اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٢

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأنعام

وهي مائة وستّون وخمس آيات ، وكلماتها ثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة ، وحروفها اثنا عشر ألفا وأربعمائة واثنان وعشرون حرفا.

نزلت ب «مكة» [المشرّفة](١) جملة ليلا ، معها سبعون ألف ملك ، قد سدّوا الخافقين لهم، وهلّ بالتّسبيح ، والتّحميد والتّمجيد ، فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سبحان ربّي العظيم سبحان ربّي العظيم [وبحمده الكريم](٢) وخرّ ساجدا (٣).

وروي عنه مرفوعا «من قرأ سورة الأنعام يصلّي عليه أولئك السّبعون ألف ملك ليله ونهاره»(٤).

وقال الكلبيّ ـ رحمه‌الله تعالى ـ : عن أبي صالح عن ابن عبّاس نزلت سورة الأنعام ب «مكة» إلّا قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١] إلى آخر ثلاث آيات ، وقوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) [الأنعام : ١٥١] إلى قوله تعالى : «تتّقون» (٥) فهذه السّتّ آيات مدنيّات.

وعن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما نزلت عليّ سورة من القرآن جملة واحدة

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه الطبري في «الكبير» كما في «مجمع الزوائد» (٧ / ٢٣) وقال الهيثمي رواه الطبراني عن شيخه محمد بن عبد الله بن عرس عن أحمد بن محمد بن أبي بكر السالمي ولم أعرفهما.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣) وزاد نسبته لأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في «شعب الإيمان» والسلفي في الطيوريات عن أنس بن مالك.

(٤) أخرجه الثعلبي في «تفسيره» كما في تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (١ / ٤٥٠ ـ ٤٥١) من طريق ابن عصمة عن زيد العمي عن أبي نضرة عن ابن عباس عن أبي بن كعب مرفوعا بلفظ : أنزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأ الأنعام صلى عليه واستغفر له السبعون ألف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوما وليلة. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» : وفيه أبو عصمة وهو متهم بالكذب.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٦ / ٢٤٦) وعزاه لقتادة وابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤) عن الكلبي وعزاه لأبي الشيخ.

٣

غير سورة الأنعام» (١) [وما جمعت الشياطين لسورة من القرآن جمعها لها ، ولقد بعث بها إليّ مع جبريل ـ عليه‌السلام ـ ومعه خمسون ملكا أو خمسون ألف ملك ترفعها أو تحفّها حتّى أقرّوها في صدري كما أقرّ ماء في الحوض ، ولقد أعزّني الله بها وإيّاكم بها عزّا لا يذلّنا بعده أبدا وبها دحض حجج المشركين وعد من الله لا يخلفه.

وعن المنكدر لما نزلت سورة «الأنعام» سبّح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : «لقد شيّع هذه السّورة من الملائكة ما سدّ الأفق».

قال الأصوليون : وسبب هذه الفضيلة أنها اشتملت على دلائل التّوحيد والنّبوّة والمعاد، وإبطال مذهب المبطلين والملحدين ، وذلك يدلّ على أن علم الأصول في غاية الرّفعة](٢).

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)(١)

قال كعب الأحبار ـ رضي الله عنه ـ : هذه الآية [الكريمة](٣) أوّل آية في التوراة (٤) ، وآخر آية في التوراة (٥) قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) [الإسراء : ١١١] الآية الكريمة (٦).

قال ابن عبّاس (٧) ـ رضي الله عنهما ـ : فتح الله بالحمد (٨) ، فقال : «الحمد الله الذي خلق السّماوات والأرض» ، وختمهم بالحمد ، فقال : «وقضى بينهم بالحقّ» ، وقيل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الزمر : ٧٥].

فقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فحمد الله نفسه تعليما لعباده ، أي : احمدوا الله الذي خلق السّموات والأرض خصهما بالذّكر ؛ لأنّهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد ، وفيهما العبرة والمنافع للعباد.

واعلم أنّ المدح أعمّ من الحمد ، والحمد أعمّ من الشكر ؛ لأنّ المدح يحصل للعاقل وغير العاقل ، فكما يمدح الرّجل العاقل بفضله ، كذلك يمدح اللّؤلؤ لحسن

__________________

(١) أخرجه أبو نعيم في «تاريخ أصفهان» (١ / ١٨٩) وللحديث شاهد عن أسماء بنت يزيد رواه الطبراني كما في «مجمع الزوائد» (٧ / ٢٣) وقال الهيثمي : وفيه شهر بن حوشب وهو ضعيف وقد وثق.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : التوبة.

(٥) في أ : التوبة.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٤٤) عن كعب الأحبار وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥) وزاد نسبته لابن الضريس في فضائل القرآن وابن المنذر وأبي الشيخ.

(٧) ذكره البغوي في تفسيره ٢ / ٨٣.

(٨) في ب : فتح الله الخلق بالحمد.

٤

شكله ، ولطافة خلقته ، ويمدح الياقوت لصفائه وصقالته.

وأمّا الحمد فلا يحصل إلّا للفاعل المختار على ما يصدر عنه من الإنعام ، وإنّما كون الحمد أعم من الشّكر ؛ فلأنّ الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام ، سواء كان ذلك الإنعام واصلا إليك أو إلى غيرك.

وأمّا الشّكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك ، وإذا عرف ذلك ، فإنّما لم يقل : المدح لله تبارك وتعالى لأنّا بيّنّا أنّ المدح كما يحصل للفاعل المختار ، فقد يحصل لغيره.

وأمّا الحمد فلا يحصل إلّا للفاعل المختار ، وإنّما لم يقل : «الشّكر لله» لما بيّنّا أنّ الشّكر عبارة عن تعظيم بسبب إنعام صدر منه ، فيكون المطلوب الأصلي ، وقبول النعمة إليه ، وهذه درجة حقيرة.

وقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) يدلّ على أنّ العبد حمده لأجل كونه مستحقا للحمد ، لا لخصوص كونه ـ تعالى ـ أوصل النّعمة إليه فيكون الإخلاص.

فصل في بيان لفظ الحمد

قوله : «الحمد» لفظ مفرد محلّى بالألف واللام ، فيفيد أنّ هذه الماهية لله ، وذلك يمنع من ثبوت الحمد لغير الله ، وهذا يقتضي أنّ جميع أقسام الحمد والثناء والتعظيم ليس إلّا لله تبارك وتعالى ، فإن قيل : إنّ شكر المنعم (١) واجب مثل شكر الأستاذ على

__________________

(١) لما بطل الحسن والقبح العقلي ، لزم منه امتناع وجوب شكر المنعم عقلا ، وامتناع حكم عقلي ، وهما قبل ورود الشرع مبنيان على ذلك ، غير أن عادة الأصوليين جارية بفرض الكلام في هاتين المسألتين ، إظهارا لما يختصّ بكل واحدة من الإشكال والمناقضة ، أو إظهارا لسقوط كلام المعتزلة في هاتين المسألتين بعد تسليم الحسد والقبح العقليين على ما هو مذكور في الكتب المشهورة.

