أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها

محمّد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي

أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-026-9
الصفحات: ٤٠٨

قلنا : النعمة في ذلك أن الملك إذا كان له ولد وزوج فإنما ينعم على عبيده بما يفضل عن ولده وزوجته ، وإذا لم يكن له ولد وزوج كان جميع إنعامه وإحسانه مصروفا إلى عبيده ، فكان نفي اتخاذ الولد مقتضيا مزيد الإنعام عليهم ، وأما نفي الشريك فلأنه يكون أقدر على الإنعام على عبيده لعدم المزاحم ، وأما نفي النصير فلأنه يدل على القوة والاستغناء ، وكلاهما يقتضي القدرة على زيادة الإنعام ، والله أعلم وأحكم.

١٨١

سورة الكهف

[٦٠٧] فإن قيل : قوله تعالى : (قَيِّماً) يعني مستقيما ، وقوله : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) [الكهف : ١] مغن عن قوله قيما لأنه متى انتفى العوج ثبتت الاستقامة ؛ لأن العوج في المعاني كالعوج في الأعيان ، والمراد به هنا نفي الاختلاف والتناقض في معانيه ، وأنه لا يخرج منه شيء عن الصواب والحكمة. وقيل : في الآية تقديم وتأخير تقديره : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا.

قلنا : قال الفرّاء : معنى قوله : (قَيِّماً) قائما على الكتب السماوية كلها مصدقا لها شاهدا بصحتها ناسخا لبعض شرائعها ، فعلى هذا لا تكرار فيه ، وعلى القول المشهور يكون الجمع بينهما للتأكيد سواء قدر قيما مقدما أو أقر في مرتبته ، ونصب بفعل مضمر تقديره : ولكن جعله قيما. ولا بد من هذا الإضمار أو من التقديم والتأخير وإلا يصير المعنى : ولم يجعل له عوجا مستقيما والعوج لا يكون مستقيما.

[٦٠٨] فإن قيل : اتخذ الله تعالى ولدا محال ، فكيف قال : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) [الكهف : ٥] وإنما يستقيم أن يقال فلان ما له علم بكذا إذا كان ذلك الشيء مما يعلمه غيره أو مما يصح أن يعلم ، كقولنا زيد ماله علم بالعربية أو بالحساب أو بالشعر ونحو ذلك.

قلنا : معناه ما لهم به من علم لأنه ليس مما يعلم لاستحالته ، وهذا لأن انتفاء العلم بالشيء تارة يكون للجهل بالطريق الموصل إليه ، وتارة يكون لاستحالة العلم به ؛ لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلق العلم به. وما نحن فيه من هذا القبيل.

[٦٠٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) [الكهف : ١٢] وهو عالم بذلك في الأزل؟

قلنا : معناه لنعلم ذلك علم مشاهدة كما علمناه علم غيب.

[٦١٠] فإن قيل : كيف قال (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ) [الكهف : ١٩] ولم يقل واحدكم؟

قلنا : لأنه أراد فردا منهم أيهم كان ، ولو قال واحدكم لدلّ على بعث رئيسهم ومقدمهم ، فإن العرب تقول : رأيت أحد القوم ، أي فردا منهم ولا تقول : رأيت واحدا لقوم إلا إذا أردت المقدم المعظم.

١٨٢

[٦١١] فإن قيل : كيف جاء تعالى بسين الاستقبال في الفعل الأول دون الآخرين في قوله تعالى : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ) [الكهف : ٢٢] الآية؟

قلنا : أراد دخول الفعلين الآخرين في حكم الأول بمقتضى العطف ، فاقتصر على ذكر السين في الأول إيجازا واقتصارا كما تقول : زيد قد يخرج ويركب ، تريد وقد يركب.

[٦١٢] فإن قيل : كيف دخلت الواو في الجملة الثالثة دون الأولين وهي قوله :

(وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف : ٢٢].

قلنا : قال بعض المفسرين هي واو الثمانية. وقد ذكرنا مثلها في آخر سورة التوبة.

وقال الزّجاج : دخول هذه الواو وخروجها سواء في صفة النكرة ، وجاء القرآن بهما.

وقال غيره : الواو مرادة في الجملتين الأوليين وإنما حذفت فيهما تخفيفا ، وأتى بها في الجملة الثالثة دلالة على إرادتها فيهما. ويرد على هذا القول ، أنه لو كان كذلك لكانت مذكورة في الجملة الأولى ، محذوفة في الجملة الثانية والثالثة ، ليدل ذكرها أوّلا على حذفها بعد ذلك ، كما سبق في سين الاستقبال.

وقال الزمخشري وغيره : هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة ، كما تدخل على الصفة الواقعة حالا من المعرفة ، تقول : جاءني رجل ومعه آخر ، ومررت بزيد وفي يده سيف ، ومنه قوله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر : ٤] وفائدتها توكيد اتصال الصفة بالموصوف ، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر ، وهذه الواو هي التي أذنت بأن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما رجم غيرهم ، والدليل عليه أن الله تعالى أتبع القولين الأولين قوله (رَجْماً بِالْغَيْبِ) [الكهف : ٢٢] وأتبع القول الثالث قوله : (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) [الكهف : ٢٢].

وقال ابن عباس : وقعت الواو لقطع العدد : أي لم يبق بعدها عدد عاد يلتفت إليه ، ويثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والبتات.

وقال الثعلبي : هذه واو الحكم والتحقيق ، كأنّ الله تعالى حكى اختلافهم فتم

__________________

[٦١٢] الثعلبي : هو أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أبو إسحاق : مفسر واشتغل بالتاريخ. توفي سنة ٤٢٧ ه‍. من مؤلفاته : عرائس المجالس (في قصص الأنبياء) ، الكشف والبيان في تفسير القرآن ، يعرف بتفسير الثعلبي.

١٨٣

الكلام عند قوله سبعة ، ثم حكى بأن ثامنهم كلبهم باستئنافه الكلام ، فحقق ثبوت العدد الأخير ؛ لأن الثامن لا يكون إلا بعد السبعة ، فعلى هذا يكون قوله : (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف : ٢٢] من كلام الله تعالى حقيقة أو تقديرا.

ويرد على هذا أن قوله تعالى بعد هذه الواو (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) [الكهف : ٢٢] وقوله تعالى : (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) [الكهف : ٢٢] يدل على بقاء الإبهام وعدم زوال اللبس بهذه الواو.

