اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٢

وهو مجرور بحاله ، وإن كان مجرورا بحرف جرّ بمثله الموصول لاختلاف المتعلّق ، وقد تقدّم إيضاحه (١).

والأولى أن تجعل «ما» مصدريّة ، ويكون متعلّق الكفر محذوفا ، والتقدير : بما كنتم تكفرون بالبعث ، أو بالعذاب ، أي : بملاقاته ، أي : بكفرهم بذلك.

فإن قيل : قد قال تبارك وتعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ) [آل عمران : ٧٧] ، وهاهنا قد قال [لهم](٢) : «أليس هذا بالحقّ»؟ فما وجه الجمع؟.

فالجواب : لا يكلمهم بالكلام الطيب النافع.

قال ابن عباس : هذا في موقف ، وقولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) في موقف آخر ، والقيامة مواقف ، ففي موقف يقرّون ، وفي موقف ينكرون.

قوله : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) خصّ لفظ الذّوق ، لأنهم في كل حال يجدونه وجدان الذّائق.

قوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ)(٣١)

قوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) [الآية : ٣١] وصف أحوال منكري البعث بأمرين :

أحدهما : حصول الخسران ، أي : خسروا أنفسهم بتكذيبهم المصير إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ بالبعث بعد الموت.

والثاني : حمل الأوزار العظيمة ، فأمّا خسرانهم فهو حسرتهم على تفريطهم وفوات الثواب وحصول العقاب.

قوله : (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) في نصب «بغتة» أربعة أوجه :

أحدها : أنها مصدر في موضع الحال من فاعل «جاءتهم» ، أي : مباغتة ، وإمّا من مفعوله أي : مبغوتين.

الثاني : أنها مصدر على غير الصّدر (٣) ؛ لأنّ معنى «جاءتهم» بغتتهم بغتة ، فهو كقولهم : «أتيته ركضا».

الثالث : أنّها منصوبة بفعل محذوف من لفظها ، أي : تبغتهم بغتة.

الرابع : بفعل [من غير لفظها ، أي : أتتهم بغتة ، والبغت والبغتة مفاجأة الشيء بسرعة من](٤) غير اعتداد به ، ولا جعل بال منه حتّى لو استشعر الإنسان به ، ثم جاء

__________________

(١) في ب : أيضا.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : المصدر.

(٤) سقط في أ.

١٠١

بسرعة من غير اعتداد به لا يقال فيه : بغتة ، وكذلك قول الشاعر في ذلك : [الطويل]

٢١٤٤ ـ إذا بغتت أشياء قد كان قبلها

قديما فلا تعتدّها بغتات (١)

والألف واللام في «السّاعة» للغلبة كالنّجم والثّريّا ؛ لأنها غلبت على يوم القيامة ، وسمّيت القيامة ساعة لسرعة الحساب فيها على الباري تبارك وتعالى.

وقيل : لأنّ السّاعة من الوقت الذي تقوم فيه القيامة ؛ لأنها تفجأ الناس في ساعة لا يعلمها [أحد](٢) إلّا الله تعالى. وقوله : «قالوا» هو جواب «إذا».

قوله : (يا حَسْرَتَنا) هذا مجاز ؛ لأن الحسرة لا يتأتى منها الإقبال ، وإنّما المعنى على المبالغة في شدّة التّحسّر ، وكأنهم نادوا التحسّر ، وقالوا : إن كان لك وقت ، فهذا أوان حضورك.

ومثله : (يا وَيْلَتى) والمقصود التنبيه على خطأ المنادي ، حيث ترك ما أحوجه تركه إلى نداء هذه الأشياء.

قال سيبويه (٣) ـ رحمه‌الله ـ : فيكون المنادى هو نفس الحسرة ، والمراد بالحسرة النّدامة.

قال الزّجّاج (٤) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : هذا النّداء ينبّه الناس على ما سيحصل لهم من الحسرة ، والعرب تعبر عن تعظيم أمثال هذه الأمور باللّفظة كقوله تبارك وتعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) [يس : ٣٠] (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٥٦] (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ) [هود : ٧٢] و (يا أَسَفى) [يوسف : ٨٤] والمعنى : يا أيها النّاس تنبّهوا على ما وقع من الأسف ، فوقع النداء على غير المنادى في الحقيقة.

قوله : (عَلى ما فَرَّطْنا) متعلّق (٥) بالحسرة و «ما» مصدريّة ، أي : على تفريطنا ، والضمير في «فيها» يجوز أن يعود على السّاعة ، ولا بد من مضاف ، أي : في شأنها والإيمان بها ، وأن يعود على الصّفقة المتضمّنة في قوله : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ) ، قاله الحسن ، أو يعود على الحياة الدنيا ، وإن لم يجر لها ذكر لكونها معلومة ، قاله الزمخشري (٦) ـ رحمه‌الله تعالى ـ.

وقيل : يعود على منازلهم في الجنّة إذا رأوها ، وهو بعيد.

والتفريط : التقصير في الشيء مع القدرة على فعله.

وقال أبو عبيد (٧) هو التّضييع.

__________________

(١) ينظر : مفردات الراغب ص (٥٥) ، الدر المصون ٣ / ٤٣.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : الرازي ١٢ / ١٦٤.

(٤) ينظر : المرجع السابق.

(٥) في ب : يتعلق.

(٦) ينظر : الكشاف ٢ / ١٧.

(٧) ينظر : مجاز القرآن ١ / ١٩٠.

١٠٢

وقال ابن بحر : وهو السّبق ومنه الفارط ، أي : السّابق للقوم ، فمعنى فرّط بالتشديد خلّى السّبق لغيره ، فالتضعيف فيه للسّلب ، ك «جلّدت البعير» ومنه (فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) [الإسراء : ٧٩].

فصل في تحرير معنى الخسران

اعلم أن [كلمة «حتى»](١) غاية [لقوله : «كذبوا»](٢) لا لقوله : (قَدْ خَسِرَ) ، لأن خسرانهم لا غاية له ، ومعنى «حتى» هاهنا أنّ منتهى تكذيبهم الحسرة يوم القيامة والمعنى : أنهم كذبوا بالبعث إلى أن ظهرت السّاعة بغتة ، فإن قيل : إنما يتحسّرون عند موتهم.

فالجواب : لما كان الموت وقوعا في [أحوال الآخرة و](٣) مقدماتها جعل من جنس السّاعة ، وسمّي باسمها ، فلذلك قال عليه أفضل الصلاة والسلام : «من مات فقد قامت قيامته» والمراد بالساعة : القيامة.

قوله : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ) «الواو» للحال ، وصاحب الحال «الواو» في «قالوا» أي : قالوا : يا حسرتنا في حالة حملهم أوزارهم.

وصدّرت هذه الجملة بضمير مبتدأ ؛ ليكون ذكره مرّتين فهو أبلغ.

والحمل هنا قيل : مجاز عن مقاساتهم العذاب الذي سببه الأوزار.

[قال الزّجّاج : كما يقال : «ثقل عليّ كلام فلان»](٤) والمعنى : كرهته.

وقيل : هو حقيقة وفي الحديث : «إنّه يمثّل له عمله بصورة قبيحة منتنة الرّيح فيحملها» وهو قول قتادة ، والسّدي (٥) ، وخصّ الظّهر ؛ لأنه يطيق [من الحمل](٦) ما لا يطيقه غيره من الأعضاء كالرأس والكاهل ، وهذا كما تقدم (٧) في قوله : (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) [الأنعام : ٧] ، (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) [آل عمران : ١٨٧] لأن اليد أقوى في الإدراك اللمسيّ من غيرها.

