أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها

محمّد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي

أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-026-9
الصفحات: ٤٠٨

سورة الأنفال

[٣٥١] فإن قيل : قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال : ٢] إلى آخر الآيتين ، يدل على أن من لم يتصف بجميع تلك الصفات لا يكون مؤمنا ؛ لأن كلمة إنما للحصر.

قلنا : فيه إضمار تقديره : إنما المؤمنون إيمانا كاملا ، وإنما الكاملون في الإيمان ، كما يقال : الرجل من تصبّر على الشدائد ، يعني الرجل الكامل.

[٣٥٢] فإن قيل : قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [الأنفال : ٧٤] ينفي إرادة ما ذكرتم.

قلنا : معناه أولئك هم المؤمنون إيمانا كاملا حقا.

وقيل : إنّ حقا متعلق بما بعده لا بما قبله ، والمؤمنون تمام الكلام.

[٣٥٣] فإن قيل : كيف يقال : إن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان ، وقد قال تعالى : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) [الأنفال : ٢]؟

قلنا : المراد هنا آثار الإيمان من الطمأنينة واليقين والخشية ونحو ذلك ؛ لأن تظاهر الأدلة على المدلول مما يزيده رسوخا في العقائد وثبوتا ، فأما حقيقة الإيمان فهو التصديق والإقرار بوحدانية الله تعالى. وكما أن الإلهية الوحدانية لا تقبل الزيادة والنقصان ، فكذا الإقرار بها.

[٣٥٤] فإن قيل : قوله تعالى : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) [الأنفال : ٥] تشبيه ، فأين المشبه والمشبه به؟

قلنا : معناه أمض على ما رأيته صوابا من تنفيل الغزاة في قسمة الغنائم وإن كرهوا ، كما مضيت في خروجك من بيتك للحرب بالحق وهم كارهون.

وقيل معناه : فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فهو خير لكم وإن كرهتم ، كما كان إخراجك من بيتك بالحق.

[٣٥٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) [الأنفال : ٨] وكلاهما متعذر ، لأنه تحصيل الحاصل؟

قلنا : المراد بالحق الإيمان ، والباطل الشرك ، فاندفع السؤال.

١٠١

[٣٥٦] فإن قيل : ما فائدة التكرار في قوله تعالى : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَ) [الأنفال : ٧ ، ٨]؟

قلنا : إنما ذكر أولا لبيان أن إرادتهم كانت متعلقة باختيار الطائفة التي كانت فيها الغنيمة ، وإرادة الله تعالى باختيار الطائفة التي في قهرها نصرة الدين. فذكره أولا للتمييز بين الإرادتين ، ثم ذكره ثانيا لبيان الحكمة في قطع دابر الكافرين.

[٣٥٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] ومعلوم أن المؤمنين يوم بدر قتلوا الكفار ورماهم النبي عليه الصلاة والسلام بكف من حصا الوادي في وجوههم وقال : شاهت الوجوه ، فلم يبق مشرك إلا وقع في عينيه شيء من ذلك ، فشغلوا بعيونهم وانهزموا ، فتبعهم المؤمنون يقتلون ويأسرون؟

قلنا : لما كان السبب الأقوى في قتلهم إنما هو مدد الملائكة وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين وتثبيت قلوب المؤمنين وأقدامهم ، وذلك كله فعل الله تعالى ، نفى الفعل عنهم ونسبه إليه ، يعني إن كان ذلك في الصورة منكم فهو في الحقيقة مني ، فسبيلكم الشكر دون العجب والفخر ، وكذلك الرمية أثبتها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن صورتها وجدت منه ، ونفاها عنه ؛ لأن أثرها الذي لا يوجد مثله عن رمي البشر فعل الله تعالى ، ونظير هذا قولك لمن يصدر عنه قول حسن أو فعل مكروه بتسليط من هو أعلى رتبة منه : هذا ليس قولك ولا فعلك.

وقيل : معنى قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) [الأنفال : ١٧] وما رميت الرعب في قلوبهم إذ رميت الحصا في وجوههم ولكن الله رمى الرعب في قلوبهم.

ولأهل الحقيقة في هذه الآية وفي نظائرها من الكتاب والسنة مباحث لا يحتملها هذا المختصر ، وهي مستقصاة في كتب التصوف.

[٣٥٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) [الأنفال : ٢٠] ثنّى في الأمر ثم أفرد في النهي؟

قلنا : كما يذكر في لغة العرب الاسم المفرد ويراد به الاثنان والجمع ، فكذلك يذكر ضمير المفرد ويراد به ضمير الاثنين كقولهم : إنعام فلان ومعروفه يغشيني ، والإنعام والمعروف لا ينفع مع فلان ، وعليه جاء قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] ، أي يرضوهما ، فكذا هنا ، معناه : ولا تولوا عنهما.

__________________

[٣٥٨] ـ الحديث أخرجه أحمد : ٤ / ٢٥٦ ، بنحو اللفظ الذي أورده الرّازي هنا.

١٠٢

الثاني : أنه إنّما أفرد باعتبار عود الضمير إلى الله وحده لأنه الأصل ، مع أن طاعة الله وطاعة رسوله متلازمان ، قال الله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] ، وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] فكان الإعراض عن الرسول إعراضا عن الله تعالى فاكتفى بذكره.

الثالث : أن معناه : ولا تولوا عن هذا الأمر وعن أمثاله ، فالضمير للأمر لا للرسول عليه الصلاة والسلام.

الرابع : أنّه إنما لم يقل ولا تولوا عنهما لئلّا يلزم منه الإخلال بالأدب من النبي عليه الصلاة والسلام عند نهيه للكفار في قرانه بين اسمه واسم الله تعالى في ذكرهما بلفظ واحد من غير تقديم اسم الله ، كما روي : أن خطيبا خطب فقال : من أطاع الله ورسوله فقد رشد ، ومن عصاهما فقد غوى ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بئس خطيب القوم أنت! هلّا قلت : ومن عصى الله ورسوله فقد غوى»؟

[٣٥٩] فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) [الأنفال : ٢٣] الآية؟

قلنا : معناه ولو علم الله فيهم تصديقا وإيمانا في المستقبل لأسمعهم سماع فهم وقبول ، أو لأنطق لهم الموتى يشهدون بصدق نبوتك كما طلبوا.