[٦١٣] فإن قيل : كيف قال : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) [الأنعام : ١١٥] وقال في موضع آخر : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [النحل : ١٠١] ويلزم من تبديل الآية بالآية تبديل الكلمات فكيف الجمع بينهما؟

قلنا : معنى الأول لا مغير للقرآن من البشر ، وهو جواب لقولهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ائت بقرآن غير هذا أو بدله.

الثاني : أن معناه لا خلف لمواعيده ولا مغير لحكمه ، ومعنى الثاني النسخ والتبديل من الله تعالى فلا تنافي بينهما.

[٦١٤] فإن قيل : قوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] إباحة وإطلاق للكفر؟

قلنا : قال ابن عباس رضي الله عنهما معناه : فمن شاء ربكم فليؤمن ومن شاء ربكم فليكفر ، يعني لا إيمان ولا كفر إلا بمشيئته.

الثاني : أنه تهديد ووعيد.

الثالث : أن معناه لا تنفعون الله بإيمانكم ولا تضرونه بكفركم ، فهو إظهار للغنى لا إطلاق للكفر.

[٦١٥] فإن قيل : لبس الأساور في الدنيا عيب للرّجال ، ولهذا لا يلبسها من يلبس الذهب والحرير من الرجال ، فكيف وعدها الله تعالى المؤمنين في الجنّة في قوله تعالى : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) [الكهف : ٣١]؟

قلنا : كانت عادة ملوك الفرس والروم لبس الأساور والتيجان مخصوصين بها دون من عداهم ، فلذلك وعدها الله تعالى المؤمنين ؛ لأنهم ملوك الآخرة.

[٦١٦] فإن قيل : كيف أفرد الله تعالى الجنة بعد التثنية فقال : (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) [الكهف : ٣٥]؟

قلنا : أفردها ليدل على الحصر ، معناه : ودخل ما هو جنته لا جنة له غيرها ولا نصيب له في الجنة التي وعد المتقون ، بل ما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ، ولم يقصد جنة معينة منهما بل جنس ما كان له.

١٨٤

[٦١٧] فإن قيل : كيف قال الأخ المؤمن لأخيه (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) [الكهف : ٣٨] وهذا تعريض بأن أخاه مشرك وليس في كلام أخيه ما يقتضي الشرك بل الكفر وهو قوله (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) [الكهف : ٣٦]؟

قلنا : إشراك أخيه الذي عرض له به هو اعتقاده أن زكاة جنته ونماءها بحوله وقوته ، ولهذا قال له : (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) [الكهف : ٣٩] ولهذا قال هو أيضا لما أصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) [الكهف : ٤٢] فاعترف بالشرك.

[٦١٨] فإن قيل : ما فائدة أنا في قوله : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَ) [الكهف : ٣٩]؟

قلنا : أنا في مثل هذا الموضع تفيد حصر الخبر في المخبر عنه ، ومنه قوله تعالى : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) [طه : ١٢] وقوله : (إِنِّي أَنَا اللهُ) [القصص : ٣٠] ونظائره كثيرة.

[٦١٩] فإن قيل : ما معنى قوله : (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) [الكهف : ٤٣] وكذلك كل ما أشبهه مما جاء في القرآن العزيز (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) [مريم : ٨١] (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) [الشورى : ٦] (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [البقرة : ١٠٧] وكيف تحقيق معناه؟

قلنا : «دون» يستعمل في كلام العرب بمعنى غير ، كقولهم : لفلان مال دون هذا ، ومن دون هذا ، أي غير هذا. ونظيره قوله تعالى : (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) [المؤمنون : ٦٣] أي من غيره ، وتستعمل أيضا بمعنى قبل ، كقولهم المدينة دون مكة ، أي قبلها ، ومن دونه خرط القتاد. ولا أقوم من مجلسي دون أن تجيء ، ولا أفارقك دون أن تعطيني حقي ، وما أعلم أنها جاءت في القرآن العزيز بمعنى قبل بل بمعنى غير فقط.

[٦٢٠] فإن قيل : كيف قال : (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ) [الكهف : ٤٤] يعني في يوم الآخرة أو في يوم القيامة ، والولاية بكسر الواو السلطان والملك ، وبفتح الواو التولي والنصرة ، وكل ذلك لله تعالى في الدنيا والآخرة يعز من يشاء ويذل من يشاء ، وينصر من يشاء ، ويخذل من يشاء ، ويتولى من يشاء بحراسته وحفظه ، فما فائدة تخصيص يوم القيامة؟

قلنا : فائدته أن الدعاوى المجازية كثيرة في الدنيا ويوم القيامة تنقطع كلها ، ويسلم الملك لله تعالى عن كل منازع ، وقد سبق نظير هذا السؤال في سورة الأنعام في قوله تعالى : (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) [الأنعام : ٧٣].

١٨٥

[٦٢١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) [الكهف : ٤٤] أي عاقبة ، وغير الله تعالى لا يثيب ليكون الله خيرا منه ثوابا؟

قلنا : هذا على الفرض والتقدير معناه : لو كان غيره يثيب لكان ثوابه أفضل ، ولكانت طاعته أحمد عاقبة وخيرا من طاعة غيره.

[٦٢٢] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَحَشَرْناهُمْ) [الكهف : ٤٧] بلفظ الماضي وما قبله مضارعان وهو قوله تعالى : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) [الكهف : ٤٧] أي لا شيء عليها يسترها كما كان في الدنيا؟

قلنا : للدلالة على أن حشرهم كان قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم كأنه قال : وحشرناهم قبل ذلك.

[٦٢٣] فإن قيل : كيف قال تعالى : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩] مع أنه أخبر أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر بقوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النساء : ٣١]؟

قلنا : الآية الأولى في حقّ الكافرين بدليل قوله تعالى : (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) [الكهف : ٤٩] والمراد بهم هنا الكافرون ، كذا قال مجاهد ، وقال غيره : كل مجرم في القرآن فالمراد به الكافر ، والآية الثانية المراد بها المؤمنون ؛ لأن اجتناب الكبائر لا يكون متحققا مع وجود الكفر.

الثاني : لو ثبت أن المراد بالمجرم مطلق المذنب لم يلزم التناقض لجواز أن تكتب الصغائر ليشاهدها العبد يوم القيامة ثم تكفر عنه فيعلم قدر نعمة العفو فإن أكثر ذنوب العبد ينساها خصوصا الصغائر.