والأوزار : جمع «وزر» ك «حمل» وأحمال وعدل وأعدال.

والوزر في الأصل الثقل ، ومنه : وزرته ، أي : حمّلته شيئا ثقيلا (٨) ، ووزير الملك من هذا ؛ لأنه يتحمّل أعباء ما قلّده الملك من مئونة رعيّته وحشمته (٩) ومنه أوزار الحرب لسلاحها وآلاتها ، قال [القائل في ذلك](١٠) : [المتقارب]

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) انظر تفسير الرازي (١٢ / ١٦٤).

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في أ.

(٨) في ب : قليلا.

(٩) في ب : وحشمه.

(١٠) سقط في ب.

١٠٣

٢١٤٥ ـ وأعددت للحرب أوزارها

رماحا طوالا وخيلا ذكورا (١)

وقيل : الأصل في ذلك الوزر بفتح الواو والزاي ، وهو الملجأ الذي يلتجأ إليه من الجبل ، قال تعالى : (كَلَّا لا وَزَرَ) [القيامة : ١١] ثمّ قيل للثقل : وزر تشبيها بالجبل ، ثم استعير الوزر إلى الذّنب تشبيها به في ملاقاة المشقّة ، والحاصل أنّ هذه المادة تدلّ على الرّزانة والعظمة.

قوله : (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) «ساء» هنا تحتمل أوجها ثلاثة :

أحدها : أنها «ساء» المتصرّفة المتعدّية ، ووزنها حينئذ «فعل» بفتح العين ، ومفعولها حينئذ محذوف ، وفاعلها «ما».

و «ما» تحتمل ثلاثة أوجه :

أن تكون موصولة اسمية ، أو حرفية ، أو نكرة موصوفة ، وهو بعيد ، [وعلى جعلها اسمية أو نكرة موصوفة تقدّر](٢) لها عائدا ، والحرفية غير محتاجة إليه عند الجمهور.

والتقدير : ألا ساءهم الذي يزرونه ، أو شيء يزرونه ، أو وزرهم [وبدأ ابن عطية بهذا الوجه ؛ قال (٣) : كما تقول : ساءني هذا الأمر ، والكلام خبر مجرد كقوله : [البسيط]

٢١٤٦ ـ رضيت خطّة خسف غير طائلة

فساء هذا رضى يا قيس عيلانا (٤)

قال أبو حيان (٥) : ولا يتعين أن تكون «ما» في البيت خبرا مجردا ، بل تحتمل الأوجه الثلاثة](٦) وهو ظاهر.

الثاني : أن يكون للتعجّب ، فتنتقل (٧) من «فعل» بفتح العين [إلى](٨) «فعل» بضمها ، فتعطى حكم فعل التّعجّب من عدم التصرف ، والخروج من الخبر المحض إلى الإنشاء إن قلنا : إن التعجّب إنشاء ، وهو الصحيح ، والمعنى : ما أسوأ ، أي : أقبح الذي يزرونه ، أو شيئا يزرونه ، أو وزرهم.

الثالث : أنها بمعنى «بئس» فتكون للمبالغة في الذّمّ فتعطى أحكامها أيضا ، ويجري الخلاف في «ما» الواقعة بعدها حسبما ذكر في (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا) [البقرة : ٩٠] وقد ظهر الفرق بين هذه الأوجه الثلاثة ، فإنها في الأوّل متعدّية متصرّفة ، والكلام معها خبر محض ، وفي الأخيرين قاصرة جامدة إنشائية.

والفرق بين الوجهين الأخيرين أنّ التعجبيّة لا يشترط في فاعلها ما يشترط في فاعل «بئس».

__________________

(١) البيت للأعشى ، وهو في ديوانه ص (١٤٩) ، اللسان (وزر) التهذيب ١٣ (وزر) ، الدر المصون ٣ / ٤٤.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٨٤.

(٤) ينظر : البحر ٤ / ١١٢ ، الدر المصون ٣ / ٤٤ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٢٨٤.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١١٢.

(٦) سقط في أ.

(٧) في ب : فتنقل.

(٨) سقط في أ.

١٠٤

وقال أبو حيّان (١) : والفرق بين هذا الوجه يعني كونها بمعنى «بئس» ، والوجه الذي قبله ـ يعني كونها تعجبيّة ـ أنه لا يشترط فيه ما يشترط في فاعل «بئس» من الأحكام ، ولا هو جملة منعقدة من مبتدأ وخبر ، [إنما هو منعقد من فعل أو فاعل انتهى ، وظاهره لا يظهر إلّا بتأويل ، وهو أن الذم لا بد فيه من مخصوص بالذّمّ ، وهو مبتدأ ، والجملة الفعلية قبله خبره فانعقد من هذه الجملة مبتدأ وخبر](٢).

إلا أنّ لقائل أن يقول : إنما يتأتّى هذا على أحد الأعاريب في [المخصوص](٣) وعلى تقدير التّسليم ، فلا مدخل للمخصوص بالذّمّ في جملة الذّمّ بالنسبة إلى كونها فعليّة ، فحينئذ لا يظهر فرق بينها وبين التّعجبية في أنّ كلّا منهما منعقدة من فعل وفاعل.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «بئس الحمل حملوا».

قوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٣٢)

قوله عزوجل : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ) يجوز أن يكون من المبالغة جعل الحياة نفس اللّعب واللهو كقول [القائل](٤) : [البسيط]

٢١٤٧ ـ ..........

فإنّما هي إقبال وإدبار (٥)

وهذا أحسن ، ويجوز أن يكون في الكلام حذف ، أي : وما أعمال الحياة.

وقال الحسن البصري : «وما أهل الحياة الدنيا إلّا أهل لعب» فقدّر شيئين محذوفين.

واللهو : صرف النّفس عن الجدّ إلى الهزل ، ومنه لها يلهو.

وأمّا لهي عن كذا فمعناه صرف نفسه ، والمادّة واحدة انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، نحو : شقي ورضي.

وقال المهدوي : «الذي معناه (٦) الصّرف لامه ياء ، بدليل قولهم : «لهيان» ، ولام الأول واو».

قال أبو حيّان (٧) : «وليس بشيء ؛ لأن «الواو» في التثنية انقلبت ياء ، فليس أصلها الياء ألا ترى تثنية «شج» : «شجيان» وهو من الشّجو» انتهى.

يعني : أنهم يقولون في اسم فاعله : «له» ك «شج» والتثنية مبنيّة على المفرد ، وقد انقلبت في المفرد فلتنقلب في المثنى.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١١٢.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : في الحضور.

(٤) سقط في ب.

(٥) تقدم.

(٦) في ب : الذي جعل معناه.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١١٣.

١٠٥

قال شهاب الدين (١) : فلنا فيه بحث حسن أودعناه «التفسير الكبير» ولله الحمد [قال : وبهذا](٢) يظهر فساد ردّ المهدوي على الرّمّاني ، فإنّ الرّمّاني قال : «اللّعب عمل يشغل النفس عما تنتفع به ، واللهو صرف النفس من الجدّ إلى الهزل ، يقال : لهيت عنه ، أي صرفت نفسي عنه».

