أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها

محمّد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي

أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-026-9
الصفحات: ٤٠٨

بالمصباح : وهو الضوء أو الفتيلة في الزجاجة ، والزجاجة في الكوة التي لا منفذ لها ، وهذا التمثيل لا يستقيم إلا فيما ذكر.

الثاني : أن نور المعرفة له آلات يتوقف على اجتماعها كالذهن والفهم والعقل واليقظة وانشراح القلب وغير ذلك من الخصال الحميدة ، كما أن نور القنديل يتوقف على اجتماع القنديل والزيت والفتيلة ، وغير ذلك.

الثالث : أن نور الشمس يشرق متوجها إلى العالم السفلي لا إلى العالم العلوي ، ونور المعرفة يشرق متوجها إلى العالم العلوي كنور المصباح.

الرابع : أن نور الشمس لا يشرق إلا بالنهار ونور المعرفة يشرق بالليل والنهار كنور المصباح.

الخامس : أن نور الشمس يعم جميع الخلائق ، ونور المعرفة لا يصل إليه إلا بعضهم كنور المصباح الموصوف.

[٧٤١] فإن قيل : إنه تعالى لم يمثله بنور الشمس لما ذكرتم فكيف لم يمثله بنور الشمع مع أنه أتم وأكمل وأشرق من نور المصباح؟

قلنا : إنما لم يمثله بنور الشمع لأن في الشمع غشا لا محالة بخلاف الزيت الموصوف ، ولو مثله تعالى بنور الشمع لتطاول المنافق المغشوش إلى استحقاق نصيب في المعرفة.

الثاني : أنه تعالى إنما لم يمثله بنور الشمع لأنه مخصوص بالأغنياء ، بخلاف نور المعرفة فإنه في الفقراء أغلب.

[٧٤٢] فإن قيل : التجارة تشمل الشراء والبيع ، فما فائدة عطف البيع عليها في قوله تعالى : (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) [النور : ٣٧].

قلنا : التجارة هي الشراء والبيع الذي يكون صناعة للإنسان مقصودا به الربح ، وهو حرفة الشخص الذي يسمى تاجرا ، والبيع أعم من ذلك. وقيل : المراد بالتجارة هنا مبادلة الآخرة بالدنيا ، كما في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦] والمراد بالبيع مبادلة الدين بالدنيا كما في قوله تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) [الجمعة : ٩]. وقيل : إنما عطف البيع على التجارة لأنه أراد بالتجارة الشراء إطلاقا لاسم الجنس على النوع. وقيل : إنما عطف عليها للتخصيص والتمييز من حيث أنه أبلغ في الإلهاء ؛ لأن البيع الرابح يعقبه حصول الربح ، بخلاف الشراء الرابح فإن الربح فيه مظنون مع كونه مترقبا منتظرا. وقيل : التجارة مخصوصة بأهل الجلب بخلاف البيع.

٢٢١

[٧٤٣] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) [النور : ٤٥] وبعض الدواب ليس مخلوقا من الماء كآدم عليه‌السلام وناقة صالح وغيرهما؟

قلنا : المراد بهذا الماء : الماء الذي هو أصل جميع المخلوقات ، وذلك أن الله تعالى خلق قبل خلق الإنسان جوهرة ونظر إليها نظر هيبة فاستحالت ماء ، فخلق من ذلك الماء جميع الموجودات ، وقد سبق مثل هذا السؤال في قوله تعالى : (مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا) [الأنبياء : ٣٠].

[٧٤٤] فإن قيل : إذا كان الجواب هذا فما فائدة تخصيص الدابة بالذكر أو تخصيص الشيء الحي؟

قلنا : إنما خص الدابة بالذكر ؛ لأن القدرة فيه أظهر وأعجب منها في الجماد وغيره.

[٧٤٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) وقال تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) [النور : ٤٥] وهي مما لا يعقل؟

قلنا : لما كان اسم الدابة يتناول المميّز وغيره غلب المميّز على غيره فأجرى عليه لفظه.

[٧٤٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) [النور : ٤٥] وذلك إنما يسمى زحفا لا مشيا ، ولا يسمى مشيا إلا ما كان بالقوائم.

قلنا : هو مجاز بطريق المشابهة ، كما يقال : مشى هذا الأمر ، وفلان لا يتمشى له أمر ، وفلان ماشي الحال.

[٧٤٧] فإن قيل : كيف أمر الله تعالى بالاستئذان للأطفال الذين لم يبلغوا الحلم بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) [النور : ٥٨] أي من الأحرار؟

قلنا : هو في المعنى أمر للآباء والأمهات بتأديب الأطفال وتهذيبهم لا للأطفال.

[٧٤٨] فإن قيل : كيف أباح تعالى للقواعد من النساء وهن العجائز التجرد من الثياب بحضرة الرجال بقوله تعالى : (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ) [النور : ٦٠] الآية.

قلنا : المراد بالثياب هنا الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار لا جميع الثياب ، وقوله تعالى : (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) [النور : ٦٠] أي غير قاصدات بوضع الثياب الظاهرة إظهار زينتهن ومحاسنهن ؛ بل التخفيف ، ثم أعقبه بأن التعفف بترك الوضع خير لهن.

[٧٤٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ)

__________________

[٧٤٩] الحديث مروي عن عائشة. أخرجه أبو داود برقم ٣٥٣٠ ، وابن ماجة برقم ٢٢٩٢ ، وأحمد : ٦ / ٣١.