واعلم أن الشكر عند الخصوم ليس عبارة عن قول القائل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أو «الشكر لله» ، وأمثالهما على ما يسبق إلى الأوهام ؛ فإن العقل لا يوجب النطق بلفظ دون آخر ، ولا على معرفة الله تعالى على ما يظنّ ؛ لأن الشكر هو فرع المعرفة ، بل هو عبارة عن صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه من السمع ، والبصر ، وسائر الجوارح ، وكذا التمكن والاقتدار على الكسب والمال إلى ما خلق لأجله ، وأعطاه لأجله ، كصرفه النظر إلى مصنوعاته ، والسمع إلى تلقي الإنذارات ، والذهن إلى فهم معانيها ، والمال إلى أسباب البقاء مدة العمر ، وعلى هذا القياس : فهذا معنى الشكر حيث جاء في كتابه الكريم ، ولهذا وصف الشاكرين بالقلة والمنعم المشكور هو الله المنعم ، والواجب ما يذم تاركه.

ومحل الخلاف : أن أصحابنا أهل السنة يذهبون إلى أن وجوب هذا الشكر مأخوذ من الأنبياء ، بناء على وجوب متابعتهم بعد ثبوت نبوتهم ، ولا يقوم عليه برهان عقلي ، والمعتزلة يذهبون إلى أن عليه برهانا عقليا ؛ حتى إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو نبهنا على هذه المسألة ، وهدانا إلى مقدماتها قبل الاعتراف بنبوته ، أو تنبهنا لها لحكم العقل بوجوبه بناء على البرهان العقلي.

ينظر : البحر المحيط للزركشي ١ / ١٤٩ ، البرهان لإمام الحرمين ١ / ٩٤ ، سلاسل الذهب للزركشي ـ

٥

تعليمه ، وشكر السلطان على عدله ، وشكر المحسن على إحسانه ، قال عليه الصلاة والسلام : «من لم يشكر النّاس لم يشكر الله» فالجواب (١) أنّ المحمود والمشكور في الحقيقة هو الله تعالى ؛ لأنّ صدور الإحسان من [قلب](٢) العبد يتوقف على حصول داعية الإحسان في قلب العبد ، وحصول تلك الدّاعية في القلب ليس من العبد ، وإلّا لافتقر في حصولها إلى داعية أخرى ، ولزم التّسلسل ، بل حصولها ليس إلّا من الله تعالى ، فتلك الدّاعية عند حصولها يجب الفعل ، وعند زوالها يمتنع الفعل فيكون المحسن في الحقيقة ليس إلّا الله تبارك وتعالى ، فيكون المستحقّ لكلّ حمد في الحقيقة هو الله تعالى (٣).

وأيضا فإنّ إحسان العبد إلى الغير لا يكمل إلّا بواسطة إحسان الله تعالى ؛ لأنّه لو لا أنّ الله ـ تعالى ـ خلق أنواع النّعم ، وإلّا لم يقدر الإنسان على إيصال تلك الحنطة والفواكه إلى الغير ، فظهر أنّه لا محسن في الحقيقة إلّا الله تعالى ، ولا مستحقّ للحمد في الحقيقة إلا الله ، فلهذا قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ).

فصل في بيان قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) بالألف واللام

وإنّما قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، ولم يقل : أحمد الله ؛ لأنّ الحمد صفة القلب ، فربّما احتاج الإنسان إلى أن يذكر هذه اللّفظة حال كونه غافلا بقلبه عند استحضار معنى الحمد ، فلو قال وقت غفلته : أحمد الله [تبارك وتعالى] كان كاذبا ، واستحقّ عليه الذّنب والعقاب حيث أخبر عن وجود شيء لم يوجد ، فإذا قال : الحمد لله ، فمعناه أنّ ماهيّة الحمد مستحقّة لله عزوجل ، وهذا حقّ وصدق ، سواء كان معنى الحمد حاضرا في قلبه ، أو لم يكن ، وكان هذا الكلام عبادة شريفة وطاعة ، وظهر الفرق ، والله أعلم (٤).

__________________

ـ ٩٩ ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ١ / ٨٣ ، نهاية السول للإسنوي ١ / ٢٦٣ ، منهاج العقول للبدخشي ١ / ١٥٧ ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ، التحصيل من المحصول للأرموي ١ / ١٨٤ ، المنخول للغزالي ١٤ ، المستصفى له ١ / ٦١ ، حاشية البناني ١ / ٦٠ ، الإبهاج لابن السبكي ١ / ١٣٩ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي ١ / ٩٧ ، حاشية العطار على جمع الجوامع ١ / ٨٥ ، تيسير التحرير لأمير بادشاه ٢ / ١٦٥ ، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى ١ / ٢١٦ ، الكوكب المنير للفتوحي ٩٨.

(١) في أ : والجواب.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١١٨ ـ ١١٩.

(٤) روي أنه تعالى أوحى إلى داود عليه‌السلام يأمره بالشكر ، فقال داود : يا رب ، وكيف أشكرك ، وشكري لك لا يحصل إلّا أن توفقني لشكرك ، وذلك التوفيق نعمة زائدة وإنها توجب الشكر لي أيضا ، وذلك يجر إلى ما لا نهاية له ، ولا طاقة لي بفعل ما لا نهاية له؟ فأوحى الله تعالى إلى داود : لما عرفت عجزك عن شكري فقد شكرتني.

إذا عرفت هذا فنقول : لو قال العبد : أحمد الله كان دعوى أنه أتى بالحمد والشكر ، فيتوجه عليه ذلك ـ

٦

فصل

هذه الكلمة مذكورة (١) في أوائل خمسة ، أوّلها سورة «الفاتحة» (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢].

وثانيها : هذه السورة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ١] والأول أعمّ ؛ لأنّ العالم عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى.

وقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) لا يدخل فيه إلّا خلق السماوات والأرض ، والظّلمات والنور ، ولا يدخل فيه سائر الكائنات ، فكان هذا بعض الأقسام الداخلة تحت التّحميد المذكور في سورة «الفاتحة».

