أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها

محمّد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي

أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-026-9
الصفحات: ٤٠٨

٧٧] ، وكأنه تعالى قال : إن يوم القيامة لقربه يشبه ما ليس بينكم وبينه إلا ليلة واحدة ، ولهذا روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «اعمل لليلة صبيحتها يوم القيامة». قالوا أراد بتلك اللّيلة ليلة الموت.

[١٠٨٧] فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) [الحشر : ٢١] الآية؟

قيل : معناه : أنه سبحانه لو جعل في جبل على قساوته تمييزا ، كما جعل في الإنسان ثم أنزل عليه القرآن ، لتشقق خشية من الله تعالى وخوفا أن لا يؤدي حقه في تعظيم القرآن. والمقصود توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة خشوعه عند تلاوة القرآن ، وإعراضه عن تدبر قوارعه وزواجره.

[١٠٨٨] فإن قيل : ما الفرق بين الخالق والبارئ حتى عطف تعالى أحدهما على الآخر؟

قلنا : الخالق هو المقدر لما يوجده ، والبارئ هو المميز بعضه عن بعض بالأشكال المختلفة. وقيل : الخالق المبدئ والبارئ المعيد.

٣٢١

سورة الممتحنة

[١٠٨٩] فإن قيل : من ما ذا استثنى قوله تعالى : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) [الممتحنة : ٤]؟

قلنا : من قوله تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) [الممتحنة : ٤] ، لأنه سبحانه أراد بالأسوة الحسنة قوله الذي حكاه عنه وعن أتباعه وأشياعه ليقتدوا به ويتخذوه سنة يستنون بها ، واستثنى سبحانه استغفاره لأبيه ، لأنه كان عن موعدة وعدها إياه.

[١٠٩٠] فإن قيل : فإن كان استغفاره لأبيه أو وعده لأبيه بالاستغفار مستثنى من الأسوة ، فكيف عطف عليه قوله : (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) [الممتحنة : ٤] وهو لا يصح استثناؤه. ألا ترى إلى قوله تعالى : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [المائدة : ١٧]؟

قلنا : المقصود بالاستثناء هو الجملة الأولى فقط ، وما بعدها ذكر لأنه من تمام كلام إبراهيم صلوات الله عليه لا بقصد الاستثناء ، كأنه قال : أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار.

[١٠٩١] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) [الممتحنة : ١٢] ، ومعلوم أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يأمر إلا بمعروف ، فهلا اقتصر على قوله تعالى ولا يعصينك؟

قلنا : فائدته سرعة تبادر الأفهام إلى قبح المعصية منهن ، لو وقعت ، من غير توقف الفهم على المقدمة التي أوردتم في السؤال.

٣٢٢

سورة الصف

[١٠٩٢] فإن قيل : ما فائدة «قد» في قوله تعالى : (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) [الصف : ٥]؟

قلنا : فائدتها التأكيد ، كأنه قال : وتعلمون علما يقينا لا شبهة لكم فيه.

هذا جواب الزمخشري. وقال غيره : فائدتها التكثير ، لأن قد مع الفعل المضارع تارة تأتي للتقليل كقولهم : إن الكذوب قد يصدق ، وتارة تأتي للتكثير كقول الشاعر :

قد أعسف النازح المجهود معسفه

في ظلّ أخضر يدعو هامة البوم

وإنما يمتدح بما يكثر وجوده منه لا بما يقل.

[١٠٩٣] فإن قيل : كيف قال عيسى عليه‌السلام : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف : ٦] ولم يقل محمّد ومحمّد أشهر أسماء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

قلنا : إنما قال أحمد ، لأنه مذكور في الإنجيل بعبارة تفسيرها أحمد لا محمد ، وإنما كان كذلك ، لأن اسمه في السماء أحمد وفي الأرض محمّد ، فنزل في الإنجيل اسمه السماوي. وقيل : إن أحمد أبلغ في معنى الحمد من محمّد ، من جهة كونه مبنيا على صيغة التفضيل. وقيل : محمد أبلغ من جهة كونه على صيغة التفضيل الذي هو للتكثير.

[١٠٩٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الصف : ٦] ولم يقل سبحانه هذه ، والمشار إليه البينات وهي مؤنثة؟

قلنا : معناه هذا الذي جئت به ، فالإشارة إلى المأتيّ به.

