أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها

محمّد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي

أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-026-9
الصفحات: ٤٠٨

قلنا : روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنّه قال : «ما من مسلم دعا الله بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم إلّا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال : إمّا أن يعجّل دعوته ، وإمّا أن يدّخرها له في الآخرة ، وإمّا أن يدفع عنه من السوء مثلها». ولأنّ قبول الدّعاء شرطه الطّاعة لله تعالى ، وأكل الحلال ، وحضور القلب ، وقت الدّعاء ؛ فمتى اجتمعت هذه الشّروط ، حصلت الإجابة. ولأنّ الدّاعي قد يعتقد مصلحته في الإجابة ، والله تعالى يعلم أنّ مصلحته في تأخير ما سأل ، أو في منعه ، فيجيبه إلى مقصوده الأصلي وهو طلب المصلحة ؛ فيكون قد أجيب ، وهو يعتقد أنّه منع عنه.

[٤٨] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [البقرة : ١٩٦] ؛ ومعلوم أنّ ثلاثة وسبعة عشرة؟ ثمّ ، ما فائدة قوله : (كامِلَةٌ) ، والعشرة لا تكون إلّا كاملة ؛ وكذا جميع أسماء الأعداء لا تصدق على أقلّ من المذكور ، ولا على أكثر منه؟

قلنا : فائدة قوله : (تِلْكَ عَشَرَةٌ) أن لا يتوهّم أن الواو بمعنى أو ، كما في قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) [النساء : ٣] ، وألّا تحلّ التّسع جملة.

فنفى بقوله : (تِلْكَ عَشَرَةٌ) ظنّ وجوب أحد العددين ، فقط ؛ إمّا الثّلاثة في الحجّ ، أو السبعة بعد الرّجوع ؛ وأن يعلم العددين من جهتين جملة وتفصيلا ، فيتأكد العلم به ؛ ونظيره فذلكة الحساب وتنصيف الكتاب. وأمّا قوله تعالى : (كامِلَةٌ) فتأكيد ، كما في قوله تعالى : (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) [البقرة : ٢٣٣] ، أو معناه كاملة في الثّواب ؛ مع وقوعها بدلا عن الهدى ، أو في وقوعها موقع المتتابع ؛ مع تفرّقها ، أو في وقوعها موقع الصوم بمكّة ؛ مع وقوع بعضها في غير مكّة ؛ فالحاصل ، أنّه كمال وصفا لا ذاتا.

[٤٩] فإن قيل : ما فائدة تكرار الأمر بالذّكر في قوله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) [البقرة : ١٩٨]؟

قلنا : إنّما كرّره تنبيها على أنّه أراد ذكرا مكرّرا ، لا ذكرا واحدا ؛ بل مرّة بعد أخرى ؛ ولأنه زاد في الثّاني فائدة أخرى ، وهي قوله تعالى : (كَما هَداكُمْ) ، يعني اذكروه بأحديّته ، كما ذكركم بهدايته ؛ أو إشارة إلى أنّه أراد بالذّكر الأول الجمع بين الصلاتين بمزدلفة ، وبالثّاني الدّعاء ، بعد الفجر ، بها ، فلا تكرار.

[٥٠] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) [البقرة : ١٩٨]. إلى أن قال : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) [البقرة : ١٩٩] وأراد به الإفاضة من عرفات بلا خلاف ، وبعد المجيء إلى مزدلفة والذّكر فيها مرّتين ، كما فسّرنا كيف يفيضون من عرفات.

قلنا : فيه تقديم وتأخير تقديره : من ربّكم. ثم ، أفيضوا من حيث أفاض الناس ، فإذا أفضتم من عرفات.

٢١

[٥١] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة : ٢٠٣] ، ومعلوم أن المتعجّل التّارك بعض الرّمي إذا لم يكن عليه إثم لا يكون على المتأخّر الآتي بالرّمي كاملا؟

قلنا : كان أهل الجاهلية فريقين : منهم من جعل المتعجّل آثما ، ومنهم من جعل المتأخّر آثما ؛ فأخبر الله تعالى بنفي الإثم عنهما جميعا ؛ أو معناه لا إثم على المتأخّر ، في تركه الأخذ بالرخصة ؛ مع أنّ الله تعالى يحبّ أن تؤتى رخصه ، كما يحبّ أن تؤتى عزائمه ؛ أو أنّ معناه أنّ انتفاء الإثم عنهما موقوف على التّقوى ، لا على مجرّد الرّخصة أو العزيمة في الرّمي.

ثم ، قيل : المراد به تقوى المعاصي في الحجّ. وقيل : تقوى المعاصي بعد الحجّ ، في بقيّة العمر ، بالوفاء بما عاهد الله تعالى عليه ، بعرفة وغيرها من مواقف الحجّ ، من التّوبة والإنابة.

والمشكل ، في هذه الآية ، قوله تعالى : (فِي يَوْمَيْنِ) [البقرة : ٢٠٣] ، والتّعجيل المرخّص فيه إنّما هو التّعجيل في اليوم الثّاني ، من أيّام التّشريق ؛ فكيف ذكر لفظ اليومين ، وأراد بهما اليوم الثّاني ، فقط؟

[٥٢] فإن قيل : كيف قال : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [البقرة : ٢١٠] وهو يدلّ على أنّها كانت إلى غيره ، كقولهم : رجع إلى فلان عبده ومنصبه؟

__________________

[٥٢] البيت في ديوان لبيد. والشاهد فيه قوله : يحور ، وهو مأخوذ من الحور وهو الرجوع والنقصان.

والمعنى : يعود أو يرجع أو يؤول إلى حال الرماد.

ـ ساطع : مرتفع.

ـ الشهاب : شعلة من نار.

أما ما يتعلق بالسؤال وجوابه ، فقد سبق أن طرح الشريف الرضي في كتابه حقائق التأويل هذه المسألة وبسط الجواب فيها من وجوه. وما جاء به الرازي هنا ، مجرد تلخيص لبعضها ، غير أن ما يستوقفنا عند الرضي شرحه لمعنى الرجوع ، ننقله لفائدته. يقول :

«والصحيح في ذلك أن أصل الرّجع والرجوع ـ في اللغة ـ إنّما هو انعطاف الشيء إليك ، وانقلابه نحوك ، لا أنه كان عندك ففارقك ، ثم رجع إليك ، وإنما استعمل في المعنى الأخير مجازا ، وحقيقته ما ذكرناه. وفي كلامهم الرّجعة المرّة الواحدة ؛ ومن ذلك قولهم : رجعت إليه القول ، أي خاطبته وصرفت قولي إليه. ويقولون : هل جاءتك رجعة كتابك؟ ورجعانه ، أي جوابه. وقال الشاعر :

كأنّ من عسل رجعان منطقها

إن كان رجع كلام يشبه العسلا

قال تعالى : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) [طه : ٨٩]. وكل ذلك يدل على المعنى الذي قلناه» (ص ٣٣١).

والبيت الذي أورده الرضي منسوب للحكيم بن ريحان من بني عمر بن كلاب ، كما أفاد محقق الكتاب.

٢٢

قلنا : هو خطاب لمن كان يعبد غير الله ، وينسب أفعاله إلى سواه ؛ فأخبرهم أنّه إذا كشف لهم الغطاء ، يوم القيامة ، ردّوا ما أضافوه لغيره ؛ بسبب كفرهم وظلمهم ؛ ولأنّ رجع يستعمل بمعنى صار ووصل ، كقولهم : رجع عليّ من فلان مكروه ؛ قال الشّاعر :

وما المرء إلّا كالشّهاب وضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

ولأنّها كانت إليه قبل خلق عبيده ؛ فلما خلقهم ملّكهم بعضها ، خلافة ونيابة ؛ ثم ، رجعت إليه ، بعد هلاكهم ؛ ومنه قوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر : ١٦] ، وقوله تعالى : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) [الفرقان : ٢٦]. وإنّما قال : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [البقرة : ٢١٠] ، ولم يقل : إليه ، وإن كان قد سبق ذكره مرّة ، لقصد التّعميم والتّعظيم ؛ وذلك ينافي الإيجاز والاختصار.

