أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها

محمّد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي

أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-026-9
الصفحات: ٤٠٨

سورة البلد

[١١٩٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) [البلد : ٣] ، ولم يقل سبحانه وتعالى ومن ولد؟

قلنا : لأنّ في «ما» من الإبهام ما ليس في من ، فقصد به التفخيم والتعظيم ، كأنه تعالى قال : وأيّ شيء عجيب غريب ولد ، ونظيره قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) [آل عمران : ٣٦].

٣٦١

سورة الشمس

[١١٩٧] فإن قيل : كيف نكّر الله تعالى النفس ، دون سائر ما أقسم به ، حيث قال تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) [الشمس : ٧]؟

قلنا : لأنه لا سبيل إلى لام الجنس ؛ لأنّ نفوس الحيوانات غير الإنسان خارجة عن ذلك ، بدليل قوله تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) [الشمس : ٨] ، ولا سبيل إلى لام العهد ، لأن المراد ليس نفسا واحدة معهودة. وعلى قول من قال إن المراد منه نفس آدم عليه‌السلام ، فالتنكير للتفخيم والتعظيم ، كما سبق في سورة الفجر.

[١١٩٨] فإن قيل : أين جواب القسم؟

قلنا : قال الزجاج وغيره : إنه قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) [الشمس : ٩] ، وحذفت اللّام لطول الكلام.

وقال ابن الأنباري : جوابه محذوف.

وقال الزمخشري : تقديره ليدمدمنّ الله على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما دمدم على ثمود ، لتكذيبهم صالحا عليه‌السلام. قال : وأما (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) [الشمس : ٩] فكلام تابع لما قبله على طريق الاستطراد وليس من جواب القسم في شيء.

٣٦٢

سورة الليل

[١١٩٩] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) [الليل : ١٥] مع أنّ الشقي أيضا يصلاها : أي يقاسي حرّها وعذابها؟

قلنا : قال أبو عبيدة : الأشقى هنا بمعنى الشقي ، والمراد به كل كافر ، والعرب تستعمل أفعل في موضع فاعل ولا تريد به التفضيل ، وقد سبق تقرير ذلك والشواهد عليه في سورة الرّوم في قوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] وقال الزجاج : هذه نار موصوفة معينة ، فهو درك مخصوص ببعض الأشقياء ، ورد عليه ذلك بقوله تعالى : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) [الليل : ١٧] ، والأتقى يجنب عذاب أنواع نار جهنم كلّها ، والمراد بالأتقى هنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه بإجماع المفسرين ؛ ولهذا قال الزمخشري : إن الأشقى ليس بمعنى الشّقي ؛ بل هو على ظاهره ؛ والمراد به أبو جهل أو أمية بن خلف ، فالآية واردة للموازنة بين حالتي أعظم المؤمنين وأعظم المشركين ، فبولغ في صفتيهما المتناقضتين ، وجعل هذا مختصا بالصلي كأنّ النار لم تخلق إلا له لوفور نصيبه منها وجاء قوله تعالى : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) [الليل : ١٧] على موازنة ذلك ومقابلته ، مع أن كل تقي يجنبها.

قال بعض العلماء : هذه الآية تدل على أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الصحابة ، لأنه وصفه بالأتقى ، وقال : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣] ، وإذا كان أكرم عند الله كان أفضل.

٣٦٣

سورة الضحى

[١٢٠٠] فإن قيل : كيف وصف صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالضال والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم معاذ الله أن يكون ضالّا ، أي كافرا ، لا قبل النبوّة ولا بعدها ؛ والضّال أكثر ما ورد في القرآن بمعنى الكافر؟

قلنا : المراد به هنا أنه تعالى وجده ضالا عن معالم النبوة وأحكام الشريعة فهداه إليها. هذا قول الجمهور.

الثاني : أنّه ضل وهو صغير في شعاب مكة فردّه الله تعالى إلى جدّه عبد المطلب.

الثالث : أن معناه ووجدك ناسيا فهداك إلى الذكر ؛ لأن الضلال جاء بمعنى النسيان ، ومنه قوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) [البقرة : ٢٨٢].

[١٢٠١] فإن قيل : لو كان الضّلال بمعنى النسيان لما جمع بينهما في قوله تعالى : (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) [طه : ٥٢]؟

قلنا : لا ندعي أنه حيث ذكر كان بمعنى النسيان ، فهو في تلك الآية. بمعنى الخطأ ، وقيل بمعنى الغفلة.

