اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٢

(أَكِنَّةً)(١) أغطية جمع «كنان» ، كالأعنّة جمع «عنان» «أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا» أي : صمما وثقلا.

فصل في بيان الدلالة من الآية

احتج أهل السّنّة بهذه الآية الكريمة على أنه ـ تعالى ـ قد يصرف عن الإيمان ، ويمنع منه ؛ لأنه ـ تعالى ـ جعل القلب في الكنان الذي يمنعه عن الإيمان.

قالت المعتزلة (٢) : لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها لوجوه :

أحدها : أنه ـ تبارك وتعالى ـ إنّما أنزل القرآن العظيم ليكون حجّة للرّسل على الكفّار ، لا ليكون حجّة للكفّار على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو كان المراد من هذه الآية الكريمة أنه ـ تعالى ـ منع الكفّار عن الإيمان ، لكان لهم أن يقولوا للرسول عليه الصّلاة والسّلام لما حكم بأنه منعنا من الإيمان فلم يذمّنا على ترك الإيمان ولم يدعونا إلى فعل الإيمان.

وثانيها : أنه تبارك وتعالى لو منعهم من الإيمان ، ثم دعاهم إليه لكان ذلك تكليفا للعاجز ، وهو منفيّ بصريح العقل ، وبقوله تبارك وتعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦].

وثالثها : أنه ـ تعالى ـ حكى ذلك الكلام عن الكفّار في معرض الذّمّ ، فقال تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) [فصلت : ٥] وقال في آية أخرى : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٨٨].

وإذا كان قد حكى عنهم هذا المذهب في معرض الذّمّ لهم امتنع أن يكون ذكره هنا في معرض التقريع والتوبيخ ، وإلّا لزم التّناقض.

ورابعها : أنه لا نزاع في أنّ القوم كانوا يفقهون ، ويسمعون ، ويعقلون.

وخامسها : أنّ هذه الآية وردت في معرض الذّمّ على ترك الإيمان ، وإذا كان هذا الصّدّ ، والمنع من قبل الله ـ تعالى ـ لما كانوا مذمومين ، بل كانوا معذورين.

وسادسها : أن قوله : (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) يدلّ على أنهم كانوا يفقهون ، ويميّزون الحقّ من الباطل ، وعند هذا فلا بدّ من التأويل وهو من وجوه :

الأول : قال الجبّائيّ (٣) : إنّ القوم كانوا يستمعون قراءة الرسول عليه الصلاة والسلام ، ليتوصّلوا بسماع قراءته إلى معرفة مكانه بالليل ، فيقصدوا قتله وإيذاءه ، فكان الله ـ تبارك وتعالى ـ يلقي في قلوبهم النوم وهو المراد من الأكنّة ، ويثقل أسماعهم عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النّوم ، وهو المراد من قوله : (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً).

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٦ / ٢٦١) عن ابن عباس.

(٢) ينظر : الرازي ١٢ / ١٥٤.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٥٤.

٨١

الثاني : أن الإنسان الذي علم الله ـ تعالى ـ منه أنه لا يؤمن ، وأنه يموت على الكفر ، فإنه ـ تبارك وتعالى ـ يسم قلبه بعلامة مخصوصة يستدلّ الملائكة برؤيتها على أنهم لا يؤمنون ، فلا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان والغطاء المانع ، وتلك العلامة في نفسها ليست مانعة عن الإيمان (١).

الثالث : أنّهم لمّا أصرّوا على الكفر ، وصمّموا عليه صار عدولهم عن الإيمان ، والحالة هذه كالكنان المانع عن الإيمان ، فذكر الله تبارك وتعالى الكنان كناية عن هذا المعنى.

الرابع : إنه تعالى لما منعهم الألطاف التي يفعل بمن اهتدى ، فأخلاهم منها ، وفوّض أمورهم إلى أنفسهم لسوء صنيعهم ، لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه بقوله : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً).

الخامس : أن يكون هذا الكلام ورد حكاية لما كانوا يذكرونه من قولهم : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) ، وقالوا : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) [فصلت : ٥].

فالجواب : أن العبد الذي أتى بالكفر إن لم يقدر على الإتيان بالإيمان فقد صحّ قولنا : بأنه ـ تبارك وتعالى ـ هو الذي حمله على الكفر [وصدّه عن الإيمان ، وإن كان القادر على الكفر قادرا على الإيمان فيمتنع صيرورة تلك القدرة مصدرا للكفر](٢) دون الإيمان إلّا عند انضمام تلك الدّاعية ، وقد تقدّم أنّ مجموع القدرة مع الدّاعي يوجب الفعل ، فيكون الكفر على هذا التقدير من الله تعالى ، وتكون الدّاعية الجارة إلى الكفر كنانا للقلب عن الإيمان ، ووقرا للسّمع عن استماع دلائل الإيمان ، فإذا ثبت في الدّليل العقليّ صحّة ما دلّ عليه ظاهر الآية الكريمة وجب حملها عليه عملا بالبرهان ، وظاهر القرآن (٣).

قوله : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ) أي من المعجزات والدّلالات (لا يُؤْمِنُوا بِها) وهذا يدلّ على فساد تأويل الجبّائي ؛ لأنه لو كان المراد بالأكنّة إلقاء النوم على قلوب الكفّار لئلا يمكنهم التّوصّل بسماع صوته إلى وجدان مكانه ، لما كان قوله : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) لائقا بذلك الكلام ، ولوجب أن يقال : وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يسمعوه ؛ لأن المقصود الذي ذكره الجبّائي إنما يحصل بالمنع من سماع الصّوت ، أمّا المنع من الفقه لكلامه فلا تعلّق له بما ذكره الجبائي(٤).

قوله : (حَتَّى إِذا جاؤُكَ) قد تقدّم الكلام في «حتّى» الداخلة على «إذا» في أول «النساء».

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٥٥.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٥٥.

٨٢

وقال أبو البقاء (١) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : هنا «إذا» في موضع نصب بجوابها ، وهو «يقول» وليس ل «حتّى» هنا عمل وإنّما أفادت معنى الغاية ، كما لا تعمل في الجمل.

وقال الحوفي : «حتّى» غاية و «يجادلونك» حال ، «ويقول» جواب «إذا» ، وهو العامل في «إذا».

وقال الزمخشري (٢) : [هي](٣) «حتى» التي تقع بعدها الجمل ، والجملة قوله : (إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ) ، و «يجادلونك» في موضع الحال ، ويجوز أن تكون الجارة ، فيكون «إذ جاءوك» في محلّ الجر ، بمعنى «حتّى» وقت مجيئهم ، و «يجادلونك» حال.

وقوله : (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) تفسير له ، والمعنى أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك.

وفسّر مجادلتهم بأنهم يقولون : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) قال أبو حيّان (٤) : «وقد وفّق الحوفي ، وأبو البقاء ، وغيرهما للصواب في ذلك» ثمّ ذكر عبارة أبي البقاء والحوفي ، وقال أيضا : و «حتى» إذا وقع بعدهما «إذا» ، يحتمل أن تكون بمعنى «الفاء» ، ويحتمل أن تكون بمعنى «إلى أن» ، فيكون التقدير : فإذا جاءوك يجادلونك يقول ، أو يكون التقدير : وجعلنا على قلوبهم أكنّة ، وكذا إلى أن قالوا : إن هذا إلّا أساطير الأوّلين ، وقد تقدّم أن «يجادلونك» حال من فاعل «جاءوك» ، و «يقول» : إمّا جواب : «إذا» وإمّا مفسّرة للمجيء ، كما تقدّم تقريره.

