أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها

محمّد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي

أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-026-9
الصفحات: ٤٠٨

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

١ ـ المؤلف

بسم الله الرّحمن الرحيم هو محمّد بن شمس الدّين أبي بكر بن عبد القادر بن عبد المحسن الرّازي (نسبة إلى الرّي) الحنفي. كنيته : أبو عبد الله. ويلقب بزين الدّين. وذكر له صاحب كتاب روضات الجنات (محمد باقر الخوانساري) ـ في ذيل ترجمته للفخر الرّازي صاحب التفسير الكبير ـ لقبا آخر هو «فخر الدّين» ؛ ثم ردّه. وذكره مرّة صاحب «كشف الظنون» بلقب «شمس الدين» ومرّة بلقب «زين الدين».

والمؤسف أن مصادر الترجمات شحيحة بأخبار هذا الرّجل ؛ حيث لا نقف على تاريخ مولده ، أمّا تاريخ وفاته فلا يمكن الجزم به. ففي «كشف الظنون» أنه توفي سنة ٦٦٠ ه‍ ؛ غير أنه لا يمكن الأخذ بقوله هذا ؛ لأنّ المترجم له كان قد رحل إلى تركية ، وكان حيّا في قونية إلى سنة ٦٦٦ ه‍. وذكر بعضهم أنه في هذه السنة التقى العارف الكبير صدر الدّين القونوي ، وأخذ عنه ـ سماعا ـ كتاب جامع الأصول لابن الأثير. فإذا صحّ الخبر فإن الرازي يكون قد عاش بعد هذا التاريخ (٦٦٦ ه‍) ؛ لأنه يبعد ـ عادة ـ أن ينهى أحد سماع كتاب بحجم جامع الأصول في مدّة وجيزة.

من بين الأخبار القليلة التي وصلتنا عن محمد بن أبي بكر الرازي ذكر أنه أقام بمصر فترة من حياته وأخذ عن بعض علمائها ، كما يذكر أنّه زار الشام. غير أنّ المؤكد من أحوال الرّازي أنه كان مشاركا في علوم عدة ، على عادة القدامى ، تدلنا على ذلك مؤلفاته التي طبع بعضها.

٢ ـ مؤلفاته :

أ ـ مختار الصحاح. وقد طبع عدة مرّات. وهو أشهر كتبه وبه يعرف.

ب ـ كتاب الأمثال والحكم.

ج ـ شرح المقامات الحريرية.

٥

د ـ حدائق الحقائق. وهو كتاب في المواعظ.

ه ـ الذهب الإبريز في تفسير الكتاب العزيز.

و ـ تحفة الملوك. وهو كتاب في الفقه.

ز ـ أسئلة القرآن وأجوبتها. وهو هذا الكتاب.

ح ـ روضة الفصاحة. وهو كتاب في البلاغة.

وذكرت له مصنفات أخرى ، ولعل له غيرها ، كما يذكر الرّازي نفسه في هذا الكتاب الذي بين أيدينا.

٣ ـ الكتاب

أوّل ملاحظة ينبغي أن نسجلها هي تعدّد العناوين التي عرف بها الكتاب الذي نحن بصدده ؛ ومن هذه العناوين ما هو مطوّل ومنها ما هو مختصر. وهي :

ـ أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة من غرائب آي التنزيل.

ـ أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها.

ـ من غرائب آي التنزيل.

ـ مسائل الرّازي.

أما الملاحظة الثانية فتتعلق بجنس الكتاب ؛ حيث يمكن أن يدرج باطمئنان في فن الكتابة في معاني القرآن وتفسير غوامضه ، وهو فن قديم ، ولعلّ أقدم ما وصلنا من الكتب المؤلفة في هذا الباب كتاب معاني القرآن للفرّاء (ت ٢٠٧ ه‍). وهذا الجنس من التأليف غرضه بيان ما أشكل من القرآن الكريم ، والتصدي لدحض الإشكالات والتشكيكات الموجهة لكتاب الله ؛ سواء كانت واقعة فعلا أو مقدّرة. وبذلك ، فإن الرّازي الذي صنّف كتابه هذا في القرن السابع الهجري قد وجد مؤلفات عديدة أفاد منها ، بلا أدني شك ، كما يصرح هو نفسه في مقدمة كتابه. وعليه ، فليس هذا الكتاب (أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها) تصنيفا مبتكرا ؛ فقد سبق أن ألف في هذا الفن (على غرار معاني الآثار ومعاني الشعر) أبو عبيدة معمّر بن المثنّى وقطرب بن المستنير والأخفش والكسائي والفرّاء وأبو عبيد وهي أسماء سيكرّر الرّازي ذكرها في هذا الكتاب ، تارة مستشهدا وأخرى مناقشا ؛ إضافة إلى أسماء مفسّرين كالطبري والزمخشري ... أو لغويين كالزّجّاج والجوهري (زيادة على من تقدم ذكرهم).

