أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها

محمّد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي

أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-026-9
الصفحات: ٤٠٨

الدنيا دون ذلك ، كان كالعدم بالنسبة إلى نفعه في الآخرة فلم يقيد به في مقابلته.

[٢٦٨] فإن قيل : قوله : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة : ١١٩] إن أراد به صدقهم في الآخرة فالآخرة ليست بدار عمل ، وإن أراد به صدقهم في الدنيا فليس بمطابق لما ورد فيه ، وهو الشهادة لعيسى عليه‌السلام بالصدق فيما يجيب به يوم القيامة؟

قلنا : أراد به الصدق المستمر بالصادقين في دنياهم وآخرتهم وعن قتادة رحمه‌الله : متكلمان صدقا يوم القيامة ، فنفع أحدهما صدقه دون الآخر : أحدهما إبليس قال : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) [إبراهيم : ٢٢] الآية ، وصدق يومئذ فلم ينفعه صدقه ؛ لأنه كان كاذبا قبل ذلك. والآخر عيسى عليه‌السلام كان صادقا في الدنيا والآخرة فنفعه صدقه.

[٢٦٩] فإن قيل : ما في السموات والأرض العقلاء وغيرهم ، فهلّا غلّب العقلاء فقال : لله ملك السموات والأرض ومن فيهن؟

قلنا : لأن كلمة «ما» تتناول الأجناس كلها تناولا عامّا بأصل الوضع و «من» لا تتناول غير العقلاء بأصل الوضع ، فكان استعمالا «ما» في هذا الموضع أوفى.

__________________

[٢٦٨] قتادة : هو قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز ، أبو الخطّاب السدوسي ، البصري. ولد سنة ٦١ ه‍ وتوفي بواسط سنة ١١٨ ه‍. كان ضريرا ، حافظا للحديث ومفردات اللغة وتاريخ العرب وأنسابها ، ومفسّرا للقرآن. وأخذ عليه تدليسه في الحديث ، وقوله بالقدر.

٨١

سورة الأنعام

[٢٧٠] فإن قيل : كيف جمع الظلمة دون النور في قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١]؟

قلنا : ترك جمعه استغناء عنه بجمع الظلمة قبله فإنه يدل عليه ، كما ترك جمع الأرض أيضا استغناء عنه بجمع السماء قبله في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ١].

الثاني : أن الظلمة اسم والنور مصدر ، نقله المفضل ، والمصادر لا تجمع.

[٢٧١] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَجَهْرَكُمْ) [الأنعام : ٣] بعد قوله :

(يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) [الأنعام : ٣] ومعلوم أن من يعلم السر يعلم الجهر بالطريق الأولى؟

قلنا : إنما ذكره للمقابلة كما في قوله تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة : ٢٠٣] في بعض الوجوه.

[٢٧٢] فإن قيل : كيف خص السكون بالذكر دون الحركة في قوله : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [الأنعام : ١٣] على قول من فسره بما يقابل الحركة؟

قلنا : لأن السكون أغلب الحالتين على كل مخلوق من الحيوان والجماد ، ولأن الساكن من المخلوقات أكثر عددا من المتحرك ، أو لأن كل متحرك يصير إلى السكون من غير عكس ، أو لأن السكون هو الأصل والحركة حادثة عليه وطارئة. وقيل : فيه إضمار تقديره : ما سكن وتحرك فاكتفى بأحدهما اختصار لدلالته على مقابله ، كما في قوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] أي والبرد.

[٢٧٣] فإن قيل : كيف قال : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) [الأنعام : ١٤] ولم يقل وهو ينعم ولا ينعم عليه ، وهذا أعم لتناوله الإطعام وغيره؟

قلنا : لأن الحاجة إلى الرزق أمس فخص بالذكر.

والثاني : أن كون المطعم آكلا متغوطا أقبح من كونه منعما عليه ، فلذلك ذكره.

[٢٧٤] فإن قيل : قوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ) [الأنعام : ١٩] يقتضي

__________________

[٢٧٤] ـ قوله في الجواب : «ألا ترى أن الموجود ، الخ». فيه نظر ، فتأمل!

٨٢

أن يسمى الله تعالى شيئا ، ولو صح ذلك لصح نداؤه به كالحي القيوم ونحوهما؟.

قلنا : صحة ندائه تعالى مخصوصة بما يدل على المدح وصفة الكمال كالحي والقيوم ونحوهما ، لا بكل ما يصح إطلاقه عليه ؛ ألا ترى أن الموجود والثابت يصح إطلاقه عليه سبحانه وتعالى لا يصح نداؤه به؟ كذا ذكروا.

[٢٧٥] فإن قيل : استشهاد المدعي بالله لا يكفي في صحة دعواه وثبوتها شرعا حتى لو قال المدعى الله شاهدي لا يكفي هذا ، فكيف صح ذلك من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [الأنعام : ١٩]؟

قلنا : إنما لم يصح ذلك من غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لا يقدر على إقامة الدليل على أن الله تعالى يشهد له ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقام الدليل على ذلك بقوله : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ) [الأنعام : ١٩] لأنه معجز.

[٢٧٦] فإن قيل : في قوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] كيف يكذبون يوم القيامة بعد معاينة حقائق الأمور ، وقد (بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) [العاديات : ٩ ، ١٠]؟

قلنا : المبتلى يوم القيامة ينطق بما ينفعه وبما يضره لعدم التمييز بسبب الحيرة والدهشة ، كحال المبتلى المعذب في الدنيا يكذب على نفسه وعلى غيره ، ويتكلم بما يضره ، ألا تراهم يقولون ربنا أخرجنا منها وقد أيقنوا بالخلود فيها ، وقالوا : (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) [الزخرف : ٧٧] وقد علموا أنه (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر : ٣٦].

[٢٧٧] فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) [النساء : ٤٢]؟

قلنا : القيامة مواقف مختلفة ؛ ففي بعضها لا يكتمون ، وفي بعضها يحلفون كاذبين ، كما قال عزوجل : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢ ، ٩٣] وقال تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٣٩] وقيل إن حلفهم كاذبين يكون قبل شهادة جوارحهم عليهم ، (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) [النساء : ٤٢] يكون بعد شهادتها عليهم.

