اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٢

وثالثها : أنّه ـ تعالى ـ حكى عن نوح أنه قال : (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ١١٤] ثم إنه ـ تعالى ـ أمر محمّدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ بمتابعة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ في جميع الأعمال الحسنة بقوله : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] فوجب على محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ألّا يطردهم [فلما طردهم](١) كان ذلك ذنبا.

ورابعها : أنه قال : (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الكهف : ٢٨] وقال : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [طه : ١٣١].

فنهاه عن الالتفات إلى زينة الحياة الدّنيا ، فكان ذلك ذنبا.

وخامسها : أن أولئك الفقراء كانوا كلّما دخلوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه الواقعة يقول : «مرحبا بمن عاتبني ربّي فيهم» (٢) أو لفظا هذا معناه ، وذلك أيضا يدلّ على الذّنب.

فالجواب عن الأول : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما طردهم لأجل الاستخفاف بهم والاستنكاف من فقرهم ، وإنّما عيّن لجلوسهم وقتا معيّنا سوى الوقت الذي كان يحضر فيه أكابر قريش ، وكان غرضه التّلطّف بهم في إدخالهم في الإسلام ، ولعله ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يقول : هؤلاء الفقراء من المسلمين لا يفوتهم [بسبب هذه](٣) المعاملة شيء من أمرهم في الدّنيا وفي الدّين ، وهؤلاء الكفار فإنه يفوتهم الدّين والإسلام ، فكان ترجيح هذا الجانب أولى ، فأقصى ما يقال : إن هذا الاجتهاد وقع خطأ ، إلّا أن الخطأ في الاجتهاد مغفور.

وأما قولهم : إنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ طردهم ، فيلزم كونه من الظالمين؟

فالجواب : أن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه ، والمعنى أن أولئك الفقراء كانوا يستحقّون التعظيم من الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فلمّا طردهم عن ذلك المجلس ، فكان ذلك ظلما ، إلّا أنّه من باب ترك الأولى أو الأفضل ، لا من باب ترك الواجبات ، وكذلك الجواب عن سائر الوجوه ، فإنّا نحمل كلّ هذه الوجوه على ترك الأفضل والأكمل والأولى ، والله أعلم.

قوله : «بالغداة» : قرأ (٤) الجمهور «بالغداة» هنا وفي «الكهف» وابن عامر (٥) «بالغدوة» بضم الغين وسكون الدال ، وفتح الواو في الموضعين ، وهي قراءة أبي عبد

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١٢ / ١٩٣ ـ ١٩٤).

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٨ ، البحر المحيط ٤ / ١٣٩ ، حجة القراءات ص (٢٥١) ، النشر ٢ / ٢٥٨ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٢ ـ ١٣.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٨ ، البحر المحيط ٤ / ١٣٩ ، حجة القراءات ص (٢٥١) ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٢ ، النشر ٢ / ٢٥٨.

١٦١

الرحمن (١) السّلمي ، والحسن البصري ، ومالك بن دينار ، وأبي رجاء العطارديّ ، ونصر بن عاصم الليثي ، والأشهر (٢) في «الغدوة» أنها معرّفة بالعلميّة ، وهي علميّة الجنس ك «أسامة» في الأشخاص ، ولذلك منعت من الصّرف.

وقال الفراء (٣) : «سمعت أبا الجرّاح يقول : ما رأيت [كغدوة](٤) قط ، يريد غداة يومه».

قال : «ألا ترى أن العرب لا تضيفها ، فكذا لا يدخلها الألف واللام ، إنما يقولون : جئتك غداة الخميس».

وقال الفرّاء في كتاب «المعاني» (٥) في «سورة الكهف» : «قرأ أبو عبد الرحمن السّلميّ : «بالغدوة والعشيّ» ولا أعلم أحدا قرأ بها غيره ، والعرب تدخل الألف واللام في «الغدوة» ؛ لأنها معرفة بغير ألف ولام» فذكره إلى آخره.

وقد طعن أبو عبيد القاسم بن سلّام على هذه القراءة ، فقال : «إنما نرى ابن عامر ، والسلمي قرءا تلك القراءة اتّباعا للخطّ ، وليس في إثبات «الواو» في الكتاب دليل على القراءة بها ؛ لأنهم كتبوا «الصّلاة» و «الزكاة» بالواو ، ولفظهما على تركها ، وكذلك «الغداة» على هذا وجدنا العرب».

وقال الفارسيّ : الوجه قراءة العامة «بالغداة» ؛ لأنها تستعمل نكرة ومعرفة باللام ، فأمّا «غدوة» فمعرفة ، وهو علم وضع للتعريف ، وإذا كان كذلك ، فلا ينبغي أن تدخل عليه الألف واللام للتعريف ، كما لا تدخل على سائر الأعلام ، وإن كانت قد كتبت بالواو ؛ لأنها لا تدلّ على ذلك ، ألا ترى «الصلاة» و «الزكاة» بالواو ، ولا تقرآن بها ، فكذلك «الغداة».

قال سيبويه (٦) : «غدوة وبكرة جعل كلّ واحد منهما اسما للحين ، كما جعلوا : «أمّ حبين» (٧) اسما لدابّة معروفة» إلّا أنّ هذا الطّعن لا يلتفت إليه ، وكيف يظنّ بمن تقدّم أنهم

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٨ ، البحر المحيط ٤ / ١٣٩.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٨ ، البحر المحيط ٤ / ١٣٩.

(٣) ينظر : معاني القرآن ٢ / ١٣٩.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : المعاني للفراء ٢ / ١٣٩.

(٦) ينظر : الكتاب ٢ / ٤٨.

(٧) أمّ حبين بحاء مهملة مضمومة ، وباء موحدة مفتوحة مخففة ، دويبة مثل ابن عرس ، وابن آوى ، وسام أبرص وابن قترة إلّا أنه تعريف جنس ، وربما أدخل عليه الألف واللام ، ثم لا يكون بحذفهما منه نكرة ، وإنما سميت بذلك من الحبن تقول : فلان به حبن فهو أحبن ، أي : مستسقى بذلك ؛ لكبر بطنها وهي على خلقة الحرباء غير الصدر ، وقيل : هي أنثى الحرابي ، وهما أما حبين وهن أمهات حبين ، وهي دابة على قدر الكفّ تشبه الضب غالبا ؛ قاله أبو منصور الأزهري ، وما نقله من كونها أنثى الحرابي هو الذي نقله صاحب الكفاية ، فإنه قال : الحرباء ذكر أم حبين وقال ابن السكيت : هي أعرض من العظاءة ، وفي رأسها عرض ، وقال أبو زيد : إنها غبراء لها أربع قوائم على قدر الضفدعة التي ليست بضخمة ينظر : حياة الحيوان ١ / ٢٨٦.

١٦٢

يلحنون ، والحسن البصريّ ممن يستشهد بكلامه فضلا عن قراءته ، ونصر بن عاصم شيخ النحاة ، أخذ هذا العلم عن أبي الأسود ينبوع الصناعة ، وابن عامر لا يعرف اللّحن ؛ لأنه عربي ، وقرأ على عثمان بن عفان وغيره من الصحابة ، ولكن أبا عبيد ـ رحمه‌الله ـ لم يعرف أن تنكير «غدوة» لغة ثانية (١) عن العرب حكاها سيبويه والخليل.

قال سيبويه (٢) : زعم الخليل أنه يجوز أن تقول : «أتيتك اليوم غدوة وبكرة» فجعلهما مثل «ضحوة».

قال المهدوي : «حكى سيبويه والخليل أنّ بعضهم ينكّر فيقول : «غدوة» بالتنوين ، وبذلك قرأه ابن (٣) عامر ، كأنه جعله نكرة ، فأدخل عليها الألف واللام».