وثالثها : سورة الكهف : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) [الكهف : ١].

وهذا أيضا تحميد مخصوص بنوع خاص من النعمة وهي نعمة العلم والمعرفة والهداية والقرآن ، وبالجملة النعم الحاصلة بسبب بعثة الرّسل عليهم الصلاة والسلام.

ورابعها : سورة «سبأ» : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [الآية : ١].

وهذا أيضا تحميد على كونه مالكا لكلّ ما في السّموات والأرض ، وهو قسم من الأقسام الدّاخلة في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وخامسها : سورة «فاطر» (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الآية ١].

وهو أيضا قسم من الأقسام الدّاخلة تحت قوله تبارك وتعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

فإن قيل : ما الفرق بين الخالق وبين الفاطر والرّبّ؟ وأيضا لم قال هاهنا : «خلق السّموات والأرض» بصيغة فعل الماضي ، وقال في سورة «فاطر» : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ) بصيغة اسم الفاعل؟.

فالجواب عن الأول ، أنّ الخلق عبارة عن التّقدير ، وهو في حقّ الله ـ تعالى ـ عبارة عن علمه النّافذ في جميع الكلّيات والجزئيات ، وأمّا كونه فاطرا فهو عبارة عن الإيجاد

__________________

ـ السؤال ، أما لو قال : الحمد لله ، فليس فيه ادعاء أن العبد أتى بالحمد والثناء ، بل ليس فيه إلّا أنه سبحانه مستحق للحمد والثناء ، سواء قدر على الإتيان بذلك الحمد أو لم يقدر عليه ، فظهر التفاوت بين هذين اللفظين من هذا الوجه.

وثالثها : أنه لو قال : أحمد الله ، كان ذلك مشعرا بأنه ذكر حمد نفسه ، ولم يذكر حمد غيره ، أما إذا قال : الحمد لله ، فقد دخل فيه حمده وحمد غيره من أول خلق العالم ، إلى آخر استقرار المكلفين في درجات الجنان ودركات النيران ، كما قال تعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] فكان هذا الكلام أفضل وأكمل. ينظر : الرازي ١٢ / ١٢٠.

(١) في أ : موجودة.

٧

والإبداع ، فكونه تعالى خالقا إشارة إلى صفة العلم ، وكونه فاطرا إشارة إلى صفة القدرة ، وكونه تعالى ربّا ومربيا مشتملا على الأمرين فكان ذلك أكمل.

وأمّا الجواب عن الثّاني ، فالحقّ أن الخلق عبارة عن التّقدير ، وهو في حقّ الله ـ تعالى ـ عبارة عن علمه بالمعلومات ، والعلم بالشيء يصحّ تقدّمه على وجود المعلوم ؛ لأنه لا يمكن أن يعلم الشيء قبل وجوده ، وأمّا إيجاد الشيء ، فإنّه لا يحصل إلّا حال وجوده (١).

فصل في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ)

قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فيه قولان :

الأول : المراد احمدوا الله ، وإنّما جاء على صفة الخبر لوجوه :

أحدها : أن قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) يفيد تعظيم (٢) اللفظ والمعنى ، ولو قال : «احمدوا» لم يحصل مجموع هاتين الفائدتين.

وثانيها : أنه يفيد كونه ـ تعالى ـ مستحقّا للحمد سواء حمده حامد أو لم يحمده.

وثالثها : أنّ المقصود منه ذكر الحجّة فذكره بصيغة الخبر أولى.

والقول الثاني : أن المراد منه تعليم العباد ، وهو قول أكثره المفسرين.

قوله : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) فيه ثلاث سؤالات (٣) :

السؤال الأول : قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) جار مجرى قولك: «جاءني الرّجل الفقيه» فإن هذا يدلّ على وجود رجل آخر ليس بفقيه ، وإلّا لم يكن لذكر ذلك فائدة ، وكذا هاهنا قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) يوهم أن هناك إلها لم يخلق السماوات والأرض ، وإلّا فأيّ فائدة (٤) في ذكر هذه الصّفة.

والجواب : أنا بيّنّا أن قوله : «الله» جار مجرى اسم العلم ، فإذا ذكر الوصف لاسم العلم لم يكن المقصود من ذكر الوصف التمييز ، بل تعريف كون ذلك المسمّى موصوفا بتلك الصّفة.

مثاله : إذا قلنا : الرّجل اسم للماهيّة ، فيتناول الأشخاص الكثيرين ، فكان المقصود هاهنا من ذكر الوصف تمييز هذا الرجل عن سائر الرجال بهذه الصفة.

أمّا إذا قلنا : زيد العالم ، فلفظ «زيد» اسم علم ، وهو لا يفيد إلا (٥) هذه الذّات المعيّنة ؛ لأنّ أسماء الأعلام قائمة مقام الإشارات ، فإذا وصفناه بالعلمية (٦) امتنع أن يكون المقصود منه تمييز ذلك الشخص عن غيره ، بل المقصود منه تعريف كون ذلك المسمى

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٢ / ١٢١.

(٢) في الرازي ١٢ / ١٢١ : تعليم.

(٣) في ب : أسئلة.

(٤) في ب : حاجة.

(٥) سقط في ب.

(٦) في أ : بالعالم.

٨

موصوفا بهذه الصفة ولما كان لفظ «الله» من باب أسماء الأعلام لا جرم كان الأمر على ما ذكرناه.

السؤال الثاني : لم قدّم «السّماء» على «الأرض» مع أنّ ظاهر التنزيل (١) يدلّ على أنّ خلق الأرض مقدّم على خلق السماء.

فالجواب : أنّ السّماء كالدّائرة ، والأرض كالمركز ، وحصول الدّائرة يوجب تعيين المركز ، ولا ينعكس ، فإنّ حصول المركز لا يوجب تعيين الدّائرة لإمكان أن يحيط بالمركز الواحد دوائر لا نهاية لها ، فلمّا تقدّمت السماء على الأرض بهذا الاعتبار ، وجب تقديم ذكر السماء على الأرض ، وعلى قول من قال : إنّ السماوات مخلوقة قبل الأرض ، وهو قول قتادة ، فالسّؤال زائد.

السؤال الثالث : لم ذكر السماء بصيغة الجمع ، والأرض بصيغة الواحد ، مع أنّ الأرضين

أيضا كثيرة لقوله : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق : ١٢]؟.

