اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

الملائكة وغيرها أطوع منكم يعبدوه ويتّقوه ، وهو مع ذلك غنيّ عن عبادتهم ، و «حميدا» (١) مستحقّ للحمد ؛ لكثرة نعمه ، وإن لم يحمده أحد منهم ؛ لأنه في ذاته محمود ، سواء حمدوه أو لم يحمدوه.

قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) ، قال عكرمة ، عن (٢) ابن عبّاس : يعني : شهيدا أنّ فيها عبيدا.

وقيل : دافعا ومجيرا.

فإن قيل : ما فائدة التّكرار في قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

فالجواب : أنّ لكل منها وجه :

أما الأول : معناه : لله ما في السماوات وما في الأرض ، وهو يوصيكم بالتّقوى ، فاقبلوا وصيّته.

والثاني : [يقول :](٣) لله ما في السماوات وما في الأرض ، وكان الله غنيّا ، أي : هو الغنيّ ، وله الملك ، فاطلبوا منه ما تطلبون.

والثالث : يقول (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) ، أي : له الملك ؛ فاتّخذوه وكيلا ، ولا تتوكّلوا على غيره.

[و](٤) قال القرطبي (٥) : وفائدة التّكرار من وجهين :

الأول : أنه كرّر تأكيدا ؛ لتنبيه العباد ، ولينظروا في ملكه وملكوته ، أنه غنيّ عن خلقه.

والثاني : أنه كرّر لفوائد : فأخبر في الأوّل ، أنّ الله يغني كلّا من سعته ؛ لأن له ما في السماوات وما في الأرض ، [فلا تنفد خزائنه ، ثم قال : أوصيناكم وأهل الكتاب بالتّقوى ، وإن تكفروا ، فإنّه غنيّ عنكم ؛ لأنّ له ما في السماوات وما في الأرض](٦) ثم أعلم في الثّالث : بحفظ خلقه ، وتدبيره إيّاهم بقوله : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) ؛ لأن له ما في السماوات وما في الأرض ، ولم يقل : من في السّموات ؛ لأن في السّموات والأرض من يعقل ، ومن لا يعقل.

قوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ)(٧)(وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً)(٨)

والمعنى : أنه تعالى قادر على الإفناء والإيجاد ، فإن عصيتموه فإنه قادر على إفنائكم

__________________

(١) في أ : وحيدا.

(٢) في ب : و.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٢٦٢.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في ب.

٦١

[وإعدامكم](١) بالكلّيّة ، وعلى أن يوجد قوما آخرين ، يشتغلون بعبادته وتعظيمه ، وكان الله على ذلك قديرا.

قوله : «بآخرين» : آخرين صفة لموصوف محذوف من جنس ما تقدّمه تقديره : بناس آخرين يعبدون الله ، ويجوز أن يكون المحذوف من غير جنس ما تقدّمه.

قال ابن عطية (٢) : «يحتمل أن يكون وعيدا لجميع بني آدم ، ويكون الآخرون من غير نوعهم ، كما روي : أنه كان ملائكة في الأرض يعبدون الله».

وقال الزّمخشري (٣) : «أو خلقا آخرين غير الإنس» وكذلك قال غيرهما.

وردّ أبو حيان (٤) هذا الوجه : بأنّ مدلول آخر ، وأخرى ، وتثنيتهما ، وجمعهما ، نحو مدلول «غير» إلا أنه خاصّ بجنس ما تقدّمه. فإذا قلت : «اشتريت فرسا وآخر ، أو : ثوبا وآخر ، أو : جارية وأخرى ، أو : جاريتين وأخريين ، أو جواري وأخر» لم يكن ذلك كلّه إلا من جنس ما تقدم ، حتى لو عنيت «وحمارا آخر» في الأمثلة السابقة لم يجز ، وهذا بخلاف «غير» فإنّها تكون من جنس ما تقدّم ومن غيره ، تقول «اشتريت ثوبا وغيره» لو عنيت : «وفرسا غيره» جاز.

قال : «وقلّ من يعرف هذا الفرق». وهذا الفرق الذي ذكره وردّ به على هؤلاء الأكابر غير موافق عليه ، لم يستند فيه إلى نقل ، ولكن قد يردّ عليهم ذلك من طريق أخرى ، وهو أنّ «آخرين» صفة لموصوف محذوف ، والصّفة لا تقوم مقام موصوفها ، إلا إذا كانت خاصّة بالموصوف ، نحو : «مررت بكاتب» ، أو يدلّ عليه دليل ، وهنا ليست بخاصّة ، فلا بد وأن تكون من جنس الأوّل ؛ لتحصل بذلك الدّلالة على الموصوف المحذوف.

وقال القرطبي (٥) : وهذا كقوله في آية أخرى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [محمد : ٣٨] وفي الآية تخويف ، وتنبيه لمن كان له ولاية وإمارة ، أو رياسة فلا يعدل في رعيته ، أو كان عالما فلا يعمل بعلمه ، ولا ينصح النّاس ، (وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) ، والقدرة : صفة أزليّة لا تتناهى مقدوراته ، كما لا تتناهى معلوماته ، والماضي والمستقبل في صفاته بمعنى واحد ، وإنما خصّ الماضي بالذكر ؛ لئلا يتوهّم أنّه يحدث في صفاته وذاته ، والقدرة : هي التي يكون بها الفعل ، ولا يجوز وجود العجز معها.

قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً)(١٣٤)

يجوز في «من» وجهان :

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٢٢.

(٣) ينظر : الكشاف ١ / ٥٧٤.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٨٣.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٢٦٣.

٦٢

أظهرهما : أنها شرطيّة ، وجوابها قوله : «فعند الله» ، ولا بد من ضمير مقدّر في هذا الجواب يعود على اسم الشّرط ؛ لما تقرر قبل ذلك ، والتقدير : فعند الله ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده ، وهذا تقدير الزّمخشريّ (١) ، قال [الزمخشري](٢) «حتّى يتعلّق الجزاء بالشّرط».

وأورده ابن الخطيب (٣) على وجه السّؤال قال :

فإن قيل : كيف دخلت الفاء في جواب الشّرط ، وعنده ـ تعالى ـ ثواب الدّنيا والآخرة ، سواء حصلت هذه الإرادة أم لا.

قلنا : تقدير الكلام : فعند الله ثواب الدّنيا والآخرة له إن أراده ، وعلى هذا التّقدير يتعلّق الجزاء بالشّرط.

وجوّز أبو حيّان ـ وجعله الظّاهر ـ أنّ الجواب محذوف ، تقديره : من كان يريد ثواب الدّنيا فلا يقتصر عليه ، وليطلب الثّوابين ، فعند الله ثواب الدّارين.

والثاني : أنها موصولة ودخلت الفاء في الخبر ؛ تشبيها له باسم الشّرط ، ويبعده مضيّ الفعل بعده ، والعائد محذوف ؛ كما تقرّر تمثيله.

فصل

ومعنى الآية : أن هؤلاء الّذين يريدون بجهادهم الغنيمة فقط مخطئون (٤) ؛ لأنّ عند الله [ثواب](٥) الدّنيا والآخرة ، فلم اكتفى بطلب ثواب الدّنيا ، مع أنه كان كالعدم بالنّسبة إلى ثواب الآخرة ، ولو كان عاقلا ، لطلب ثواب الآخرة ؛ حتى يحصل له ذلك ، ويحصل له ثواب الدّنيا تبعا.