قال المهدوي ـ رحمه‌الله ـ : «وفيه ضعف وبعد ، لأنّ الذي فيه معنى الصّرف لامه ياء ، بدليل قولهم في التّثنية لهيان» انتهى.

وقد تقدّم فساد هذا الرّدّ.

وقال الراغب (٣) : «اللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمّه ، يقال : لهوت بكذا أو لهيت عن كذا : اشتغلت عنه بلهو». وهذا الذي ذكره الراغب هو الذي حمل المهدوي على التّفرقة بين المادّتين.

[فصل في ذم الحياة الدنيا

اعلم أن منكري البعث تعظم رغبتهم في الدّنيا ، فنبّه الله ـ تعالى ـ في هذه الآية الكريمة على خساستها.

واعلم أن نفس هذه الحياة لا يمكن ذمها ؛ لأن اكتساب السّعادات الأخروية لا تصح إلّا فيها ، فلهذا السبب حصل في تفسير الآية قولان :

الأول : قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : يريد حياة أهل الشرك والنفاق (٤) ؛ لأن حياة المؤمن يحصل فيها أعمال](٥) صالحة.

والثاني : أنه عامّ في حياة المؤمن والكافر وإنما سماها باللعب واللهو ؛ لأن الإنسان حال اشتغاله باللّعب واللهو ، فإنه يلتذّ به ، وعند انقضائه لا يبقى منه إلّا النّدامة ، [فكذلك هذه الحياة لا يبقى عند انقضائها إلّا النّدامة](٦) ، وفي تسمية هذه الحياة باللعب واللهو وجوه :

أحدها : أن مدّة اللّعب واللهو قليلة سريعة الانقضاء ، وكذلك هذه الحياة الدنيا.

وثانيها : أنّ اللعب واللهو إنما يحصل عند الاغترار بظواهر الأمور ، وأمّا عند التّأمّل التّامّ لا يبقى اللعب واللهو أصلا ، وكذلك فإن اللعب واللهو إنما يحصل للصّبيان والجهّال والمغفّلين.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٥.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : المفردات ٤٥٥.

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٢ / ١٦٥) عن ابن عباس.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في ب.

١٠٦

وأمّا العقلاء والحصفاء فقلّما يحصل لهم خوض في اللعب واللهو وكذلك الالتذاذ بطيبات الدنيا لا يحصل إلّا للمغفّلين الجهّال بحقائق الأمور.

وأما المحققون فإنهم يعلمون أن كل هذه الخيرات غرور وليس لها في نفس الأمر حقيقية معتبرة.

قوله : (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ) قرأ الجمهور (١) بلامين ، الأولى لام الابتداء ، والثانية للتعريف ، وقرأوا (٢) «الآخرة» رفعا على أنها صفة ل «الدار» و «خير» خبرها.

وقرأ (٣) ابن عامر : «ولدار» بلام واحدة هي لام الابتداء ، و «الآخرة» جرّ بالإضافة ، وفي هذه القراءة تأويلان :

أحدهما : قول البصريين ، وهو [أنه](٤) من باب حذف الموصوف ، وإقامة الصفة مقامه ، والتقدير : ولدار السّاعة الآخرة ، أو لدار الحياة الآخرة ، يدلّ عليه (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) ومثله قولهم : حبّة الحمقاء ، ومسجد الجامع ، وصلاة الأولى ، ومكان الغربى ، [التقدير : حبّة البقلة الحمقاء ، ومسجد المكان الجامع ، وصلاة السّاعة الأولى ، ومكان الجانب الغربيّ](٥).

وحسّن ذلك أيضا في الآية الكريمة كون هذه الصفة جرت مجرى الجوامد في إيلائها العوامل كثيرا ، وكذلك كلّ ما جاء مما توهّم فيه إضافة الموصوف إلى صفته ، وإنما احتاجوا إلى ذلك [كثيرا لئلا يلزم](٦) إضافة الشيء إلى نفسه وهو ممتنع ؛ لأن الإضافة إمّا للتعريف ، أو للتخصيص ، والشيء [لا يعرّف نفسه](٧) ولا يخصّصها ، وهذا مبنيّ على أنّ الصّفة نفس الموصوف ، وهو مشكل ، لأنه لا يعقل تصور الموصوف منفكّا عن الصّفة ، ولو كانت الصفة عين الموصوف لكان [ذلك](٨) محالا.

والثاني ـ وهو قول الكوفيين ـ أنه إذا اختلف لفظ الموصوف وصفته جازت إضافته إليها ، وأوردوا ما قدّمته من الأمثلة.

قال الفرّاء (٩) : هي إضافة الشيء إلى نفسه ، كقولك : «بارحة الأولى» و «يوم الخميس» و «حقّ اليقين» ، وإنما يجوز عند اختلاف اللّفظين وقراءة ابن عامر موافقة لمصحفه ، فإنها رسمت في مصاحف الشّاميين بلام واحدة.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٦ ، البحر المحيط ٤ / ١١٣ ، حجة القراءات ص (٢٤٦).

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٦ ، حجة القراءات ص (٢٤٦).

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٦ ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٤٦) ، السبعة ص (٢٥٦) ، النشر ٢ / ٢٥٧ ، التبيان ١ / ٤٩٠ ، المشكل ١ / ٢٥١ ، المصاحف لابن أبي داود ص (٤٥) ، الكشاف ٢ / ١٧.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في ب.

(٩) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٣٠.

١٠٧

واختارها بعضهم لموافقتها لما أجمع عليه في «يوسف» : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) [يوسف : ١٩] ، وفي مصاحف غيرهم بلامين. و «خير» يجوز أن يكون للتفضيل ، وحذف المفضّل عليه للعلم به ، أي : خير من الحياة الدنيا ، ويجوز أن يكون لمجرّد الوصف بالخيرية كقوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) [الفرقان : ٢٤] و (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) متعلّق بمحذوف ؛ لأنه صفة ل «خير» والذي ينبغي ـ [أو يتعيّن](١) ـ أن تكون «اللام» للبيان (٢) ، أي : أعني للذين ، وكذا كلّ ما جاء من نحوه ، نحو : (خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) [الضحى : ٤].

فصل في معنى الخيرية

ذكروا في وجه هذه الخيريّة وجوها :

أحدها : أنّ خيرات الدنيا [خسيسة وخيرات الآخرة شريفة وبيان ذلك من وجوه :

الأوّل : أن خيرات الدنيا](٣) ليس إلّا قضاء الشّهوتين ، وهي في نهاية الخساسة ؛ لأن الحيوانات الخسيسة تشارك الإنسان فيها ، بل ربما [كان](٤) أمر تلك الحيوانات فيها أكمل من أمر الإنسان ، فالجمل أكثر أكلا ، والدّيك والعصفور أكثر وقاعا ، والذّئب أقوى على الفساد والتّمزيق ، والعقرب أقوى على الإيذاء (٥) ، ومما يدلّ على خساستها أنها لو كانت شريفة لكان الإكثار منها يوجب زيادة الشرف فكان يجب أن يكون الإنسان الذي أذهب عمره في الوقاع والأكل أشرف الناس وأعلاهم درجة ، ومعلوم بالبديهة أنه ليس الأمر كذلك ، بل مثل هذا الإنسان يكون [ممقوتا](٦) مستحقرا ، يوصف بأنه بهيمة أو كلب ، أو أخسّ ، وذلك لأن الناس لا يفتخرون بهذه الأحوال ، بل يخفونها ، ولذلك عادة العقلاء عند الاشتغال بالوقاع يختفون (٧) عن النّاس ، وأيضا فإن الناس إذا شتم بعضهم بعضا لا يذكرون فيه إلّا الألفاظ الدّالة على الوقاع ، وأيضا فإن هذه [اللّذات](٨) سريعة الانقضاء والاستحالة ، فثبت بهذه الوجود خساسة هذه الملذّات.

