ٨ / ٢٩١ كتاب التفسير (٦٥) باب : وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الأنعام : ٥٩].

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٧ / ٤) عن الضحاك.

(٣) انظر المصدر السابق.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢١٠) عن ابن مسعود وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٨) وزاد نسبته لابن مردويه.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ٤.

(٦) قال فيه أما بعد : فإن بعض إخواننا من أهل الطلب ، والعناية ، والرغبة في الزيادة من التعلم سألني أن أجمع له كتابا مختصرا في الفقه ، يجمع المسائل التي هي أصول وأمهات لما يبنى عليها من الفروع والبينات في فوائد الأحكام ، ومعرفة الحلال والحرام ، يكون جامعا مهذّبا ، وكافيا مقربا ، ومختصرا مبوبا يستذكر به عند الاشتغال ، وما يدرك الانسان من الملال ، ويكفي عن المؤلفات الطوال ، ويقوم مقام المذاكرة عند عدم المدارسة ، فرأيت أن أجيبه إلى ذلك ؛ لما رجوت فيه من عون العالم المقتصر ، ونفع الطالب المسترشد ؛ التماسا لثواب الله عزوجل ، في تقريبه على من أراده ، واعتمدت فيه على علم أهل المدينة ، وسلكت فيه مسلك مذهب الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس رحمه‌الله. وانظر القول فيه وعبارته : أجمع العلماء من السلف والخلف أن الربا الذي نزل القرآن بتحريمه : هو أن يأخذ ـ

١٨٦

المجمع على تحريمها الرّبا ، ومهور البغايا والسّحت والرشا وأخذ الأجرة على النياحة وأخذ الأجرة على الغناء وعلى الكهانة وادّعاء علم الغيب ، وأخبار السماء وعلى الزّمر واللّعب والباطل كله](١).

قوله (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) في محلّ نصب على الحال من «مفاتح» والعامل فيها الاستقرار الذي تضمّنه حرف الجر لوقوعه خبرا.

وقال أبو البقاء (٢) : نفس الظّرف إن رفعت به «مفاتح» ، أي : إن رفعته به فاعلا ، وذلك على رأي الأخفش ، وتضمّنه الاستقرار لا بد منه على كل قول ، فلا فرق بين أن يرفع به الفاعل ، أو يجعله خبرا.

قوله : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) قال مجاهد : البر والبحر : القرى والأمصار لا يحدث فيها شيء إلّا يعلمه.

وقيل : هو البر والبحر المعروف.

قالت الحكماء في تفسير هذه الآية : ثبت أن العلم بالعلّة علة للعلم بالمعلول وأن العلم بالمعلول لا يكون علّة للعلم بالعلّة.

وإذا ثبت هذا فنقول : إن الموجود إما أن يكون واجبا لذاته ، أو ممكنا لذاته ، والواجب لذاته ليس إلّا الله تعالى ، وكل ما سواه فهو ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا يوجد إلا بتأثير الواجب لذاته ، فكلّ ما سوى الحق سبحانه ، فهو موجود بإيجاده وتكوينه.

وإذا ثبت ذلك ، فنقول : علمه بذاته يوجب علمه بالأثر الأوّل الصّادر منه ، ثم علمه بذلك الأثر الأول يوجب علمه بالأثر الثاني ؛ لأن الأثر الأول علّة قريبة في الأثر الثاني ، وقد ذكرنا أن العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول فبدأ أوّلا بعلم الغيب ، وهو علمه بذاته المخصوصة ، ثم يحصل له من علمه بذاته علمه بالآثار الصّادرة عنه على ترتيبها المعتبر ، ولما كان علمه بذاته لم يحصل إلا لذاته لا جرم صحّ أن يقال : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) ثم إن القضايا العقليّة المحضة يصعب تحصيل العلم بها على سبيل التمام والكمال إلّا للعقلاء الكاملين الذين ألفوا استحضار المعقولات ، ومثل هذا الإنسان يكون كالنّادر.

وقوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) قضيّة عقليّة محضة والإنسان الذي يقوى عقله على الإحاطة بمعنى هذه القضية نادر جدا ، والقرآن إنما أنزل لينتفع به جميع

__________________

ـ صاحب الدين لتأخير دينه بعد حلوله عوضا عينا أو عرضا ، وهو معنى قول العرب : إما أن تقضي وإما أن تربي. ينظر : الكافي ٩ ، ٣٠٢.

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٥.

١٨٧

الخلق ، فلذلك ذكر لهذه القضيّة العقلية مثالا من الأمور المحسوسة الداخلة تحت هذه القضيّة العقلية ليصير ذلك المعقول بمعاونة هذا المثال المحسوس (١) معلوما [مفهوما](٢) لكل أحد ، فقال : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) لأن ذلك أحد أقسام معلومات الله ـ تعالى ـ وقد ذكر البر ؛ لأن الإنسان قد شاهد أحوال البرّ ، وكثرة ما فيه من المدن والقرى والمفاوز والجبال والتّلال ، وكثرة ما فيها من الحيوان والنّبات والمعادن.

وأما البحر وإحاطة العقل بأحواله أقلّ إلّا أن الحسّ يدلّ على أن عجائب البحار في الجملة أكثر ، وطولها وعرضها أعظم ، وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب.

