أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها

محمّد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي

أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-026-9
الصفحات: ٤٠٨

(وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) [فصلت : ٢٢].

[٩٦٣] فإن قيل : كيف قال المؤمن ، في حقّ موسى عليه‌السلام : (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) [غافر : ٢٨] ؛ مع أنه صادق في زعم القائل لهذا القول وفي نفس الأمر أيضا ، ويلزم من ذلك أنّ يصيبهم جميع ما وعدهم لا بعضه فقط؟

قلنا : فيه وجوه :

أحدها : أن لفظة بعض صلة.

الثاني : أنها بمعنى «كل» كما في قول الشاعر :

إن الأمور إذا الأحداث دبّرها

دون الشّيوخ ترى في بعضها خللا

ومنه قول لبيد :

أو لم تكن تدري نوار بأنني

وصّال عقد حبائل جذّامها

ترّاك أمكنة إذا لم أرضها

أو يرتبط بعض النفوس حمامها

قلنا : ولقائل أن يقول : إن لفظة بعض في البيتين على حقيقتها ، وكنى لبيد ببعض النفوس عن نفسه كأنه قال : أتركها إلى أن أموت ، وكذا فسره ابن الأنباري.

على أن أبا عبيدة قال : إنّ بعض في الآية بمعنى كل ؛ واستدل ببيت لبيد ، وأنكر الزمخشري على أبي عبيدة هذا التفسير. على أن غير أبي عبيدة قال في قوله تعالى ، حكاية عن عيسى عليه‌السلام لأمته : (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) [الزخرف : ٦٣] ، أن بعضا فيه بمعنى كل.

الثالث : أنها على أصلها. ثم في ذلك وجهان :

__________________

[٩٦٣] البيت لم نقف على قائله.

ـ البيتان من معلقة لبيد. وهما في ديوانه.

ـ اختلف القول في معنى بعض في الشاهد. وقد اختار المصنف أن المراد بها نفس الشاعر.

وسبق أن دفع الرضي هذا الرأي واختار أن الضمير الراجع إلى بعض مؤنث ، لأن البعض أضيف إلى النفوس وهي مؤنثة. ومحل الكلام في المسألة يكون عادة في كتب النحو في باب أن المضاف إليه قد يكسب المضاف تأنيثا وتذكيرا. هذا والشطر الأخير من بيتي لبيد يروى أحيانا وفيه : «يعتلق» بدل «يرتبط».

ـ البيت الأخير للقطامي وهو في ديوانه : ٢٥. ويروى عجزه :

وقد يكون مع المستعجل الزّلل ـ أبو عبيدة : هو معمر بن المثنى التيمي بالولاء ، البصري ، أبو عبيدة : من أئمة النحو واللغة والأدب. ولد في البصرة سنة ١١٠ ه‍ وتوفي بها سنة ٢٠٩ ه‍. كان إباضي المذهب ، شعوبي النزعة. وكان من حفاظ الحديث ، كثير التصنيف. من مؤلفاته : نقائض جرير والفرزدق ، العققة والبررة ، المثالب ، مآثر العرب ، أيام العرب ، الشوارد ، الإنسان ، الخ.

٢٨١

أحدهما : أنه وعدهم النجاة إن آمنوا والهلاك إن كفروا ، فذكر لفظة بعض ؛ لأنهم على إحدى الحالتين لا محالة.

الثاني : أنه وعدهم على كفرهم الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة ، وكان هلاكهم في الدّنيا بعضا ، فمراده يصيبكم في الدنيا بعض الذي يعدكم.

الرابع : أنه ذكر البعض بطريق التنزل والتلطف وإمحاض النصيحة من غير مبالغة ولا تأكيد ليسمعوا منه ولا يتّهموه ؛ فيردّوا عليه ، وينسبوه إلى ميل ومحاباة لموسى عليه‌السلام ، كأنه قال : أقل ما يصيبكم البعض وفيه كفاية ، ونظيره قول الشاعر :

قد يدرك المتأنّي بعض حاجته

وقد يكون من المستعجل الزّلل

كأنه يقول أقل ما يكون في التأني إدراك بعض المطلوب ، وأقل ما يكون في الاستعجال الزلل ، فقد بان فضل التأني على العجلة بما لا يقدر الخصم على دفعه ورده. والوجه الرابع هو اختيار الزمخشري رحمة الله عليه.

[٩٦٤] فإن قيل : التّولي والإدبار واحد فما فائدة قوله تعالى : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ)؟ [غافر : ٣٣].

قلنا : هو تأكيد ، كقوله تعالى : (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : ٢٦] ونظائره كثيرة.

الثاني : أنه استثارة لحميتهم واستجلاب لأنفتهم لما في لفظ «مدبرين» من التّعريض بذكر الدّبر ، فيصير نظير قوله تعالى : (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر : ٤٥].