وأما السّعادات الرّوحانية ، فإنها سعادات عالية شريفة ، باقية مقدّسة ، ولذلك فإن جميع الخلق إذا تخيّلوا في إنسان كثرة العلم والدّين وشدّة الانقباض عن اللّذات الجسمانية ، فإنهم بالطّبع يجيبونه ويخدمونه ، ويعدون [أنفسهم](٩) عبيدا لذلك الإنسان ، وأشقياء بالنسبة إليه ، وذلك يدلّ على خساسة اللّذات الجسمانية ، وكمال مرتبة اللذات الروحانية.

الأمر الثاني : في [بيان](١٠) أنّ خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدّنيا ، وهو أن يقال :

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : للشأن.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : الإيلام.

(٦) سقط في أ.

(٧) في ب : يخفون.

(٨) سقط في أ.

(٩) سقط في ب.

(١٠) سقط في أ.

١٠٨

هب أنّ هذين النوعين تشاركا في الفضل إلّا أن الوصول إلى الخيرات الموعودة في [غد القيامة معلوم قطعا ، وأمّا الوصول إلى الخيرات الموعودة في غد](١) الدنيا فغير معلوم ، بل ولا مظنون ، فكم من سلطان قاهر في بكرة اليوم صار تحت التّراب في آخر ذلك [اليوم](٢).

الأمر الثالث : هب أنه وجد الإنسان بعد هذا اليوم يوما آخر في الدنيا إلّا أنه لا يدري هل يمكنه الانتفاع بما جمعه من الأموال والطيبات واللّذات أم لا؟. أمّا كل ما جمعه من السّعادات ، فإنه يعلم قطعا أنه ينتفع به في الآخرة.

الأمر الرابع : هب أنه ينتفع بها إلا أن انتفاعه بخيرات الدنيا لا يخلو عن شوائب المكروهات [والانتفاع بخيرات](٣) الآخرة خال [عن](٤) شوائب المكروهات.

الأمر الخامس : هب أنه ينتفع بتلك الأموال والطيبات من غير شائبة إلا أن ذلك الانتفاع [منقرض](٥) ذاهب والمنافع المنقرضة (٦) تحزن الإنسان لمفارقتها ، وكلما كانت تلك المنافع أكمل وألذّ ، كانت [تلك](٧) الأحزان الحاصلة عند انقراضها وانقطاعها (٨) أقوى وأكمل.

فصل في المراد بقوله : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ)

قال ابن عباس : المراد بالآخرة الجنّة ، وأنها خير لمن اتّقى الكفر والمعاصي (٩).

وقال الحسن : المراد نفس دار الآخرة خير (١٠).

وقال الأصم : التمسّك بعمل الآخرة خير (١١).

وقال آخرون : نعيم الآخرة خير من نعيم الدنيا للذين يتّقون المعاصي والكبائر ، فأمّا الكافر والفاسق فلا [؛ لأن الدنيا](١٢) بالنسبة إليه خير من الآخرة لقوله عليه‌السلام : «الدّنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر» (١٣).

قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) قد تقدّم الكلام في مثل هذه الهمزة الداخلة على «الفاء» وأختها «الواو» و «ثم».

وقرأ ابن (١٤) عامر ـ رضي الله عنه ـ ونافع وحفص عن عاصم : «تعقلون» خطابا لمن كان بحضرته ـ عليه‌السلام ـ وفي زمانه.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : الرازي ١٢ / ١٦٦.

(٣) في أ : وانتفاع خيرات.

(٤) سقط في أ.

(٥) في ب : منقوض.

(٦) في ب : المنقوضة.

(٧) سقط في أ.

(٨) في ب : وانقضاها.

(٩) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٢ / ١٦٧) عن ابن عباس.

(١٠) ينظر : المصدر السابق.

(١١) ينظر : المصدر السابق.

(١٢) سقط في أ.

(١٣) تقدم.

(١٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١١٤ ، الدر المصون ٣ / ٤٦ ، حجة القراءات ص (٢٤٦).

١٠٩

والباقون (١) بياء الغيبة ردّا على ما تقدّم من الأسماء الغائبة (٢) ، وحذف مفعول «تعقلون» للعلم به ، أي : أفلا تعقلون أنّ الأمر كما ذكر فتزهدوا (٣) في الدنيا ، أو أنها خير من الدنيا.

قوله تعالى : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ)(٣٣)

قوله تعالى : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) «قد» هنا حرف تحقيق.

وقال الزمخشري (٤) والتبريزي : «قد نعلم» بمعنى ربّما التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته ، نحو قوله: [الطويل]

٢١٤٨ ..........

[ولكنّه](٥) قد يهلك المال نائله(٦)

قال أبو حيّان (٧) : وهذا القول غير مشهور للنحاة ، وإن قال به بعضهم مستدلا بقول [القائل](٨) : [البسيط]

٢١٤٩ ـ قد أترك القرن مصفرّا أنامله

كأنّ أثوابه مجّت بفرصاد (٩)

وقال الآخر في ذلك : [الطويل]

٢١٥٠ ـ أخي ثقة لا تتلف الخمر ماله

ولكنّه قد يهلك المال نائله (١٠)

والذي يظهر أن التكثير لا يفهم من «قد» ، وإنما فهم من سياق الكلام ؛ إذ التمدّح بقتل قرن واحد غير طائل ، وعلى تقدير ذلك فهو متعذّر في الآية ؛ لأن علمه ـ تبارك وتعالى ـ لا يقبل التكثير.

قال شهاب الدين : قد يجاب عنه بأن التكثير في متعلّقات العلم لا في العلم ، [ثم قال](١١): وقوله بمعنى «ربّما» التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته المشهور أنّ «ربّ» للتقليل (١٢) لا للتّكثير ، وزيادة «ما» عليها لا يخرجها عن ذلك ، بل هي مهيّئة لدخولها على الفعل ، و «ما» (١٣) المهيّئة لا تزيل الكلمة عن معناها الأصلي ، كما لا تزيل (١٤)

__________________

(١) ينظر : حجة القراءات ص (٢٤٦) ، السبعة ص (٢٥٦) ، النشر ٢ / ٢٥٧ ، التبيان ١ / ٤٩٠ ، المشكل ١ / ٢٥١ ، المصاحف لابن أبي داود ص (٤٥) ، البحر المحيط ٤ / ١١٤ ، الدر المصون ٣ / ٤٦.

(٢) في ب : الغالبة.

(٣) في ب : فيزهدوا.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ١٧.

(٥) سقط في ب.

(٦) تقدم.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١١٥.

(٨) سقط في ب.

(٩) تقدم.

(١٠) تقدم.

(١١) سقط في ب.

(١٢) في ب : للتعليل.

(١٣) في ب : وأما.

(١٤) في ب : يزيل.

١١٠

«لعلّ» ، عن الترجي ، ولا «كأنّ» عن التشبيه ، ولا «ليت» عن التمني.

وقال ابن مالك : «قد» ك «ربّما» في التقليل والصّرف إلى معنى المضيّ ، وتكون حينئذ للتّحقيق والتوكيد ، نحو : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ) [الأنعام : ٣٣] (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ) [الصف : ٥].