و «أساطير» فيه أقوال :

أحدها : أنه جمع لواحد مقدّر ، واختلف في ذلك المقدّر ، فقيل : أسطورة ، وقيل : أسطارة ، وقيل : أسطور ، وقيل : أسطار ، وقيل : إسطيرة وقال بعضهم : بل لفظ بهذه المفردات.

والثاني : أنه جمع جمع ف «أساطير» جمع «أسطار» ، و «أسطار» جمع «سطر» بفتح الطاء ، وأمّا «سطر» بسكونها فجمعه في القلّة على «أسطر» ، وفي الكثرة على «سطور» ك «فلس» و «أفلس» و «فلوس».

والثالث : أنه جمع جمع الجمع ف «أساطير» جمع «أسطار» ، و «أسطار» جمع «أسطر» ، و «أسطر» جمع «سطر» وهذا مرويّ عن الزّجّاج ، وليس بشيء ، فإنّ «أسطار» ليس جمع «أسطر» ، بل هما مثالا جمع قلّة.

الرابع : أنه اسم جمع.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٨.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ١٤.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٠٣.

٨٣

قال ابن عطية (١) : «هو اسم جمع لا واحد له من لفظه» وهذا ليس بشيء ؛ لأنّ النحويين قد نصّوا على أنه إذا كان على صيغة تخصّ الجموع لم يسمّوه اسم جمع ، بل يقولون : هو جمع ك «عباديد» و «شماطيط» ، فظاهر كلام الرّاغب (٢) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : أن «أساطير» جمع «سطر» بفتح الطاء ، فإنه قال : وجمع «سطر» ـ يعني بالفتح ـ «أسطار» و «أساطير».

وقال المبرّد ـ رحمه‌الله تعالى ـ : هي جمع «أسطورة» نحو : «أرجوحة» و «أراجيح» و «أحدوثة» و «أحاديث».

ومعنى «الأساطير» : الأحاديث الباطلة والتّرّهات ممّا لا حقيقة له.

وقال الواحدي (٣) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : أصل «الأساطير» من «السّطر» وهو أن يجعل شيئا ممتدا مؤلّفا ، ومنه سطر الكتاب ، وسطر من شجر مفروش.

قال ابن السكيت (٤) : يقال : سطر وسطر ، فمن قال : «سطر» فجمعه في القليل «أسطر» ، والتكثير «سطور» ، ومن قال : «سطر» فجمعه «أسطار» ، و «الأساطير» جمع الجمع.

وقال الجبائي (٥) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : واحد الأساطير «أسطور» و «أسطورة» و «إسطيرة».

قال جمهور المفسرين : أساطير الأولين ما سطّره الأوّلون.

وقال ابن عباس (٦) : معناه أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها ، أي : يكتبونها.

قوله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)(٢٦)

قوله : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) في الضميرين ـ أعني «هم» وهاء «عنه» ـ أوجه :

أحدها : أن المرفوع يعود على الكفّار ، والمجرور يعود على القرآن الكريم ، وهو أيضا الذي عاد عليه الضّمير المنصوب من «يفقهوه» ، والمشار إليه بقولهم : «إن هذا».

والثاني : أنّ «هم» يعود على من تقدّم ذكرهم من الكفّار ، وفي «عنه» يعود على الرسول ، وعلى هذا ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة ، فإن قوله : (جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) خطاب للرسول عليه الصّلاة والسّلام ، فخرج من هذا الخطاب إلى الغيبة.

وقيل : يعود المرفوع على أبي طالب وأتباعه.

وفي قوله : «ينهون» و «ينأون» تجنيس التصريف ، وهو عبارة عن انفراد كل كلمة

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٨٠.

(٢) ينظر : المفردات ٢٣٣.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٥٥.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ينظر : المصدر السابق.

٨٤

عن الأخرى بحرف ف «ينهون» انفردت بالهاء ، و «ينأون» بالهمزة ، ومثله قوله تعالى : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ) [الكهف : ١٠٤] (بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) [غافر : ٧٥].

وقوله عليه الصلاة والسلام : «الخيل معقود في نواصيها الخير» (١) ، وبعضهم يسميه «تجنيس التّحريف» وهو الفرق بين كلمتين بحرف وأنشدوا في ذلك قول القائل : [الكامل]

٢١٢٨ ـ إن لم أشنّ على ابن حرب غارة

لم تخل يوما من نهاب نفوس (٢)

وذكر غيره أن «تجنيس التحريف» هو أن يكون الشّكل فرقا بين كلمتين ، وجعل منه «اللهى تفتح اللهى» وقد تقدّم تحقيقه.

وقرأ الحسن (٣) «وينون» بإلقاء حركة الهمزة على النون وحذفها ، وهو تخفيف قياسي.

و «النّأي» : البعد ، قال : [الطويل]

٢١٢٩ ـ إذا غيّر النّأي المحبّين لم يزل

رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح (٤)

وقال الآخر في ذلك ، فأجاد : [الطويل]

٢١٣٠ ـ ألا حبّذا هند وأرض بها هند

وهند أتى من دونها النّأي والبعد (٥)

عطف الشيء على نفسه للمغايرة اللّفظيّة يقال : نأى زيد ينأى نأيا ، ويتعدّى بالهمزة ، فيقال: أنأيته ، ولا يعدّى بالتضعيف ، وكذا كل ما كان عينه همزة.

ونقل الواحدي أنه يقال : نأيته بمعنى نأيت عنه.

وأنشد المبرّد : [الطويل]

٢١٣١ ـ أعاذل إن يصبح صداي بقفرة

بعيدا نآني صاحبي وقريبى (٦)

__________________

(١) أخرجه مسلم في صحيحه ٣ / ١٤٩٣ ، الحديث (٩٧ / ١٨٧٢) وله شاهد من حديث أنس بلفظ : البركة في نواصي الخيل.

أخرجه البخاري في الصحيح ٦ / ٥٤ ، كتاب الجهاد باب الخيل معقود في نواصيها الخير الحديث (١٠٠ / ١٨٧٤) واللفظ لهما.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٥ ، البحر المحيط ٤ / ١٠٤.

(٤) البيت لذي الرمة في ديوانه ص (١١٩٢) ، خزانة الأدب ٩ / ٣٠٩ ـ ٣١٢ ، شرح الأشموني ١ / ١٣٤ ، شرح المفصل ٧ / ١٢٤ ، لسان العرب (رسس) ، الدر المصون ٣ / ٣٥.

(٥) تقدم.

(٦) البيت للنمر بن تولب.

ينظر : الكامل ١ / ٣٧٣ ، روح المعاني ٧ / ١٢٧ ، لسان العرب (نأى) الدر المصون ٣ / ٣٥.

٨٥

أي : نأى عنّي.

وحكى اللّيث : «نأيت الشيء» ، أي : أبعدته ، وأنشد : [الطويل]

٢١٣٢ ـ إذا ما التقينا سال من عبراتنا

شآبيب ينأى سيلها بالأصابع (١)

فبناه للمفعول ، أي : ينحّى ويبعد.

والحاصل أنّ هذه المادة تدلّ على البعد ، ومنه أتنأى أي : أفعل النّأي. والمنأى : الموضع البعيد.

قال النابغة : [الطويل]

٢١٣٣ ـ فإنّك كالموت الّذي هو مدركي

وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع (٢)

و «تناءى» أي : تباعد ، ومنه النّؤي للحفيرة التي حول الخباء لتبعد عنه الماء.