٢٢٢

[النور : ٦١] مع أن انتفاء الحرج عن أكل الإنسان من بيته معلوم لا شك فيه ولا شبهة؟

قلنا : المراد بقوله تعالى : (مِنْ بُيُوتِكُمْ) [النور : ٦١] أي من بيوت أولادكم ، لأن ولد الرجل بعضه وحكمه حكم نفسه ، فلهذا عبر عنه به ، وفي الحديث : «إنّ أطيب ما يأكل الرّجل من كسبه ، وإنّ ولده من كسبه». ويؤيد ذلك أنه ذكر بيوت جميع الأقارب ولم يذكر بيوت الأولاد. وقيل : المراد بقوله تعالى : (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) [النور : ٦١] ، أي من مال أولادكم وأزواجكم الذين هم في بيوتكم ومن جملة عيالكم. وقيل : المراد بقوله تعالى : (مِنْ بُيُوتِكُمْ) [النور : ٦١] البيوت التي يسكنونها وهم فيها عيال لغيرهم ، كبيت ولد الرجل وزوجته وخادمه ونحو ذلك.

[٧٥٠] فإن قيل : معنى السلام هو السلامة والأمن ، فإذا قال الرجل لغيره السلام عليك ؛ كان معناه سلمت مني وأمنت ، فما معنى قوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ)؟ [النور : ٦١].

قلنا : المراد به فإذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أهلكم وعيالكم. وقيل : معناه إذا دخلتم المساجد أو بيوتا ليس فيها أحد فقولوا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، يعني من ربنا.

[٧٥١] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) [النور : ٦٣] وإنما يقال خالف أمره؟

قلنا : «عن» زائدة ؛ كذا قاله الأخفش.

الثاني : أن فيه إضمارا تقديره : فليحذر الذين يخالفون الله تعالى ويعرضون عن أمره ، أو ضمّن المخالفة معنى الإعراض فعدي تعديته.

٢٢٣

سورة الفرقان

[٧٥٢] فإن قيل : الخلق هو التقدير ؛ ومنه قوله تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) [المائدة : ١١٠] ، أي تقدر ؛ فما معنى قوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان : ٢] ؛ فكأنّه تعالى قال : وقدر كل شيء فقدره تقديرا؟

قلنا : الخلق سن الله تعالى بمعنى الإيجاد والإحداث ، فمعناه : وأوجد كل شيء مقدرا مسوى مهيأ لما يصلح له ، لا زائدا على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ؛ ولا ناقصا عن ذلك.

الثاني : أن معناه : وقدر له ما يقيمه ويصلحه ؛ أو قدر له رزقا وأجلا وأحوالا تجري عليه.

[٧٥٣] فإن قيل : كيف قال تعالى في وصف الجنة : (الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً) [الفرقان : ١٥] وهي ما كانت بعد وإنما تكون كذلك بعد الحشر والنشر؟

قلنا : إنما قال كانت لأن ما وعده الله تعالى فهو في تحققه كأنه قد كان ؛ أو معناه كانت في علم الله مكتوبة في اللوح المحفوظ أنها جزاؤهم ومصيرهم.

[٧٥٤] فإن قيل : ما فائدة تأخير الهوى في قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الفرقان : ٤٣] والأصل اتخذ الهوى إلها كما تقول : اتخذ الصنم معبودا؟

قلنا : هو من باب تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية به ، كما تقول علمت منطلقا زيدا ، لفضل عنايتك بانطلاقه.

[٧٥٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ)؟ [الفرقان : ٤٤].

قلنا : قد مر مثل هذا السؤال وجوابه في قوله تعالى : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) [المؤمنون : ٧٠].

[٧٥٦] فإن قيل : كيف شبههم سبحانه وتعالى بالأنعام في الضلال بقوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) [الفرقان : ٤٤] مع أن الأنعام تعرف الله سبحانه وتعالى وتسبحه بدليل قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤] وقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)؟ [الجمعة : ١].

٢٢٤

قلنا : المراد تشبيههم بالأنعام في الضلال عن فهم الحق ومعرفة الله تعالى بواسطة دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الثاني : أن المراد تشبيههم في الضلال والعمى عن أمر الدين بالأنعام في ضلالها وعماها عن أمر الدين.

[٧٥٧] فإن قيل : إن كانوا كالأنعام في الضلال ؛ فكيف قال تعالى : (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان : ٤٤] وإن كانوا أضل من الأنعام فكيف قال تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) [الفرقان : ٤٤] وإن كانوا كالأنعام في الضلال وأضل منها أيضا فكيف يجتمع الوصفان؟

قلنا : المراد بقوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) [الفرقان : ٤٤] التشبيه في أصل الضلال لا مقداره.

والثاني : بيان لمقداره. وقيل : المراد بالأول التشبيه في المقدار أيضا ؛ ولكن المراد بالأول طائفة وبالثاني طائفة أخرى ، ووجه كونهم أضل من الأنعام أن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها ، وتعرف من يحسن إليها ممّن يسيء إليها ، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم ، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يتقون العذاب الذي هو أشد المضار والمهالك ، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والعذب الرّوي.

[٧٥٨] فإن قيل : قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) [الفرقان : ٤٨ ، ٤٩] كيف ذكر الصفة والموصوف مؤنث ولم يؤنثها كما أنثها في قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) [يس : ٣٣].

قلنا : إنما ذكرها نظرا إلى معنى البلدة وهو البلد والمكان لا إلى لفظها.

[٧٥٩] فإن قيل : قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) [الفرقان : ٤٨ ، ٤٩] ، فإنزاله موصوفا بالطهورية ، وتعليل ذلك بالإحياء والسقي يشعر بأنّ الطهورية شرط في حصول تلك المصلحة ، كما تقول : حملني الأمير على فرس سابق لأصيد عليه الوحش وليس كذلك.