الرابع : أن معناه : ووجدك جاهلا فعلمك.

[١٢٠٢] فإن قيل : كيف منّ سبحانه عليه بإخراجه من الفقر إلى الغنى بقوله تعالى : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) [الضحى : ٨] أي فقيرا ، والعائل الفقير سواء كان له عيال أو لم يكن؟

قلنا : قال ابن السائب ، واختاره الفرّاء : أنه لم يكن غناه بكثرة المال ، ولكن الله أرضاه بما آتاه ، ولم يكن ذلك الرضا قبل النبوة ، وذلك حقيقة الغنى ، ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الغنى غنى القلب». وقال غيره : المراد به أنه أغناه بمال خديجة عن مال أبي طالب ، والمراد به الإغناء بتسهيل ما لا بد منه وتيسيره ، لا الإغناء بفضول المال الذي لا يجامع صفة الفقر.

__________________

[١٢٠٢] الحديث مروي عن أبي هريرة بلفظ : «ليس الغنى عن كثرة العرض ، ولكنّ الغنى غنى النفس» أخرجه : أحمد ٢ / ٣١٥ ، ومجمع الزوائد ١٠ / ٢٤٠.

٣٦٤

سورة الانشراح

[١٢٠٣] فإن قيل : أيّ فائدة في زيادة ذكر لك وعنك والكلام تام بدونهما؟

قلنا : فائدته الإبهام ثم الإيضاح ، وهو نوع من أنواع البلاغة ، فلمّا قال تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ) [الشرح : ١] فهم أن ثم مشروحا له ثم قال : (صَدْرَكَ) [الشرح : ١] فأوضح ما علم مبهما بلفظ لك ، وكذا الكلام في (وَوَضَعْنا عَنْكَ) [الشرح : ٢].

[١٢٠٤] فإن قيل : قال تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح : ٥] وكلمة مع للمصاحبة والقران ، فما معنى اقتران العسر واليسر؟

قلنا : سبب نزول هذه الآية أن المشركين عيروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله عنهم بالفقر والضائقة التي كانوا فيها ، فوعدهم الله تعالى يسرا قريبا من زمان عسرهم ؛ وأراد تأكيد الوعد لتسليتهم وتقوية قلوبهم ، فجعل اليسر الموعود كالمقارن للعسر في سرعة مجيئه.

[١٢٠٥] فإن قيل : ما معنى قول ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم وابن مسعود رضي الله عنه : لن يغلب عسر يسرين ، ويروى ذلك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا؟

قلنا : هذا عمل على الظّاهر وبناء على قوة الرّجاء ، وإن وعد الله لا يحمل إلا على أحسن ما يحتمله اللفظ وأكمله ، وأما حقيقة القول فيه فهو أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تأكيدا للأولى ، كما في قوله تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات : ٤٩] وما أشبهه ، وكما في قولك : جاءني رجل جاءني رجل ؛ وأنت تعني واحدا في الجملتين ، فعلى هذا يتحد العسر واليسر ، أو يكون تعريف العسر لأنه حاضر معهود ، وتنكير اليسر لأنه غائب مفقود ؛ وللتفخيم والتعظيم. ويحتمل أن تكون الجملة الثانية وعدا مستأنفا فيتعدد اليسر حينئذ على ما قيل ، ويؤيد أن الجملة الثانية للتأكيد أنه ليس في مصحف عبد الله بن مسعود إلا مرة واحدة.

[١٢٠٦] فإن قيل : وإذا ثبت في قراءته غير مكرر ، فكيف قال : والذي نفسي بيده لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه ، إنه لن يغلب عسر يسرين؟

قلنا : كأنه نزل ما فيه من التفخيم والتعظيم بالتنكير منزلة التثنية ؛ لأن المعنى يسرا وأي يسر ، وأما من فسره بيسرين فإنه قال : أحد اليسرين ما تيسر من الفتوح في

٣٦٥

زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والثاني ما تيسر بعده في زمن الخلفاء. وقيل : هما يسر الدنيا ويسر الآخرة ، كقوله تعالى : (هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) [التوبة : ٥٢] وهما حسن الظفر وحسن الثواب.