[٢٧٨] فإن قيل : كيف قال : (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) [الأنعام : ٣٢] وهو خير لغير المتقين أيضا كالأطفال والمجانين؟

قلنا : إنما خصهم بالذكر لأنهم الأصل فيها من حيث أن درجتهم أعلى وغيرهم تبع لهم.

٨٣

[٢٧٩] فإن قيل : كيف قال لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) [الأنعام : ٣٥] فخاطبه بأفحش الخطابين ، وقال لنوح عليه‌السلام : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [هود : ٤٦] فخاطبه بألين الخطابين مع أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعظم رتبة وأعلى منزلة منه؟

قلنا : لأن نوحا عليه الصلاة والسلام كان معذورا في جهله بمطلوبه ؛ لأنه تمسك بوعد الله تعالى في إنجاء أهله ، وظن أن ابنه من أهله. ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان معذورا ؛ لأنه كبر عليه كفرهم ؛ مع علمه أن كفرهم وإيمانهم بمشيئة الله تعالى ، وأنهم لا يهتدون إلا أن يديهم الله.

[٢٨٠] فإن قيل : إذا بعث الله تعالى الموتى من قبورهم فقد رجعوا إلى الله بالحياة بعد الموت ، فما فائدة قوله تعالى : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [الأنعام : ٣٦]؟

قلنا : المراد به وقوفهم بين يديه للحساب والجزاء ، وذلك غير البعث وهو إحياؤهم بعد الموت فلا تكرار فيه.

[٢٨١] فإن قيل : قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) [الأنعام : ٣٧] لو صح من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا الجواب لصح لكل من ادعى النبوّة وطولب بآية أن يقول إن الله قادر على أن ينزل آية؟

قلنا : إذا ثبتت نبوته بما شاء الله من المعجزة يصح له أن يقول ذلك ، بخلاف ما إذا لم تثبت نبوته ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قد ثبتت نبوته بالقرآن وانشقاق القمر وغيرهما.

[٢٨٢] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٣٨] والدابة لا تكون إلا في الأرض ؛ لأن الدابة في اللغة اسم لما يدبّ على وجه الأرض ؛ وما فائدة (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] والطير لا يكون إلا بالجناح؟

قلنا : فيه فوائد :

الأولى : للتأكيد كقولهم : هذه نعجة أنثى ، وقولهم كلمته بلساني ، ومشيت إليه برجلي ، وكما قال الله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) [النحل : ٥١] وقال تعالى : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [الفتح : ١١].

__________________

[٢٧٩] ـ لا يخفى أن المصنّف قد خانه التعبير ؛ وخرج عن حدود الأدب مع مقام أشرف الخلق صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وليته تجنب ما في عبارته من خشونة. كما أن جوابه غير متين. ولعل الأصوب في الجواب أن يقال : إن القرآن نزل الكثير من آياته على طريقة إيّاك أعني واسمعي يا جارة ، على عادة العرب في كثير من كلامهم. فالخطاب ظاهره أن المراد به النبي ، غير أنه في الحقيقة خطاب لعموم المؤمنين ، أو لمناسبته مع قضية خارجية كانت مناسبة للنزول. والله أعلم.

٨٤

الثانية : نفي توهم المجاز فإنه يقال : طار فلان في أمر كذا إذا أسرع فيه ، وطار الفرس إذا أسرع الجري.

الثالثة : زيادة التعميم والإحاطة ، كأنه قال جميع الدواب الدابة وجميع الطيور الطائرة.

[٢٨٣] فإن قيل : قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) [الأنعام : ٤٠] إلى أن قال : (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ) [الأنعام : ٤١] ومن جملة ما ذكر الدعاء فيه عذاب الساعة وهو لا يكشف عن المشركين؟

قلنا : لم يخبر عن الكشف مطلقا ؛ بل مقيدا بشرط المشيئة وعذاب الساعة لو شاء كشفه عن المشركين لكشفه.

[٢٨٤] فإن قيل : قوله تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) [الأنعام : ٥٠] ، كيف ذكر القول في الجملة الأولى والثالثة وترك ذكره في الجملة الثانية؟

قلنا : لما كان الإخبار بالغيب كثيرا مما يدّعيه البشر ، كالكهنة والمنجمين وواضعي الملاحم ، ثم إن كثيرا من الجهال يعتقدون صحة أقاويلهم ويعملون بمقتضى أخبارهم بالغ في سلبه عن نفسه بسلب حقيقته عنه بخلاف الإلهية والملكية ، فإن انتفاءهما عنه وعن غيره من البشر ظاهر فاكتفى في نفيهما بنفي القول ، إذ غير الدعوى فيهما لا تتصور في نفس الأمر ولا في زعم الناس ، بخلاف علم الغيب فافترقا ، والمراد بقوله : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) [الأنعام : ٥٠] أي لا أدعي الإلهية ، كذا قاله بعض المفسرين.

[٢٨٥] فإن قيل : قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام : ٥٥] كيف ذكر سبيل المجرمين ولم يذكر سبيل المؤمنين وكلاهما محتاج إلى بيانه؟

قلنا : لأنه إذا ظهر سبيل المجرمين ظهر سبيل المؤمنين أيضا بالضرورة إذ السبيل سبيلان لا غير.

[٢٨٦] فإن قيل : كيف قال : (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) [المائدة : ٦٠] أي ما كسبتم ، وهو يعلم ما جرحوا ليلا ونهارا؟

قلنا : لأن الكسب أكثر ما يكون بالنّهار لأنه زمان حركة الإنسان ، والليل زمان سكونه لقوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : ٧٢] بعد قوله : (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) [القصص : ٧٢].

[٢٨٧] فإن قيل : كيف قال : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) [الأنعام : ٦٢] يعني

٨٥

مولى جميع الخلائق. وقال ، في موضع آخر : (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد : ١١].

قلنا : المولى الأول بمعنى المالك أو الخالق أو المعبود ، والمولى الثاني بمعنى الناصر فلا تنافي بينهما.