وقال أبو علي الفارسي : «وجه دخول الألف واللام عليها أنه يجوز وإن كانت معرفة أن تنكّر ، كما حكى أبو زيد «لقيته فينة» غير مصروفة «والفينة بعد الفينة» أي : الحين بعد الحين ، فألحق «لام» التعريف ما استعمل معرفة ، ووجه ذلك أنه يقدّر فيه التنكير والشيوع ، كما يقدّر فيه ذلك إذا ثنّى». وقال أبو جعفر النحاس (٤) : قرأ أبو عبد الرحمن ، ومالك بن دينار ، وابن عامر : «بالغدوة» قال : «وباب غدوة أن يكون معرفة إلّا أنّه يجوز تنكيرها كما تنكّر الأسماء الأعلام ، فإذا نكّرت دخلتها الألف واللام للتعريف».

وقال مكّي بن أبي طالب (٥) «إنما دخلت الألف واللام على «غداة» لأنها نكرة ، وأكثر العرب يجعل «غدوة» معرفة فلا ينوّنها ، وكلهم يجعل «غداة» نكرة فينوّنها ، ومنهم من يجعل «غدوة» نكرة وهم الأقلّ» فثبت بهذه النّقول التي ذكرتها عن هؤلاء الأئمة أن قراءة ابن عامر سالمة من طعن أبي عبيد ، وكأنه ـ رحمه‌الله ـ لم يحفظها لغة.

وأما «العشيّ» فنكرة ، وكذلك «عشيّة».

وهل العشيّ مرادف ل «عشية» أي : إن هذا اللفظ فيه لغتان : التذكير والتأنيث ، أو أن «عشيّا» جمع «عشيّة» في المعنى على حدّ «قمح» و «قمحة» ، و «شعير» و «شعيرة» ، فيكون اسم جنس ، خلاف مشهور ، والظاهر الأوّل لقوله تعالى : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) [ص : ٣١] إذ المراد هنا عشيّة واحدة ، واتفقت مصاحف الأمصار على رسم هذه اللفظة «الغدوة» بالواو وقد تقدّم أن قراءة ابن عامر ليست مستندة إلى مجرد الرسم ، بل إلى النّقل ، وثمّ [ألفاظ اتّفق](٦) أيضا على رسمها بالواو ، واتّفق على قراءتها بالألف ، وهي : «الصّلاة ، والزكاة ، ومناة ، ومشكاة ، [والربا ،](٧) والنجاة والحياة» ، وحرف اتّفق على رسمه بالواو ، واختلف في قراءته بالألف والواو ، وهو «الغداة» وأصل

__________________

(١) في ب : ثابتة.

(٢) ينظر : الكتاب ٢ / ٤٨.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٨ ، البحر المحيط ٤ / ١٣٩.

(٤) ينظر : إعراب القرآن ١ / ٥٤٨.

(٥) ينظر : المشكل ١ / ٢٧٦.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في أ.

١٦٣

غداة : غدوة ، تحركت الواو ، وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفا.

وقرأ ابن (١) أبي عبلة : «بالغدوات والعشيّات» ، جمع «غداة» و «عشية» وروي عن أبي (٢) عبد الرحمن أيضا «بالغدوّ» بتشديد الواو من غير هاء.

فصل في المراد بالآية

قال ابن عبّاس [معنى الآية](٣) يعبدون ربّهم بالغداة والعشيّ يعني صلاة الصبح ، وصلاة العصر ، وهو قول الحسن ومجاهد (٤).

وروي عنه أن المراد الصلوات الخمس (٥) ، وذلك أن ناسا من الفقراء كانوا يصلّون مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ناس من الأشراف : «إذا صلّينا فأخّر هؤلاء فليصلّوا خلفنا» فنزلت هذه الآية (٦).

وقال مجاهد : صليت الصبح مع سعيد بن المسيّب ، فلما سلم الإمام ابتدر النّاس القاص ، فقال سعيد : ما أسرع الناس إلى هذا المجلس ، فقال مجاهد : فقلت : يتأوّلون قوله تعالى : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) فقال : أفي هذا هو؟ إنما ذلك في الصّلاة التي انصرفنا عنها الآن (٧).

وقال إبراهيم النخعي : يعني : يذكرون ربّهم (٨).

وقيل : المراد حقيقة الدعاء.

قوله : «يريدون» هذه الجملة في محلّ نصب على الحال من فاعل «يدعون» أو من مفعوله ، والأوّل هو الصحيح ، وفي الكلام حذف ، أي : يريدون بدعائهم في هذين الوقتين وجهه.

فصل في الرد على شبهة المجسمة

تمسكت المجسّمة في إثبات الأعضاء لله ـ تعالى ـ بهذه الآية ، وسائر الآيات

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٨ ، البحر المحيط ٤ / ١٣٩.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٨ ، البحر المحيط ٤ / ١٣٩.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٠١) عن مجاهد وقتادة.

(٥) أخرجه الطبري (٥ / ٢٠١ ـ ٢٠٢) عن ابن عباس ومجاهد وإبراهيم والشعبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٦) عن ابن عباس وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه.

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٦) وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس.

وأخرجه أيضا الطبري (٥ / ٢٠٣) عنه أيضا.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٠٢) عن مجاهد.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٠٣) عن إبراهيم النخعي.

١٦٤

المناسبة ، كقوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرحمن : ٢٧] والجواب : أن قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] يقتضي الوحدانيّة التّامّة ، وذلك ينافي التركيب من الأعضاء والأجزاء ، فثبت أنّه لا بدّ من التّأويل ، وهو من وجهين :

أحدهما : قوله : (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ، أي : يريدونه إلّا أنهم يذكرون [لفظ الوجه للتعظيم كما يقال : هذا وجه الرأي ، وهذا وجه الدليل الثاني :](١) أنّ من أحبّ ذاتا أحب أن يرى وجهه ، فرؤية الوجه من لوازم المحبّة ، فلهذا السّبب جعل الوجه كناية عن المحبّة ، وطلب الرضى.

والثاني : أن المراد بالوجه القصد والنّيّة ؛ كقول الشاعر : [البسيط]

٢١٧٩ ـ أستغفر الله ذنبا لست أحصيه

ربّ العباد إليه الوجه والعمل (٢)

وقد تقدّم بيانه عند قوله : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) [البقرة : ١١٥].

قوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ).

«ما» هذه يجوز أن تكون الحجازيّة النّاصبة للخبر ، فيكون «عليك» في محلّ النصب على أنه خبرها ، عند من يجوّز إعمالها في الخبر المقدّم إذا كان ظرفا أو حرف جرّ ، وأمّا إذا كانت تميميّة ، أو متعيّنا إهمالها في الخبر المقدّم مطلقا كان «عليك» في محلّ رفع خبرا مقدّما ، والمبتدأ هو (مِنْ شَيْءٍ) زيدت فيه «من».

وقوله : (مِنْ حِسابِهِمْ) قالوا : «من» تبعيضيّة ، وهي في محل نصب على الحال ، وصاحب الحال هو (مِنْ شَيْءٍ) ؛ لأنها لو تأخرت عنه لكانت صفة له ، وصفة النكرة متى قدّمت انتصبت على الحال ، فعلى هذا تتعلّق بمحذوف ، والعامل في الحال الاستقرار في «عليك» ، ويجوز أن يكون (مِنْ شَيْءٍ) في محلّ رفع بالفاعلية ، ورافعه «عليك» لاعتماده على النفي ، و (مِنْ حِسابِهِمْ) حال أيضا من «شيء» العامل فيها الاستقرار والتقدير : ما استقرّ عليك شيء من حسابهم.