[٩٦٥] فإن قيل : ما فائدة التكرار في قوله تعالى : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ) [غافر : ٣٦ ، ٣٧] وهلّا قال : أبلغ أسباب السموات؟ أي أبوابها وطرقها.

قلنا : إذا أبهم الشيء ثم أوضح كان تفخيما لشأنه وتعظيما لمكانه ، فلما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السموات أبهمها ثم أوضحها.

[٩٦٦] فإن قيل : مثل السيئة سيئة فما معنى قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) [غافر : ٤٠]؟

قلنا : معناه أن جزاء السيئة له حساب وتقدير لا يزيد على المقدار المستحق ، فأمّا جزاء العمل الصالح فبغير تقدير حساب ، كما قال تعالى في آخر الآية.

[٩٦٧] فإن قيل : قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠] ينافي ذلك.

قلنا : ذلك لمنع النقصان لا لمنع الزيادة ، كما قال الله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦].

٢٨٢

[٩٦٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) [غافر : ٤٩] ولم يقل : وقال الذين في النار لخزنتها مع أنّه أخصر؟

قلنا : لأنّ في ذكر جهنّم تهويلا وتفظيعا. وقيل : إن جهنّم هي أبعد النار قعرا ، وخزنتها أعلى الملائكة الموكلين بالنّار مرتبة ، فإنّما قصدهم أهل النار بطلب الدّعاء منهم لذلك.

[٩٦٩] فإن قيل : كيف قال المشركون : (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) [غافر :

٧٤] ؛ مع قولهم : (هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) [النحل : ٨٦].

قلنا : معناه أن الأصنام التي كنا نعبدها لم تكن شيئا ؛ لأنها لا تنفع ولا تضر.

الثاني : أنهم قالوا كذبا وجحودا كقولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣].

[٩٧٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) [غافر : ٨٠] ولم يقل : وفي الفلك تحملون ، كما قال تعالى : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [هود : ٤٠]؟

قلنا : معنى الوعاء ومعنى الاستعلاء كلاهما صحيح في الفلك ؛ لأنه وعاء لمن يكون فيه وحمولة لمن يستعليه ، فلما صح المعنيان استقامت العبارتان معا.

٢٨٣

سورة فصلت

[٩٧١] فإن قيل : ما فائدة زيادة «من» في قوله تعالى : (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥] مع أن المعنى حاصل بقوله تعالى : (بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥]؟

قلنا : لو قيل كذلك لكان المعنى أن حجابا حاصل وسط الجهتين ، وأما بزيادة من فمعناه أن الحجاب ابتداؤه منا ومنك ، فالمسافة المتوسطة بيننا وبينك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها.

[٩٧٢] فإن قيل : قوله تعالى : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ٩] إلى قوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ١٢] يدل على أن السموات والأرض وما بينهما خلقت في ثمانية أيام. وقال تعالى في سورة الفرقان : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [الفرقان : ٥٩] فكيف التوفيق بينهما؟

قلنا : معنى قوله تعالى : (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) [فصلت : ١٠] في تتمة أربعة أيام ، لأنّ اليومين اللذين خلق فيهما الأرض من جملة الأربعة ، أو معناه كل ذلك في أربعة أيام يعني خلق الأرض وما ذكر بعدها فصار المجموع ستة ، وهذا لا اختلاف فيه بين المفسرين.

[٩٧٣] فإن قيل : السموات وما فيها أعظم من الأرض وما فيها بأضعاف مضاعفة فما الحكمة في أن الله خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام ، والسموات وما فيها في يومين؟

قلنا : لأن السموات وما فيها من عالم الغيب ومن عالم الملكوت ومن عالم الأمر ؛ والأرض وما فيها من عالم الشهادة والملك. وخلق الأول أسرع من الثاني ، ووجه آخر وهو أنه فعل ذلك ليعلم أن الخلق على سبيل التدريج والتمهيل في الأرض وما فيها لم يكن للعجز عن خلقها دفعة واحدة ؛ بل كان لمصالح لا تحصل إلا بذلك ، ولهذه الحكمة خلق العالم الأكبر في ستة أيام ، والعالم الأصغر وهو الإنسان في ستة أشهر.

[٩٧٤] فإن قيل : كيف قال تعالى ، في وصف أهل النار : (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ

٢٨٤

مَثْوىً لَهُمْ) [فصلت : ٢٤] مع أنهم إن لم يصبروا على عذاب النار وجزعوا فالنار مثوى لهم أيضا؟

قلنا : فيه إضمار تقديره : فإن يصبروا أو لا يصبروا فالنار مثوى لهم. على كل حال ، ولا ينفعهم الصبر في الآخرة كما ينفع الصبر في الدنيا ، ولهذا قيل الصبر مفتاح الفرج ، وقيل من صبر ظفر.