[٢٨٨] فإن قيل : كيف خص كون (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ) [الأنعام : ٧٣] بيوم القيامة ، فقال : (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) [الأنعام : ٧٣] ؛ مع أن قوله الحق في كل وقت وله الملك في كل زمان؟

قلنا : لأن ذلك اليوم ليس لغيره فيه ملك بوجه من الوجوه ، وفي الدنيا لغيره ملك خلافة عنه أو هبة منه وإنعاما بدليل قوله تعالى في حقّ داود عليه‌السلام : (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) [البقرة : ٢٥١] وقوله : (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٤٧] وقوله في ذلك اليوم هو الحق الذي لا يدفعه أحد من العباد ، ولا يشك فيه شاكّ من أهل العناد ، لانكشاف الغطاء فيه للكل ، وانقطاع الدعاوى والخصومات ، ونظيره قوله تعالى : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار : ١٩] وإن كان الأمر له في كل زمان ، وكذا قوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر : ١٦]؟

[٢٨٩] فإن قيل : كيف قال تعالى في معرض الامتنان : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) [الأنعام : ٨٤] ولم يذكر إسماعيل ؛ مع أنه كان هو الابن الأكبر؟

قلنا : لأن إسحاق وهب له من حرة وإسماعيل من أمة ، وإسحاق وهب له من عجوز عقيم ؛ فكانت المنّة فيه أظهر.

[٢٩٠] فإن قيل : كيف قال في وصف القرآن : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [الأنعام : ٩٢] وكثير ممن يؤمن بالآخرة من اليهود والنصارى وغيرهم لا يؤمن به؟

قلنا : معناه والذين يؤمنون بالآخرة إيمانا نافعا مقبولا هم الذين يؤمنون به إما تصديقا به قبل إنزاله لما بشر به موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، أو اتباعا له بعد إنزاله والأمر كذلك ، فإنّ من لم يصدق موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام في بشارتهما بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن أو كان بعد بعثه ولم يؤمن به فإيمانه بالآخرة غير معتدّ به ولا معتبر.

[٢٩١] فإن قيل : كيف أفرد قوله تعالى : (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَ) [الأنعام : ٩٣] بالذكر بعد قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) [الأنعام : ٢١] وذلك أيضا افتراء؟

قلنا : لأن الأول عام والثاني خاص ، والمقصود الإنكار فيهما ، ولا يلزم من وجود العام وجود الخاص ، ولكن يلزم من الذم على العام وإنكاره الذم على الخاص وإنكاره لا محالة ، وما نحن فيه من هذا القبيل. والجواب المحقق أن يقال : إن هذا

٨٦

الخاص لما كان مخصوصا بمزيد قبح من بين أنواع الافتراء خصّه بالذكر تنبيها على مزيد العقاب فيه والإثم.

[٢٩٢] فإن قيل : قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ١٠١] الآية ، ما فائدة قوله : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٠٢] بعد قوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٠١]؟

قلنا : ذكره أولا استدلالا به على نفي الولد ، ثم ذكره ثانيا توطئة وتمهيدا لقوله تعالى : (فَاعْبُدُوهُ) [المائدة : ٢٠١] فإن كونه خالق كل شيء يقتضي تخصيصه بالعبادة والطاعة ، فكانت الإعادة لفائدة جديدة.

[٢٩٣] فإن قيل : في قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣] كيف خص الأبصار بإدراكه لها ولم يقل وهو يدرك كل شيء مع أنه أبلغ في التمدح؟

قلنا : لوجهين :

أحدهما : مراعاة المقابلة اللفظية فإنه نوع من البلاغة.

الثاني : أن هذه الصفة خاصة بينه وبين الأبصار أنه يدركها ، بمعنى الإحاطة بها وهي لا تدركه ، فأما غيره مما يدرك الأبصار فهي تدركه أيضا ، فلهذا خصّها بالذّكر.

[٢٩٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) [الأنعام : ١١٤] ولم يقل وهو الذي أنزل إليّ ؛ مع أن الله تعالى قال : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) [المائدة : ٨].

قلنا : لما كان إنزاله إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليبلغه إلى الخلق ، ويهديهم به ، كان في الحقيقة منزلا إليهم ، لكن بواسطة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلح إضافة الإنزال إليه وإليهم.

[٢٩٥] فإن قيل : في قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) [الأنعام : ١١٨] كيف علّق الكون من المؤمنين بأكل الذبيحة المسمّى عليها ، والكون من المؤمنين حاصل وإن لم تؤكل الذّبيحة أصلا؟

قلنا : المراد اعتقاد الحل لا نفس الأكل ؛ فإن بعض من كان يعتقد حلّ الميتة من العرب كان يعتقد حرمة الذبيحة.

[٢٩٦] فإن قيل : كيف أبهم فاعل التزيين هنا ، فقال : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ١٢٢] وقال في آية أخرى (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) [النمل : ٤] ، وقال في آية أخرى (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [النمل : ٢٤] فمن هو مزين الأعمال للكفار في الحقيقة؟

٨٧

قلنا : التزيين من الشّيطان بالإغواء والإضلال والوسوسة وإيراد الشبه ، ومن الله تعالى بخلق جميع ذلك فصحت الإضافتان.

[٢٩٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأنعام : ١٣٠] ، والرسل إنما كانت من الإنس خاصة؟

قلنا : المراد برسل الجنّ هم الذين سمعوا القرآن من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ولّوا إلى قومهم منذرين ، كما قال تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) [الأحقاف : ٢٩] الآية.

الثاني : أنه كقوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] والمراد من أحدهما ؛ لأنه إنما يخرج من الملح.

والثالث : أنّه بعث إليهم رسل منهم ، قاله الضّحّاك ومقاتل.

[٢٩٨] فإن قيل : كيف ذكر شهادتهم على أنفسهم في قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأنعام : ١٣٠] الآية ، والمعنى فيهما واحد؟

قلنا : المعنى المشهود به متعدد وإن كان في الشهادة واحدا ، إلا أنهم في الأولى شهدوا على أنفسهم بتبليغ الرسل وإنذارهم ، وفي الثانية شهدوا على أنفسهم بالكفر وهما متغايران.

[٢٩٩] فإن قيل : كيف أقروا في هذه الآية بالكفر وشهدوا على أنفسهم به وجحدوه في قولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣].