٣٦٦

سورة التّين

[١٢٠٧] فإن قيل : كيف وجه صحة الاستثناء في قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [التين : ٦]؟

قلنا : قال الأكثرون : المراد بالإنسان هنا الجنس ، وبردّه أسفل سافلين إدخاله النار ، فعلى هذا يكون الاستثناء متّصلا ظاهر الاتصال ، ويكون قوله تعالى : (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [التين : ٦] قائما مقام قوله تعالى فلا نردهم أسفل سافلين. وأما على قول من فسر أسفل سافلين بالهرم والخرف وقال السافلون هم الضعفاء والزمنى والأطفال والشيخ الهرم أسفل هؤلاء كلهم ، فعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا بمعنى لكن.

ومعنى قوله تعالى : (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [التين : ٦] أي غير مقطوع بالهرم والضعف الحاصل من الكبر ، أي إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في حال شبابهم وقوتهم ، فإنهم إذا عجزوا عن العمل كتب لهم ثواب ما كانوا يعملونه من الطاعات والحسنات إلى وقت موتهم ، وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما : من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر.

وقال بعض العلماء : الذين آمنوا وعملوا الصالحات في شبابهم وقوتهم فإنهم لا يردون إلى الخرف وأرذل العمر وإن عمروا طويلا ، وتمسك بظاهر قول ابن عباس رضي الله عنهما.

٣٦٧

سورة العلق

[١٢٠٨] فإن قيل : أين مفعول خلق الأول :

قلنا : يحتمل وجهين :

أحدهما : أن لا يقدّر له مفعول ؛ بل يكون المراد الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه ؛ كما قال تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [الملك : ١٤] في أحد الوجهين ، وقولهم : فلان يعطي ويمنع ويصل ويقطع.

الثاني : أن يكون مفعوله مضمرا تقديره : الذي خلق كل شيء ، ثم أفرد الإنسان بالذكر تشريفا له وتفضيلا.

[١٢٠٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) [العلق : ٢] على الجمع ولم يقل : من علقة؟

قلنا : لأن الإنسان في معنى الجمع بدليل قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [العصر : ٢ ، ٣] ، والجمع إنما خلق من جمع علقة لا من علقة.

[١٢١٠] فإن قيل : هذا الجواب يرده قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) [الحج : ٥]؟

قلنا : المراد فإنا خلقنا أباكم من تراب ، ثم خلقنا كل واحد من أولاده من نطفة.

وقيل : إنما قال من علق رعاية للفاصلة الأولى وهي خلق.

٣٦٨

سورة القدر

[١٢١١] فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) [القدر : ٤] وتنزلهم من الأمر لا معنى له؟

قلنا : من هنا بمعنى الباء ، كما في قوله تعالى : (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد : ١١] وقوله تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) [غافر : ١٥] أي بكلّ أمر قضاه الله تعالى في تلك السنة من ليلة القدر إلى مثلها تنزل الملائكة به من اللّوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، وقيل : إلى الأرض.

٣٦٩

سورة البيّنة

[١٢١٢] فإن قيل : المراد بالرسول هنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلا خلاف ، فكيف قال تعالى : (يَتْلُوا صُحُفاً) [البينة : ٢] وظاهره يدل على قراءة المكتوب من الكتاب وهو منتف في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه كان أميّا؟

قلنا : المراد يتلو ما في الصحف عن ظهر قلبه ؛ لأنه هو المنقول عنه بالتواتر.

[١٢١٣] فإن قيل : ما الفرق بين الصحف والكتب ؛ حتى قال تعالى : (صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ) [البينة : ٢ ، ٣]؟

قلنا : الصحف القراطيس ، وقوله تعالى (مُطَهَّرَةً) ، أي من الشرك الباطل ، وقوله تعالى : (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) [البينة : ٣] ، أي مكتوبة مستقيمة ناطقة بالعدل والحق ، يعني الآيات والأحكام.