__________________

[١٠٩٢] البيت لذي الرّمة ، من قصيدة مطلعها :

أعن ترسمت من خرقاء منزلة

ماء الصبابة من عينيك مسجوم

وهو في ديوانه : ٦٥٦.

ـ أعسف : أي أسير على غير هدى.

ـ أثبتنا البيت في المتن كما وجدناه في الأصل ، غير أن الرّواية الصحيحة للبيت هي :

قد أعسف النازح المجهول معسفه

في ظلّ أخضر يدعو هامه البوم

٣٢٣

[١٠٩٥] فإن قيل : ما وجه صحة التشبيه وظاهره تشبيه كونهم أنصار الله بقول عيسى عليه‌السلام (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) [الصف : ١٤]؟

قلنا : التشبيه محمول على المعنى تقديره : كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصارا لعيسى عليه‌السلام حين قال لهم من أنصاري إلى الله.

٣٢٤

سورة الجمعة

[١٠٩٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة : ٩] والسعي العدو ، والعدو إلى صلاة الجمعة وإلى كلّ صلاة مكروه؟

قلنا : المراد بالسعي القصد. وقال الحسن : ليس هو السعى على الأقدام ، ولكنّه على النيات والقلوب. ويؤيد قول الحسن قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] ، وقول الدّاعي في دعاء القنوت : وإليك نسعى ونحفد ، وليس المراد به العدو والإسراع بالقدم.

[١٠٩٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] والمذكور شيئان اللهو والتجارة؟

قلنا : قد سبق جواب هذا في سورة التوبة في قوله تعالى : (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) [التوبة : ٣٤] ، والذي يؤيده هنا ما قاله الزّجاج معناه : وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه ، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه. وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه إليهما بضمير التثنية ، وعليه فلا حذف.

٣٢٥

سورة المنافقون

[١٠٩٨] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) [المنافقون : ١]؟

قلنا : لو قال تعالى : (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) ، والله يشهد إنّهم لكاذبون [المنافقون : ١] لكان يوهم أن قولهم هذا كذب ، وليس المراد أن شهادتهم هذه كذب ؛ بل المراد أنهم كاذبون في غير هذه الشهادة. وقال أكثر المفسرين : إنه تكذيب لهم في هذه الشهادة لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروا ولم يعتقدوا أنه رسول الله بقلوبهم ، فسماهم كاذبين لذلك ، فعلى هذا يكون ذلك تأكيدا.

[١٠٩٩] فإن قيل : المنافقون ما برحوا على الكفر ، فكيف قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) [المنافقون : ٣].

قلنا : معناه ذلك الكذب الذي حكم عليهم به ، أو ذلك الإخبار عنهم بأنهم ساء ما كانوا يعملون بسبب أنهم آمنوا بألسنتهم (ثُمَّ كَفَرُوا) [المنافقون : ٣] بقلوبهم (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) [المنافقون : ٣] كما قال تعالى في وصفهم (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) [البقرة : ١٤] الآية.

الثاني : أن المراد به أهل الرّدّة منهم.

[١١٠٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) [المنافقون : ٤] ولم يقل هي العدو؟

قلنا : عليهم هو ثاني مفعولي يحسبون تقديره : يحسبون كل صيحة واقعة عليهم : أي لجبنهم وهلعهم ، فالوقف على قوله تعالى عليهم وقوله سبحانه : (هُمُ الْعَدُوُّ) [المنافقون : ٤] ابتداء كلام. وقيل : إن المفعول الثاني هو قوله تعالى : (هُمُ الْعَدُوُّ) [المنافقون : ٤] ولكن تقديره : يحسبون أهل كل صيحة عليهم هم العدوّ ، والأول أظهر بدليل عدم نصب العدو.

٣٢٦

سورة التغابن

[١١٠١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [التغابن : ٢] قدم الكافر في الذكر؟

قلنا : الواو لا تعطي رتبة ولا تقتضي ترتيبا كما قال تعالى : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود : ١٠٥] وقال تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الحشر : ٢٠] وقال سبحانه : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) [فاطر : ٣٢] وقال تعالى : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) [الشورى : ٤٩] وقد ذكرنا في الآية الأخيرة معنى آخر في موضعها.

[١١٠٢] فإن قيل : قوله تعالى : (وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ) [التغابن : ٦] ، يوهم وجود التولي والاستغناء معا بعد مجىء رسلهم إليهم ؛ والله تعالى لم يزل غنيا؟

قلنا : معناه وظهر استغناء الله تعالى عن إيمانهم وعبادتهم ؛ حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ولم يضطرهم إليه ؛ مع قدرته تعالى على ذلك.