وقرىء (٣) : (وَنَأى بِجانِبِهِ) [فصلت : ٥١] وهو مقلوب من «نأى» ، ويدلّ على ذلك أنّ الأصل هو المصدر وهو «النّأي» بتقديم الهمزة على حرف العلّة.

فصل في المراد بالآية وسبب نزولها

معنى الآية الكريمة أنهم ينهون النّاس عن اتّباع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينأون عنه ، أي : يتباعدون عنه بأنفسهم نزلت هذه الآية في كفّار «مكة» المشرفة ، قاله محمد بن الحنفيّة والسّدي والضّحاك (٤) ، وقال قتادة : ينهون عن القرآن ، وعن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتباعدون عنه (٥).

واعلم أنّ النهي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم محال فلا بد أن يكون النهي عن فعل يتعلّق به ، فذكروا فيه قولين :

الأول : ينهون عن تدبّر القرآن واستماعه ، وعن التّصديق بنبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإقرار برسالته.

الثاني : قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ ومقاتل : نزلت في أبي طالب كان ينهى النّاس عن أذى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويمنعهم وينأى عن الإيمان به أي : يبعد ، حتى روي أنه اجتمع

__________________

(١) ينظر : اللسان (نأى) التهذيب (نأى) الدر المصون ٣ / ٣٥.

(٢) ينظر : ديوانه ص (٨١) ، العمدة لابن رشيق ٢ / ١٧٨ ، معاهد التنصيص ١ / ٣٣٠ ، الكامل ٣ / ٣٣ ، المصون ٦٧ اللسان (نأى) ، الدر المصون ٣ / ٣٦.

(٣) وهي قراءة ابن عامر من رواية ابن ذكوان ينظر : السبعة (٥٧٧) ، الدر المصون ٣ / ٣٦.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٧١) عن محمد بن الحنفية وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٥) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٧١) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٦) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

٨٦

إليه رؤوس المشركين ، وقالوا : تخيّر (١) من أصبحنا وجها وادفع إلينا محمدا ، فقال أبو طالب : ما أنصفتموني أدفع إليكم ولدي لتقتلوه وأربّي ولدكم (٢).

وروي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعاه إلى الإيمان فقال : لو لا أن تعيّرني قريش لأقررت بها عينك ، ولكن أذبّ عنك ما حييت (٣) ، وقال فيه أبياتا : [الكامل]

٢١٣٤ ـ والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتّى أوسّد في التّراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

وابشر وقرّ بذاك منك عيونا

ودعوتني وعرفت أنّك ناصحي

ولقد صدقت وكنت ثمّ أمينا

وعرضت دينا قد علمت (٤) بأنّه

من خير أديان البريّة دينا

لو لا الملامة أو حذار مسبّة

لوجدتني سمحا بذاك مبينا (٥)(٦)

واعلم أنّ القول الأوّل أشبه لوجهين :

أحدهما : أنّ جميع الآيات المتقدمة في ذمّ طريقتهم ، فلذلك كان ينبغي أن يكون قولهم : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) محمولا على أمر مذموم ، وإذا حملناه على أنّ أبا طالب كان ينهى عن إيذائه لما حصل هذا النّظم (٧).

وثانيهما : قوله تبارك وتعالى بعد ذلك : (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) يعني به ما تقدم ذكره ، ولا يليق ذلك النهي عن أذيّته ، لأن ذلك حسن لا يوجب الهلاك (٨).

فإن قيل : إنّ قوله : (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) يرجع إلى قوله : (يَنْأَوْنَ عَنْهُ) لا إلى قوله : (يَنْهَوْنَ عَنْهُ) ؛ لأن المراد بذلك أنهم يبعدون عنه بمفارقة دينه وترك موافقته وذلك ذمّ.

فالجواب أن ظاهر قوله : (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) يرجع إلى كل ما تقدّم ذكره ، كما يقال : «فلان يبعد عن الشيء الفلاني وينفر عنه ، ولا يضرّ بذلك إلّا نفسه» ، فلا يكون (٩) هذا الضرر متعلّقا بأحد الأمرين دون الآخر.

__________________

(١) في ب : خذ شابا.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٧٢) والحاكم (٢ / ٣١٥) والطبراني كما في «مجمع الزوائد».

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٥) وزاد نسبته للفريابي وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عباس.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٢٦١.

(٤) في القرطبي : عرفت.

(٥) في القرطبي : يقينا.

(٦) تقدم.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٥٦.

(٨) ينظر : المصدر السابق.

(٩) في ب : فيكون.

٨٧

قوله : (وَإِنْ يُهْلِكُونَ) «إن» نافية كالتي في قوله : (إِنْ هذا) [الأنعام : ٢٥] و «أنفسهم» مفعول ، وهو استثناء مفرّغ ، ومفعول «يشعرون» محذوف : إمّا اقتصارا ، وإمّا اختصارا ، أي : وما يشعرون أنهم يهلكون أنفسهم بتماديهم في الكفر وغلوّهم فيه ، قاله ابن عباس(١).

قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٢٧)

لمّا بيّن أنهم يهلكون أنفسهم شرح كيفيّة ذلك الهلاك فقال : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) ، وجواب «لو» محذوف لفهم المعنى ، والتقدير : «لرأيت شيئا عظيما وهولا مفظعا» (٢).

وحذف الجواب كثير في التّنزيل ، وفي النظم كقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً) [الرعد : ٣١].

وقول الآخر [في ذلك :](٣) [الطويل]

٢١٣٥ ـ وجدّك لو شيء أتانا رسوله

سواك ولكن لم نجد لك مدفعا (٤)

وقوله : [الطويل]

٢١٣٦ ـ فلو أنّها نفس تموت جميعة

ولكنّها نفس تساقط أنفسا (٥)

وقول الآخر فأجاد : [الكامل]

٢١٣٧ ـ كذب العواذل لو رأين مناخا

بحزيز رامة والمطيّ سوامي (٦)

وحذف الجواب أبلغ [قالوا :](٧) لأن السّامع تذهب نفسه كل مذهب ، ولو صرّح له بالجواب وطّن نفسه عليه فلم يحسن منه كثيرا ، ولذلك قال كثير في ذلك : [الطويل]

٢١٣٨ ـ فقلت لها يا عزّ كلّ مصيبة

إذا وطّنت يوما لها النّفس ذلّت (٨)

وقوله : «ترى» يجوز أن تكون بصرية ، ومفعولها محذوف ، أي : ولو ترى حالهم ،

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٢ / ١٥٧.

(٢) في ب : منقطعا.

(٣) سقط في ب.

(٤) تقدم.

(٥) البيت لامرىء القيس في ديوانه ص (١٠٧) ، سر صناعة الإعراب ٢ / ٦٤٨ ، شرح المفصل ٩ / ٨ ، لسان العرب (جمع). ابن يعيش ٩ / ٨ ، العمدة لابن رشيق ١ / ٢٥١ ، الدر المصون ٣ / ٣٦.

(٦) البت لجرير في ديوانه ص (٩٩١) ، سر صناعة الإعراب ٢ / ٦٤٨ ، شرح المفصل ٩ / ٨. الدر المصون ٣ / ٣٦.

(٧) سقط في ب.

(٨) ينظر : ديوانه ص (٩٧) ، معجم الشعراء (٢٤٣) الكامل ١ / ٣٢٤ ، الإنصاف ٢ / ٤٦٢ ، التهذيب (وطن) ، اللسان (وطن).