قلنا : وصف الطهورية ذكر إكراما للأناسي الذين شربهم من جملة المصالح التي أنزل لها الماء ، وإتماما للمنة والنعمة عليهم ، لا لكونه شرطا في تحقق تلك المصالح والمنافع ، بخلاف النظير فإنه قصد بكونه سابقا الشرطية ؛ لأن صيد الوحش على الفرس لا يتم إلا بها.

[٧٦٠] فإن قيل : كيف خص تعالى الأنعام بذكر السقي دون غيرها من الحيوان الصامت؟

٢٢٥

قلنا : لأن الوحش والطير تبعد في طلب الماء ولا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام.

الثاني : أن الأنعام قنية الأناسي وعامة منافعهم متعلقة بها ، فكأن الأنعام يسقي الأنعام ، كالأنعام يسقي الأناسي ، فلذلك خصها بالذكر.

[٧٦١] فإن قيل : كيف قدم تعالى إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي؟

قلنا : لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وأنعامهم فقدم ما هو سبب حياتهم ومعاشهم.

الثاني : أن سقي الأرض بماء المطر سابق في الوجود على سقي الأناسي به.

[٧٦٢] فإن قيل : ما وجه صحة الاستثناء في قوله تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)؟ [الفرقان : ٥٧].

قلنا : هو استثناء منقطع تقديره : لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا فأنا أدله على ذلك وأهديه إليه. وقيل تقديره : لكن من شاء أن يتخذ إلى ربّه سبيلا بإنفاق ماله في مرضاته فليفعل ذلك.

[٧٦٣] فإن قيل : كيف قال تعالى هنا (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) [الفرقان : ٥٧] ، أي أجرا ؛ لأن «من» لتأكيد النفي وعمومه. وقال في آية أخرى (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الفرقان : ٢٣] فأثبت سؤال الأجر عليه؟

قلنا : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) [سبأ : ٤٧] رواه مقاتل والضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما. والصحيح الذي عليه المحققون أنها غير منسوخة ؛ بل هو استثناء من غير الجنس تقديره : لكن أذكركم المودة في القربى.

[٧٦٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) [الفرقان : ٧٤] ولم يقل أئمة؟

قلنا : مراعاة لفواصل الآيات ، وقيل تقديره : واجعل كل واحد منا إماما.

[٧٦٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) [الفرقان : ٧٥] وهما بمعنى واحد ويؤيده قوله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب : ٤٤] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تحيّة أهل الجنّة في الجنّة سلام».

__________________

[٧٦٥] الحديث أخرجه أحمد في مسنده : ٤ / ٣٨١.

٢٢٦

قلنا : قال مقاتل : المراد بالتحيّة سلام بعضهم على بعض أو سلام الملائكة عليهم ، والمراد بالسلام أن الله تعالى سلمهم مما يخافون وسلّم إليهم أمرهم.

وقيل : التّحية من الملائكة أو من أهل الجنة ، والسلام من الله تعالى عليهم لقوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨]. وقيل : التحية من الله تعالى لهم بالهدايا والتحف والسلام بالقول. وقيل : التحية الدعاء بالتعمير ، والسلام الدعاء بالسلامة فمعناه أنهم يلقون ذلك من الملائكة أو بعضهم من بعض ، أو يلقون ذلك من الله تعالى ، فيعطون البقاء والخلود مع السلامة من كل آفة.

٢٢٧

سورة الشعراء

[٧٦٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [الشعراء : ٤] والأعناق لا تخضع؟

قلنا : قيل أصل الكلام : فظلوا لها خاضعين فاقتحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع وترك الكلام على أصله ، كقولهم ذهبت أهل اليمامة ، كأنّ الأهل غير المذكور ، ومثله قول الشاعر :

رأت مرّ السنين أخذن منّي

كما أخذ السرار من الهلال

أو لما وصفت الأعناق بالخضوع الذي هو من صفات العقلاء جمعت جمع العقلاء كقوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤]. وقيل : الأعناق رؤساء الناس ومقدموهم شبهوا بالأعناق ، كما قيل لهم الرءوس والنواصي والوجوه.

وقيل : الأعناق الجماعات ؛ يقال : جاءني عنق من الناس ، أي جماعة. وقيل : إن ذلك لمراعاة الفواصل.

[٧٦٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٦] فأفرد ، وقال تعالى في موضع آخر (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) [طه : ٤٧] فثنّى؟

قلنا : الرسول يكون بمعنى المرسل فيلزم تثنيته ، ويكون بمعنى الرسالة التي هي المصدر فيوصف به الواحد والاثنان والجماعة كما يوصف بسائر المصادر ، والدليل على أنه يكون بمعنى الرسالة قول الشاعر :

لقد كذب الواشون ما بحت عندهم

بسرّ ولا أرسلتهم برسول

أي برسالة.

الثاني : أنهما لاتفاقهما في الأخوة والشريعة والرسالة جعلا كنفس واحدة.

الثالث : أن تقديره : إن كل واحد منا رسول رب العالمين.

الرابع : أن موسى عليه‌السلام كان الأصل ، وهارون عليه‌السلام كان تبعا له ، فأفرد إشارة إلى ذلك.

__________________

[٧٦٦] البيت حكاه الفرّاء في معاني القرآن عن العكليّ أبي ثروان في ج ٢ ص ٣٧ ، وأوّل كلمة فيه : أرى بدل رأت. ولم ينسبه.

[٧٦٧] البيت لم أقف على نسبته.