وأجيز أن يكون (مِنْ حِسابِهِمْ) هو الخبر : إمّا ل «ما» ، وإمّا للمبتدأ ، و «عليك» حال من «شيء» ، والعامل فيها الاستقرار ، وعلى هذا فيجوز أن يكون (مِنْ حِسابِهِمْ) هو الرافع للفاعل على ذاك الوجه ، و «عليك» حال أيضا كما تقدّم تقريره ، وكون «من

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : أدب الكاتب ٥٢٤ ، والأشباه والنظائر ٤ / ٢٦ ، وأوضح المسالك ٢ / ٢٨٣ ، وتخليص الشواهد ص ٤٥ ، وخزانة الأدب ٣ / ١١١ ، ٩ / ١٢٤ ، والدرر ٥ / ١٨٦ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٢ ، وشرح التصريح ١ / ٣٩٤ ، وشرح شذور الذهب ص ٧٤٩ ، وشرح المفصل ٧ / ٦٣ ، ٨ / ٥١ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ١٨١ ، والكتاب ١ / ٣٧ ، ولسان العرب (غفر) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٢٢٦ ، والمقتضب ٢ / ٣٢١ ، وهمع الهوامع ٢ / ٨٢.

١٦٥

حسابهم» هو الخبر ، و «عليك» هو الحال غير واضح ؛ لأن محطّ الفائدة إنما هو «عليك».

قوله : (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) كالذي قبله ، إلّا أنّ هنا يمتنع بعض ما كان جائزا هناك ، وذلك أن قوله : (مِنْ حِسابِكَ) لا يجوز أن ينتصب على الحال ؛ لأنه يلزم تقدّمه على عامله المعنوي ، وهو ممتنع ، أو ضعيف لا سيّما وقد تقدّمت هنا على العامل فيها ، وعلى صاحبها ، وقد تقدّم أنّ الحال إذا كانت ظرفا أو حرف جرّ كان تقديمها على العامل [المعنوي](١) أحسن منه إذا لم يكن كذلك ، فحينئذ لك أن تجعل قوله : (مِنْ حِسابِكَ) بيانا لا حالا ، ولا خبرا حتى تخرج من هذا المحذور ، وكون «من» هذه تبعيضيّة غير ظاهر ، وقد تقدّم خطابه ـ عليه الصّلاة والسلام ـ في الجملتين تشريفا له ، ولو جاءت الجملة الثّانية على نمط الأولى لكان التركيب «وما عليهم من حسابك من شيء» فتقدّم المجرور ب «على» كما قدّمه في الأولى ، لكنه عدل عن ذلك لما تقدّم.

وفي هاتين الجملتين ما يسميه أهل البديع : ردّ الأعجاز على الصدور (٢) ، كقولهم : «عادات السّادات سادات العادات» ومثله في المعنى قول الشاعر : [الطويل]

٢١٨٠ ـ وليس الّذي حلّلته بمحلّل

وليس الّذي حرّمته بمحرّم (٣)

وقال الزمخشري (٤) ـ بعد كلام قدّمه في معنى التفسير ـ : فإن قلت : أما كفى قوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) حتّى ضمّ إليه : (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ)؟

قلت : قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة ، وقصد بها مؤدّى واحد ، وهو المعنى بقوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤].

ولا يستقل بهذا المعنى إلّا الجملتان جميعا ، كأنه قيل : «لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه» قال أبو حيّان (٥) : «لا تؤاخذ أنت ... إلى آخره تركيب غير عربي ، لا يجوز عود الضمير هنا غائبا ولا مخاطبا ؛ لأنه إن [عاد](٦) غائبا فلم يتقدّم له اسم مفرد

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) وهو في النّثر أن يجعل أحد اللّفظين المكررين أو المتجانسين أو الملحقين بهما في أوّل الفقرة ، والآخر في آخرها ؛ كقوله تعالى : وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ، وقولهم : (الحيلة ترك الحيلة).

وقال تعالى : (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ).

وفي الشّعر : أن يكون أحدهما في عجز البيت ، والآخر في صدر المصراع الأوّل ، أو في حشوه ، أو عجزه ، أو في صدر الثاني.

ينظر : التبيان ص ٤٩٦ ، دقائق البحر ١١١ ، وحسن التوسل ٢١٤ ، والطراز ٢ / ٣٩٢ ، الإيضاح ٢ / ٣٩٠.

(٣) البيت للبحتري ينظر : ديوانه ٣ / ٢٠٠١ ، تحرير التحبير ٢ / ٢٦٦ ، البحر ٤ / ١٤١ ، الدر المصون ٣ / ٧٠.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٨.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٤٠.

(٦) سقط في ب.

١٦٦

غائب يعود عليه ، إنما تقدّم قوله : «هم» ولا يمكن العود عليه على اعتقاد الاستغناء بالمفرد عن الجمع ، لأنه يصير التّركيب بحساب صاحبهم ، وإن أعيد مخاطبا ، فلم يتقدّم مخاطب يعود عليه ، إنما تقدّم قوله : «لا تؤاخذ أنت» ولا يمكن العود إليه ، فإنه ضمير [مخاطب](١) ، فلا يعود عليه غائبا ولو أبرزته مخاطبا لم يصحّ التركيب أيضا ، فإصلاح التركيب أن يقال : «لا يؤاخذ كلّ واحد منك ، ولا منهم بحساب صاحبه ، أو لا تؤاخذ أنت بحسابهم ، ولا هم بحسابك ، أو لا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم» ، فتغلّب الخطاب على الغيبة ، كما تقول : أنت وزيد تضربان».

قال شهاب الدين (٢) : والذي يظهر أن كلام الزمخشري صحيح ولكن فيه حذف ، وتقديره : لا يؤاخذ كل واحد : أنت ولا هم بحساب صاحبه ، وتكو ن «أنت ولا هم» بدلا من «كل واحد» ، والضمير في صاحبه عائد على [قوله :](٣) «كل واحد» ، ثم إنه وقع [في](٤) محذور آخر مما أصلح به كلام الزمخشري ، وذلك أنه قال : ولا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم ، وهذا التركيب يحتمل أن يكون المراد ، بل الظّاهر نفي المؤاخذة بحساب كلّ واحد بالنسبة إلى نفسه هو ، لا أن كلّ واحد غير مؤاخذ بحساب غيره ، والمعنى الثّاني هو المقصود.

والضمائر الثلاثة ، أعني التي في قوله : (مِنْ حِسابِهِمْ) و «عليهم» و «فتطردهم» أيضا عودها على نوح واحد ، وهم الذين يدعون ربّهم ، وبه قال الطبري إلّا أنّه فسّر الحساب بالرّزق الدّنيوي.

وقال الزمخشري (٥) ، وابن عطية (٦) : «إنّ الضّميرين الأوّلين يعودان على المشركين ، والثالث يعود على الداعين».

قال أبو حيّان (٧) : «وقيل : الضمير في «حسابهم» ، و «عليهم» عائد على [المشركين](٨) [وتكون الجملتان اعتراضا بين النّهي وجوابه» ، وظاهر عبارته أن الجملتين لا تكونان اعتراضا إلا على اعتقاد كون الضميرين في «حسابهم» ، و «عليهم» عائدين على المشركين](٩).

وليس الأمر كذلك ، بل هما اعتراض بين النّهي ، وهو (وَلا تَطْرُدِ) وبين جوابه وهو «فتكون» ، وإن كانت الضمائر كلها للمؤمنين.

ويدلّ على ذلك أنه قال بعد ذلك في «فتكون» : وجوّز أن تكون جوابا للنهي في

__________________

(١) في ب : غائب.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٧٠.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : على.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٨.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٩٥.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٤٠.

(٨) سقط في أ.