٨٨

ويجوز أن تكون القلبيّة ، [والمعنى :](١) ولو صرفت فكرك الصحيح لأن تتدبّر حالهم لازددت يقينا.

وفي «لو» [هذه](٢) وجهان :

أظهرهما : أنها الامتناعية ، فينصرف المضارع بعدها للمضيّ ، ف «إذ» باقية على أصلها من دلالتها على الزّمن الماضي ، وهذا وإن كان لم يقع بعد ؛ لأنه سيأتي يوم القيامة ، إلّا أنه أبرز في صورة الماضي لتحقّق الوعد.

والثاني : أنها بمعنى «إن» الشّرطيّة ، و «إن» (٣) هنا تكون بمعنى «إذا» ، والذي حمل [هذا] القائل على ذلك كونه لم يقع بعد وقد تقدّم تأويله.

وقرأ الجمهور (٤) ـ رضي الله عنهم ـ : «وقفوا» مبنيّا للمفعول من «وقف» ثلاثيا [و «على» يحتمل أن تكون على بابها وهو الظاهر أي : حبسوا عليها ، أو عرضوا عليها ، وقيل : يجوز](٥) أن تكون بمعنى «في» ، أي : في النّار ، كقوله : (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) ، أي : في ملك سليمان.

وقرأ ابن السّميفع (٦) ، وزيد بن علي : «وقفوا» مبنيا للفاعل.

و «وقف» يتعدّى ولا يتعدّى ، وفرّقت العرب بينهما بالمصدر ، فمصدر اللازم على «فعول» ، ومصدر المتعدّي على «فعل» ولا يقال : أوقفت.

قال أبو عمرو بن العلاء : «لم أسمع شيئا في كلام العرب : «أوقفت فلانا» ، إلّا أنّي لو رأيت رجلا واقفا فقلت له : «ما أوقفك هاهنا» لكان عندي حسنا» وإنما قال كذلك ؛ لأنّ تعدّي الفعل بالهمزة مقيس نحو : ضحك زيد وأضحكته أنا ، ولكن سمع غيره في «وقف» المتعدي أوقفته.

قال الراغب (٧) : «ومنه ـ يعني من لفظ وقفت القوم ـ استعير وقفت الدّابّة إذا سبلتها» فجعل الوقف حقيقة في منع المشي ، وفي التّسبيل مجازا على سبيل الاستعارة ، وذلك أن الشّيء المسبل كأنه ممنوع من الحركة ، والوقف لفظ مشترك بين ما تقدّم وبين سوار من عاج ، ومنه : حمار موقّف بأرساغه مثل الوقف من البياض.

فصل في معنى الوقوف على النار

وقال الزجاج (٨) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : ومعنى وقفوا على النّار يحتمل ثلاثة أوجه :

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : وإذ.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٠٥ ، الدر المصون ٣ / ٣٧.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٧ ، البحر المحيط ٤ / ١٠٥.

(٧) ينظر : المفردات ٥٣٠.

(٨) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٥٧.

٨٩

الأول : يجوز أن يكون قد وقفوا عندها وهم يعاينوها فهم موقوفون على أن يدخلوا النار.

الثاني : يجوز أن يكون وقفوا عليها وهي تحتهم بمعنى أنهم وقفوا فوق النّار على الصّراط ، وهو جسر فوق جهنّم «على النّار».

[الثالث :](١) معناه : أنهم عرفوا حقيقتها تعريفا من قولك : «وقّفت فلانا على كلام فلان» أي : علّمته معناه وعرّفته ، وفيه الوجه المتقدّم (٢) ، وهو أن يكون «على» بمعنى «في» ، والمعنى أنهم يكونون غائصين في النّار ، وإنّما صحّ على هذا التقدير أن يقول : وقفوا على النّار ، لأن النّار دركات وطبقات بعضها فوق بعض ، فيصح هناك معنى الاستعلاء.

قوله : «يا ليتنا» قد تقدّم الكلام في «يا» المباشرة للحرف والفعل.

وقرأ نافع ، وأبو عمرو (٣) ، وابن كثير ، والكسائي «ولا نكذّب» و «نكون» برفعهما وبنصبهما حمزة (٤) ، وحفص عن عاصم ، وبرفع الأول ونصب (٥) الثاني ابن عامر ، وأبو بكر.

ونقل أبو حيّان عن ابن عامر أنّه نصب الفعلين ، ثم قال بعد كلام طويل : قال ابن عطيّة (٦) ـ رضي الله عنه ـ : وقرأ ابن عامر في رواية هشام بن عمّار عن أصحابه ، عن ابن عامر (٧) : «ولا نكذّب» بالرفع ، و «نكون» بالنصب ، فأمّا قراءة الرفع فيهما ، ففيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أن الرفع فيهما على العطف على الفعل قبلهما ، وهو «نردّ» (٨) ، ويكونون قد تمنّوا ثلاثة أشياء : الرّدّ إلى دار الدنيا ، وعدم تكذيبهم بآيات ربهم ، وكونهم من المؤمنين.

والثاني : أن «الواو» واو الحال ، والمضارع خبر مبتدأ مضمر ، والجملة الاسمية في محلّ نصب على الحال من مرفوع «نردّ».

والتقدير : يا ليتنا نردّ غير مكذّبين وكائنين [من المؤمنين فيكون تمني الرد مقيدا

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٥٨ ، وحكاه وجها رابعا.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٧ ، البحر المحيط ٤ / ١٠٥.

(٤) ينظر : حجة القراءات ص (٢٤٥) ، الدر المصون ٣ / ٣٧ ، البحر المحيط ٤ / ١٠٥.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٧ ، البحر المحيط ٤ / ١٠٦.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٨١.

(٧) ينظر : الحجة لابن خالويه ص (١٣٧ ـ ١٣٨) ، المشكل ١ / ٢٤٩ ، ٢٥٠ ، الزجاج ٢ / ٢٦٢ ، ٢٦٣ ، التبيان ١ / ٤٨٩ ، النشر ٢ / ٢٥٧ ، السبعة ص (٢٥٥) ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٤٥) ، الدر المصون ٣ / ٣٧ ، البحر المحيط ٤ / ١٠٦.

(٨) في ب : يرد.

٩٠

بهاتين الحالين ، فيكون الفعلان](١) أيضا داخلين في التمنّي.

وقد استشكل الناس هذين الوجهين ، بأن التّمنّي إنشاء ، والإنشاء لا يدخله الصّدق ولا الكذب ، وإنما يدخلان في الأخبار ، وهذا قد دخله الكذب لقوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ). وقد أجابوا عن ذلك بثلاثة أوجه :

أحدها : ذكره الزمخشري (٢) ـ قال : هذا تمنّ تضمّن معنى العدة ، فجاز أن يدخله التّكذيب كما يقول الرّجل : «ليت الله يرزقني مالا فأحسن إليك ، وأكافئك على صنيعك» فهذا متمنّ في معنى الواعد ، فلو رزق مالا ولم يحسن إلى صاحبه ، ولم يكافئه كذب ، وصحّ أن يقال له كاذب ، كأنه قال : إن رزقني الله مالا أحسنت إليك.

والثاني : أن قوله تبارك وتعالى : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ليس متعلّقا بالمتمني ، بل هو محض إخبار من الله تبارك وتعالى ، بأنهم ديدنهم الكذب وهجيراهم ذلك ، فلم يدخل الكذب في التمنّي ، وهذان الجوابان واضحان ، وثانيهما أوضح.