وقيل : معنى لأسمعهم : لرزقهم الفهم والبصيرة ، وأسمعهم وحالهم هذه الحال ، وهو أنه لم يعلم فيهم الخير ، لتولوا وهم معرضون ، لعنادهم وجحودهم الحق بعد ظهوره.

[٣٦٠] فإن قيل : التولي والإعراض واحد ، فما فائدة قوله : (لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال : ٣٢].

قلنا : معناه لتولوا عن الإيمان وأعرضوا عن البرهان فلا تكرار.

[٣٦١] فإن قيل : فما فائدة ذكر السماء في قوله تعالى : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢] والمطر إنما يكون من السماء؟

قلنا : المطر المطلق. إنما يكون من السماء ، ولكن المطر المضاف هنا وهو مطر الحجارة قد يكون من رءوس الجبال ومن حيطان المساكن والقصور وسقوفها ، فكان ذكر السماء مفيدا لأن الحجارة إذا نزلت من المساء كانت أشد نكاية وأكثر ضررا.

الثاني : أنه لما كانت الحجارة المسومة للعذاب وهي السجيل معهودة النزول من السماء ذكر السماء إشارة إلى إرادة المعهود من الحجارة ، كأنه قال : فأمطر علينا حجارة من سجيل ، فوضع قوله من السماء موضع قوله من سجيل كما تقول : صب عليه مسرودة من حديث ، يعني درعا.

١٠٣

[٣٦٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣] ويوم بدر عذبهم الله تعالى بالقتل والأسر وهو فيهم؟

قلنا : معناه وأنت مقيم فيهم بمكة ، وكان كذلك ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما دام بمكة لم يعذبوا ، فلما أخرجوه من مكة وخرجوا لحربه عذبوا.

وقيل معناه : وما كان الله ليعذبهم عذاب الاستئصال وأنت فيهم.

وقيل معناه : وما كان الله ليعذبهم العذاب الذي طلبوه وهو إمطار الحجارة وأنت فيهم.

[٣٦٣] فإن قيل : كيف قال الله تعالى أولا : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣] الآية ، ثم قال : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) [الأنفال : ٣٤] الآية ، وهو يوهم التناقض؟

قلنا : معناه وما لهم أن لا يعذبهم الله بعد خروجك من بينهم وخروج المؤمنين والمستغفرين.

وقيل : المراد بالعذاب الأول عذاب الاستئصال ، وبالثاني عذاب غير الاستئصال.

وقيل : المراد بالأول عذاب الدنيا ، وبالثاني عذاب الآخرة.

[٣٦٤] فإن قيل : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال : ٣٥] والمكاء الصفير ، والتصدية التّصفيق ، وهما ليسا بصلاة؟

قلنا : معناه أنهم أقاموا المكاء والتّصدية مقام الصلاة ، كما يقول القائل : زرت فلانا ، فجعل الجفاء صلتي ، أي أقام الجفاء مقام صلتي ، ومنه قول الفرزدق :

أخاف زيادا أن يكون عطاؤه

أداهم سودا أو محدرجة سمرا

أراد بالأداهم القيود ، وبالمحدرجة السياط ، ووضعهما موضع العطاء.

[٣٦٥] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا) [الأنفال : ٣٨] وهم لم ينتهوا عن الكفر ، فكيف قال : (وَإِنْ يَعُودُوا) ؛ والعود إلى الشيء إنما يكون بعد تركه والإقلاع عنه؟

__________________

[٣٦٤] المكاء : يقال : مكا الطير يمكو مكاء ، أي صفر. فالمكاء الصفير.

ـ التصدية قال الرّاغب : التصدية كل صوت يجري مجرى الصدى في أن لا غناء فيه ، (أي باطلا ولا جدوى من ورائه). وفسرت التصدية بالتصفيق.

ـ يروى البيت وهو في ديوان الفرزدق ١ / ٢٢٧ :

فلمّا خشيت أن يكون عطاؤه

أداهم سودا أو محدرجة سمرا

وزياد هو ابن أبيه وقد كان توعد الفرزدق ، ثم تظاهر بالرضا عنه ، ولوّح له بأن يصله إذا هو أتاه ؛ فلم يطمئن له الشاعر.

١٠٤

قلنا : معناه إن ينتهوا عن عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومحاربته يغفر لهم ما قد سلف من ذلك ، وإن يعودوا إلى قتاله وعداوته فقد مضت سنة الأولين منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر ، أو فقد مضت سنة الذين تحزّبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية.

وقيل معناه : إن ينتهوا عن الكفر بالإيمان يغفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي ، كما قال النبي ، عليه الصلاة والسلام : «الإسلام يجبّ ما كان قبله». وإن يعودوا إلى الكفر بالارتداد بعد ما أسلموا فقد مضت سنة الأولين من الأمم من أخذهم بعذاب الاستئصال.

[٣٦٦] فإن قيل : الفائدة في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهرة ، وهي زوال الرعب من قلوب المؤمنين وتثبيت أقدامهم وزيادة اجترائهم على القتال ، فما فائدة تقليل المؤمنين في أعين الكفار حتى قال الله تعالى : (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [الأنفال : ٤٤] مع أن في ذلك زوال الرعب من قلوب الكافرين وتثبيت أقدامهم واجترائهم على القتال؟

قلنا : فائدته أن لا يستعد الكفار كل الاستعداد ، فيجترئوا على المؤمنين معتمدين على قلتهم ، ثم تفجئهم الكثرة فيدهشوا ويتحيروا ، وأن يكون ذلك سببا يتنبه به المشركون على نصرة الحق إذا رأوا المؤمنين مع قلتهم في أعينهم منصورين عليهم.

وفي التقليل من الطرفين معارضة تعرف بالتأمل.

[٣٦٧] فإن قيل : قوله تعالى : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال : ٤٦] يدل على حرمة المنازعة والجدال أيضا ؛ لأنه منازعة ، فكيف تجوز المناظرة وهي منازعة وجدال؟

قلنا : المراد بالمنازعة هنا ، المنازعة في أمر الحرب والاختلاف فيه ، لا المنازعة في إظهار الحق بالحجّة والبرهان. والدليل عليه أن ذلك مأمور به.

قال الله تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] ؛ ولكن للجواز شروط يندر وجودها في زمننا هذا ، أحدها أن يكون كل المقصود منها ظهور الحق على لسان أيّ الخصمين ، كما كانت مناظرة السلف ؛ وعلامة ذلك أن لا يفرح بظهور الحق على لسانه أكثر مما يفرح بظهوره على لسان خصمه.