[٥٣] فإن قيل : كيف طابق الجواب السؤال في قوله : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [البقرة : ٢١٥] ، فإنّهم سألوا عن بيان ما ينفقون ، وأجيبوا عن بيان المصرف؟

قلنا : قد تضمن قوله تعالى : (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) [البقرة : ٢١٥] بيان ما ينفقونه وهو كل خير ، ثم زيد على الجواب بيان المصرف ونظيره قوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى قالَ هِيَ عَصايَ) [طه : ١٧ ، ١٨] الآية ، وقوله عليه الصلاة والسلام ـ وقد سئل عن الوضوء بماء البحر ـ «هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته».

[٥٤] فإن قيل : كيف جاء يسألونك ثلاث مرات بغير واو (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) [البقرة : ٢١٥ ـ ٢١٩] ثم جاء ثلاث مرات بالواو : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) [البقرة : ٢١٩ ـ ٢٢٢].

قلنا : لأن سؤالهم عن الحوادث الأول وقع متفرقا ، وعن الحوادث الأخر وقع في وقت واحد ، فجيء بحرف الجمع دلالة على ذلك.

__________________

[٥٣] الحديث أخرجه : مالك في الموطأ ، ٢ ـ كتاب الطهارة ، ٣ ـ باب الطهور للوضوء ، حديث ٤٣.

أبو داود ، ١ ـ كتاب الطهارة ، ٤١ ـ باب الوضوء بماء البحر ، حديث ٨٣.

الترمذي ، أبواب الطهارة ، ٥٢ ـ باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور ، حديث ٦٩ ، النسائي ، ١ ـ كتاب الطهارة ، ٤٧ ـ باب ماء البحر ، حديث ٥٩.

ابن ماجة ، ١ ـ كتاب الطهارة وسننها ، ٣٨ ـ باب الوضوء بماء البحر ، حديث ٣٨٦ و ٣٨٧ و ٣٨٨.

الحلّ : (بكسر الحاء) الحلال.

ميتته : (بفتح الميم) حيوان البحر الذي يموت فيه.

٢٣

[٥٥] فإن قيل : كيف قال : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٢٧] وعزمهم الطلاق ممّا يعلم لا ممّا يسمع؟

قلنا : الغالب أن العزم على الطلاق وترك الفيء لا يخلو عن مقاولة ودمدمة وإن خلا عنها فلا بد له أن يحدّث نفسه ويناجيها بما عزم عليه ، وذلك حديث لا يسمعه إلا الله تعالى كما يسمع وسوسة الشيطان.

[٥٦] فإن قيل : كيف قال : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) [البقرة : ٢٢٨] ، ولا حق للنساء في الرجعة ، وأفعل يقتضي الاشتراك؟

قلنا : المراد أن الزوج إذا أراد الرجعة وأبت وجب إيثار قوله على قولها ؛ لأنّ لها حقّا في الرجعة.

[٥٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) [البقرة : ٢٢٨] والزوج أحق بالرجعة سواء أراد الإصلاح أو الإضرار بها بتطويل العدة؟

قلنا : المراد أن الرجعة أصوب وأعدل إن أراد الزوج الإصلاح ، وتركها أصوب وأعدل إن أراد الإضرار.

[٥٨] فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى : (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) [البقرة : ٢٤٣] وقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦].

قلنا : المراد بالآية الأولى إماتة العقوبة مع بقاء الأجل ، وبالآية الثانية الإماتة بانتهاء الأجل ، نظيره قوله تعالى في قصة موسى عليه‌السلام : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) [البقرة : ٥٦] لأنها كانت إماتة عقوبة ، أو كان إحياؤهم آية لنبيهم على ما عرف في قصتهم ، فصار كإحياء العزير حين مر على قرية وآيات الأنبياء نوادر مستثناة ، فكان المراد بالآية الثانية الموتة التي ليست بسبب آية نبي من الأنبياء أو إحياء قوم موسى آية له أيضا فكان هذا جوابا عاما ؛ مع أن في أصل السؤال نظرا لأن الضمير في قوله (لا يَذُوقُونَ) للمتقين وقوله فيها للجنات ، على ما يأتي بيانه ، في سورة الدخان ، إن شاء الله تعالى ، على وجه يندفع به السؤال من أصله.

[٥٩] فإن قيل : كيف قال : (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ) [البقرة : ٢٤٧] والله تعالى لا يؤتي ملكه أحدا؟

قلنا : المراد بهذا الملك السلطنة والرئاسة التي أنكروا إعطاءها لطالوت ، وليس المراد بأنه يعطي ملكه لأحد ؛ لأن سياق الآية يمنعه.

[٦٠] فإن قيل : كيف قال في الماء : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) [البقرة : ٢٤٩] ولم يقل ومن لم يشربه ، والماء مشروب لا مأكول؟

٢٤

قلنا : طعم بمعنى أكل وبمعنى ذاق ، والذوق هو المراد هنا وهو يعم.

[٦١] فإن قيل : كيف خص موسى ، وعيسى من بين الأنبياء بالذّكر في قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ) [البقرة : ٢٥٣] الآية؟

قلنا : لما أوتيا من الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة مع الكتابين العظيمين المشهورين.

[٦٢] فإن قيل : كيف قال : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) [البقرة : ٢٥٤] ، وفي يوم القيامة شفاعة الأنبياء ، وغيرهم ، بدليل قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥] ، وقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] ، وقوله تعالى : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ : ٢٣].

قلنا : هذه الآيات لا تدلّ على وجود الشفاعة يوم القيامة ؛ بل تدلّ على أنّها لا توجد ولا تنفع من غير إذنه ؛ ولا توجد لغير مرضيّ عنده. وهذا لا ينافي نفي وجودها ؛ بل المنافي له الإخبار عن وجودها ، لا الإخبار عن إمكان وجودها. ولو سلّم ، فالمراد به نفي شفاعة الأصنام والكواكب ، التي كانوا يعتقدونها ؛ ولهذا عرّض بذكر الكفّار ، بقوله تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ). وقيل : المراد أنه لا شفاعة في إثم ترك الواجبات ؛ لأنّ الشّفاعة ، في الآخرة ، في زيادة الفضل لا غير ؛ والخطاب ، مع المؤمنين ، في النفقة الواجبة ، وهي الزّكاة.

[٦٣] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٥٤] على وجه الحصر وغيرهم ظالم أيضا؟

قلنا : لأنّ ظلمهم أشدّ ، فكأنّه لا ظالم إلّا هم ؛ نظيره : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨].

[٦٤] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧] بلفظ المضارع ؛ ولم يقل أخرجهم بلفظ الماضي ؛ والإخراج قد وجد ؛ لأنّ الإيمان قد وجد؟

قلنا : لفظ المضارع فيه دلالة على استمرار ذلك الإخراج ، من الله تعالى ، في الزّمان المستقبل ؛ في حقّ من آمن ، بزيادة كشف الشبه ومضاعفة الهداية ؛ وفي حق من لم يؤمن ، ممّن قضى الله أنّه سيؤمن ، بابتداء الهداية وزيادتها ، أيضا. ولفظ الماضي لا يدلّ على هذا المعنى.