[٦٢٤] فإن قيل : قوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥٠] يدل على أنه من الجن وقوله تعالى في موضع آخر : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) [الكهف : ٥٠] يدل على أنه من الملائكة ، فكيف الجمع بينهما؟

قلنا : فيه قولان :

أحدهما : أنه من الجن حقيقة عملا بظاهر هذه الآية ، ولأن له ذرية قال تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) [الكهف : ٥٠] والملائكة لا ذرية لهم ، ولأنه أكفر الكفرة وأفسق الفسقة ، والملائكة معصومون عن الكبائر لأنهم رسل الله ، وعن المعاصي مطلقا لأنهم عقول مجردة بغير شهوة ، ولا معصية إلا عن شهوة ، ويؤيده قوله تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦] وقال تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ) [الأنبياء : ١٩] يعني الملائكة : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ

١٨٦

اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ١٩ ، ٢٠] فكيف يكون إبليس منهم ويؤمر بالسجود فيمتنع ، فعلى هذا يكون استثناؤه من الملائكة استثناء من غير الجنس ؛ أو يكون استثناء من جنس المأمورين بالسجود لا من جنس الملائكة ، ويكون التقدير : وإذ قلنا للملائكة وإبليس اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كما تقول : أمرت إخوتي وعبدي بكذا فأطاعوني إلا عبدي ، والعبد ليس من الإخوة ولا داخلا فيهم إلا من حيث شمله الأمر بالفعل معهم ، فهذا كذلك.

القول الثاني : أنه كان من الملائكة قبل أن يعصي الله تعالى ، فلما عصاه مسخه شيطانا. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، فيكون معنى قوله تعالى : (كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥٠] لمخالفته ، فتكون كان بمعنى صار. وقيل معناه : أنه كان من الجن في سابق علم الله تعالى وهذان القولان يدلان على أنه كان من الملائكة قبل المعصية. وروي عنه أيضا أنه كان من خزان الجنة ، وهم جماعة من الملائكة يسمون الجن ، فعلى هذا يكون قوله تعالى : (مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥٠] أي من الملائكة الذين هم خزّان الجنة (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف : ٥٠] بمخالفته فيكون استثناء من الجنس. وقال الزمخشري في سورة البقرة في قوله تعالى : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) [الكهف : ٥٠] هو استثناء متصل ، لأنه كان جنيا واحدا بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورا بهم ، فغلبوا عليه في قوله : (فَسَجَدُوا) قلت : وفي هذا التعليل نظر ؛ ثم قال بعده : ويجوز أن يجعل منقطعا.

[٦٢٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) [الكهف : ٥٠] والأولياء : الأصدقاء والأحباب وهم ضد الأعداء ، ويؤيده قوله تعالى : (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) [الكهف : ٥٠] وليس من الناس أحد يحب إبليس وذريته ويصادقهم؟

قلنا : المراد بالموالاة هنا إجابة الناس لهم فيما يأمرونهم به من المعاصي ويوسوسون في صدورهم وطاعتهم إياهم ، فالموالاة مجاز عن هذا لأنه من لوازمها.

[٦٢٦] فإن قيل : قال تعالى هنا : (وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) [الكهف : ٥٢] أي فلم يجب الأصنام المشركين ، فنفى عن الأصنام النطق ، وقال تعالى في سورة النحل : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) [النحل : ٨٦] يعني فكذبتهم الأصنام فيما قالوا ، فأثبت لهم النطق فكيف الجمع بينهما؟

قلنا : المراد بقوله هنا : (نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) [الكهف : ٥٢] أي نادوهم للشفاعة لكم أو لدفع العذاب عنكم ، فدعوهم فلم يجيبوهم لذلك ، فنفى عنهم النطق بالإجابة إلى الشفاعة ودفع العذاب عنهم ، وفي سورة النحل أثبت لهم النطق

١٨٧

بتكذيب المشركين في دعوى عبادتهم ، فلا تناقض بين المنفي والمثبت.

[٦٢٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (شُرَكائِيَ) [الكهف : ٥٢] وقال في سورة النحل (شُرَكاءَهُمْ) [النحل : ٨٦]؟

قلنا : قوله تعالى : (شُرَكائِيَ) [الكهف : ٥٢] معناه في زعمكم واعتقادكم ، ولهذا قال : (شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) [الكهف : ٥٢] وأخرجه مخرج التهكم بهم ، كما قال المشركون للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] وقوله تعالى : (شُرَكاءَهُمْ) [النحل : ٨٦] يعني آلهتهم التي جعلوها شركاء ، فإضافتها إلى الله تعالى لجعلهم إياها شركاء ، والإضافة تصح بأدنى ملابسة لفظية أو معنوية فصحت الإضافتان.

[٦٢٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (نَسِيا حُوتَهُما) [الكهف : ٦١] والناسي إنما كان يوشع وحده بدليل قوله لموسى عليه الصلاة والسلام معتذرا (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) [الكهف : ٦٣] أي قصة الحوت وخبره (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) [الكهف : ٦٣]؟

قلنا : أضيف النسيان إليهما مجازا ، والمراد أحدهما. قال الفراء : نظيره قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] وإنما يخرج من الملح لا من العذب.

وقيل : نسي موسى عليه‌السلام تفقد الحوت ونسي يوشع أن يخبره خبره ، وذلك أنه كان حوتا مملوحا في مكتل قد تزوّداه ، فلما أصابه من ماء عين الحياة رشاش حيى وانسل ، وكان قد ذهب لقضاء حاجة فعزم يوشع أن يخبره بما رأى من أمر الحوت ، فلما جاء موسى نسي أن يخبره ، ونسي موسى تفقد الحوت والسؤال عنه.

[٦٢٩] فإن قيل : هذا التفسير يدل على أن النسيان من يوشع أو منهما كان بعد حياة الحوت وذهابه في البحر ، وظاهر الآية يدل على أنّ النسيان كان سابقا على ذهابه في البحر متصلا ببلوغ مجمع البحرين لقوله تعالى : (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) [الكهف : ٦١].

قلنا : في الآية تقديم وتأخير تقديره : فلما بلغا مجمع بينهما اتخذ الحوت سبيله في البحر سربا فنسيا حوتهما.