قلنا : مواقف القيامة ومواطنها مختلفة ، ففي بعضها يقرون وفي بعضها يجحدون ، أو يكون المراد هنا شهادة أعضائهم عليهم حين يختم على أفواههم كما قال تعالى : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ) [يس : ٦٥].

[٣٠٠] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام : ١٤٠] والسفه لا يكون إلا عن جهل؟

قلنا : معنى قوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بغير حجة.

وقيل : بغير علم بمقدار قبحه ، ومقدار العقوبة فيه ؛ وعلى الوجهين لا يكون مستفادا من الأوّل.

[٣٠١] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) [الأنعام : ١٤٠] بعد قوله : (قَدْ ضَلُّوا) [الأنعام : ١٤٠]؟

__________________

[٢٩٧] الضّحّاك : هو الضّحّاك بن مزاحم البلخي الخراساني ، أبو القاسم. مفسّر اشتغل بتأديب الأطفال ، وكانت له مدرسة تضمّ عددا كبيرا منهم. توفي بخراسان سنة ١٠٥ ه‍. ألّف كتابا في التفسير.

٨٨

قلنا : فائدته الإعلام بأنهم بعد ما ضلوا لم يهتدوا مرة أخرى ، فإن من الناس من يضل ثم يهتدي بعد ضلاله.

[٣٠٢] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (إِذا أَثْمَرَ) [الأنعام : ١٤١] بعد قوله : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) [الأنعام : ١٤١] ومعلوم أنه إنما يؤكل من ثمره إذا أثمر؟

قلنا : فائدته نفي توهم توقف الإباحة على الإدراك والنضج بدلالته على الإباحة من أول إخراج الثمر.

[٣٠٣] فإن قيل : قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ) [الأنعام : ١٤٥] الآية ، وفي القرآن تحريم أكل الربا ومال اليتيم ومال الغير بالباطل وغير ذلك؟

قلنا : محرما مما كانوا يحرمونه في الجاهلية ، وقيل : مما كانوا يستحلون فيها.

[٣٠٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) [الأنعام : ١٤٧] والموضع موضع العقوبة ، فكان يحسن أن يقال فيه ذو عقوبة شديدة أو عظيمة ونحو ذلك؟

قلنا : إنما قال ذلك نفيا للاغترار بسعة رحمته في الاجتراء على معصيته ، وذلك أبلغ في التهديد معناه : لا تغتروا بسعة رحمته ، فإنه مع ذلك لا يرد عذابه عنكم.

وقيل معناه : فقل ربكم ذو رحمة واسعة للمطيعين ، ولا يرد عذابه عن العاصين.

[٣٠٥] فإن قيل : كيف قال : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) [الأنعام : ١٥١] ، ثم فسره بعشرة أحكام ، خمسة منها واجبة ، والتّلاوة وصف للفظ لا للمعنى كيلا يقال أضدادها محرمة؟

قلنا : قوله : (أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) لا ينفي تلاوة غيره فقد تلا ما حرم وتلا غيره أيضا.

الثاني : أن فيه إضمارا تقديره : أتل ما حرم ربكم عليكم وأوجب.

[٣٠٦] فإن قيل : كيف خص مال اليتيم بالنهي عن قربانه بغير الأحسن ومال البالغ أيضا كذلك؟

قلنا : إنما خصه بالنهي لأن طمع الطامعين فيه أكثر لضعف مالكه وعجزه وقلة الحافظين له والناصرين ، بخلاف مال البالغ.

__________________

[٣٠٢] ـ يبدو أن في السؤال فضولا لا يصدر عمّن له ذوق عربي ودراية بأساليب العرب في البيان ، ولا يخفى ما في الجواب من تكلف ...

٨٩

الثاني : أن التخصيص لمجموع الحكمين وهما النهي عن قربانه بغير الأحسن ، ووجوب قربانه بالأحسن ، أو جواز قربانه بالأحسن بغير إذن مالكه ؛ ومجموع الحكمين مختص بمال اليتيم ، وهذا هو الجواب عن كونه مغيّا ببلوغ الأشد ؛ لأن المجموع ينتفي ببلوغ الأشد لانتفاء الحكم الثاني. وقيل إن الغاية لمحذوف تقديره : حتّى يبلغ فسلموه إليه.

[٣٠٧] فإن قيل : كيف خص العدل بالقول فقال : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) [الأنعام : ١٥٢] ولم يقل : وإذا فعلتم فاعدلوا ، والحاجة إلى العدل في الفعل أمس ؛ لأن الضرر الناشئ من الجور الفعلي أقوى من الضرر الناشئ من الجور القولي؟

قلنا : إنما خصه بالقول ليعلم وجوب العدل في الفعل بالطريق الأولى كما قال تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) [الإسراء : ٢٣] ولم يقل : ولا تشتمهما ولا تضربهما لما قلنا.

[٣٠٨] فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤] وبين قوله : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] ، وقوله : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل : ٢٥] وقد جاء في الحديث المشهور : «من عمل سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

قلنا : المراد بالآية الأولى وزر لا يكون مضافا إليها بمباشرة أو تسبب لتحقيق إضافته إلى غيرها على الكمال ، أما إذا لم يكن كذلك فهو وزرها من وجه فتزره.

وقيل معناه : لا تزره طوعا كما زعم المشركون بقولهم للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارجع إلى ديننا ونحن كفلاء بما يلحقك من تبعة في دينك. وقول الذين كفروا للذين آمنوا : (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) [العنكبوت : ١٢] إلى قوله تعالى : (عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) [العنكبوت : ١٣] ومعنى باقي النّصوص أنّنا نحمله كرها فلا تنافي بينهما.

٩٠

سورة الأعراف

[٣٠٩] فإن قيل : النهي في قوله تعالى : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) [الأعراف : ٢] متوجه إلى الحرج فما وجهه؟

قلنا : هو من باب قولهم لا أرينك هنا ، معناه : لا تقم هنا فإنك إن أقمت رأيتك ، فمعنى الآية ، فكن على يقين منه ولا تشك فيه ؛ لأن المراد بالحرج الشك.

[٣١٠] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) [الأعراف : ٤] والإهلاك إنما هو بعد مجيء البأس وهو العذاب؟

قلنا : معناه أردنا إهلاكها كقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] وقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [النحل : ٩٨].