فالجواب : أنّ السّماء جارية مجرى الفاعل ، والأرض مجرى القابل ، فلو كانت السّماء واحدة لتشابه الأمر ، وذلك يخلّ بمصالح هذا العالم ، فإذا كانت كثيرة اختلفت الاتّصالات الكوكبيّة ، فحصل بسببها الفصول الأربعة ، وسائر الأحوال المختلفة ، وحصل بسبب تلك الاختلافات مصالح [هذا](٢) العالم.

أمّا الأرض فهي قابلة للأثر ، والقابل الواحد كاف في القبول (٣).

قوله (٤) : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ).

«جعل» هنا تتعدّى لمفعول واحد ؛ لأنها بمعنى «خلق» ، هكذا عبارة النحويين ، ظاهرها أنهما مترادفان ، إلّا أنّ الزّمخشريّ فرّق بينهما فقال (٥) : «والفرق بين الخلق والجعل أنّ الخلق فيه معنى التقدير ، وفي الجعل معنى التّصيير كإنشاء شيء من شيء أو تصيير شيء شيئا ، أو نقله من مكان إلى مكان ، ومن ذلك (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [الأعراف : ١٨٩] ، (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ؛ لأنّ الظّلمات من الأجرام المتكاثفة ، والنّور من النّار».

وقال الطّبريّ (٦) : «جعل» هنا هي التي تتصرّف في طرف الكلام ، كما تقول : «جعلت أفعل كذا».

فكأنه قال : «جعل إظلامها وإنارتها» ، وهذا لا يشبه كلام أهل اللسان (٧) ، ولكونها

__________________

(١) في أ : التأويل.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : الرازي ١٢ / ١٢٣.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٧٣.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٣.

(٦) ينظر : الطبري ٥ / ١٤٣ ، والدر المصون ٣ / ٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٧٣.

(٧) فى أالبيان.

٩

عند الزمخشري ليست بمعنى «خلق» فسّرها هنا بمعنى «أحدث» و «أنشأ».

وكذا الراغب جعلها بمعنى «أوجد».

ثم إنّ أبا حيّان (١) اعترض عليه هنا لمّا استطرد ، وذكر أنها تكون بمعنى صيّر ومثل بقوله : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩]. فقال وما ذكر من أن جعل بمعنى صيّر في قوله (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ) [الزخرف : ١٩] لا يصحّ ؛ لأنهم لم يصيّروهم إناثا ، وإنما ذكر بعض النحويين أنها هنا بمعنى «سمّى».

قال شهاب الدين (٢) : ليس المراد بالتصيير التصيير بالفعل ، بل المراد التصيير بالقول ، وقد نصّ الزمخشري على ذلك ، على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى ، وقد ظهر (٣) الفرق بين (٤) تخصيص السّموات والأرض بالخلق ، والظّلمات والنور بالجعل بما (٥) ذكره (٦) الزمخشري.

فصل

قال أبو العباس المقري : ورد لفظ الجعل في القرآن على خمسة أوجه :

الأول : بمعنى «خلق» قال تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ، وقوله (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) [فصلت : ١٠] ، وقوله : (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) [الفرقان : ٦٢].

والثاني : بمعنى «بعث» قال تعالى : (وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) [الفرقان : ٣٥].

والثالث : بمعنى «قدره» قال تعالى : (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) [الزمر : ٨] وقوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩] وقوله تعالى : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) [فصلت : ٩] أي : تقولون.

الرابع : بمعنى «بيّن» قال تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الزخرف : ٣] أي : بيّنّاه بحلاله وحرامه.

الخامس : بمعنى «صيّر» قال تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) [الإسراء : ٤٦] أي : صيرنا ، وقوله : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) [التوبة : ١٩] ، وقوله : (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ) [النمل : ٦١] ، وقوله : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ)(٧) [يس : ٨].

فإن قيل (٨) : لم وحّد النّور ، وجمع الظّلمات؟ فالجواب من وجوه :

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٧٣.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣.

(٣) في أ : ذكر.

(٤) في أ : في.

(٥) في ب : مما.

(٦) في أ : قاله.

(٧) سقط في أ.

(٨) ينظر : الرازي ١٢ / ١٢٥.

١٠

أحدها : إن قلنا : إنّ الظّلمات هي الكفر ، والنّور هو الإيمان فظاهر ؛ لأنّ الحقّ واحد ، والباطل كثير.

وإن قلنا : إنّ الظّلمة الكيفية المحسوسة ، فالنّور [عبارة](١) عن تلك الكيفيّة الكاملة القويّة وكذلك الظّلمة الكاملة القوية (٢) ، ثمّ إنّها تقبل التّناقص قليلا [قليلا](٣) وتلك المراتب كثيرة ، فلهذا عبّر عن الظّلمات (٤) بصيغة الجمع.

وثانيها (٥) : أنّ النّور من جنس واحد ، وهو النار (٦) ، والظّلمات كثيرة ، فإنّ ما من جرم إلّا وله ظلّ وظلمة.

وثالثها : أنّ الصّلة التي قبلها تقدّم فيها جمع ثمّ مفرد ، فعطفت هذه عليها (٧) كذلك ، وقد تقدّم في «البقرة» (٨) الحكمة في جمع السماوات ، وإفراد الأرض.

فإن قيل (٩) : لم قدّمت الظّلمات [على النور](١٠) في الذكر؟.

فالجواب : لأنه (١١) موافق في الموجود ؛ إذا الظّلمة قبل النّور عند الجمهور.

فصل في المراد بالظلمات والنور

قال الواقدي : كلّ ما في القرآن من الظّلمات والنّور هو الكفر والإيمان ، إلّا في هذه الآية ، فإنّه يريد به اللّيل والنّهار.

وقال الحسن : المراد الكفر والإيمان (١٢).

ونقل الواحدي عن ابن عبّاس معناه.

وقيل : المراد بالظّلمات الجهل ، وبالنّور العلم.

وقال قتادة : يعني الجنّة والنّار (١٣).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : البقية القوية.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : المراتب.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣.

(٦) في أ : النور.

(٧) في أ : شكرها.

(٨) آية رقم (١٦).

(٩) ينظر : الرازي ١٢ / ١٢٥ ، والدر المصون ٣ / ٣ ، ٤.

(١٠) سقط في أ.

(١١) في أ : أنه.

(١٢) قال ابن عطية : وهذا خروج عن الظاهر.

قال القرطبي : اللفظ يعمه ؛ وفي التنزيل : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) [الأنعام : ١٢٢]. والأرض هنا : اسم للجنس ، فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها ؛ وكذلك «والنور» ، ومثله : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر : ٦٧] وقال الشاعر :

كلوا في بعض بطنكم تعفّوا

وقد تقدّم. وجعل هنا بمعنى : خلق لا يجوز غيره ؛ قال ابن عطية. ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٢٤٩.