لكن ، الملاحظة الثالثة جديرة بأن نقف عندها ، وفحواها أنّ هنالك كتبا ـ من بين ما صنّف في معاني القرآن ـ أقرب إلى غرض الرّازي ؛ غير أنّنا لا نجد إشارة لها أو لأصحابها. وبهذا الصدد يمكن أن نذكر ، مثلا ، أنّنا في حين نجد ذكرا ، من الرازي ، لابن قتيبة صاحب كتاب «تأويل مشكل القرآن» ، فإن علماء آخرين يغيب

٦

ذكرهم تماما ؛ نخصّ بالذّكر منهم ، هنا ، القاضي عبد الجبّار الذي صنّف في معاني القرآن ومشكلاته كتابين ، هما : «متشابه القرآن» و «تنزيه القرآن عن المطاعن» ، والشريف المرتضى صاحب «غرر الفوائد ودرر القلائد» الذي يعرف بأمالي المرتضى ، وهي عبارة عن مجالس ألقاها حين قفل من الحج. غير أن الأهم من هذا وذاك ، فيما نحسب ، هو كتاب الشريف الرضي المسمى «حقائق التأويل في متشابه التنزيل» الذي لم يطبع منه سوى الجزء الخامس ، أما باقي أجزاء هذا الكتاب الرّائع فهي مفقودة أو مجهولة المكان ، في حدود اطلاعي. وما يعنينا من ذكر كتاب الرضي هنا ، هو الشبه الكبير الذي نجده بينه وبين كتاب الرّازي الذي بين يدي القارئ ، ولعل أهم أوجه الشبه هي :

ـ وحدة الغرض من التصنيف ...

ـ اتفاق الكتابين في الشكل ، حيث ينقسم الكتابان إلى فقرات ، تتكفل كل فقرة بعرض المسألة (المشكلة) أو السؤال ، ثم يردفه بالجواب ، وطريقة الشريف الرضي ، في ذلك ، أن يعرض المسألة أو الإشكال مبتدءا بالقول : «ومن سأل عن معنى قوله تعالى ...» ، ثم يأتي بالجواب ، معدّدا الوجوه فيه ، بقوله : «فالجواب ...» ، وهكذا دواليك. أما الرّازي فإنه يعرض المسألة بقوله : «فإن قيل ...» ، ثم يتبعها الجواب مستهلا إياه بقوله : «قلنا ...» على نسق واحد ، من بداية الكتاب إلى نهايته.

ـ تشابه كثير من المسائل وأجوبتها ... أو بعض وجوه أجوبتها.

غير أن هناك أكثر من فرق بين الكتابين (كتاب الرضي وكتاب الرّازي). منها : أن الرضي سعى إلى استقصاء الأقوال ، وجمع شتات الآراء ، أمّا الرّازي فديدنه الانتقاء والاختصار. ومنها : أن المسحة الأدبية في إنشاء الرضي واضحة ، في حين أن أسلوب الرّازي ينحو نحو البساطة ، وخال من الاعتناء بجمال اللّغة.

لم يكن الغرض من هذا الاستطراد استيعاب وجوه المقارنة بين الكتابين ؛ بل التنويه بأثر كبير ، ولفت نظر المهتمين إليه (أعني كتاب الرضي).

يبقى أن كتاب الرّازي يكاد يتفرد بميزة نكاد لا نجدها في غيره من الكتب التي صنفت في بيان معاني القرآن وحل مشكلاته ، وهي كثرة المسائل التي يعالجها ـ على صغر حجمه ـ وهي تزيد على مائتي وألف سؤال ، وسهولة عبارته ، وإيجازه ؛ إضافة إلى وضوحه ؛ بحيث يكون في متناول فهم أكبر عدد من القراء ، سواء في ذلك العالم والمتعلم ، أما المسائل الدقيقة التي تتعلق بوجوه الإعراب أو المعاني ، وكثير من النكات البلاغية ، فإن الرّازي قد تجنب غالبا الخوض فيها. وقد صرح هو نفسه ـ في مقدمة الكتاب ـ بالمنهج الذي اختطه ، والغاية التي رامها ؛ حيث قال : «ولكنّي قصدت اختصار هذا الأنموذج [من أسئلة القرآن] ، وتقريبه إلى الأفهام ، ليكثر الانتفاع به ، ولا

٧

يهجر لدقّته وغموضه.

وأمّا الأسئلة التي تتعلق بوجوه الإعراب ، وبالمعاني التي هي أدق على الأفهام وأخفى فإني وضعت لها مختصرا آخر ، وأودعته أنموذجا منها أيضا ...».

ومؤدّى ذلك ، أنّ المؤلف قد التزم بطرح الأسئلة أو المشكلات التي قد تواجه القارئ العادي للقرآن ، لا خصوص العلماء ؛ لذلك فإنه لم يكثر من ذكر الشواهد ، التي تغصّ بها كتب التفسير والغريب والمعاني عادة ، وهو ما جعل الكتاب لا يحتاج إلى تعليقات كثيرة. ومن ثمّ ، فقد كان عملنا لإخراج هذه الطبعة مناسبا لما يحتاجه الكتاب من ترقيم الآيات القرآنية ، وتخريج الأحاديث النبويّة والآثار ، وتخريج الأشعار ، وشرح المفردات الغريبة ؛ إضافة إلى مقارنة رأي المؤلّف ، في بعض المسائل ، بآراء علماء آخرين.

كما قمنا بترقيم فقرات النصّ ؛ حيث تتضمن كل فقرة المسألة ، التي هي موضوع البحث ، وجوابها. وجعلنا الإحالة في الحواشي والفهارس على أرقام الفقرات. وترجمنا للعلماء الذين يذكرهم المؤلّف. وذيّلنا الكتاب بفهارس فنّيّة.

أخيرا ، نسأل الله أن ينفع بهذا الكتاب ، إنّه سميع الدّعاء.