(٩) سقط في أ.

١٦٧

قوله : (وَلا تَطْرُدِ) ، وتكون الجملتان ، وجواب الأول اعتراضا بين النّهي وجوابه ، فجعلهما اعتراضا مطلقا من غير نظر إلى الضميرين ، ويعني بالجملتين (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) و (مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) وبجواب الأول قوله : «فتطردهم».

قوله : «فتطردهم» فيه وجهان :

أحدهما : منصوب على جواب [النفي](١) بأحد معنيين فقط ، وهو انتفاء الطّرد لانتفاء كون حسابهم عليه وحسابه عليهم ؛ لأنه ينتفي المسبّب بانتفاء سببه ، ولنوضح ذلك في مثال وهو : «ما تأتينا فتحدّثنا» بنصب «فتحدّثنا» وهو يحتمل معنيين :

أحدهما : انتفاء الإتيان ، وانتفاء الحديث ، كأنه قيل [ما يكون منك إتيان ، فكيف يقع منك حديث؟ وهذا المعنى هو المقصود بالآية الكريمة ، أي : ما يكون مؤاخذة كل واحد بحساب صاحبه ، فكيف يقع طرد؟ والمعنى الثاني : انتفاء الحديث ، وثبوت الإتيان](٢).

كأنه قيل : ما تأتينا محدّثا ، بل تأتينا غير محدّث ، وهذا المعنى لا يليق بالآية الكريمة ، والعلماء ـ رحمهم‌الله ـ وإن أطلقوا قولهم : إن منصوب على جواب النفي ، فإنّما يريدون المعنى الأول دون الثاني ، والثّاني أن يكون منصوبا على جواب النهي قوله : «فتكون» ففي نصبه وجهان :

أظهرهما : أنه منصوب عطفا على «فتطردهم» ، والمعنى : الإخبار بانتفاء حسابهم ، والطّرد والظلم المسبّب عن الطرد.

قال الزمخشري (٣) : ويجوز أن تكون عطفا على «فتطردهم» على وجه السبب ؛ لأن كونه ظالما مسبّب عن طردهم.

والثاني من وجهي النصب : أنه منصوب على جواب النهي في قوله : (وَلا تَطْرُدِ).

ولم يذكر مكي (٤) ، ولا الواحدي ، ولا أبو البقاء (٥) غيره.

قال أبو حيّان : «أن يكون «فتكون» جوابا للنهي في قوله : (وَلا تَطْرُدِ) كقوله : (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) [طه : ٦١] ، وتكون الجملتان وجواب الأوّل اعتراضا بين النهي وجوابه».

قال شهاب الدين (٦) : قد تقدّم أن كونهما اعتراضا لا يتوقّف على عود الضمير في قوله : (مِنْ حِسابِهِمْ) و «عليهم» على المشركين كما هو المفهوم من قوله هاهنا ، وإن كان كلامه قبل ذلك كما حكينا عنه يشعر بذلك.

__________________

(١) في أ : النهي.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٨.

(٤) ينظر : المشكل ١ / ٢٩٧.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٣.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ٧١.

١٦٨

فصل في شبهة للكفار

ذكروا في قوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) قولين :

الأول : أن الكفّار طعنوا في إيمان أولئك الفقراء ، وقالوا : يا محمد إنهم [إنما](١) اجتمعوا عندك ، وقبلوا دينك ؛ لأنهم يجدون بهذا السبب مأكولا وملبوسا عندك ، وإلّا فهم فارغون عن دينك ، فقال الله تعالى : إن كان الأمر على ما يقول هؤلاء ، فما يلزمك إلّا اعتبار الظّاهر ، وإن كان باطنهم غير مرض عند الله ، فحسابهم عليه لازم لهم لا يتعدّى إليك ، كما أنّ حسابك عليك لا يتعدّى إليهم ، كقوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤].

الثاني : المعنى : ما عليك من حساب رزقهم من شيء فتملّهم وتطردهم ، فتكون من الظالمين لهم ؛ لأنهم لمّا استوجبوا مزيد التقريب كان طردهم ظلما لهم (٢).

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (٥٣)

«الكاف» في محلّ نصب على أنها نعت لمصدر محذوف ، والتقدير : ومثل ذلك الفتون المتقدم الذي فهم من سياق أخبار الأمم الماضية فتنّا بعض هذه الأمّة ببعض ، فالإشارة بذلك إلى الفتون المدلول عليه بقوله : «فتنّا» ، ولذلك قال الزمخشري (٣) : ومثل ذلك الفتن العظيم فتن بعض الناس ببعض فجعل الإشارة لمصدر فتنّا. وانظر كيف لم يتلّفظ هو بإسناد الفتنة إلى الله ـ تعالى ـ في كلامه ، وإن كان البارىء ـ تعالى ـ قد أسندها ، بل قال : فتن بعض الناس فبناه للمفعول على قاعدة المعتزلة.

وجعل ابن (٤) عطية الإشارة إلى طلب الطّرد ، فإنه قال بعد كلام يتعلّق بالتفسير : «والإشارة بذلك إلى ما ذكر من طلبهم أن يطرد الضّعفة».

قال أبو حيّان (٥) : ولا ينتظم هذا التّشبيه ؛ إذ يصير التقدير : مثل طلب الطرد فتنّا بعضهم ببعض والمتبادر إلى الذّهن من قولك : «ضربت مثل ذلك» المماثلة في الضرب ، أي : مثل ذلك الضرب لا أن تقع المماثلة في غير الضّرب ، وقد تقدّم مرارا أن سيبويه (٦) يجعل مثل ذلك حالا من ضمير المصدر المقدر.

قوله : «ليقولوا» في هذه «اللام» وجهان :

أظهرهما : ـ وعليه أكثر المعربين والمفسّرين ـ أنها لام «كي» ، والتقدير : ومثل

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : الرازي ١٢ / ١٩٥ ـ ١٩٦.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٨.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٩٦.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٤٢.

(٦) ينظر : الكتاب ١ / ١١٦.

١٦٩

ذلك الفتون فتنّا ليقولوا هذه المقالة ابتلاء منّا وامتحانا.

والثاني : أنها «لام» الصّيرورة أي : العاقبة كقوله : [الوافر]

٢١٨١ ـ لدوا للموت وابنوا للخراب

 .......... (١)

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا) [القصص : ٨] ، ويكون قولهم «أهؤلاء» إلى آخره صادرا على سبيل الاستخفاف.

قوله : «أهؤلاء» يجوز فيه وجهان :

أظهرهما : أنه منصوب المحلّ على الاشتغال بفعل محذوف يفسّره الفعل الظاهر ، العامل في ضميره بوساطة «على» ، ويكون المفسّر من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، والتقدير : أفضّل الله هؤلاء منّ عليهم ، أو اختار هؤلاء منّ عليهم ، ولا محلّ لقوله : (مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ) لكونها مفسّرة ، وإنّما رجّح هنا إضمار الفعل ؛ لأنه وقع بعد أداة يغلب إيلاء الفعل لها.

والثاني : أنه مرفوع المحلّ على أنه مبتدأ ، والخبر : منّ الله عليهم ، وهذا وإن كان سالما من الإضمار الموجود في الوجه الذي قبله ، إلّا أنه مرجوح لما تقدّم ، و «عليهم» متعلّق ب «منّ».

و «من بيننا» يجوز أن يتعلّق به أيضا.

قال أبو البقاء (٢) : «أي : ميّزهم علينا ، ويجوز أن يكون حالا».

قال أبو البقاء (٣) أيضا : أي : منّ عليهم منفردين ، وهذان التفسيران تفسيرا معنى لا تفسيرا إعراب ، إلّا أنه لم يسقهما إلّا تفسيري إعراب.