قال القرطبيّ (٦) : من عمل بما افترضه [الله](٧) عليه طلبا للآخرة ، آتاه الله ذلك في الآخرة ، ومن عمل طلبا للدّنيا ، آتاه ما كتب (٨) له في الدّنيا ، وليس له في الآخرة من نصيب ؛ لأنه عمل لغير الله لقوله ـ تعالى ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) [هود : ١٦] وهذا على أن يكون المراد بالآية : المنافقون والكفّار ، (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) : يسمع كلامهم أنهم لا يطلبون من الجهاد سوى الغنيمة ، ويرى أنّهم لا يسعون في الجهاد ، ولا يجتهدون فيه ، إلا عند توقّع الفوز بالغنيمة ، وهذا كالزّجر عن (٩) هذه الأعمال.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٥٧٤.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٥٧.

(٤) في ب : يحبطون.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٢٦٣.

(٧) سقط في أ.

(٨) في ب : كسب.

(٩) في ب : من.

٦٣

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)(١٣٥)

في اتّصال [هذه](٢) الآية وجوه :

أحدها : لما تقدّم ذكر النّساء والنّشوز ، والمصالحة بينهنّ (٣) وبين الأزواج عقبه بقيام أداء حقوق الله ـ تعالى ـ ، وفي الشّهادة إحياء حقوق الله ؛ فكأنه قيل : وإن اشتغلت بتحصيل شهواتك ، كنت لنفسك ، لا لله ، [وإن اشتغلت بتحصيل مأمورات الله كنت لله ، لا لنفسك](٤) ، وهذا المقام أعلى وأشرف ، فكانت هذه الآية تأكيدا لما تقدّم من التّكاليف.

الثاني : أن الله ـ تعالى ـ لمّا منع النّاس عن اقتصارهم على ثواب الدّنيا ، وأمرهم أن يطلبوا ثواب الآخرة ، عقّبه بهذه الآية ، وبيّن أنّ كمال سعادة الإنسان ، في أن يكون قوله وفعله لله ، وحركته لله ، وسكونه لله ؛ حتى يصير من الّذين يكونون (٥) في آخر مراتب الإنسانيّة ، وأوّل مراتب الملائكة ، فإذا عكس القضيّة ، كان (٦) مثل البهيمة الّتي منتهى أمرها وجدان علفها والشّبع.

الثالث : أنه تقدّم في هذه السّورة تكاليف كثيرة ، فأمر النّاس بالقسط بقوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) [النساء : ٣] ، وأمرهم بالإشهاد عند دفع أموال اليتامى إليهم ، وأمرهم ببذل النّفس والمال في سبيل الله ، وذكر قصّة طعمة بن الأبيرق ، واجتماع قومه على الذّبّ عنه [بالكذب](٧) والشّهادة على اليهودي بالباطل ، وأمر بالمصالحة مع الزّوجة ، وكلّ ذلك أمر من الله لعباده بالقيام بالقسط ، والشّهادة [فيه](٨) [لله](٩) على كلّ أحد ، فكانت هذه الآية كالمؤكّد لما تقدّم من التّكاليف.

القوّام : مبالغة من قائم ، والقسط : العدل ، وهذا أمر منه ـ تعالى ـ لجميع المكلّفين ، بأن يبالغوا في العدل ، والاحتراز عن الجور والميل.

قوله : (شُهَداءَ لِلَّهِ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه خبر ثان لكان ، وفيه خلاف تقدّم ذكره.

والثاني : أنه حال من الضّمير المستكنّ في : «قوّامين» فالعامل فيها : «قوّامين».

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : بينهم.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : يكون.

(٦) في أ : لأن.

(٧) سقط في أ.

(٨) سقط في أ.

(٩) سقط في ب.

٦٤

وقد ردّ أبو حيّان [هذا الوجه : بأنّه يلزم منه تقييد كونهم قوّامين بحال الشّهادة ، وهم مأمورون بذلك مطلقا](١).

وهذا الردّ ليس بشيء ؛ فإن هذا المعنى نحا إليه ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ قال : كونوا قوّامين بالعدل في الشّهادة على من كانت (٢) ، وهذا هو معنى الوجه الصّائر إلى جعل شهداء حالا.

الثالث : أن يكون صفة ل «قوّامين» ، ومعنى قوله : «لله» أي : لذات الله ، ولوجهه ولمرضاته ، وثوابه.

قوله : (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) «لو» هذه تحتمل أن تكون على بابها من كونها حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابها محذوف ، أي : ولو كنتم شهداء على أنفسكم ، لوجب عليكم أن تشهدوا عليها.

وأجاز أبو حيّان أن تكون بمعنى : «إن» الشّرطيّة ، ويتعلّق قوله : (عَلى أَنْفُسِكُمْ) بمحذوف ، تقديره : وإن كنتم شهداء على أنفسكم ، فكونوا شهداء لله ، هذا تقدير الكلام ، وحذف «كان» بعد «لو» كثير ، تقول : ائتني بتمر ، ولو حشفا ، أي : وإن كان التّمر حشفا ، فأتني به. انتهى.

وهذا لا ضرورة تدعو إليه ، ومجيء «لو» بمعنى : «إن» شيء أثبته بعضهم على قلّة ، فلا ينبغي أن يحمل القرآن عليه.

وقال ابن عطيّة (٣) : (عَلى أَنْفُسِكُمْ) متعلّق ب «شهداء».

قال أبو حيان (٤) «فإن عنى ب «شهداء» الملفوظ به ، فلا يصحّ ، وإن عنى به ما قدّرناه نحن ، فيصحّ» يعني : تقديره : «لو» بمعنى : «إن» وحذف «كان» ، واسمها ، وخبرها بعد «لو» ، وقد تقدّم أن ذلك قليل ، فلم يبق إلا أنّ ابن عطيّة يريد «شهداء» محذوفة ؛ كما قدّرته لك أولا ، نحو : «ولو كنتم شهداء» على أنفسكم ، لوجب عليكم أن تشهدوا.

وقال الزّمخشريّ (٥) : «ولو كانت الشّهادة على أنفسكم» فجعل «كان» مقدّرة وهي تحتمل في تقديره التّمام والنّقصان : فإن قدّرتها تامة ، كان قوله (عَلى أَنْفُسِكُمْ) متعلّقا بنفس الشّهادة ، ويكون المعنى : «ولو وجدت الشهادة على أنفسكم» وإن قدّرتها ناقصة ، فيجوز أن يكون (عَلى أَنْفُسِكُمْ) متعلّقا بمحذوف على أنّه خبرها ، ويجوز أن يكون متعلّقا بنفس الشّهادة ، وحينئذ يكون الخبر مقدّرا ، والمعنى : «ولو كانت الشهادة على أنفسكم موجودة» إلا أنّه يلزم من جعلنا (عَلى أَنْفُسِكُمْ) متعلّقا بالشّهادة ، حذف المصدر وإبقاء

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : البحر المحيط «لأبي حيان» (٣ / ٣٨٤).

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٢٢.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٨٤.