والثالث (٣) : أنّا لا نسلّم أنّ التمنّي لا يدخله الصّدق ولا الكذب ، بل يدخلانه ، وعزي ذلك إلى عيسى بن عمر ، واحتج على ذلك بقول الشاعر [حيث قال](٤) : [الطويل]

٢١٣٩ ـ منى إن تكن حقّا تكن أحسن المنى

وإلّا فقد عشنا بها زمنا رغدا (٥)

قال : «وإذا جاز أن توصف المنى بكونها حقّا جاز أن توصف بكونها باطلا وكذبا».

وهذا الجواب ساقط جدا ، فإن الذي وصف بالحقّ إنما هو المنى ، و «المنى» : جمع «منية» و «المنية» توصف بالصّدق والكذب مجازا ؛ لأنها كأنها تعد النّفس بوقوعها ، فيقال لما وقع منها : صادق ، ولما لم يقع منها : كاذب ، فالصّدق والكذب إنما دخلا في المنية لا في التمني.

والثالث من الأوجه المتقدمة : أن قوله : (وَلا نُكَذِّبَ) خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة استئنافيّة لا تعلّق لها بما قبلها ، وإنما عطفت هاتان الجملتان الفعليتان على الجملة المشتملة على أداة التمني وما في حيّزها ، فليست داخلة في التّمنّي أصلا ، وإنما أخبر الله ـ تبارك وتعالى ـ عنهم أنهم أخبروا عن أنفسهم بأنهم لا يكذبون بآيات ربّهم ، وأنّهم يكونون من المؤمنين ، فتكون هذه الجملة وما عطف عليها في محلّ نصب بالقول ، كأنّ التقدير : فقالوا : يا ليتنا نردّ وقالوا : نحن لا نكذّب ونكون من المؤمنين.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ١٥.

(٣) في ب : وثانيهما.

(٤) سقط في ب.

(٥) البيت لرجل من بني الحارث في ذيل الأمالي ص (١٠٢) وينظر : شرح عمدة الحافظ ص (٣٦٨) ، شرح الحماسة ٣ / ١٤١٣ ، روح المعاني ٧ / ١٣٠ ، الدر المصون ٣ / ٣٨.

٩١

واختار سيبويه (١) هذا الوجه ، وشبّهه بقولهم : «دعني ولا أعود» ، أي : وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني ، أي : لا أعود على كلّ حال ، كذلك معنى الآية : أخبروا أنهم (٢) لا يكذّبون بآيات ربهم ، وأنهم يكونون من المؤمنين على كل حال ، ردّوا (٣) أو لم يردّوا.

وهذا الوجه وإن كان النّاس قد ذكروه ورجّحوه ، واختاره سيبويه ـ رحمه‌الله ـ كما مرّ ، فإن بعضهم استشكل عليه إشكالا ، وهو : أنّ الكذب لا يقع في الآخرة ، فكيف وصفوا بأنهم كاذبون في الآخرة في قوله م «ولا نكذّب ونكون»؟

وقد أجيب عنه بوجهين :

أحدهما : أن قوله (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) استيثاق لذمّهم بالكذب ، وأن ذلك شأنهم كما تقدّم ذلك آنفا.

والثاني : أنهم صمّموا في تلك الحال على أنهم لو ردّوا لما عادوا إلى الكفر لما شاهدوا من الأهوال والعقوبات ، فأخبر الله ـ تعالى ـ أنّ قولهم في تلك الحال : «ولا نكذّب» وإن كان عن (٤) اعتقاد وتصميم يتغير (٥) على تقدير الرّدّ ، ووقوع العود ، فيصير قولهم : (وَلا نُكَذِّبَ) كذبا ، كما يقول اللّصّ عند ألم العقوبة : «لا أعود» ويعتقد ذلك ويصمم عليه ، فإذا خلّص وعاد كان كاذبا.

وقد أجاب مكّي (٦) أيضا بجوابين :

أحدهما [قريب](٧) مما تقدّم ، والثاني لغيره ، فقال ـ أي : لكاذبون في الدّنيا في تكذيبهم الرّسل ، فإنكارهم البعث للحال [التي](٨) كانوا عليها في الدّنيا ، وقد أجاز أبو عمرو وغيره وقوع التكذيب في الآخرة ، لأنهم ادّعوا أنهم لو ردّوا لم يكذّبوا بآيات الله ، فعلم الله ما لا يكون لو كان كيف يكون ، وأنهم لو ردّوا لم يؤمنوا ولكذّبوا بآيات الله ، فأكذبهم الله في دعواهم.

وأمّا نصبهما فبإضمار «أن» بعد الواو التي بمعنى «مع» ، كقولك : «ليت لي مالا وأنفق منه» فالفعل منصوب بإضمار «أن» ، و «أن» مصدرية ينسبك منها ومن الفعل بعدها مصدر ، و «الواو» حرف عطف ، فيستدعي معطوفا عليه ، وليس قبلها في الآية إلّا فعل ، فكيف يعطف اسم على فعل؟ فلا جرم أن نقدّر مصدرا متوهّما يعطف هذا المصدر

المنسبك من «أن» وما بعدها عليه ، والتقدير : يا ليتنا لنا ردّ ، وانتفاء تكذيب بآيات ربنا وكون من المؤمنين أي : ليتنا لنا ردّ مع هذين الشيئين ، فيكون عدم التكذيب والكون من

__________________

(١) ينظر : الكتاب ١ / ٤٩٨.

(٢) في ب : بأنهم.

(٣) في ب : يرءوا.

(٤) في أ : بين.

(٥) في أ : ونصبهم يتعين.

(٦) ينظر : المشكل ١ / ٢٦٢.

(٧) في أ : قرب.

(٨) سقط في أ.

٩٢

المؤمنين متمنّيين أيضا ، فهذه ثلاثة أشياء أعني الرّدّ وعدم التكذيب ، والكون من المؤمنين متمنّاة بقيد الاجتماع ، لا أنّ كلّ واحد متمنّى وحده ؛ لما تقدّم من أنّ هذه «الواو» شرط إضمار «أن» بعدها : أن تصلح «مع» في مكانها ، فالنصب يعيّن أحد محتملاتها في قولك : «لا تأكل السّمك وتشرب اللبن» وشبهه ، والإشكال المتقدّم وهو إدخال التكذيب على التمني وارد هنا ، وقد تقدم جوابه إلّا أن بعضه يتعذّر هنا ، وهو كو ن «لا نكذّب ، ونكون» مستأنفين سيقا لمجرد الإخبار ، فبقي : إمّا لكون التمني دخله معنى الوعد ، وإمّا أن قوله تبارك وتعالى: (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ليس راجعا إلى تمنّيهم ، وإمّا لأنّ التمنّي يدخله التكذيب ، وقد تقدّم فساده.

وقال ابن الأنباري ـ رحمه‌الله ـ : «أكذبهم في معنى التّمنّي ، لأن تمنّيهم راجع إلى معنى : «نحن لا نكذّب إذا رددنا» فغلّب (١) عزوجل تأويل الكلام فأكذبهم ، ولم يستعمل لفظ التّمنّي». وهذا الذي (٢) قاله ابن الأنباري ـ رحمه‌الله تعالى ـ تقدّم معناه بأوضح من هذا.