[١٢١٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة : ٤] ، أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو القرآن ، والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى ، وهم ما زالوا متفرقين مختلفين يكفر كل فريق منهم الآخر قبل مجيء البينة وبعدها؟

قلنا : المراد به تفرقهم عن تصديق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإيمان به قبل أن يبعث ، فإنهم كانوا مجتمعين على ذلك متفقين عليه بأخبار التوراة والإنجيل ، فلما بعث إليهم تفرقوا ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر. وقال بعض العلماء : المراد بالبينة ما في التوراة والإنجيل من الإيمان بنبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويؤيّد هذا القول أن أهل الكتاب أفردوا بالذكر في هذا التفرق مع وجود التفرق من المشركين أيضا بعد ما جمعوا مع المشكرين في أول السورة ، فلا بد أن يكون مجيء البينة أمرا يخصهم ، ومجيء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن العزيز لا يخصهم.

٣٧٠

سورة الزلزلة

[١٢١٥] فإن قيل : قوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) [الزلزلة : ١] ما معنى إضافة الزلزال الذي هو المصدر إلى الأرض ، وهلّا قال زلزالا ، كما قال تعالى : (كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) [الفجر : ٢١] وما أشبهه؟

قلنا : معناه الزلزال الذي تستوجبه في حكمة الله تعالى ومشيئته في ذلك اليوم ، وهو الزلزال الذي ليس بعده زلزال ، ونظيره قولك : أكرم التقي إكرامه ، وأهن الفاسق إهانته ، تريد ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة ، ويجوز أن يكون المراد بالإضافة الاستغراق ؛ معناه : زلزالها كله الذي هو ممكن لها.

[١٢١٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [الزلزلة : ٧] على العموم فيهما ، وحسنات الكافر محبطة بالكفر ، وسيئات المؤمن معفو عنها ، مغفورة باجتناب الكبائر ؛ فكيف تثبت رؤية كل عامل جزاء عمله؟

قلنا : معناه فمن يعمل مثقال ذرة خيرا من فريق السعداء ، ومن يعمل مثقال ذرّة شرا من فريق الأشقياء ؛ لأنه جاء بعد قوله تعالى : (يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً) [الزلزلة : ٦].

وذكر مقاتل أنها نزلت في رجلين من أهل المدينة كان أحدهما يستقل أن يعطي السائل الكسرة أو التمرة ويقول : إنما نؤجر على ما نعطيه ونحن نحبه ، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ويقول : إنما أوعد الله النار على الكبائر.

٣٧١

سورة العاديات

[١٢١٧] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) [العاديات : ١١] ؛ مع أنّه تعالى أخبر بهم في كلّ زمان ، فما وجه تخصيص ذلك اليوم؟

قلنا : معناه أن ربهم سبحانه مجازيهم يومئذ على أعمالهم ، فالعلم مجاز عن المجازاة ، ونظيره قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) [النساء : ٦٣].

معناه يجازيهم على ما فيها ؛ لأنّ علمه شامل لما في قلوب كلّ العباد ، ويقرب منه قوله تعالى : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) [غافر : ١٦].

٣٧٢

سورة القارعة

[١٢١٨] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) [القارعة : ٨] ، أي رجحت سيئاته على حسناته : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) [القارعة : ٩] ، أي فمسكنه النار ؛ وأكثر المؤمنين سيئاتهم راجحة على حسناته.

قلنا : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) [القارعة : ٩] لا يدل على خلوده فيها ، فيسكن المؤمن بقدر ما تقتضيه ذنوبه ، ثم يخرج منها إلى الجنة.

وقيل : المراد بخفة الموازين خلوها من الحسنات بالكلية ، وتلك موازين الكفار.

٣٧٣

سورة التكاثر

[١٢١٩] فإن قيل : أين جواب (لَوْ تَعْلَمُونَ)؟ [التكاثر : ٥].

قلنا : هو محذوف تقديره : لو تعلمون الأمر يقينا لشغلكم عن التكاثر والتفاخر ، ثم ابتدأ تعالى بوعيد آخر فقال سبحانه : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) [التكاثر : ٦].

[١٢٢٠] فإن قيل : كل أحد لا يخلو عن نيل نعيم في الدنيا ولو مرة واحدة ، فما النعيم الذي يسأل عنه العبد؟

قلنا : فيه سبعة أقوال :

أحدها : أنه الأمن والصحة.

الثاني : أنه الماء البارد.

الثالث : أنه خبز البرّ والماء العذب.

الرابع : أنّه مأكول ومشروب لذيذان.

الخامس : أنه الصحة والفراغ.

السادس : أنه كل لذّة من لذّات الدنيا.