(١٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٤٣) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

١١

وقيل : معناها (١) خلق السماوات والأرض ، وقد جعل الظلمات والنّور ؛ لأنه خلق الظّلمة والنّور قبل السماوات والأرض.

قال قتادة : خلق الله السّموات قبل الأرض ، وخلق الظّلمة قبل النّور ، والجنّة قبل النّار (٢).

وروى عبد الله بن عمرو بن العاص أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله خلق خلقه في ظلمة ، ثمّ ألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النّور اهتدى ، ومن أخطأه ضلّ» (٣).

قوله تعالى : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)

«ثمّ» هذه ليست للتّرتيب الزّماني ، وإنّما هي للتّراخي بين الرّتبتين (٤) ، والمراد استبعاد أن يعدلوا به غيره مع ما أوضح من الدّلالات ، وهذه عطف : إمّا على قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، وإمّا على قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ)(٥).

قال الزمخشري (٦) : «فإن قلت : فما معنى «ثم»؟ قلت : استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته ، وكذلك (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) استبعاد لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنّه محييهم ، ومميتهم وباعثهم».

وقال ابن عطية (٧) : «ثمّ» دالّة على قبح فعل الذين كفروا ، فإنّ خلقه للسموات والأرض وغيرهما قد تقرّر ، وآياته قد سطعت ، وإنعامه بذلك قد تبيّن ، ثمّ مع هذا كلّه يعدلون به غيره.

قال أبو حيّان (٨) : ما قالاه من أنّها للتّوبيخ والاستبعاد ليس بصحيح ؛ لأنها لم توضع (٩) لذلك ، والاستبعاد والتّوبيخ مستفاد من السّياق لا من «ثمّ» ، ولم أعلم أحدا من النحويين ذكر ذلك ، بل «ثمّ» هنا للمهلة في الزّمان ، وهي عاطفة جملة اسمية [على جملة اسمية](١٠) يعني على (الْحَمْدُ لِلَّهِ).

ثمّ اعترض على الزمخشري في تجويزه (١١) أن تكون معطوفة على «خلق» [لأنّ

__________________

(١) في ب : معنى الآية.

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه الترمذي (٢٦٤٤) وأحمد (٢ / ١٩٧) والحاكم (١ / ٣٠ ـ ٣١) والطيالسي (٥٧ ـ منحة) وابن حبان (١٨١٢ ـ موارد) من حديث عبد الله بن عمرو.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن.

وقال الحاكم : «هذا حديث صحيح قد تداوله الأئمة وقد احتجّا بجميع رواته ثم لم يخرجاه ولا أعلم له علة» ووافقه الذهبي.

(٤) في ب : التريبين.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤.

(٦) ينظر : الكشاف ٢ / ٤.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٦٦ ، والبحر المحيط ٤ / ٧٣.

(٨) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٧٤.

(٩) في ب : توضح.

(١٠) سقط في ب.

(١١) في ب : تجوزه.

١٢

«خلق»](١) صلة ، فالمعطوف عليها يعطى حكمها ، ولكن ليس ثم رابط (٢) يعود [منها](٣) على الموصول.

ثمّ قال : «إلّا أن يكون على رأي من يرى الرّبط بالظّاهر كقولهم : «أبو سعيد الذي رويت عن الخدري» وهو قليل جدا لا ينبغي أن يحمل عليه كتاب الله».

قال شهاب الدين (٤) : إنّ الزمخشري إنّما يريد العطف ب «ثم» لتراخي ما بين الرتبتين ، ولا يريد التّراخي في الزّمان كما قد (٥) صرّح به هو ، فكيف يلزمه ما ذكر من الخلوّ عن الرابط؟.

وكيف يتخيل (٦) كونها للمهلة (٧) في الزمان كما ذكر أبو حيان (٨).

قوله : (٩) «بربّهم» يجوز أن يتعلّق ب «كفروا» ، فيكون «يعدلون» بمعنى يميلون عنه ، من العدول ، ولا مفعول له حينئذ ، ويجوز أن يتعلّق ب «يعدلون» وقدّم للفواصل ، وفي «الباء» حينئذ احتمالان :

أحدهما : أن تكون بمعنى «عن» و «يعدلون» من العدول أي : يعدلون عن ربهم إلى غيره.

والثاني : أنها للتعدية ويعدلون من العدل وهو التسوية بين الشّيئين ، أي : ثمّ الذين كفروا يسوون (١٠) بربّهم غيره من المخلوقين ، فيكون المفعول محذوفا.

وقيل معنى الآية كقول القائل «أنعمت عليكم بكذا ، وتفضّلت عليكم بكذا ، ثم تكفرون نعمتي».

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ)(٢)

اعلم أنّ هذا الكلام يحتمل أن يكون المراد منه ذكر دليل آخر من دلائل إثبات الصانع سبحانه وتعالى ، ويحتمل أن يكون المراد منه ذكر الدليل على صحة المعاد وصحة الحشر.

أمّا الأول فتقريره : أنّه ـ تعالى ـ لمّا استدلّ بخلقه السّموات وتعاقب الظّلمات والنّور على وجود الصّانع الحكيم أتبعه بالاستدلال بخلقه الإنسان على إثبات هذا المطلوب ، فقال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) ، والمراد منه خلق آدم [لأن آدم

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : ترابط.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : يحتمل.

(٧) في أ : للمهملة.

(٨) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٧٤.

(٩) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤.

(١٠) في ب : يساوون.

١٣

خلق](١) من طين ، وهو أبو البشر ، ويحتمل أنّ [يكون](٢) المراد كون الإنسان مخلوقا من المنيّ ، ومن دم الطّمث ، وهما يتولدان من الدّم ، والدّم إنّما يتولّد من الأغذية [والأغذية](٣) إمّا حيوانية أو نباتيّة ، فإن كانت حيوانيّة كان الحال في [كيفية](٤) تولّد ذلك [الحيوان كالحال في كيفية تولّد الإنسان مخلوفا من الأغذية النباتية ، ولا شك أنها متولّدة من الطين ، فثبت أن كل إنسان متولد من الطين.

إذا عرفت هذا فنقول : هذا الطّين قد تولّدت النّطفة منه بهذا الطريق المذكور.

ثم تولّد من النّطفة أنواع الأعضاء المختلفة في الصّفة ، والصورة ، واللون ، والشكل](٥) مثل القلب والدّماغ والكبد ، وأنواع الأعضاء البسيطة كالعظام والغضاريف والرّباطات والأوتار تولد الصفات المختلفة في المادة المتشابهة ، وذلك لا يمكن إلّا بتقدير مقدّر حكيم.