والجملة من قوله : (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ) في محلّ نصب بالقول.

وقوله : (بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) الفرق بين الباءين أن الأولى لا تعلّق لها لكونها زائدة في خبر «ليس» ، والثانية متعلّقة ب «أعلم» وتعدّي العلم بها لما ضمّن من معنى الإحاطة ، وكثيرا ما يقع ذلك في عبارة العلماء ، فيقولون : علم بكذا والعلم بكذا لما تقدّم.

فصل في تحرير معنى الفتنة في الآية

معنى هذه الفتنة أن كلّ واحد من الفريقين مبتلى بصاحبه ، فرؤساء الكفّار الأغنياء

__________________

(١) صدر بيت لأبي العتاهية وعجزه :

فكلكم يصير إلى ذهاب

ينظر : ديوانه ص (٣٣) ، وللإمام علي بن أبي طالب ينظر : الجنى الداني ص (٩٨) ، شرح التصريح ٢ / ١٢ ، والهمع ٢ / ٣٢ ، وأوضح المسالك ٣ / ٣٣ ، شرح الكافية ٢ / ٣٢٨ ، الدرر اللوامع ٢ / ٣١ ، وخزانة الأدب ٩ / ٥٢٩ ، والدر المصون ٣ / ٧٢.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٤.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

١٧٠

كانوا يحسدون فقراء الصحابة على كونهم سابقين للإسلام مسارعين إلى قبوله ، فقالوا : ولو دخلنا في الإسلام لوجب علينا أن ننقاد لهؤلاء الفقراء المساكين ، وأن نعترف لهم بالتّبعيّة ، فكأن ذلك يشقّ عليهم ، ونظيره : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص : ٨] ، (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١].

وأمّا فقراء الصحابة فكانوا يرون أولئك الكفّار في الرّاحات والمسّرات والطّيبات والخصب والسّعة ، فكانوا يقولون : كيف حصلت هذه الأحوال لهؤلاء الكفّار مع أنّا بقينا في [هذه](١) الشدّة والضّيق ، فقال تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ) فأحد الفريقين يرى الآخر مقدما [عليه](٢) في المناصب الدينية (٣) ، ويقولون : أهذا الذي فضّله الله علينا؟

وأمّا المحققون فهم الذين يعلمون أن كلّ ما فعله الله ـ تعالى ـ فهو حقّ وحكمة وصواب ولا اعتراض عليه ، إمّا بحكم الملكية كما هو قول أهل السّنّة (٤) ، وإمّا بحسب المصلحة كما هو قول المعتزلة (٥) فكانوا صابرين في وقت البلاء ، شاكرين في وقت الآلاء والنّعماء وهم الذين قال الله في حقّهم : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ).

فصل

روى أبو سعيد الخدريّ قال : جلست في نفر من ضعفاء المهاجرين ، وإن بعضهم ليستتر من بعض من العري ، وقارىء يقرأ علينا ، إذ جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقام علينا فلما قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سكت القارىء ، فسلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : ما كنتم تصنعون؟ قلنا : يا رسول الله : كان قارىء يقرأ وكنّا نستمع إلى كتاب الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحمد لله الذي جعل من أمّتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم» ، قال : ثمّ جلس وسطنا ليعدل بنفسه فينا ، ثم قال بيده هكذا فتحلّقوا ، وبرزت وجوههم له قال : فما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرف منهم أحدا غيري.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنّور التّام يوم القيامة تدخلون الجنّة قبل الأغنياء بنصف يوم ، وذلك مقدار خمسمائة سنة» (٦).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : الدنيوية.

(٤) ينظر : الرازي ١٢ / ١٩٦.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٩٦٠٦٣. وأبو داود في السنن ٢ / ٣٤٧ كتاب العلم : باب القصص الحديث (٣٦٦٦) قوله : «فقام علينا» أي وقف على رؤوسنا أي كنا غافلين عن مجيئه فنظرنا فإذا هو قائم فوق رؤوسنا يستمع إلى كتاب الله. وقوله : «ثم قال بيده» أي أشار بيده و «صعاليك المهاجرين» أي جماعة الفقراء من المهاجرين جمع صعلوك.

١٧١

فصل في بيان الدلالة من الآية

احتجّ أهل السّنّة (١) بهذه الآية على مسألة خلق الأفعال من وجهين :

الأول : أن قوله : (فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) تصريح بأنّ إلقاء تلك الفتنة من الله تعالى ، والمراد من تلك الفتنة ليس إلّا اعتراضهم على الله في أن جعل أولئك الفقراء رؤساء في الدّين ، والاعتراض على الله كفر ، وذلك يدلّ على أنّه ـ تعالى ـ هو الخالق للكفر.

والثاني : أنه ـ تعالى ـ حكى عنهم أنهم قالوا : (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) أي : منّ عليهم بالإيمان بالله ، ومتابعة الرسول ، وذلك يدلّ على أن هذا المعنى إنما حصل من الله تعالى ؛ لأنه لو كان الموجد للإيمان هو العبد فالله ما منّ عليه بهذا الإيمان ، بل العبد هو الذي منّ على نفسه بهذا الإيمان.

أجاب الجبائي (٢) عنه بأن الفتنة في التّكليف ما توجب التّشديد وإنما فعلنا ذلك ليقولوا : أهؤلاء أي : ليقول بعضهم لبعض استفهاما لا إنكارا [أهؤلاء](٣) منّ الله عليهم من بيننا بالإيمان أجاب الكعبي (٤) عنه بأن قال : «وكذلك فتنّا بعضهم ببعض ليصبروا أو ليشكروا ، فكان عاقبة أمرهم أن قالوا : أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا» على مثاله قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨].

والجواب عن الوجهين أنه عدول عن الظاهر من غير دليل ، والدليل العقليّ قائم على صحّة هذا الظاهر ؛ لأنه لمّا كانت مشاهدة هذه الأحوال توجب الأنفة ، والأنفة توجب العصيان والإصرار على الكفر ، وموجب الموجب موجب ، فكان الإلزام واردا (٥) ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥٤)

«إذا» منصوب بجوابه ، أي : فقل سلام عليكم وقت مجيئهم أي : أوقع هذا القول كله في وقت مجيئهم إليك ، وهذا معنى واضح.

وقال أبو البقاء (٦) : «والعامل في «إذا» معنى الجواب ، أي : إذا جاءوك سلّم عليهم» ولا حاجة تدعو إلى ذلك مع فوات قوة المعنى ؛ لأن كونه يبلّغهم السّلام والإخبار بأنه كتب على نفسه الرّحمة ، وأنه من عمل سوءا بجهالة غفر له لا يقوم مقامه السّلام فقط ، وتقديره يفضي إلى ذلك.

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٢ / ١٩٦.

(٢) ينظر : الرازي ١٢ / ١٩٧.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : الرازي ١٢ / ١٩٧.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٤.

١٧٢

وقوله : «سلام» مبتدأ ، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة ؛ لأنه دعاء ، والدّعاء من المسوّغات.

وقال أبو البقاء (١) : «لما فيه من معنى الفعل» وهذا ليس من مذهب جمهور البصريين ، وإنما هو شيء نقل عن الأخفش : أنه إذا كانت النكرة في معنى الفعل جاز الابتداء بها ورفعها الفاعل ، وذلك نحو : «قائم أبواك» ونقل ابن مالك أن سيبويه (٢) أومأ إلى جوازه ، واستدلال الأخفش بقوله : [الطويل]

٢١٨٢ ـ خبير بنو لهب فلا تك ملغيا

مقالة لهبيّ إذا الطّير مرّت (٣)

ولا دليل فيه ؛ لأنّ «فعيلا» يقع بلفظ واحد للمفرد وغيره ، ف «خبير» خبر مقدّم ، واستدلّ له أيضا بقول الآخر : [الوافر]

٢١٨٣ ـ فخير نحن عند النّاس منكم

إذا الدّاعي المثوّب قال : يا لا (٤)

ف «خير» مبتدأ ، و «نحن» [فاعل](٥) سدّ مسدّ الخبر.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون «خير» خبرا مقدّما ، و «نحن» مبتدأ مؤخر؟

قيل : لئلا يلزم الفصل بين «أفعل» و «من» بأجنبي بخلاف جعله فاعلا ، فإن الفاعل كالخبر بخلاف المبتدأ.