[١١٠٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن : ١١] مع أن الهداية سابقة على الإيمان ، لأنه لو لا سبق الهداية لما وجد الإيمان؟

قلنا : ليس المراد يهد قلبه للإيمان ، بل المراد يهد قلبه لليقين عند نزول المصائب ، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

الثاني : يهد قلبه للرضا والتسليم عند نزول المصائب.

الثالث : يهد قلبه للاسترجاع عند نزول المصائب ، وهو أن يقول : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

الرابع : يهد قلبه ، أي يجعله ممن إذا ابتلي صبر ، وإذا أنعم عليه شكر ، وإذا ظلم غفر.

الخامس : يهد قلبه لاتّباع السنة إذا صح إيمانه ، وقرئ يهدأ بفتح الدال وبالهمز من الهدوّ وهو السكون ، فمعناه : ومن يؤمن بالله إيمانا خالصا يسكن قلبه ويطمئن عند نزول المصائب والمحن ولا يجزع ويقلق.

٣٢٧

سورة الطلاق

[١١٠٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق : ١].

أفرد الخطاب أوّلا ، ثم جمعه ثانيا؟

قلنا : أفرد سبحانه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوّلا بالخطاب ؛ لأنّه إمام أمته وقدوتهم ، إظهارا لتقدمه ورئاسته ؛ وأنه وحده في حكم كلهم وسادّ مسدّ جميعهم.

الثاني : أنّ معناه : يا أيها النبيّ قل لأمتك إذا طلقتم النساء.

[١١٠٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق : ٢ ، ٣] ، ونحن نرى كثيرا من الأتقياء مضيقا عليهم رزقهم؟

قلنا : معناه يجعل له مخلصا من هموم الدنيا والآخرة. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ينجيه من كلّ كرب في الدّنيا والآخرة. والصحيح أنّ هذه الآية عامة ، وأن الله يجعل لكلّ متّق مخرج من كلّ ما يضيق على من لا يتقي ؛ ولهذا قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّي لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم (وَمَنْ يَتَّقِ) [الطلاق : ٢] وجعل يقرؤها ويعيدها». وأما تضييق رزق الأتقياء فهو ، مع ضيقه وقلته ، يأتيهم من حيث لا يأملون ولا يرجون ؛ وتقليله لطف بهم ورحمة ليتوفر حظهم في الآخرة ويخف حسابهم ، ولتقل عوائقهم عن الاشتغال بمولاهم ، ولا يشغلهم الرخاء والسعة عما خلقوا له من الطاعة والعبادة ، ولهذا اختار الأنبياء والأولياء والصديقون الفقر على الغنى.

[١١٠٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق : ٣] ، أي من يتق به فيما نابه كفاه الله شر ما أهمه. وقد رأينا كثيرا من الناس يتوكل على الله في بعض أمورهم وحوائجهم ولا يكفيهم الله تعالى همها؟

قلنا : محال أنه يتوكل على الله حقّ التوكل ولا يكفيه همه ؛ بل ربما قلق وضجر واستبطأ قضاء حاجته بقلبه أو بلسانه أيضا ففسد توكّله ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) [الطلاق : ٣] ، أي نافذ حكمه ، يبلغ ما يريده ولا يفوته مراد ولا يعجزه مطلوب ، وبقوله تعالى : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [الطلاق : ٣] ، أي جعل

٣٢٨

لكلّ شيء من الفقر والغنى والمرض والصحة والشّدة والرخاء ونحو ذلك أجلا ومنتهى ينتهي إليه لا يتقدم عنه ولا يتأخر.

[١١٠٧] فإن قيل : قوله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) [الطلاق : ٤] علقه بشكنا ، مع أن عدتهن ذلك سواء وجد شكنا أم لا؟

قلنا : المراد بالشك الجهل بمقدار عدة الآيسة والصغيرة ، وإنما علقه به ؛ لأنه لمّا نزل بيان عدة ذوات الأقراء في سورة البقرة قال بعض الصحابة رضي الله عنهم : قد بقي الكبار والصغار لا ندري كم عدتهن ، فنزلت هذه الآية على هذا السبب ، فلذلك جاءت مقيدة بالشك والجهل.