٢٢٨

[٧٦٨] فإن قيل : كيف قال موسى عليه‌السلام معتذرا عن قتل القبطي (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء : ٢٠] والنبيّ لا يكون ضالا؟

قلنا : أراد به وأنا من الجاهلين ، وكذا قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وقيل : أراد من المخطئين ، لأنه ما تعمد قتله ، كما يقال : ضل عن الطريق إذا عدل عن الصواب إلى الخطأ. وقيل : من الناسين كقوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) [البقرة : ٢٨٢].

[٧٦٩] فإن قيل : كيف قال فرعون (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٢٣] ولم يقل ومن رب العالمين؟

قلنا : هو كان أعمى القلب عن معرفة الله سبحانه وتعالى ، منكرا لوجوده فكيف ينكر عليه العدول عن «من» إلى «ما».

الثاني : أن «ما» لا تختص بغير المميّز ؛ بل تطلق عليهما ، قال الله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣] وقال الله تعالى : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) [الكافرون : ١٠٩].

[٧٧٠] فإن قيل : كيف قال موسى عليه‌السلام : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) [الشعراء : ٢٤] علق كونه تعالى رب السموات والأرض وما بينهما بشرط كون فرعون وقومه موقنين ، وهذا الشرط منتف والربوبية ثابتة فكيف صح التعليق؟

قلنا : معناه إن كنتم موقنين أن السموات والأرض وما بينهما موجودات وهذا الشرط موجود.

الثاني : أن «إن» نافية لا شرطية.

[٧٧١] فإن قيل : كيف ذكر السموات والأرض وما بينهما قد استوعب ذكر المخلوقات كلها فما فائدة قوله تعالى بعد ذلك (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء : ٢٦] وقوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) [الشعراء : ٢٨].

قلنا : أعاد ذكرها تخصيصا لها وتمييزا ، لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه ومن ولد منه وما شاهد وعاين من الدلائل على الصانع والنقل من هيئة إلى هيئة وحال إلى حال من وقت ولادته إلى وقت وفاته ، ثم خص المشرق والمغرب ؛ لأن طلوع الشمس من أحدهما وغروبها في الآخر على تقدير مستقيم في فصول السنة وحساب مستو من أظهر ما يستدل به على وجود الصانع ، ولظهوره انتقل خليل الله صلوات الله عليه وسلامه إلى الاحتجاج به عن الاحتجاج بالإحياء والإماتة (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) [البقرة : ٢٥٨].

٢٢٩

[٧٧٢] فإن قيل : كيف قال أولا (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) [الشعراء : ٢٤] وقال آخرا (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) [الشعراء : ٢٨].

قلنا : لاينهم ولاطفهم أوّلا ، فلمّا رأى عنادهم وإصرارهم خاشنهم وعارض قوله : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء : ٧٢] بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ).

[٧٧٣] فإن قيل : قوله : لأسجننك أخصر من قوله : (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) [الشعراء : ٢٩] فكيف عدل عنه؟

قلنا : كان مراده تعريف العهد ، فكأنه قال لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم في سجني ، وكان إذا سجن إنسانا طرحه في هوة عميقة جدا مظلمة وحده لا يبصر فيها ولا يسمع ، فكان ذلك أوجع من القتل وأشد نكاية.

[٧٧٤] فإن قيل : قصة موسى عليه‌السلام مع فرعون والسحرة ذكرت في سورة الأعراف ثم في سورة طه ثم في هذه السورة ، فما فائدة تكرارها وتكرار غيرها من القصص؟

قلنا : فائدته تأكيد التّحدي وإظهار الإعجاز ، كما أن المبارز إذا خرج من الصف قال : «نزال نزال هل من مبارز هل من مبارز» مكررا ذلك ، يقال : ولهذا سمى الله تعالى القرآن مثاني ؛ لأنه ثنيت فيه الأخبار والقصص.

الثاني : أن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بعضهم حاضرين وبعضهم غائبين في الغزوات ، وكانوا يحبون حضور مهبط الوحي ، وكانوا إذا رجعوا من غزوهم أكرمهم الله تعالى في بعض الأوقات بإعادة الوحي تشريفا لهم وتفصيلا.

[٧٧٥] فإن قيل : كيف كرر الله تعالى ذكر قصة موسى عليه‌السلام أكثر من قصص غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟

قلنا : لأن أحواله كانت أشبه بأحوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحوال غيره منهم في إقامته الحجج وإظهاره المعجزات لأهل مصر وإصرارهم على تكذيبه والجفاء عليه كما كان حال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أهل مكّة.

[٧٧٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) [الشعراء : ٦١] والترائي تفاعل من الرؤية ، فيقتضي وجود رؤية كل جمع الجمع الآخر والمنقول أنهم لم ير بعضهم بعضا ، فإن الله تعالى أرسل غيما أبيض فحال بين العسكرين حتى منع رؤية بعضهم بعضا؟

قلنا : الترائي يستعمل بمعنى التداني والتقابل أيضا ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمن والكافر لا يتراءيان» ، أي لا يتدانيان ، ويقال : دورنا تتراءى ، أي تتقارب وتتقابل.

٢٣٠

[٧٧٧] فإن قيل : كيف قال : (وَإِذا مَرِضْتُ) [الشعراء : ٨٠] ولم يقل وإذا أمرضني ، كما قال ، قبله : (خلقني ويهدين)؟

قلنا : لأنه كان في معرض الثناء على الله تعالى وتعديد نعمه ، فأضاف إليه الخير المحض حفظا للأدب ، وإن كان الكل مضافا إليه ، ونظيره قول الخضر عليه‌السلام (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) [الكهف : ٧٩] وقوله : (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) [الكهف : ٨٢].

[٧٧٨] فإن قيل : هذا الجواب يبطل بقوله : (وَالَّذِي يُمِيتُنِي) [الشعراء : ٨١] وبقول الخضر (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما) [الكهف : ٨١].