فإذا استحضر الخيال صورة البر والبحر على هذه الوجوه ، ثم عرف أن مجموعها قسم حقير من الأقسام الدّاخلة تحت قوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) فيصير هذا المثال المحسوس مقوّيا ومكملا للعظمة الحاصلة تحت قوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) وكذلك قوله : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) لأن العقل يستحضر جميع ما على وجه الأرض من المدن والقرى والمفاوز والجبال والتّلال ، ثم يستحضر كم فيها من النّجم والشجر ، ثم يستحضر أنه لا يتغير حال ورقة إلّا والحقّ ـ سبحانه ـ يعلمها ، ثم يتجاوز من هذا المثال إلى مثال آخر أشد منه هيئة ، وهو قوله : (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) وذلك لأن الحبّة تكون في غاية الصّغر ، و (ظُلُماتِ الْأَرْضِ) موضع يخفي أكبر الأجسام وأعظمها ، فإذا سمع أن تلك الحبّة الصغيرة الملقاة في ظلمات الأرض على اتّساعها وعظمها لا تخرج من علم الله ألبتّة صارت هذه الأمثال منبّهة على عظم عظمته مقوية للمعنى المشار إليه بقوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) ثم إنه ـ تعالى ـ لما قوّى ذلك الأمر المعقول المحض المجرد بذكر هذه الجزئيّات المحسوسات عاد إلى ذكر تلك القضية المحضة بعبارة أخرى ، فقال : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) وهو عين المذكور في قوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ).

قوله : (مِنْ وَرَقَةٍ) فاعل «تسقط» ، و «من» زائدة لاستغراق الجنس.

وقوله : (إِلَّا يَعْلَمُها) حال من «ورقة» ، وجاءت الحال من النكرة لاعتمادها على النّفي ، والتقدير : وما تسقط من ورقة إلا عالم هو بها ، كقولك : ما أكرمت أحدا إلا صالحا.

قال شهاب الدّين (٣) : ويجوز عندي أن تكون الجملة نعتا ل «ورقة» وإذا كانوا أجازوا في قوله : (إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر : ٤] أن تكون نعتا ل «قرية» في قوله :

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ٨٩.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٧٩.

١٨٨

وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر : ٤] مع كونها بالواو ويعتذرون عن زيادة «الواو» فبأن يجيزوا ذلك هنا أولى.

وحينئذ فيجوز أن تكون في موضع جرّ على اللفظ ، أو رفع على المحلّ ، [والمعنى : يريد ساقطة أو نائية أي : يعلم عدد ما يسقط من ورق الشجر ، وما يبقى عليه.

وقيل : يعلم كم انقلبت ظهرا لبطن إلى أن سقطت على الأرض](١).

قوله : (وَلا حَبَّةٍ) عطف على لفظ «ورقة» ، ولو قرىء بالرفع لكان على الموضع والمراد : الحب المعروف في بطون الأرض.

وقيل : تحت الصّخرة في أسفل الأرضين و (فِي ظُلُماتِ) صفة ل «حبّة».

قوله : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) معطوفان أيضا على لفظ «ورقة» ، وقرأهما (٢) ابن السّميفع ، والحسن ، وابن أبي إسحاق بالرفع على المحلّ ، وهذا هو الظاهر ويجوز أن يكونا مبتدأين ، والخبر قوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ).

ونقل الزمخشري (٣) أن الرّفع في الثلاثة أعني قول ه «ولا حبّة ولا رطب ولا يابس» وذكر وجهي الرفع المتقدمين ، ونظر الوجه الثاني بقولك : لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار.

قال ابن عبّاس : المراد ب «الرطب» الماء ، و «اليابس» البادية (٤).

وقال عطاء : يريد ما نبت وما لا ينبت.

وقيل : ولا حيّ ولا موات.

وقيل : هو عبارة عن كل شيء.

قوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) في هذه الاستثناء غموض ، فقال الزمخشري (٥) : وقوله (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) كالتكرار لقوله : (إِلَّا يَعْلَمُها) لأن معنى (إِلَّا يَعْلَمُها) ومعنى (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) واحد.

و «الكتاب» علم الله ، أو اللّوح ، وأبرزه أبو حيّان (٦) في عبارة قريبة من هذه فقال : «وهذا الاستثناء جار مجرى التوكيد ، لأن قوله (وَلا حَبَّةٍ) «ولا رطب» (وَلا يابِسٍ) معطوف على (مِنْ وَرَقَةٍ) ، والاستثناء الأول منسحب عليها ، كما تقول : ما جاءني من رجل إلا أكرمته ، ولا امرأة ، فالمعنى إلّا أكرمتها ، ولكنه لما طال الكلام أعيد الاستثناء على سبيل التوكيد ، وحسّنه كونه فاصلة» انتهى.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٧٩ ، البحر المحيط ٤ / ١٤٩.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٣١.

(٤) ذكره السيوطي بمعناه في «الدر المنثور» (٣ / ٢٩) وعزاه لأبي الشيخ عن ابن عباس.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٣١.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٥٠.