[١١٠٨] فإن قيل : إذا كانت المطلقة طلاقا بائنا تجب لها النفقة عند بعض العلماء ، فما فائدة قوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) [الطلاق : ٦] ، عند ذلك القاتل؟

قلنا : فائدته أن لا يتوهم أنه إذا طالت مدة الحمل بعد الطلاق حتى مضت مدة عدة الحامل سقطت النفقة ، فنفى هذا الوهم بقوله : (أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق : ٤].

[١١٠٩] فإن قيل : كيف قال هنا (آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) [الطلاق : ٧] وقال تعالى في موضع آخر : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح : ٦] فكيف التوفيق بينهما؟

قلنا : المراد بقوله تعالى (مَعَ) بعده ؛ لأن الضدين لا يجتمعان.

[١١١٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) [الطلاق : ٨] ، فنسب العتوّ إليها ، وقال تعالى : (فَحاسَبْناها وَعَذَّبْناها) [الطلاق : ٨] ، بلفظ الماضي ؛ مع أن الحساب والعذاب المرتبين على العتو إنما هما في الآخرة لا في الدنيا؟

قلنا : معناه عتا أهلها ، وإنما جيء به على لفظ الماضي تحقيقا له وتقريرا ، لأن المنتظر من وعد الله تعالى ووعيده آت لا محالة ، وما هو كائن فكأنه قد حصل ، ونظيره قوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ) [الأعراف : ٥٠] ، وما أشبهه.

__________________

[١١١٠] العتو : البعد عن الطّاعة. وهو معنى جامع للمعصية والاستكبار.

٣٢٩

سورة التحريم

[١١١١] فإن قيل : قوله تعالى : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) [التحريم : ٤] إن كان المراد به الفرد ، فأي فرد هو ؛ وأيضا فإنه لا يناسب مقابلة الملائكة الذين هم جمع ؛ وإن كان المراد به الجمع فهلا كان مكتوبا في المصحف بالواو؟

قلنا : هو فرد أريد به الجمع كقولك : لا يفعل هذا الفعل الصالح من الناس ، تريد به الجنس كقولك : لا يفعله من صلح منهم ، وقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) [المعارج : ١٩] وقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر : ٢] وقوله تعالى : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) [الحاقة : ١٧] وقوله تعالى : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر : ٦٧]. ونظائره كثيرة.

الثاني : أنه يجوز أن يكون جمعا ، ولكنه كتب في المصحف بغير واو على اللفظ كما جاءت ألفاظ كثيرة في المصحف على اللفظ دون اصطلاح الخط.

[١١١٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤] ؛ ولم يقل ظهراء ، وهو خبر عن الجمع ، وهم الملائكة؟

قلنا : هو فرد وضع موضع الجمع كما سبق.

الثاني : اسم على وزن المصدر كالزميل والدبيب والصليل ، فيستوي فيه الفرد والتثنية والجمع.

الثالث : أن فعيلا يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع بدليل قوله تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) [ق : ١٧].

[١١١٣] فإن قيل : قوله تعالى (بَعْدَ ذلِكَ) [التحريم : ٤] تعظيم للملائكة ومظاهرتهم ، وقد تقدمت نصرة الله تعالى وجبريل وصالح المؤمنين ، ونصرة الله سبحانه أعظم؟

قلنا : مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله تعالى ، فكأنه فضل نصرته بهم على سائر وجوه نصرته لفضلهم وشرفهم ، ولا شك أن نصرته بجميع الملائكة أعظم من نصرته بجبريل وحده أو بصالح المؤمنين.

[١١١٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ) [التحريم : ٥] إلى آخر الآية ، فأثبت الخيرية لهن باتصافهن بهذه الصفات ، وإنما تثبت لهن الخيرية بهذه الصفات لو لم تكن تلك الصفات ثابتة في نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي ثابتة فيهن؟

٣٣٠

قلنا : المراد به خيرا منكن في حفظ قلبه ومتابعة رضاه ، مع اتصافهن بهذه الصفات المشتركة بينكن وبينهن.

[١١١٥] فإن قيل : كيف أخليت الصفات كلها عن الواو وأثبتت بين الثيبات والأبكار؟

قلنا : لأنهما صفتان متضادتان لا تجتمعان فيهن اجتماع سائر الصفات ، فلم يكن بدّ من الواو ، ومن جعلها واو الثمانية فقد سها ؛ لأن واو الثمانية لا يفسد الكلام بحذفها بخلاف هذه.