[٦٣٠] فإن قيل : كيف نسي يوشع مثل هذه الأعجوبة العظيمة في مدة يسيرة ؛ بل في لحظة ؛ واستمر به النسيان يومه ذلك وليلته إلى وقت الغداء من اليوم الثاني ؛ ومثل ذلك لا ينسى مع تطاول الزمان كيف وقد كان الله تعالى جعل فقدان الحوت علامة لهما على وجدان الخضر عليه‌السلام ، على ما نقل أن موسى عليه‌السلام سأل الله تعالى علامة على موضع وجدانه ، فأوحى إليه أن خذ معك حوتا في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم؟

قلنا : سبب نسيانه أنه كان قد اعتاد مشاهدة المعجزات من موسى عليه‌السلام

١٨٨

واستأنس بها فكان إلفه لمثلها من خوارق العادات سببا لقلة اهتمامه بتلك الأعجوبة وعدم اكتراثه لها.

[٦٣١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) [الكهف : ٧١] بغير فاء و (حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) [الكهف : ٧٤] بالفاء؟

قلنا : جعل خرقها جزءا للشرط فلم يحتج إلى الفاء كقولك إذا ركب زيد الفرس عقره ، وجعل قتل الغلام من جملة الشرط فعطفه عليه بالفاء والجزاء قال أقتلت ، كقولك : إذا ركب زيد الفرس فعقره ، قال له صاحبه أعقرته؟

[٦٣٢] فإن قيل : كيف خولف بين القصتين؟

قلنا : لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب ، وقتل الغلام تعقب لقاءه.

[٦٣٣] فإن قيل : كيف قال الله تعالى في قصة الغلام : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) [الكهف : ٧٤] وفي قصة السفينة (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) [الكهف : ٧٤].

قلنا : قيل إمرا معناه نكرا ، فعلى هذا لا فرق في المعنى ؛ لأن الإمر والنكر بمعنى واحد.

وقيل : الإمر العجب أو الداهية وخرق السفينة كان أعظم من قتل نفس واحدة ، لأن في الأول هلاك كثيرين.

وقيل : النكر أعظم من الإمر فمعناه : جئت شيئا أنكر من الأول ؛ لأن ذلك كان يمكن تداركه بالسد وهذا لا يمكن تداركه.

[٦٣٤] فإن قيل : كيف قال تعالى ، في قصّة السفينة : (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ) [الكهف : ٧٢] وفي قصة الغلام : (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ) [الكهف : ٧٥]؟

قلنا : لقصد زيادة المواجهة بالعتاب على رفض الوصية مرة ثانية والتنبيه على تكرر ترك الصبر والثبات.

[٦٣٥] فإن قيل : ما فائدة إعادة ذكر الأهل في قوله : (اسْتَطْعَما أَهْلَها) [الكهف : ٧٧] وهلّا قال استطعماهم ، لأنه قد سبق ذكر الأهل مرّة؟

قلنا : فائدة إعادته التأكيد لا غير.

[٦٣٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) [الكهف : ٧٧] نسب الإرادة إلى الجماد وهي من صفات من يعقل؟

__________________

[٦٣٦] البيت لم نقف على نسبته لقائل.

ـ البيت الثاني في ديوان حسان : ٥١٧.

١٨٩

قلنا : هذا مجاز بطريق المشابهة ؛ لأنّ الجدار بعد مشارفته ومداناته للانقضاض وللسقوط شابه من يعقل ، ويريد في تهيئه للسقوط فظهر منه هيئة السقوط كما تظهر ممّن يعقل ، ويريد ، فنسبت إليه الإرادة مجازا بطريق المشابهة في الصّورة. وقد أضافت العرب أفعال العقلاء إلى ما لا يعقل مجازا قال الشاعر :

يريد الرّمح صدر أبي براء

ويعدل عن دماء بني عقيل

وقال حسان :

إنّ دهرا يلفّ شملي بجمل

لزمان يهمّ بالإحسان

ومن أمثاله «تمرّد مارد ، وعزّ الأبلق» ومنه قوله تعالى : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) [الأعراف : ١٥٤] وقوله : (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) [محمد : ٢١] وقوله : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] ونظائره كثيرة.

[٦٣٧] فإن قيل : لأي سبب لم يفارقه الخضر عليه‌السلام عند الاعتراض الأول والثاني وفارقه عند الثالث؟

قلنا : لوجهين :

أحدهما : أن موسى عليه‌السلام شرط على الخضر ترك مصاحبته على تقدير وجود الاعتراض الثالث وقد وجد ، فكان راضيا به.

الثّاني : أنّ اعتراض موسى ، عليه‌السلام ، في المرة الأولى والثّانية كان تورّعا وصلابة في الدّين ، واعتراضه في المرّة الثّالثة لهوى نفسه وشهوة بطنه فأعقبه هواه هوانا.

[٦٣٨] فإن قيل : قوله : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) [الكهف : ٧٩] علّته خوف الغصب ، فكان حقه أن يتأخر عن علّته فلم قدم عليها؟

قلنا : هو متأخر عنه ؛ لأن علّة تعييبها أو علّة إرادته تعييبها خوف الغصب ، وخوف الغصب سابق ؛ لأنّه الحامل للخضر عليه‌السلام على ما فعله. وفي قراءة أبيّ وعبد الله رضي الله عنهما «كل سفينة صالحة» ولا بد من إضمار هذه الزيادة على قراءة الجمهور وإلّا لم يفد الخرق.

[٦٣٩] فإن قيل : الشّمس في السماء الرابعة وهي بقدر كرة الأرض مائة وستين مرة ، وقيل مائة وخمسين ، وقيل مائة وعشرين ، فكيف تسعها عين في الأرض حتى أخبر الله تعالى

__________________

[٦٣٧] قول المصنف هنا : «لهوى نفسه الخ» فيه جرأة واضحة على مقام نبي من أولي العزم ، وسيتكرّر مثل هذا الكلام في غير موضع من هذا الكتاب ، وكأن الرازي لا يفقه معنى عصمة الأنبياء سلام الله عليهم!

١٩٠

عن ذي القرنين أنّه وجدها تغرب في عين حمئة أو حامئة على اختلاف القراءتين؟

قلنا : المراد بقوله تعالى : (وَجَدَها) أي في زعمه وظنه ، كما يرى راكب البحر إذا لجّ فيه وغابت عنه الأطراف والسواحل أن الشمس تطلع من البحر وتغرب فيه ، فذو القرنين انتهى إلى آخر البنيان في جهة المغرب فوجد عينا حمئة واسعة عظيمة فظن أن الشمس تغرب فيها.