وقوله : [الطويل]

٢١٥١ ـ وقد تدرك الإنسان رحمة ربّه

ولو كان تحت الأرض سبعين واديا (١)

وقد تخلو من التّقليل ، وهي صارفة لمعنى المضيّ ، نحو قوله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) [البقرة : ١٤٤].

وقال مكي : و «قد» هنا وشبهه تأتي لتأكيد الشيء ، وإيجابه ، وتصديقه ، و «نعلم» بمعنى علمنا.

وقد تقدم الكلام في هذه الحروف وأنها متردّدة بين الحرفيّة والاسميّة.

وقال أبو حيّان (٢) : هنا «قد» حرف توقّع إذا دخلت على مستقبل الزمان كان التوقّع من المتكلّم ؛ كقولك : قد ينزل المطر شهر كذا ، وإذا كان ماضيا أو فعل حال بمعنى المضيّ كان التوقع عند السّامع.

وأمّا المتكلّم فهو موجب ما أخبر به ، وعبّر هنا بالمضارع إذ المراد الاتّصاف بالعلم واستمراره ، ولم يلحظ فيه الزمان كقولهم : «هو يعطي ويمنع».

«ليحزنك» سادّ مسدّ المفعولين ، فإنها معلّقة عن العمل ، وكسرت لدخول «اللام» في حيّزها ، وتقدّم الكلام في «ليحزنك» ، وأنه قرىء بفتح (٣) الياء وضمّها من «حزنه» و «أحزنه» في آل عمران.

و (الَّذِي يَقُولُونَ) فاعل ، وعائده محذوف ، أي : الذي يقولونه من نسبتهم له إلى ما لا يليق به ، والضّمير في «إنه» ضمير الشّأن والحديث والجملة بعده خبره مفسّرة له ، ولا يجوز في هذا المضارع أن يقدر باسم فاعل رافع لفاعل كما يقدّر في قولك : «إن زيدا يقوم أبوه» لئلّا يلزم تفسير ضمير الشأن بمفرد.

وقد تقدّم أنه ممنوع عند البصريّين.

فصل في سبب نزول الآية

قال السّدّيّ : التقى الأخنس بن شريق ، وأبو جهل بن هشام ، فسأل الأخنس أبا

__________________

(١) البيت لأمية بن أبي الصلت. ينظر : ديوانه (٧٠) الدر المصون ٣ / ٤٧ ، البحر المحيط ٤ / ١١٥.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١١٥.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ١٨ ، الدر المصون ٣ / ٤٧ ، حجة القراءات ص (٢٤٦).

١١١

جهل فقال : يا أبا الحكم ، أخبرني عن محمّد أصادق هو أم كاذب ، فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيري؟

فقال أبو جهل : والله إن محمّدا لصادق ، وما كذب محمد قطّ ، ولكن إذا ذهبت بنو قصيّ باللّواء والسّقاية والحجابة والندوة ، والنّبوّة ، فماذا يكون لسائر قريش ، فأنزل الله هذه الآية (١).

وقال ناجية بن كعب : قال أبو جهل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما نتّهمك ولا نكذّبك ، ولكنّا نكذّب الذي جئت به ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية (٢).

وقيل : إنّ الحارث بن عامر من قريش قال : يا محمّد ، والله إن اتّبعناك نتخطّف من أرضنا ، فنحن لا نؤمن بك لهذا السّبب. واعلم أن فرق الكفار كانوا كثيرين ، فمنهم من ينكر نبوّته ؛ لأنه ينكر أن يكون الرسول من البشر ، وقد تقدّم شبهتهم ، وأجاب الله عنها (٣).

ومنهم من ينكر البعث ، ويقول : إن محمّدا يخبر بالحشر والنّشر بعد الموت ، وذلك محال ، فيطعن في رسالة محمّد من هذا الوجه ، وقد ذكر الله شبههم في هذه السّورة ، وأجاب عنها.

ومنهم من كان يشافهه بالسّفاهة وهو المذكور في هذه الآية.

واختلفوا في ذلك المحزن.

فقيل : كانوا يقولون : ساحر ، وشاعر ، وكاهن ، ومجنون وهو قول الحسن (٤).

وقيل : كانوا يصرّحون بأنهم لا يؤمنون به (٥).

وقيل : كانوا ينسبونه إلى الكذب (٦).

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٨) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن أبي يزيد المدني.

(٢) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٤٣) كتاب التفسير باب سورة الأنعام (٣٠٦٤) والحاكم (٢ / ٣١٥) والطبري (٥ / ١٨١) عن ناجية بن كعب وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وتعقبه الذهبي فقال : ما خرجا لناجية شيئا.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٧ ـ ١٨) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه والضياء في المختارة من طريق ناجية بن كعب الأسدي عن علي بن أبي طالب.

وناجية قال ابن معين : صالح وقال أبو حاتم : شيخ وقال العجلي وابن حبان : ثقة وانظر تهذيب التهذيب (١٠ / ٣٩٩) وتقريب التهذيب (٢ / ٢٩٤ والكشاف (٣ / ١٩٥) وتاريخ البخاري الكبير (٨ / ١٠٧) والجرح والتعديل (٨ / ٢٢٢٣) وميزان الاعتدال (٤ / ٢٣٩) ولسان الميزان (٧ / ٤٠٧) ومعرفة الثقات (١٨٣٠).

(٣) ينظر : الرازي ١٢ / ١٦٩.

(٤) ينظر : الرازي ١٢ / ١٦٨.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ينظر : المصدر السابق.

١١٢

قوله : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ).

قرأ (١) نافع ، والكسائي «لا يكذبونك» مخفّفا من «أكذب».

والباقون (٢) مثقّلا من «كذّب» وهي قراءة عليّ ، وابن عبّاس.

واختلف الناس في ذلك ، فقيل : هما بمعنى واحد ، مثل : أكثر وكثّر وأنزل ونزّل ، وقيل : بينهما فرق.

قال الكسائي : العرب تقول : كذّبت الرجل بالتّشديد إذا نسب الكذب إليه ، وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه ، ويقولون أيضا : أكذبت الرّجل إذا وجدته كاذبا ، ك «أحمدته» إذا وجدته محمودا ، فمعنى لا يكذبونك مخفّفا : لا ينسبون الكذب إليك ولا يجدونك كاذبا وهو واضح.

وأمّا التّشديد فيكون خبرا محضا عن عدم تكذيبهم إيّاه.

فإن قيل : هذا محال ؛ لأن بعضهم قد وجد منه تكذيب ضرورة.

فالجواب من وجوه :

الأول : أنّ هذا وإن كان منسوبا إلى جميعهم أعني عدم التكذيب ، فهو إنما يراد بعضهم مجازا ، كقولك : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ) [الشعراء : ١٠٥] (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ) [الشعراء : ١٦٠] وإن كان فيهم من لم يكذبه ، فهو عامّ يراد به الخاصّ.

والثاني : أنه نفي للتكذيب لانتفاء ما يترتّب عليه من المضارّ ، فكأنه قيل : فإنهم لا يكذبونك تكذيبا يبالى به ويضرك ؛ لأنك لست بكاذب ، فتكذيبهم كلا تكذيب ، فهو من نفي السّبب لانتفاء مسببه.