(٥) ينظر : الكشاف ١ / ٥٧٥.

٦٥

معموله ، وهو قليل أو ممتنع ، وقال أيضا : «ويجوز أن يكون المعنى : وإن كانت الشّهادة على أنفسكم».

وردّ عليه [أبو حيّان](١) هذين الوجهين فقال : «وتقديره : ولو كانت الشّهادة على أنفسكم ليس بجيّد ؛ لأن المحذوف إنما يكون من جنس الملفوظ به ؛ ليدلّ عليه ، فإذا قلت : «كن محسنا ، ولو لمن أساء إليك» ، فالتقدير : ولو كنت محسنا لمن أساء ، ولو قدّرته : «ولو كان إحسانك» لم يكن جيّدا ؛ لأنك تحذف ما لا دلالة عليه بلفظ مطابق».

وهذا الردّ ليس بشيء ، فإن الدّلالة اللّفظيّة موجودة ؛ لاشتراك المحذوف والملفوظ به في المادّة ، ولا يضرّ اختلافهما في النّوع.

وقال في الوجه الثاني : «وهذا لا يجوز ؛ لأن ما تعلّق به الظّرف كون مقيد ، والكون المقيّد لا يجوز حذفه ، بل المطلق ، لو قلت : كان زيد فيك ، تعني : محبّا فيك ، لم يجز».

وهذا الردّ أيضا ليس بشيء ؛ لأنه قصد تفسير المعنى ، ومبادىء النّحو لا تخفى على آحاد الطّلبة ، فكيف بشيخ الصّناعة.

فصل

شهادة الإنسان على نفسه لها تفسيران :

أحدهما : أن يقرّ على نفسه ؛ لأن الإقرار كالشهادة في كونه موجبا إلزام الحقّ.

الثاني : أن يكون المراد : ولو كانت الشّهادة وبالا على أنفسكم ، أو على الوالدين والأقربين ، فأقيموها عليهم ، ولا تحابوا (٢) غنيّا لغناه ، ولا ترحموا فقيرا لفقره ، وهو قوله : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) أي : أقيموا على المشهود عليه وإن كان غنيّا وللمشهود له وإن كان فقيرا ، فالله أولى بهما منكم ، أي : كلوا أمرهم إلى الله ـ تعالى ـ.

وقال الحسن : الله أعلم بهما (٣).

قال القرطبيّ (٤) : «قوّامين» بناء مبالغة ، أي : ليتكرّر (٥) منكم القيام بالقسط وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم ، وشهادة المرء على نفسه : إقراره بالحقوق عليها ، ثم ذكر الوالدين ؛ لوجوب (٦) برّهما ، وعظم قدرهما ، ثم أتى بالأقربين ؛ إذ هم مظنّة المودّة والتّعصّب ، وجاء الأجنبيّ الآخر ؛ لأنه أحرى أن يقوم [عليه](٧) بالقسط.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٢٨٤.

(٢) في ب : تخافوا.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٨٩.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٢٦٣.

(٥) في أ : ليكون.

(٦) في ب : لوجود.

(٧) سقط في ب.

٦٦

فصل

إنما قدّم الأمر بالقيام بالقسط على [الأمر](١) بالشّهادة لوجوه :

أحدها : أن أكثر النّاس عادتهم أنّهم يأمرون غيرهم بالمعروف ، فإذا آل الأمر إلى أنفسهم ، تركوه (٢) حتى إنّ قبح القبيح إذا صدر عنهم ، كان في محلّ المسامحة (٣) وأحسن الحسن ، إذا صدر عن غيرهم ، كان في محلّ المنازعة ، فالله ـ تعالى ـ نبّه في هذه الآية على سوء الطّريقة ، بأن أمره بالقيام [بالقسط](٤) أوّلا ، ثم أمره بالشّهادة على غيره ثانيا ؛ تنبيها على أن الطّريقة الحسنة هي (٥) أن تكون مضايقة الإنسان مع نفسه [فوق](٦) مضايقته مع الغير.

وثانيها : أنّ القيام بالقسط : هو دفع ضرر العقاب عن النّفس ، وإقامة الشّهادة ، سعي في دفع ضرر العقاب عن الغير ، وهو الّذي عليه الحقّ ، ودفع الضرر عن النّفس مقدّم على دفع الضّرر عن (٧) الغير.

وثالثها : أن القيام بالقسط فعل ، والشّهادة قول [والفعل أقوى من القول](٨).

فإن قيل : فقد قدّم (٩) الشّهادة على القيام بالقسط في قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ)] [آل عمران : ١٨].

فالجواب : أنّ شهادة الله عبارة عن كونه مراعيا للعدل ، ومباينا للجور ، ومعلوم : أنّه ما لم يكن الإنسان كذلك ، لم يقبل شهادته على الغير ؛ فلهذا كان الواجب في قوله : (شَهِدَ اللهُ)](١٠) أن يقدّم (١١) تلك الشّهادة على القيام بالقسط ، والواجب هنا : أن تكون الشّهادة متأخّرة عن القيام بالقسط.

قوله : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) إذا عطف ب «أو» كان الحكم في عود الضّمير ، والإخبار ، وغيرهما لأحد الشّيئين أو الأشياء ، ولا يجوز المطابقة ، تقول : «زيد أو عمرو أكرمته» ولو قلت : أكرمتهما ، لم يجز ، وعلى هذا يقال : كيف ثنّى الضّمير في الآية الكريمة ، والعطف ب «أو»؟ لا جرم أن النّحويّين اختلفوا في الجواب عن ذلك على خمسة أوجه :

أحدها : أنّ الضّمير في «بهما» ليس عائدا على الغنيّ والفقير المذكورين أولا ، بل

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : تركن.

(٣) في ب : المساجد.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : على.

(٦) سقط في أ.

(٧) في ب : على.

(٨) سقط في أ.

(٩) في ب : قد تقدم.

(١٠) سقط في ب.

(١١) ي أ : يقوم.

٦٧

على جنسي الغني والفقير المدلول عليهما بالمذكورين ، تقديره : وإن يكن المشهود عليه غنيّا أو فقيرا ، فليشهد عليه ، فالله أولى بجنسي الغنيّ والفقير ؛ ويدلّ على هذا قراءة أبيّ (١) : «فالله أولى بهم» أي : بالأغنياء والفقراء مراعاة للجنس على ما قرّرته لك ، ويكون قوله : (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) ليس جوابا للشرط ، بل جوابه محذوف كما قد عرفته ، وهذا دالّ عليه.

الثاني : أنّ «أو» بمعنى : الواو ؛ ويعزى هذا للأخفش (٢) ، وكنت قدّمت أوّل البقرة : أنه قول الكوفيين ، وأنه ضعيف.

الثالث : أن «أو» : للتّفصيل أي : لتفصيل ما أبهم ، وقد أوضح ذلك أبو البقاء (٣) ، فقال : «وذلك أنّ كلّ واحد من المشهود عليه والمشهود له ، قد يكون غنيّا ، وقد يكون فقيرا ، وقد يكونان غنيّين ، وقد يكونان فقيرين ، وقد يكون أحدهما غنيّا والآخر فقيرا ؛ فلما كانت الأقسام عند التّفصيل على ذلك ، أتي ب «أو» ، لتدلّ على التّفصيل ؛ فعلى هذا يكون الضّمير في «بهما» عائدا على المشهود له والمشهود عليه ، على أيّ وصف كانا عليه» انتهى ؛ إلّا أنّ قوله : «وقد يكون أحدهما غنيّا والآخر فقيرا» مكرّر ؛ لأنه يغني عنه قوله : «وذلك أن كل واحد» إلى آخره.