قلنا : إنما أضاف الموت إلى الله تعالى ؛ لأنه سبب لقائه إياه وانتقاله إلى دار كرامته ، فكان نعمة من هذا الوجه. وقيل : إنما أضاف المرض إلى نفسه ؛ لأن أكثر الأمراض تحدث بتفريط الإنسان في مطاعمه ومشاربه.

[٧٧٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) [الشعراء : ٨٨] والمال الذي أنفق في طاعة الله تعالى وسبيله ينفع ، والولد الصالح ينفع ، والولد الذي مات صغيرا يشفع ، وشواهد ذلك كثيرة من الكتاب والسنة خصوصا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا مات ابن آدم ينقطع عمله إلّا من ثلاث» الحديث؟

قلنا : المراد بالآية أنهما لا ينفعان غير المؤمن ، فإنه هو الذي يأتي بقلب سليم من الكفر ، أو المراد بهما مال لم ينفق في طاعة الله تعالى وولد بالغ غير صالح.

[٧٨٠] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الشعراء : ٩٠] أي قربت ، والجنة لا تنقل من مكانها ولا تحول؟

قلنا : فيه قلب معناه : وأزلفت المتقون إلى الجنّة ، كما يقول الحجاج إذا دنوا إلى مكة قربت مكة منا. وقيل معناه : أنها كانت محجوبة عنهم ، فلما رفعت الحجب بينهم وبينها كان ذلك تقريبا لها.

[٧٨١] فإن قيل : كيف جمع الشافع ووحد الصديق في قوله : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء : ١٠٠ ، ١٠١].

قلنا : لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق ، ولهذا روي أن بعض الحكماء سئل عن الصديق؟ فقال : هو اسم لا معنى له ، أراد بذلك عزة وجوده ، ويجوز أن يراد بالصديق الجمع كالعدو.

[٧٨٢] فإن قيل : كيف قرن بين الأنعام والبنين في قوله : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) [الشعراء : ١٣٣]؟

__________________

[٧٧٩] الحديث ، بنحو اللفظ الذي ذكره الرازي ، في الفتح الكبير : ١ / ١٥٤.

٢٣١

قلنا : لأن الأنعام كانت من أعز أموالهم عندهم ، وكان بنوهم هم الذين يعينونهم على حفظها والقيام عليها ، فلهذا قرن بينهما.

[٧٨٣] فإن قيل : قوله تعالى : ((أَوَعَظْتَ) أو لم تعظ) أخصر من قوله : (أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) [الشعراء : ١٣٦] فكيف عدل عنه؟

قلنا : مرادهم سواء علينا أفعلت هذا الفعل أم لم تكن من أهله أصلا ، وهذا أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه من قولهم أو لم تعظ.

[٧٨٤] فإن قيل : قوله تعالى : (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) [الشعراء : ١٥٧ ، ١٥٨] كيف أخذهم العذاب بعد ما ندموا على جنايتهم ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الندم توبة»؟

قلنا : قال ابن عباس رضي الله عنهما : ندموا حين رأوا العذاب ، وذلك ليس وقت التوبة كما قال الله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) [النساء : ١٨] الآية. وقيل : كان ندمهم ندم خوف من العذاب العاجل لا ندم توبة فلذلك لم ينفعهم.

[٧٨٥] فإن قيل : كيف طلب لوط عليه‌السلام تنجيته من اللواطة بقوله : (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) [الشعراء : ١٦٩] واللواطة كبيرة ، والأنبياء معصومون من الكبائر؟

قلنا : مراده رب نجني وأهلي من عقوبة عملهم أو من شؤمه ، والدليل على ذلك ضمه أهله إليه في الدعاء ، واستثناء الله تعالى امرأته من قبول الدعوة.

[٧٨٦] فإن قيل : كيف قال تعالى في قصة شعيب عليه‌السلام (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) [الشعراء : ١٧٧] ولم يقل أخوهم ، كما قال تعالى في حقّ غيره هنا ، وكما قال في حقه في موضع آخر؟

قلنا : لأنه هنا ذكر مع أصحاب الأيكة وهو لم يكن منهم ، وإنما كان من نسل مدين ، كذا قال مقاتل. وفي الحديث أن شعيبا عليه‌السلام أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة. وقال ابن جرير الطبري : أهل مدين هم أصحاب الأيكة ، فعلى هذا يكون حذف الأخ تخفيفا.

[٧٨٧] فإن قيل : ما الفرق بين حذف الواو في قصة صالح عليه‌السلام وإثباتها

__________________

[٧٨٦] ابن جرير : هو محمد بن يزيد الطبري ، أبو جعفر ، مؤرخ ومفسّر. ولد في آمل طبرستان سنة ٢٢٤ ه‍ وأقام ببغداد. وتوفي سنة ٣١٠ ه‍. من مؤلفاته : أخبار الرسل والملوك (المعروف بتاريخ الطبري) ، جامع البيان في تفسير القرآن (المعروف بتفسير الطبري) ، اختلاف الفقهاء ، الخ. وهو أحد أصحاب المذاهب الفقهية المنقرضة.

٢٣٢

في قصة شعيب في قولهم : (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [الشعراء : ١٥٤] (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [الشعراء : ١٨٦]؟

قلنا : الفرق بينهما أنه عند إثبات الواو المقصود معنيان كلاهما مناف للرسالة عندهم التسخير والبشرية ، وعند حذف الواو المقصود معنى واحد مناف لها وهو كونه مسخرا ثم قرروا التسخير بالبشرية ، كذا أجاب الزمخشري رحمه‌الله.