قال أبو حيّان (٣) : وكثيرا ما يوجد في كتب النحو أن هذه «الواو» المنصوب بعدها هو على جواب التّمنّي ، كما قال الزمخشري (٤) : وقرىء (٥) : «ولا نكذّب ، ونكون» بالنصب بإضمار «أن» على جواب التمني ، ومعناه (٦) إن رددنا لم نكذّب ، ونكن من المؤمنين.

قال : وليس كما ذكر ، فإن نصب الفعل بعد «الواو» ليس على جهة الجواب ؛ لأن «الواو» لا تقع جواب الشّرط ، فلا ينعقد ممّا قبلها ، ولا ممّا بعدها شرط وجواب ، وإنّما هي واو «مع» يعطف ما بعدها على المصدر المتوهّم قبلها ، وهي واو العطف يتعيّن مع النّصب أحد محاملها الثلاثة: وهي المعيّة ويميّزها من «الفاء» تقدير «مع» موضعها ، كما أنّ فاء الجواب إذا كان بعدها فعل منصوب ميّزها تقدير شرط قبلها أو حال مكانها وشبهة من قال : إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها «الفاء» ، فتوهّم أنها جواب.

وقال سيبويه (٧) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : والواو تنصب ما بعدها في غير الجواب من حيث انتصب ما بعد «الفاء» ، والواو والفاء معناهما مختلفان ، ألا ترى قوله : [الكامل]

٢١٤٠ ـ لا تنه عن خلق وتأتي مثله

 .......... (٨)

__________________

(١) في ب : فقلب.

(٢) في ب : الرد.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٠٥.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ١٥.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٧ ـ ٣٨ ، البحر المحيط ٤ / ١٠٦ ـ ١٠٧.

(٦) في أ : وجوابه.

(٧) ينظر : الكتاب ١ / ٤٢٤.

(٨) تقدم.

٩٣

لو دخلت «الفاء» هنا لأفسدت المعنى ، وإنما أراد : لا تجمع النّهي والإتيان وتقول (١) : «لا تأكل السّمك وتشرب اللبن» لو أدخلت الفاء هنا لفسد المعنى.

قال أبو حيّان : ويوضّح لك أنها ليست بجواب انفراد «الفاء» دونها ، فإنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدها بما (٢) قبلها لما تضمّنه من معنى الشّرط إلّا في النفي ، فإن ذلك لا يجوز.

قال شهاب الدين (٣) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : قد سبق الزمخشري إلى هذه العبارة أبو إسحاق الزّجّاج ، قال أبو إسحاق (٤) : نصب على الجواب بالواو في التّمنّي كما تقول : «ليتك تصير إلينا ونكرمك».

المعنى : ليت مصيرك يقع وإكرامنا ، ويكون المعنى : «ليت ردّنا وقع وأن لا نكذّب».

وأمّا كون «الواو» ليست بمعنى «الفاء» فصحيح ، على ذلك جمهور النحاة ، إلّا أنّي رأيت أبا بكر بن الأنباريّ خرّج النّصب على وجهين :

أحدهما : أنّ «الواو» بمعنى «الفاء».

قال أبو بكر : في نصب «نكذّب» وجهان :

أحدهما : أن «الواو» مبدلة من «الفاء» ، والتقدير : يا ليتنا نردّ فلا نكذّب ونكون ، فتكون «الواو» هنا بمنزلة «الفاء» في قوله : (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الزمر : ٥٨]. يؤكد هذا قراءة ابن (٥) مسعود ، وابن أبي إسحاق «يا ليتنا نردّ فلا نكذب» بالفاء [منصوبا](٦).

والوجه الآخر : النّصب على الصرف ، ومعناه الحال ، أي : يا ليتنا نردّ غير مكذّبين.

أمّا قراءة ابن عامر ـ برفع الأوّل ونصب الثاني ـ فظاهرة بما تقدّم ؛ لأن الأول يرتفع على حدّ ما تقدم من التأويلات ، وكذلك نصب الثاني يتخرج على ما تقدم ويكون قد أدخل عدم التكذيب في التّمنّي أو استأنفه ، إلّا أنّ المنصوب يحتمل أن يكون من تمام قوله : «نردّ» أي : تمنّوا الرّدّ مع كونهم من المؤمنين ، وهذا ظاهر إذا جعلنا : (وَلا نُكَذِّبَ) معطوفا على «نردّ» أو حالا منه.

وأمّا إذا جعلنا (وَلا نُكَذِّبَ) مستأنفا ، فيجوز ذلك أيضا ، ولكن على سبيل الاعتراض ، ويحتمل أن يكون من تمام (وَلا نُكَذِّبَ) أي : لا يكون منّا تكذيب مع كوننا

__________________

(١) في أ : وبقوله.

(٢) في ب : مما.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٩.

(٤) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٢٦٣.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٠٦ ، الدر المصون ٣ / ٤٠.

(٦) سقط في ب.

٩٤

من المؤمنين في التمني ، أو أستأنفه ويكون قوله : (وَلا نُكَذِّبَ) حينئذ على حاله ، أعني من احتماله العطف على «نردّ» أو الحاليّة ، أو الاستئناف ، ولا يخفى حينئذ دخول كونهم مع المؤمنين في التّمنّي وخروجه منه بما تقدّم تقريره.

وقرىء شاذّا عكس (١) قراءة ابن عامر ، أي : بنصب «نكذب» ، ورفع «نكون» ، وتخريجها على ما تقدّم إلّا أنها يضعف فيها جعل (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) حالا لكونه مضارعا مثبتا إلا بتأويل بعيد ، كقوله : [المتقارب]

٢١٤١ ـ ..........

نجوت وأرهنهم مالكا (٢)

أي : وأنا أرهنهم (٣) ، وقولهم : «قمت وأصكّ عينه» ، ويدلّ على حذف هذا المبتدأ قراءة أبيّ (٤) : «ونحن نكون من المؤمنين».

فصل في تحرير معنى الرد

معنى الآية الكريمة : أنهم تمنّوا الرّدّ إلى حالة التكليف ، لأن لفظ «الرّدّ» إذا استعمل في المستقبل من حال إلى حال ، فالمعهود منه الرّدّ إلى الحالة الأولى ، فإن الظّاهر أنّ من صدر عنه تقصير ، ثمّ عاين الشّدائد والأهوال من ذلك التقصير أنه يتمنى الرّدّ إلى الحالة الأولى ؛ ليسعى في إزالة جميع وجوه التقصيرات ومعلوم أن الكفّار قصّروا في دار الدنيا ، فهم يتمنّون العود إلى الدنيا لتدارك تلك التّقصيرات ، وذلك التدارك (٥) لا يحصل بالعود إلى الدنيا فقط ولا بترك التكذيب فقط ، ولا بعمل الإيمان ، بل إنّما يحصل التدارك بمجموع هذه الأمور الثلاثة ، فوجب إدخال هذه الثلاثة تحت التمني.

فإن قيل : كيف يحسن منهم تمني الرد مع أنهم يعلمون أنّ الرّدّ لا يحصل ألبتّة؟

والجواب من وجهين :

أحدهما : لعلهم [لم](٦) يعلموا أن الرّد لا يحصل [ألبتة](٧)؟

والثاني : أنهم وإن علموا أن ذلك لا يحصل إلّا أن هذا العلم لا يمنع من حصول إرادة الرّدّ ، كقوله تبارك وتعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) [المائدة : ٣٧] وقوله تعالى : (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) [الأعراف : ٥٠] فلمّا صحّ أن يريدوا هذه الأشياء مع العلم بأنها لا تحصل ، فبأن يتمنونه أقرب ، لأن باب التمني أوسع.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٠ ، البحر المحيط ٤ / ١٠٧.