[١١١٦] فإن قيل : هذه الصفات إنما ذكرت في معرض المدح ، وأيّ مدح في كونهن ثيبات؟

قلنا : التثييب مدح من وجه ، فإن الثيّب أقبل للميل بالنقل ، وأكثر تجربة وعقلا ، والبكارة مدح من وجه فإنها أطهر وأطيب وأكثر مراغبة وملاعبة.

[١١١٧] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦] ؛ بعد قوله سبحانه : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) [التحريم : ٦]؟

قلنا : قيل المراد بالأمر الأول الأمر بالعبادات والطاعات ، وبالأمر الثاني الأمر بتعذيب أهل النار. وقيل : هو تأكيد.

[١١١٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (تَوْبَةً نَصُوحاً) [التحريم : ٨] ولم يقل توبة نصوحة؟

قلنا : لأنّ فعولا من أوزان المبالغة الذي يستوي في لفظه الذكور والإناث ، كقولهم : امرأة صبور وشكور ونحوهما.

[١١١٩] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (مِنْ عِبادِنا) ؛ بعد قوله تعالى : (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ) [التحريم : ١٠].

قلنا : فائدته مدحهما والثناء عليهما بإضافتهما إليه إضافة التشريف والتخصيص ، كما في قوله تعالى : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) [الفرقان : ٦٣] ، وقوله تعالى : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) [الفجر : ٢٩]. وهو مبالغة في المعنى المقصود. وهو أن الإنسان لا ينفعه إلا صلاح نفسه لا صلاح غيره ؛ وإن كان ذلك الغير في أعلى مراتب الصلاح والقرب من الله تعالى.

[١١٢٠] فإن قيل : وكيف قال تعالى : (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) [التحريم : ١٢] ولم يقل سبحانه من القانتات؟

قلنا : معناه كانت من القوم القانتين ، أي المطيعين لله تعالى ، يعني رهطها وأهلها ، فكأنه تعالى قال : وكانت من بنات الصالحين. وقيل : إن الله تعالى لما تقبلها في النذر وأعطاها مرتبة الذّكور الذين كان لا يصلح النذر إلا بهم ، عاملها معاملة الذكور في بعض الخطاب إشارة إلى ذلك ، وقال تعالى : (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران : ٤٣] ، وقال تعالى : (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) [التحريم : ١٢] ، أو رعاية للفواصل.

٣٣١

سورة الملك

[١١٢١] فإن قيل : ما فائدة تقديم الموت على الحياة في قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ)؟ [الملك : ٢].

قلنا : إنما قدم سبحانه الموت لأنه هو المخلوق أوّلا. قال ابن عباس رضي الله عنهما : أراد به خلق الموت في الدنيا والحياة في الآخرة ، ولو سلّم أن المراد به الحياة في الدنيا فالموت سابق عليها لقوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : ٢٨].

[١١٢٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك : ٣] ؛ مع أن في خلقه سبحانه تفاوتا عظيما ، فإن الأضداد كلها من خلقه عزوجل وهي متفاوتة ؛ والسموات أيضا متفاوتة في الصغر والكبر والارتفاع والانخفاض وغير ذلك؟

قلنا : المراد بالتفاوت هنا الخلل والعيب والنقصان في مخلوقه تعالى الذي هو السموات ، ويؤيده قوله تعالى : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) [الملك : ٣] ، أي من شقوق وصدوع في السماء.

[١١٢٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) [الملك : ١٦] ، والله سبحانه وتعالى ليس في السماء ولا في غير السماء ؛ بل هو سبحانه منزه عن كل مكان؟

قلنا : من ملكوته في السماء ؛ لأنّها مسكن ملائكته ، ومحل عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ ، ومنها تنزل أقضيته وكتبه وأوامره ونواهيه.

الثاني : أنهم كانوا يعتقدون التشبيه ، وأنه سبحانه وتعالى في السماء ، فخوطبوا على حسب اعتقادهم.

٣٣٢

سورة ن (القلم)

[١١٢٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَلا يَسْتَثْنُونَ) [القلم : ١٨] أي ولا يقولون إن شاء الله فسمّى الشرط استثناء؟

قلنا : إنما سماه استثناء لأنه في معناه ، فإن معنى قولك لأخرجن إن شاء الله ، ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد. وقال عكرمة : المراد به حقيقة الاستثناء : أي أنهم لا يستثنون حقّ المساكين. والجمهور على الأول.