وإن قلنا : المقصود من هذا الكلام تقرير أمر المعاد ، فلأن خلق بدن الإنسان وترتيبه على هذه الصفات المختلفة إنّما حصل بقدرة فاعل حكيم ، وتلك الحكمة والقدرة (٦) باقية بعد موت الحيوان ، فيكون قادرا على إعادتها وإعادة الحياة فيها ؛ لأنّ القادر على إيجادها من العدم قادر على إعادتها بطريق الأولى (٧).

قوله (٨) : (مِنْ طِينٍ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنه متعلّق ب «خلقكم» ، و «من» لابتداء الغاية.

والثاني : أنّه متعلّق بمحذوف على أنه حال ، وهل يحتاج في هذا الكلام إلى حذف مضاف أم لا؟ فيه خلاف.

ذهب [جماعة](٩) كالمهدويّ ومكي ، إلى أنه لا حذف ، وأنّ الإنسان مخلوق من الطين.

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مولود يولد إلّا ويذرّ على النّطفة من تراب حفرته»(١٠).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في أ.

(٦) في ب : المقدرة.

(٧) ينظر : الرازي ١٢ / ١٢٦ ـ ١٢٧.

(٨) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤.

(٩) سقط في ب.

(١٠) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (٢ / ٢٨٠) من طريق أبي عاصم عن ابن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعا.

وقال أبو نعيم : هذا حديث غريب من حديث ابن عون عن محمد لم نكتبه إلّا من حديث أبي عاصم النبيل عنه وهو أحد الثقات الأعلام من أهل البصرة.

١٤

وقيل : إنّ النّطفة أصلها الطّين كما تقدّم.

وقال أكثر المفسّرين : ثمّ محذوف ، أي : خلق أصلكم أو أباكم من طين ، يعنون آدم وقصّته مشهورة.

وقال امرؤ القيس : [الوافر]

٢١٠٢ ـ إلى عرق الثّرى رسخت عروقي

وهذا الموت يسلبني شبابي (١)

قالوا : أراد بعرق الثّرى آدم عليه الصلاة والسلام لأنّه أصله.

فصل في بيان معنى (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ)

قوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) [يعني أباكم](٢) آدم خاطبهم به ، إذ كانوا من ولده.

قال السّديّ (٣) : بعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطائفة منها ، فقالت الأرض : إنّي أعوذ بالله منك أن تنقض مني ، فرجع جبريل ، ولم يأخذ ، قال يا ربّ : إنّها عاذت بك ، فبعث ميكائيل فاستعاذت ، فرجع ، فبعث ملك الموت ، فعاذت منه بالله ، فقال : وأنا أعوذ بالله أن أخالف أمره فأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء فلذلك اختلف ألوان بني آدم ، ثمّ عجنها بالماء العذب والملح والمرّ ، فلذلك اختلفت أخلاقهم ، فقال الله لملك الموت : «رحم جبريل وميكائيل الأرض ، ولم ترحمهما لا جرم أجعل أرواح من خلق من هذا الطّين بيدك».

وروي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ : «خلق الله آدم من تراب ، وجعله طينا ، ثمّ تركه حتّى كان حمأ مسنونا ، ثمّ خلقه وصوّره وتركه حتّى كان صلصالا كالفخّار ، ثمّ نفخ فيه روحه» (٤).

قال القرطبي (٥) : عن سعيد بن جبير قال : «خلق الله آدم من (٦) أرض يقال لها دجناء».

قال الحسن (٧) : «وخلق جؤجؤه من ضريّة»

قال الجوهري (٨) : «ضريّة» قرية لبني كلاب على طريق «البصرة» ، وهي إلى «مكة» أقرب.

وعن ابن مسعود قال : إنّ الله بعث إبليس ، فأخذ من أديم (٩) الأرض من عذبها

__________________

(١) ينظر : ديوانه (٤٣) ، والبحر ٤ / ٧٥ شرح المفضليات ١ / ١٦٥ ، اللسان (وشج) الدر المصون ٣ / ٤.

(٢) سقط في أ.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٢٥٠.

(٦) في ب : بين.

(٧) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٢٥٠.

(٨) ينظر : الصحاح ٩ / ٢٤٠٩ ، القرطبي ٦ / ٢٥٠.

(٩) في أ : أدم.

١٥

وملحها ، فخلق منه آدم عليه الصلاة والسلام فكلّ شيء خلقه من عذبها ، فهو صائر إلى الجنّة ، وإن كان ابن كافر ، وكلّ شيء خلقه من ملحها فهو صائر إلى النّار وإن كان ابن تقي ؛ فمن ثمّ قال إبليس : (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) [الإسراء : ٦١] ؛ لأنّه جاء بالطينة ؛ فسمي آدم ، لأنه خلق من أديم الأرض.

وعن عبد الله بن سلام قال : خلق الله آدم في آخر يوم الجمعة (١).

وعن عبد الله بن عباس قال : «لمّا خلق الله آدم كان رأسه يمسّ السماء ـ قال ـ فوطده إلى الأرض حتّى صار ستّين ذراعا في سبعة أذرع عرضا».

وعن ابن عباس (٢) ـ رضي الله عنهما ـ في حديث فيه طول : وحجّ آدم ـ عليه‌السلام ـ من «الهند» أربعين حجّة على رجليه ، وكان آدم حين أهبط تمسح رأسه السّماء فمن ثمّ صلع ، وأورث ولده الصّلع ، ونفرت من طوله دواب الأرض ، فصارت وحشا من يومئذ ، ولم يمت حتّى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا وتوفي على ثور (٣) الجبل الذي أنزل ؛ فقال شيث لجبريل : «صلّ على آدم» فقال له جبريل : تقدّم أنت فصلّ على أبيك كبر عليه ثلاثين تكبيرة ، فأما خمس فهي الصلاة ، وخمس وعشرون تفضيلا لآدم.

وقيل : وكبّر عليه أربعا ؛ فجعل بنو شيث آدم (٤) في مغارة ، وجعلوا عليها حافظا لا يقربه أحد من بني قابيل ، وكان الذين يأتونه ويستغفرون له «بنو شيث» وكان عمر آدم تسعمائة سنة وستا وثلاثين سنة.

قوله : (ثُمَّ قَضى) إذا كان «قضى» بمعنى أظهر ف «ثمّ» للترتيب الزماني على أصلها ؛ لأنّ ذلك متأخرّ عن خلقنا ، وهي صفة فعل ، وإن كان بمعنى «كتب» و «قدّر» فهي للترتيب في الذّكر ؛ لأنّها صفة ذات ، وذلك مقدّم على خلقنا (٥).