وقال الزمخشري (٣) : والمعنى أن تكذيبك أمر راجع إلى الله تعالى ؛ لأنك رسوله المصدّق ، فهم لا يكذبونك في الحقيقة ، إنّما يكذّبون الله بجحود آياته ، فانته عن حزنك ، كقول السّيّد لغلامه وقد أهانه بعض الناس لم يهينوك وإنما أهانوني ، فهو نظير قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠].

الثالث : أن القوم ما كانوا يكذّبون به في السّرّ كما تقدّم في سبب النزول ، فيكون تقدير الآية: فإنّهم لا يكذّبونك بقلوبهم ، بل بظاهر قولهم.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٨ ، البحر المحيط ٤ / ١١٦ ، حجة القراءات ص (٢٤٧) ، الكشاف ٢ / ١٨ ، النشر ٢ / ٢٥٧ ـ ٢٥٨ ، اتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٠.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٨ ، البحر المحيط ٤ / ١١٦ ، الوسيط في تفسير القرآن المجيد ٢ / ٢٦٥ ـ ٢٢٦ ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٤٧ ـ ٢٤٩) السبعة ص (٢٥٧) ، النشر ، ٢٥٧ ـ ٢٥٨ ، التبيان ١ / ٤٩١ ، الزجاج ٢ / ٢٦٦ ، المشكل ١ / ٢٥١ ، الفراء ١ / ٣٣١ ، الحجة لابن خالويه ص (١٣٨).

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ١٨.

١١٣

ونظيره : قوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) [النمل : ١٤] في قصة موسى عليه الصلاة والسلام.

الرابع : أنهم لا يقولون : أنت كذّاب ؛ لأنهم جرّبوك الدّهر الطويل وما وجدوا منك كذبا ألبتّة ، وسمّوك بالأمين ، وإنما جحدوا صحّة نبوّتك ؛ لأنهم اعتقدوا أنّ محمّدا عرض له نوع خبل ونقصان ، فلأجله تخيّل في نفسه كونه رسولا من عند الله وبهذا التقدير لا ينسبونه إلى الكذب ، بل هو أمين في كلّ الأمور إلّا في هذا الوجه الواحد.

الخامس : قال ابن الخطيب (١) : المراد أنّهم لا يخصّونك بالتكذيب ، بل ينكرون دلالة المعجزة الظّاهرة على الصدق مطلقا لقوله : (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ).

والمراد أنهم يقولون في كلّ معجزة : إنها سحر ، فالتقدير : أنهم لا يكذّبونك على التّعيين ، بل القوم يكذّبون جميع الأنبياء والرّسل.

قوله : (بِآياتِ اللهِ) يجوز في هذا الجارّ وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق ب «يجحدون» وهو الظّاهر ، وجوّز أبو البقاء (٢) أن يتعلق ب «الظّالمين» قال : كقوله تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها) [الإسراء : ٥٩] وهذا الذي قاله ليس بجيّد لأن «الباء» هناك سببيّة ، أي : ظلموا بسببها ، و «الباء» هنا معناها التعدية ، وهنا شيء يتعلّق به تعلّقا واضحا ، فلا ضرورة تدعو إلى الخروج عنه ، وفي هذه الآية إقامة الظاهر مقام المضمر ، إذ الأصل : «ولكنهم يجحدون بآيات الله» ، ولكنّه نبّه على أن الظلم هو الحامل لهم على الجحود.

والجحود والجحد نفي ما في القلب ثباته ، أو إثبات ما في القلب نفيه.

وقيل : الجحد إنكار المعرفة ، فليس مرادفا للنفي من كلّ وجه.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ)(٣٤)

لما أزال الحزن عن قلب رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الآية الأولى بأن بيّن أن تكذيبهم يجري مجرى تكذيب الله ـ تعالى ـ ذكر في هذه الآية طريقا آخر في إزالة الحزن عن قلبه وذلك بأن بيّن أن سائر الأمم عاملوا أنبياءهم بمثل هذه المعاملة ، وأن أولئك صبروا على تكذيبهم وإيذائهم حتى آتاهم الله النّصر والفتح والظّفر ، فوجب أن يقتدي بهم في هذه الطريقة.

قوله : (مِنْ قَبْلِكَ) متعلّق ب «كذّبت».

ومنع أبو البقاء أن يكون صفة ل «رسل» ؛ لأنه زمان ، والزّمان لا توصف به

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٢ / ١٦٩.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٠.

١١٤

الجثث ، وقد تقدّم البحث في ذلك في «البقرة» ، وهنا عند قوله : (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً) [الأنعام : ٦].

قوله : «وأوذوا» يجوز فيه أربعة أوجه :

أظهرها : أنه عطف على قوله : «كذّبت» أي : كذّبت الرّسل ، وأوذوا ، فصبروا على ذلك.

والثاني : أنه معطوف على «صبروا» أي : فصبروا وأوذوا.

والثالث ، وهو بعيد : أن يكون معطوفا على «كذّبوا» ، فيكون داخلا في صلة الحرف المصدريّ ، والتّقدير فيه : فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم.

والرابع : أن يكون مستأنفا.

قال أبو البقاء (١) : «ويجوز أن يكون الوقف ثمّ على قوله : «كذّبوا» ، ثم استأنف فقال : وأوذوا».

وقرأ الجمهور (٢) : «وأوذوا» بواو بعد الهمزة ؛ [من «آذى» «يؤذي» رباعيا.

وقرأ (٣) ابن عامر في رواية شاذّة : «وأذوا» من غير واو بعد الهمزة](٤) وهو من «أذيت» الرجل ثلاثيا لا من «آذيت» رباعيا.

قوله : (حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) الظّاهر أن هذه الغاية متعلقة بقوله : «فصبروا» ، أي : كان غاية صبرهم نصر الله إياهم ، وإن جعلنا «وأوذوا» عطفا عليه كانت غاية لهما ؛ وهو أوضح وإن جعلناه مستأنفا كانت غاية له فقط ، وإن جعلناه معطوفا على «كذّبت» فتكون الغاية للثلاثة ، و «النصر» مضافا لفاعله ومفعوله محذوف ، أي : نصرنا أتاهم ، وفيه التفات من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلّم ، إذ قبله (بِآياتِ اللهِ) ، فلو جاء على ذلك لقيل «نصره».

وفائدة الالتفات إسناد النصر إلى ضمير المتكلّم المشعر بالعظمة.

قوله : (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) يعني أن وعد الله إيّاك بالنصر حقّ وصدق لا يمكن تطرّق الخلف والتبديل إليه ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) [الصافات : ١٧١ ، ١٧٢] وقوله : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَ) [المجادلة : ٢١] وهذه الآية تدلّ على قول أهل السّنّة في خلق الأفعال ؛ لأن كل ما أخبر الله عن وقوعه ، فذلك الخبر ممتنع التغيير ، وإذا امتنع تطرّق التغيير إلى ذلك الخبر امتنع [تطرق التغيير إلى المخبر عنه](٥) فإذا أخبر الله عن بعضهم بأنه يموت على الكفر كان ترك الكفر منه محالا ، فكان تكليفه بالإيمان تكليفا بما لا يطاق ، والله أعلم.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٠.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٩.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٩.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في أ.

١١٥

قوله : (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) أي : خبرهم في القرآن كيف أنجيناهم ودمّرنا قومهم.

وفي فاعل «جاء» وجهان :

أحدهما : هو مضمر ، واختلفوا فيما يعود عليه هذا الضمير ، فقال ابن عطية (١) : الصّواب عندي أن يقدر «جلاء» أو «بيان».