نجيب ماجدي

٨

بسم الله الرحمن الرحيم

[مقدمة المؤلف]

قال الفقير إلى رحمة الله ربه ومغفرته : محمّد بن أبي بكر بن عبد القادر الرّازي ، عفا الله عنه ، وغفر له ولجميع المسلمين :

الحمد لله ربّ العالمين ، هذا مختصر جمعت فيه أنموذجا يسيرا من أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها ؛ فمنه ما نقلته من كتب العلماء إلّا أني نقحته ولخصته ، ومنه ما فتح الله تعالى عليّ به ، بسبب مذاكرة أخ لي من إخوان الصفاء في دين الله ومحبة كتابه ؛ وكان صالحا تقيا سليم الفطرة وقّاد الذهن ، جامعا لجملة من مكارم الأخلاق وصفات الكمال الإنساني. أنعم الله تعالى عليّ بصحبته ومذاكرته في معاني كتابه. وكان شديد العناية بها ، كثير البحث والسؤال عنها ؛ قد هداه الله إليها ، وفتح عليه فيها بغرائب لم نسمعها من العلماء ، ولا رأيناها في كتبهم. فحملتني فكرته القادحة ونيّته الصالحة على جمع هذه الصبابة (١) ؛ وهي تزيد على ألف ومائتي سؤال ؛ وإن كانت بالنّسبة إلى ما في القرآن من العجائب والغرائب كالقطرة من الدّأماء (٢) ، والسها (٣) من نجوم السماء ؛ ولكن ، قصدت اختصار هذا الأنموذج منها وتقريبه إلى الأفهام ، ليكثر الانتفاع به ، ولا يهجر لدقّته وغموضه.

وأما الأسئلة التي تتعلّق بوجوه الإعراب ، وبالمعاني التي هي أدقّ على الأفهام وأخفى ، فإنّي وضعت لها مختصرا آخر ، وأودعته أنموذجا منها أيضا ، فليطلب ثمّة. وبالله أستعين ، وعليه أتوكّل ، وإليه أتضرع في أن يجعل علمي وعملي خالصا لوجهه الكريم ، ويتغمدني وأخي الصالح بمغفرته ورحمته ؛ إنّه غفور رحيم.

__________________

(١) الصبابة : تقال للشيء القليل أو لما تبقّى من الشيء ، كالقليل من الماء أو البقية من الماء أو اللّبن ونحو ذلك.

(٢) الدأماء : البحر. ويقال تأدم الماء الشّيء إذا غمره.

(٣) السها : كوكب تصعب رؤيته من بنات نعش الكبرى. ويقال له الصيدق.

٩

سورة فاتحة الكتاب

[١] فإن قيل : الرّحمن أبلغ في الوصف بالرّحمة من الرّحيم ، بالنقل عن الزّجّاج وغيره ، فكيف قدمه؟ وعادة العرب في صفات المدح الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، كقولهم : فلان عالم نحرير ؛ لأنّ ذكر الأعلى أوّلا ، ثمّ الأدنى لا يتجدّد فيه ، بذكر الأدنى ، فائدة ؛ بخلاف عكسه؟

قلنا : قال الجوهري وغيره : إنّهما بمعنى واحد ، كنديم وندمان ؛ فعلى هذا لا يرد السؤال. وعلى القول الأوّل : إنّما قدّمه ؛ لأن لفظ الله اسم خاص بالباري تعالى. لا يسمّى به غيره. لا مفردا ولا مضافا ؛ فقدّمه. والرّحيم يوصف به غيره مفردا ومضافا فأخّره.

والرحمن يوصف به غيره مضافا ولا يوصف به مفردا إلّا الله تعالى ؛ فوسّطه.

[٢] فإن قيل : كيف قدّم العبادة على الاستعانة ، والاستعانة مقدّمة ؛ لأنّ العبد يستعين بالله على العبادة ؛ فيعينه الله تعالى عليها؟

قلنا : الواو لا تدلّ على الترتيب ، أو المراد بهذه العبادة التوحيد ، وهو مقدّم على الاستعانة على أداء سائر العبادات ؛ فإنّ من لم يكن موحّدا لا يطلب الإعانة على أداء العبادات.

[٣] فإن قيل : المراد بالصراط المستقيم : الإسلام ، أو القرآن ، أو طريق الجنّة ، كما قيل بالنّقل ؛ والمؤمنون مهتدون إلى ذلك ؛ فما معنى طلب الهداية لهم بقولهم : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦] ؛ إذا فيه تحصيل الحاصل؟

قلنا : معناه ثبّتنا عليه وأدمنا على سلوكه ؛ خوفا من سوء الخاتمة ، نعوذ بالله من ذلك ، كما تقول العرب للواقف : قف حتّى آتيك ، معناه : دم على وقوفك وأثبت

__________________

[١] الزّجّاج : هو إبراهيم بن السرّي بن سهل ، أبو إسحاق الزّجاج. نحوي ولغوي ، ولد ببغداد سنة ٢٤١ ه‍ وتوفي بها سنة ٣١١ ه‍. أخذ عن المبرّد. وكانت له مناقشات مع ثعلب. من مؤلفاته : معاني القرآن ، المثلث ، الاشتقاق ، خلق الإنسان ، الأمالي ، شرح أبيات سيبويه ، القوافي ، ما ينصرف وما لا ينصرف ، الخ.

ـ الجوهري : هو إسماعيل بن حماد الجوهري ، أبو نصر ، أحد أئمة اللّغة. توفي سنة ٣٩٣ ه‍. من مؤلفاته : الصحاح (وهو أشهرها) ، كتاب في العروض ، وكتاب في النحو. يقال إنه أوّل من حاول الطيران. أقام ببغداد ، وخالط الأعراب في البادية ، وعاش آخر حياته في نيسابور.