قوله : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) مبتدأ وخبر ، وسوّغ الابتداء هنا شيئان :

أحدهما : وصفه ، كقوله : (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ) [البقرة : ٢٢١].

والثاني : عطفه ب «ثمّ» والعطف من المسوّغات.

قال الشاعر : [البسيط]

٢١٠٣ ـ عندي اصطبار وشكوى عند قاتلتي

فهل بأعجب من هذا امرؤ سمعا؟ (٦)

والتنكير في الأجلين للإبهام ، وهنا مسوّغ آخر ، وهو التفصيل كقوله : [الطويل]

٢١٠٤ ـ إذا ما بكى من خلفها انصرفت له

بشقّ وشقّ عندنا لم يحوّل (٧)

__________________

(١) ينظر : القرطبي ٦ / ٢٥٠.

(٢) تقدم.

(٣) في القرطبي ٦ / ٢٥٠ (ذروة).

(٤) في أ : فوضع شيث آدم.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤ ، البحر المحيط ٤ / ٧٥.

(٦) تقدم.

(٧) تقدم.

١٦

ولم يجب هنا تقديم الخبر إن كان المبتدأ نكرة ، والخبر ظرفا ، قال الزمخشري (١) : «لأنّه تخصّص بالصفة فقارب (٢) المعرفة».

قال أبو حيّان (٣) : «وهذا الذي ذكر من كونه مسوّغا للابتداء بالنكرة لكونها وصفت لا تتعيّن ، لجواز أن يكون المسوّغ التفصيل» ثمّ أنشد البيت :

٢١٠٥ ـ إذا ما بكى ..........

 .......... (٤)

قال شهاب الدين (٥) : والزمخشري لم يقل : إنّه تعيّن ذلك حتّى يلزمه به ، وإنّما ذكر أشهر المسوّغات فإنّ العطف والتفصيل قلّ من يذكرهما في المسوّغات.

قال الزمخشري (٦) : «فإن قلت : الكلام السّائر أن يقال : «عندي ثوب جيّد ، ولي عبد كيّس» فما أوجب التقديم؟.

قلت : أوجبه أنّ المعنى : وأيّ أجل مسمى عنده ، تعظيما لشأن الساعة ، فلمّا جرى فيها هذا المعنى أوجب التقديم».

قال أبو حيان (٧) : وهذا لا يجوز ؛ لأنه إذا كان التقدير : وأيّ أجل مسمى عنده كانت «أي» صفة لموصوف محذوف تقديره : وأجل أي أجل مسمى عنده ولا يجوز حذف الصفة إذا كانت «أيّا» ولا حذف موصوفها وإبقاؤها.

لو قلت : «مررت بأيّ رجل» تريد برجل أيّ رجل لم يجز.

قال شهاب الدين (٨) : ولم أدر كيف يؤاخذ من فسّر معنى بلفظ لم يدّع أن ذلك اللّفظ هو أصل كلام المفسر ، بل قال : معناه كيت وكيت؟ فكيف يلزمه أن يكون ذلك الكلام الذي فسّر به هو أصل ذلك المفسّر؟ على أنّه قد ورد حذف موصوف «أيّ» وإبقاؤها كقوله : [المتقارب]

٢١٠٦ ـ إذا حارب الحجّاج أيّ منافق

علاه بسيف كلّما هزّ يقطع (٩)

قوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) قد تقدّم الكلام على «ثمّ» هذه. و «تمترون» تفتعون من المرية ، وتقدّم معناها في «البقرة» عند قوله : (مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [البقرة : ١٤٧].

وجعل أبو حيّان (١٠) هذا من باب الالتفات ، أعني قوله : (خَلَقَكُمْ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) ، يعني أنّ قوله : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) غائب ، فالتفت عنه إلى قوله : «خلقكم ثمّ أنتم» ، ثمّ كأنّه اعترض على نفسه بأنّ خلقكم وقضاء الأجل لا يختصّ به الكفّار ، بل المؤمنون مثلهم في ذلك.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٧٦.

(٢) في ب : فقابل.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٧٦.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤.

(٦) ينظر : الكشاف ٢ / ٥ ، والبحر المحيط ٤ / ٧٦.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٧٧.

(٨) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥.

(٩) تقدم.

(١٠) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٧٧ ، والدر ٢ / ٥.

١٧

وأجاب بأنّه إنّما قصد الكفّار تنبيها لهم على خلقه لهم وقدرته وقضائه لآجالهم.

قال : «وإنّما جعلته من الالتفات ؛ لأن هذا الخطاب ، وهو (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) لا يمكن أن يندرج فيه من اصطفاه الله تعالى بالنبوّة والإيمان (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) مسمّو ؛ لأنه من مادة الاسم ، وقد تقدّم ذلك (١) ، فقلبت الواو ياء ، ثم الياء ألفا».

وتمترون أصله (٢) «تمتريون» فأعلّ كنظائره.

فصل في معنى «قضى»

والقضاء قد يرد بمعنى الحكم ، والأمر قال تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] ، وبمعنى [الخبر والإعلام ، قال تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) [الإسراء : ٤] وبمعنى صفة الفعل إذا تمّ ، قال تعالى :](٣)(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [فصلت: ١٢] ومنه قولهم : «قضى فلان حاجة فلان».

وأمّا الأجل فهو في اللّغة عبارة عن الوقت المضروب لانقضاء المدّة ، وأجل الإنسان هو المؤقت المضروب ؛ لانقضاء عمره.

وأجل الدّين : محلّه لانقضاء التأخير فيه ، وأصله من التّأخير يقال : أجل الشّيء يأجل أجولا وهو آجل إذا تأخّر ، والآجل نقيض العاجل ، وإذا عرف هذا فقوله : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) معناه : أنّه ـ تعالى ـ خصّص موت كلّ واحد بوقت معيّن ، (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) قال الحسن ، وقتادة ، والضحّاك : الأجل الأوّل من الولادة إلى الموت. والأجل الثاني : من الموت إلى البعث ، وهو البرزخ (٤) وروي ذلك عن ابن عبّاس ، وقال : لكلّ أحد أجلان أجل من الولادة إلى الموت أدنى ، وأجل من الموت إلى البعث ، فإن كان برّا تقيا وصولا للرّحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر ، فإن كان بالعكس قاطعا للرّحم نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث مخافة (٥).

[وقال مجاهد](٦) وسعيد بن جبير : الأجل الأوّل أجل الدنيا ، والثّاني أجل الآخرة (٧).