[٣٦٨] فإن قيل : كيف قال إبليس (إِنِّي أَخافُ اللهَ) [الأنفال : ٤٨] وهو لا يخاف الله ، لأنه لو خافه لما خالفه ثم أضل عبيده؟

قلنا : قال قتادة : صدق عدوّ الله في قوله : (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) [الأنفال : ٤٨] يعني جبريل والملائكة عليهم‌السلام معه نازلين من السماء لنصرة المسلمين يوم بدر ، وكذب في قوله : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) [الأنفال : ٤٨]. والله ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوة له بهم.

١٠٥

وقيل : لما رأى نزول الملائكة على صورة لم يرها قط خاف قيام الساعة التي هي غاية إنظاره ، فيحل به العذاب الموعود.

وقيل : معنى أخاف الله : أعلم صدق وعده لنبيه بالنصر ، وقد جاء الخوف بمعنى العلم ، ومنه قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) [البقرة : ٢٢٩]. ويحتمل عندي أن يكون خاف أن يحل به من الملائكة ما دون الإهلاك من الأذى إذ لم يخف الإهلاك.

ثم ، أقول : كيف تؤخذ عليه كذبة واحدة ، وهو أفسق الفسقة ، وأكفر الكفرة ؛ فلا عجب في كذبه وإنما العجب في صدقه!

[٣٦٩] فإن قيل : أي مناسبة بين الشرط والجزاء في قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال : ٤٩].

قلنا : لما أقدم المؤمنون وهم ثلاث مائة وبضعة عشر على قتال المشركين وهم زهاء ألف متوكلين على الله ، وقال المنافقون : غرّ هؤلاء دينهم حتى أقدموا على ثلاثة أمثالهم عددا أو أكثر. قال الله تعالى ردّا على المنافقين وتثبيتا للمؤمنين (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) [الأنفال : ٤٩] ، أي غالب يسلط القليل الضعيف على الكثير القوي وينصره عليه ، حكيم في جمع أفعاله.

[٣٧٠] فإن قيل : كيف قال (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [الأنفال : ٥١] ولم يقل ليس بظالم ، وهو أبلغ في نفي الظلم عن ذاته المقدسة؟

قلنا : قد سبق هذا السؤال وجوابه في سورة آل عمران.

[٣٧١] فإن قيل : قوله عزوجل : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الأنفال : ٥٣] وذلك إشارة إلى إهلاك كفار مكة وآل فرعون ولم تكن لهم حال مرضية غيروها؟

قلنا : كما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها وأسوأ ، وأولئك كانوا قبل بعث الرسول إليهم عباد أصنام ، فلما بعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم بالآيات البينات فكذبوه وعادوه وسعوا في قتله غيروا حالهم إلى أسوأ منها ، فغير الله تعالى ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب.

[٣٧٢] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنفال : ٥٥] بعد قوله : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال : ٥٥]؟

قلنا : مراده أن يبين أن شر الكفار الذين كفروا واستمروا على الكفر إلى وقت الموت.

١٠٦

[٣٧٣] فإن قيل : ما فائدة تكرار المعنى الواحد في مقاومة الجماعة لأكثر منها قبل التخفيف وبعده في قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٥] إلى قوله : (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال : ٦٦]؟

قلنا : فائدته الدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت ؛ بل كما ينصر الله تعالى العشرين على المائتين ينصر المائة على الألف ، وكما ينصر المائة على المائتين ينصر الألف على الألفين.

[٣٧٤] فإن قيل : كيف أخبر الله تعالى عن هذه الغلبة ونحن نشاهد الأمر بخلافها ، فإن المائة من الكفار قد تغلب المائة من المسلمين ؛ بل المائتين في بعض الأحوال؟

قلنا : إنما أخبر الله عزوجل عن هذه الغلبة بشرط الصبر الذي هو الثبات في موقف الحرب ، أو الذي هو الموافقة بين المسلمين ظاهرا وباطنا ؛ فمتى وجد الشرط تحققت الغلبة للمسلمين مع قلتهم لا محالة. ولقائل أن يقول إن هذه الغلبة مخصوصة بطائفة كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدهم ، وسياق الآية يدل عليه.

[٣٧٥] فإن قيل : كيف قال الله تعالى (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [الأنفال : ٦٧] مع أنه يريد الدّنيا أيضا ؛ لأنه لو لا إرادته إياها لما وجدت ، فما فائدة هذا التخصيص؟

قلنا : المراد بالإرادة هنا الاختيار والمحبة ، لا إرادة الوجود والكون ، فالمعنى أتحبون عرض الحياة الدنيا وتختارونه ، والله يختار ما هو سبب الجنة وهو إعزاز الإسلام بالإثخان في القتل.

١٠٧

سورة التوبة

[٣٧٦] فإن قيل : لأي سبب تركت كتابة البسملة في أول هذه السورة بخلاف سائر السور؟

قلنا : لما تشابهت هي والأنفال واختلفت الصحابة في كونهما سورتين أو سورة واحدة تركت بينهما فرجة عملا بقول من قال هما سورتان ، وتركت البسملة بينهما عملا بقول من قال هما سورة واحدة ، وممن قال بذلك قتادة رحمه‌الله.

الثاني : أن اسم الله تعالى سلام وأمان ، وبراءة فيها قتل المشركين ومحاربتهم فلا يناسب كتابتها.

[٣٧٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) [التوبة : ١٢] خص الأمر بالقتال بأئمة الكفر ، مع أن النكث والطعن ليس مخصوصا بهم ؛ بل هو مسند إلى جميع المشركين؟

قلنا : المراد بأئمة الكفر رءوس المشركين وقادتهم. وقيل : كفار مكة ؛ لأنهم كانوا قدوة جميع العرب في الكفر ، فكأن النكث والطعن لم يوجد إلا منهم لما كانوا هم الأصل فيه ، فلذلك خصهم بالذكر.

[٣٧٨] فإن قيل : كيف قال : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] ونحن نسأل اليهود والنصارى عن ذلك فينكرونه ويجحدونه؟

قلنا : طائفة من اليهود وطائفة من النصارى هم الذين يقولون ذلك لا كلّهم ، فالألف واللام للعهد لا للجنس ولا للاستغراق ، أو أطلق اسم الكل وأراد البعض ، كما قال تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ) [آل عمران : ٤٢] وإنما قال لها جبريل وحده.

[٣٧٩] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) [التوبة : ٣٠] وقول كل أحد إنما يكون بفمه.