[١١٢٥] فإن قيل : كيف سمّى أوسطهم الاستثناء تسبيحا فقال : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) [القلم : ٢٨] ، أي لو لا تستثنون؟

قلنا : إنما سماه تسبيحا لاشتراكهما في معنى التعظيم ؛ لأن الاستثناء تفويض إليه وإقرار بأنه لا يقدر أحد أن يفعل فعلا إلا بمشيئته ، والتسبيح تنزيه له عن السوء.

الثاني : أنه كان استثناؤهم قول سبحان الله.

الثالث : أنّ معناه لو لا تنزهون أنفسكم وأموالكم عن حقّ الفقراء.

[١١٢٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) [القلم : ٤٣] ولا تكليف في الدار الآخرة؟

قلنا : لا يدعون إليه تكليفا وتعبّدا ، ولكن توبيخا وتعنيفا على تركه في الدنيا.

[١١٢٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) [القلم : ٤٣] ، وهم إنّما كانوا يدعون إلى الصلاة ، فإن المراد بالآية دعاؤهم إلى الجماعات بأذان المؤذن ، حين يقول حي على الصلاة؟

قلنا : عبر سبحانه عن الصلاة بالسجود لأنه من أركانها ، بل هو أعظم الأركان وغايتها ، كما عبر عنها بالركوع وبالقرآن.

[١١٢٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَهُمْ سالِمُونَ) [القلم : ٤٣] أي صحيحون ، مع أن الصحة ليست شرطا لوجوب الصلاة؟

قلنا : وجوب الخروج إلى الصلاة بالجماعة مشروط بالصحة وهو المراد.

٣٣٣

سورة الحاقة

[١١٢٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) [الحاقة : ٦] ؛ ولم يقل صرصرة ، كما قال تعالى : (عاتِيَةٍ) [الحاقة : ٦] ، وهو صفة لمؤنث ؛ لأنها الشديدة الصوت ، أو الشديدة البرد؟

قلنا : لأنّ الصرصر وصف مخصوص بالرّيح لا يوصف به غيرها ، فأشبه باب حائض وطامث وحامل ، بخلاف عاتية فإن غير الريح من الأسماء المؤنثة يوصف به.

[١١٣٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى) [الحاقة : ٧] ، أي في تلك الليالي والأيام ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رآهم ولا يراهم فيها؟

قلنا : فيها ظرف لقوله تعالى (صَرْعى) ، لا لقوله تعالى (فَتَرَى) ، والرؤية هنا من رؤية العلم والاعتبار ، فصار المعنى فتعلمهم صرعى في تلك الليالي والأيام بإعلامنا حتى كأنك تشاهدهم.

[١١٣١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) [الحاقة : ١٣] إلى قوله سبحانه : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) [الحاقة : ١٨] ، والمراد بها هنا النفخة الأولى ، وهي نفخة الصعق ؛ بدليل ما ذكر بعدها من فساد العالم العلوي والسفلي ، والعرض إنما يكون بعد النفخة الثانية ، وبين النفختين من الزمان ما شاء الله تعالى فكيف قال سبحانه (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) [الحاقة : ١٨].

قلنا : وضع اليوم موضع الوقت الواسع الذي يقع فيه النفختان وما بعدهما.

[١١٣٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) [الحاقة : ٢٠]؟

قلنا : معناه تيقنت. والظنّ يطلق بمعنى اليقين ، كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ٤٦].

[١١٣٣] فإن قيل : كيف قال تعالى ، في وصف أهل النار : (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) [الحاقة : ٣٥ ، ٣٦]. وقال سبحانه ، في موضع آخر : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) [الغاشية : ٦] ، وفي موضع آخر : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) [الدخان : ٤٣ ، ٤٤] ، وفي موضع آخر : (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ

٣٣٤

فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) [الواقعة : ٥١ ـ ٥٣] ، وفي موضع آخر : (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) [البقرة : ١٧٤].

قلنا : معناه إلا من غسلين وما أشبهه ، أو وضع الغسلين موضع كل طعام مؤذ كريه.

الثاني : أن العذاب ألوان والمعذبون طبقات ؛ فمنهم أكلة الزقوم ، ومنهم أكلة الغسلين ، ومنهم أكلة الضريع ، لكل باب منهم جزء مقسوم.

[١١٣٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [الحاقة : ٤٠] ، يعني أن القرآن قول جبريل عليه‌السلام ؛ مع أنه قول الله تعالى لا قول جبريل؟

قلنا : معناه ، عند الأكثرين ، أن المراد به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى أنه يقوله ويتكلم به على وجه الرّسالة من عند الله ، لا من تلقاء نفسه ، كما تزعمون.