السابع : أنه دوام الغداء والعشاء.

وقيل إن السؤال خاص للكفار. والصحيح أنه عام في كل إنسان وفي كل نعيم ، فالكافر يسأل توبيخا والمؤمن يسأل عن شكرها ، ويؤيد هذا ما جاء في الحديث أنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله تعالى : ثلاث لا أسأل عبدي عن شكرهنّ وأسأله عمّا سوى ذلك : بيت يكنّه ، وما يقيم به صلبه من الطّعام ، وما يواري به عورته من اللّباس».

٣٧٤

سورة العصر

[١٢٢١] فإن قيل : الاستثناء الذي في السورة لا يدلّ على أنّ المؤمنين الموصوفين في ربح ؛ مع أن الاستثناء إنما سيق لمدحهم بمضادة حالهم لحال من لم يتناوله الاستثناء؟

قلنا : الاستثناء وإن لم يدل بصريحه على أنّهم في أعظم ربح ؛ ولكن اتصافهم بتلك الصفات الأربعة الشريفة يدل على أنهم في أعظم ربح ؛ مع أنا لو قدرنا أنهم ليسوا في ربح فالمضادة حاصلة أيضا ، لأنهم ليسوا في خسر ، بمقتضى الاستثناء.

٣٧٥

سورة الهمزة

[١٢٢٢] فإن قيل : ما الفرق بين الهمزة واللمزة؟

قلنا : قيل إنهما بمعنى واحد لا فرق بينهما ، وإنما الثاني تأكيد للأول. وقيل : إنهما مختلفان ، فقيل الهمزة المغتاب ، واللمزة العياب. وقيل : الهمزة العياب في الوجه ، واللّمزة في القفا ، وقيل : الهمزة الطعان في الناس ، واللّمزة الطعان في أنساب الناس. وقيل : الهمزة يكون بالعين ، واللمزة باللّسان. وقيل : عكسه. فهذه ستة أقوال.

٣٧٦

سورة الفيل

[١٢٢٣] فإن قيل : ما معنى الأبابيل ، وهل هو واحد أو جمع؟

قلنا : معناها جماعات في تفرقة ، أي حلقة حلقة. وقيل : التي يتبع بعضها بضعا. وقيل : الكثيرة. وقيل : المختلفة الألوان. وقال الفراء وأبو عبيدة : لا واحد لها. وقيل : واحدها أبال وأبول وأبيل.

٣٧٧

سورة قريش

[١٢٢٤] فإن قيل : بأيّ شيء تتعلق اللّام في قوله تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ)؟ [قريش : ١].

قلنا : قيل إنها متعلقة بآخر السورة التي قبلها ، أي فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش ، ويؤيد هذا أنهما في مصحف أبيّ رضي الله عنه سورة واحدة بلا فصل. والمعنى أنه أهلك أصحاب الفيل الذي قصدوهم ليتسامع الناس بذلك فيهابوهم ويحترموهم ، فينتظم لهم الأمر في رحلتهم ولا يجترئ أحد عليهم.

وقيل : معناه أهلكهم ليألف قريش رحلة الشّتاء والصيف بهلاك من كان يخيفهم ويمنعهم.

وقيل : إنها متعلقة بما بعدها ، وهو قوله تعالى : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) [قريش : ٣] إيلافهم رحلة الشتاء والصيف. معناه أن نعم الله تعالى عليهم لا تحصى ، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدون لهذه النعمة الظاهرة.

وقيل : هي لام التعجب معناه اعجبوا لإيلاف قريش. وكانت لقريش في كل سنة رحلتان للتجارة التي بها معاشهم ، رحلة في الشتاء إلى اليمن ، ورحلة في الصيف إلى الشام.

ثم قيل : الإيلاف هنا مصدر بمعنى الإلف تقول : آلفته إيلافا بالمد ، كما تقول ألفته إلفا بالقصر كلاهما متعد إلى مفعول واحد ، فيكون لإيلاف قريش لإلف قريش ، أي لحبهم الرحلتين. وقيل آلف بالمد متعد إلى مفعولين ، يقال ألف زيد المكان وآلف زيد عمرا المكان ، فيكون معنى الآية لإيلاف الله تعالى قريشا الرحلتين ؛ فعلى هذا الوجه يكون المصدر مضافا إلى المفعول ، وعلى الوجه الأول يكون مضافا إلى الفاعل.