قلنا : معناه أنه قول لا تعضده حجة وبرهان ، إنما هو مجرد لفظ لا أصل له.

وقيل : ذكر ذلك للمبالغة في الرد عليهم والإنكار لقولهم ، كما يقول الرجل لغيره : أنت قلت لي ذلك بلسانك.

١٠٨

[٣٨٠] فإن قيل : دين الحق هو جملة الهدى فما فائدة عطفه على الهدى في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) [التوبة : ٣٣]؟

قلنا : المراد بالهدى هنا القرآن ، وبدين الحق الإسلام وهما متغايران.

الثاني : أنه وإن كان داخلا في جملة الهدى ولكنه خصه بالذكر تشريفا له وتفضيلا كما في قوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة : ٢٣٨] وقوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨].

[٣٨١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [التوبة : ٣٣] ولم يقل على الأديان كلها ؛ مع أنه أظهره على الأديان كلها؟

قلنا : المراد بالدين هنا اسم الجنس ، واسم الجنس المعرف باللام يفيد معنى الجمع ، كما في قولهم : كثر الدرهم والدينار في أيدي الناس.

[٣٨٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) [التوبة : ٣٤] والمذكور الذهب والفضة ، فأعاد الضمير على أحدهما؟

قلنا : أعاد الضمير على الفضة ؛ لأنها أقرب المذكورين ، أو لأنها أكثر وجودا في أيدي الناس ، فيكون كنزها أكثر ، ونظيره قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ) [البقرة : ٥٤].

الثاني : أنه أعاد الضمير على المعنى ؛ لأن المكنوز دنانير ودراهم وأموال ، ونظيره قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٤٩] لأن كل طائفة مشتملة على عدد كثير ، وكذا قوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) [الحج : ١٩] يعني المؤمنين والكافرين.

الثالث : أن العرب إذا ذكرت شيئين يشتركان في المعنى تكتفي بإعادة الضمير على أحدهما ، استغناء بذكره عن ذكر الآخر ؛ لمعرفة السامع باشتراكهما في المعنى.

ومنه قول حسان بن ثابت :

إنّ شرخ الشّباب والشّعر الأس

ود ما لم يعاص كان جنونا

ولم يقل ما لم يعاصيا. وقول الآخر :

فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنّي وقيّار بها لغريب

__________________

[٣٨٢] البيت في ديوان حسّان : ٢٣٦.

وقوله : ما لم يعاص ، أي لم يقهر ويغلب ويرد جماح نزق الشباب وفورة الفتوة. كأنه من قولهم : أعوص بالخصم عياصا وعوصا ، أي لوى عليه أمره.

ـ أما البيت الثاني فهو لضابئ البرجمي وقد تقدم.

١٠٩

ولم يقل لغريبان ، ومنه قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) [الأنفال : ٢٠] وليس قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ٢٦] وقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) [النساء : ١١٢] من هذا القبيل ؛ لأن الإضمار ثم عن أحدهما لوجود لفظة أو ، وهي لإثبات أحد المذكورين ، فمن جعله نظير هذا فقد سها ؛ إلا أن يثبت أن أو في هاتين الآيتين بمعنى الواو.

وفي هاتين الآيتين لطيفة وهي أن الكلام لما اقتضى إعادة الضمير على أحدهما أعاده في الآية الأولى على التجارة ، وإن كانت أبعد ، ومؤنثة أيضا ؛ لأنها أجذب لقلوب العباد عن طاعة الله تعالى من اللهو ؛ لأن المشتغلين بها أكثر من المشتغلين باللهو ، أو لأنها أكثر نفعا من اللهو ، أو لأنها كانت أصلا واللهو تبعا ؛ لأنه ضرب بالطبل لقدومها على ما عرف من تفسير الآية ، وأعاده في الآية الثانية على الإثم رعاية لمرتبة القرب والتذكير.

[٣٨٣] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) [التوبة : ٣٦] وهي عند الناس أيضا كذلك في كل ملة سواء كانت الشهور قمرية أو شمسية؟

قلنا : فائدته أن يعلم أن هذا التقسيم والعدد ليس مما أحدثه الناس وابتدعوه بعقولهم من ذات أنفسهم ؛ وإنما هو أمر أنزله الله في كتبه على ألسنة رسله.

[٣٨٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة : ٣٦] خص الأربعة الحرم بذلك وظلم النفس منهي عنه في كل زمان؟

قلنا : قال ابن عباس ، رضي الله عنهما ، الضّمير في قوله تعالى : (فِيهِنَ) راجع إلى قوله : (اثْنا عَشَرَ شَهْراً) لا الأربعة الحرم فقط ، فاندفع السؤال.

الثاني : أن الضمير راجع إلى الأربعة الحرم فقط ، إما لأنها أقرب ، أو لما قاله الفراء : إن العرب تقول في العشرة وما دونها لثلاث ليال خلون وأيام خلون وهن وهؤلاء ، فإذا جاوزت العشرة قالت خلت ومضت ، للفرق بين القليل وهو العشرة فما دونها ، وبين الكثير وهو ما زاد عليها ، ولهذا قال في الاثني عشر : منها ، وقال في الأربعة : فيهن. فعلى هذا يكون تخصيصها بالذكر إما لمزيد فضلها وحرمتها عندهم في الجاهلية فيكون ظلم النفس فيها أقبح ، ونظيره قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة : ١٩٧] وإن كان ذلك منهيا عنه في غير الحج أيضا ، أو لأن المراد بالظلم النسيء ، وهو كان مخصوصا بها ، أو قتال الكفار فيها ابتداء ، أو ترك قتالهم إذا ابتدءوا وكل ذلك مخصوص بها؟

١١٠

[٣٨٥] فإن قيل : الشهر مذكر فقياسه فيها؟

قلنا : الضمير بالهاء والنون لا يختص بالمؤنث ، ولو اختص فالمراد بقوله (فِيهِنَ) ساعات الأشهر وهي مؤنثة.

[٣٨٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) والإنسان لا يظلم نفسه ؛ بل يظلم غيره؟

قلنا : لا نسلم أنه لا يظلم نفسه قال الله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) [النساء : ١١٠] وقال الله تعالى : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق : ١].

الثاني : أن معناه فلا يظلم بعضكم بعضا كما قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) [البقرة : ٨٤] وقال تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤] وقال تعالى : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات : ١١].