[٧٨٨] فإن قيل : كيف قال تعالى في وصف الكهنة والمتنبئة كشق وسطيح ومسيلمة (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) [الشعراء : ٢٢٣] بعد ما قضى عليهم أن كل واحد منهم أفاك أثيم ، والأفاك الكذاب ، والأثيم الفاجر ، ويلزم من هذا أن يكون كلهم كذابين؟

قلنا : الضمير في قوله : (وَأَكْثَرُهُمْ) عائد إلى الشياطين لا إلى كل أفاك.

٢٣٣

سورة النمل

[٧٨٩] فإن قيل : ما فائدة تنكير الكتاب في قوله تعالى : (وَكِتابٍ مُبِينٍ) [النمل : ١]؟

قلنا : فائدته التفخيم والتعظيم كقوله تعالى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٥].

[٧٩٠] فإن قيل : العطف يقتضي المغايرة ، فكيف عطف الكتاب المبين على القرآن والمراد به القرآن؟

قلنا : قيل إن المراد بالكتاب المبين اللوح المحفوظ ، فعلى هذا لا إشكال ؛ وعلى القول الآخر فنقول : العطف يقتضي المغايرة مطلقا إما لفظا وإما معنى ؛ بدليل قول الشاعر :

فألفى قولها كذبا ومينا

وقولهم : جاءني الفقيه والظريف ، والمغايرة لفظا ثابتة.

[٧٩١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) [النمل : ٤] وقال تعالى في موضع آخر (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [النمل : ٢٤].

قلنا : تزيين الله تعالى لهم الأعمال بخلقه الشهوة والهوى وتركيبها فيهم ، وتزيين الشيطان بالوسوسة والإغواء والغرور والتمنية ، فصحت الإضافتان.

[٧٩٢] فإن قيل : كيف قال هنا (سَآتِيكُمْ) [النمل : ٧] وقال في سورة طه (لَعَلِّي آتِيكُمْ) [طه : ١٠] وأحدهما قطع والآخر ترجّ والقصة واحدة؟

قلنا : قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه سأفعل كذا ، وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة.

[٧٩٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) [النمل : ٨] مع أنه لم

__________________

[٧٩٠] تمام البيت :

فقدّدت الأديم لراهشيه

فألفى قولها كذبا ومينا

وهو لعدي بن زيد في ديوانه : ١٨٣.

ويروى : وقدّدت بدل فقدّدت. ويروى : وقدّمت ، كما جاء في معاني الفرّاء.

٢٣٤

يكن في النار أحد ، بل لم يكن المرئي نارا ، وإنما كان نورا في قول الجمهور ، وقيل : كان نارا ثم انقلب نورا؟

قلنا : قال ابن عباس والحسن رضي الله عنهما : معناه قدس من ناداه من النار وهو الله عزوجل ، لا على معنى أن الله تعالى يحل في شيء ؛ بل على معنى أنه أسمعه النداء من النار في زعمه.

الثاني : أن من زائدة ؛ والتقدير بورك في النار وفيمن حولها ، وهو موسى عليه‌السلام والملائكة.

الثالث : أن معناه بورك من في طلب النار ؛ وهو موسى عليه‌السلام.

[٧٩٤] فإن قيل : إنما يقال بارك الله على كذا ، ولا يقال بارك الله كذا؟

قلنا : قال الفراء : العرب تقول باركه الله وبارك فيه وبارك عليه بمعنى واحد ، ومنه قوله تعالى : (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) [الصافات : ١١٣] ولفظ التحيات : وبارك على محمد وعلى آل محمد.

[٧٩٥] فإن قيل : ما وجه صحة الاستثناء في قوله تعالى : (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) [النمل : ١٠ ، ١١] الآية؟

قلنا : فيه وجوه :

أحدها : أنه استثناء منقطع بمعنى لكن.

الثاني : أنه استثناء متصل ، كذا قاله الحسن وقتادة ومقاتل رحمهم‌الله ، ومعناه : إلا من ظلم منهم بارتكاب الصّغيرة كآدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف وموسى وغيرهم صلوات الله وسلامه عليهم ، فإنه يخاف مما فعل مع علمه أني غفور رحيم ، فيكون تقدير الكلام : إلا من ظلم منهم فإنه يخاف فمن ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم ؛ ولهذا قال بعضهم : إن هنا وقفا على قوله : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) وابتداء الكلام الثاني محذوف كما قدرنا.

الثالث : أن «إلا» بمعنى ولا كما في قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [البقرة : ١٥٠] أي ولا الذين ظلموا منهم.

الرابع : أن تقديره : أني لا يخاف لديّ المرسلون ولا غير المرسلين (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) الآية.

[٧٩٦] فإن قيل : كيف قال سليمان عليه‌السلام (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا) [النمل : ١٦] بنون العظمة وهو من كلام المتكبّرين؟

قلنا : لم يرد به نون العظمة ، وإنما أراد به نون الجمع وعنى نفسه وأباه.

٢٣٥

الثاني : أنه كان ملكا مع كونه نبيا فراعى سياسة الملك وتكلم بكلام الملوك.

[٧٩٧] فإن قيل : كيف حل له تعذيب الهدهد حتّى قال : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) [النمل : ٢١]؟

قلنا : لعل ذلك أبيح له خاصة كما خص بفهم منطق الطير وتسخيره له وغير ذلك.

[٧٩٨] فإن قيل : كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان عليه‌السلام حتى قال ولها عرش عظيم؟

قلنا : يجوز أنه استصغر حالها بالنسبة إلى حال سليمان ، فاستعظم لها ذلك العرش.

الثاني : أنه يجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شيء كما يكون لبعض الأمراء شيء لا يكون للملك مثله.