١٠

عليه ، أو معناه : طلب زيادة الهدى كما قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) [محمد : ١٧]. وقال عزوجل : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) [مريم : ٧٦].

[٤] فإن قيل : ما فائدة دخول «لا» في قوله تعالى : (وَلَا الضَّالِّينَ) وقوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) والضّالين كاف في المقصود؟

قلنا : فائدته تأكيد النفي الذي دلّ عليه غير.

١١

سورة البقرة

[٥] فإن قيل : كيف قال : (لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢] على سبيل الاستغراق؟ وكم ضالّ قد ارتاب فيه! ويؤيد ذلك قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا)؟ [البقرة : ٢٣].

قلنا : المراد أنه ليس محلا للرّيب ، أو معناه : لا ريب فيه عند الله ورسوله والمؤمنين ، أو هو نفي معناه النهي : أي لا ترتابوا فيه أنه من عند الله تعالى. ونظيره قوله تعالى : (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) [الحج : ٧].

[٦] فإن قيل : كيف قال : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) والمتّقون مهتدون فكأنّ فيه تحصيل الحاصل؟

قلنا : إنّما صاروا متّقين بما استفادوا منه من الهدى ، أو أراد أنه ثبات لهم على الهدى وزيادة فيه ، أو خصّهم بالذّكر ، لأنّهم هم الفائزون بمنافعه ، حيث قبلوه واتّبعوه كقوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥] أو أراد الفريقين من يتّقي ومن لم يتّق ، واقتصر على أحدهما ، كقوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النمل : ٨١].

[٧] فإن قيل : المخادعة إنّما تتصوّر في حقّ من يخفى عليه الأمور ، ليتمّ الخداع في حقّه. يقال : خدعه إذا أراد به المكروه من حيث لا يعلم ؛ والله تعالى لا يخفى عليه شيء ؛ فكيف قال : (يُخادِعُونَ اللهَ)؟

قلنا : معناه يخادعون رسول الله ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] ، وقوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] ؛ أو سمّى نفاقهم خداعا لشبهه بفعل المخادع.

[٨] فإن قيل : كيف حصر الفساد في المنافقين ، بقوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) [البقرة : ١٢] ، ومعلوم أنّ غيرهم مفسد؟

قلنا : المراد بالفساد الفساد بالنّفاق. وهم كانوا مختصّين به.

__________________

[٦] سرابيل : مفردها سربال (بالكسر) وهو القميص. وقيل هو كل ما لبس وتسربل به ، كالقميص والدّرع.

١٢

[٩] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥]. والاستهزاء من باب العبث والسخرية. وهو قبيح. والله تعالى منزّه عن القبيح؟

قلنا : سمّي جزاء الاستهزاء استهزاء مشاكلة ؛ كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠]. فالمعنى : الله يجازيهم جزاء استهزائهم.

[١٠] فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [البقرة : ١٩] ومعلوم أنّ الصيّب لا يكون إلّا من السماء؟

قلنا : فائدته أنه ذكر السماء معرفة وأضافه إليها ليدلّ على أنّه من جميع آفاقها ، لا من أفق واحد ، إذ كلّ أفق يسمّى سماء. قال الشّاعر :

ومن بعد أرض بيننا وسماء

[١١] فإن قيل : كيف قال : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢٢] ، مع أنّ المشركين لم يكونوا عالمين أنه لا ندّ له ، ولا شريك له ؛ بل كانوا يعتقدون أنّ له أندادا وشركاء؟

قلنا : معناه وأنتم تعلمون أنّ الأنداد لا يقدرون على شيء ممّا سبق ذكره في الآية ، أو وأنتم تعلمون أنّه ليس في التّوراة والإنجيل جواز اتّخاذ الأنداد.

[١٢] فإن قيل : كيف قال : (فَاتَّقُوا النَّارَ) [البقرة : ٢٤] ، فعرّف النار هنا ، ونكّرها في سورة التّحريم؟

قلنا : لأنّ الخطاب في هذه مع المنافقين ، وهم في أسفل النار المحيطة بهم ، فعرّفت بلام الاستغراق أو العهد الذّهني ، وفي تلك مع المؤمنين ، والذي يعذّب من عصاتهم بالنّار يكون في جزء من أعلاها ، فناسب تنكيرها لتقللها.

وقيل : لأنّ تلك الآية نزلت بمكّة ، قبل هذه الآية ، فلم تكن النار التي وقودها

__________________

[١٠] صيّب : على وزن فيعل ، مأخوذ من صاب يصوب ، والمراد به المطر أو السحاب. كقول علقمة بن عبدة :

فكأنّما صابت عليه سحابة

صواعقها لطير هنّ دبيب

ـ الشاهد الذي ذكره الرّازي عجز بيت حكاه الفراء في كتابه معاني القرآن عن أبي الجراح. والبيت بتمامه :

فأوّه من الذّكرى إذا ما ذكرتها

ومن بعد أرض بيننا وسماء

وقوله : أوّه (مأخوذ من يتأوّه له) لغة في بني عامر ، على ما ذكر الفرّاء. يراجع معاني القرآن ، مج ٢ ص ٢٣.

وقد وهم بعض فروى صدر البيت كالتالي :

فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها

 .......

١٣

الناس والحجارة معروفة ، فنكّرها. ثم ، نزلت هذه الآية بالمدينة ، فعرّفت ؛ إشارة بها إلى ما عرفوه أوّلا.