الثالث : أن معناه فلا تنقصوا حظ أنفسكم من الآخرة بالمعصية ، فإن من عصى فقد ظلم نفسه بنقصه ثوابها وتوجيه العقاب والذم إليها ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق : ١].

الرابع : أن كل ظالم لغيره فهو ظالم لنفسه في الحقيقة ؛ لأن ضرر ظلمه في حق المظلوم ينقطع عن قريب ؛ لأنه لا يتعدى الدنيا ، وضرر ظلمه في حقّ نفسه يراه في الآخرة حيث لا ينقطع ، أو يكون أشد وأدوم.

[٣٨٧] فإن قيل : قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) [التوبة : ٣٧] يدل على قبول الكفر للزيادة والنقصان ، فكذلك الإيمان الذي هو ضده ، فيكون حجة للشافعي رحمة الله عليه في قوله : الإيمان يقبل الزيادة والنقصان.

قلنا : معناه زيادة معصية في الكفر.

[٣٨٨] فإن قيل : قوله تعالى : (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ٤٤] إن كان نهيا فأين الجزم؟ وإن كان نفيا فقد وقع المنفي ؛ لأن كثيرا من المؤمنين المخلصين استأذنوه في التخلف عن الجهاد لعذر ، ويعضده قوله تعالى :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) [النور : ٦٢] فقيل إن المراد به كل أمر طاعة اجتمعوا عليه كالجهاد والجمعة والعيد ونحوها؟

__________________

[٣٨٧] الشافعي : هو محمد بن إدريس بن العبّاس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي ، أبو عبد الله ، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة ، وإليه ينسب المذهب الشافعي. ولد سنة ١٥٠ ه‍ وتوفي سنة ٢٠٤ ه‍. من مؤلفاته : الأم ، المسند ، أحكام القرآن ، السنن ، الرّسالة ، الخ.

١١١

قلنا : هو نهي بصيغة النفي كقوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة : ١٩٧].

الثاني : قال ابن عباس ، رضي الله عنهما ، هي منسوخة بقوله تعالى : (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ).

الثالث : أن المراد بقوله : (يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ) الآية ، الاستئذان في التخلف عن الجهاد من غير عذر ، وكذا المراد بالآية التي بعدها ، وبقوله : (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) إباحة الاستئذان في التخلف عن الأمر الجامع لعذر فلا نسخ لإمكان العمل بالآيتين ؛ لأنّ محل الحكم مختلف ، وهو وجود العذر وعدمه.

[٣٨٩] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) [التوبة : ٤٦] أخبر أنهم أمروا بالقعود ، وذمهم على القعود والتخلف عن الخروج للجهاد والاستئذان في القعود؟

قلنا : ليس في الآية ما يدل على أن الله تعالى هو الآمر لهم ، فقيل : الآمر لهم بذلك هو الشيطان بالوسوسة والتزيين.

الثاني : أن بعضهم أمر بعضا.

الثالث : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم ذلك غضبا عليهم.

الرابع : أنه أمر توبيخ وتهديد من الله تعالى لهم كقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] يعضده قوله تعالى : (مَعَ الْقاعِدِينَ) أي مع النساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت.

[٣٩٠] فإن قيل : إذا كان الله تعالى علم أن المنافقين لو خرجوا مع المؤمنين للجهاد ما زادوهم إلا خبالا : أي فسادا ، ولأوضعوا خلالهم ، أي ولأسرعوا السعي بينهم بالنمائم ، فكيف أمرهم بالخروج مع المؤمنين؟

قلنا : أمرهم بالخروج لإلزامهم الحجة ولإظهار نفاقهم.

[٣٩١] فإن قيل : قوله تعالى : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) [التوبة : ٥٣] يدل على أن الفسق يمنع قبول الطاعات؟

قلنا : المراد بالفسق هنا الفسق بالكفر والنفاق لا مطلق الفسق ، وذلك محبط للطاعات ومانع من قبولها ؛ ويعضده قوله عزوجل : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ) [التوبة : ٥٤] الآية.

[٣٩٢] فإن قيل : لم عدل في آية الصدقات عن اللام إلى «في» في المصارف الأربعة الأخيرة؟

١١٢

قلنا : للتنبيه على أنهم أقوى في استحقاق الصدقة ممن سبق ذكره ؛ لأن «في» للظرفية والوعاء ، فنبه بها على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مصبا لها ، لما ورد في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر وفي فك الغارمين عن الدين من التخليص والإنقاذ ، ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر ومثل هذه العبادة الشاقة ، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال ، ولا يرد المؤلفة قلوبهم ؛ لأن بعضهم كفار وبعضهم مسلمون ضعيفو النية في الإسلام ، فكيف يعارض بهم من ذكرنا ، أو لأن الله تعالى علم أن وجوب إعطائهم سينسخ ، فلذلك جعلهم في القسم المقدم الذي هو أضعف.

[٣٩٣] فإن قيل : لم كرر «في» في الأربعة الأخيرة ولم يكرر اللام في الأربعة الأولى؟

قلنا : للتنبيه على ترجيح استحقاق المصرفين الأخيرين على الرقاب والغارمين من جهة أن إعادة العامل تدل على مزيد قوة تأكيد كقولك مررت بزيد وبعمرو.

[٣٩٤] فإن قيل : لم عدّى فعل الإيمان إلى الله تعالى بالباء وإلى المؤمنين باللام في قوله تعالى : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) [التوبة : ٦١]؟

قلنا : لأنه قصد التصديق بالله الذي هو ضد الكفر به ، فعدّاه بالباء ، كما يعدّى ضده بها ، وقصد التسليم والانقياد للمؤمنين فيما يخبرون به لكونهم صادقين عنده ، فعداه بما يعدّى به التسليم والانقياد ، ويعضده قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) [يوسف : ١٧] وقوله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) [البقرة : ٧٥] وقوله تعالى : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) [يونس : ٨٣] وقوله تعالى : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء : ١١١] وأما قوله تعالى : (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) [طه : ٧١] فمشترك الدلالة ؛ لأنه قال في موضع آخر (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) [الأعراف : ١٢٣]. وقال ابن قتيبة ، في الجواب عن أصل السؤال : إن الباء واللّام زائدتان ، والمراد بالإيمان التصديق ، فمعناه يصدّق الله ويصدّق المؤمنين.

[٣٩٥] فإن قيل : قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها) [التوبة : ٦٣] يدل على تخليد أصحاب الكبائر في النار ؛ لأن المراد بالمحادة المخالفة والمعاداة؟

قلنا : قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا) خبر عن المنافقين الذين سبق ذكرهم ، فيكون المراد به المحادة بالكفر والنفاق ، وذلك موجب للتخليد في النار.