[٦٥] فإن قيل : متى كان المؤمنون في ظلمات الكفر ، والكافرون في نور الإيمان ليخرجوا من ذلك؟

٢٥

قلنا : الإخراج يستعمل بمعنى المنع عن الدّخول ؛ يقال لمن امتنع عن الدّخول في أمر خرج منه ، وأخرج نفسه منه ؛ وإن لم يكن دخل فيه. فعصمة الله تعالى المؤمنين عن الدخول في ظلمات الضّلال إخراج لهم منها ، وتزيين قرناء الكفار لهم الباطل الّذي يصدّونهم به عن الحقّ إخراج لهم من نور الهدى. ولأنّ إيمان رؤساء أهل الكتاب بالنّبيّ ، عليه الصلاة والسلام ، قبل أن يظهر ، كان نورا لهم ؛ وكفرهم به ، بعد ظهوره ، خروج منه ، إلى ظلمات الكفر. ولأنّه لما ظهرت معجزاته ، عليه الصلاة والسلام ، كان موافقه ومتّبعه خارجا من ظلمات الجهل ، إلى نور العلم ؛ ومخالفه خارجا من نور العلم ، إلى ظلمات الجهل.

[٦٦] فإن قيل : كيف انتقل إبراهيم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلى حجّة أخرى ، وعدل عن نصرة الأولى ؛ مع أنّه لم ينقطع بما عارضه به نمرود ، من قتل أحد المجوسيين وإطلاق الآخر ؛ فإن إبراهيم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما أراد هذا الإحياء والإماتة؟

قلنا : إمّا لأنّه رأى خصمه قاصر الفهم عن إدراك معنى الإحياء والإماتة التي أضافها إبراهيم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلى الله ؛ حيث عارض معارضة لفظيّة ، وعمي عن اختلاف المعنيين ؛ أو لأنّه علم أنّه فهم الحجّة ، لكنّه قصد التمويه والتلبيس على أتباعه وأشياعه ؛ فعدل إبراهيم إلى أمر ظاهر يفهمه كلّ أحد ، ولا يقع فيه تمويه ولا تلبيس.

[٦٧] فإن قيل : كيف طبع الله على قلبه ، فلم يعارض بالعكس ، في طلوع الشمس؟

قلنا : لأنّه لو عارض به لم يأت الله بها من المغرب ، لأن ذلك أمارة قيام الساعة فلا يوجد إلا قريبا من قيامها ، ولأنّه وأتباعه كانوا عالمين أنّ طلوعها من المشرق سابق على وجوده ، فلو ادّعاه لكذّبوه.

[٦٨] فإن قيل : كيف قال عزير ، عليه‌السلام ، منكرا مستبعدا : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) [البقرة : ٢٥٩] ، وهو نبيّ ؛ والنبيّ لا تخفى عليه قدرة الله تعالى على إحياء قرية خربة وإعادة أهلها إليها؟

قلنا : ما قاله منكرا مستبعدا لعظيم قدرة الله تعالى ؛ بل متعجّبا من عظيم قدرته تعالى أو طلبا لرؤية كيفيّة الإعادة ؛ لأنّ أنّى بمعنى كيف ، أيضا. وقد نقل عن مجاهد أنّ المارّ على القرية القائل ذلك كان رجلا كافرا شاكّا في البعث ؛ وإن كان الأوّل هو المشهور.

__________________

[٦٨] مجاهد بن جبير ، أبو الحجاج المكّي ، مولى بني مخزوم. تابعي ، مفسّر. أخذ التفسير عن ابن عباس. ولد سنة ٢١ ه‍ وتوفي ١٠٤ ه‍. غير أنهم طعنوا في آرائه في التفسير ، لاتهامه بأنه يأخذ عن أهل الكتاب.

٢٦

[٦٩] فإن قيل : كيف قال الله تعالى لإبراهيم عليه‌السلام : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) [البقرة : ٢٦٠] ؛ وقد علم أنه أثبت الناس إيمانا؟

قلنا : ليجيب بما أجاب به ؛ فتحصل به الفائدة الجليلة للسّامعين من طلبه لإحياء الموتى.

[٧٠] فإن قيل : كيف يجوز أن يكون النبيّ غير مطمئن القلب بقدرة الله على إحياء الموتى ؛ حتّى قال إبراهيم : (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ) [البقرة : ٢٦٠] ؛ مع أنّ قلبه مطمئن بقدرة الله على الإحياء؟

قلنا : معناه ليطمئنّ قلبي بعلم ذلك عيانا ، كما اطمأنّ به برهانا ؛ أو ليطمئنّ بأنّك اتّخذتني خليلا ؛ أو بأنّي مستجاب الدّعوة.

ولقائل أن يقول : على الوجه الأول ، كيف يزداد يقينا بالمشاهدة ، وقد روي عن علي ، كرّم الله وجهه ، أنّه قال : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» ، وإبراهيم صلوات الله عليه وسلامه أعظم رتبة وأجلّ؟

وجوابه : أنّ عليّا أراد بذلك قوّة يقينه قبل العيان ؛ حتّى كأنّ الزّيادة الحاصلة له بالعيان يسيرة لا يعتدّ بها.

[٧١] فإن قيل : فما فائدة قوله : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) [البقرة : ٢٦٠] أي فضمّهنّ ، ولفظ الأخذ مغن عنه؟

قلنا : الفائدة فيه تأمّلها ، ومعرفة أشكالها وصفاتها ؛ لئلّا يلتبس عليه بعد الإحياء فيتوهّم أنّه غيرها.

[٧٢] فإن قيل : كيف مدح الله المتّقين بترك المنّ ؛ ونهى عن المنّ ، أيضا ، مع أنّه وصف نفسه بالمنّان ، في نحو قوله تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٦٤].

قلنا : منّ بمعنى أعطى ؛ ومنه المنّان في صفات الله تعالى. وقوله : (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ) ؛ وقوله : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٦٤] ، أي أنعم عليهم ؛ وقوله : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ) [محمد : ٤] ، أي إنعاما بالإطلاق ، من غير عوض ؛ ومنّ بمعنى اعتد بالنّعمة ، وذكرها ، واستعظمها ؛ وهو المذموم.

[٧٢ م] فإن قيل : قوله : تعالى : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) [الحجرات : ١٧] من القسم الثاني.

قلنا : ذلك اعتداد بنعمة الإيمان ؛ فلا يكون قبيحا ؛ بخلاف نعمة المال. ولأنه يجوز أن يكون من صفات الله تعالى ما هو مدح في حقّه ، ذمّ في حقّ العبد ، كالجبّار ، والمتكبّر ، والمنتقم ، ونحو ذلك.

٢٧

[٧٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) ؛ ثم قال له : (فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) [البقرة : ٢٦٦].

قلنا : لمّا كان النخيل والأعناب أكرم الشّجر ، وأكثرها منافع ، خصّهما بالذّكر ، وجعل الجنّة منهما ؛ وإن كان فيها غيرهما ؛ تغليبا لهما ، وتفضيلا.

[٧٤] فإن قيل : قوله تعالى : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) [البقرة : ٢٧٣] ، يدل بمفهومه على أنّهم كانوا يسألون الناس برفق ؛ فكيف قال : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) [البقرة : ٢٧٣].

قلنا : المراد به نفي السؤال والإلحاف جميعا ، كقوله تعالى : (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) [البقرة : ٧١] وكقول الأعشى :

لا يغمز الساق من أين ولا وصب

معناه : ليس بساقه أين ولا وصب ، فيغمزها.