[١٣] فإن قيل : قوله تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) [البقرة : ٤٢] ، ليسا فعلين متغايرين ، فينهوا عن الجمع بينهما ؛ بل أحدهما داخل في الآخر؟

قلنا : هما فعلان متغايران ، لأنّ المراد بتلبيسهم الحقّ بالباطل كتابتهم في التّوراة ما ليس منها ، وبكتمانهم الحقّ قولهم : لا نجد في التّوراة صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[١٤] فإن قيل : قوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ٤٦] ، ما فائدة الثاني والأوّل يدلّ عليه ويقتضيه؟

قلنا : قوله : (مُلاقُوا رَبِّهِمْ) ، أي : ملاقوا ثواب ربّهم ، وما وعدهم على الصبر والصلاة ؛ وقوله : (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، أي موقنون بالبعث ؛ فصار المعنى : أنهم موقنون بالبعث وبحصول الثّواب الموعود ؛ فلا تكرار فيه.

[١٥] فإن قيل : كيف قال : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) [البقرة : ٥٩] ؛ وهم لم يبدّلوا غير الذي قيل لهم ؛ لأنّهم قيل لهم ؛ قولوا حطّة ، فقالوا حنطة؟

قلنا : معناه فبدّل الّذين ظلموا قولا ، قيل لهم. وقالوا قولا ، غير الّذي قيل لهم.

[١٦] فإن قيل : قوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [البقرة : ٦٠] العثو : الفساد ؛ فيصير المعنى : ولا تفسدوا في الأرض مفسدين؟

قلنا : معناه ولا تعثوا في الأرض بالكفر ، وأنتم مفسدون بسائر المعاصي.

[١٧] فإن قيل : كيف قال : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) [البقرة : ٦١] وطعامهم كان المنّ والسلوى وهما طعامان؟

__________________

[١٥] حطّة : قال الرّاغب في مفرداته : هي كلمة أمر بها بنو إسرائيل ، ومعناه : حطّ عنّا ذنوبنا. وقيل : معناه : قولوا صوابا.

[١٦] العثو : ويقال العيث والعثي أيضا ، من عثا عثوّا ، وعثي عثوا ، إذا أفسد أشدّ الإفساد. وهو قول ابن سيده. وميّز الرّاغب في مفرداته بين العيث والعثي بأنّ الأوّل (العيث) أكثر ما يقال للفساد الذي يدرك حسّا ، والعثي فيما يدرك حكما ، أي أنّ الأوّل يقال للفساد الحسّي ، والثّاني يقال للفساد المعنوي. غير أنّه لم يذكر مستنده في ذلك.

[١٧] المنّ : قال في القاموس هو كلّ طلّ ينزل من السماء على شجر أو حجر ، ويحلو وينعقد عسلا ، ويجفّ جفاف الصمغ.

وذكر الرّاغب في مفرداته نحو هذا المعنى باختصار. ثم ، حكى القول بأن المن والسلوى شيء واحد ، وكلاهما إشارة إلى ما أنعم الله به على بني إسرائيل ، لكن سمّاه منّا بحيث أنّه امتنّ به عليهم ، وسمّاه سلوى من حيث إنّه كان لهم به التّسلي.

أقول : وبهذا المعنى يبطل السؤال من رأس. ويلغو الجواب الذي حاوله الرّازي هنا.

١٤

قلنا : المراد أنّه دائم غير متبدّل وإن كان نوعين.

[١٨] فإن قيل : كيف قال : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) [البقرة : ٦١] ، وقتل النبيين لا يكون إلّا بغير الحق؟

قلنا : معناه بغير الحقّ في اعتقادهم ؛ ولأن التّصريح بصفة فعلهم القبيح أبلغ في ذمّهم ؛ وإن كانت تلك الصفة لازمة للفعل ، كما في عكسه ؛ كقوله : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) [الأنبياء : ١١٢] ، لزيادة معنى في التّصريح بالصّفة ؛ ولأن قتل النبيّ قد يكون بحقّ ؛ كقتل إبراهيم ، صلوات الله على نبيّنا وعليه ، ولده ؛ لو وجد ، لكان بحقّ.

[١٩] فإن قيل : كيف قال : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [البقرة : ٦٥] ، وانتقالهم من صورة البشر إلى صورة القردة ليس في وسعهم؟

قلنا : هذا أمر إيجاد لا أمر إيجاب ؛ فهو من قبيل قوله عزوجل : (كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠].

[٢٠] فإن قيل : كيف قال : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨] ، ولفظة بين تقتضي شيئين فصاعدا. فكيف جاز دخولها على ذلك وهو مفرد؟

قلنا : ذلك يشاء به إلى المفرد والمثنى والمجموع ؛ ومنه قوله تعالى : (بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس : ٥٨] ، وقوله تعالى : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران : ١٨٦] وقوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) [آل عمران : ١٤] ، إلى قوله تعالى : (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا). فمعناه عوان بين الفارض والبكر ، وسيأتي تمامه في قوله عزوجل : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] ، إن شاء الله تعالى.