الرابع : أنّ الضّمير يعود على الخصمين ، تقديره : إن يكن الخصمان غنيّا أو فقيرا ، فالله أولى بذينك الخصمين.

الخامس : أن الضّمير يعود على الغني والفقير المدلول عليهما بلفظ الغنّي والفقير ، والتقدير: فالله أولى بغنى الغني وفقر الفقير ، وقد أساء ابن عصفور العبارة هنا بما يوقف عليه في كلامه ، وعلى أربعة الأوجه الأخيرة يكون جواب الشّرط ملفوظا به ، وهو قوله : (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) بخلاف الأوّل ؛ فإنه محذوف.

وقرأ عبد الله بن مسعود (٤) : «إن يكن غنيّ أو فقير» برفعهما ، والظّاهر أنّ «كان» في قراءته تامة ، أي : وإن وجد غنيّ أو فقير ، نحو : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠].

قوله : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) أي : اتركوا متابعة الهوى ؛ حتى توصفوا بالعدل ؛ لأنّ العدل عبارة عن ترك متابعة الهوى ، ومن ترك أحد النّقيضين ، فقد حصل له الآخر.

قوله : (أَنْ تَعْدِلُوا) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مفعول من أجله على حذف مضاف ، تقديره : فلا تتّبعوا الهوى محبة أن

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٢٣ ، والبحر المحيط ٣ / ٣٨٥ ، والدر المصون ٢ / ٤٤٠.

(٢) ينظر : معاني القرآن ١ / ٢٤٧.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ١٩٧.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٨٦ ، والدر المصون ٢ / ٤٤١.

٦٨

تعدلوا ، أو إرادة أن تعدلوا ، أي : تعدلوا عن الحقّ وتجوروا.

وقال أبو البقاء (١) في المضاف المحذوف : «تقديره : مخافة أن تعدلوا عن الحقّ». وقال ابن عطيّة (٢) : «يحتمل أن يكون معناه : مخافة أن تعدلوا ، ويكون العدل هنا بمعنى : العدول عن الحقّ ، ويحتمل أن يكون معناه : محبة أن تعدلوا ، ويكون العدل بمعنى : القسط ؛ كأنه يقول : انتهوا ؛ خوف أن تجوروا ، أو محبّة أن تقسطوا ، فإن جعلت العامل «تتّبعوا» فيحتمل أن يكون المعنى : محبة أن تجوروا» انتهى ؛ فتحصّل لنا في العامل وجهان :

الظاهر منهما : أنه نفس «تتبعوا».

والثاني : أنه مضمر ، وهو فعل من معنى النهي ؛ كما قدّره ابن عطيّة ، كأنه يزعم أنّ الكلام قد تمّ عند قوله : «فلا تتّبعوا الهوى» ثم أضمر عاملا ، وهذا ما لا حاجة إليه.

الثاني : أنه على إسقاط حرف الجرّ ، وحذف «لا» النّافية ، والأصل : فلا تتّبعوا الهوى في ألّا تعدلوا ، أي : في ترك العدل ، فحذف «لا» لدلالة المعنى عليها ، ولمّا حذف حرف الجر من «أن» جرى القولان الشّهيران.

الثّالث : أنه على حذف لام العلّة ، تقديره : فلا تتبعوا الهوى ؛ لأن تعدلوا.

قال صاحب هذا القول : «والمعنى : لا تتبعوا الهوى ؛ لتكونوا في اتّباعكموه عدولا ، تنبيها على أن اتباع الهوى وتحرّي العدالة متنافيان لا يجتمعان» وهو ضعيف في المعنى.

قوله : «وإن تلووا» قرأ ابن عامر (٣) ، وحمزة : «تلوا» بلام مضمومة وواو ساكنة ، والباقون : بلام ساكنة وواوين بعدها ، أولاهما مضمومة.

فأمّا قراءة الواوين ، فظاهرة ؛ لأنه من لوى يلوي ، والمعنى : وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحقّ أو حكومة العدل ، والأصل : تلويون كتضربون ، فاستثقلت الضّمّة على الياء فحذفت ، فالتقى ساكنان : الياء وواو الضّمير ، فحذف أوّلهما ـ وهو الياء ـ وضمّت الواو المكسورة التي هي عين لأجل واو الضمير ، فصار : تلوون ، وتصريفه كتصريف «ترمون».

فإن كان عن الشّهادة ، فالمعنى : يحرّفوا الشّهادة ؛ ليبطلوا (٤) الحقّ ، من قولهم : لوى الشيء ، إذا فتله (٥) ، ومنه يقال : التوى هذا الأمر ، إذا تعقّد وتعسّر ، تشبيها بالشّيء

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ١٩٨.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٢٣.

(٣) ينظر : السبعة ٢٣٩ ، والحجة ٣ / ١٨٥ ، وحجة القراءات ٢١٥ ، وإعراب القراءات ١ / ١٣٨ ، والعنوان ٨٥ ، وشرح شعلة ٣٤٥ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢١٩ ، وإتحاف ١ / ٥٢٢.

(٤) في ب : لتبطلوا.

(٥) في أ : قتل.

٦٩

المنفتل ، أو تعرضوا عنها فتكتموها ، أو يقال : تلووا في إقامة الشّهادة إذا تدافعوا ، يقال : لويته حقّه ؛ إذا دفعته وأبطلته (١).

وإن كان عنى الحكم بالعدل ، فهو خطاب للحكّام في ليّهم الأشداق ، يقول (٢) : «وإن تلووا» أي : تميلوا إلى أحد الخصمين ، أو تعرضوا عنه.

وأما قراءة حمزة وابن عامر ، ففيها ثلاثة أقوال :

أحدها : ـ وهو قول الزّجّاج (٣) ، والفراء (٤) ، والفارسي في إحدى الرّوايتين عنه ـ أنه من لوى يلوي ؛ كقراءة الجماعة ، إلّا أنّ الواو المضمومة قلبت همزة ؛ كقلبها في «أجوه» و «أقّتت» ، ثم نقلت حركة هذه الهمزة إلى السّاكن قبلها وحذفت ، فصار : «تلون» كما ترى.

الثاني : أنه من لوى يلوي أيضا ، إلا أن الضّمّة استثقلت على الواو الأولى فنقلت إلى اللام السّاكنة تخفيفا ، فالتقى ساكنان وهما الواوان ، فحذف الأوّل منهما ، ويعزى هذا للنّحّاس ، وفي هذين التخريجين نظر ؛ وهو أنّ لام الكلمة قد حذفت أولا كما قرّرته ، فصار وزنه : تفعوا ، بحذف اللّام ، ثم حذفت العين ثانيا ، فصار وزنه : تفوا ، وذلك إجحاف بالكلمة.