[٣٩٦] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ) [التوبة : ٦٤] ، وسور القرآن إنما تنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا على المنافقين؟

١١٣

قلنا : معناه أن تنزل فيهم ، فعلى هنا بمعنى في كما في قوله تعالى : (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) [البقرة : ١٠٢] وقولهم كان ذلك على عهد فلان.

الثاني : أن الإنزال هنا بمعنى القراءة ؛ فمعناه أن تقرأ عليهم.

[٣٩٧] فإن قيل : الحذر في هذه الآية واقع منهم على إنزال السورة ، فكيف قال تعالى : (قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) [التوبة : ٦٤]؟

قلنا : قوله تعالى : (مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) أي مظهر ما تحذرون ظهوره من نفاقكم بإنزال السورة ، وهو مناسب لقوله تعالى : (تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) [التوبة : ٦٤].

الثاني : أن معناه مظهر ومبرز ما تحذرون من إنزال السورة.

[٣٩٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) وإنباؤهم بما في قلوبهم تحصيل الحاصل ؛ لأنّهم عالمون به فما فائدته؟

قلنا : معناه تنبئهم بأن أسرارهم وما كتموه من النفاق شائعة ذائعة ؛ وتفضحهم بظهور ما اعتقدوا أنه لا يعرفه غيرهم ولا يطلع عليه سواهم ، وهذا ليس تحصيل الحاصل.

[٣٩٩] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [التوبة : ٦٧] وقال بعده (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [التوبة : ٧١] وكلمة «من» أدل على المشابهة والمجانسة من حيث أنها تقتضي الجزئية والبعضية ، فكانت بالمؤمنين أولى وأحرى ؛ لأنهم أشد تشابها وتجانسا في الصفات والأخلاق؟

قلنا : المراد بقوله تعالى : (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي بعضهم على دين بعض ، أي على عادتهم وخلقهم بإضمار لفظة الدين أو الخلق ونحوه ؛ لأن «من» تأتي بمعنى على ، ومنه قوله تعالى : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) [الأنبياء : ٧٧] وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) [البقرة : ٢٢٦] ، أي يحلفون على وطء نسائهم ، وهذا هو المعنى المراد في قوله عليه الصلاة والسلام : «فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» وقوله عليه الصلاة والسلام : «من غشّنا فليس منّا» ، والمراد بقوله تعالى : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ، أي أنصارهم وأعوانهم في الدين ، وكل واحدة من العبارتين صالحة للفريقين ، إلا أنه خص المنافقين بتلك العبارة تكذيبا لهم في حلفهم السابق في قوله تعالى : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) [التوبة : ٥٦] وتقريرا لقوله تعالى : (وَما هُمْ مِنْكُمْ) [التوبة : ٥٦]؟

[٤٠٠] فإن قيل : أيّ فائدة في قوله تعالى : (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) [التوبة : ٦٩] مع أن قوله تعالى : (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ)

__________________

[٣٩٩] ـ قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فمن رغب عن سنتي فليس مني» أخرجه أحمد في مسنده : ٢ / ١٥٨.

ـ قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من غشّنا فليس منّا» أخرجه أحمد في مسنده : ٢ / ٥٠.

١١٤

[التوبة : ٦٩] بوضع الظاهر موضع الضمير مغن عنه ، كما قال تعالى : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : ٦٩] من غير تكرار؟

قلنا : فائدته تصدير التشبيه بذم المشبه بهم باستمتاعهم بما أوتوا من حظوظ الدنيا واشتغالهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة الباقية وطلب الفلاح في الآخرة ، وتهجين حالهم وتقبيح صفتهم ؛ ليكون التشبيه بعد ذلك أبلغ في ذم المشبهين بأولئك الأولين ، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول : أنت مثل فرعون كان يقتل بغير حقّ ويظلم ويفسق وأنت تفعل مثل فعله.

وأما قوله تعالى : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) فإنه لما كان معطوفا على ما قبله وهو التشبيه المصدّر بتلك المقدمة أغنى ذلك عن إعادة تلك المقدمة المذكورة للتقبيح والتهجين.

[٤٠١] فإن قيل : قوله تعالى : (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [التوبة : ٦٩] حبوط العمل إن كان عبارة عن بطلان ثوابه فذلك إنما يكون في الآخرة ، وإن كان عبارة عن بطلان منفعته فأعمال المنافقين في الدنيا ليست باطلة المنفعة ؛ لأنهم ينتفعون بها في حقن دمائهم وأموالهم وجريان أحكام المسلمين عليهم؟

قلنا : المراد بالأعمال إن كانت نوعي أعمالهم الدينية والدنيوية ، فالحبوط في الدنيا راجع إلى أعمالهم الدنيوية وهي كيدهم ومكرهم وخداعهم ونفاقهم الذي كانوا يقصدون به إطفاء نور الله تعالى ورفع آياته وبيناته ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، فلم ينالوا من ذلك ما أملوه وقصدوه عن إبطال دين الله تعالى وستر نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، والحبوط في الآخرة راجع إلى أعمالهم الدينية وهي عباداتهم وطاعاتهم ؛ لأنهم فعلوها نفاقا ورياء فبطل ثوابها في الآخرة ؛ وإن كان المراد بأعمالهم مجرد الأعمال الدينية فحبوطها في الدنيا هو عدم قبولها ؛ لأنّ الله تعالى يقبل العبادة في الدنيا ثم يثيب عليها في الآخرة ، والمراد بحبوطها في الدنيا عدم قبولها وعدم إطلاق الأسماء الشريفة عليها ، كالعبادة والقربة والحسنة ونحو ذلك ، وهذا ضد قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [العنكبوت : ٢٧] فدل على أن للطاعات أجرا معجلا في الدنيا غير الأجر المؤجل إلى الآخرة ، وهو القبول وحسن الثناء والذكر وإلقاء المحبة في قلوب الخلق ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) [مريم : ٩٦] قيل معناه : يحبهم ويحببهم إلى عباده من غير سبب بينه وبينهم يوجب المحبة ، وكذلك على العكس حال العصاة والفساق يبغضهم ويبغّضهم إلى عباده من غير سبب بينه وبينهم يوجب البغض.