[٧٩٩] فإن قيل : كيف قال الهدهد (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣] مع قول سليمان صلوات الله وسلامه عليه (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ١٦] فكأنه سوّى بينهما؟

قلنا : بينهما فرق ؛ وهو أن الهدهد أراد به ، وأوتيت من كلّ شيء من أسباب الدنيا ؛ لأنه عطف على الملك ، وسليمان أراد به وأوتينا من كل شيء من أسباب الدين والدنيا ويؤيد ذلك عطفه على المعجزة وهي منطق الطير.

[٨٠٠] فإن قيل : كيف سوّى الهدهد بين عرشها وعرش الله تعالى في الوصف بالعظم حتى قال : (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) [النمل : ٢٣] ، وقال : (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [النمل : ٢٦]؟

قلنا : بين الوصفين بون عظيم ؛ لأنّه وصف عرشها بالعظم بالنسبة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ، ووصف عرش الله تعالى بالعظم بالنسبة إلى ما خلق من السموات والأرض وما بينهما.

[٨٠١] فإن قيل : قوله تعالى : (فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) [النمل : ٢٨] إذا تولى عنهم ، فكيف يعلم جوابهم؟

قلنا : معناه ثم تول عنهم مستترا من حيث لا يرونك فانظر ما ذا يرجعون.

الثاني : أن فيه تقديما وتأخيرا تقديره : فانظر ما ذا يرجعون ثم تول عنهم.

[٨٠٢] فإن قيل : كيف استجاز سليمان عليه‌السلام تقديم اسمه في الكتاب على اسم الله تعالى حتى كتب فيه (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [النمل : ٣٠].

٢٣٦

قلنا : لأنه عرف أنها لا تعرف الله تعالى وتعرف سليمان ، فخاف أن تستخف باسم الله تعالى إذا كان أول ما يقع نظرها عليه ، فجعل اسمه وقاية لاسم الله تعالى. وقيل : إن اسم سليمان كان على عنوانه ، واسم الله تعالى كان في أول طيه.

[٨٠٣] فإن قيل : كيف يجوز أن يكون آصف وهو كاتب سليمان عليه‌السلام ووزيره وليس بنبي يقدر على ما لا يقدر عليه النبي ، وهو إحضار عرش بلقيس في طرفة عين؟

قلنا : يجوز أن يخص غير الرسول بكرامة لا يشاركه فيها الرسول ، كما خصت مريم بأنها كانت ترزق من فاكهة الجنة وزكريا لم يرزق منها ، وكما أن سليمان صلوات الله عليه خرج مع قومه يستسقون فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء تستسقي ، فقال لقومه : ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم ، ولم يلزم من ذلك فضلها على سليمان. وقد نقل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أراد الخروج إلى الغزوات قال لفقراء المهاجرين والأنصار : ادعوا لنا بالنصرة ، فإن الله تعالى ينصرنا بدعائكم ، ولم يكونوا أفضل منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع أن كرامة التابع من جملة كرامات المتبوع. قالوا : والعلم الذي كان عنده هو اسم الله الأعظم ، فدعا به فأجيب في الحال ، وهو عند أكثر العلماء كما قال البندنيجي اسم الله. ثم ، قيل : هو يا حي يا قيوم ، وقيل : يا ذا الجلال والإكرام ، وقيل : يا الله يا رحمن ، وقيل : يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ، فمن أخلص النية ودعا بهذه الكلمات مع استجماع شرائط الدعاء المعروفة فإنه يجاب لا محالة.

[٨٠٤] فإن قيل : كيف قالت : (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [النمل : ٤٤] وهي إنما أسلمت بعده على يده لا معه ؛ لأنّه كان مسلما قبلها؟

قلنا : إنما عدلت عن تلك العبارة إلى هذه لأنها كانت ملكة ، فلم تر أن تذكر عبارة تدل على أنها صارت مولاة له بإسلامها على يده وإن كان الواقع كذلك.

[٨٠٥] فإن قيل : كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا ، فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه؟

قلنا : كأنهم اعتقدوا أنهم إذا جمعوا بين البيانين ثم قالوا : (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) [النمل : ٤٩] يعنون ما شهدناه وحده كانوا صادقين ، لأنهم شهدوا مهلكه ومهلك أهله.

[٨٠٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) [النمل : ٦٥] ونحن نعلم الجنة والنار وأحوال القيامة وكلها غيب؟

قلنا : معناه لا يعلم الغيب بلا دليل إلا الله أو بلا معلم إلا الله ، أو جميع الغيب إلا الله. وقيل معناه : لا يعلم ضمائر السموات والأرض إلا الله.

٢٣٧

[٨٠٧] فإن قيل : قوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) [النمل : ٦٦] أو أدرك على اختلاف القراءتين ، هل مرجع الضمير فيه وفيما قبله واحد أم لا؟ وكيف مطابقة الإضراب لما قبله ، ومطابقته لما بعده من الإضرابين؟ وكيف وصفهم بنفي الشعور ثم بكمال العلم ثم بالشك ثم بالعمى؟