الثالث : ـ ويعزى لجماعة منهم الفارسيّ ـ أن هذه القراءة مأخوذة من الولاية ، بمعنى : وإن ولّيتم إقامة الشّهادة أو ولّيتم الأمر ، فتعدلوا عنه ، والأصل : «توليوا» فحذفت الواو الأولى لوقوعها بين حرف المضارعة وكسرة ، فصار : «تليوا» كتعدوا وبابه ، فاستثقلت الضّمّة على الياء ، ففعل بها ما تقدّم في «تلووا» ، وقد طعن قوم على قراءة حمزة وابن عامر ـ منهم أبو عبيد ـ قالوا : لأنّ معنى الولاية غير لائق بهذا الموضع.

قال أبو عبيد : «القراءة عندنا بواوين مأخوذة من : «لويت» وتحقيقه في تفسير ابن عبّاس : هو القاضي ، يكون ليّه وإعراضه عن أحد الخصمين للآخر» وهذا الطعن ليس بشيء ؛ لأنها قراءة متواترة ومعناها صحيح ؛ لأنّه إن أخذناها من الولاية كان المعنى على ما تقدّم ، وإن أخذناها من الليّ ، فالأصل : «تلووا» كالقراءة الأخرى ، وإنما فعل بها ما تقدّم من قلب الواو همزة ونقل حركتها ، أو من نقل حركتها من غير قلب ، فتتّفق القراءتان في المعنى.

ثم قال : (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) وهذا تهديد ووعيد للمذنبين ، ووعد بالإحسان للمطيعين.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى

__________________

(١) في أ : ومطلته.

(٢) في ب : تقول.

(٣) ينظر : معاني القرآن ١ / ١٢٩.

(٤) ينظر : معاني القرآن ١ / ٢٩١.

٧٠

رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (١٣٦)

في اتّصال هذه الآية بما قبلها وجهان :

أحدهما : أنّها متّصلة بقوله : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) لأن الإنسان لا يكون قائما بالقسط ، إلا إذا كان راسخا في الإيمان بالأشياء المذكورة في هذه الآية.

الثاني : أنه ـ تعالى ـ لمّا بين الأحكام الكثيرة في هذه السّورة ، ذكر عقيبها الأمر بالإيمان ، وفي هذا الأمر وجوه :

أحدها : قال الكلبيّ ، عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس : نزلت هذه الآية في عبد الله ابن سلام ، وأسد وأسيد ابني كعب ، وثعلبة بن قيس ، وسلام ابن أخت عبد الله بن سلام ، وسلمة ابن أخيه ، ويامين بن يامين ، فهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا (٢) : إنّا نؤمن بك ، وبكتابك ، وبموسى ، [والتّوراة](٣) وبعزير ، ونكفر بما سواه من الكتب والرّسل ، فقال لهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل آمنوا بالله ، ورسوله محمّد ، والقرآن ، وبكل كتاب قبله» فقالوا : لا نفعل ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يعني : بمحمّد [والقرآن](٤) وبموسى والتّوراة ، (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) : محمد (وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) : من التّوراة ، والإنجيل ، والزّبور ، وسائر الكتب (٥) ؛ لأن المراد بالكتاب الجنس.

وقيل : الخطاب مع المنافقين ، والتّقدير : يأيّها الذين آمنوا باللّسان ، آمنوا بالقلب ، ويؤيده قوله ـ تعالى ـ : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) [المائدة : ٤١].

وقيل : خطاب مع الّذين آمنوا وجه النّهار ، وكفروا آخره ، والتقدير : يأيّها الّذين آمنوا وجه النّهار ، آمنوا آخره.

وقيل : الخطاب للمشركين ، تقديره : يأيّها الذين آمنوا باللّات والعزّى ، آمنوا.

وقيل : المعنى : يأيها الذين آمنوا ، دوموا على الإيمان ، واثبتوا عليه ، أي : يأيّها الذين آمنوا في الماضي والحاضر ، آمنوا في المستقبل ؛ كقوله : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمد : ١٩] مع أنه كان عالما بذلك.

وقيل : المراد ب (الَّذِينَ آمَنُوا) : جميع النّاس ، وذلك يوم أخذ عليهم الميثاق.

وقيل : يا أيّها الّذين آمنوا على سبيل التّقليد ، آمنوا على سبيل الاستدلال.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : قالوا.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.

(٥) أخرجه الثعلبي في «تفسيره» من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس كما في «الدر المنثور» (٢ / ٤١٤).

٧١

وقيل : يا أيها الّذين آمنوا بحسب الاستدلالات الإجماليّة (١) ، آمنوا بحسب الدّلائل التّفصيليّة.

وقرأ نافع والكوفيون (٢) : «والكتاب الّذي نزّل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل» على بناء الفعلين للفاعل ، وهو الله ـ تعالى ـ ، [وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو :] على بنائهما للمفعول ، والقائم مقام الفاعل ضمير الكتاب.

وحجّة الأوّلين : قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) [الحجر : ٩] ، وقوله :

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) [النحل : ٤٤] ، وحجة الضم : قوله ـ تعالى ـ : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤] ، وقوله : (يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ)](٣) [الأنعام : ١١٤].

قال بعض العلماء (٤) : كلاهما حسن ، إلا أن الضّمّ أفخم ، كقوله : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) [هود : ٤٤].

وقال الزّمخشريّ : فإن قلت : [لم](٥) قال : (نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) ، «و (أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ)؟.

قلت : «لأنّ القرآن نزل منجّما مفرّقا في عشرين سنة ، بخلاف الكتب قبله» ، وقد تقدّم البحث معه في ذلك ، عند قوله ـ تعالى ـ : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ) [آل عمران : ٣] وأن التّضعيف في «نزّل» للتّعدية ، مرادف للهمزة لا للتّكثير.

فصل

اعلم : أنه [تعالى](٦) أمر في هذه الآية بالإيمان بأربعة أشياء :

أوّلها : بالله.

وثانيها : برسوله.

وثالثها : بالكتاب الذي نزّل على رسوله.

ورابعها : [بالكتاب الّذي أنزل من قبل. وذكر في الكفر أمورا خمسة :

أولها : الكفر بالله.

وثانيها : الكفر بملائكته.

وثالثها : الكفر بكتبه](٧).

ورابعها : الكفر برسله.

__________________

(١) في أ : الجملية.

(٢) ينظر : السبعة ٢٣٩ ، والحجة ٣ / ١٨٦ ، ١٨٧ ، وحجة القراءات ٢١٦ ، ٢١٧ والعنوان ٨٥ ، وإعراب القراءات ١ / ١٣٨ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢١٩ ، ٢٢٠ ، وشرح شعلة ٣٤٥ ، وإتحاف ١ / ٥٢٢.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٦٠.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في ب.

٧٢

وخامسها : الكفر باليوم الآخر.

ثم قال : (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) وهاهنا سؤالات :

السّؤال الأوّل : لم قدّم في مراتب الإيمان (١) ذكر الرّسول على ذكر الكتاب ، وفي مراتب الكفر قلب القضيّة؟.

والجواب : لأن في (٢) مرتبة النّزول من الخالق إلى الخلق كان (٣) الكتاب مقدما على الرسول ، وفي مرتبه العروج من الخلق إلى الخالق ، يكون الرّسول مقدّما على الكتاب.