وقال عطية عن ابن عبّاس : الأجل الأوّل : النّوم ، والثاني : الموت (٨). وقال أبو

__________________

(١) ينظر الكلام على التسمية في أول المصحف.

(٢) في ب : وأصل تمترون.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٤٦) عن قتادة والضحاك.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٧٦.

(٦) سقط في أ.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٤٧) عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والحسن.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٤٧) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٧) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

١٨

مسلم : المراد بالأجل الأوّل : آجال الماضين من الخلق وقوله : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) : المراد منه آجال الباقين ، فخصّ هذا الأجل الثاني ، بكونه مسمّى عنده ؛ لأن الماضين لما ماتوا صارت آجالهم معلومة ، فلهذا المعنى قال : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) وقيل : الأجل الأوّل : الموت ، والأجل المسمّى عند الله تعالى هو أجل القيامة (١) لأن مدّة حياتهم (٢) في الآخرة ، لا آخر لها ولا انقضاء ، ولا يعلم أحد (٣) كيفية الحال في هذا الأجل إلّا الله تعالى.

وقيل : الأجل الأوّل مقدار ما يقضى (٤) من عمر كلّ واحد ، والثاني : مقدار ما بقي من عمر كلّ أحد (٥).

وقيل : هما واحد ـ يعني «جعل لأعماركم مدّة تنتهون (٦) إليها» (٧).

وقوله : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) يعني : وهو أجل مسمّى عنده لا يعلمه غيره. قال حكماء الإسلام (٨) : إنّ لكل إنسان أجلين :

أحدهما : الطبيعي.

والثاني : الآجال الاختراميّة ، فالطّبيعيّ هو الذي لو بقي ذلك المزاج مصونا من العوارض الخارجية ، لانتهت مدّة بقائه إلى الأوقات الفلانية ، وأمّا الآجال الاخترامية فهي التي تحصل بسبب من الأسباب الخارجية كالغرق ، والحرق ، ولدغ الحشرات وغيرها من الأمور المعضلة.

وقوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) أي : تشكّون في البعث.

وقيل : تمترون في صحة التوحيد (٩).

قوله تعالى : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) (٣)

اعلم أنّا إذا قلنا : المراد من الآية المتقدّمة إقامة الدليل على وجود الصّانع القادر المختار ، فالمراد من هذه الآية إقامة الدليل على كونه عالما بجميع المعلومات ؛ لأنها تدلّ على كمال العلم.

وإن قلنا : المراد من الآية المتقدّمة إقامة الدليل على صحّة المعاد ، فالمقصود من هذه الآية تكميل (١٠) ذلك البيان ؛ لأنّ منكري المعاد إنّما ينكرونه لأمرين :

__________________

(١) في أ : البعث.

(٢) في أ : كونهم.

(٣) في أ : آدم.

(٤) في ب : انقضى.

(٥) في ب : واحد.

(٦) في أ : بينهم.

(٧) ينظر : الرازي ١٢ / ١٢٧.

(٨) ينظر : السابق ١٢ / ١٢٧ ، والبحر المحيط ٤ / ٧٦.

(٩) ينظر : الرازي ١٢ / ١٢٨.

(١٠) في ب : تكمل.

١٩

أحدهما : أنّهم يعتقدون أنّ المؤثّر في حدوث بدن الإنسان هو امتزاج الطّبائع ، وإن سلّموا كون المؤثّر فيه قادرا مختارا ، فإنّهم يقولون : إنّه [غير](١) عالم بالجزئيات ، فلا يمكنه تمييز المطيع من العاصي ، ولا تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو (٢).

قوله : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ) في هذه الآية أقوال كثيرة ، وقد لخصّت في اثني عشر وجها (٣) ؛ وذلك أن «هو» فيه قولان :

أحدهما : هو ضمير اسم الله ـ تعالى ـ يعود على ما عادت عليه الضّمائر قبله.

الثاني : أنّه ضمير القصّة ، قاله أبو عليّ.

قال أبو حيّان (٤) : وإنّما فرّ إلى هذا ؛ لأنه لو أعاده على الله لصار التقدير : الله الله ، فتركّب الكلام من اسمين متّحدين لفظا ومعنى لا نسبة بينهما إسنادية.

قال شهاب الدين (٥) : الضّمير إنما هو عائد على ما تقدّم من الموصوف بتلك الصّفات الجليلة ، وهي خلق السّموات والأرض ، وجعل الظّلمات والنّور ، وخلق النّاس من طين إلى آخرها ، فصار في الإخبار بذلك فائدة من غير شكّ ، فعلى قول الجمهور يكون «هو» مبتدأ ، و «الله» خبره ، و (فِي السَّماواتِ) متعلّق بنفس الجلالة لمّا تضمّنته من معنى العبادة ، كأنّه قيل : وهو المعبود في السّموات ، وهذا قول الزّجّاج (٦) ، وابن عطيّة (٧) ، والزمخشري (٨).

قال الزّمخشري : (فِي السَّماواتِ) متعلّق بمعنى اسم الله ، كأنّه قيل : هو المعبود فيها ، ومنه : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف : ٨٤] أو هو المعروف بالإلهية والمتوحد بالإلهيّة فيها ، أو هو الذي يقال له «الله» [لا يشركه في هذا الاسم غيره.

وقال شهاب الدين (٩) : إنما قال : أو هو المعروف ، أو هو الذي يقال له : الله ؛](١٠) لأنّ هذا الاسم الشّريف تقدّم فيه خلاف ، هل هو مشتقّ أو لا (١١)؟ فإن كان مشتقا ظهر تعلّق الجارّ به ، وإن كان ليس بمشتقّ ، فإمّا أن يكون منقولا أو مرتجلا ، وعلى كلا التقديرين فلا يعمل ؛ لأنّ الأعلام لا تعمل ، فاحتاج أن يتأوّل ذلك على كل قول (١٢) من هذه الأقوال الثلاثة.

فقوله : «المعبود» راجع للاشتقاق ، وقوله : «المعروف» راجع لكونه علما منقولا ،

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : الرازي ١٢ / ١٢٨.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٧٧. والدر المصون ٤ / ٦.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٧٧.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦.

(٦) معاني القرآن ٢ / ٢٥٠.

(٧) المحرر الوجيز ٢ / ٢٦٩.

(٨) الكشاف ٢ / ٥.

(٩) الدر المصون ٣ / ٦.

(١٠) سقط في ب.

(١١) تقدم من الكلام على البسملة الخلاف في ذلك.

(١٢) في ب : قولين.

٢٠