[٦٤٠] فإن قيل : ذو القرنين كان نبيا أو تقيا حكيما على اختلاف القولين ، فكيف خفي عليه هذا حتى وقع في الظن المستحيل الذي لا يقبله العقل؟

قلنا : الأنبياء والأولياء والحكماء ليسوا معصومين عن ظن الغلط الخطأ ، وإن كانوا معصومين عن الكبائر. ألا ترى إلى ظن موسى عليه‌السلام فيما أنكره على الخضر عليه‌السلام في القضايا الثلاث ، وظنه أنه يرى الله تعالى في الدنيا وهو من كبار الأنبياء ، وكذلك يونس عليه‌السلام على ما أخبر الله تعالى بقوله : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) [الأنبياء : ٨٧] وكان الواقع بخلاف ظنه.

الثاني : أن الله تعالى قادر على تصغير جرم الشمس وتوسيع العين الحمئة وكرة الأرض بحيث تسع عين الماء عين الشمس ، فلم لا يجوز أن يكون قد وقع ذلك ولم نعلم به لقصور علمنا عن الإحاطة بذلك!! [٦٤١] فإن قيل : قوله تعالى : (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) [الكهف : ٨٦] ، يدل على أنه كان نبيا ، لأن الله تعالى خاطبه.

قلنا : من قال إنه ليس نبيا يقول هذا الخطاب له كان بواسطة النّبيّ الموجود في زمانه كما في قوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) [البقرة : ٤٩] وما أشبه.

[٦٤٢] فإن قيل : كيف قال الله تعالى هنا ، في حقّ الكفار : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) [الكهف : ١٠٥] ، أي فلا ننصب لهم ميزانا ؛ لأنّ الميزان إنما ينصب لتوزن به الحسنات بمقابلة السيئات ، والكافر لا حسنة له ولا طاعة لقوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] وقال في موضع آخر : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) [القارعة : ٨ ، ٩] أي فمسكنه النار فأثبت له ميزانا.

قلنا : معنى قوله تعالى : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) [الكهف : ١٠٥] أي لا يكون لهم عندنا قدر ولا خطر لخستهم وحقارتهم ، ولو كان معناه ما ذكرتم يكون المراد بقوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) [القارعة : ٨ ، ٩] من غلبت سيئاته على حسناته من المؤمنين فإنه يستكين في النار ، ولكن لا يخلد فيها بل بقدر ما يمحص عنه ذنوبه فلا تنافي بينهما.

١٩١

سورة مريم عليها‌السلام

[٦٤٣] فإن قيل : النداء الصوت والصياح ، يقال ناداه نداء ، أي صاح به ، فكيف وصفه تعالى بكونه (خَفِيًّا) [مريم : ٣]؟

قلنا : النداء هنا عبارة عن الدّعاء ، وإنّما أخفاه ليكون أقرب إلى الإخلاص ، أو لئلا يلام على طلبه الولد بعد الشّيخوخة ، أو لئلّا يعاديه بنو عمّه ويقولوا : كره أن نقوم مقامه بعده فسأل ربه الولد لذلك.

[٦٤٤] فإن قيل : كيف قال : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) [مريم : ٦] والنّبيّ لا يورّث ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ، ما تركناه صدقة»؟

قلنا : المراد بقوله يرثني : أي يرثني العلم والنّبوّة ، ويرث من آل يعقوب الملك. وقيل الأخلاق ، فأجابه الله تعالى إلى وراثته العلم والنّبوّة والأخلاق دون الملك ، والمراد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نورث» المال ويؤيده قوله : «ما تركناه صدقة» ويعقوب هنا أبو يوسف عليهما‌السلام. وقيل لا ؛ بل هو أخو زكريا. وقيل لا بل هو أخو عمران الذي هو أبو مريم.

[٦٤٥] فإن قيل : كيف قال : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) [مريم : ٦] فعدّى الفعل في الأوّل بنفسه والثّاني بحرف الجر وهو واحد؟

قلنا : يقال ورثه وورث منه ، فجمع بين اللغتين. وقيل : «من» هنا للتبعيض لا للتعدية ، لأن آل يعقوب لم يكونوا كلهم أنبياء ولا علماء.

[٦٤٦] فإن قيل : كيف طلب الولد بقوله : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) [مريم : ٥] أي ولدا صالحا ، فلما بشره الله تعالى بقوله : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ) [مريم : ٧] الآية

__________________

[٦٤٤] الحديث أخرجه : مالك في الموطأ ، ٥٦ ـ كتاب الكلام والعينة ، ١٢ ـ باب ما جاء في تركة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حديث ١٨٧٠.

البخاري ، ٨٥ ـ كتاب الفرائض ، ٣ ـ باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نورث ما تركناه صدقة» ، حديث ٦٧٣٠.

مسلم ، ٢٣ ـ كتاب الجهاد والسير ، ١٦ ـ باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نورث ما تركناه صدقة» ، حديث ٥١.

أبو داود ، ١٧ ـ كتاب الخراج ، ١٩ ـ باب في صفايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأموال ، حديث ٢٩٧٦.

١٩٢

استبعد ذلك وتعجب منه وأنكره بقوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) [آل عمران : ٤٠]؟

قلنا : لم يقل ذلك على طريق الإنكار والاستبعاد ، بل ليجاب بما أجيب به عن طلبه الوالد وهو قوله تعالى : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) [مريم : ٧] فيزداد الموقنون إيقانا ويرتدع المبطلون ، وإلا فمعتقد زكريا أولا وآخرا كان على منهاج واحد في أن الله تعالى غني عن الأسباب.

والثاني : أنه قال ذلك تعجب فرح وسرور ، لا تعجب إنكار واستبعاد.

الثالث : قيل إنه قال ذلك استفهاما عن الحالة التي يهبه الله تعالى فيها الولد ، هل يهبه في حال الشيخوخة أم يرده إلى حالة الشباب ثم يهبه ولكن هذا الجواب لا يناسبه ما أجيب به زكريا عليه‌السلام بعد استفهامه.

[٦٤٧] فإن قيل : كيف قال : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) [مريم : ١٠] والآية العلامة ، فطلب العلامة على وجود الولد بعد ما بشره الله تعالى به ، أكان عنده شك بعد بشارة الله تعالى في وجوده حتى طلب العلامة؟

قلنا : إنما طلب العلامة على وجود الحمل ليبادر إلى الشكر ويتعجل السرور ، فإن الحمل لا يظهر في أول العلوق بل بعد مدة ، فأراد معرفته أول ما يوجد ، فجعل الله آية وجود الحمل عجزه عن الكلام وهو سوي الجوارح ما به خرس ولا بكم.