[٣١١] فإن قيل : ميزان القيامة واحد فكيف قال تعالى : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) [الأعراف : ٨ ، ٩]؟

قلنا : إنما جمعه لأنه أراد بالميزان الموزونات من الأعمال.

وقيل : إنما جمعه لأنه ميزان يقوم مقام موازين ويفيد فائدتها ؛ لأنه يوزن به ذرات الأعمال وما كان منها في عظم الجبال.

[٣١٢] فإن قيل : كيف توزن الأعمال وهي أعراض لا ثقل لها ولا جسم ، والوزن من خواص الأجسام؟

قلنا : الموزون صحائف الأعمال.

الثاني : أنه قد ورد أن الله تعالى يحيلها في جواهر وأجسام ، فتتصور أعمال المطيعين في صورة حسنة ، وأعمال العاصين في صورة قبيحة ، ثم يزنها والله على كل شيء قدير.

[٣١٣] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) [الأعراف : ١١] وكلمة ثم للترتيب ، وخطاب الملائكة عليهم‌السلام بالسجود سابق على خلقنا وتصويرنا؟

__________________

[٣١٢] ـ السؤال وجوابه لا يحتاج إلى تعليق ؛ وهو كما ترى!

٩١

قلنا : المراد ولقد خلقنا أباكم ثم صورناه بطريق حذف المضاف.

وقيل : المراد : ولقد خلقنا أباكم ثم صوّرناكم في ظهره. والقول الأول أظهر.

[٣١٤] فإن قيل : كيف قال تعالى لإبليس (فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) [الأعراف : ١٣] ، أي في السماء ، وليس له ولا لغيره أن يتكبر في الأرض أيضا؟

قلنا : لما كانت السماء مقر الملائكة المطيعين الذين لا توجد منهم معصية أصلا كان وجود المعصية منهم أقبح ، فلذلك خص مقرهم بالذكر.

[٣١٥] فإن قيل : كيف أجيب إبليس إلى الإنظار ، وإنما طلب الإنظار ليفسد أحوال عباد الله تعالى ويغويهم؟

قلنا : لما في ذلك من ابتلاء العباد ، ولما في مخالفته من عظم الثواب ، ونظير ذلك ما خلقه الله تعالى في الدنيا من أصناف الزخارف وأنواع الملاذ والملاهي ، وما ركّبه في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده.

[٣١٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) [الأعراف : ٢٠] ولم يكن غرضه من الوسوسة كشف عورتهما ؛ بل إخراجهما من الجنة ، ويؤيده قوله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) [البقرة : ٣٦]؟

قلنا : اللّام في ليبدي لام العاقبة والصيرورة ، لا لام كي ، كما في قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] وقول الشاعر :

لدوا للموت وابنوا للخراب

فكلّكم يصير إلى التّراب

[٣١٧] فإن قيل : أي آية لله تعالى في اللباس والكسوة حتّى قال تعالى في آية اللباس والكسوة (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) [الأعراف : ٢٦]؟

قلنا : معناه أن اللباس والكسوة للإنسان خاصة علامة من العلامات الدالة على أن الله تعالى فضله على سائر الحيوانات ، وقيل معناه : ذلك من نعم الله.

[٣١٨] فإن قيل : كيف قال تعالى في حقّ إبليس : (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) [الأعراف : ٢٧] ونازع لباسهما هو الله تعالى؟

قلنا : لما كان ذلك السبب بسبب وسوسته وإغوائه أضيف النزع إليه ، كما يقال : أشبعني الطعام وأرواني الشراب ، والمشبع والمروي في الحقيقة إنما هو الله تعالى وهما سبب.

__________________

[٣١٦] البيت لأبي العتاهية ، وهو في ديوانه : ٣٣.

ويروى أيضا :

لدوا للموت وابنوا للخراب

فكلكم يصير إلى تباب

٩٢

[٣١٩] فإن قيل : كيف قال : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [الأعراف : ٢٩] ، وهو بدأنا أولا نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظاما ، ثم لحما ، كما ذكر ؛ ونحن لا نعود عند الموت ، ولا عند البعث بعد الموت ، على ذلك الترتيب؟

قلنا : معناه كما بدأكم أولا من تراب كذلك تعودون ترابا.

وقيل معناه : كما أوجدكم أولا بعد العدم كذلك يعيدكم بعد العدم ، فالتشبيه في نفس الإحياء والخلق لا في الكيفية والترتيب.

وقيل معناه : كما بدأكم سعداء وأشقياء ، كذلك تعودون ، ويؤيده تمام الآية.

وقيل معناه : كما بدأكم لا تملكون شيئا كذلك تعودون ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) [الأنعام : ٩٤] الآية.

[٣٢٠] فإن قيل : كيف قال تعالى مخبرا عن الزينة والطيبات : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [الأعراف : ٣٢] مع أن الواقع المشاهد أنها لغير الذين آمنوا أكثر وأدوم؟

قلنا : فيه إضمار تقديره : قل هي للذين آمنوا غير خالصة في الحياة الدنيا ؛ لأن المشركين شاركوهم فيها ؛ خالصة للمؤمنين في الآخرة.

[٣٢١] فإن قيل : كيف قال : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف : ٤٣] والميراث عبارة عما ينتقل من ميت إلى حي وهو مفقود هنا؟

قلنا : هو على تشبيه أهل الجنة وأهل النار بالوارث وبالموروث عنه. وذلك أن الله تعالى خلق في الجنة منازل للكفار على تقدير الإيمان ، فمن لم يؤمن منهم جعل منزله لأهل الجنة.

الثاني : أن نفس دخول الجنة بفضل الله ورحمته من غير عوض ، فأشبه الميراث ، وإن كانت الدرجات فيها بحسب الأعمال.

[٣٢٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] ، أما الخلق بمعنى الإيجاد والإحداث فظاهر أنه مختص به سبحانه وتعالى ، وأما الأمر فلغيره أيضا بدليل قوله تعالى : (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) [التوبة : ٧١] وقوله : (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) [الأعراف : ١٩٩] ، وقوله : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) [طه : ١٣٢]؟

قلنا : المراد بالأمر هنا قوله تعالى : (كُنْ) عند خلق الأشياء ، وهذا الأمر الذي به الخلق مخصوص به كالخلق.