السّؤال الثّاني : لم ذكر في مراتب الإيمان أمورا ثلاثة : الإيمان بالله ، وبالرسل ، وبالكتب ، وذكر في مراتب الكفر [أمورا خمسة : الكفر](٤) بالله ، وبالملائكة ، وبالرّسل ، [وبالكتب](٥) ، وباليوم الآخر؟.

والجواب : لأنّ الإيمان [بالله و](٦) بالرّسل ، وبالكتب متى حصل ، فقد حصل الإيمان بالملائكة ، وباليوم الآخر لا محالة ، إذ ربّما ادّعى الإنسان أنه يؤمن بالله ، وبالرّسل ، وبالكتب ، ثم إنّه ينكر الملائكة ، وينكر اليوم الآخر ، ويزعم أنّ الآيات الواردة في الملائكة وفي اليوم الآخر ، محمولة على التّأويل.

فلما احتمل هذا ؛ لا جرم نصّ على أن منكر الملائكة ، ومنكر اليوم الآخر ، كافر بالله.

السؤال الثالث : كيف قيل لأهل الكتاب : (وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) مع أنهم كانوا مؤمنين بالتوراة والإنجيل؟.

والجواب : ما تقدّم من أن المراد بالكتاب : الجنس ، فأمروا أن يؤمنوا بكل الكتب ؛ لأنّهم لم يؤمنوا بكلّها ؛ كما قالوا : نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، وأما قوله : (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) ليس جوابا للأشياء المذكورة ، بل المعنى : ومن يكفر بواحد منها.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)(١٣٩)(٧)

لما أمر بالإيمان ، ورغّب فيه ، بيّن فساد طريقة من يكفر بعد الإيمان.

__________________

(١) في أ : الرسول.

(٢) في ب : لأن فيه.

(٣) في ب : كما أن.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط من أ.

(٧) سقط في ب.

٧٣

قال قتادة : هم اليهود ؛ آمنوا بموسى ، ثم كفروا من بعد بعبادتهم العجل ، [ثم آمنوا بالتّوراة](١) ، ثم كفروا بعيسى ـ عليه‌السلام ـ ، ثم ازدادوا كفرا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وقيل : هو في جميع أهل الكتاب آمنوا بنبيّهم ، ثم كفروا به ، وآمنوا بالكتاب الذي نزّل عليه ، ثم كفروا به ، وكفرهم به : تركهم إيّاه ، أي : ثم ازدادوا كفرا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : هذا في قوم مرتدّين ، آمنوا ثم ارتدّوا ، ومثل هذا هل تقبل توبته؟ حكي عن عليّ : أنه لا تقبل توبته ، بل يقتل ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) وذلك لأن تكرار الكفر منهم بعد الإيمان مرات ، يدلّ على أنّه لا وقع للإيمان في قلوبهم ، إذ لو كان للإيمان وقع في قلوبهم ، لما تركوه بأدنى سبب ، ومن كان كذلك ، فالظّاهر أنّه لا يؤمن إيمانا صحيحا ، فهذا هو المراد بقوله : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) وليس المراد : أنه لو أتى بالإيمان الصّحيح ، لم يكن معتبرا ، بل المراد منه : الاستبعاد ، وأكثر أهل العلم على قبول توبته.

وقال مجاهد : (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) أي : ماتوا عليه ، (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) : ما أقاموا على ذلك ، (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) أي : طريقا إلى الحقّ.

وقيل : المراد طائفة من أهل الكتاب ، قصدوا تشكيك المسلمين ، فكانوا يظهرون الإيمان تارة والكفر تارة أخرى ، على ما أخبر الله ـ تعالى ـ عنهم قولهم : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا)(٣)(وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [آل عمران : ٧٢] وقوله : (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) أن بلغوا في ذلك إلى حدّ الاستهزاء ، والسّخرية بالإسلام.

فصل

دلّت الآية على أنّ الكفر يقبل الزّيادة والنّقصان ؛ فوجب أن يكون الإيمان كذلك ؛ لأنهما ضدّان متنافيان ؛ فإذا (٤) قبل أحدهما التّفاوت ، فكذلك الآخر.

فإن قيل : الحكم المذكور في هذه الآية : إمّا أن يكون مشروطا بما قبل التّوبة (٥) ، أو بما بعدها.

والأوّل : باطل ؛ لأن الكفر قبل التّوبة غير مغفور على الإطلاق ، وحينئذ تضيع الشّروط المذكورة.

والثاني : باطل ؛ لأن الكفر [يغفر](٦) بعد التّوبة ، ولو كان بعد ألف مرّة ، فعلى التّقديرين يلزم السّؤال.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٣١٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤١٥) وزاد نسبته لعبد بن حميد.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : وإذا.

(٥) في ب : التوراة.

(٦) سقط في أ.

٧٤

والجواب من وجوه :

أحدها : ألا نحمل قوله : «إنّ الّذين» على الاستغراق ، بل على المعهود السّابق ، وهم أقوام معيّنون علم الله أنّهم يموتون على الكفر ، ولا يتوبون عنه ، فقوله : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) إخبار عن موتهم على الكفر.

وثانيها : أن الكلام خرج على الغالب المعتاد ، فإن كان كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر ، لم يكن للإيمان في قلبه وقع ، ولا وجد حلاوة الإيمان كما تقدّم ، والظّاهر ممن حاله هذا أنّه يموت كافرا.

وثالثها : أن الحكم على المذكور في الآية مشروط بعدم التّوبة عن الكفر ، وقول السائل إنّه على هذا التّقدير تضييع الصّفات المذكورة.

قلنا : إنّ إفراده بالذّكر يدلّ على أن كفرهم أفحش ، وخيانتهم أعظم ، وعقوبتهم في القيامة أولى ، فجرى مجرى قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب : ٨] خصّهما (١) بالذّكر لأجل التشريف ، وكقوله : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة: ٩٨].

فإن قيل : اللّام في قوله : (لِيَغْفِرَ لَهُمْ) : للتأكيد ، وهو غير لائق بهذا الموضع ، وإنّما اللائق به تأكيد النّفي.

فالجواب : إن نفي التّأكيد على سبيل التّهكّم مبالغة في تأكيد النّفي ، وهذه اللّام تشبه اللّام في قوله : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٧٩] ، تقدّم الكلام فيه ، ومذاهب النّاس ، وأن لام الجحود تفيد التّوكيد ، والفرق بين قولك : «ما كان زيد يقوم» ، و «ما كان ليقوم».

قوله : (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) يدلّ على أنه ـ تعالى ـ لم [يهد](٢) الكافرين إلى الإيمان.

وقالت المعتزلة : هذا محمول على زيادة الألطاف ، أو على أنّه لا يهديهم إلى الجنّة في الآخرة.

قوله (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) البشارة : كل خبر تتغيّر به بشرة الوجه ، سارّا كان أو غير سارّ.

وقال الزّجّاج (٣) : معناه : اجعل في موضع بشارتك لهم العذاب ، كما تقول العرب : «تحيتك الضّرب وعتابك السّيف» ، أي : بدلا لكم من التّحيّة ، ثم وصف المنافقين ،

__________________

(١) في ب : خصهم.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٩٠.