[٤٠٢] فإن قيل : قوله تعالى : (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [التوبة : ٧٤]

١١٥

لم خص الأرض بالنفي ؛ مع أن المنافقين ليس لهم ولي ولا نصير من عذاب الله في الأرض ولا في السماء ، في الدنيا ولا في الآخرة؟

قلنا : لما كان المنافقون لا يعتقدون الوحدانية ولا يصدقون بالآخرة ، كان اعتقادهم وجود الولي والنصير مقصورا على الدنيا ، فعبّر عن الدنيا ، بالأرض ، وخصها بالذكر لذلك.

الثاني : أنه أراد بالأرض أرض الدنيا والآخرة فكأنه قال : وما لهم في الدنيا والآخرة من ولي ولا نصير.

[٤٠٣] فإن قيل : لم خص السبعين بالذكر في قوله : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [التوبة : ٨٠] مع أن الله تعالى لا يغفر للمنافقين ولو استغفر لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألف مرة بدليل قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [المنافقون : ٦] ولأنهم مشركون ، والله تعالى لا يغفر أن يشرك به؟

قلنا : جرت عادة العرب بضرب المثل في الآحاد بالسبعة ، وفي العشرات بالسبعين ، وفي المئات بسبعمائة استعظاما لها واستكثارا ، لا أنهم يريدون بذكرها الحصر ، فكأنه قال : إن تستغفر لهم أعظم الأعداد وأكثرها فلن يغفر الله لهم ، ويعضده ما ذكره بعد ذلك من بيان الصارف عن المغفرة في قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة : ٨٠].

[٤٠٤] فإن قيل : لو كان ما ذكرتم لما خفي ذلك على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو أفصح العرب وأعلمهم بأساليب الكلام وتمثيلاته ؛ حتّى قال ، لما نزلت هذه الآية : إن الله تعالى قد رخص لي فسأزيد على السبعين. وفي رواية أخرى : فسأستغفر لهم أكثر من السبعين لعل الله أن يغفر لهم؟

قلنا : لم يخف عليه ذلك وإنما أراد بما قال إظهار غلبة رحمته ورأفته بمن بعث إليهم ، كما وصفه الله تعالى بقوله : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨] الآية وفي إظهار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرأفة والرحمة لطف لأمته ، وحث لهم على التراحم ، وشفقة بعضهم على بعض ، وهذا دأب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ألا ترى إلى قول إبراهيم صلوات الله عليه (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم : ٣٦].

[٤٠٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ٩١] والمغفرة والرحمة إنما تكون للمسيئين لا للمحسنين؟

قلنا : معناه والله غفور رحيم للمسيئين إذا تابوا ، فهو متعلق بمحذوف لا بالمحسنين ؛ لأنهم قد سدوا بإحسانهم طريق العقاب والذم ؛ فليس عليهم سبيل فيهما.

١١٦

الثاني : أن المحسن من الناس وإن تناهى في إحسانه لا يخلو عن إساءة بينه وبين الله تعالى ، أو بينه وبين الناس ، لكنه إذا أحسن باجتناب الكبائر غفر الله له صغائر سيئاته ورحمه ، كما قال تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) [النساء : ٣١] [٤٠٦] فإن قيل : قوله تعالى : (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) [التوبة : ١٠٥] أي سيعلم ؛ لأن السين للاستقبال ، والرؤية من الله تعالى بمعنى العلم ، والله تعالى عالم بعملهم حالا ومآلا؟

قلنا : معناه في حقّ الله أنه سيعلمه واقعا موجودا كما علمه غيبا ؛ لأن الله تعالى يعلم كل شيء على ما هو عليه ، فيعلم المنتظر منتظرا ويعلم الواقع واقعا ، وأما في حق الرسول عليه الصلاة والسلام فهو على ظاهره.

[٤٠٧] فإن قيل : إن الله تعالى قد وصف العرب بالجهل في القرآن بقوله تعالى : (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) [التوبة : ٩٧] فكيف يصح الاحتجاج بألفاظهم وأشعارهم على كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

قلنا : هذا وصف من الله لهم بالجهل في أحكام القرآن لا في ألفاظه ، ونحن لا نحتج بلغتهم في بيان الأحكام ؛ بل نحتج بلغتهم في بيان معاني الألفاظ ؛ لأن القرآن والسنة جاءا بلغتهم.

[٤٠٨] فإن قيل : كيف قال تعالى في صفة المنافقين : (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) [التوبة : ١٠١] وقال في موضع آخر (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد : ٣٠]؟

قلنا : هذه الآية نزلت قبل تلك الآية فلا تناقض ؛ لأنه نفى علمه لهم في زمان ثم أثبته بعد ذلك في زمان آخر.

[٤٠٦] فإن قيل : قوله تعالى : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) [التوبة : ١٠٢] قد جعل كل واحد منهما مخلوطا فأين المخلوط به؟

قلنا : كل واحد مخلوط ومخلوط به ؛ لأن معناه : خلطوا كل واحد منهما بالآخر كقولك : خلطت الماء واللبن ، تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه ، وفيه من المبالغة ما ليس في قولك : خلطت الماء باللبن ، لأنك بالباء جعلت الماء مخلوطا واللبن مخلوطا به ، وبالواو جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطا بهما ، كأنك قلت : خلطت الماء باللبن واللبن بالماء ؛ ويجوز أن تكون الواو بمعنى الباء كقولهم : بعت شاة ودرهما ، يعنون شاة بدرهم.

[٤١٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة : ١١٢] بالواو وما قبلها من الصفات بغير واو؟

١١٧

قلنا : لأنها صفة ثامنة ، والعرب تدخل الواو بعد السبعة إيذانا بتمام العدد ، فإن السبعة عندهم هي العقد التام كالعشرة عندنا ، فأتوا بحرف العطف الدال على المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه ، ونظيره قوله تعالى : (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف : ٢٢] بعد ما ذكر العدد مرتين بغير واو ، وقوله تعالى في صفة الجنة (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣] بالواو لأنها ثمانية. وقال في صفة النار نعوذ بالله منها فتحت أبوابها بغير واو لأنها سبعة ، وليس قوله تعالى : (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) [التحريم : ٥] من هذا القبيل ، لأن الواو لو أسقطت فيه لاستحال المعنى لتناقض الصفتين. وقيل : إنما دخلت الواو على الناهين عن المنكر إعلاما بأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر في حال أمره بالمعروف ، فهما صفتان متلازمتان بخلاف باقي الصفات المذكورة فإنها ليست متلازمة ، ولا ينقض هذا بقوله تعالى : (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) [التوبة : ١١٢] ؛ لأنهما ليستا صفتين متلازمتين ؛ لأن السجود يلزم الرّكوع ، أما الرّكوع فلا يلزم السجود بدليل سجود التلاوة وسجود الشكر ، والزمخشري لم يتكلم على هذه الواو.