١٨٩

وجعل صاحب «النظم» الكلام تامّا عند قوله : (وَلا يابِسٍ) ، ثم استأنف خبرا آخر بقوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) بمعنى : وهو في كتاب مبين أيضا ، قال : لأنك لو جعلت قوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) متصلا بالكلام الأوّل لفسد المعنى ، وبيان فساده في فصل طويل مذكور في سورة «يونس» في قوله : (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [يونس : ٦١].

قال شهاب الدّين (١) : إنما كان فاسد المعنى من حيث اعتقد أنه استثناء آخر مستقل ، وسيأتي كيف فساده.

أمّا لو [جعله](٢) استثناء موكّدا للأول ، كما قاله الزمخشري (٣) لم يفسد المعنى.

وكيف يتصوّر تمام الكلام على قوله تعالى : (وَلا يابِسٍ) ، ويبتدأ ب «إلّا» ، وكيف تقع «إلّا» هكذا؟

وقد نحا أبو البقاء (٤) لشيء مما قاله الجرجاني ، فقال : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي : إلّا هو في كتاب مبين ، ولا يجوز أن يكون استثناء يعمل فيه «يعلمها» ؛ لأن المعنى يصير : وما تسقط من ورقة إلّا يعلمها إلّا في كتاب ، فينقلب معناه إلى الإثبات ، أي : لا يعلمها في كتاب ، وإذا لم يكن إلّا في كتاب ، وجب أن يعلمها في الكتاب ، فإذن يكون الاستثناء الثاني بدلا من الأوّل ، أي : «وما تسقط من ورقة إلّا هي في كتاب ، وما يعلمها إلّا هو» انتهى.

وجوابه ما تقدّم من جعل الاستثناء تأكيدا ، وسيأتي تقريره إن شاء الله ـ تعالى ـ في سورة «يونس».

فصل في المراد بالكتاب

في الكتاب المبين قولان :

الأول : هو علم الله ـ تعالى ـ وهو الأصوب (٥).

وقال الزّجّاج (٦) : يجوز أن يكون الله ـ تعالى ـ أثبت كيفيّة المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق ، كما قال : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) [الحديد : ٢٢]. وفائدة هذا الكتاب أمور :

أحدها : أنه ـ تعالى ـ إنما كتب هذه الأحوال في اللّوح المحفوظ لتقف الملائكة على إنفاذ علم الله في المعلومات ، وأنه لا يغيب عنه مما في السماوات والأرض شيء ، فيكون في ذلك عبرة تامة كاملة للملائكة الموكّلين باللّوح المحفوظ ؛ لأنهم يقابلون به ما يحدث في هذا العالم فيجدونه موافقا له.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨٠.

(٢) في ب : جعله.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٣١.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٥.

(٥) ينظر : الرازي ١٣ / ١٠.

(٦) ينظر : المصدر السابق.

١٩٠

وثانيها : يجوز أن يقال : إنه ـ تعالى ـ ذكر الورقة والحبّة تنبيها للمكلّفين على أمر الحساب وإعلاما بأنه لا يفوته من كل ما يصنعون في الدنيا شيء ؛ لأنه إذا كان لا يهمل من الأحوال التي ليس فيها ثواب وعقاب وتكليف ، فبأن لا يهمل الأحوال المشتملة على الثواب والعقاب أولى.

وثالثها : أنه ـ تعالى ـ لمّا أثبت أحوال جميع الموجودات في ذلك على التفصيل التام ، امتنع أيضا تغيّرها ، وإلّا لزم الكذب ، فيصير [كتبه](١) جملة الأحوال في ذلك الكتاب موجبا تامّا [وسببا كاملا](٢) ، في أنه يمتنع تقدّم ما تأخّر ، وتأخّر ما تقدّم ، كما قال عليه الصلاة والسلام : «جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» (٣) والله أعلم.

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٦٠)

لمّا بيّن تعالى كمال علمه في الآية الأولى ـ بيّن كمال قدرته بهذه الآية ، وهو كونه قادرا على نقل الذّوات من الموت إلى الحياة ، ومن النّوم إلى اليقظة ، واستقلاله بحفظها في جميع الأحوال ، وتدبيرها على أحسن الوجوه في حال النوم واليقظة.

قوله : «باللّيل» متعلّق بما قبله على أنه ظرف له ، و «الباء» تأتي بمعنى «في» ، وقد تقدّم منه جملة صالحة.

وقال أبو البقاء (٤) هنا : وجاز ذلك ؛ لأن «الباء» للإلصاق والملاصق للزمان والمكان حاصل فيهما ، يعني في هذه العلاقة المجوزة للتّجوّز ، وعلى هذا فلا حاجة إلى أن ينوب حرف مكان آخر ، بل نقول : هي هنا للإلصاق مجازا ، نحو ما قالوه في «مررت بزيد» ، وأسند التّوفّي هنا إلى ذاته المقدّسة ، لأنه لا ينفر منه هنا ، إذ المراد به الدّعة والرّاحة ، وأسند إلى غيره في قوله : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) [الأنعام : ٦١] (يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) [السجدة : ١١] لأنه ينفر منه ، إذ المراد به الموت.