و «عليكم» خبره ، و (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أبلغ من «سلاما عليكم» بالنصب ، وقد تقرّر هذا في أوّل «الفاتحة» عند قراءة «الحمد» و «الحمد».

وقوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ) في محلّ نصب بالقول ؛ لأنه كالتفسير لقوله : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ).

فصل في نزول الآية

قال عكرمة : نزلت في الذين نهى الله ـ عزوجل ـ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طردهم ، وكان

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٤.

(٢) ينظر : الكتاب ١ / ١٦٦.

(٣) البيت لرجل من الطائيين.

ينظر : تخليص الشواهد ص (١٨٢) ، شرح التصريح ١ / ١٥٧ ، المقاصد النحوية ١ / ٥١٨ ، أوضح المسالك ١ / ١٩١ ، الدرر ٢ / ٧ ، شرح الأشموني ١ / ٩٠ ، شرح ابن عقيل ص (١٠٣) ، شرح عمدة الحافظ ص (١٥٧) ، شرح قطر الندى ص (٢٧٢) ، همع الهوامع ١ / ٩٤ ، الدر المصون ٣ / ٧٣.

(٤) البيت لزهير بن مسعود الضبي.

ينظر : تخليص الشواهد ص (١٨٢) ، خزانة الأدب ٢ / ٦ ، الدرر ٣ / ٤٦ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٥٩٥ ، ٨٤٧ ، المقاصد النحوية ١ / ٥٢٠ ، نوادر أبي زيد ص (٢١) ، الخصائص ١ / ٢٧٦ ، ٢ / ٢٧٥ ، ٣ / ٢٢٨ ، ورصف المباني ص (٢٩) ، ٢٣٧ ، ٣٥٤ ، شرح ابن عقيل ص (١٠٢) ، لسان العرب (يا) ، مغني اللبيب ١ / ٢١٩ ، ٢ / ٤٤٥ ، همع الهوامع ١ / ١٨١ ، الدر المصون ٣ / ٧٣.

(٥) سقط في ب.

١٧٣

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام (١).

وقال عطاء : نزلت في أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وبلال ، وسالم ، وأبي عبيدة ، ومصعب بن عمير ، وحمزة ، وجعفر ، وعثمان بن مظعون ، وعمّار بن ياسر ، والأرقم بن أبي الأرقم وأبي سلمة بن عبد الأسد (٢).

قال ابن الخطيب (٣) : «وهاهنا إشكال ، وهو أن النّاس اتفقوا على أن هذه السّورة نزلت دفعة واحدة ، وإذا كان كذلك ، فكيف يمكن أن يقال في كلّ واحد من آيات هذه السّورة : إن سبب نزول هذه الآية الأمر الفلاني بعينه ، بل الأقرب أن تحمل هذه الآية على عمومها ، فكل من آمن بالله دخل تحت هذا التشريف».

فصل فيما يطلق عليه لفظ «السلام»

قال المبرّد (٤) : السّلام في اللغة على أربعة أشياء :

فمنها سلمت سلاما ، وهو معنى الدعاء.

ومنها أنه اسم من أسماء الله تعالى.

ومنها الإسلام.

ومنها الشّجر العظيم أحسبه مسمّى بذلك لسلامته من الآفات.

ومنها أيضا اسم للحجارة الصّلبة ، وذلك أيضا لسلامتها من الرّخاوة.

ثم قال الزّجّاج (٥) : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) هاهنا يحتمل أن يكون له تأويلان :

أحدهما : أن يكون مصدر : سلّمت تسليما وسلاما ، مثل «السّراح» من «التّسريح» ، ومعنى سلمت عليه سلاما : دعوت بأن يسلم من الآفات في دينه ونفسه ، والسّلام بمعنى التّسليم.

والثاني : أن يكون «السّلام» جمع «السلامة» ، فمعنى قولك : السّلام عليكم :السّلامة عليكم.

وقال ابن الأنباري (٦) : قال قوم : السلام هو الله تعالى ، فمعنى السّلام عليكم [يعني الله عليكم](٧) أي : على حفظكم ، وهذا بعيد في هذه الآية لتنكير السّلام ، ولو كان معرّفا لصحّ هذا الوجه.

فصل في الكلام على «السلام»

قال قوم (٨) : إنّه ـ تعالى ـ لمّا أمر الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأن يقول لهم :

__________________

(١) أخرجه الطبري (٥ / ٢٠٠) عن عكرمة.

(٢) أخرجه الطبري (٥ / ٢٠٠) عن عكرمة.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ٣.

(٤) ينظر : الرازي ١٣ / ٤.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ينظر : الرازي ١٣ / ٤.

(٧) سقط في أ.

(٨) ينظر : الرازي ١٣ / ٥.

١٧٤

(سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) كان هذا من قول الله فيدلّ على أنه ـ تعالى ـ قال لهم في الدّنيا : سلام عليكم كتب ربّكم على نفسه الرحمة.

ومنهم من قال (١) : بل هذا من كلام الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فصل في معنى «كتب»

كتب كذا [على فلان](٢) يفيد الإيجاب ، أي : بمعنى قضى ، وكلمة «على» أيضا تفيد الإيجاب ، ومجموعهما مبالغة في الإيجاب ، وهذا يقتضي كونه ـ تعالى ـ راحما لعباده على سبيل الوجوب ، واختلفوا في ذلك الوجوب؟

فقال أهل (٣) السّنّة : له ـ سبحانه وتعالى ـ أن يتصرّف في عباده كيف شاء وأراد إلّا أنه أوجب الرّحمة على نفسه على سبيل الفضل والكرم.

وقالت المعتزلة (٤) : إنّ كونه عالما بقبح القبائح ، وعالما بكونه غنيّا عنها يمنعه من الإقدام على القبائح ، ولو فعله كان ظالما ، والظّلم قبيح ، والقبح منه محال.

فصل في الدلالة في الآية

دلّت هذه الآية على جواز تسمية ذات الله ـ تعالى ـ بالنفس ، أيضا قوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦] يدلّ عليه ، والنّفس هنا بمعنى الذّات والحقيقة ، لا بمعنى الجسم والدّم ؛ لأنه ـ تعالى ـ مقدّس عنه ؛ لأنه لو كان جسما لكان مركّبا ، والمركّب ممكن.

وأيضا إنه أحد ، والأحد لا يكون مركّبا ، وما لا يكون مركبا لا يكون جسما.

وأيضا الأجسام متماثلة في تمام الماهية ، فلو كان جسما لحصل له مثل ، وذلك باطل ؛ لقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١].

فصل في دحض شبهة المعتزلة

قالت المعتزلة (٥) : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ينافي كونه تعالى يخلق الكفر في الكافر ، ثم يعذّبه عليه أبد الآباد ، وينافي أن يقال : إنه يمنعه من الإيمان ، ثم يأمره حال ذلك المنع بالإيمان ، ثم يعذبه على ذلك.

وأجيب بأنه ـ تعالى ـ نافع ضارّ محيي مميت ، فهو ـ تعالى ـ فعل تلك الرّحمة البالغة ، وفعل هذا القهر البالغ ولا منافاة بين الأمرين.