[٧٥] فإن قيل : كيف قال : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٥] الآية ؛ ألحق الوعيد بآكله ؛ مع أنّ لابسه ومدّخره وواهبه ، أيضا ؛ في الإثم سواء؟

قلنا : لمّا كان أكثر الانتفاع والهمم بالمال ، إنّما هو الأكل ؛ لأنّه مقصود لا غناء عنه ، ولا بدّ منه ؛ عبّر عن أنواع الانتفاع بالأكل ، كما يقال : أكل فلان ماله كله ، إذا أخرجه في مصالح الأكل وغيره؟

[٧٦] فإن قيل : كيف خصّ الآكل بذكر الوعيد دون المطعم ، وكلاهما آثم؟

قلنا : لأنّ انتفاعه الدّنيوي بالرّبا أكثر من انتفاع المطعم.

[٧٧] فإن قيل : كيف قال : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٥] ، والكلام إذ ذاك في الرّبا ، ومقصودهم تشبيهه بالبيع ؛ فقياسه : إنّما الرّبا مثل البيع ، في حلّه؟

قلنا : جاءوا بالتّمثيل على طريق المبالغة ؛ وذلك أنه بلغ من اعتقادهم استحلال الرّبا أنهم جعلوه أصلا في الحلّ ، والبيع فرعا ، كقولهم : القمر كوجه زيد ، والبحر ككفّه ، إذا أرادوا المبالغة.

__________________

[٧٤] إلحاف : إلحاح.

ذلول : أي منقادة ، غير متصعّبة.

أين : إعياء وتعب.

وصب : السقم والمرض. وجمعه أوصاب. والفعل : وصب.

يغمز : من الغمز وهو الإشارة. ويكون بالعين واليد والجفن. يقال : فلان فيه غميزة ، أي نقيصة وعيب. ويقال : غمزت الكبش ، إذا فحصت بيدك عن شحمه وسمنه.

٢٨

[٧٨] فإن قيل : كيف قلتم إنّ أهل الكبائر لا يخلّدون في النار ، وقد قال الله تعالى ، في حقّ آكل الرّبا : (وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [البقرة : ٢٧٥].

قلنا : الخلود يستعمل بمعنى طول البقاء ، وإن لم يكن بصفة التأبيد ؛ يقال : خلّد الأمير فلانا في الحبس ، إذا أطال حبسه ؛ أو أن قوله : (فَأُولئِكَ) إشارة إلى من عاد إلى استحلال الرّبا ، بقوله : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٥] ، بعد نزول آية التحريم ؛ وذلك يكون كافرا ، والكافر مخلّد في النار.

[٧٩] فإن قيل : إنظار المعسر فرض بالنصّ ، والتصدّق عليه تطوّع ؛ فيكف قال : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢٨٠].

قلنا : كلّ تطوّع كان محصّلا للمقصود من الفرض ، بوصف الزّيادة ، كان أفضل من الفرض ؛ كما أنّ الزّهد في الحرام فرض وفي الحلال تطوّع ، والزّهد في الحلال أفضل كما بيّنا ؛ كذلك ، هنا.

[٨٠] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (بِدَيْنٍ) [البقرة : ٢٨٢] ؛ وقوله تعالى : (تَدايَنْتُمْ) مغن عنه؟

قلنا : فائدته رجوع الضّمير إليه في قوله تعالى : (فَاكْتُبُوهُ) [البقرة : ٢٨٢] إذ لو لم يذكره لقال : فاكتبوا الدّين ، فالأوّل أحسن نظما ؛ أو لأنّ التّداين مشترك بين الإقراض والمبايعة وبين المجازاة ، وإنّما يميّز بينهما بفتح الدّال وكسرها ؛ ومنه قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ٤] ، أي الجزاء (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) [الذاريات : ١٢] فذكر الدّين ليتعيّن أي المعنيين هو المراد.

[٨١] فإن قيل : كيف شرط السفر في الارتهان بقوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) [البقرة : ٢٨٣] الآية ، وجواز الرهن لا يختصّ بالسّفر؟

قلنا : لم يذكره لتخصيص الحكم به ؛ بل لمّا كان السفر مظنّة عوز الكاتب ، والشّاهد الموثوق بهما ، أمر ـ على سبيل الإرشاد ـ لحفظ مال المسافرين بأخذ الرّهان.

[٨٢] فإن قيل : ما فائدة ذكر القلب في قوله تعالى : (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة ٢٨٣] ، مع أنّ الجملة هي الموصوفة بالإثم لا القلب وحده؟

قلنا : كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتكلم بها ؛ فلمّا كان ذلك إثما مقترنا بالقلب ومكتسبا له ، أسند إليه ؛ لأنّ إسناد الفعل إلى الجارحة الّتي يعمل بها أبلغ ؛ كما يقال : هذا ما أبصرته عيني ، وسمعته أذني ، ووعاه قلبي.

٢٩

[٨٣] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [البقرة : ٢٨٤] ، وما يحدّث به الإنسان نفسه لا يأثم به ما لم يفعله ؛ إمّا لأنّه لا يمكن الاحتراز عنه ، في الوسع والطاقة ، أو بالحديث المشهور فيه؟

قلنا : قيل : أريد بالآية العموم ثم نسخ بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦]. وقيل : لا نسخ فيه ؛ لأنّه خبر لا أمر أو نهي ؛ بل العموم غير مراد ؛ وإنّما المراد ما يمكن الاحتراز عنه ، وهو العزم القاطع ، والاعتقاد الجازم ؛ لا مجرّد حديث النفس والوسوسة. ولأنّه أخبر عن المحاسبة لا عن المعاقبة ؛ فهو يوم القيامة يخبر العباد بما أبدوا وما أخفوا ، ليعلموا إحاطة علمه بجميع ذلك ؛ ثم يغفر لمن يشاء فضلا ، ويعذّب من يشاء عدلا ، كما أخبر في الآية.

[٨٤] فإن قيل : أيّ شرف للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مدحه بالإيمان ؛ مع أنّه في رتبة الرّسالة ودرجتها ، وهي أعلى من درجة الإيمان ؛ فما فائدة قوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ) [البقرة : ٢٨٥]؟

قلنا : فائدة أن يبيّن للمؤمنين زيادة شرف الإيمان ؛ حيث مدح به خواصّه ورسله ؛ ونظيره ، في سورة الصافات ، قوله تعالى ، في خاتمة ذكر كلّ نبيّ : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) [الصافات : ٨١].

[٨٥] فإن قيل : روي عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، أنّه قرأ : «ملائكته وكتابه» ، فسئل عن ذلك ، فقال : «كتاب أكثر من كتب» فما وجهه؟

قلنا : قيل فيه أنه أراد أنّ الكتاب جنس والكتب جمع ، والجنس أكثر من الجمع ؛ لأنّ حقيقته في الكلّ على ما ذهب إليه بعضهم. ويرد على هذا أن يقال : الكلام في الجمع المضاف والمفرد المضاف للاستغراق ، عرفا وشرعا ، كقوله لعبده : أكرم أصدقائي ، وأهن أعدائي ؛ وقوله : زوجاتي طوالق وعبيدي أحرار ؛ بخلاف قوله : صديقي وعدوي وعبدي وامرأتي ؛ فظهر أنّ الجمع المضاف أكثر.

[٨٦] فإن قيل : قوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] ، كيف قال ذلك ؛ مع أنّ بين لا تضاف إلّا إلى اثنين فصاعدا ، فكيف قال : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥].