الثاني : أن هذا جواب لقول المشركين في حث بعضهم لبعض على إدامة عبادة الأصنام (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) [ص : ٨٦] فقال الله تعالى فإن يصبروا على عبادة الأصنام في الدنيا فالنار مثوى لهم في العقبى.

[٩٧٥] فإن قيل : كيف قال تعالى في وصف الكفار : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) [فصلت : ٢٧] أي بأسوإ أعمالهم ، مع أنهم يجزون بسيّئ أعمالهم أيضا؟

قلنا : قد سبق نظير هذا السؤال في آخر سورة التوبة ، والجواب الأول هناك يصلح جوابا هنا.

[٩٧٦] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَلا لِلْقَمَرِ) [فصلت : ٣٧] بعد قوله تعالى : (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ) [فصلت : ٣٧] وهو مستفاد من الأول بالطريق الأولى؟

قلنا : فائدته ثبوت الحكم بأقوى الدليلين وهو النص ، والله أعلم.

٢٨٥

سورة الشورى

[٩٧٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) [الشورى : ٣] بلفظ المضارع ، والوحي إلى من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ماض؟

قلنا : قال الزمخشري : قصد بلفظ المضارع كون ذلك عادة وسنة لله تعالى ، وهذا لا يوجد في لفظ الماضي. قلت : ويحتمل أن يكون باعتبار وضع المضارع موضع الماضي ، كما في قوله تعالى : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ) [الجاثية : ٢٦] ، أو بإضمار وأوحى إلى الذين من قبلك.

[٩٧٨] فإن قيل : إلى ما ذا يرجع الضمير في قوله تعالى : (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) [الشورى : ١١] ، أي يكثركم ، وقيل يخلقكم ، وقيل يعيشكم فيه؟

قلنا : معناه في هذا التدبير أو في الجعل المذكور ، وقيل في الرّحم الذي دل عليه ذكر الأزواج.

[٩٧٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] وظاهره يقتضي إثبات المثل ونفي مثل المثل ، كما يقال : ليس كدار زيد دار. فإنه يقتضي وجود الدار لزيد؟

قلنا : فيه وجوه :

أحدها : أن المثل في لغة العرب كناية عن الذات ، ومنه قولهم : مثلي لا يقال له كذا ، ومثلك لا يليق به كذا ، فمعناه ليس كهو شيء.

الثاني : أن الكاف زائدة للتأكيد ، والمعنى ليس كمثله شيء.

الثالث : أن مثل زائدة ، فيصير المعنى ليس كهو شيء كما مر في الوجه الأول ، والفرق بين الوجهين أن المثل في الوجه الأول كناية عن الذات ، وفي الوجه الثالث زائد مطروح كأنه لم يذكر.

[٩٨٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣] ولم يقل إلا مودة القربى : أي القرابة ، أو إلا المودة للقربى.

قلنا : جعلوا محلّا للمودة ومقرا لها للمبالغة ، كأنه قال : إلا المودة الثابتة المستقرة في القربى ، كما يقال ، في آل فلان مودة ، ولي فيهم هوى وحب شديد.

٢٨٦

[٩٨١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) [الشورى : ٢٩] والدواب إنما هي في الأرض فقط؟

قلنا : فيهما بمعنى فيها ، باعتبار إطلاق لفظ التثنية على المفرد كما في قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٥٥] وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح. وقيل : إن الملائكة لهم دبيب مع طيرانهم أيضا وهم مبثوثون في السماء ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٣٨] فتقييده بالأرض يدل على وجود الدابة في غير الأرض من حيث المفهوم.

[٩٨٢] فإن قيل : كيف قدم سبحانه وتعالى الإناث على الذكور في قوله تعالى : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) [الشورى : ٤٩] مع تقدمهم عليهن ، ثم رجع فقدمهم عليهن ، ولم نكر الإناث وعرف الذكور؟

قلنا : إنما قدم الإناث لأن الآية إنما سيقت لبيان عظمة ملكه ونفاذ مشيئته ، وأنه فاعل ما يشاء لا ما يشاء عبيده ، فكان ذكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه عبيده أهم ، والأهم واجب التقديم ، فلما قدمهن وأخر الذكور لذلك المعنى تدارك تأخيرهم ، وهم أحقاء بالتقديم بتعريفهم ؛ لأن التعريف تنويه وتشهير ، كأنه قال : ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المشهورين الذين لا يخفون على أحد ، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير ، فعرف أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن ولكن لمقتض آخر فقال تعالى : (ذُكْراناً وَإِناثاً) [الشورى : ٥٠] كما قال تعالى : (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) [الحجرات : ١٣] وقال : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [القيامة : ٣٩].