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ٤.

(٤) ينظر : الرازي ١٣ / ٤.

(٥) ينظر : الرازي ١٣ / ٤ ـ ٥.

١٧٥

قوله : «أنّه ، فأنّه» قرأ ابن عامر (١) ، وعاصم بالفتح فيهما ، وابن كثير وأبو عمرو ، وحمزة(٢) ، والكسائي بالكسر فيهما ، ونافع (٣) بفتح الأولى ، وكسر الثانية ، وهذه القراءات الثلاث في المتواتر ، والأعرج بكسر (٤) الأولى وفتح الثانية عكس قراءة نافع ، هذه رواية الزّهراوي عنه ، وكذا الدّاني.

وأمّا سيبويه فروى قراءته كقراءة نافع ، فيحتمل أن يكون عنه روايتان.

فأمّا القراءة الأولى ففتح الأولى فيها من أربعة أوجه :

أحدها : أنها بدل من «الرحمة» بدل شيء من شيء ، والتقدير : «كتب على نفسه أنه من عمل» إلى آخره ، فإنّ نفس هذه الجمل المتضمنة للإخبار بذلك رحمة.

والثاني : أنها في محلّ رفع على أنها مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : «عليه أنه من عمل» إلى آخره.

والثالث : أنها [فتحت] على تقدير حذف حرف الجرّ ، والتقدير : «لأنه من عمل» ، فلما حذفت «اللامّ» جرى في محلّها الخلاف المشهور.

الرابع : أنها مفعول ب «كتب» ، و «الرحمة» مفعول من أجله ، أي : أنه كتب أنّه من عمل لأجل رحمته إياكم.

قال أبو حيّان (٥) : وينبغي ألا يجوز ؛ لأنّ فيه تهيئة العامل للعمل ، وقطعه عنه.

وأمّا فتح الثانية فمن خمسة أوجه :

أحدها : أنها في محلّ رفع على أنها مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : فغفرانه ورحمته حاصلان أو كائنان ، أو فعليه غفرانه ورحمته.

وقد أجمع القرّاء على فتح ما بعد «فاء» الجزاء في قوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) [التوبة : ٦٣] (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) [الحج : ٤] كما أجمعوا على كسرها في قوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) [الجن : ٢٣].

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٧٣ ، البحر المحيط ٤ / ١٤٤ ، حجة القراءات ص (٢٥٢) ـ ٢٥٣) ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٣ ، الحجة للقراء السبعة ٣ / ٣١١ ، الوسيط في تفسير القرآن المجيد ٢ / ٢٧٧ ، النشر ٢ / ٢٥٨.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٧٣ ، البحر المحيط ٤ / ١٤٤ ، حجة القراءات ص (٢٥٢ ـ ٢٥٣) ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٣ ، الحجة للقراء السبعة ٣ / ٣١١ ، الوسيط في تفسير القرآن المجيد ٢ / ٢٧٧ ، النشر ٢ / ٢٥٨ ، القطع والائتناف (٣٠٥ ـ ٣٠٦) ، روح المعاني ٧ / ١٦٥.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٧٣ ، البحر المحيط ٤ / ١٤٤ ، الوسيط في تفسير القرآن المجيد ٢ / ٧٧ ، حجة القراءات ص (٢٥٢ ـ ٢٥٣) ، الحجة للقراء السبعة ٣ / ٣١١ ، النشر ٢ / ٢٥٨ ، القطع والائتناف (٣٠٥ ـ ٣٠٦).

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٧٣ ، البحر المحيط ٤ / ١٤٤ ، الوسيط في تفسير القرآن المجيد ٢ / ٧٧ ، حجة القراءات ص (٢٥٢ ـ ٢٥٣) الحجة للقراء السبعة ٣ / ٣١١ ، النشر ٢ / ٢٥٨.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٤٤.

١٧٦

الثاني : أنها في محلّ رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : فأمره أو شأنه أنه غفور رحيم.

الثالث : أنها تكرير للأولى كرّرت لمّا طال الكلام وعطفت عليها بالفاء ، وهذا منقول عن أبي جعفر النحاس ، وهذا وهم فاحش ؛ لأنه يلزم منه أحد محذورين : إمّا بقاء مبتدأ بلا خبر ، أو شرط بلا جواب.

وبيان ذلك أنّ «من» في قوله : «أنه من عمل» لا تخلو : إمّا أن تكون موصولة أو شرطية ، وعلى كلا التقديرين ، فهي في محلّ رفع بالابتداء ، فلو جعلنا «أن» الثانية معطوفة على الأولى لزم عدم خبر المبتدأ ، وجواب الشّرط ، وهو لا يجوز.

وقد ذكر هذا الاعتراض ، وأجاب عنه الشيخ شهاب الدين أبو شامة فقال : «ومنهم من جعل الثانية تكريرا للأولى لأجل طول الكلام على حدّ قوله : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) [المؤمنون : ٣٥] ودخلت «الفاء» في «فأنه غفور» على حدّ دخولها في (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ) [آل عمران : ١٨٨] على قول من جعله تكريرا لقوله : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) [آل عمران : ١٨٨] إلّا أن هذا ليس مثل (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ) ؛ لأن هذه لا شرط فيها ، وهذه فيها شرط ، فيبقى بغير جواب.

فقيل : الجواب محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره : غفر لهم» انتهى.

وفيه بعد ، وسيأتي هذا الجواب أيضا في القراءة الثانية منقولا عن أبي البقاء ، وكان ينبغي أن يجيب به هنا ، لكنه لم يفعل ولم يظهر فرق في ذلك.

الرابع : أنها بدل من الأولى ، وهو قول الفرّاء (١) والزّجّاج (٢) وهذا مردود بشيئين :

أحدهما : أنّ البدل لا يدخل فيه حرف عطف ، وهذا مقترن بحرف العطف ، فامتنع أن يكون بدلا.

فإن قيل : نجعل «الفاء» زائدة ، فالجواب أن زيادتها غير زائدة ، وهو شيء قال به الأخفش(٣).

وعلى تقدير التّسليم فلا يجوز ذلك من وجه آخر ، وهو خلوّ المبتدأ ، أو الشرط عن خبر أو جواب.

والثاني من الشيئين : خلوّ المبتدأ ، أو الشرط عن الخبر ، أو الجواب كما تقدّم تقريره ، فإن قيل : نجعل الجواب محذوفا ـ كما تقدّم نقله عن أبي شامة ـ قيل : هذا بعيد عن الفهم.

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٣٦.

(٢) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٢٧٨.

(٣) ينظر : معاني القرآن ٣٤ ، ١٢٤.

١٧٧

الخامس : أنها مرفوعة بالفاعليّة ، تقديره : «فاستقرّ أنّه غفور رحيم» أي : استقرّ وثبت غفرانه ، ويجوز أن يقدّر في هذا الوجه جارّا رافعا لهذا الفاعل عند الأخفش تقديره : فعليه أنه غفور ؛ لأنه يرفع به وإن لم يعتمد ، وقد تقدّم تحقيقه مرارا.

وأمّا القراءة الثانية : فكسر الأولى من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها مستأنفة ، وأن الكلام تامّ قبلها ، وجيء بها وبما بعدها كالتّفسير لقوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ).

والثاني : أنّها كسرت بعد قول مقدّر ، أي : قال الله ذلك ، وهذا في المعنى كالذي قبله.

والثالث : أنه أجري «كتب» مجرى «قال» ، فكسرت بعده كما تكسر بعد القول الصريح ، وهذا لا يتمشّى على أصول البصريين.