وأمّا تكرار إضافة المصدر في قوله تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ) [قريش : ١ ، ٢] ، فقيل : إن الثاني بدل من الأول. وقيل : إنه للتأكيد ، كما تقول : أعطيتك المال لصيانة وجهك صيانة عن ذل السؤال.

٣٧٨

سورة الماعون

[١٢٢٥] فإن قيل : كيف توعّد الله الساهي عن الصلاة ، والحديث ينفي مؤاخذته ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان»؟

قلنا : المراد بالسّهو هنا ، التغافل عنها ، والتكاسل في أدائها ، وقلّة الالتفات إليها ؛ وذلك فعل المنافقين أو الفسقة الشياطين من المسلمين ؛ وليس المراد ما يتفق فيها من السهو بوسوسة الشّيطان أو حديث النفس ممّا لا صنع للعبد فيه ولا اختيار ، وهو المراد في الحديث ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقع له السهو في صلاته فضلا عن غيره ، ولهذا قال تعالى : (عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) [الماعون : ٥] ولم يقل في صلاتهم. وعن أنس رضي الله عنه أنه قال : الحمد لله على أن لم يقل في صلاتهم.

__________________

[١٢٢٥] الحديث مروي عن ابن عباس : أخرجه الطبراني في الكبير : ١١ / ١٣٣ ، والدارقطني : ٤ / ١٧١ ، وابن ماجة ١ / ٦٥٩ ، والحاكم : ٢ / ١٩٨.

ـ كلام المصنف هنا كما ترى ، وقد روى القوم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نام عن الصلاة ، وأنه ينسى وأنه سهى في صلاته حتى لم يدر كم صلّى ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله. ثم ، إنما جاز السهو عمّن يقيم صورة الصلاة دون حقيقتها وحاشا رسول الله ...

٣٧٩

سورة الكوثر

[١٢٢٦] فإن قيل : ما الكوثر؟

قلنا : فيه قولان :

أحدهما : وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما أنه الخير الكثير فوعل من الكثرة ، كقولهم : رجل نوفل ، أي كثير النوافل. ومنه قول الشاعر :

وأنت كثير يا ابن مروان طيّب

وكان أبوك ابن العقائل كوثرا

قيل لأعرابية رجع ابنها من سفر : كيف آب ابنك؟ قالت : آب بكوثر. ولقد أعطى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيرا كثيرا ، فإنه آتاه الحكمة ، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، ومنهم من فسّر هذا الخير الكثير بالنبوة ، ومنهم من فسره بالعلم والحكمة ، ومنهم من فسره بالقرآن.

والقول الثاني : أنّ الكوثر اسم نهر في الجنّة ، وهو قول أكثر المفسرين ، وقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الكوثر نهر وعدنيه ربّي في الجنّة ، عليه خير كثير ، ترد عليه أمّتي يوم القيامة». وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا ، في الحديث أنّه قال : «بينا أنا أسير في الجنّة فإذا بنهر حافّتاه قباب اللّؤلؤ المجوّف ، فقلت : ما هذا يا جبريل؟ قال : هذا الكوثر الّذي أعطاك ربّك ، فضرب الملك بيده فإذا طينه المسك الأذفر». وروي عن صفته أنّه أحلى من العسل ، وأشد بياضا من اللبن ، وأبرد من الثلج ، وألين من الزّبد ، حافتاه الزبرجد ، وأوانيه من فضة عدد نجوم السماء ، لا يظمأ من شرب منه أبدا.

__________________

[١٢٢٦] يصعب تحديد نسبة هذا البيت لقائل معين. فهو ينسب إلى الكميت بن زيد الأسدي ، ومذكور في مجموع شعره : ٢ / ٢٠٩.

ونسبه ابن هشام إلى رجل من بني عبد مناة ومنه قوله :

فلا أب وابنا مثل مروان وابنه

إذا هو بالمجد ارتدى وتأزّرا

وهذا البيت في كتاب سيبويه : ١ / ٣٤٩ من غير نسبة.

ونسب في شرح شواهد الكشاف للفرزدق ، وانظر خزانة الأدب : ٢ / ١٠٢.

ـ الحديث أخرجه أحمد في مسنده : ١ / ٢٣١ ، ٢٣٢.

٣٨٠