٧٥

فقال : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) يعني : يتّخذون اليهود والنّصارى أولياء ، وأنصارا ، وبطانة من دون المؤمنين ، كان المنافقون يوادّونهم (١) ، ويقول بعضهم لبعض : إن أمر محمّد لا يتمّ.

قوله : «الّذين» يجوز فيه النّصب والرّفع ، فالنصب من وجهين :

أحدهما : كونه نعتا للمنافقين.

والثاني : أنه نصب بفعل مضمر ، أي أذمّ الّذين ، والرّفع على خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الّذين.

فصل

قال القرطبيّ (٢) : وفي الآية دليل على أنّ من عمل معصية من الموحّدين ، ليس بمنافق ؛ لأنّه لا يتولّى الكفّار ، وتضمنت المنع من موالاة الكفّار ، وأن يتّخذوا أعوانا على الأعمال المتعلّقة بالدّين ، وفي الصّحيح عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ : أنّ رجلا من المشركين لحق بالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقاتل معه ، فقال : ارجع ، فإنّنا لا نستعين بمشرك (٣).

قوله : (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) أي : المعونة ، والظّهور على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وقيل : أيطلبون (٤) عندهم القوّة ، والغلبة ، والقدرة.

قال الواحدي (٥) : أصل العزّة في اللّغة : الشّدّة ، ومنه : قيل للأرض [الصّلبة](٦) الشّديدة : عزاز ويقال : قد استعزّ المرض على المريض : إذا اشتدّ مرضه وكاد أن يهلك وعزّ الهمّ إذا اشتدّ ، ومنه : [عزّ](٧) عليّ أن يكون كذا بمعنى : اشتدّ ، وعز الشّيء : إذا قلّ حتى لا يكاد يوجد ؛ لأنه اشتدّ مطلبه ، واعتز فلان بفلان : إذا اشتدّ ظهره به ، وشاة عزوز : إذا اشتدّ حلبها ، والعزّة : القوّة ، منقولة عن الشّدّة ؛ لتقارب معنيهما ، والعزيز : القوي المنيع بخلاف الذّليل ، فالمنافقون كانوا يطلبون العزّة والقوّة ، بسبب اتّصالهم باليهود ، فأبطل الله عليهم هذا الرّأي بقوله : (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً).

والثاني : قوله : (فَإِنَّ الْعِزَّةَ) لما في الكلام من معنى الشّرط ، إذ المعنى : إن تبتغوا من هؤلاء عزّة (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) و «جميعا» : حال من الضّمير المستكنّ في قوله : «لله» لوقوعه خبرا ، [والمعنى : أنّ العزّة ثبتت لله ـ تعالى ـ حالة كونها جميعا](٨).

فإن قيل : هذا كالمناقض لقوله : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨].

__________________

(١) في ب : يوالونهم.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٢٦٧.

(٣) تقدم.

(٤) في ب : أتطلبون.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٦٤.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في ب.

(٨) سقط في أ.

٧٦

فالجواب : أن القدرة الكاملة لله ، وكل من سواه ، فبإقداره صار قادرا ، وبإعزازه صار عزيزا ، فالعزّة الحاصلة للرسول وللمؤمنين لم تحصل إلا من الله ـ تعالى ـ ، فكان الأمر عند التّحقيق : أنّ العزّة لله جميعا.

قوله تعالى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً)(١٤٠)

قرأ الجماعة : «نزّل» مبنيا للمفعول ، وعاصم (١) ويعقوب قرآه «نزّل» مبنيا للفاعل ، وأبو حيوة وحميد (٢) : «نزل» مخففا مبنيا للفاعل ، والنخعي (٣) : «أنزل» بالهمزة مبنيا للمفعول.

والقائم مقام الفاعل في قراءة الجماعة والنّخعي ، هو «أن» وما في حيّزها ، أي : وقد نزّل عليكم المنع من مجالستهم عند سماعكم الكفر بالآيات ، والاستهزاء بها.

وأمّا في قراءة عاصم : ف «أن» مع ما بعدها في محلّ نصب مفعولا به ب «نزّل» ، والفاعل ضمير الله ـ تعالى ـ كما تقدّم.

وأما في قراءة أبي حيوة وحميد : فمحلّها رفع بالفاعليّة ل «نزل» مخففا ، فمحلّها : إمّا نصب على قراءة عاصم ، أو رفع على قراءة غيره ، ولكن الرّفع مختلف.

فصل

قال المفسّرون : المعنى : وقد نزّل عليكم يا معشر المؤمنين (٤) ، (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ) يعني : القرآن (يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ) يعني : مع المستهزئين (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) ، وذلك أنّ المشركين كانوا يخوضون في مجالستهم في ذكر القرآن ، يستهزئون به ، فأنزل الله ـ تعالى ـ (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) وهذه الآية نزلت في مكّة.

ثم إن أحبار اليهود بالمدينة ، كانوا يفعلون فعل المشركين ، وكان المنافقون يقعدون معهم ، ويوافقونهم على ذلك ، فقال ـ تعالى ـ مخاطبا لهم : «أنه (قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) والمعنى : إذا سمعتم الكفر بآيات الله والاستهزاء بها ، لكنّه أوقع فعل السماع على الآية ، والمراد بها : سماع الاستهزاء.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٣٩ ، والكشف ١ / ٤٠٠ والبحر المحيط ٣ / ٣٨٩ والدر المصون ٢ / ٤٤٣.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٢٥ ، والبحر المحيط ٣ / ٣٨٩ ، والدر المصون ٢ / ٤٤٣.

(٣) ينظر : السابق.

(٤) في ب : المسلمين.

٧٧

قال الكسائيّ (١) : هو كما يقال : سمعت عبد الله يلام (٢).

قال ابن الخطيب (٣) : وعندي فيه وجه آخر : وهو أن يكون المعنى : إذا سمعتم آيات الله حال ما يكفر بها ويستهزأ بها ، وعلى هذا فلا حاجة لما قاله الكسائيّ.

قوله : «أن إذا» «أن» هذه هي المخفّفة من الثّقيلة ، واسمها : ضمير الأمر والشّأن ، أي : أنّ الأمر والشأن إذا سمعتم الكفر والاستهزاء ، فلا تقعدوا.

قال أبو حيان : وما قدّره أبو البقاء (٤) من قوله : «أنكم إذا سمعتم» ليس بجيّد ، لأن «أن» المخففة لا تعمل إلّا في ضمير الشّأن ، إلا في ضرورة ؛ كقوله : [الطويل]

١٨٨٨ ـ فلو أنك في يوم الرّخاء سألتني

طلاقك لم أبخل وأنت صديق (٥)

قال شهاب الدين : هكذا قال ، ولم أره أنا في إعراب أبي البقاء إلا أنّه بالهاء دون الكاف والميم ، والجملة الشّرطية المنعقدة من «إذا» وجوابها في محلّ رفع ، خبرا ل «أن» ، ومن مجيء الجملة الشرطيّة خبرا ل «أن» المخفّفة : قوله : [الكامل]

١٨٨٩ ـ فعلمت أن ما تتّقوه فإنّه

جزر لخامعة وفرخ عقاب (٦)

ف «ما» شرطية ، و «فإنه» جوابها ، والجملة خبر ل «أن» المخفّفة.