وأمّا كسر الثانية فمن وجهين :

أحدهما : أنها على الاستئناف بمعنى أنها في صدر جملة وقعت خبرا ل «من» الموصولة ، أو جوابا لها إن كانت شرطا.

والثاني : أنها عطفت على الأولى ، وتكرير لها ، ويعترض على هذا بأنه يلزم بقاء المبتدأ بلا خبر ، والشرط بلا جزاء ، كما تقدّم ذلك في المفتوحتين.

وأجاب أبو البقاء (١) عن ذلك بأن خبر «من» محذوف دلّ عليه الكلام ، وقد تقدّم أنه كان ينبغي أن يجيب بهذا الجواب في المفتوحتين عند من جعل الثانية تكريرا للأولى ، أو بدلا منها ثم قال : ويجوز أن يكون العائد محذوفا ، أي : فإنه غفور له.

قال شهاب الدين (٢) : قوله : «ويجوز» ليس بجيّد ، بل كان ينبغي أن يقول : ويجب ؛ لأنه لا بدّ من ضمير عائد على المبتدأ من الجملة الخبرية ، أو ما يقوم مقامه إن لم يكن نفس المبتدأ.

وأمّا القراءة الثالثة : فيؤخذ فتح الأولى وكسر الثانية مما تقدّم من كسرها وفتحها بما يليق من ذلك ، وهو ظاهر.

وأمّا القراءة الرابعة : فكذلك.

وقال أبو شامة : «وأجاز الزّجّاج (٣) كسر الأولى ، وفتح الثانية ، وإن لم يقرأ به».

قال شهاب الدين (٤) : وقد قدّمت أنّ هذه قراءة الأعرج وأن الزهراوي وأبا عمرو الدّاني نقلاها عنه ، فكأن الشّيخ لم يطّلع عليها.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٤.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٧٥.

(٣) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٢٧٨.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٧٥.

١٧٨

وتقدّم أن سيبويه لم يرو عن الأعرج إلّا كقراءة نافع فهذا مما يصلح أن يكون عذرا للزّجّاج ، وأمّا أبو شامة فإنه متأخر ، فعدم اطّلاعه عجيب.

و «الهاء» في «أنه» ضمير الأمر والقصّة ، و «من» يجوز أن تكون شرطيّة ، وأن تكون موصولة ، وعلى كل تقدير فهي مبتدأة ، و «الفاء» وما بعدها في محلّ جزم جوابا إن كانت شرطا ، وإلّا ففي محلّ رفع خبرا إن كانت موصولة ، والعائد محذوف ، أي : غفور له.

و «الهاء» في «بعده» يجوز أن تعود على «السّوء» ، وأن تعود على العمل المفهوم من الفعل كقوله : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ) [المائدة : ٨] ، والأوّل أولى ؛ لأنه أصرح ، و «منكم» متعلّق بمحذوف إذ هو حال من فاعل «عمل» ، ويجوز أن تكون «من» للبيان ، فيعمل فيها «أعني» مقدرا.

وقوله : «بجهالة» فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق ب «عمل» على أن «الباء» للسّببيّة ، أي : عمله بسبب الجهل ، وعبّر أبو البقاء (١) في هذا الوجه عن ذلك بالمفعول به وليس بواضح.

والثاني : وهو الظّاهر أنه للحال ، أي : عمله مصاحبا للجهالة ، و «من» في «من بعده» لابتداء الغاية.

فصل في تحرير معنى الآية

قال الحسن : كل من عمل معصية فهو جاهل (٢). ثمّ اختلفوا ؛ قال مجاهد : لا يعلم حلالا من حرام فمن جهالته ركب الأمر (٣). وقيل : جاهل بما يورثه ذلك الذّنب.

وقيل : جهالته من حيث إنه آثر المعصية على الطّاعة ، والعاجل القليل على الآجل الكثير ، ثمّ تاب من (٤) بعد ورجع عن ذنبه ، وأصلح عمله.

قيل : وأخلص توبته فإنه غفور رحيم.

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)(٥٦)

«الكاف» نعت لمصدر محذوف ، أو حال من ضمير ذلك المصدر ، كما هو رأي

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٤.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٠٧) عن الحسن.

(٣) أخرجه الطبري (٥ / ٢٠٧) عن الحسن وذكره القرطبي في «تفسيره» (٦ / ٢٨٠.

(٤) ينظر : الرازي ١٣ / ٥.

١٧٩

سيبويه (١) ، والإشارة بذلك إلى التفصيل السّابق ، تقديره : مثل ذلك التّفصيل البيّن ، وهو ما سبق من أحوال الأمم نفصّل آيات القرآن.

وقال ابن عطية (٢) : والإشارة بقوله : «وكذلك» إلى ما تقدّم ، من النّهي عن طرد المؤمنين ، وبيان فساده بنزع المعارضين لذلك.

و (نُفَصِّلُ الْآياتِ) نبيّنها ونشرحها ، وهذا شبيه بما تقدّم له في قوله : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا) [الأنعام : ٥٣] وتقدّم أنه غير ظاهر.

قوله : (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ) قرأ الأخوان (٣) ، وأبو بكر : «وليستبين» بالياء من تحت ، و «سبيل» بالرفع.

ونافع (٤) : «ولتستبين» بالتّاء من فوق ، «سبيل» بالنصب ، والباقون : بالتاء من فوق ، و «سبيل» بالرفع. وهذه القراءت دائرة على تذكير «السبيل» وتأنيثه وتعدي «استبان» ولزومه ، وإيضاح هذا أن لغة نجد وتميم تذكير «السبيل» وعليه قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) [الأعراف : ١٤٦].

ولغة «الحجاز» التأنيث ، وعليه (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) [يوسف : ١٠٨] وقوله : (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً) [آل عمران : ٩٩].

وقوله : [البسيط]

٢١٨٤ ـ خلّ السّبيل لمن يبني المنار بها

 ..........(٥)

وأمّا «استبان» فيكون متعدّيا ، نحو : «استبنت الشّيء» ، ويكون لازما نحو : «استبان الصّبح» بمعنى «بان» ، فمن قرأ بالياء من تحت ، ورفع فإنه أسند الفعل إلى «السّبيل» ، فرفعه على أنه مذكر وعلى أن الفعل لازم.

__________________

(١) ينظر : الكتاب ١ / ١١٦.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٩٧.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٧٦ ، البحر المحيط ٤ / ١٤٤ ، الوسيط ٢ / ٧٧ ، الكشاف ٢ / ٢٩ ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٥٣) ، السبعة ص (٢٥٨) ، النشر ٢ / ٢٥٨ ، الزجاج ٢ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠ ، التبيان ١ / ٥٠١ ، الفراء ١ / ٣٣٧ ، الأخفش ٢ / ٤٩٠.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٧٦ ، البحر المحيط ٤ / ١٤٥ ، الوسيط ٢ / ٧٧ ، الكشاف ٢ / ٢٩ ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٥٣) ، السبعة ص (٢٥٨) ، النشر ٢ / ٢٥٨ ، الزجاج ٢ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠ ، التبيان ١ / ٥٠١ ، الفراء ١ / ٣٣٧.

(٥) صدر بيت لجرير وعجزه :

وأبرز ببرزة حيث اضطرك القدر

ديوانه ١ / ٢١١ ، شرح التصريح ٢ / ١٩٥ ، الصاحبي في فقه اللغة ص (١٨٦) ، الكتاب ١ / ٢٥٤ ، لسان العرب (برز) ، المقاصد النحوية ٤ / ٣٠٧ ، أوضح المسالك ٤ / ٧٨ ، الرد على النحاة ص (٧٥) ، شرح الأشموني ٢ / ٤٨١ ، شرح المفصل ٢ / ٣٠ ، الدر المصون ٣ / ٧٦.

١٨٠