(٢) تقدم.

(٣) في ب : ارهبهم.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٠.

(٥) في ب : العود.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في ب.

٩٥

قوله تعالى : (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٢٨)

«بل» هنا للانتقال من قصّة إلى أخرى ، وليست للإبطال ، وعبارة بعضهم توهم أنّ فيها إبطالا لكلام الكفرة ، فإنه قال : «بل» ردّ لما تمنّوه أي : ليس الأمر على ما قالوه ؛ لأنهم لم يقولوا ذلك رغبة منهم في الإيمان ، بل قالوه إشفاقا من العذاب وطمعا في الرّحمة.

قال أبو حيّان (١) : «ولا أدري ما هذا الكلام».

قال شهاب الدّين (٢) : ولا أدري ما وجه عدم الدّراية منه؟ وهو كلام صحيح في نفسه ، فإنهم لمّا قالوا : يا ليتنا كأنهم قالوا تمنّينا ، ولكن هذا التمني ليس بصحيح ، لأنهم إنما قالوه تقيّة ، فقد يتمنى الإنسان شيئا بلسانه ، وقلبه فارغ منه.

وقال الزجاج ـ رحمه‌الله تعالى ـ : «بل» هنا استدراك وإيجاب نفي ، كقولهم : «ما قام زيد بل قام عمرو».

وقال أبو حيّان (٣) : «ولا أدري ما النّفي الذي سبق حتى توجبه بل»؟ قال شهاب الدين (٤) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : الظّاهر أن النفي الذي أراده الزّجّاج هو الذي في قوله : (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) إذا جعلناه مستأنفا على تقدير : ونحن لا نكذّب ، والمعنى : بل إنهم مكذّبون.

وفاعل «بدا» قوله : «ما كانوا» ، و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية وهو الظّاهر ، أي : ظهر لهم الذي كانوا يخفونه ، والعائد محذوف ، ويجوز أن تكون مصدريّة ، أي : ظهر لهم إخفاؤهم ، أي : عاقبته ، أو أطلق المصدر على اسم المفعول ، وهو بعيد ، والظّاهر أن الضميرين : أعني المجرور والمرفوع في قوله : (بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ) عائدان على شيء واحد ، وهم الكفّار أو اليهود والنصارى خاصة.

وقيل : المجرور للأتباع والمرفوع للرّؤساء ، أي : بل بدا للأتباع ما كان الوجهاء المتبوعون يخفونه.

فصل في معنى «يخفون»

واختلفوا في ذلك الذي أخفوه ، فقال أبو روق (٥) : إن المشركين في بعض مواقف القيامة يجحدون الشرك ، فيقولون : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فينطق الله جوارحهم ،

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٠٧.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤١.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٠٧.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤١.

(٥) ينظر : الرازي ١٢ / ١٦٠.

٩٦

فتشهد عليهم بالكفر ، فذلك حين بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل.

قال الواحديّ (١) : وعلى هذا القول أهل التفسير.

وقال المبرّد (٢) : بدا لهم وبال عقائدهم وأعمالهم وسوء عاقبتها.

وقال الزجاج : بدا للأتباع ما أخفاه الرؤساء عنهم من أمر البعث والنشور ، قال : ويدلّ [على ذلك](٣) أنه ـ تبارك وتعالى ـ ذكر عقيبه : وقالوا (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [المؤمنون : ٣٧] وهذا قول الحسن (٤).

وقال بعضهم (٥) : هذا في المنافقين كانوا يسرّون الكفر ، ويظهرون الإسلام ، وبدا لهم يوم القيامة ، وهو ما كانوا يخفون من قبل.

وقيل (٦) : بدا لهم ما كان علماؤهم يخفون من جحد نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام ونعته والبشارة به ، وما كانوا يحرّفون من التوراة.

قوله : (وَلَوْ رُدُّوا) قرأ الجمهور (٧) بضم الراء خالصا.

وقرأ الأعمش (٨) ، ويحيى بن وثاب ، وإبراهيم : «ردّوا» بكسرها خالصا.

وقد مرّ أن الفعل المضاعف العين واللام يجوز في فائه إذا بني للمفعول ثلاثة الأوجه المذكورة في «فاء» الثلاثي المعتلّ العين إذا بني للمفعول ، نحو : قيل وبيع ، وقد تقدّم [ذلك](٩).

وقال الشاعر : [الطويل]

٢١٤٢ ـ وما حلّ من جهل حبا حلمائنا

ولا قائل المعروف فينا يعنّف (١٠)

بكسر الحاء.

قوله : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) تقدّم الكلام على هذه الجملة : هل هي مستأنفة أو راجعة إلى قوله : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ)؟.

فصل

والمعنى أنه ـ تبارك وتعالى ـ لو ردّهم لم يحصل منهم ترك التكذيب وفعل الإيمان ، بل كانوا يستمرّون على طريقتهم الأولى.

فإن قيل : إن أهل القيامة قد عرفوا الله بالضرورة [وشاهدو أنواع](١١) العقاب ، فمع

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٢ / ١٦٠.

(٢) ينظر : الرازي ١٢ / ١٦٠.

(٣) في ب : عليه.

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٢ / ١٦٠) عن الحسن.

(٥) ينظر : الرازي ١٢ / ١٦٠.

(٦) ينظر : الرازي ١٢ / ١٦٠.

(٧) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤١.

(٨) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤١.

(٩) سقط في ب.

(١٠) تقدم.

(١١) سقط في أ.

٩٧

هذه الأهوال كيف [يمكن](١) أن يقال : إنهم يعودون إلى الكفر والمعصية.

فالجواب : قال القاضي (٢) : تقديره : ولو ردّوا إلى حالة التكليف ، وإنّما يحصل الردّ [إلى](٣) هذه الحالة ، إذا لم يحصل في القيامة معرفة الله بالضرورة ، ولم يحصل هناك مشاهدة الأهوال وعذاب جهنّم ، فهذا الشرط يكون مضمرا لا محالة.

وهذا الجواب ضعيف ؛ لأن المقصود من الآية الكريمة بيان غلوّهم في الإصرار على الكفر ، وعدم رغبتهم في الإيمان ، فلو قدّرنا عدم معرفة الله في القيامة وعدم مشاهدة الأهوال لم يكن إصرارهم على كفرهم الأول مزيد تعجّب ، وإذا لم يكن اعتبار هذا الشّرط الذي ذكره القاضي (٤).

وقال الواحدي (٥) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : هذه الآية الكريمة من أظهر الدلائل على فساد قول المعتزلة ؛ لأن الله ـ تبارك وتعالى ـ بيّن أنهم لو شاهدوا النّار والعذاب ، ثم سألوا الرّجعة وردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى الشرك ، وذلك للقضاء السّابق فيهم ، وإلّا فالعاقل لا يرتاب فيما شاهد.

قال القرطبي : وقد عاين إبليس ما عاين من آيات الله تبارك وتعالى ثم عاند.

قوله تعالى : (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)(٢٩)

قوله : (وَقالُوا) هل هذه الجملة معطوفة على جواب «لو» والتقدير ولو ردّوا لعادوا [ولقالوا](٦) ، أو هي مستأنفة ليس داخلة في خبر ، أو هي معطوفة على قوله : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ثلاثة أوجه :

ذكر الزمخشري (٧) الوجهين الأوّل والأخير ، فإنه قال : «وقالوا» عطف على «لعادوا» ، أي : لو ردّوا لكفروا ، ولقالوا : إن هي إلّا حياتنا الدنيا ، كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة ، ويجوز أن يعطف على قوله : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [على معنى : وإنهم لقوم كاذبون](٨) في كل شيء.