[١١٣٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٧] ؛ فوصف الفرد بالجمع؟

قلنا : قد سبق مثل هذا السؤال وجوابه في آخر سورة البقرة.

٣٣٥

سورة المعارج

[١١٣٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) [المعارج : ١٩] ؛ ويفسره ما بعده والإنسان في حال خلقه ما كان موصوفا بهذه الصفات؟

قلنا : هلوعا حال مقدرة. فالمعنى مقدرا فيه الهلع كما في قوله تعالى : (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ) [الفتح : ٢٧] ، وهم ليسوا محلقين حال الدخول.

[١١٣٧] فإن قيل : كيف قال تعالى أوّلا : (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) [المعارج : ٢٣] ، ثم قال تعالى ثانيا : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) [المعارج : ٣٤] ؛ فهل بينهما فرق؟

قلنا : المراد بالدوام المواظبة والملازمة أبدا. وقيل : المراد به سكونهم فيها بحيث لا يلتفتون يمينا ولا شمالا ؛ واختاره الزجاج ، وقال : اشتقاقه من الدائم بمعنى الساكن ، كما جاء في الحديث : «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن البول في الماء الدّائم». قلت : وقوله «على» ينفي هذا المعنى ؛ فإنّه لا يقال هو على صلاته ساكن ؛ بل يقال : هو في صلاته ساكن. والمراد بالمحافظة عليها أداؤها على أكمل وجوهها ، جامعة لجملة سننها وآدابها ؛ فالدّوام يرجع إلى نفس الصلاة ، والمحافظة إلى أحوالها.

__________________

[١١٣٧] الحديث أخرجه مسلم والنسائي وأبو داود بمعناه. انظر أبو داود رقم ٦٩ ، والفتح الكبير ٣ / ٢٦٦.

وبمثل هذا اللفظ الذي ذكره الرّازي أخرجه البخاري ، انظر فتح الباري ١ / ٣٤٦ ، والنسائي بحاشية السندي ١ / ٤٩.

٣٣٦

سورة نوح (عليه‌السلام)

[١١٣٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [نوح : ٤] ، فإن كان المراد به تأخيرهم عن الأجل المقدر لهم في الأزل فهو محال ، لقوله تعالى : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) [المنافقون : ١١] ، وقوله تعالى : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) [نوح : ٤] ، وإن كان المراد به تأخيرهم إلى مجيء الأجل المقدّر لهم في الأزل ، فما فائدة تخصيصهم بهذا وهم وغيرهم في ذلك سواء ، على تقدير وجود الإيمان منهم وعدم وجوده؟

قلنا : معناه ويؤخركم عن العذاب إلى منتهى آجالكم على تقدير الإيمان ، فلا يعذّبكم في الدنيا ، كما عذّب غيركم من الأمم الكافرة فيها.

الثاني : أنه سبحانه قضى أنهم إن آمنوا عمرهم ألف سنة ، وإن لم يؤمنوا أهلكهم بالعذاب لتمام خمسمائة سنة ، فقيل لهم آمنوا يؤخركم إلى هذا الأجل.

[١١٣٩] فإن قيل : كيف أمرهم بالاستغفار ، والاستغفار إنما يصح من المؤمن دون الكافر؟

قلنا : معناه استغفروا ربكم من الشرك بالتوحيد.

[١١٤٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] ، والحيوان ضد النبات ، فكيف يطلق على الحيوان أنه نبات؟

قلنا : هو استعارة للإنشاء والإخراج من الأرض بواسطة آدم عليه‌السلام.

[١١٤١] فإن قيل : كيف دعا نوح عليه‌السلام على قومه بقوله : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) [نوح : ٢٤] ؛ مع أنه أرسل ليهديهم ويرشدهم؟

قلنا : إنما دعا عليهم بذلك بعد ما أعلمه الله تعالى أنهم لا يؤمنون.

[١١٤٢] فإن قيل : كيف قال نوح : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [نوح : ٢٧] وصفهم بالفجور والكفر في حال ولادتهم وهم أطفال ، وكيف علم أنهم لا يلدون إلا فاجرا كفارا؟

قلنا : إنهم لا يلدون إلا من يفجر ويكفر إذا بلغ ، وإنما علم ذلك بإعلام الله تعالى ، أو وصفهم بما يئولون إليه من الفجور والكفر ؛ وعلم ذلك بإعلام الله إيّاه.