[٦٤٨] فإن قيل : كيف قالت مريم : (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) [مريم : ١٨] ؛ وإنّما يتعوذ من الفاسق لا من التقي.

قلنا : معناه إن كنت ممن يتّقي الله ويخشاه فانته عنّي بتعوّذي به منك. فمعنى أعوذ أحصل على ثمرة التعوّذ.

وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنه كان في زمانها رجل اسمه تقي ، ولم يكن تقيّا بل كان فاجرا ، فظنته إياه فتعوذت منه. والقول الأول هو الذي عليه المحققون.

وقيل : هو على المبالغة معناه : إني أعوذ منك إن كنت تقيّا فكيف يكون حالي في القرب منك إلى الله تعالى إذا لم تكن تقيّا؟ قالوا : ونظير هذا ما جاء في الخبر : «نعم العبد صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه». معناه : أنه إذا كان بحال لو لم يخف الله تعالى لا يوجد منه عصيان ، فكيف يكون حاله إذا خاف الله تعالى. وفي قراءة أبي رجاء وابن مسعود إلا أن تكون تقيا.

[٦٤٩] فإن قيل : اتفق العلماء على أن الوحي لم ينزل على امرأة ولم يرسل جبريل

__________________

[٦٤٨] أبو رجاء : هو محمد بن أحمد بن الربيع بن سليمان بن أبي مريم ، أبو رجاء الأسواني ، فقيه ، وينظم الشعر. توفي سنة ٣٣٥ ه‍.

١٩٣

عليه‌السلام برسالة إلى امرأة قط ، ولهذا قالوا في قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص : ٧] أنه كان وحي إلهام ، وقيل : وحي منام ؛ فكيف قال تعالى هنا (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) [مريم : ١٧] وقال : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) [مريم : ١٩]؟

قلنا : لا نسلم أن الوحي لم ينزل على امرأة قط ، فإن مقاتلا قال في قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص : ٧] أنه كان وحيا بواسطة جبريل عليه‌السلام ، وإنما المتفق عليه بين العلماء أن جبريل عليه‌السلام لم ينزل بوحي الرّسالة على امرأة لا بمطلق الوحي ، وهنا لم ينزل على مريم بوحي الرسالة ؛ بل بالبشارة بالولد ، ولهذا جاء على صورة البشر (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [مريم : ١٧].

[٦٥٠] فإن قيل : ما وجه قراءة الجمهور (لِأَهَبَ لَكِ) [مريم : ١٩] والواهب للولد هو الله تعالى لا جبريل عليه‌السلام؟

قلنا : قال ابن الأنباري : معناه إنّما أنا رسول ربك بقوله لك أرسلت رسولي إليك لأهب لك ، فيكون حكاية عن الله تعالى لا عن قول جبريل عليه‌السلام ، فيكون فعل الهبة مسندا إلى الله تعالى لا إليه.

الثاني : أن معناه لأكون سببا في هبة الولد بواسطة النفخ في الدرع ، فالإضافة إليه بواسطة السببية.

[٦٥١] فإن قيل : كيف قالت : (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) [مريم : ٢٠] ولم تقل بغية ؛ مع أنه وصف مؤنث؟

قلنا : قال ابن الأنباري : لما كان هذا الوصف غالبا على النساء ، وقلما تقول العرب رجل بغي ، لم يلحقوا به علامة التأنيث إجراء له مجرى حائض وعاقر. وقال الأزهري : لا يقال رجل بغيّ ، بل هو مختص بالمؤنث ، ولام الكلمة ياء يقال بغت تبغي. وهي فعول عند المبرد أصلها بغويّ قلبت الواو ياء وأدغمت وكسرت الغين اتباعا ، فهو كصبور وشكور في عدم دخول التاء. وقال ابن جني في كتابه التمام : هي فعيل ، ولو كان فعولا لقيل بغو ، كما قيل هو نهو عن المنكر. ثم قيل : هي فعيل بمعنى فاعل ، فهي كقوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦]. وقال الأخفش : هي مثل ملحفة جديد فجعلها بمعنى مفعول. وقيل : إنما لم يقل بغية مراعاة لبقية رءوس الآيات.

__________________

[٦٥١] الأزهري : هو محمد بن أحمد بن الهروي ، أبو منصور. أحد الأئمة في اللّغة والأدب. ولد في هراة بخراسان سنة ٢٨٢ ه‍ وتوفي بها سنة ٣٧٠ ه‍. من مؤلفاته : تهذيب اللّغة ، غريب الألفاظ التي استعملها الفقهاء ، تفسير القرآن ، الخ.

١٩٤

[٦٥٢] فإن قيل : ما كان حزن مريم وقولها : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) [مريم : ٢٣] ألفقد الطعام والشراب حتى تسلي بالسري والرّطب ، أم كان لخوف أن يتهمها قومها بفعل الفاحشة؟.

قلنا : كان حزنها لمجموع الأمرين ، وهو ما ذكرتم ، وجدب مكانها الذي ولدت فيه ، فإنه لم يكن فيه طعام ولا شراب ولا ماء تتطهر به ، وكان إجراء النهر في المكان اليابس الذي لم يعهد فيه ماء ، وإخراج الرطب من الشجرة اليابسة دافع لجهتي الحزن ، أما دفع الجدب فظاهر ، وأما دفع حزن التهمة فمن حيث أنهما معجزتان تدلان قومها على عصمتها وبراءتها من السوء وأن الله تعالى قد خصها بأمور إلهية خارجة عن العادة خارقة لها ، فتبين لهم أن ولادتها من غير فحل ليس ببدع من شأنها ولا بعيد في قدرة الله تعالى ، المخرج في لحظة واحدة الرطب الجنيّ من النخلة اليابسة ، والمجري للماء بغتة في مكان لم يعهد فيه.

[٦٥٣] فإن قيل : كيف أمرها جبريل عليه‌السلام إذا رأت إنسانا أن تكلمه بعد النذر بالسكوت بقوله : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) [مريم : ٢٦] الآية ، وذلك خلف في النذر؟

قلنا : إنما أمرها بذلك لأنه تمام نذرها ، فإنها لم تكن مأمورة بنذر مطلق السكوت حتى يندرج فيه الكف عن الذكر والتسبيح والدعاء ونحوها ، بل بنذر السكوت عن تكليم الإنس ، وإذا كان تمام نذرها بقولها : (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [مريم : ٢٦] لا تكون مكلمة لإنسي بعد تمام النذر.