وهاهنا بحث ، وهو أن النائم لا شكّ أنّه حيّ ، ومتى كان حيّا لم تكن روحه مقبوضة ألبتّة ، فلا بدّ هاهنا من تأويل ، وهو أنه حال النوم تغور الأرواح الحسّاسة من الظاهر في الباطن ، فصارت الحواسّ الظاهرة معطّلة عن أعمالها ، فعند النوم صار ظاهر الجسد معطّلا عن كلّ الأعمال ، فحصل بين النّوم وبين الموت مشابهة من هذه الحيثيّة ، فلذلك صحّ إطلاق لفظ الموت والوفاة على النوم (٥).

قوله : «ما جرحتم» الظاهر أنها مصدريّة ، وإن كان كونها موصولة اسمية أكثر

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٥.

(٥) ينظر : الرازي ١٣ / ١١.

١٩١

ويجوز أن تكون نكرة موصوفة بما بعدها ، والعائد على كلا التقديرين الآخرين محذوف ، وكذا عند الأخفش وابن السّراج (١) على القول الأول.

و «بالنّهار» كقوله : «باللّيل» ، والضمير في «فيه» عائد على «النهار» ، وهذا هو الظاهر.

قال أبو حيّان (٢) : «عاد عليه لفظا ، والمعنى : في يوم آخر ، كما تقول : عندي درهم ونصفه».

قال شهاب الدين (٣) : ولا حاجة في الظّاهر على عوده على نظير المذكور ، إذ عوده على المذكور لا محذور فيه.

وأمّا ما ذكره من نحو «درهم ونصفه» فلضرورة انتفاء العيّ من الكلام ، قالوا : لأنك إذا قلت : «عندي درهم» علم أنّ عندك نصفه ضرورة.

فقولك بعد ذلك : «ونصفه» تضطرّ إلى عوده إلى نظير ما عندك ، بخلاف ما نحن فيه.

وقيل : يعود على اللّيل.

وقيل : يعود على التّوفّي ، وهو النوم ، أي : يوقظكم في خلال النوم.

وقال الزمخشري (٤) : «ثم يبعثكم من القبور في شأن الذي قطعتم به أعماركم من النوم باللّيل ، وكسب الآثام بالنهار» انتهى. وهو حسن.

وخصّ اللّيل بالتّوفّي ، والنّهار بالكسب وإن كان قد ينام في هذا ويكسب في الآخر اعتبارا بالحال الأغلب.

وقدّم التّوفّي بالليل ؛ لأنه أبلغ في المنّة عليهم ، ولا سيّما عند من يخصّ الجرح بكسب الشّرّ دون الخير ، ومعنى «جرحتم» أي : كسبتم من العمل بالنهار.

قال تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) [المائدة : ٤] أي : الكواسب من الطير والسّباع ، واحدتها «جارحة».

قال تعالى : (الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) [الجاثية : ٢١] أي : اكتسبوا.

وبالجملة فالمراد منه أعمال الجوارح.

قوله : «ليقضى أجل». الجمهور على «ليقضى» (٥) مبنيّا للمفعول ، و «أجل» رفع به ، وفي الفاعل المحذوف احتمالان :

أحدهما : أنه ضمير البارىء تعالى.

__________________

(١) ينظر : الأصول ١ / ١٦١.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٥١.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨٠.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٢.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨١ ، البحر المحيط ٤ / ١٥١.

١٩٢

والثاني : أنه ضمير المخاطبين أي : لتقضوا آجالكم.

وقرأ أبو رجاء (١) ، وطلحة : «ليقضي» مبنيا للفاعل ، وهو الله تعالى ، و «أجلا» مفعول به ، و «مسمى» صفة ، فهو مرفوع على الأوّل ، ومنصوب على الثاني ، ويترتّب على ذلك خلاف للقرّاء في إمالة ألفه ، و «اللام» في «ليقضي» متعلّقة بما قبلها من مجموع الفعلين ، أي : يتوفاكم ثمّ يبعثكم لأجل ذلك.

والمراد : الأجل المسمّى ، أي : عمركم المكتوب.

والمعنى : يبعثكم من نومكم إلى أن تبلغوا آجالكم.

واعلم أنه ـ تعالى ـ لمّا ذكر أنّه ينيمهم أولا ، ثم يوقظهم ثانيا كان ذلك جاريا مجرى الإحياء بعد الإماتة ، فلذلك استدلّ به على صحّة البعث والقيامة ، فقال : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في ليلكم ونهاركم في جميع أحوالكم.

قوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ)(٦٢)

قد تقدّم الكلام على هذه الآية أوّل السورة.

قوله : (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) : فيه خمسة أوجه :

أحدها : أنه عطف على اسم الفاعل الواقع صلة ل «أل» ؛ لأنه في معنى يفعل ، والتقدير : وهو الذي يقهر عباده ويرسل ، فعطف الفعل على الاسم ؛ لأنه في تأويله ، ومثله عند بعضهم : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا) [الحديد : ٨] [قالوا](٢) : «أقرضوا» عطف على «مصّدّقين» الواقع صلة ل «أل» ؛ لأنه في معنى : إنّ الذين صدّقوا وأقرضوا ، وهذا ليس بشيء ؛ لأنه يلزم من ذلك الفصل بين أبعاض الصّلة بأجنبي ، وذلك أن «وأقرضوا» من تمام صلة «أل» في «المصّدّقين» ، وقد عطف على الموصول قوله «المصّدقّات» وهو أجنبي ، وقد تقرّر غير مرّة أنه لا يتبع الموصول إلّا بعد تمام صلته.