والوجه الأول منقول عن ابن زيد ، إلّا أن ابن عطيّة ردّه فقال : وتوقيف الله ـ تعالى ـ لهم في الآية بعدها فيه دلالة على البعث والإشارة إليه بقوله : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ) يردّ على هذا التأويل ، وقد يجاب عن هذا باختلاف حالين : فإنّ إقرارهم بالبعث حقيقة ، إنما هو في الآخرة ، وإنكارهم ذلك إنما هو في الدنيا بتقدير عودهم إلى الدنيا ، فاعترافهم به في الدار الأخرة غير مناف لإنكارهم إيّاه في الدنيا.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : الرازي ١٢ / ١٦٠.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : الرازي ١٢ / ١٦٠.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) سقط في ب.

(٧) ينظر : الكشاف ٢ / ١٦.

(٨) سقط في ب.

٩٨

قوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) «إن» نافية ، و «هي» مبتدأ ، و «حياتنا» خبرها ، ولم يكتفوا بمجرد الإخبار بذلك حتى أبرزوها محصورة في نفي وإثبات ، و «هي» ضمير مبهم يفسّره خبره ، أي : ولا نعلم ما يراد به إلّا بذكر (١) خبره ، وهو من الضمائر التي يفسّرها ما بعدها لفظا ورتبة وقد تقدم ذلك عند قوله : (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [البقرة : ٢٩] وكون هذا مما يفسره ما بعده لفظا ورتبة فيه نظر ، إذ لقائل أن يقول : «هي» تعود على شيء دلّ على سياق الكلام ، كأنهم قالوا : إنّ العادة المستمرة ، أو إن حالتنا وما عهدنا إلّا حياتنا الدنيا ، واستند هذا القائل إلى قول الزّمخشري : «هذا ضمير لا يعلم ما يراد به إلّا بذكر ما بعده».

ومثّل الزمخشري بقول العرب «هي النّفس تتحمّل ما حمّلت» (٢) و «هي العرب تقول ما شاءت». وليس فيما قاله الزمخشري دليل له ؛ لأنه يعني أنه لا يعلم ما يعود عليه الضمير إلّا بذكر ما بعده ، وليس في هذا ما يدلّ على أن الخبر مفسّر للضمير.

ويجوز أن يكون المعنى : إن الحياة إلا حياتنا الدّنيا ، فقوله (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) دالّ على ما يفسّر الضمير ، وهو الحياة مطلقا ، فصدق عليه أنه لا يعلم ما يراد به إلّا بذكر ما بعده من هذه الحيثية لا من حيثيّة التفسير ، ويدلّ على ما قلنا قول أبي البقاء (٣) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : هي كناية عن الحياة ، ويجوز أن يكون ضمير القصّة.

قال شهاب الدين (٤) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : أمّا أوّل كلامه فصحيح ، وأمّا آخره وهو قوله : «إن هي (٥) ضمير القصّة» فليس بشيء ؛ لأن ضمير القصّة لا يفسّر إلّا بجملة مصرّح بجزأيها.

فإن قيل : الكوفي يجوّز تفسيره بالمفرد ، فيكون نحا نحوهم؟.

فالجواب أنّ الكوفيّ إنما يجوّزه بمفرد عامل عمل الفعل ، نحو : «إنه قائم زيد» و «ظننته قائما زيد» لأنه في صورة الجملة ؛ إذ في الكلام مسند ومسند إليه.

أما نحو «هو زيد» فلا يجيزه أحد ، على أن يكون «هو» ضمير شأن لا قصّة ، والدنيا صفة الحياة ، وليست صفة مزيلة اشتراكا عارضا ، يعني : أن ثمّ حياة غير دنيا يقرّون بها ؛ لأنهم لا يعرفون إلّا هذه ، فهي صفة لمجرد التوكيد ، كذا قيل ، ويعنون بذلك أنها لا مفهوم لها ، وإلّا فحقيقة التوكيد غير ظاهرة بخلاف (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) [الحاقة : ١٣].

و «الباء» في قوله : «بمبعوثين» زائدة لتأكيد الخبر المنفي ، ويحتمل مجرورها أن يكون منصوب المحلّ على أنّ «ما» هاهنا حجازية ، أو مرفوعة على أنها تميمية.

__________________

(١) في ب : تذكر.

(٢) ينظر : الهمع ١ / ٦٦.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٩.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٢.

(٥) في ب : هو.

٩٩

قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٣٠)

قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) الآية الكريمة [الآية : ٣٠] تمسّك بعض المشبّهة بهذه الآية ، وقال : ظاهرها يدلّ على أن أهل القيامة يقفون عند الله ـ تبارك وتعالى ـ بالقرب منه ، وذلك يدلّ على أنّه تبارك وتعالى [بحيث يحضر في مكان تارة ، ويغيب عنه أخرى ، وهذا خطاب ؛ لأن ظاهر الآية يدل على أن الله تعالى](١) يوقف عليه ، كما يقف أحدنا على الأرض ، وذلك على كونه مستعليا على ذات الله تعالى ، وأنه باطل بالاتّفاق ، فوجب تأويله ، وهو من وجهين (٢) :

الأول : أنه من باب الحذف ، تقديره : على سؤال ربّهم أو ملك ربهم ، أو جزاء ربهم ، أو على ما أخبرهم به من أمر الآخرة.

الثاني : أنه من باب المجاز ؛ لأنه كناية عن الحبس للتوبيخ ، كما يوقف العبد بين يدي سيّده ليعاتبه ، ذكر ذلك الزمخشري (٣) ، أو يكون المراد بالوقوف المعرفة ، كما يقول الرجل لغيره : «وقفت على كلامك» أي : عرفته ، ورجّح الزمخشري المجاز على الحذف ؛ لأنه بدأ بالمجاز ، ثم قال : وقيل وقفوا على جزاء ربهم (٤) وللناس خلاف في ترجيح أحدهما على الآخر وفيه ثلاثة مذاهب :

أشهرها : ترجيح المجاز على الإضمار.

والثاني : عكسه.

والثالث : هاهنا سواء.

قوله : «قال : أليس» في هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنها استفهامية أي : جواب سؤال مقدّر ، قال الزمخشري (٥) : «قال» مردود على قول قائل.

قال : ما ذا (٦) قال لهم ربّهم إذ أوقفوا عليه؟ فقيل : قال لهم : أليس هذا بالحقّ.

والثاني : أن تكون الجملة حاليّة ، وصاحب الحال «ربّهم» كأنه قيل : وقفوا عليه قائلا : أليس هذا بالحقّ؟ والمشار إليه قيل : هو ما كانوا يكذّبون به من البعث.

وقيل : هو العذاب يدلّ عليه (فَذُوقُوا الْعَذابَ).

وقوله : (بِما كُنْتُمْ) يجوز أن تكون «ما» موصولة اسميّة ، والتقدير : تكفرونه ، والأصل: تكفرون به ، فاتّصل الضمير بالفعل بعد حذف الواسطة ، ولا جائز أن يحذف ،

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : الرازي ١٢ / ١٦٠.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ١٦.

(٤) في أ : من حرارتهم.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ١٦.

(٦) في ب : إذا.

١٠٠