__________________

ـ ويمكن توجيه وحدة المسمّى وتعدد التسمية بأن يقال : المنّ اسم للنعمة الحسيّة وهو الطعام المذكور ، والسلوى صفة مصاحبة لذلك الطّعام ، وهي نعمة معنوية. وحاصله ، أنّه أنزل لهم طعام المنّ وجعل لهم فيه السلوى. ولكنهم ، مع ذلك ، كفروا النعمة. هذا ، وفسرت السلوى بأنها اسم طائر. ثمّ ، لو فرض أن المن والسلوى طعامان ، فيمكن أن يجاب بأن إفراد الطعام بلحاظ وحدة الجنس أو الغاية وهو المأكول ، أو أنه جاء على طريقة العرب في الاكتفاء بالواحد عن الاثنين ، أو الاكتفاء بالواحد عن الجمع ، كقول الشاعر :

والعين بعدهم كأنّ حداقها

سملت بشوك فهي عور تدمع

[٢٠] عوان : تقال في الحيوان كالبقر والخيل على التي نتجت بعد بطنها البكر. وقال الرّاغب : العوان : المتوسط بين السنين.

ـ فارض : يقال للمسن من البقر.

ـ بكر : المراد بها في الآية ، التي لم تلد.

١٥

[٢١] فإن قيل : قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) [البقرة : ٧٤] كلاهما بمعنى واحد ؛ فما فائدة الثّاني؟

قلنا : التّفجّر يدلّ على الخروج بوصف الكثرة ، والثاني يدلّ على نفس الخروج. وهما متغايران ؛ فلا تكرار.

[٢٢] فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) [البقرة : ٧٩] والكتابة لا تكون إلّا باليد؟

قلنا : فائدته تحقيق مباشرتهم ذلك التّحريف بأنفسهم ؛ وذلك ، زيادة في تقبيح فعلهم ؛ فإنه يقال : كتب فلان كذا ، وإن لم يباشره بنفسه ؛ بل أمر غيره به ، من كاتب له ونحو ذلك.

[٢٣] فإن قيل : التّولّي والإعراض واحد ، فكيف قال تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) [البقرة : ٨٣].

قلنا : معناه : ثمّ تولّيتم عن الوفاء بالميثاق والعهد ، وأنتم معرضون عن الفكر والنظر في عاقبة ذلك.

[٢٤] فإن قيل : قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) [البقرة : ٩٦] ، ما فائدة قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) ، وهم من جملة الناس؟

قلنا : إنّما خصّوا بالذّكر بعد العموم ؛ لأنّ حرصهم على الحياة أشدّ ؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث.

[٢٥] فإن قيل : قوله عزوجل : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) [البقرة : ١٠٢] يدلّ على أنّ الله تعالى أنزل علم السحر على الملكين ؛ فلم يكن حراما! قلنا : العمل به حرام ؛ لأنّهما كانا يعلّمان الناس السحر ليجتنبوه. كما قال الله تعالى : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) [البقرة : ١٠٢]. نظيره لو سأل إنسان : ما الزّنا؟ لوجب بيانه له ، ليعرفه ، فيجتنبه.

[٢٦] فإن قيل : قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٠٢]. كيف أثبت لهما العلم أوّلا ، مؤكّدا بلام القسم ، ثمّ نفاه عنهم.

قلنا : المثبت لهم أنّهم علموا علما إجماليا أنّ من اختار السحر ماله ، في الآخرة ، من نصيب ؛ والمنفي عنهم أنّهم لا يعلمون حقيقة ما يصيرون إليه من تحسّر الآخرة ، ولا يكون لهم نصيب منها ؛ فالمنفي غير المثبت ، فلا تنافي.

[٢٧] فإن قيل : كيف قال : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا

١٦

يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٠٣] ؛ وإنّما يستقيم أن يقال : هذا خير من ذلك ، إذا كان في كلّ واحد منهما خير ؛ ولا خير في السحر؟

قلنا : خاطبهم على اعتقادهم أنّ في تعلّم السحر خيرا ؛ نظرا منهم إلى حصول مقصودهم الدنيوي به.

[٢٨] فإن قيل : كيف قال هنا : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) [البقرة : ١٢٦]. وقال في سورة إبراهيم صلوات الله عليه : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [إبراهيم : ٣٥].

قلنا : في الدّعوة الأولى ، كان مكانا قفرا ؛ فطلب منه أن يجعله بلدا وآمنا ؛ وفي الدّعوة الثّانية ، كان بلدا غير آمن ؛ فعرّفه وطلب له الأمن ؛ أو كان بلدا آمنا ؛ فطلب له ثبات الأمن ودوامه.

وكون هذه السورة مدنيّة ، وسورة إبراهيم مكّية ، لا ينافي هذا ؛ لأنّ الواقع من إبراهيم ، صلوات الله عليه ، بلغته على الترتيب الذي قلنا ؛ والإخبار عنه في القرآن على غير ذلك الترتيب ؛ أو أنّ المكّيّ ، منه ، ما نزل قبل الهجرة ؛ فيكون المدنيّ متأخّرا عنه ؛ ومنه ما نزل بعد فتح مكّة ؛ فيكون متأخّرا عن المدنيّ ؛ فلم قلتم إنّ سورة إبراهيم ، عليه‌السلام ، من المكّي الّذي نزل قبل الهجرة؟!

[٢٩] فإن قيل : أي مدح وشرف لإبراهيم ، صلوات الله عليه ، في قوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [البقرة : ١٣٠] مع ما له من شرف الرّسالة والخلّة؟

قلنا : قال الزّجّاج : المراد بقوله : (لَمِنَ الصَّالِحِينَ) ، أي من الفائزين.

[٣٠] فإن قيل : الموت ليس في وسع الإنسان وقدرته ؛ حتّى تصحّ أن ينهى عنه ، على صفة ، أو يؤمر به على صفة ؛ فكيف قال : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)؟ [آل عمران : ١٠٢].