وأمّا قوله تعالى : (فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) [الملك : ١٩] ف «يقبضن» في تأويل اسم ، أي : وقابضات.

ومن عطف الاسم على الفعل لكونه في تأويل الاسم قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ) [الأنعام : ٩٥].

وقوله : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨١ ، البحر المحيط ٤ / ١٥١.

(٢) في ب : قال.

١٩٣

٢١٨٩ ـ فألفيته يوما [يبير](١)عدوّه

[ومجر](٢) عطاء يستخفّ المعابرا (٣)

والثاني : أنها جملة فعلية على جملة اسمية وهي قوله : «وهو القاهر».

والثالث : أنها معطوفة على الصّلة ، وما عطف عليها ، وهو قوله : «يتوفّاكم» و «يعلم» وما بعده ، أي : وهو الذي يتوفاكم ويرسل.

الرابع : أنّه خبر مبتدأ محذوف ، والجملة في محلّ نصب على الحال ، وفي صاحبها وجهان :

أظهرهما : أنه الضمير المستكنّ في «القاهر».

والثاني : أنها حال من الضمير المستكنّ في الظرف ، هكذا قال أبو البقاء (٤) ، ونقله عنه أبو حيّان (٥) قال : «وهذا الوجه أضعف الأعاريب».

وقولهما : «الضمير الذي في الظرف» ليس هنا ظرف يتوهّم كون هذه الحال من ضمير فيه ، إلّا قوله : (فَوْقَ عِبادِهِ) ، ولكن بأيّ طريق يتحمّل هذا الظرف ضميرا؟

والجواب : أنه قد تقدّم في الآية المشبهة لهذه أن (فَوْقَ عِبادِهِ) فيه خمسة أوجه :

ثلاثة منها تتحمّل فيها ضميرا ، وهي : كونه خبرا ثانيا ، أو بدلا من الخبر ، أو حالا ، وإنما اضطررنا إلى تقدير مبتدأ قبل «يرسل» ؛ لأن المضارع المثبت إذا وقع حالا لم يقترن بالواو كما تقدّم إيضاحه.

والخامس : أنها مستأنفة سيقت للإخبار بذلك ، وهذا الوجه هو في المعنى كالثاني.

قوله : «عليكم» يحتمل ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنه متعلّق ب «يرسل» ومنه (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ) [الرحمن : ٣٥] (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ) [الأعراف : ١٣٣] (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً) [الفيل : ٣]. إلى غير ذلك.

والثاني : أنه متعلّق ب «حفظة» ، يقال : حفظت عليه عمله ، فالتقدير : ويرسل حفظة عليكم.

قال أبو حيّان (٦) : أي : يحفظون عليكم أعمالكم ، كما قال : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) [الانفطار : ١٠] كما تقول : حفظت عليك ما تعمل فقوله كما قال تشبيه من حيث المعنى ، لا أن «عليكم» تعلّق ب «حافظين» ؛ لأن «عليكم» هو الخبر ل «أنّ» ، فيتعلق بمحذوف.

__________________

(١) في ب : يشير.

(٢) في ب : ويجر.

(٣) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص (٧١) ، رصف المباني ص (٤١١) ، شرح ابن عقيل ص (٥٠٥) ، المقاصد النحوية ٤ / ١٧٦. الدر المصون ٣ / ٨١.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٥.

(٥) البحر المحيط ٤ / ١٥١.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٥١.

١٩٤

والثالث : أنه متعلّق بمحذوف على أنه حال من «حفظة» ؛ إذ لو تأخّر لجاز أن يكون صفة لها.

قال أبو البقاء (١) : «عليكم» فيه وجهان :

أحدهما : هو متعلّق ب «يرسل».

والثاني : أن يكون في نيّة التّأخير ، وفيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلّق بنفس «حفظة» ، والمفعول محذوف ، أي : يرسل عليكم من يحفظ أعمالكم.

والثاني : أن يكون صفة ل «حفظة» قدمت فصارت حالا. قوله : والمفعول محذوف يعني : مفعول «حفظة» ، إلّا أنّه يوهم أنّ تقدير المفعول خاصّ بالوجه الذي ذكره ، وليس كذلك ، بل لا بدّ من تقديره على كلّ وجه ، و «حفظة» إنما عمل في ذلك المقدّر لكونه صفة لمحذوف تقديره : ويرسل عليكم ملائكة حفظة ؛ لأنه لا يعمل إلّا بشروط هذا منها ، أعني كونه معتمدا على موصوف ، و «حفظة» جمع «حافظ» ، وهو منقاس في كلّ وصف على فاعل صحيح «اللام» لعاقل مذكر ، ك «بارّ» و «بررة» ، و «فاجر» و «فجرة» ، و «كامل» و «كمله» ، وينقل في غير العاقل ، كقوله : «غراب ناعق» و «غربان نعقة» (٢).