[٦٥٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) [مريم : ٢٩] وكل أحد كان ، في المهد صبيا؟

قلنا : كان هنا زائدة ، وصبيا منصوب على الحال لا على أنه خبر كان تقديره : كيف نكلم من في المهد في حال صباه. وقيل : كان بمعنى وقع ووجد ، وصبيا منصوب على الوجه الذي مرّ.

[٦٥٥] فإن قيل : خطاب التكليف في جميع الشرائع إنّما يكون بعد البلوغ أو بعد التمييز والقدرة على فعل المأمور به ، وعيسى عليه‌السلام كان رضيعا في المهد فكيف خوطب بالصلاة والزكاة حتى قال : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) [مريم : ٣١]؟

قلنا : تأخير الخطاب إلى غاية البلوغ وغيرها إنما كان ليحصل العقل والتمييز ، وعيسى عليه‌السلام كان واجد العقل والتمييز التام في تلك الحالة فتوجّه نحوه الخطاب أن يفعلهما إذا قدر على ذلك ، ولهذا قيل : إنه أعطي النّبوّة في صباه أيضا.

١٩٥

[٦٥٦] فإن قيل : الزكاة إنما تجب على الأغنياء ، وعيسى عليه‌السلام لم يزل فقيرا لابس كساء مدة مقامه في الأرض ، وعلم الله تعالى ذلك من حاله ، فكيف أوصاه بالزكاة؟

قلنا : المراد بالزكاة هنا تزكية النفس وتطهيرها من المعاصي لا زكاة المال!!

[٦٥٧] فإن قيل : كيف جاء السلام في قصة يحيى عليه‌السلام منكرا ، وفي قصة عيسى عليه‌السلام معرفا؟

قلنا : قد قيل إن النكرة والمعرفة في مثل هذا سواء لا فرق بينهما في المعنى.

الثاني : أنه سبق ذكره في قصة يحيى عليه‌السلام مرة فلما أعيد ذكره أعيد معرفا كقوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [المزمل : ١٥ ، ١٦] كأنه قال ذلك السلام الموجه إلى يحيى عليه‌السلام في المواطن الثلاثة موجه إليّ.

[٦٥٨] فإن قيل : كيف تكون الألف واللام في السلام للعهد ، والأول سلام من الله تعالى على يحيى عليه‌السلام ، والثاني سلام من عيسى على نفسه؟

قلنا : التعريف راجع إلى ماهية السلام ومواطنه لا إلى كونه واردا من عند الله تعالى.

[٦٥٩] فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ) [مريم : ٤١] وما أشبهه ، ومثل هذا إنما يستعمل إذا كان المأمور مختارا في الذكر وعدمه ، كما تقول لصاحبك وهو يكتب كتابا اذكرني في الكتاب ، أو اذكر فلانا في الكتاب ؛ والنبي عليه‌السلام ما كان على سبيل من الزيادة والنقصان في الكتابة ليوصى بمثل ذلك؟

قلنا : هذا على طريق التأكيد في الأمر بالإبلاغ ، كتأكيد الملك على رسوله بإعادة بعض فصول الرسالة وتخصيصها بالأمر بالإبلاغ.

[٦٦٠] فإن قيل : الاستغفار للكافر لا يجوز ، فكيف وعد إبراهيم أباه بالاستغفار له بقوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) [مريم : ٤٧] مع أنّه كافر؟

قلنا : معناه : سأسأل الله تعالى لك توبة تنال بها مغفرته ، يعني الإسلام. والاستغفار للكافر بهذا الطريق جائز ، وهو أن يقال : اللهم وفقه للإسلام أو اللهم تب عليه واهده وأرشده وما أشبه ذلك.

الثاني : أنه وعده ذلك بناء على أنه يسلم فيستغفر له بعد الإسلام.

الثالث : أنه وعده ذلك قبل تحريم الاستغفار للكافر ، فإن تحريم ذلك قضية شرعية إنما تعرف بالسمع لا عقلية ، فإن العقل لا يمنع ذلك.

١٩٦

[٦٦١] فإن قيل : الطور وهو الجبل ليس له يمين ، ولا شمال ، فكيف قال تعالى : (مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) [مريم : ٥٢]؟

قلنا : خاطب الله تعالى العرب بما هو معروف في استعمالهم ، فإنهم يقولون عن يمين القبلة وشمالها ، يعنون ما يلي يمين المستقبل لها وشماله ؛ لأن القبلة لا بدّ لها لتكون لها يمين وشمال. وهذا اتساع منهم في الكلام لعدم اللبس. فالمراد بالأيمن هنا ما عن يمين موسى عليه‌السلام من الطور ؛ لأن النداء جاءه من قبل يمينه ، هذا إن كان الأيمن ضد الأيسر من اليمين ، وإن كان من اليمن وهو البركة من قولهم : يمن فلان قومه فهو يامن ، أي كان مباركا عليهم. فلا إشكال ؛ لأنّه يصير معناه : من جانب الطور المبارك.

[٦٦٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) [مريم : ٥٣] وهارون كان أكبر من موسى عليهما‌السلام فما معنى هبته له؟

قلنا : معناه أن الله تعالى أنعم على موسى عليه الصلاة والسلام بإجابة دعوته فيه حيث قال : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي) [طه : ٢٩ و ٣٠] الآية فقال : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) [القصص : ٣٥] فالمراد بالهبة أنه جعله عضدا له وناصرا ومعينا كذا فسره ابن عباس رضي الله عنهما.

[٦٦٣] فإن قيل : كيف وصف الله تعالى النبيين المذكورين في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) [مريم : ٥٨] الآية بقوله تعالى : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) [مريم : ٥٨] والمراد بآيات الرحمن القرآن ، والقرآن لم يتل على أحد من الأنبياء المذكورين؟

قلنا : آيات الرحمن غير مخصوصة بالقرآن ؛ بل كل كتاب أنزله الله تعالى ففيه آياته ، ولو سلمنا أن المراد بها القرآن فنقول : إن المراد بقوله : (وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) [مريم : ٥٨] محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته.

[٦٦٤] فإن قيل : قوله تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ) [مريم : ٥٩ ، ٦٠] يدل على أن ترك الصلاة وإضاعتها كفر ؛ لأنه شرط في توبة مضيعها الإيمان؟

قلنا : قال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد بهؤلاء الخلف هنا اليهود تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمر واستحلوا نكاح الأخت من الأب.