قلنا : معناه : اثبتوا على الإسلام ، حتّى إذا جاءكم الموت متّم على دين الإسلام. فهو في المعنى أمر بالثّبات على الإسلام والدّوام عليه ، أو نهي عن تركه.

[٣١] فإن قيل : قوله عزوجل : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) [البقرة : ١٣٧] ، إن أريد به الله تعالى فلا مثل له ، وإن أريد به دين الإسلام فلا مثل له ، أيضا ؛ لأنّ دين الحق واحد؟

قلنا : كلمة مثل زائدة. معناه : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ، يعني بمن آمنتم به ، وهو الله تعالى ، أو بما آمنتم به ، وهو دين الإسلام. ومثل قد تزاد في الكلام ، كما في قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، وقوله تعالى : (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) [الأنعام : ١٢٢]. ومثل ومثل بمعنى واحد ؛ وقيل : الباء زائدة ، كما في قوله

١٧

تعالى : (بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) [مريم : ٢٥] ، أي مثل إيمانكم بالله أو بدين الإسلام.

[٣٢] فإن قيل : كيف قال : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) [البقرة : ١٤٣] ، وهو لم يزل عالما بذلك؟

قلنا : قوله لنعلم : أي لنعلم كائنا موجودا ما قد علمناه أنّه يكون ويوجد ، أو أراد بالعلم التّمييز للعباد ، كقوله تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [الأنفال : ٣٧].

[٣٣] فإن قيل : كيف قال : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) [البقرة : ١٤٤] ، وهذا يدلّ على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن راضيا بالتّوجه إلى بيت المقدس ؛ مع أنّ التّوجه إليه كان بأمر الله تعالى وحكمه؟

قلنا : المراد بهذا الرّضا المحبّة بالطّبع ، لا رضا التّسليم والانقياد لأمر الله تعالى.

[٣٤] فإن قيل : كيف قال : (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) [البقرة : ١٤٥] ، ولهم قبلتان : لليهود قبلة ، وللنّصارى قبلة؟

قلنا : لمّا كانت القبلتان باطلتين ، مخالفتين لقبلة الحقّ ؛ فكانتا ، بحكم الاتّحاد في البطلان ، قبلة واحدة.

[٣٥] فإن قيل : كيف يكون للظّالمين من اليهود أو غيرهم حجّة على المؤمنين ، حتى قال : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [البقرة : ١٥٠]؟

قلنا : معناه إلّا أن يقولوا ظلما وباطلا ، كقول الرجل لصاحبه : مالك عندي حقّ إلّا أن تظلم أو تقول الباطل ؛ وقيل معناه : والذين ظلموا منهم ؛ فإلّا هنا ، بمعنى واو العطف ، كما في قوله تعالى : (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) [النمل : ١٠ ، ١١] ؛ وقيل : إلّا فيهما بمعنى لكن. وحجتهم أنهم كانوا يقولون لمّا توجه النبيّ ، عليه الصلاة والسلام ، إلى بيت المقدس : ما درى محمّد أين قبلته حتّى هديناه ، وكانوا يقولون ، أيضا : يخالفنا محمّد في ديننا ، ويتبع قبلتنا ؛ فلمّا حوّله الله تعالى إلى الكعبة انقطعت هذه الحجّة ؛ فعادوا يقولون : لم تركت قبلة بيت المقدس؟ إن كانت باطلة فقد صلّيت إليها زمانا ، وإن كانت حقّا فقد انتقلت عنها ؛ فهذا هو المراد به بقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [البقرة : ١٥٠] ؛ وقيل : المراد به قولهم : ما ترك محمّد قبلتنا إلّا ميلا لدين قومه وحبّا لوطنه ؛ وقيل : المراد به قول المشركين : قد عاد محمّد إلى قبلتنا ، لعلمه أنّ ديننا حقّ ؛ وسوف يعود إلى ديننا. وإنّما سمّى الله باطلهم حجّة لمشابهته الحجّة في الصورة ، كما قال الله تعالى : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) [الشورى : ١٦] ، أي باطلة ، وقال : (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) [غافر : ٨٣].

[٣٦] فإن قيل : ما الفائدة في قوله : (وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة : ١٥٢] ، بعد قوله :

١٨

(وَاشْكُرُوا لِي) [البقرة : ١٥٢] ؛ والشّكر نقيض الكفر ؛ فمتى وجد الشّكر انتفى الكفر؟

قلنا : قوله : (وَاشْكُرُوا لِي) معناه : استعينوا بنعمتي على طاعتي ، وقوله : (وَلا تَكْفُرُونِ) معناه : لا تستعينوا بنعمتي على معصيتي. وقيل : الأوّل أمر بالشكر. والثاني أمر بالثّبات عليه.

[٣٧] فإن قيل : كيف قال : (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [البقرة : ١٦١] ، وأهل دينه لا يلعنونه إذا مات على دينهم؟

قلنا : المراد بالنّاس المؤمنون فقط ؛ أو هو على عمومه ، وأهل دينه يلعنونه في الآخرة ؛ قال الله تعالى : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [العنكبوت : ٢٥] ، وقال : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) [الأعراف : ٣٨].

[٣٨] فإن قيل : ما الفائدة في قوله : (إِلهٌ) في : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [البقرة : ١٦٣] ؛ فهلّا قال : وإلهكم واحد ، فكان أخصر وأوجز؟

قلنا : لو قال : وإلهكم واحد ، لكان ظاهره إخبارا عن كونه واحدا في الإلهية ، يعني لا إله غيره ، ولم يكن إخبارا عن توحّده في ذاته ؛ بخلاف ما إذا كرّر ذكر الإله.