فصل في معنى الحفظة

هؤلاء الحفظة هم المذكورون في قوله تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد : ١١].

وقوله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٨] وقوله : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ) [الانفطار : ١٠ ، ١١].

والمقصود بهؤلاء الحفظة ضبط الأعمال ثم اختلفوا فقيل : إنهم يكتبون الطّاعات والمعاصي والمباحات بأسرها لقوله تعالى : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩].

وعن ابن عبّاس أنّ مع كلّ إنسان ملكين ؛ أحدهما : عن يمينه ، والآخر عن يساره ، فإذا تكلّم الإنسان بحسنة كتبها [من](٣) على اليمين ، وإذا تكلّم بسيئة قال من على اليمين للذي على اليسار : انتظره لعلّه يتوب منها ، فإن لم يتب كتبت عليه (٤).

والأوّل أقوى ؛ لأن قوله : (يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) يفيد حفظة الكل من غير تخصيص.

والثاني : أنّ ظاهر هذه الآية يدلّ على اطّلاع هؤلاء الحفظة على الأقوال والأفعال

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٥.

(٢) في ب : نقعه.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : تفسير الرازي (١٣ / ١٣).

١٩٥

أمّا على صفات القلوب ، وهو العلم والجهل ، فليس في هذه الآيات ما يدلّ على اطّلاعهم عليها.

أمّا في الأقوال ، فلقوله تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ٨].

وأمّا في الأفعال ، فلقوله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [الانفطار : ١٠ ـ ١٢].

وأمّا الإيمان والكفر ، والإخلاص والإشراك فلم يدلّ دليل على اطّلاع الملائكة عليها.

فصل في فائدة توكيل الملائكة علينا

وفي فائدة جعل الملائكة موكّلين على بني آدم وجوه :

أحدها : أنّ المكلّف إذا علم أن الملائكة موكلين به يحصون عليه عمله ، ويكتبونه في صحيفة تعرض على رءوس الأشهاد في مواقف القيامة كان ذلك أزجر له عن القبائح.

والثاني : يحتمل أن تكون الكتابة لفائدة وزن تلك الصّحائف يوم القيامة ؛ لأن وزن الأعمال غير ممكن ، أمّا وزن الصحائف ممكن.

وثالثها : يفعل الله ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ويجب علينا الإيمان بكل ما ورد به الشرع ، سواء عقلناه أم لم نعقله.

قوله : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) تقدّم مثله.

وقوله : «توفّته» قرأ الجمهور (١) «توفّته» ، ماضيا بتاء التأنيث لتأنيث الجمع.

وقرأ حمزة (٢) : «توفّاه» من غير تاء تأنيث ، وهي تحتمل وجهين :

أظهرهما : أنه ماض ، وإنما حذف تاء التأنيث لوجهين :

أحدهما : كونه تأنيثا مجازيا.

والثاني : الفصل بين الفعل وفاعله بالمفعول.

والثاني : أنه مضارع ، وأصله : تتوفّاه بتاءين ، فحذفت إحداهما على خلاف في أيّتهما ك «تنزّل» وبابه ، وحمزة على بابه في إمالة مثل هذه الألف.

وقرأ الأعمش (٣) : «يتوفّاه» مضارعا بياء الغيبة اعتبارا بكونه مؤنثا مجازيا ، أو للفصل ، فهو كقراءة حمزة في الوجه الأوّل من حيث تذكير الفعل وكقراءته في الوجه الثاني من حيث إنه أتى به مضارعا.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨١ ، البحر المحيط ٤ / ١٥٢.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨١ ، البحر المحيط ٤ / ١٥٢.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨١ ، البحر المحيط ٤ / ١٥٢.

١٩٦

وقال أبو البقاء (١) : «وقرىء شاذّا (٢) «تتوفّاه» على الاستقبال ، ولم يذكر بياء ولا تاء.

فصل في بيان أن الوفاة من الله

قال الله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزمر : ٤٢].

وقال : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [تبارك : ٢] وهذان النّصان يدلّان على أنّ توفّي الأرواح ليس إلّا من الله.

وقال تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [السجدة : ١١]. وهذا يقتضي أن الوفاة لا تحصل إلّا من ملك الموت.

وقال في هذه الآية : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) ، فهذه النصوص الثلاثة كالمتناقضة.

والجواب : أن التّوفّي في الحقيقة إنما حصل بقدرة الله تعالى ، وهو في الظاهر مفوّض إلى ملك الموت ، وهو الرئيس المطلق في هذا الباب ، وله أعوان وخدم ، فحسنت إضافة التّوفّي إلى هذه الثلاثة بحسب الاعتبارات الثلاثة.

وقيل : أراد بالرّسل ملك الموت وحده ، وذكر الواحد بلفظ الجمع.

وجاء في الأخبار أنّ الله ـ تعالى ـ جعل الدّنيا بين يدي ملك الموت كالمائدة الصّغيرة ، فيقبض من هاهنا ، ومن هاهنا ، فإذا كثرت الأرواح يدعو الأرواح فتجيب له.

فصل في بيان أن الحفظة لا شأن لهم بالموت

قال بعضهم (٣) : هؤلاء الرّسل الذين يتوفّون الخلق هم الحفظة يحفظونه في مدّة الحياة ، وعند مجيء الموت يتوفّونه ، والأكثرون على أنّ الحفظة غير الذين يتولّون الوفاة.