[٩٨٣] فإن قيل : قوله : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الشورى : ٥١] الآية ؛ كيف يقال إن الله تعالى كلم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج مواجهة بغير حجاب ولا واسطة ، وقد خص الله تعالى تكليمه للبشر في طريق الوحي وهو الإلهام ، كما كلم أم موسى ، والإسماع من وراء حجاب كما كلم موسى عليه‌السلام ، وإرسال الرسول كما كلم الأنبياء بواسطة جبريل عليه‌السلام ، وكما كلم الأمم بواسطة الرسل؟

قلنا : قيل المراد بالوحي الأول هنا الإشارة ، ومنه قولهم وحي العين ووحي الحاجب ، أي إشارتهما ، ومنه قوله تعالى : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا) [مريم : ١١] فتكليمه لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج كان مواجهة بالإشارة.

[٩٨٤] فإن قيل : قوله تعالى : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢] كيف كان لا يعلم الإيمان قبل أن يوحى إليه ، والإيمان هو التصديق بوجود

٢٨٧

الصانع وتوحيده ، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم كانوا مؤمنين بالله قبل أن يوحى إليهم بأدلة عقولهم؟

قلنا : المراد بالإيمان هنا شرائع الإيمان وأحكامه ، كالصّلاة والصوم ونحوهما. وقيل المراد به الكلمة التي بها دعوة الإيمان والتّوحيد وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله ، والإيمان بهذا التفسير إنّما علمه بالوحي كما علم الكتاب وهو القرآن لا بالعقل.

٢٨٨

سورة الزخرف

[٩٨٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الزخرف : ٣] ولم يقل قلناه أو أنزلناه ، والقرآن ليس بمجعول ، لأن الجعل هو الخلق ، ومنه قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] وقوله تعالى : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [القيامة : ٣٩]؟

قلنا : الجعل أيضا يأتي بمعنى القول ، ومنه قوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) [النحل : ٥٧] وقوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [إبراهيم : ٣٠] أي قالوا ووصفوا ، لا أنهم خلقوا كذلك هنا.

[٩٨٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) [الزخرف : ٤٥] والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لقيهم حتى يسألهم؟

قلنا : فيه إضمار تقديره : واسأل أتباع من ، أو أمة من أرسلنا من قبلك.

الثاني : أنه مجاز عن النظر في أديانهم والبحث عن مللهم هل فيها ذلك.

الثالث : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حشر له الأنبياء عليهم‌السلام ليلة المعراج ، فلقيهم وأمّهم في مسجد بيت المقدس ، فلما فرغ من الصلاة نزلت عليه هذه الآية والأنبياء حاضرون ، فقال : لا أسأل قد كفيت ، وقيل إنه خطاب له والمراد به أمته.

[٩٨٧] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) [الزخرف : ٤٨] يعني الآيات التسع التي جاء بها موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن كان المراد به أن كل واحدة منهن أكبر ممّا سواها لزم أن يكون كل واحدة فاضلة ومفضولة. وإن كان المراد به أن كل واحدة منهن أكبر من أخت معينة لها فأيتها هي الكبرى ، وأيتها هي الصغرى؟

قلنا : المراد بذلك أنهن موصوفات بالكبرى لا يكدن يتفاوتن فيه ، ونظيره بيت الحماسة :

من تلق منهم تقل لاقيت سيّدهم

مثل النجوم التي يسري بها الساري

__________________

[٩٨٧] البيت من جملة أبيات تنسب لأحد بني أبي بكر بن كلاب ، يقال له : العرندس ، وهو في الحماسة لأبي تمّام : ٢ / ٢٦٨.

٢٨٩

[٩٨٨] فإن قيل : كيف قال عيسى عليه‌السلام لأمته : (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) [الزخرف : ٦٣]؟

قلنا : كانوا يختلفون فيما يعنيهم من أمر الديانات وفيما لا يعنيهم من أمور أخرى ، فكان يبين لهم الشرائع والأحكام خاصة ، وقيل : إن البعض هنا بمعنى الكل كما سبق في سورة المؤمن في قوله تعالى : (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) [غافر : ٢٨].

[٩٨٩] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بعد قوله : (بَغْتَةً) [الزخرف : ٦٦] أي فجأة.

قلنا : فائدته أنها تأتيهم وهم غافلون مشغولون بأمور دنياهم ، كما قال تعالى : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) [يس : ٤٩] فلولا قوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) جاز أن تأتيهم بغتة وهم فطنون حذرون مستعدون لها.

[٩٩٠] فإن قيل : كيف وصف أهل النار فيها بكونهم مبلسين ، والمبلس هو الآيس من الرحمة والفرج ، ثم قال تعالى : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) [الزخرف : ٧٧] فطلبوا الفرج بالموت؟

قلنا : تلك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة فتختلف فيها أحوالهم ، فيغلب عليهم اليأس تارة فيسكنون ، ويشتد ما بهم من ألم العذاب تارة فيستغيثون.