قلنا : أحد هنا بمعنى الجمع الذي هو آحاد كقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) [الحاقة : ٤٧] فإنّه ثمّ بمعنى الجمع ، بدليل قوله تعالى : (حاجِزِينَ) فكأنه قال : لا نفرق بين آحاد من رسله ، كقولك : المال بين آحاد الناس ؛ ولأنّ أحدا يصلح للمفرد المذكر والمؤنث ، وتثنيتهما وجمعهما نفيا وإثباتا ، تقول : ما رأيت أحدا إلّا بني فلان ،

٣٠

أو إلّا بنات فلان سواء. وتقول : إن جاءك أحد بكتابي فأعطه وديعتي ، يستوي فيه الكلّ ؛ فالمعنى لا نفرّق بين اثنين منهم ، أو بين جماعة منهم ، ومنه قوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ) [الأحزاب : ٣٢].

[٨٧] فإن قيل : من أين دلّ قوله : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦] على أنّ الأوّل في الخير والثّاني في الشّر؟

قلنا : قيل : هو من كسبت واكتسبت ، فإنّ الأوّل للخير والثّاني للشرّ ، وليس بدليل ؛ لقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً) [النساء : ١١٢] ، وقوله : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر : ٣٨] ، وقوله : (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا) [الشورى : ٣٤] ، وقوله : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) [الشورى : ٢٣] ؛ والاقتراف والاكتساب بمعنى واحد.

وقيل : هو من اللّام وعلى ، وليس بدليل ، أيضا ؛ لقوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [الرعد : ٢٥] ، وقوله تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] ، وقوله تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) [البقرة : ١٥٧] ؛ اللهمّ إلّا أن يدّعى أنّ اللّام وعلى ، عند الإطلاق ، يقتضيان ذلك ؛ أو لأنّهما يستعملان لذلك ، عند تقاربهما ، كما في هذه الآية ؛ لا نفرّق بين ذكر الحسنة والسيئة ، أو الحسن والقبيح. ويدل عليه قوله تعالى : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) [الأنعام : ١٦٤]. أطلقه وأراد به الشرّ ؛ بديل ما بعده. وقولهم : «الدّهر يومان ، يوم لك ويوم عليك». وقولهم : فلان يشهد لك وفلان يشهد عليك. ويقول الرجل لصاحبه : هذا الكلام حجّة عليك لا لك ، قال الشاعر :

على أنّني راض بأن أحمل الهوى

وأخلص منه لا عليّ ولا ليا

وأمّا قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت : ٤٦] ، وإن كان مقيّدا ، إلا أنّ فيه دلالة أيضا من جهة اللّام وعلى ؛ لأنّ القيد شامل لطرفيه.

__________________

[٨٧] «الدهر يومان ...» هذه كلمة للإمام علي ، وهي في نهج البلاغة ، قصار الحكم ، رقم ٣٩٦.

٣١

سورة آل عمران

[٨٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ). ثمّ قال تعالى : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [آل عمران : ٣]؟

قلنا : لأنّ القرآن أنزل منجّما ، والتّوراة والإنجيل نزلا جملة واحدة ، كذا أجاب الزّمخشري وغيره. ويرد عليه قوله تعالى ، بعد ذلك : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) [آل عمران : ٤] فإنّ الزمخشري قال : أراد به جنس الكتب السماوية لا الثلاثة المذكورة خصوصا ؛ أو أراد به الزّبور ؛ أو أراد به القرآن ، وكرّر ذكره تعظيما. ويرد عليه ، أيضا قوله تعالى ، بعد ذلك : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) [آل عمران : ٧] ، وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) [البقرة : ٤] ، وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢].

والذي وقع لي فيه ـ والله أعلم ـ أنّ التّضعيف ، في نزّل ، والهمزة في أنزل ، كلاهما للتّعدية ؛ لأنّ نزل فعل لازم ، في نفسه ؛ وإذا كانا للتّعدية ، لا يكونان لمعنى آخر ، وهو التّكثير أو نحوه ؛ لأنّه لا نظير له ؛ وإنّما جمع بينهما ، والمعنى واحد ، وهو التّعدية ؛ جريا على عادة العرب في افتنانهم في الكلام ، وتصرّفهم فيه ، على وجوه شتّى. ويؤيّد هذا قوله تعالى : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [الأنعام : ٣٧] وقال ، في موضع آخر : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [الرعد : ٧].

[٨٩] فإن قيل : كيف قال : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) [آل عمران : ٧] ، ومن للتبعيض؟ وقال : في موضع آخر : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) [هود : ١] ؛ وهذا يقتضي كون جميع آياته محكمة؟

__________________

[٨٨] الزمخشري : هو أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الزّمخشري. ولد سنة ٤٦٧ ه‍ بزمخشر وتوفي سنة ٥٣٨ ه‍ بجرجانية خوارزم. عرف بتضلّعه في علوم عدة ، منها التفسير واللغة والمعاني والبيان والنحو. وقد أخذ الأدب عن منصور أبي مضر. من مؤلفاته : تفسيره المعروف للقرآن المسمّى الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل ، المحاجاة بالمسائل النحوية ، الفائق في تفسير غريب الحديث ، أساس البلاغة ، ربيع الأبرار ونصوص الأخبار ، المفرد والمركب في العربية ، متشابه أسامي الرّواة ، المفصّل في النحو ، الخ.

٣٢

قلنا : المراد بقوله : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) [آل عمران : ٧] ، أي ناسخات. (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) [آل عمران : ٧] ، أي منسوخات.

وقيل : المحكمات : العقليات ؛ والمتشابهات : الشرعيات.

وقيل : المحكمات : ما ظهر معناها ؛ والمتشابهات : ما كان في معناها غموض ودقة.

والمراد بقوله : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) [هود : ١] أنّ جميع القرآن صحيح ثابت ، مصون عن الخلل والزّلل فلا تنافي.

[٩٠] فإن قيل : كيف قال ، هنا : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) [آل عمران : ٧] ، جعل بعضه متشابها وقال ، في موضع آخر : (كِتاباً مُتَشابِهاً) [الزمر : ٢٣] ، وصفه كله بكونه متشابها؟

قلنا : المراد بقوله : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) ما سبق ذكره ، والمراد بقوله : (كِتاباً مُتَشابِهاً) أنّه يشبه بعضه بعضا ، في الصحة ، وعدم التّناقض ، وتأييد بعضه بعضا ؛ فلا تنافي.

[٩١] فإن قيل : ما فائدة إنزال المتشابهات ، بالمعنى الأخير ؛ والمقصود من إنزال القرآن إنّما هو البيان والهدى ؛ والغموض والدّقة في المعاني ينافي هذا المقصود ، أو يبعده؟

قلنا : لما كان كلام العرب ينقسم إلى ما يفهم معناه سريعا ، ولا يحتمل غير ظاهره ، وإلى ما هو مجاز وكناية وإشارة وتلويح ، والمعاني فيه متعارضة متزاحمة ، وهذا القسم هو المستحسن عندهم والمستبدع في كلامهم ، نزل القرآن بالنّوعين تحقيقا لمعنى الإعجاز ، كأنه قال : عارضوه بأي النوعين شئتم فإنه جامع لهما. وأنزله الله ، عزوجل ، محكما ومتشابها ، ليختبر من يؤمن بكلّه ، ويردّ علم ما تشابه منه إلى الله ، فيثيبه ، ومن يرتاب فيه ويشكّ ، وهو المنافق ، فيعاقبه ؛ كما ابتلى عباده بنهر طالوت وغيره. أو أراد أن يشتغل العلماء بردّ المتشابه إلى المحكم بالنّظر والاستدلال والبحث والاجتهاد ؛ فيثابون على هذه العبادة. ولو كان كلّه ظاهرا جليّا ، لاستوى فيه العلماء والجهال ؛ ولماتت الخواطر بعدم البحث والاستنباط ؛ فإنّ نار الفكر إنّما تقدح بزناد المشكلات. ولهذا قال بعض الحكماء : عيب الغنى أنه يورث البلادة ويميت الخاطر ؛ وفضيلة الفقر أنّه يبعث على إعمال الفكر ، واستنباط الحيل ، في الكسب.