قوله : (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) هذه الجملة تحتمل وجهين :

أظهرهما : أنها حال من «رسلنا».

والثاني : أنها استئنافيّة سيقت للإخبار عنهم بهذه الصّفة ، والجمهور (٤) على التشديد في «يفرّطون» ، ومعناه : لا يقصّرون.

وقرأ عمرو بن عبيد (٥) ، والأعرج «يفرطون» مخففا من «أفرط» ، وفيها تأويلان :

أحدهما : أنها بمعنى : لا يجاوزون الحدّ فيما أمروا به.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٥.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨٣ ، البحر المحيط ٤ / ١٥٢ ، حجة القراءات ص (٢٥٤).

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ١٤.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨٣ ، البحر المحيط ٤ / ١٥٣ ، حجة القراءات ص (٢٥٤).

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨٣ ، البحر المحيط ٤ / ١٥٣ ، حجة القراءات ص (٢٥٤).

١٩٧

قال الزمخشري (١) : «فالتفريط : التّواني والتأخير عن الحدّ ، والإفراط مجاوزة الحدّ ، أي : لا ينقصون مما أمروا به ، ولا يزيدون».

والثاني : أنّ معناه لا يتقدّمون على أمر الله ، وهذا يحتاج إلى نقل أنّ «أفرط» بمعنى «فرّط» ، أي : تقدّم.

قال الجاحظ قريبا من هذا فإنه قال : «معنى لا يفرطون : لا يدعون أحدا يفرط عنهم ، أي : يسبقهم ويفوتهم».

وقال أبو البقاء (٢) : ويقرأ بالتخفيف ، أي : لا يزيدون على ما أمروا به ، وهو قريب مما تقدّم.

قوله : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ).

قيل (٣) : المردود : هم الملائكة يعني كما يموت ابن آدم تموت أيضا الملائكة.

وقيل : المراد : البشر يعني : أنهم بعد موتهم يردّون إلى الله تعالى. وهذه الآية تدلّ على أنّ الإنسان ليس مجرّد هذه البنية ؛ لأن صريح هذه الآية يدلّ على حصول الموت للعبد ، ويدلّ على أنه بعد الموت يردّ إلى الله ، والميّت مع كونه ميّتا لا يمكن أن يرد إلى الله ؛ لأن ذلك الرّدّ ليس بالمكان والجهة لكونه ـ تعالى ـ متعاليا عن المكان والجهة ، فوجب أن يكون ذلك الرّدّ مفسّرا بكونه منقادا لحكم الله.

وما لم يكن حيّا لم يصحّ هذا المعنى فيه.

وقد ثبت أنّ هاهنا موتا وحياة ، أما الموت فنصيب البدن ، فبقي أن تكون الحياة نصيب النّفس والروح ، فلمّا قال تعالى : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ) ثبت أنّ المردود هو النّفس والرّوح ، وثبت أن الإنسان ليس إلّا النّفس والروح ، وهو المطلوب.

فصل في عموم الآية

الآية في المؤمنين والكافرين جميعا ، وقد قال في آية أخرى (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد : ١١]. فكيف وجه الجمع؟

فقيل : المولى في تلك الآية بمعنى النّاصر ، ولا ناصر للكفّار ، والمولى هاهنا بمعنى الملك الذي يتولّى أمورهم ، والله ـ عزوجل ـ مالك الكلّ ومتولّي أمورهم.

وقيل : المراد ـ هاهنا ـ المؤمنين خاصّة يردّون إلى مولاهم ، والكفّار فيه تبع.

قوله : (مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) صفتان لله عزوجل.

وقرأ الحسن (٤) ، والأعمش : «الحقّ» نصبا ، وفيه تأويلان :

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٢.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٥.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ١٥.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨٣ ، البحر المحيط ٤ / ١٥٣.

١٩٨

أظهرهما : أنه نعت مقطوع.

والثاني : أنه نعت مصدر محذوف ، أي : ردّوا الرّدّ الحقّ لا الباطل ، وقرىء (١) : ردّوا بكسر الرّاء ، وتقدّم تخريجها.

والضمير في «مولاهم» فيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنه للعباد في قوله : (فَوْقَ عِبادِهِ) ، فقوله : (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) التفات ؛ إذ الأصل : ويرسل عليهم ، وفائدة هذا الالتفات التّنبيه والإيقاظ.

والثاني : أنه يعود على الملائكة المعنيّين بقوله : «رسلنا» يعني أنهم يموتون كما يموت بنو آدم ، ويردّون إلى ربّهم كما تقدّم.

والثالث : أنه يعود على «أحد» في قوله : (جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) [الأنعام : ٦١] ؛ إذ المراد به الجمع لا الإفراد.

قوله : (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) ، أي : لا حكم إلّا لله ؛ لقوله : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) [يوسف: ٤٠] ، والمراد بالحكم القضاء (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) ، أي : حسابه يرفع لا يحتاج إلى فكر ورويّة ، واختلفوا في كيفية هذا الحساب (٢) ، فقيل : إنه ـ تعالى ـ يحاسب الخلق بنفسه دفعة واحدة لا يشغله كلام عن كلام.