[٩٩١] فإن قيل : قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف : ٨٤] ظاهره يقتضي تعدد الآلهة ، لأن النكرة إذا أعيدت تعددت كقوله : له عليّ درهم ودرهم ، وأنت طالق وطالق ، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما لن يغلب عسر يسرين؟

قلنا : الإله هنا بمعنى المعبود بالنقل ، كما في قوله تعالى : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٣] فصار المعنى : وهو الذي في السماء معبود وفي الأرض معبود ، والمغايرة ثابتة بين معبوديته في السماء ومعبوديته في الأرض ؛ لأن العبودية من الأمور الإضافية فيكفي في تغايرهما التغاير من أحد الطرفين فإذا كان العابد في السماء غير العابد في الأرض صدق أن معبوديته في السماء غير معبوديته في الأرض ، مع أن المعبود واحد.

٢٩٠

سورة الدخان

[٩٩٢] فإن قيل : الخلاف بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنكري البعث إنما كان في الحياة بعد الموت لا في الموت ، فكيف قال تبارك وتعالى : (إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) [الدخان : ٣٤ ، ٣٥] ولم يقل إلا حياتنا ، كما قال تعالى في موضع آخر (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) [الأنعام : ٢٩] وما معنى وصف الموتة بالأولى ، كأنهم وعدوا موتة أخرى حتى نفوها وجحدوها وأثبتوا الموتة الأولى؟

قلنا : لما وعدوا موتة تكون بعدها حياة نفوا ذلك ، كأنهم قالوا لا تقع في الوجود موتة تكون بعدها حياة إلا ما كنا فيه من موتة العدم وبعثنا منه إلى حياة الوجود. وقيل : إنهم نفوا بذلك الموتة الثانية في القبر بعد إحيائهم لسؤال منكر ونكير.

[٩٩٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) [الدخان : ٨٤] والعذاب لا يصب ، وإنما يصب الحميم كما قال في موضع آخر (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) [الحج : ١٩] قلنا : هو استعارة ليكون الوعد أهول وأهيب ، ونظيره قوله تعالى : (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) [الفجر : ١٣] وقوله تعالى : (أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) [البقرة : ٢٥٠] ، وقول الشاعر :

صبّت عليهم صروف الدّهر من صبب

[٩٩٤] فإن قيل : كيف وعد الله أهل الجنة بلبس الإستبرق وهو غليظ الديباج في قوله تعالى : (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) [الدخان : ٥٣] مع أن لبس الغليظ من الديباج عند السعداء من أهل الدنيا عيب ونقص؟

قلنا : كما أن رقيق ديباج الجنة وهو السندس لا يماثل رقيق ديباج الدنيا إلا في الاسم فقط ، فكذلك غليظ ديباج الجنة. وقيل السندس لباس السادة من أهل الجنة ، والإستبرق لباس العبيد والخدم إظهارا لتفاوت المراتب.

[٩٩٥] فإن قيل : كيف قال تعالى ، في وصف أهل الجنة : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦] مع أن الموتة الأولى لم يذوقوها في الجنة؟

٢٩١

قلنا : قال الزّجاج والفرّاء : إلّا هنا بمعنى سوى ، كما في قوله تعالى : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) [النساء : ٢٢] ، وقوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) [هود : ١٠٧].

الثاني : أن إلا بمعنى بعد كما قال بعضهم في قوله تعالى : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) [النساء : ٢٢].

الثالث : أن السعداء إذا حضرتهم الوفاة كشف لهم الغطاء وعرضت عليهم منازلهم ومقاماتهم في الجنة ، وتلذذوا في حال النزع بروحها وريحانها ، فكأنهم ماتوا في الجنة ، وهذا قول ابن قتيبة رحمه‌الله.

٢٩٢

سورة الجاثية

[٩٩٦] فإن قيل : كيف طابق الجواب السؤال في قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) [الجاثية : ٢٥ ، ٢٦]؟

قلنا : وجه المطابقة أنهم ألزموا بما هم مقرّون به من أن الله تعالى هو الذي أحياهم أوّلا ثم يميتهم ، ومن كان قادرا على ذلك كان قادرا على جمعهم يوم القيامة ، فيكون قادرا على إحياء آبائهم.

[٩٩٧] فإن قيل : كيف أضاف الكتاب إلى الأمة وإليه في قوله تعالى : (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) [الجاثية : ٢٨] ثم قال : (هذا كِتابُنا) [الجاثية : ٢٩].

قلنا : الإضافة تصح بأدنى ملابسة وقد لابسهم الكتاب بكون أعمالهم مثبتة فيه ، ولابسه بكونه مالكه وكونه آمرا لملائكته أن يكتبوا فيه أعمالهم.