والآية إنّما سيقت لإثبات أحديته في ذاته ، ونفي ما يقوله النصارى أنّه واحد ، والأقانيم ثلاثة ، أي الأصول ؛ كما أنّ زيدا واحدا ، وأعضاؤه متعدّدة. فلمّا قال : إله واحد دلّ على أحديّة الذّات والصفة. ولقائل أن يقول : قوله : واحد يحتمل الأحديّة في الذّات ، ويحتمل الأحديّة في الصفات ، سواء كرّر ذكر الإله أو لم يكرّر ؛ فلا يتمّ الجواب.

[٣٩] فإن قيل : ما وجه صحّة التّشبيه في قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) [البقرة : ١٧١] وظاهره تشبيه الكفّار بالرّاعي؟

قلنا : فيه إضمار تقديره : ومثلك يا محمّد ، مع الكفّار ، كمثل الرّاعي مع الأنعام ؛ أو تقديره : ومثل الّذين كفروا كمثل بهائم الرّاعي ؛ أو ومثل واعظ الذين كفروا كمثل الناعق بالبهائم ؛ أو مثل الّذين كفروا ، في دعائهم الأصنام ، كمثل الرّاعي.

[٤٠] فإن قيل : كيف خصّ المنعوق ، بأنّه لا يسمع إلّا دعاء ونداء ؛ مع أنّ كلّ عاقل كذلك ؛ أيضا لا يسمع إلّا دعاء ونداء؟

قلنا : المراد بقوله : لا يسمع أنّه لا يفهم كقولهم : أساء سمعا فأساء إجابة ، أي أساء فيهما.

[٤١] فإن قيل : كيف قال : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [البقرة : ١٧٤] ، وقال في موضع آخر : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢ ، ٩٣].

قلنا : المنفي كلام التلطّف والإكرام ، والمثبت سؤال التوبيخ والإهانة ؛ فلا تنافي.

١٩

[٤٢] فإن قيل : كيف قال : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) [البقرة : ١٧٨] ، أي فرض ؛ والقصاص ليس بفرض ؛ بل الوليّ مخيّر فيه ؛ بل مندوب إلى تركه؟

قلنا : المراد به فرض على القاتل التّمكين ، لا أنّه فرض على الوليّ الاستيفاء.

[٤٣] فإن قيل : كيف قال : (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [البقرة : ١٨٠] ، عطف الأقربين على الوالدين ، وهما أقرب الأقربين ، والعطف يقتضي المغايرة؟

قلنا : الوالدان ليسا من الأقربين ؛ لأنّ القريب من يدلي إلى غيره بواسطة ، كالأخ والعمّ ونحوهما ؛ والوالدان ليسا كذلك ؛ ولو كانا منهم ، لكان تخصيصهما بالذّكر لشرفهما ، كقوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨].

[٤٤] فإن قيل : كيف قال : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ١٨٣] ، وصوم هذه الأمّة ليس كصوم أمّة موسى وعيسى ، عليهما‌السلام؟

قلنا : التّشبيه في أصل الصوم ، لا في كيفيّته ، أو في كيفيّة الإفطار ؛ فإنّه كان ، في أوّل الأمر ، الإفطار مباحا ، من غروب الشّمس إلى وقت النوم ، فقط ؛ كما كان في صوم من قبلنا ؛ ثم نسخ بقوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ) [البقرة : ١٨٧] الآية ، أو في العدد ، أيضا ؛ على ما روي عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، أنّه قال : فرض على النصارى صوم رمضان بعينه. فقدّموا عشرة ، أو أخّروا عشرة ؛ لئلّا يقع في الصيف. وجبروا التّقديم والتّأخير ، بزيادة عشرين. فصار صومهم خمسين يوما ، بين الصيف والشّتاء.

[٤٥] فإن قيل : ما فائدة قوله : (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) [البقرة : ١٨٥] ، بعد قوله : (هُدىً لِلنَّاسِ)؟

قلنا : ذكر أوّلا أنّه هدى ؛ ثمّ ذكر أنّه بيّنات من الهدى ، أي من جملة ما هدى الله به عبيده ، وفرّق به بين الحقّ والباطل ، من الكتب السماويّة الهادية الفارقة بين الحقّ والباطل ؛ فلا تكرار.

[٤٦] فإن قيل : ما فائدة إعادة ذكر المريض والمسافر؟

قلنا : فائدته أن الآية المتقدمة نسخ ممّا فيها تخيير الصحيح ، وكان فيها تخيير المريض والمسافر ، أيضا ؛ فأعيد ذكرهما لئلّا يتوهّم أنّ تخييرهما نسخ ، كما نسخ تخيير الصحيح.

[٤٧] فإن قيل : قوله تعالى : (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة : ١٨٦] يدلّ على أنّه يجيب دعاء الدّاعين ، ونحن نرى كثيرا من الدّاعين لا يستجاب لهم؟!

__________________

[٤٧] الحديث أخرجه الترمذي ٤٩ ـ كتاب الدعوات ، الباب ١٣٥ ، حديث ٣٦١٨ مرفوعا من طريق أبي الزناد عن أبي هريرة.

وهو في الموطأ ١٥ ـ كتاب القرآن ، ٨ ـ باب ما جاء في الدعاء ، حديث ٥٠٢.

٢٠