الثاني : أن المراد بالخلق والأمر ما سبق ذكرهما في هذه الآية ، وهو خلق السموات والأرض ، وأمر تسخير الشمس والقمر والنجوم كما ذكر ، وذلك مخصوص به عزوجل.

٩٣

[٣٢٣] فإن قيل : لم قال نوح عليه الصلاة والسلام : ليس بي ضلالة بالتاء ، ولم يقل ليس بي ضلال كما وصفه قومه به ، وذلك أشد مناسبة ليكون نافيا عين ما أثبتوه؟

قلنا : الضّلال أقل من الضلال ، فكان نفيها أبلغ في نفي الضّلال عنه ، كأنه قال : ليس بي شيء من الضلال ، كما لو قيل : ألك ثمر فقلت : ما لي ثمرة؟ كان ذلك أبلغ في النفي من قولك مالي ثمر.

[٣٢٤] فإن قيل : كيف وصف الملأ بالذين كفروا في قصة هود دون قصة نوح عليهما‌السلام؟

قلنا : لأنه كان في أشراف قوم هود من آمن به منهم عند هذا القول ، فلم يكن كل الملأ من قومه قائلين : (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) [الأعراف : ٦٦] بخلاف قوم نوح فإنه لم يكن منهم من آمن به عند قولهم : (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأعراف : ٦٠] فكان كل الملأ قائلين ذلك ، هكذا أجاب بعض العلماء ، وهذا الجواب منقوض بقوله تعالى في سورة هود في قصة نوح عليه‌السلام (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [هود : ٢٧] وكذا في سورة المؤمنين ، وجواب هذا النقض أنه يجوز أن القول كان وقع مرتين ، والمرة الثانية بعد إيمان بعضهم.

[٣٢٥] فإن قيل : كيف قال صالح عليه‌السلام لقومه ، بعد ما أخذتهم الرجفة وماتوا : (يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف : ٧٩] ولا يحسن من الحي مخاطبة الميت لعدم الفائدة؟

قلنا : هذا مستعمل في العرف ، فإن من نصح إنسانا فلم يقبل منه حتى قتل أو صلب ومر به ناصحه فإنه يقول له : كم نصحتك يا أخي فلم تقبل حتى أصابك هذا.

وفائدة هذا القول حث السامعين له على قبول النصيحة ممن ينصحهم لئلّا يصيبهم ما أصاب المنصوح الذي لم يقبل النصيحة حتى هلك.

[٣٢٦] فإن قيل : لم قال شعيب عليه‌السلام لقومه : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) [الأعراف : ٥٦] وهم ما زالوا كافرين مفسدين لا مصلحين؟

قلنا : بعد أن أصلحها الله تعالى بالأمر بالعدل وإرسال الرسل.

وقيل : معناه بعد أن أصلح الله تعالى أهلها بحذف المضاف.

وقيل : معناه بعد الإصلاح فيها ، أي بعد ما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء وأتباعهم العاملين بشرائعهم ، فإضافته كإضافة قوله تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ : ٣٣] يعني بل مكرهم في الليل والنهار.

[٣٢٧] فإن قيل : كيف خاطبوا شعيبا عليه‌السلام بالعود في الكفر بقولهم : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) [الأعراف : ٨٨] وهو أجابهم

٩٤

بقوله : (إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) [الأعراف : ٨٩] وهو لم يكن في ملتهم ، قط ؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز عليهم شيء من الكبائر خصوصا الكفر؟

قلنا : العرب تستعمل عاد بمعنى صار ابتداء ، ومنه قوله تعالى : (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس : ٣٩].

الثاني : أنهم قالوا ذلك على طريق تغليب الجماعة على الواحد ؛ لأنهم عطفوا على ضميره الذين آمنوا منهم بعد كفرهم ، فجعلوهم عائدين جميعا إجراء للكلام على حكم التغليب ، وعلى ذلك أجرى شعيب عليه‌السلام جوابه ، ومراده عود قومه المعطوفين عليه.

[٣٢٨] فإن قيل : لم قال فرعون : (فَأْتِ بِها) [الأعراف : ١٠٦] بعد قوله : (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ) [الأعراف : ١٠٦]؟

قلنا : معناه إن كنت جئت بآية من عند الله فأتني بها ، أي أحضرها عندي.

[٣٢٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) [الأعراف : ١٠٩] وفي سورة الشعراء : (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) [الشعراء : ٣٤] فنسب هذا القول إلى فرعون؟

قلنا : قاله هو وقالوه هم ، فحكى قوله ثمّ وقولهم هنا.

[٣٣٠] فإن قيل : السحرة إنما سجدوا لله تعالى طوعا ، لما تحققوا معجزة موسى عليه‌السلام ؛ فكيف قال تعالى : (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) [الأعراف : ١٢٠]؟

قلنا : لما زالت كل شبهة لهم بما عاينوا من آيات الله تعالى على يد نبيه اضطرهم ذلك إلى مبادرة السجود ، فصاروا من غاية المبادرة كأنهم ألقوا إلى السجود تصديقا لله والرسول.

[٣٣١] فإن قيل : كيف قال الله تعالى هنا حكاية عن السحرة الذين آمنوا وعن فرعون : (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ١٢١] إلى قوله : (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) [الأعراف : ١٢٦] ثم حكى عنهم هذا المعنى في سورة طه وسورة الشعراء بزيادة ونقصان في الألفاظ المنسوبة إليهم ، وهذه الواقعة ما وقعت إلا مرة واحدة ، فكيف اختلفت عبارتهم فيها؟

قلنا : الجواب عنه أنهم إنما تكلموا بذلك بلغتهم لا بلغة العربية ، وحكى الله ذلك عنهم باللغة العربية مرارا لحكمة اقتضت التكرار والإعادة نبينها في سورة الشعراء إن شاء الله تعالى ، فمرة حكاه مطابقا للفظهم في الترجمة رعاية للّفظ ، وبعد ذلك

٩٥

حكاه بالمعنى جريا على عادة العرب في التفنن في الكلام والمخالفة بين أساليبه ، لئلا يمل إذا تمحض تكراره.