٢٩٣

سورة الأحقاف

[٩٩٨] فإن قيل : كيف قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) [الأحقاف : ١٦] مع أن حسن ما عملوا يتقبل عنهم أيضا.

قلنا : أحسن بمعنى حسن ، وقد سبق نظيره في سورة الروم.

[٩٩٩] فإن قيل : كيف قال تعالى في وصف الفريقين : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) [الأحقاف : ١٩] مع أن أهل النار لهم دركات لا درجات؟

قلنا : الدرجات الطبقات من المراتب مطلقا من غير اختصاص.

الثاني : أن فيه إضمارا تقديره : ولكل فريق درجات أو دركات مما عملوا ؛ إلا أنه حذفه اختصارا لدلالة المذكور عليه.

[١٠٠٠] فإن قيل : كيف طابق الجواب السؤال في قوله تعالى : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) [الأحقاف : ٢٢ ، ٢٣]؟

قلنا : طابقه من حيث أن قولهم ذلك استعجال للعذاب الذي توعدهم به بدليل قوله تعالى بعده (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) [الأحقاف : ٢٤] فقال لهم لا علم لي بوقت تعذيبكم ؛ بل الله تعالى هو العالم به وحده.

[١٠٠١] فإن قيل : كيف قال تعالى ، في وصف الريح : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) [الأحقاف : ٢٥] وكم من شيء لم تدمره؟

قلنا : معناه تدمر كل شيء مرّت به من أموال قوم عاد وأملاكهم.

[١٠٠٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [الأحقاف : ٣١] ولم يقل يغفر لكم ذنوبكم؟

قلنا : لأن من الذنوب ما لا يغفر بالإيمان كمظالم العباد ونحوها.

٢٩٤

سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

[١٠٠٣] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) [محمد : ٣] ، ولم يسبق ضرب مثل؟

قلنا : معناه كذلك يبين الله للناس أمثال حسنات المؤمنين وسيئات الكافرين ، وقيل أراد به أنه جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار ، واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين ، أو أنه جعل الإضلال مثلا لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثلا لفوز المؤمنين.

[١٠٠٤] فإن قيل : كيف قال تعالى في حقّ الشهداء بعد ما قتلوا في سبيل الله (سَيَهْدِيهِمْ) [محمد : ٥] والهداية إنما تكون قبل الموت لا بعد؟

قلنا : معناه سيهديهم إلى محاجة منكر ونكير. وقيل : سيهديهم يوم القيامة إلى طريق الجنة.

[١٠٠٥] فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ) [محمد : ١٥] إلى قوله تعالى : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) [محمد : ١٥]؟

قلنا : قال الفراء : معناه أمن كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار. وقال غيره تقديره : مثل الجنة الموصوفة كمثل جزاء من هو خالد في النار ، فحذف منه ذلك إيجازا واختصارا.

[١٠٠٦] فإن قيل : كيف قال تبارك وتعالى للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمد : ١٩] ، وهو عالم بذلك قبل أن يوحى إليه وبعده؟

قلنا : معناه أثبت على ذلك العلم. وقال الزّجّاج : الخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد أمته ، كما ذكرنا في أول سورة الأحزاب.

٢٩٥

سورة الفتح

[١٠٠٧] فإن قيل : كيف جعل فتح مكّة علة للمغفرة ، فقال تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) [الفتح : ١ ، ٢] الآية.

قلنا : لم يجعله علة للمغفرة ؛ بل لاجتماع ما وعده من الأمور الأربعة ، وهي المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز ، وقبل الفتح لم يكن إتمام النعمة والنصر العزيز حاصلا ، وإن كان الباقي حاصلا. ويجوز أن يكون فتح مكّة سببا للمغفرة ، من حيث أنّه جهاد للعدو.

[١٠٠٨] فإن قيل : قوله تعالى : (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢] ، إن كان المراد بما تأخر ذنبا يتأخر وجوده عن الخطاب بهذه الآية فهو معدوم عند نزولها ، فكيف يغفر الذنب المعدوم ، وإن كان المراد به ذنبا وجد قبل نزولها فهو متقدم فكيف سماه متأخرا.

قلنا : المراد بما تقدم قصة مارية ، وبما تأخر قصة امرأة زيد. وقيل : المراد بما تقدم ما وجد منه ، وبما تأخر ما لم يوجد منه على معنى أنه موعود بمغفرته على تقدير وجوده ، أو على طريق المبالغة كقولهم : فلان يضرب من يلقاه ومن لا يلقاه ؛ بمعنى يضرب كل أحد ، فكذا هنا معناه ليغفر لك الله كل ذنب : فالحاصل أن الذنب المتأخر متقدم على نزول الآية ، وإن كان متأخرا بالنسبة إلى شيء آخر قبله أو متأخرا عن نزولها وهو موعود بمغفرته ، أو على طريق المبالغة كما بينا.