وقال الرّمّاني : تقديره : «نبأ».

وقال أبو حيّان (٢) : «الذي يظهر لي أنّه يعود على ما دلّ عليه المعنى من الجملة السّابقة ، أي : ولقد جاءك هذا الخبر من تكذيب أتباع الرّسل للرّسل ، والصّبر والإيذاء إلى أن نصروا».

وعلى هذه الأقوال يكون (مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) في محلّ نصب على الحال وعاملها هو «جاء» ؛ لأنه عامل في صاحبها.

والثاني : أنّ «من نبأ» هو الفاعل. ذكره الفارسي ، وهذا إنما يتمشّى له على رأي الأخفش (٣) ؛ لأنه لا يشترط في زيادتها شيئا ، وهذا ـ كما رأيت ـ كلام موجب ، والمجرور ب «من» معرفة.

وضعف أيضا (٤) من جهة المعنى بأنه لم يجئه كلّ نبأ للمرسلين ؛ لقوله : (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [غافر : ٧٨] ، وزيادة «من» تؤدّي إلى أنه جاءه جميع

الأنباء ؛ لأنه اسم جنس مضاف ، والأمر بخلافه. ولم يتعرّض الزمخشري (٥) للفاعل إلّا أنه قال : «ولقد جاءك من نبأ المرسلين بعض أنبائهم وقصصهم» وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب ؛ إذ «من» لا تكون فاعلة ، ولا يجوز أن يكون «من نبأ» صفة لمحذوف هو الفاعل ، أي : ولقد جاءك نبأ من نبأ المرسلين ؛ لأن الفاعل لا يحذف بحال إلّا في مواضع ذكرت ، كذا قالوا.

قال أبو البقاء (٦) : «ولا يجوز عند الجميع أن تكون «من» صفة لمحذوف ، لأن الفاعل لا يحذف ، وحرف الجر إذا لم يكن زائدا لم يصحّ أن يكون فاعلا ؛ لأن حرف الجر يعدّي كل فعل يعمل في الفاعل من غير تعدّ».

يعني بقوله : «لم يصح أن يكون فاعلا» لم يصح أن يكون المجرور بذلك الحرف ، وإلّا فالحرف لا يكون فاعلا ألبتّة.

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٨٧.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١١٨.

(٣) ينظر : معاني القرآن ٢٧٤.

(٤) في ب : وضعف هذا أيضا.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ١٨.

(٦) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٠.

١١٦

الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ)(٣٥)

قوله : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ) : هذا شرط ، جوابه «الفاء» الداخلة على الشرط الثّاني ، وجواب الثّاني محذوف ، تقديره : فإن استطعت أن تبتغي فافعل ، ثم جعل الشّرط الثاني وجوابه جوابا للشّرط الأوّل ، وقد تقدّم مثل ذلك في قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ) [البقرة : ٣٨] إلّا أن جواب الثاني هناك مظهر.

و «كان» في اسمها وجهان :

أحدهما : أنه «إعراضهم» ، و «كبر» جملة فعلية في محل نصب خبرا مقدّما على الاسم ، وهي مسألة خلاف : هل يجوز تقديم خبر «كان» على اسمها إذا كان فعلا رافعا لضمير مستتر أم لا؟

وأمّا إذا كان خبرا للمبتدأ ، فلا يجوز ألبتّة لئلّا يلتبس بباب الفاعل ، واللّبس هنا مأمون.

ووجه المنع استصحاب الأصل ، و «كبر» إذا قيل : إنه خبر «كان» ، فهل يحتاج إلى إضمار «قد» أم لا؟

والظاهر أنه لا يحتاج ؛ لأنه كثر وقوع الماضي خبرا لها من غير «قد» نظما ونثرا ، وبعضهم يخص ذلك ب «كان» ويمنعه في غيرها من أخواتها إلا ب «قد» ظاهرة أو مضمرة ، ومن مجيء ذلك في خبر أخواتها قول النابغة : [البسيط]

٢١٥٢ ـ أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا

أخنى عليها الّذي أخنى على لبد (١)

والثاني : أن يكون اسمها ضمير الأمر والشأن ، والجملة الفعلية مفسّرة له في محلّ نصب على الخبر ، فإعراضهم مرفوع ب «كبر» ، وفي الوجه الأول ب «كان» ، ولا ضمير في «كبر» على الثاني ، وفيه ضمير على الأول ، ومثل ذلك في جواز هذين الوجهين قوله تعالى : (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) [الأعراف : ١٣٧] (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) [الجن : ٤] ، ف «فرعون» يحتمل أن يكون اسما ، وأن يكون فاعلا ، وكذلك «سفيهنا» ، ومثله أيضا قول امرىء القيس : [الطويل]

٢١٥٣ ـ وإن تك قد ساءتك منّي خليقة

فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل (٢)

ف «خليقة» يحتمل الأمرين ، وإظهار «قد» هنا يرجّح قول من يشترطها ، وهل يجوز

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه ص (١٦) ، جمهرة اللغة ص (١٠٥٧) ، خزانة الأدب ٤ / ٥ ، الدرر ٢ / ٥٧ ، لسان العرب (لبد) (خنا) ، شرح الأشموني ١ / ١١١ ، شرح عمدة الحافظ ص (٢١٠) ، شرح قطر الندى ص (١٣٤) ، همع الهوامع ١ / ١١٤ ، الدر المصون ٣ / ٥٠.

(٢) تقدم.

١١٧

في مثل هذا التركيب التّنازع ، وذلك أن كلّا من «كان» وما بعدها من الأفعال المذكورة في هذه الأمثلة يطلب المرفوع من جهة المعنى ، وشروط الإعمال موجودة.

قال شهاب الدين (١) : وكنت قديما سألت الشيخ ـ يعني أبا حيّان ـ عن ذلك ، فأجاب بالمنع محتجّا بأن شرط الإعمال ألّا يكون أحد المتنازعين مفتقرا إلى الآخر ، وألّا يكون من تمام معناه و «كان» مفتقرة إلى خبرها ، وهو من تمام معناها ، وهذا الذي ذكره من المنع ، وترجيحه (٢) ظاهر ، إلّا أن النحويين لم يذكروه في شروط الإعمال.

وقوله : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ) مؤوّل بالاستقبال ، وهو التّبيّن والظهور فهو كقوله : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ) [يوسف : ٢٦] أي : إن تبيّن وظهر ، وإلّا فهذه الأفعال قد وقعت وانقضت فكيف تقع شرطا؟

وقد تقدّم أنّ المبرّد يبقي «كان» خاصّة على مضيّها في المعنى مع أدوات الشّرط ، وليس بشيء.

وأمّا : (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) فهو مستقبل معنى ؛ لأنه لم يقع ، بخلاف كون ه «كبر عليه إعراضهم» ، وقدّ القميص ، و «أن تبتغي» مفعول الاستطاعة.

و «نفقا» مفعول الابتغاء.

والنّفق : السّرب النّافذ في الأرض ، وأصله من جحرة اليربوع ، ومنه : النّافقاء ، والقاصعاء ، وذلك أن اليربوع يحفر في الأرض سربا ويجعل له بابين ، وقيل : ثلاثة : النّافقاء والقاصعاء والدّابقاء ، ثم يرقّ بالحفر ما تقارب وجه الأرض ، فإذا نابه أمر دفع تلك القشرة الرقيقة وخرج ، وقد تقدّم استيفاء هذه المادّة عند قوله : (يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٣] ، و (الْمُنْفِقِينَ) [النساء : ٦١].