[٣٣٢] فإن قيل : كيف قالوا : (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها) [الأعراف : ١٣٢] سموها آية ، ثم قالوا لتسحرنا بها؟

قلنا : ما سموها آية لاعتقاد أنها آية ؛ بل حكاية لتسمية موسى عليه‌السلام على طريق الاستهزاء والسخرية.

[٣٣٣] فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى : (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف : ١٣٧] أي أهلكنا ، وقوله تعالى : (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ٥٧ ـ ٥٩]؟

قلنا : معنى ودمرنا : أي أبطلنا ما كان يصنع فرعون وقومه من المكر والمكيدة في حقّ موسى عليه‌السلام : (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف : ١٣٧] أي يبنون من الصرح الذي أمر فرعون هامان ببنائه ليصعد بواسطته إلى السماء.

وقيل : هو على ظاهره ؛ لأن الله تعالى أورث ذلك بني إسرائيل مدة ثم دمره جميعه.

[٣٣٤] فإن قيل : قوله تعالى : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) [البقرة : ٤٩] قوله تعالى : (وَفِي ذلِكُمْ) إن كان إشارة إلى الإنجاء فليس فيه بلاء ؛ بل هو محض نعمة ، وإن كان إشارة إلى القتل والأسر فإضافته إلى آل فرعون بقوله تعالى : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) [البقرة : ٤٩] أشد مناسبة لسياق الآية وهو الامتنان ، ولهذا قال : يقتلون ويستحيون ، فأضاف إليهم الفعلين.

قلنا : البلاء مشترك بين النعمة والمحنة ؛ لأنه من الابتلاء وهو الاختبار ، يقال بلاه وابتلاه ، أي اختبره ؛ والله تعالى يختبر شكر عباده بالنعمة ويختبر صبرهم بالمحنة ، يؤيده قوله تعالى : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) [الأعراف : ١٦٨] وقوله تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] فمعنى الآية وفي ذلك الإنجاء نعمة عظيمة من ربكم عليكم.

[٣٣٥] فإن قيل : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) [الأعراف : ١٤٢] المواعدة كانت أمره بالصوم في هذا العدد ، فكيف ذكر الليالي مع أنها ليست محلا للصوم ؛ بل يقع في القلب أن ذكر الأيام أولى ؛ لأنها محل الصوم الذي وقعت به المواعدة؟

٩٦

قلنا : العرب في أغلب تواريخها إنما تذكر الليالي ، وإن كان مرادها الأيام ؛ لأن الليل هو الأصل في الزمان ، والنهار عارض ؛ لأنّ الظلمة سابقة في الوجود على النور.

وقيل : إنه كان في شريعة موسى عليه‌السلام جواز صوم الليل؟

[٣٣٦] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [الأعراف : ١٤٢] وقد علم مجموع الميقات من قوله تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ)؟

قلنا : فيه فوائد : إحداها : التأكيد.

الثانية : أن يعلم أن العشر ليال لا ساعات.

الثالثة : أن لا يتوهم أن العشر التي وقع بها الإتمام كانت داخلة في الثلاثين ، يعني كانت عشرين وأتمت بعشر ، كما في قوله تعالى : (وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) [فصلت : ١٠] على ما نذكره مشروحا في حم السجدة.

[٣٣٧] فإن قيل : لم قال موسى عليه الصلاة والسلام : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف : ١٤٣] وقد كان قبله كثير من المؤمنين ، وهم الأنبياء ومن آمن بهم؟

قلنا : معناه وأنا أول المؤمنين بأنك يا الله لا ترى بالحاسة الفانية من الجسد الفاني في دار الفناء.

وقيل معناه : وأنا أول المؤمنين من بني إسرائيل في زماني.

وقيل : أراد بالأول الأقوى والأكمل في الإيمان ، يعني لم يكن طلبي للرؤية لشك عندي في وجودك أو لضعف في إيماني ؛ بل لطلب مزيد الكرامة.

[٣٣٨] فإن قيل : كيف قال : (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) [الأعراف : ١٤٥] أي التوراة ؛ وهم مأمورون بالعمل بكل ما في التوراة؟

__________________

[٣٣٧] قول المصنف في آخر الوجه الثالث من الجواب ، وإن كان أورده بلسان الحكاية ، بالقول : «بل لطلب مزيد الكرامة» مناقض للوجه الأول ، وفيه من البعد ما لا يخفى ، وحسبك أن مقام نبي من أولي العزم العارفين بالله سبحانه حقّ معرفته ، يمنع من أن يلتمس موسى صلوات الله وسلامه عليه من الله مزيد الكرامة بأمر ممتنع ؛ بل المقالة التي أوردها المصنف أشبه بمقالة الحشوية والمشبهة والمجسّمة ، لا بمقالة الأنبياء ، خاصة الله وأهل ولايته والعارفين به ، نعوذ بالله من الضّلالة في الدين.

أما قوله في ذيل الوجه الأول من الجواب : «في دار الفناء» فكأنه يلمح إلى جواز رؤية الباري تعالى في الآخرة ، بهذه العين الفانية. وأقل ما فيه : أن الممتنع عقلا ، كرؤية الباري تعالى ، ممتنع في كل الظروف والأحوال.

٩٧

قلنا : معناه بحسنها وكلها حسن.

الثاني : أنهم أمروا فيها بالخير ونهوا عن الشر ، ففعل الخير أحسن من ترك الشر.

الثالث : أن فيها حسنها وأحسن كالاقتصاص والعفو ، والانتصار والصبر ، والواجب والمندوب والمباح ، فأمروا بالأخذ بالعزائم والفضائل وما هو أكثر ثوابا.

[٣٣٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) [الأعراف : ١٤٨] واتخاذهم العجل كان في زمن موسى عليه‌السلام بالنقل ، وفي سياق الآية ما يدل على ذلك.

قلنا : معناه من بعد ذهابه إلى الجبل.

وقيل : من بعد الأخذ عليهم أن لا يعبدوا غير الله.

[٣٤٠] فإن قيل : كيف عبر عن الندم بالسقوط في اليد في قوله تعالى : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) [الأعراف : ١٤٩] وأي مناسبة بينهما؟

قلنا : لأنّ من عادة من اشتد ندمه وحسرته على فائت أن يعض يده غما ، فتصير يده مسقوطا فيها ؛ لأن فاه قد وقع فيها ؛ وسقط مسند إلى قوله في أيديهم ، وهو من كنايات العرب كقولهم للنائم : ضرب على أذنه.