[١٠٠٩] فإن قيل : ما معنى قوله : (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) [الفتح : ٢] وهو مهدي إلى الصراط المستقيم ، ومهدي به أمته أيضا؟

قلنا : معناه ويزيدك هدى ، وقيل : ويثبتك على الهدى ، وقيل : معناه ويهديك صراطا مستقيما في كل أمر تحاوله.

[١٠١٠] فإن قيل : كيف يقال إن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان وقد قال الله تعالى : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) [الفتح : ٤]؟

قلنا : الإيمان الذي يقال إنه لا يقبل الزيادة والنقصان هو الإقرار بوجود الله تعالى ، كما أن إلهيته لا تقبل الزيادة والنقصان ، فأما الإيمان بمعنى الأمن أو اليقين أو التصديق فإنه

٢٩٦

يقبلهما ، وهو في الآية بمعنى التصديق ؛ لأنهم بسبب السكينة التي هي الطمأنينة وبرد اليقين كلما نزلت فريضة وشريعة صدقوا بها فازدادوا تصديقا مع تصديقهم.

[١٠١١] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَأَهْلَها) [الفتح : ٢٦] بعد قوله : (وَكانُوا أَحَقَّ بِها) [الفتح : ٢٦]؟

قلنا : الضمير في بها لكلمة التوحيد ، وفي أهلها للتقوى فلا تكرار.

[١٠١٢] فإن قيل : ما وجه تعليق الدخول بمشيئة الله تعالى في إخباره سبحانه وتعالى ؛ حتى قال : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ) [الفتح : ٢٧]؟

قلنا : فيه وجوه :

أحدها : أن «إن» بمعنى إذ ، كما في قوله تعالى : (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٢٧٨].

الثاني : أنه استثناء من الله تعالى فيما يعلم تعليما لعباده أن يستثنوا فيما لا يعلمون.

الثالث : أنه على سبيل الحكاية لرؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنّه رأى أنّ قائلا يقول له : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [الفتح : ٢٧].

الرابع : أنّ الاستثناء متعلق بقوله تعالى : (آمِنِينَ) [الفتح : ٢٧] فأما الدخول فليس فيه تعليق.

[١٠١٣] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (لا تَخافُونَ) [الفتح : ٢٧] بعد قوله : (آمِنِينَ)؟

قلنا : معناه آمنين في حال الدّخول لا تخافون عدوكم أن يخرجكم منه في المستقبل.

[١٠١٤] فإن قيل : قوله تعالى : (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) [الفتح : ٢٩] تعليل لما ذا؟

قلنا : لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وقوتهم كأنه قال : إنما كثّرهم وقوّاهم ليغيظ بهم الكفار.

[١٠١٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [الفتح : ٢٩] وكل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم موصوفون بالإيمان والعمل الصالح وبغيرهما من الصفات الحميدة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية فما معنى التبعيض هنا؟

قلنا : من هنا لبيان الجنس لا التبعيض كما في قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠].

٢٩٧

سورة الحجرات

[١٠١٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات : ١] والمراد به نهيهم أن يتقدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقول أو فعل ، لا أن يقدموا غيرهم؟

قلنا : قدم هنا لازم بمعنى تقدم كما في قولهم بين وتبين ، وفكر وتفكر ، ووقف وتوقف ، ومنه قول الشاعر :

إذا نحن سرنا سارت الناس خلفنا

وإن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا

أي توقفوا ، وقيل معناه : لا تقدموا فعلا قبل أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[١٠١٧] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) [الحجرات : ٢] ، بعد قوله : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) [الحجرات : ٢].

قلنا : فائدته تحريم الجهر في مخاطبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم باسمه نحو قولهم يا محمد ويا أحمد ، فهو أمر لهم بتوقيره وتعظيمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المخاطبة ، وأن يقولوا يا رسول الله ويا نبي الله ونحو ذلك ، ونظيره قوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) [النور : ٦٣].

[١٠١٨] فإن قيل : كيف قال : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) [الحجرات : ٢] ، أي مخافة أن تحبط أعمالكم ؛ مع أن الأعمال إنما تحبط بالكفر لا بغيره من المعاصي ، ورفع الصوت في مجلس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بكفر ؛ كيف وقد روي أنّ الآية نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لما رفعا أصواتهما بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان جهوري الصوت ، فربما تأذى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصوته؟

قلنا : معناه لا تستخفوا به ، فإن الاستخفاف به ربما أدى خطؤه إلى عمده ، وعمده كفر يحبط العمل. وقيل : حبوط العمل مجاز عن نقصان المنزلة وانحطاط المرتبة.