[٩٢] فإن قيل : قوله تعالى : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) ، أي ترى الفئة الكافرة الفئة المسلمة مثلي عدد نفسها ؛ أو بالعكس ، على اختلاف القولين ؛ وكيفما كان ، فهو مناف لقوله تعالى ، في سورة الأنفال : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ

٣٣

قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [الأنفال : ٤٤] ؛ لأنّه يدلّ على أنّ الفئتين تساوتا في استقلال كلّ واحدة منهما للأخرى. فكلّ منهما ترى الأخرى قليلة؟

قلنا : التقليل والتّكثير في حالين مختلفين. قلّل الله المشركين في نظر المؤمنين أوّلا ، والمؤمنين في نظر المشركين ؛ حتّى اجترأت كلّ فئة على قتال صاحبتها. فلمّا التقتا ، كثّر الله المؤمنين في نظر المشركين ؛ حتّى جبنوا وفشلوا ؛ فغلبوا. وكثّر الله المشركين في نظر المؤمنين ، أو أراهم إيّاهم على ما هم عليه ، وكانوا في الحقيقة أكثر من المؤمنين ، ليعلموا صدق ما وعدهم الله تعالى ، بقوله : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٦] الآية ، فإن المؤمنين غلبوهم في هذه الغزاة وهي غزاة بدر. مع أنّهم كانوا أضعاف عدد المؤمنين.

وقيل : أرى الله المسلمين المشركين مثل عدد المسلمين ، وكانوا ثلاثة أمثالهم ؛ لكنه قلّلهم في أعين المسلمين ؛ وأراهم إياهم بقدر ما أعلمهم أنّهم يغلبونهم ، لتقوى قلوبهم بما سبق من الوعد أنّ المائة ، من المؤمنين ، يغلبون المائتين ، منهم.

[٩٣] فإن قيل : ما فائدة تكرار قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران : ١٨]؟

قلنا : الأوّل قول الله عزوجل ، والثاني حكاية قول الملائكة وأولي العلم.

وقال جعفر الصادق ، رحمه‌الله تعالى : الأوّل وصف ، والثّاني تعليم. أي قولوا واشهدوا ، كما شهدت.

[٩٤] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) ؛ في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [آل عمران : ٢٣] ؛ والتّولّي والإعراض واحد ، كما سبق في البقرة ؛ فلم جمع بينهما؟

قلنا : معناه : يتولّون عن الدّاعي ، ويعرضون عمّا دعاهم إليه ، وهو كتاب الله ؛ أو يتولون بأبدانهم ، ويعرضون عن الحقّ بقلوبهم ؛ أو كان الّذين تولّوا علماءهم والذين أعرضوا أتباعهم.

__________________

[٩٣] الصادق : هو الإمام جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب ، الهاشمي القرشي ، أبو عبد الله ، لقبه الصادق ، سادس الأئمة الاثني عشر عند الإمامية. كان أعلم أهل زمانه. وإليه ينسب مذهب الإمامية في الفروع ، فيقال : المذهب الجعفري. وذلك أنّه أتيح له (ولأبيه الباقر من قبله) فرصة نشر علم بيت النبوّة ، وهو ما لم يتح بنفس القدر لباقي الأئمة الاثني عشر ، أيام الأمويين والعباسيين الذين اضطهدوهم. أخذ عنه العلم خلق كثير ، من أشهرهم الإمامان أبو حنيفة ومالك. ولقّب بالصّادق لأنّه لم يعرف عنه الكذب قط. كان جريئا على خلفاء بني العباس ، آمرا بالمعروف ، ناهيا عن المنكر. ولد بالمدينة سنة ٨٠ ه‍ وتوفي بها سنة ١٤٨ ه‍.

٣٤

[٩٥] فإن قيل : كيف قال : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) [آل عمران : ٢٦] ؛ خصّ الخير بالذّكر ، وبيده تعالى الخير والشرّ ، والنفع والضّرّ ، أيضا؟

قلنا : لأنّ الكلام إنّما ورد ردّا على المشركين ؛ فيما أنكروه ، ممّا وعد الله تعالى به نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على لسان جبريل عليه‌السلام ، من فتح بلاد الرّوم وفارس. ووعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصحابة بذلك. فلما كان الكلام في الخير خصّه بالذّكر ؛ باعتبار الحال. أو أراد الخير والشرّ. فاكتفى بأحدهما ، لدلالته على الآخر ؛ كقوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١].

وإنّما خصّ الخير بالذّكر ؛ لأنّه المرغوب فيه ، المطلوب للعباد ، من الله تعالى.

[٩٦] فإن قيل : كيف قال : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) [الحج : ٦١] ، وإيلاج الشّيء ، في الشّيء ، يقتضي اجتماع حقيقتهما ، بعد الإيلاج ؛ كإيلاج الخيط في الإبرة ، والإصبع في الخاتم ، ونحوهما ؛ وحقيقة اللّيل والنهار لا يجتمعان؟

قلنا : الإيلاج قد يكون كما ذكرتم ؛ وقد يكون مع تبدّل صفة أحدهما ، بغلبة صفة الآخر عليه ؛ مع بقاء ذاته فيه ؛ كإيلاج يسير من خبز في لبن كثير ؛ أو بالعكس.

فإنّ الحقيقتين مجتمعتان ذاتا ؛ وصفة إحداهما غالبة على الأخرى. كذلك اللّيل والنهار ، إذا كان اللّيل أربع عشرة ساعة ، بالنّسبة إلى زمن الاعتدال. ففيه من النهار ساعتان قطعا ؛ وكذا على العكس. أو معناه : يولج زمن اللّيل ، في زمن النهار ، وبالعكس. أو يولج اللّيل ، في النهار ؛ وبالعكس. باعتبار أن ليل قوم هو نهار آخرين ؛ وبالعكس. أو معناه أنه خلق ليلا صرفا خالصا. وخلق ما هو ممتزج منهما. وهو ما قبيل طلوع الشّمس ، وقبيل غروبها. والجواب الثّالث والرّابع يعمّان جميع السنة.

[٩٧] فإن قيل : ما فائدة قوله : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) [آل عمران : ٣٦] ، وهو معلوم من غير ذكر؟

قلنا : فائدته اعتذارها عمّا قالته ظنّا ؛ فإنها ظنّت أنّ ما في بطنها ذكر ؛ ولهذا نذرت أن تجعله خادما لبيت المقدس. وكان من شريعتهم صحّة هذا النذر في الذّكور ، خاصة ؛ فلمّا وضعت أنثى ، استحيت ؛ حيث خاب ظنّها ، ولم يتقبّل نذرها ؛ فقالت ذلك معتذرة. تعني ليست الأنثى بصالحة ، لما يصلح له الذّكر ، في خدمة المسجد ؛ لا أنّها أرادت أنّ الأنثى ليست كالذّكر صورة أو قوّة ، أو نحو ذلك. فلمّا قالت ذلك ، منكرة خجلة ، منّ الله عليها ، بتخصيص مريم بقبولها في النذر ؛ دون غيرها من الإناث. فقال تعالى : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) [آل عمران : ٣٧].