٣٣٧

سورة الجن

[١١٤٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) [الجن : ١٩] ، ولم يقل سبحانه رسول الله أو نبيّ الله ، والمراد به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

قلنا : لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن في ذلك المقام مرسلا إليهم ؛ بل اتفق مرورهم به وجوازهم عليه ؛ فلو قال تعالى رسول الله أو نبي الله لأوهم ذلك قصد أداء الرسالة إليهم.

[١١٤٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) [الجن : ٢٥] مع أن الأمد اسم للغاية ، والغاية تكون زمانا قريبا وزمانا بعيدا ، ويؤيده قوله تعالى : (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) [آل عمران : ٣٠].

قلنا : أراد بالقريب الحال ، وبالمجعول له الأمد المؤجل ؛ سواء كان الأجل قريبا أو بعيدا.

٣٣٨

سورة المزمّل

[١١٤٥] فإن قيل : ما معنى وصف القرآن بالثقل في قوله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل : ٥].

قلنا : فيه وجوه :

أحدها : أنه كان يثقل نزول الوحي على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى يعرق عرقا شديدا في اليوم الشاتي.

الثاني : أن العمل بما فيه من التكاليف ثقيل شاق.

الثالث : ثقيل في الميزان يوم القيامة.

الرابع : أنّه ثقيل على المنافقين.

الخامس : أنه كلام له وزن ورجحان ، كما يقال للرجل العاقل : رزين راجح.

السادس : أنّه ليس بسفساف ؛ لأنّ السفساف من الكلام يكون خفيفا.

[١١٤٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) [المزمل : ١٨] ، ولم يقل سبحانه منفطرة به ، والسماء مؤنثة؟

قلنا : هو على النسبة ، أي ذات انفطار. وقيل : ذكر السماء على معنى السقف.

وقيل : معناه السماء شيء منفطر به. وقيل : السماء تذكر وتؤنث.

[١١٤٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) [المزمل : ٢٠] ولم يقل تعالى أن لن تحصوهما ، أي لن تعرفوا تحقيق مقادير ساعات اللّيل والنهار؟

قلنا : الضمير عائد إلى مصدر يقدر معناه : لن تحصوا تقديرهما.

٣٣٩

سورة المدّثر

[١١٤٨] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (غَيْرُ يَسِيرٍ) [المدثر : ١٠] ؛ بعد قوله سبحانه : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ) [المدثر : ٩ ، ١٠].

قلنا : قيل معناه أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا ، كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا. وقيل : إنه تأكيد.

[١١٤٩] فإن قيل : ما فائدة التكرار في قوله تعالى : (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) [المدثر : ٢٨] ، ومعناهما واحد؟

قلنا : معناه لا تبقي للكفار لحما ولا تذر لهم عظما. وقيل : معناه لا تبقيهم أحياء ولا تذرهم أمواتا.

[١١٥٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) [المدثر : ٣١] ، وما سبق من وصفهم بالاستيقان وازدياد الإيمان دلّ على انتفاء الارتياب.

والجمل كلها متعلقة بعدد خزنة النار ؛ والمعنى ليستيقن الّذين أوتوا الكتاب أن ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق ؛ حيث أخبر عن عدد خزنة النار بمثل ما في التوراة ، ويزداد الّذين آمنوا من أهل الكتاب إيمانا بالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ؛ حيث وجدوا ما أخبرهم به مطابقا لما في كتابهم؟

قلنا : فائدته التأكيد والتعريض أيضا بحال من عداهم من الشّاكين ، وهم الكفار والمنافقون ؛ فمعناه : ولا يرتاب هؤلاء ، كما ارتاب أولئك.

[١١٥١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) [البقرة : ٢٦] ، يعني حصر عدد الخزنة في تسعة عشر ، وذلك ليس بمثل.

قلنا : هو استعارة من المثل المضروب مما وقع غريبا وبديعا في الكلام استغرابا منهم لهذا العدد واستبعادا له ، والمعنى : أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب ، وأيّ حكمة قصد في جعل الخزنة تسعة عشر لا عشرين.

الثاني : أن المثل هنا بمعنى الصفة ، كما في قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) [الرعد : ٣٥]. والمعنى : ما ذا أراد الله بهذا العدد صفة للخزنة.

[١١٥٢] فإن قيل : كيف طابق قوله تعالى : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) [المدثر : ٤٢] ،

٣٤٠