[٦٦٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) [مريم : ٦١] ولم يقل آتيا ، كما قال تعالى : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ) [الأنعام : ١٣٤]؟

١٩٧

قلنا : المراد بوعده هنا موعده وهو الجنة ، وهي مأتية يأتيها أولياؤه.

الثاني : أن مفعولا هنا بمعنى فاعل ، كما في قوله تعالى : (حِجاباً مَسْتُوراً) [الإسراء : ٤٥]. أيا ساترا.

[٦٦٦] فإن قيل : قوله تعالى : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) [مريم : ٦٣] وقوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣] يدل من حيث المفهوم أن غير المتقين لا يدخلون الجنة؟

قلنا : المراد بالتقوى هنا التقوى من الشرك ، وكل المؤمنين سواء في ذلك.

[٦٦٧] فإن قيل : ما معنى انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال من دعوتهم الولد لله تعالى ، ومن أين تؤثر هذه الكلمة في الجمادات؟

قلنا : معناه أن الله تعالى يقول : كدت أفعل هذا بالسماوات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضبا على قائلها لو لا حلمي وإمهالي وأن لا أعجّل العقوبة ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) [فاطر : ٤١] يعني أن تخر على المشركين وتنشق الأرض بهم ، ويدل على هذا قوله تعالى في آخر الآية : (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [فاطر : ٤١].

الثاني : أن يكون استعظاما لقبح هذه الكلمة وتصويرا لأثرها في الدين وهدما لأركانه وقواعده وأن مثال ذلك الأثر في المحسوسات أن يصيب هذه الأجسام العظيمة التي هي قوام العالم ما تنفطر منه وتنشق وتخر.

[٦٦٨] فإن قيل : كيف قال تعالى هنا ، في صفة الشرك : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) [مريم : ٩٠] وهذا يدل على قوة كلمة الشرك وشدّتها ، وقال تعالى في سورة إبراهيم ، صلوات الله عليه ، في صفة كلمة الشرك : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) [إبراهيم : ٢٦] والمراد بالكلمة الخبيثة كلمة الشرك ، كذا قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، أو بالشجرة الخبيثة شجرة الحنظل ، كذا قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا يدل على ضعف كلمة الشرك وتلاشيها واضمحلالها ، فكيف التوفيق بينهما؟

قلنا : وصفت كلمة الشرك في سورة إبراهيم عليه‌السلام بالضعف وهنا بالقبح ، فهي في غاية الضعف وفي غاية القبح والفظاعة فلا تنافي بينهما.

[٦٦٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) [مريم : ٩٤] والإحصاء العد على ما نقله الجوهري ، أو الحصر على ما نقله بعض أئمة التفسير ،

__________________

[٦٦٩] البيت لم نقف على نسبته لقائل.

١٩٨

كما سبق ذكره في سورة إبراهيم صلوات الله عليه في قوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤] فإن كان الإحصاء العد فهو تكرار ، وإن كان الحصر فذكره مغن عن ذكر العد ؛ لأن الحصر لا يكون إلا بعد معرفة العدد؟

قلنا : الإحصاء قد جاء بمعنى العلم أيضا ، ومنه قوله تعالى : (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) [الجن : ٢٨] أي علم عدد كل شيء ، قال الشاعر :

وكن للذي لم تحصه متعلّما

وأما الّذي أحصيت منه فعلّم

وهو المراد هنا ، فيصير المعنى لقد علمهم ، أي علم أفعالهم وأقوالهم وكل ما يتعلق بذواتهم وصفاتهم وعددهم ، فلا تكرار ولا استغناء عن ذكر العد.

١٩٩

سورة طه عليه‌السلام

[٦٧٠] فإن قيل : قوله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى ناراً) [طه : ٩ ، ١٠] الآية ؛ كيف حكى الله تعالى قول موسى عليه‌السلام لأهله عند رؤية النار في هذه السورة وفي سورة النمل وفي سورة القصص بعبارات مختلفة ، وهذه القضية لم تقع إلا مرة واحدة ، فكيف اختلفت عبارة موسى عليه‌السلام فيها؟

قلنا : قد سبق في سورة الأعراف في قصة موسى عليه‌السلام مثل هذا السؤال والجواب المذكور ، ثم هو الجواب هنا.

[٦٧١] فإن قيل : قوله تعالى : (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) [طه : ١٦] ظاهر اللفظ نهي من لا يؤمن بالساعة عن صد موسى عن الإيمان بها ، والمقصود هو نهي موسى عن التكذيب بها ، فكيف تنزيله.

قلنا : معناه كن شديد الشكيمة في الدين ، صليب المعجم لئلا يطمع في صدك عن الإيمان بها من لا يؤمن بها ، وهذا كقولهم : لا أرينك هاهنا ؛ معناه : لا تدن مني ولا تقرب من حضرتي لئلا أراك ؛ ففي الصورتين النهي متوجه إلى المسبب ، والمراد به النهي عن السبب ، وهو القرب منه والجلوس بحضرته فإنه سبب رؤيته ، وكذلك لين موسى عليه‌السلام في الدين وسلاسة قياده سبب لصدهم إياه.

[٦٧٢] فإن قيل : ما فائدة السؤال في قوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) [طه : ١٧] وهو أعلم بما في يده جملة وتفصيلا؟

قلنا : فائدته تأنيسه وتخفيف ما حصل عنده من دهشة الخطاب وهيبة الإجلال وقت التكلم معه ، كما يرى أحدنا طفلا قد داخلته هيبة وإجلال وخوف وفي يده فاكهة أو غيرها فيلاطفه ويؤانسه بقوله ما هذا الذي في يدك؟ مع أنه عالم به.

الثاني : أنه أراد بذلك أن يقر موسى عليه‌السلام ويعترف بكونها عصا ويزداد علمه بكونها عصا رسوخا في قلبه فلا يحوم حوله شك إذا قلبها ثعبانا أنها كانت عصا ثم انقلبت ثعبانا بقدرة الله تعالى ، وأن يقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه فيتنبه على القدرة الباهرة ، ونظيره أن يريك الزراد زبرة من حديد ويقول لك ما هذه؟ فتقول زبرة من حديد ، ثم يريك بعد أيام درعا سابغة مسرودة ويقول : هذه تلك الزبرة صيرتها إلى ما تراه من عجيب الصنعة وأنيق السرد.

٢٠٠