[١٠١٩] فإن قيل : ما وجه الارتباط والتعلق بين قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) [الحجرات : ٧] وبين ما قبله؟

__________________

[١٠١٦] البيت لجميل بثينة وهو في ديوانه. وقد أغار عليه الفرزدق.

٢٩٨

قلنا : معناه فاتركوا عبادة الجاهلية فإن الله تعالى لم يترككم عليها ، ولكن الله حبب إليكم الإيمان. وقيل : معناه فتثبتوا في الأمور كما يليق بالإيمان ، فإن الله حبب إليكم الإيمان.

[١٠٢٠] فإن قيل : إن كان الفسوق والعصيان بمعنى واحد ، فما فائدة الجمع بينهما ، وإن كان العصيان أعم من الفسوق فذكره مغن عن ذكر الفسوق لدخوله فيه فما فائدة الجمع بينهما؟

قلنا : قال ابن عباس رضي الله عنهما المراد بالفسوق هنا الكذب ، وبالعصيان بقية المعاصي ، وإنما أفرد الكذب بالذكر ، لأنه سبب نزول الآية.

[١٠٢١] فإن قيل : كيف يقال إن الإيمان والإسلام بمعنى واحد ، والله سبحانه وتعالى يقول : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : ١٤].

قلنا : المنفي هنا الإيمان بالقلب بدليل قوله تعالى : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤] يعني لم تصدقوا بقلوبكم (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) أي استسلمنا وانقدنا خوف السيف ، ولا شك في الفرق بين الإيمان والإسلام بهذا التفسير ، والذي يدعي اتحادهما لا يريد به أنهما حيث استعملا كانا بمعنى واحد ؛ بل يريد به أن أحد معاني الإيمان هو الإسلام.

[١٠٢٢] فإن قيل : كيف يقال إن العمل ليس من الإيمان ، والله تعالى يقول : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا) [الحجرات : ١٥] الآية؟

قلنا : معناه إنما المؤمنون إيمانا كاملا كما في قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المسلم من سلّم المسلمون من لسانه ويده».

وقولهم : الرّجل من يصبر على الشدائد. ويرد على هذا الجواب أن المنفي في أول الآية عن الأعراب نفس الإيمان الكامل ، فلا يناسب أن يكون المثبت بعد ذلك الإيمان الكامل ؛ بل نفس الإيمان.

٢٩٩

سورة ق

[١٠٢٣] فإن قيل : أين جواب القسم في قوله تعالى : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) [ق : ١]؟

قلنا : فيه وجوه :

أحدها : أنه مضمر تقديره : إنهم مبعوثون بعد الموت.

الثاني : أن قوله تعالى : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) [ق : ٤] واللام محذوفة لطول الكلام تقديره : لقد علمنا كما في قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) [الشمس : ٩].

الثالث : أنه قوله تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) [ق : ١٨].

[١٠٢٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) [ق : ٩] وأراد به الحب الحصيد فأضاف الشيء إلى نفسه والإضافة تقتضي المغايرة بين المضاف والمضاف إليه؟

قلنا : معناه وحب الزرع الحصيد أو النبات الحصيد.

الثاني : أنّ إضافة الشيء إلى نفسه جائزة عند اختلاف اللفظين ، كما في قوله تعالى : (حَقُّ الْيَقِينِ) [الواقعة : ٩٥] و (حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦] ودار الآخرة و (وَعْدَ الصِّدْقِ) [الأحقاف : ١٦].

[١٠٢٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) [ق : ١٧] ، ولم يقل قعيدان ، وهو وصف للملكين اللذين سبق ذكرهما بقوله تعالى : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) [ق : ١٧]؟

قلنا : معناه عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ؛ إلا أنه حذف أحدهما لدلالة المذكور عليه كما قال الشاعر :

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرّأي مختلف

__________________

[١٠٢٥] المعروف أن البيت لقيس بن الخطيم ، وهو في ديوانه : ١١٥. وفي كتاب سيبويه ١ / ٣٧ نسبته إلى قيس هذا ، وكذلك في خزانة الأدب : ١٠ / ٢٩٥.

وينسب أيضا إلى عمرو بن امرئ القيس الخزرجي.

ـ البيت الثاني لابن أحمر وهو في ديوانه ١٨٧. وينسب إلى الأزرق بن طرفة. ويروى أيضا : «ومن جول» بدل «ومن أجل». والجول : جدار البئر. والطّوي : البئر. فيكون المعنى على ذلك : أن ما رماني به يرتد إليه ؛ لأنه رماني وهو في أسفل البئر. أما على الرّواية المشهورة فالمعنى واضح ، أي أنه من أجل الخصام الذي بيني وبينه في البئر ، رماني بالباطل.

٣٠٠