[٩٨] فإن قيل : المستعمل في مثله إدخال حرف النفي على القاصر ، وحرف

__________________

[٩٨] أبو اللّيث : هو نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي ، أبو الليث. يلقب بإمام الهدى. فقيه من ـ

٣٥

التّشبيه على الكامل كقولهم : ليس كالذّهب الفضّة ، وليس العبد كالحرّ ، فوزانه : وليس الأنثى كالذّكر.

قلنا : لما كان جعل الأصل فرعا ، والفرع أصلا ، في التّشبيه ، في حالة الإثبات ، يقتضي المبالغة في المشابهة ، كقولهم : القمر كوجه زيد ، والبحر ككفّه ، كان جعل الأصل فرعا ، والفرع أصلا ، في حالة النفي ، يقتضي نفي المبالغة في المشابهة ، لا نفي المشابهة ؛ وذلك هو المقصود ، هنا ؛ لأنّ المشابهة واقعة بين الذّكر والأنثى ، في أعمّ الأوصاف ، وأغلبها ؛ ولهذا يقاد أحدهما بالآخر ؛ وإنّما أرادت أمّ مريم نفي المشابهة بينهما في صحّة النذرية ، خادما للبيت المقدس ؛ لا غير. فلذلك عكس.

الثّاني : أن ذلك قوله تعالى ، والمعنى ليس الذّكر الّذي طلبت أن يكون خادما للكنيسة كالأنثى التي وهبت ؛ لما علم الله من جعلها وابنها آية للعالمين. وهو تفسير للتّعظيم والتّفخيم المجمل في قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) [آل عمران : ٣٦].

وهي لا تعرف مقدار شرفه ، واللّام في الذّكر والأنثى للعهد. هذا كلّه قول الزّمخشري ، وتمامه في الكشّاف.

وقال الفقيه أبو اللّيث رحمه‌الله تعالى : قال بعضهم : هذا قول الله تعالى لمحمّد ، عليه الصلاة والسلام. أي (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) يا محمّد. وقال بعضهم : هو من كلام أمّ مريم.

[٩٩] فإن قيل : كيف نادت الملائكة زكريّا ، وهو قائم يصلّي في المحراب ، وأجابها وهو في الصلاة ، كما قال الله تعالى : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي) [آل عمران : ٣٩] الآية؟

قلنا : المراد بقوله يصلّي : أي يدعو ، كقوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) [الإسراء : ١١٠] أي بدعائك.

[١٠٠] فإن قيل : ما فائدة تخصيص يحيى ، عليه‌السلام ، بقوله : (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) [آل عمران : ٣٩] ، وكلّ واحد من المؤمنين مصدّق بجميع كلمات الله تعالى؟

قلنا : معناه مصدّقا بعيسى الذي كان وجوده بكلمة من الله تعالى ؛ وهو قوله : (كُنْ) من غير واسطة أب في الوجود. وكان تصديق يحيى بعيسى أسبق من تصديق كلّ أحد ، في الوجود ، أو في الرتبة.

__________________

ـ أئمة الحنفية. كان زاهدا متصوفا. توفي سنة ٣٧٣ ه‍. من مؤلفاته : تفسير القرآن ، عمدة العقائد ، بستان العارفين (في التصوف) ، تنبيه الغافلين ، المقدمة ، عيون المسائل ، مختلف الرّواية ، الخ.

٣٦

[١٠١] فإن قيل : زكريّا سأل الولد بقوله : (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) [آل عمران : ٣٨] والله تعالى بشّره بيحيى ، عليه‌السلام ، على لسان الملائكة ؛ فكيف أنكر ، بعد هذا كلّه ، قدرة الله تعالى على إعطائه الولد ، حتى قال : (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) [آل عمران : ٤٠].

قلنا : إنّما قاله على سبيل الاستفهام والتّعجّب من عظيم قدرة الله تعالى ، لا على طريق الإنكار والاستبعاد ؛ أو اشتبه عليه كيف يعطى الولد ، وهو شيخ ، وامرأته عاقر ؛ أو تزول عنهما هاتان الصفتان لكشف الحال. تقديره : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) [آل عمران : ٤٠]. ولقائل أن يقول : آخر الآية لا يناسب هذا الجواب.

[١٠٢] فإن قيل : ما فائدة تكرار ذكر الاصطفاء ، في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ) [آل عمران : ٤٢].

قلنا : الاصطفاء الأوّل : العبادة التي هي خدمة البيت المقدّس ، وتخصيصها بقبولها في النذر ؛ مع كونها أنثى. والاصطفاء الثّاني : لولادة عيسى ، عليه‌السلام ؛ أو أعيد ذكر الاصطفاء ، ليفيد بقوله : (عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٤٢] فيندفع وهم أنّها مصطفاة على الرّجال.

[١٠٣] فإن قيل : كيف نفى حضور النبيّ ، عليه الصلاة والسلام ، في زمن مريم بقوله : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) [آل عمران : ٤٤] ، الآية ؛ وذلك معلوم عندهم ، لا شكّ فيه ، وترك نفي استماعه ذلك الخبر من حفّاظه وهو الّذي كانوا يتوهّمونه؟

قلنا : كان معلوما ، أيضا ، عندهم ، علما يقينا أنّه ليس من أهل القراءة والرّواية.

وكانوا منكرين للوحي. فلم يبق إلّا المشاهدة والحضور ، وهي في غاية الاستحالة ؛ فنفيت ، على طريق التهكّم بالمنكرين للوحي ؛ مع علمهم أنّه لا قراءة له ولا رواية.

ونظيره قوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) [القصص : ٤٤ ـ ٤٦].

[١٠٤] فإن قيل : كيف قال : اسمه المسيح عيسى ابن مريم ، والخطاب مع مريم ، وهي تعلم أنّ الولد الّذي بشّرت به يكون ابنها؟

قلنا : لأنّ الأبناء ينسبون إلى الآباء ، لا إلى الأمهات ؛ فأعلمت ، بنسبته إليها ، أنه يولد من غير أب ؛ فلا ينسب إلّا إلى أمه.

[١٠٥] فإن قيل : أيّ معجزة لعيسى ، عليه الصلاة والسلام ، في تكليم الناس كهلا؟ وأيّ خصوصيّة له في هذا ؛ حتّى قال : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) [آل عمران : ٤٦]؟

قلنا : معناه ويكلّم الناس ، في هاتين الحالتين ، بكلام الأنبياء ؛ من غير تفاوت بين حال الطفوليّة وحال الكهوليّة الّتي يستحكم فيها العقل ، وينبّأ فيها الأنبياء. فكأنه

٣٧

قال : ويكلّم الناس في المهد ، كما يكلّمهم كهلا. وقال الزّجّاج : هذا ، خرج مخرج البشارة لمريم أنّه ، عليه الصلاة والسلام ، سيبقى إلى زمن الكهولة. فهو بشارة لها بطول عمره. وقيل : المقصود منه أنّ الزّمان يؤثّر فيه ، كما يؤثّر في غيره ، وينقله من حال إلى حال ؛ ولو كان إلها لم يجز عليه التغيير.

[١٠٦] فإن قيل : كيف قال : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥] ؛ والله تعالى رفعه ولم يتوفه؟

قلنا : لمّا هدّده اليهود بالقتل ، بشّره الله بأنه إنّما يقبض روحه بالوفاة لا بالقتل ؛ والواو لا تفيد التّرتيب ؛ فلا يلزم من الآية موته قبل رفعه.

الثّاني : أنّ فيه تقديما وتأخيرا ، أي أنّي رافعك ومتوفيك.

والثّالث : أنّ معناه : قابضك من الأرض تامّا ، وافيا في أعضائك وجسدك ، لم ينالوا منك شيئا ؛ من قولهم : توفّيت حقّي على فلان ، إذا استوفيته تامّا وافيا.