[٣٤١] فإن قيل : (غَضْبانَ أَسِفاً) [الأعراف : ١٥٠] وهما متقاربان في المعنى؟

قلنا : لأنّ الآسف الحزين ، وقيل : الشديد الغضب ، ففيه فائدة جديدة.

[٣٤٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ) [الأعراف : ١٥٤] ولم يقل وفيها ، وإنما يقال نسختها لشيء كتب مرة ثم نقل ، فأما أول مكتوب فلا يسمى نسخة ، والألواح لم تكتب من مكتوب آخر؟

قلنا : لمّا ألقى الألواح ، قيل إنه انكسر منها لوحان ، فنسخ ما فيهما في لوح ذهب وكان فيهما الهدى والرحمة ، وفي باقي الألواح تفصيل كل شيء. وقيل : إنما قال : (وَفِي نُسْخَتِها) [الأعراف : ١٥٤] ؛ لأن الله تعالى لقّن موسى عليه‌السلام التوراة ثم أمره بكتابتها ، فنقلها من صدره إلى الألواح فسماها نسخة.

[٣٤٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) [الأعراف : ١٥٧] ، أي مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني القرآن ، والقرآن إنما أنزل مع جبريل عليه‌السلام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قلنا : معه ، أي مقارنا لزمانه.

وقيل : معه ، أي عليه.

٩٨

وقيل : معه ، أي إليه.

ويجوز أن يتعلق معه باتبعوا لا بأنزل ، معناه : واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والعمل بسنته ، أو واتبعوا القرآن كما اتبعه هو مصاحبين له في اتباعه.

[٣٤٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) [الأعراف : ١٦٢]. وهم إنما بدلوا القول الذي قيل لهم ؛ لأنهم قيل لهم : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) [الأعراف : ١٦١]. فقالوا : حنطة؟

قلنا قد سبق هذا السؤال وجوابه في سورة البقرة.

[٣٤٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [الأعراف : ١٦٦] وانتقالهم من صورة البشر إلى صورة القردة ليس في وسعهم؟

قلنا : قد سبق هذا السؤال وجوابه في سورة البقرة.

[٣٤٦] فإن قيل : الحلم من صفات الله تعالى فكيف قال : (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) وسرعة العقاب تنافي صفة الحلم ؛ لأن الحليم هو الذي لا يعجل بالعقوبة على العصاة؟

قلنا : معناه شديد العقاب.

وقيل : معناه سريع العقاب ، إذ جاء وقت عقابه ، لا يردّه عنه أحد.

[٣٤٧] فإن قيل : التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة ، ومنها إقامة الصلاة فكيف قال تعالى : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) [الأعراف : ١٧٠]؟

قلنا : إنما خصها بالذكر إظهارا لمزيتها لكونها عماد الدين بالحديث ، وناهية عن الفحشاء والمنكر بالآية.

[٣٤٨] فإن قيل : قوله تعالى : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ) [الأعراف : ١٧٦] تمثيل لحال بلعام ، فكيف قال بعده : (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) [الأعراف : ١٧٧] والمثل لم يضرب إلا لواحد؟

قلنا : المثل في الصورة وإن ضرب لبلعام ولكن أريد به كفار مكة كلهم ؛ لأنهم صنعوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلّم بسبب ميلهم إلى الدنيا وشهواتها من الكيد والمكر ما يشبه فعل بلعام مع موسى عليه‌السلام.

الثاني : أن (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) راجع إلى قوله تعالى : (مَثَلاً الْقَوْمُ) [الأعراف : ١٧٧] لا إلى أول الآية.

[٣٤٩] فإن قيل : كيف قال : (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف : ١٨٨] وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بشيرا ونذيرا للناس كافة ، كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) [سبأ : ٢٨]؟

٩٩

قلنا : المراد بقوله : (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف : ١٨٨] لقوم كتب عليهم في الأزل أنهم يؤمنون ، وإنما خصهم بالذكر لأنهم هم المنتفعون بالإنذار والبشارة دون غيرهم ؛ فكأنه نذير وبشير لهم خاصة ، كما قال تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥].

ويجوز أن يكون متعلق النذير محذوفا تقديره : إن أنا إلا نذير للكافرين وبشير لقوم يؤمنون ؛ فاستغنى بذكر أحدهما عن الآخر ، كما استغنى بالجملة عن التفصيل في تلك الآية ؛ لأن المعنى : وما أرسلناك إلا كافة للنّاس بشيرا للمؤمنين ونذيرا للكافرين.

[٣٥٠] فإن قيل : كيف قال الله تعالى حكاية عن آدم عليه‌السلام ، وحواء ، رضي الله عنها : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) ، وقال عزوجل : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الأعراف : ١٩٠] والأنبياء معصومون عن مطلق الكبائر فضلا عن الشرك الذي هو أكبر الكبائر؟

قلنا : المراد بقوله : (جَعَلا لَهُ) أي جعل أولادهما بطريق حذف المضاف. وكذا قوله تعالى : (فِيما آتاهُما) أي فيما آتى أولادهما ، ويؤيد هذا قوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الأعراف : ١٩٠] حيث ذكر ضمير الجمع ولم يقل يشركان ، ومعنى إشراك أولادهما فيما آتاهم الله تعالى تسميتهم أولادهم بعبد العزى وعبد مناة وعبد شمس ونحو ذلك ، مكان عبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم.

وقيل : الضمير جعلا للولد الصالح وهو السليم الخلق ، وإنما قال جعلا لأن حواء كانت تلد في بطن ذكرا وأنثى.

وقيل : المراد بذلك تسميتهما إياه عبد الحارث. والحارث اسم إبليس في الملائكة ، وسبب تلك التسمية يعرف من تفسير الآية ، وإنما قال شركاء إقامة للواحد مقام الجمع ، ولم يذهب آدم وحواء إلى أن الحارث ربه ؛ بل قصد أنه كان سبب نجاته.

وقال جمهور المفسرين : قوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الأعراف : ١٩٠] في مشركي العرب خاصة ، وهو منقطع عن قصة آدم وحواء عليهما‌السلام.

١٠٠