[٤١١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [التوبة : ١٢١] أي بأحسن الذي كانوا يعملون بإضمار حرف الجر ، مع أنهم يجزون بحسنة أيضا لقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة : ٧]؟

قلنا : معناه بحسن الذي كانوا يعملون ، وهو الطاعات كلها ، لا بسيئة وهو المعاصي ، فالأحسن هنا بمعنى الحسن ، وسيأتي في سورة الرّوم في قوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] ما يوضح هذا إن شاء الله تعالى.

الثاني : أنّ معناه ليجزيهم الله أحسن من الذي كانوا يعملون.

[٤١٢] فإن قيل : قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) [التوبة : ١٢٤] يدل على أن الإيمان يقبل الزيادة؟

قلنا : قال مجاهد : معناه فزادتهم علما ؛ لأن العلم من ثمرات الإيمان فجعل مجازا عنه ، والله أعلم.

١١٨

سورة يونس عليه‌السلام

[٤١٣] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [يونس : ٥] والله تعالى فصل الآيات للعلماء والجهال أيضا.

قلنا : لما كان يقع تفصيل الآيات مخصوصا بالعلماء وانتفاعهم بالتفصيل أكثر أضاف التفصيل إليه وخصهم به.

[٤١٤] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] مع أن أقوال أهل الجنة وأحوالهم لا آخر لها ، لأن الجنّة دار الخلود؟

قلنا : معناه وآخر دعائهم في كل مجلس دعاء أو ذكر أو تسبيح ، فإن أهل الجنة يسبحون ويذكرون للتنعم والتلذذ بالذكر والتسبيح.

[٤١٥] فإن قيل : قد أنكر الله تعالى على الكفار احتجاجهم بمشيئته في قوله تعالى : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام : ١٤٨] ولهذا لا يجوز للعاصي أن يحتج في وجود المعصية منه بقوله لو شاء الله ما فعلت هذه المعصية فلا تقيموا عليّ حدها : فكيف قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو شاء الله ما تلوته عليكم؟

قلنا : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال هذه الجملة بأمر الله تعالى ، لأن الله عزوجل قال له : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) [يونس : ١٦] وللعبد أن يحتج بمشيئة الله إذا أمره الله أن يحتج بها ، أما ما ليس كذلك فليس له أن يحتج بمجرد المشيئة ، وما أوردتموه كذلك.

[٤١٦] فإن قيل : كيف قال تعالى : (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) [يونس : ٢٣] والبغي لا يكون إلا بغير الحق ؛ لأن البغي هو التعدي والفساد من قولهم بغى الجرح إذا فسد ، كذا قاله الأصمعي ، فما فائدة التقييد؟

قلنا : قد يكون الفساد بالحق كاستيلاء المسلمين على أرض الكفار وهدم دورهم وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم ، كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببني قريظة.

[٤١٧] فإن قيل : كيف شبه الله تعالى الحياة الدنيا بماء السماء دون ماء الأرض

__________________

[٤١٦] الأصمعي : هو عبد الله بن قريب بن علي بن أصمع الباهلي ، أبو سعيد الأصمعي. رواية لشعر العرب ولغتهم. ولد في البصرة سنة ١٢٢ ه‍ وتوفي بها سنة ٢١٦ ه‍. من مؤلفاته : الإبل ، الأضداد (ينسب إليه ولا يعلم على التحقيق أنه من تأليفه) ، خلق الإنسان ، الفرق ، الخيل ، الدارات ، النبات والشجر ، الخ.

١١٩

فقال : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) [يونس : ٢٤]؟

قلنا : لأن ماء السماء وهو المطر لا تأثير لكسب العبد فيه ولا حيلة للعبد في زيادته ونقصانه ، كما أن الحياة لا حيلة للعبد في زيادتها ونقصانها.

الثاني : أن ماء السماء يستوي فيه جميع الخلائق ، الوضيع والشريف ، والغني والفقير والحيوان وغيره كالمدر والحجر والشوك والثمر ، كما أن الحياة كذلك ، فكأن تشبيه الحياة بماء السماء أشد مناسبة ومطابقة.

[٤١٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) [يونس : ٢٨]. وقال في موضع آخر : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [البقرة : ١٧٤]؟

قلنا : يوم القيامة مواقف ومواطن ، ففي موقف لا يكلمهم ، وفي موقف يكلمهم ، ونظيره قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٣٩] وقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ١٥].

الثاني : المراد أنه لا يكلمهم كلام إكرام ؛ بل كلام توبيخ وتقريع.

[٤١٩] فإن قيل : قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [يونس : ٣١] إلى آخر الآية يدل على أنهم معترفون أن الله تعالى هو الخالق والرازق والمدبر لجميع المخلوقات ، فكيف يعترفون بذلك كله ثم يعبدون الأصنام؟

قلنا : كانوا يعتقدون في عبادة الأصنام أنهم يتقرّبون بها إلى عبادة الله ؛ فطائفة كانت تقول نحن لا نتأهل لعبادة الله تعالى بغير واسطة لعظمة إجلاله ونقصنا وحقارتنا ، فجعلوا الأصنام وسائط ، كما قال تعالى : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] وطائفة كانت تقول : نتخذ أصناما على هيئة الملائكة ونعبدهم لتشفع لنا الملائكة عند الله ليقربونا إلى الله ، وطائفة كانت تقول : الأصنام قبلة لنا في عبادة الله ، كما أن الكعبة قبلة في عبادته ، وطائفة وهي الأكثر كانت تقول : على كل صنم شيطان موكل به من عند الله ، فمن عبد الصنم حقّ عبادته قضى الشيطان حوائجه على وفق مراده بأمر الله ، ومن قصر في عبادة الصنم أصابه الشيطان بنكبة بأمر الله ، فكل الطوائف من عبدة الأصنام كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله والتقرب إليه ولكن بطرق مختلفة.

[٤٢٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [يونس : ٣٤] وهم غير معترفين بوجود الإعادة أصلا لا من الله ولا من غيره؟

قلنا : لما كانت الإعادة ظاهرة الوجود لظهور برهانها وهو القدرة على ابتداء

١٢٠