الرّابع : أنّ معناه : إنّي متوفّيك في نفسك بالنّوم ، من قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [الزمر : ٤٢] ورافعك إليّ ، وأنت نائم ؛ حتّى لا تخاف ، بل تستيقظ وأنت في السماء.

[١٠٧] فإن قيل : كيف قال : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [آل عمران : ٥٩] ، وآدم خلق من التراب ، وعيسى خلق من الهواء ؛ وآدم خلق من غير أب وأمّ ، وعيسى خلق من أمّ.

قلنا : المراد به التّشبيه في وجوده بغير واسطة أب. والتّشبيه لا يقتضي المماثلة من جميع الوجوه ، بل من بعضها.

[١٠٨] فإن قيل : كيف خصّ أهل الكتاب بأنّ منهم أمينا وخائنا ، بقوله : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [آل عمران : ٧٥] الآية ؛ والمسلمون وغيرهم من أهل الملل كذلك ، منهم الأمين والخائن.

قلنا : إنّما خصّهم باعتبار واقعة الحال ؛ فإنّ سبب نزول الآية أنّ عبد الله بن سلام أودع ألفا ومائتي أوقية من الذّهب ، فأدّى الأمانة فيها ؛ وفنحاص بن عازوراء أودع دينارا ، فخانه ؛ ولأنّ خيانة أهل الكتاب المسلمين تكون عن استحلال ، بدليل آخر الآية ؛ بخلاف خيانة المسلم المسلم ، فلذلك خصّهم بالذّكر.

[١٠٩] فإن قيل : كيف قال : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [آل عمران : ٨٣] وأكثر الجنّ والإنس كفرة؟

قلنا : المراد بهذا : الاستسلام والانقياد لما قضاه الله عليهم ، وقدّره من الحياة والموت ، والمرض والصحة ، والشّقاء والسعادة ، ونحو ذلك.

٣٨

[١١٠] فإن قيل : كيف قال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) [آل عمران : ٩٠] ؛ ومعلوم أن المرتدّ وإن ازداد ارتداده كفرا فإنّه مقبول التّوبة؟

قلنا : الآية نزلت في قوم ارتدّوا ، ثم أظهروا التّوبة بالقول ، لستر أحوالهم ، والكفر في ضمائرهم ؛ قاله ابن عباس.

وقيل : نزلت في قوم تابوا من ذنوبهم غير الشّرك.

وقيل : معناه : لن تقبل توبتهم وقت حضور الموت.

[١١١] فإن قيل : كيف قال : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) [آل عمران : ٩٦] وكم من بيت بني قبل الكعبة ، من زمن آدم إلى زمن إبراهيم عليه‌السلام؟

قلنا : معناه أن أول بيت وضع قبلة للنّاس ومكان عبادة لهم ؛ أو وضع مباركا للنّاس ، أو لأنّ ابن عباس قال : أوّل من بناه آدم عليه‌السلام. لمّا هبط من السماء أوحى الله تعالى إليه ابن لي بيتا في الأرض ، واصنع حوله نحو ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي ؛ فبناه ، وجعل يطوف حوله.

[١١٢] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) [آل عمران : ١١٠] ولم يقل أنتم خير أمّة؟

قلنا : معناه كنتم في سابق علم الله ، أو كنتم يوم أخذ الميثاق على الذرية ؛ فأراد الإعلام بكون ذلك صفة أصليّة فيهم ، لا عارضة متجددة. أو معناه خلقتم ووجدتم ؛ فهي كان التامة ؛ وخير أمة نصب على الحال ؛ وتمام الكلام في كان يذكر في قوله تعالى (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً) [النساء : ٢٢].

[١١٣] فإن قيل : كيف قال : (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) [آل عمران : ١١٠] ولا يصح أن يقال : هذا خير من ذلك إلّا إذا كان في كلّ واحد منهما خير ؛ مع أنّ غير الإيمان لا خير فيه ؛ حتى يقال : إنّ الإيمان خير منه؟

قلنا : معناه إيمانهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع إيمانهم بموسى وعيسى عليهما‌السلام ، خير من إيمانهم بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام فقط.

[١١٤] فإن قيل : كيف قال : (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها

__________________

[١١٤] صرّ : هو شدّة البرد ، أو البرد.

ـ ثعلب : هو أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار الشيباني بالولاء ، أبو العبّاس ، اشتهر بثعلب ، إمام الكوفيين في النحو واللغة. كان محدّثا وراوية للشعر. ولد في بغداد سنة ٢٠٠ ه‍ وتوفي فيها سنة ٢٩١ ه‍. من مؤلفاته : قواعد الشعر ، الفصيح ، شرح ديوان زهير ، مجالس ثعلب ، معاني القرآن ، ما تلحن فيه العامة ، الخ.

٣٩

صِرٌّ) [آل عمران : ١١٧] ، الآية ؛ والمقصود تشبيه نفقة الكفّار وأموالهم ، في تحصيل المفاخر ، وطلب الصيت والسمعة ؛ أو ما ينفقونه في الطّاعات ، مع وجود الكفر ؛ أو ما ينفقونه في عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بالزرع الذي أصابته ريح شديدة البرد ، فأهلكته ، فضاع ، ولم ينتفع به ؛ والتّشبيه في الحقيقة بالزّرع ، وفي لفظ الآية بالرّيح؟

قلنا : فيه إضمار ، تقديره : إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح فيها صرّ ؛ أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح ؛ ونظيره قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ) [آل عمران : ٢٦١] الآية ؛ وقوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) [آل عمران : ١٧١] ، الآية. وقال ثعلب : فيه تقديم وتأخير تقديره : كمثل حرث قوم ، ظلموا أنفسهم ، أصابته ريح فيها صرّ ، فأهلكته.

[١١٥] فإن قيل : كيف قال : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها) [آل عمران : ١٢٠] فوصف الحسنة بالمسّ والسيئة بالإصابة؟

قلنا : المسّ مستعار ، بمعنى الإصابة ، توسعة في العبارة ؛ وإلّا فكان المعنى واحدا. ألا ترى إلى قوله تعالى في الفريقين : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء : ٧٩]. وقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) [المعارج : ١٩ ـ ٢١].

[١١٦] فإن قيل : كيف قال : (وَسارِعُوا) [آل عمران : ١٣٣] ؛ والنبيّ ، عليه أفضل التّحية ، يقول : «العجلة من الشّيطان والتأنّي من الرّحمن»؟

قلنا : قد استثنى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسة مواضع ، فقال : «إلّا في التّوبة من الذّنب وقضاء الدّين الحال ، وتزويج البكر البالغ ، ودفن الميّت وإكرام الضّيف إذا نزل».

والمسارعة المأمور بها في الآية هي المسارعة إلى التّوبة وما في معناها من أسباب المغفرة.

[١١٧] فإن قيل : كيف قال : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [آل عمران : ١٣٥] عطف عليه بكلمة أو ، وفعل الفاحشة داخل في ظلم النفس ؛ بل هو أبلغ أنواع ظلم النفس؟

قلنا : أريد بالفاحشة نوع من أنواع ظلم النفس ، وهو الزنا ؛ أو كلّ كبيرة. فخصّ بهذا الاسم تنبيها على زيادة قبحه ، وأريد بظلم النفس ما وراء ذلك من الذنوب.

__________________

[١١٦] الحديث أخرجه الترمذي وأبو يعلى وغيرهما. يراجع : عارضة الأحوذي ٨ / ١٧٢ ومجمع الزوائد ٨ / ٢٢ ، وكشف الخفاء ١ / ١٩٥.

٤٠