قلنا : مرجع الضمير في قوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ) هو الكفار فقط ، وفيما قبله جميع من في السموات والأرض ، وقوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ) معناه بل تتابع وتلاحق واجتمع كقوله تعالى : (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) [الأعراف : ٣٨] وأصله تدارك ، فأدغم التاء في الدال ، وقوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ) معناه بل كمل وانتهى. قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد ما جهلوه في الدنيا علموه في الآخرة. وقال السدّي : يريد اجتمع علمهم يوم القيامة فلم يشكوا ولم يختلفوا. وقال مقاتل : يريد علموا في الآخرة ما شكوا فيه وعموا عنه في الدنيا ، وقوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) [النمل : ٦٦] معناه : بل هم اليوم في شك من الساعة (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) [النمل : ٦٦] جمع عم وهو أعمى القلب. ومطابقة الإضراب الأول لما قبله أن الذين لا يشعرون وقت البعث لما كانوا فريقين : فريق منهم لا يعلمون وقت البعث مع علمهم أنه يوجد لا محالة وهم المؤمنون ، وفريق منهم لا يعلمون وقته لإنكارهم أصل وجوده أفرد الفريق الثاني بالذكر بقوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) تأكيدا لنفي علمهم في الدنيا ، كأنه تعالى قال : بل فريق منهم لا يعلمون شيئا من أمر البعث في الدنيا أصلا ، ثم أضرب عن الإخبار بتتابع علمهم وتلاحقه بحقيقة البعث في الآخرة إلى الإخبار عن شكهم في الدنيا في أمر البعث والساعة ؛ مع قيام الأدلة الشرعية على وجودها لا محالة ، وأما وصفهم بنفي الشعور ثمّ بكمال العلم ثم بالشك ثم بالعمى فلا تناقض فيه ، لاختلاف الأزمنة ، أو لاختلاف متعلقات تلك الأمور الأربعة ، وهي الشعور والعلم والشك والعمى.

[٨٠٨] فإن قيل : قضاء الله تعالى وحكمه واحد فما معنى قوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ) [النمل : ٧٨] وهو بمنزلة قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) بقضائه أو يحكم بينهم بحكمه.

قلنا : معناه بما يحكم به وهو عدله المعروف المألوف ؛ لأنه لا يقضي إلا بالحق وبالعدل ، فسمى المحكوم به حكما. وقيل : معناه بحكمته ؛ ويدل عليه قراءة من قرأ بحكمه جمع حكمة.

__________________

[٨٠٧] السدّي : هو إسماعيل بن عبد الرحمن السدّي ، تابعي. أصله من الحجاز. استوطن الكوفة.

وتوفي سنة ١٢٨ ه‍. كان مفسّرا وراوية للأخبار والحوادث.

٢٣٨

[٨٠٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [النمل : ٨٦] ولم يراع المقابلة بقوله تعالى : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) فيه؟

قلنا : راعى المقابلة المعنوية دون اللفظية ؛ لأن معنى مبصرا ليبصروا فيه ، وقد سبق ما يشبه هذا في قوله تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) [الإسراء : ٥٩].

[٨١٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [النمل : ٨٦] ؛ مع أن في ذلك علامات على وحدانية الله تعالى لجميع العقلاء؟

قلنا : إنما خصهم بالذكر لأنهم هم المنتفعون بها دون غيرهم.

[٨١١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ) [النمل : ٨٧] ولم يقل فيفزع وهو أظهر مناسبة؟

قلنا : أراد بذلك الإشعار بتحقق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة ؛ لأن الفعل الماضي يدل على الثبوت والتحقق قطعا.

[٨١٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) [النمل : ٨٧] أي صاغرين أذلاء بعد البعث ، مع أن النبيين والصديقين والشهداء يأتونه عزيزين مكرمين؟

قلنا : المراد به صغار العبودية والرّق وذلهما لا ذل الذنوب والمعاصي ، وذلك يعم الخلق كلهم ، ونظيره قوله تعالى : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم : ٩٣].

٢٣٩

سورة القصص

[٨١٣] فإن قيل : ما فائدة وحي الله تعالى إلى أم موسى عليه‌السلام بإرضاعه وهي ترضعه طبعا سواء أمرت بذلك أم لا؟

قلنا : أمرها بإرضاعه ليألف لبنها فلا يقبل ثدي غيرها بعد وقوعه في يد فرعون ، فلو لم يأمرها بإرضاعه ربما كانت تسترضع له مرضعة فيفوت ذلك المقصود.

[٨١٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي) [القصص : ٧] والشرط الواحد إذا تعلق به جزاءان صدق مع كل واحد منهما وحده ، فيئول هذا إلى صدق قوله : فإذا خفت عليه فلا تخافي ، وأنه يشبه التناقض.

قلنا : معناه فإذا خفت عليه من القتل فألقيه في اليم ولا تخافي عليه من الغرق ، ولا تناقض بينهما.

[٨١٥] فإن قيل : ما الفرق بين الخوف والحزن حتى عطف أحدهما على الآخر في قوله تعالى : (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) [القصص : ٧]؟

قلنا : الخوف غم يصيب الإنسان لأمر يتوقعه في المستقبل ، والحزن غم يصيبه لأمر قد وقع ومضى.

[٨١٦] فإن قيل : كيف جعل موسى عليه‌السلام قتله القبطي الكافر من عمل الشيطان ، وسمى نفسه ظالما واستغفر منه؟

قلنا : إنما جعله من عمل الشيطان لأنه قتله قبل أن يؤذن له في قتله ، فكان ذلك ذنبا يستغفر منه مثله. قال ابن جريج : ليس لنبي أن يقتل ما لم يؤمر.

[٨١٧] فإن قيل : إن موسى عليه‌السلام ما سقى لابنتي شعيب عليه‌السلام طلبا للأجر ، فكيف أجاب دعوتها لما قالت : (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) [القصص : ٢٥]؟

__________________

[٨١٦] ابن جريج : هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، أبو الوليد. كان فقيه الحرم المكي ، من موالي قريش. ولد سنة ٨٠ ه‍ بمكة وتوفي بها سنة ١٥٠ ه‍. يقال إنّه أوّل من صنّف في مكة. كان محدّثا وأخذ عنه أنه يدلّس.

٢٤٠