وقوله (فِي الْأَرْضِ) ظاهره أنه متعلق بالفعل قبله ، ويجوز أن يكون صفة ل «نفقا» فيتعلّق بمحذوف وهو صفة لمجرّد التوكيد ، إذ النّفق لا يكون إلّا في الأرض.

وجوّز أبو البقاء (٣) مع هذين الوجهين أن يكون حالا من فاعل «تبتغي» ، أي : وأنت في الأرض. قال : وكذلك في السماء. يعني من جواز الأوجه الثلاثة ، وهذا الوجه الثالث ينبغي ألّا يجوز لخلوّه عن الفائدة.

والسّلّم : قيل المصعد ، وقيل : الدّرج ، وقيل : السّبب تقول العرب : اتّخذني سلّما لحاجتك ، أي : سببا.

قال كعب بن زهير : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٥٠.

(٢) في ب : ترجيح.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٠.

١١٨

٢١٥٤ ـ ولا لكما منجى من الأرض فابغيا

بها نفقا أو في السّموات سلّما (١)

وهو مشتقّ من السّلامة ، قالوا : لأنه يسلم به إلى المصعد والسّلّم مذكّر ، وحكى الفرّاء تأنيثه(٢).

قال بعضهم : ليس ذلك بالوضع ، بل لأنه بمعنى المرقاة ، كما أنّث بعضهم الصوت في قوله : [البسيط]

٢١٥٥ ـ ..........

سائل بني أسد ما هذه الصّوت (٣)

لمّا كان في معنى الصّرخة.

فصل في نزول الآية

روى ابن عباس أن الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في محضر (٤) من قريش ، فقالوا : يا محمد ائتنا (٥) بآية من عند الله ، كما كانت الأنبياء تفعل فإنا نصدق بك ، فأبى الله أن يأتيهم بآية ، فأعرضوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشقّ ذلك عليه ، فنزلت هذه الآية (٦).

والمعنى : وإن عظم عليك إعراضهم عن الإيمان وشقّ ذلك عليك. وكان ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ يحرص على إيمان قومه أشدّ الحرص وكانوا إذا سألوا آية أحبّ أن يريهم الله ذلك طمعا في إيمانهم ، فقال الله عزوجل : (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ) أي : تطلب وتتّخذ نفقا ـ سربا ـ في الأرض فتذهب فيه ، أو سلّما درجا ومصعدا في السماء فتصعد فيه فتأتيهم بآية فافعل ، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فآمنوا كلهم ، وهذا يدلّ على أنه ـ تعالى ـ لا يريد الإيمان من الكافر ، بل يريد إبقاءه على الكفر ، وتقريره : أن قدرة الكافر على الكفر إمّا أن تكون صالحة للإيمان ، أو غير صالحة له ، فإن لم تكن صالحة له فالقدرة على الكفر مستلزمة للكفر وغير صالحة للإيمان ، وخالق هذه القدرة يكون قد أراد الكفر منه لا محالة ، وأما إن كانت هذه القدرة كما أنها صالحة للكفر ، فهي أيضا صالحة للإيمان ، فيكون نسبة القدرة إلى الطّرفين مستوية ، فيمتنع رجحان أحد

__________________

(١) ينظر : البحر ٤ / ١١٨. الدر المصون ٣ / ٥١.

(٢) ينظر : المذكر والمؤنث ٩٧.

(٣) البيت لرويشد بن كثير الطائي.

ينظر : الدرر ٦ / ٢٣٩ ، سر صناعة الإعراب ص (١١) ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص (١٦٦) ، شرح المفصل ٥ / ٩٥ ، لسان العرب (صوت) ، الأشباه والنظائر ٢ / ١٠٣ ، ٥ / ٢٣٧ ، الإنصاف ص (٧٧٣) ، الخصائص ٢ / ٤١٦ ، تخليص الشواهد ص (١٤٨) ، خزانة الأدب ٤ / ٢٢١ ، همع الهوامع ٢ / ١٥٧ ، الدر المصون ٣ / ٥١ ، البحر المحيط ٤ / ١١٩.

(٤) ينظر : الرازي ١٢ / ١٧١.

(٥) في ب : ائتنا.

(٦) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٢ / ١٧١) عن ابن عباس.

١١٩

الطّرفين على الآخر إلّا لداعية مرجّحة ، وحصول تلك الدّاعية ليس من العبد ، وإلّا لزم التّسلسل ، فثبت أن خالق تلك الدّاعية هو الله تعالى ، وثبت أن مجموع القدرة مع الدّاعية الخالصة يوجب الفعل ، فثبت أن خالق مجموع تلك القدرة مع تلك الداعية المستلزمة لذلك الكفر مريد لذلك الكفر وغير مريد لذلك الإيمان.

قوله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ).

نهي له عن هذه الحالة وهو قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) فإنّ من يكفر لسابق علم الله فيه ، وهذا النّهي لا يقتضي إقدامه على مثل مثل هذه الحالة كقوله : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) [الأحزاب : ١] لا يدلّ على أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أطاعهم وقبل دينهم ، والمقصود أنه لا ينبغي أن يشتد تحسّرك على تكذيبهم ، ولا تجزع من إعراضهم عنك ، فإنّك لو فعلت ذلك قرب حالك من حال الجاهل ، والمقصود تبعيده عن مثل هذه الحالة.

قوله تعالى : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)(٣٦)

اعلم أنّه بيّن السّبب في كونهم بحيث لا يقبلون الإيمان ، ولا يتركون الكفر فقال : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) ، يعني : أن الذين تحرص على أن يصدّقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون ، وإنّما يستجيب من يسمع كقوله : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) [النمل : ٨٠].

قال علي بن عيسى (١) : الفرق بين «يستجيب» و «يجيب» أن «يستجيب» فيه قبول لما دعي إليه ، وليس كذلك «يجيب» ؛ لأنه قد يجيب بالمخالفة كقول القائل : أتوافق في هذا المذهب أم تخالف؟ فيقول المجيب : أخالف.

قوله : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) فيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنها جملة من مبتدأ وخبر سيقت للإخبار بقدرته ، وأنّ من قدر على بعث الموتى يقدر على إحياء قلوب الكفرة بالإيمان ، فلا تتأسّف على من كفر.

والثاني : أن الموتى منصوب بفعل مضمر يفسّره الظّاهر بعده ، ورجح هذا الوجه على الرّفع بالابتداء لطعف جملة الاشتغال (٢) على جملة فعلية قبلها ، فهو نظير : (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) [الإنسان : ٣١] بعد قوله : (يُدْخِلُ) [الإنسان : ٣١].

والثالث : أنّه مرفوع على الموصول قبله ، والمراد ب «الموتى» الكفّار أي : إنما يستجيب المؤمنون السّامعون من أوّل وهلة ، والكافرون الذين يجيبهم الله ـ تعالى ـ بالإيمان ويوفقهم له ، فالكافرون يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ، وحينئذ يسمعون ، وأمّا قبل ذلك فلا يسمعون ألبتّة ، وعلى هذا فتكون الجملة من قوله : (يَبْعَثُهُمُ اللهُ) في محلّ نصب

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٢ / ١٧٢.

(٢) في أ : الابتداء.

١٢٠