قوله : «يكفر بها» في محلّ نصب على الحال من الآيات ، و «بها» في محلّ رفع ؛ لقيامه مقام الفاعل ، وكذلك في قوله : (يُسْتَهْزَأُ بِها) والأصل : يكفر بها أحد ، فلمّا حذف الفاعل ، قام الجارّ والمجرور مقامه ، ولذلك روعي هذا الفاعل المحذوف ، فعاد عليه الضّمير من قوله : (مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا) كأنه قيل : إذا سمعتم آيات الله يكفر بها المشركون ، ويستهزىء بها المنافقون ، فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ، أي : غير حديث الكفر والاستهزاء ، فعاد الضّمير في «غيره» على ما دلّ عليه المعنى.

وقيل : الضّمير في «غيره» يجوز أن يعود على الكفر والاستهزاء المفهومين من قوله : (يُكْفَرُ بِها) و (يُسْتَهْزَأُ بِها) ، [وإنما أفرد الضّمير وإن كان المراد به شيئين ؛ لأحد أمرين :]

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٦٥.

(٢) في ب : يتكلم.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٦٥.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ١٩٨.

(٥) ينظر خزانة الأدب ٥ / ٤٢٦ ، ٤٢٧ ، ١٠ / ٣٨١ ، ٣٨٢ ، والدرر ٢ / ١٩٨ ، والأشباه والنظائر ٥ / ٢٣٨ ، ٢٦٢ ، والإنصاف ١ / ٢٠٥ ، والأزهية ص ٦٢ ، والجنى الداني ص ٢١٨ ، ورصف المباني ص ١١٥ ، وشرح الأشموني ١ / ١٤٩ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١٠٥ ، وشرح المفصل ٨ / ٧١ ، ولسان العرب (حرر) (صدق) (أنن) ، ومغني اللبيب ١ / ٣١ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٣١١ ، والمنصف ٣ / ١٢٨ ، وهمع الهوامع ١ / ١٤٣ والدر المصون ٢ / ٤٤٣

(٦) ينظر البيت في البحر المحيط ٣ / ٣٨٩ والدر المصون ٢ / ٢ / ٤٤٣.

٧٨

إمّا لأنّ الكفر والاستهزاء شيء واحد في المعنى.

وإمّا لإجراء الضّمير مجرى اسم الإشارة ، نحو : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨]. وقوله : [الرجز]

١٨٩٠ ـ كأنّه في الجلد توليع البهق (١)

وقد تقدّم تحقيقه في البقرة ، و «حتى» : غاية للنّهي ، والمعنى : أنه يجوز مجالستهم عند خوضهم في غير الكفر والاستهزاء.

قال الضّحاك ، عن ابن عبّاس : دخل في هذه الآية كل محدث في الدّين ، وكل مبتدع إلى يوم القيامة (٢).

قوله : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) «إذا» هنا : ملغاة ؛ لوقوعها بين مبتدأ وخبر ، والجمهور على رفع اللام في «مثلهم» على خبر الابتداء (٣) ، وقرىء شاذا بفتحها ، وفيها تخريجان :

أحدهما : ـ وهو قول البصريّين ـ أنه خبر أيضا ، وإنما فتح لإضافته إلى غير متمكّن ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات : ٢٣] بفتح اللّام ، وقول الفرزدق : [البسيط]

١٨٩١ ـ ................

 ... وإذ ما مثلهم بشر(٤)

في أحد الأوجه.

والثّاني : ـ وهو قول الكوفيّين ـ أن «مثل» يجوز نصبها على المحلّ ، أي : الظرف ، ويجيزون : «زيد مثلك» بالنّصب على المحلّ أي : زيد في مثل حالك ، وأفرد «مثل» هنا ، وإن أخبر به عن جمع ولم يطابق به كما طابق ما قبله في قوله : (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [محمد : ٣٨] ، وقوله : (وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ) [الواقعة : ٢٢ ، ٢٣].

قال أبو البقاء (٥) وغيره : لأنه قصد به هنا المصدر ، فوحّد كما وحّد في قوله : (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) [المؤمنون : ٤٧]. وتحرير المعنى : أن التقدير : إنّ عصيانكم مثل عصيانهم ، إلا أنّ تقدير المصدريّة في قوله : (لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) قلق.

__________________

(١) تقدم برقم ٥٧٩.

(٢) ذكره البغوي في تفسيره ١ / ٤٩١.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٩٠ ، والدر المصون ٢ / ٤٤٤.

(٤) جزء بيت والبيت بتمامه :

فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم

إذا هم قريش وإذ ما مثلهم بشر

ينظر ديوانه (١٦٧) ورصف المباني ٣١٢ والمقرب ١ / ١٠٢ والمغني (٨٧) والكتاب ١ / ٦٠ والدر المصون ٢ / ٤٤٤.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ١٩٨.

٧٩

فصل في معنى الآية

والمعنى : أنكم إذا مثلهم ، إن قعدتم عندهم وهم يخوضون ويستهزئون ، ورضيتم به ، فأنتم كفّار مثلهم ، وإن خاضوا في حديث غيره ، فلا بأس بالقعود معهم مع الكراهة.

قال الحسن : لا يجوز القعود معهم وإن خاضوا في حديث غيره (١) ؛ لقوله (٢) ـ تعالى ـ : (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأنعام : ٦٨] والأكثرون على الأوّل ، وآية الأنعام مكّية وهذه مدنيّة ، والمتأخّر (٣) أولى.

فصل

قال بعض العلماء : هذا يدل على أنّ من رضي بالكفر ، فهو كافر ، ومن رضي بمنكر يراه ، وخالط أهله وإن لم يباشر ذلك ، كان في الإثم بمنزلة المباشر لهذه الآية ، وإن لم يرض وحضر خوفا وتقية ، فلا.

قوله : (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) أي : كما اجتمعوا على الاستهزاء بآيات الله في الدّنيا ، فكذلك يجتمعون (٤) في العذاب يوم القيامة ، وأراد : جامع بالتنوين ؛ لأنّه بعد ما جمعهم حذف التّنوين ؛ استخفافا من اللّفظ ، وهو مراد في الحقيقة.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)(١٤١)

(٥) في : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ) : ستّة أوجه :

أحدها : أنه بدل من قوله : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ) ، فيجيء فيه الأوجه المذكورة هناك.

الثاني : أنه نعت للمنافقين على اللّفظ ، فيكون مجرور المحلّ.

الثالث : أنه تابع لهم على الموضع ، فيكون منصوب المحلّ ، وقد تقرّر أنّ اسم الفاعل العامل إذا أضيف إلى معموله ، جاز أن يتبع معموله لفظا وموضعا ، تقول : «هذا ضارب هند العاقلة والعاقلة» بجرّ العاقلة ونصبها.

الرابع : أنه منصوب على الشّتم.

الخامس : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم الذين.

السادس : ـ وذكره أبو البقاء (٦) ـ أنه مبتدأ ، والخبر قوله : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ) ،

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره ١ / ٤٩١.

(٢) في ب : لقوله.

(٣) في ب : فالمناخر.

(٤) في أ : يجمعون.

(٥) سقط في ب.

(٦) ينظر : الإملاء ١ / ١٩٩.

٨٠