وقيل : بل يأمر الله الملائكة أن يحاسب كلّ واحد منهم واحدا من العباد ؛ لأنه ـ تعالى ـ لو حاسب الكفّار بنفسه لتكلّم معهم ، وذلك باطل ؛ لقوله تعالى في صفة الكفّار (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

فصل في رد شبهة حدوث الكلام

احتجّ الجبّائي (٣) بهذه الآية على حدوث كلام الله.

قال : لو كان كلامه قديما لوجب أن يكون متكلما بالمحاسبة الآن ، وقبل خلقه ، وذلك محال ؛ لأن المحاسبة تقتضي حكاية عمل تقدّم.

وأجيب بالمعارضة بالعلم ، فإنه تعالى كان قبل المعلوم (٤) عالما بأنه سيوجد ، وبعد وجوده صار عالما بأنه وجد قبل ذلك ، ولم يلزم منه تغيّر العلم ، فلم لا يجوز مثله في الكلام. والله أعلم.

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ)(٦٤)

وهذا نوع آخر من الدلالة على كمال القدرة الإلهية ، وكمال الرحمة والفضل والإحسان.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨٣ ، البحر المحيط ٤ / ١٥٣.

(٢) ينظر : الرازي ١٣ / ١٦.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ١٦.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

١٩٩

وقرأ السبعة هذه (١) مشدّدة : (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ) [الأنعام : ٦٤] قرأها الكوفيون وهشام بن عامر عن ابن عامر مشددة كالأولى. وقرأ الثّنتين (٢) بالتخفيف من «أنجى» حميد بن قيس ، ويعقوب ، وعلي بن نصر عن أبي عمرو ، وتحصّل من ذلك أن الكوفيين وهشاما يثقلون في الموضعين ، وأن حميدا ومن معه يخفّفون فيهما ، وأن نافعا ، وابن كثير ، وأبا عمرو ، وابن ذكوان عن ابن عامر يثقّلون الأولى ، ويخفّفون الثانية ، والقراءات واضحة ، فإنها من : نجّى وأنجى ، فالتضعيف والهمزة كلاهما للتّعدية.

فالكوفيون وهشام التزموا التّعدية بالتضعيف ، وحميد وجماعته التزموها بالهمزة.

والباقون جمعوا بين التّعديتين جمعا بين اللّغتين كقوله تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) [الطارق : ١٧].

والاستفهام للتقرير والتّوبيخ ، وفي الكلام حذف مضاف ، أي : من مهالك ظلمات ، أو من مخاوفها ، والظلمات كناية عن الشدائد والأهوال إذا سافروا في البرّ والبحر.

قوله : «تدعونه» في محلّ نصب على الحال ، إما من مفعول «ينجيكم» ، وهو الظاهر ، أي : ينجيكم داعين إيّاه ، وإما من فاعله ، أي : مدعوّا من جهتكم.

قوله : (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) يجوز فيها وجهان :

أحدهما : أنهما مصدران في موضع الحال ، أي : تدعونه متضرّعين ومخفين.

والثاني : أنها مصدران من معنى العامل لا من لفظه كقولك : قعدت جلوسا.

وقرأ الجمهور (٣) : «خفية» بضم الخاء ، وقرأ (٤) أبو بكر بكسرها ، وهما لغتان ، كالعدوة والعدوة ، والأسوة والإسوة.

وقرأ الأعمش (٥) : «وخيفة» كالتي في «الأعراف» وهي من الخوف ، قلبت «الواو»

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨٤ ، الوسيط في تفسير القرآن المجيد ٢ / ٢٨٢ ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٥٥) ، السبعة ص (٢٥٩) ، النشر ٢ / ٢٥٩ ، التبيان ١ / ٥٠٤ ، الزجاج ٢ / ٢٨٣ ، الحجة لابن خالويه (١٤١) ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٥.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨٤ ، الوسيط ٢ / ١٨٢ ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٥٥) ، السبعة ص (٢٥٩) ، النشر ٢ / ٢٥٩ ، التبيان ١ / ٥٠٤ ، الزجاج ٢ / ٢٨٣ ، الحجة لابن خالويه ص (١٤١) ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٥.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨٤ ، البحر المحيط ٤ / ١٥٤ ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٥٥).

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨٤ ، البحر المحيط ٤ / ١٥٤ ، الوسيط ٢ / ٢٨٢ ، الفراء ١ / ٣٣٨ ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٥٥) ، السبعة ص (٢٥٩) ، النشر ٢ / ٢٥٩ ، التبيان ١ / ٥٠٤ ، الزجاج ٢ / ٢٨٤ ، الحجة لابن خالويه ص (١٤١) ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٦.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٥٤ ، الدر المصون ٣ / ٨٤ ، الوسيط ٢ / ٢٨٢ ، الفراء ١ / ٣٣٨ ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٥٥) ، السبعة ص (٢٥٩) ، النشر ٢ / ٢٥٩ ، التبيان ١ / ٥٠٤ ، الزجاج ٢ / ٢٨٤ ، الحجة لابن خالويه ص (١٤١) ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٦.

٢٠٠