اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

عطيّة (١) ـ رحمه‌الله ـ : «والوجه عود ضمير المؤنّث على ما تقتضيه الآية ضرورة ، أي : صورا ، أو أشكالا ، أو أجساما ، وعود الضمير المذكّر على المخلوق المدلول عليه ب «تخلق» ، ثم قال : «ولك أن تعيده على ما تدلّ عليه الكاف من معنى المثل ؛ لأنّ المعنى : وإذ تخلق من الطّين مثل هيئته ، ولك أن تعيده على الكاف نفسها ، فتكون اسما في غير الشّعر». انتهى ، وهذا القول هو عين ما قبله ، فإنّ الكاف أيضا بمعنى مثل ، وكونها اسما في غير الشعر ، لم يقل به غير الأخفش.

واستشكل الناس قول مكيّ المتقدّم ؛ كما قدّمت حكايته عن ابن عطية رضي الله عنه. ويمكن أن يجاب عنه بأنّ قوله «عائد على الطّائر» لا يريد به الطائر الذي أضيفت إليه الهيئة ، بل الطائر المصوّر ، والتقدير : وإذ تخلق من الطّين طائرا صورة الطائر الحقيقيّ ، فتنفخ فيه ، فيكون طائرا حقيقيّا ، وأنّ قوله «عائد على الهيئة» لا يريد الهيئة المجرورة بالكاف ، بل الموصوفة بالكاف ، والتقدير : وإذ تخلق من الطّين هيئة مثل هيئة الطّائر ، فتنفخ فيها ، أي : في الموصوفة بالكاف الّتي نسب خلقها إلى عيسى ـ عليه‌السلام ـ وأمّا كونه كيف يعود ضمير مذكّر على هيئة ، وضمير مؤنث على الطائر [لأنّ قوله : «ويجوز عكس هذا» يؤدي إلى ذلك؟ فجوابه أنه جاز بالتأويل ؛ لأنه تؤوّل الهيئة بالشكل ، ويؤوّل الطائر] بالهيئة ؛ فاستقام ، وهو موضع تأمّل ، وقال هنا «بإذني» أربع مرات عقيب أربع جمل ، وفي آل عمران (بِإِذْنِ اللهِ) مرتين ؛ لأنّ هناك موضع إخبار ، فناسب الإيجاز ، وهنا مقام تذكير بالنعمة والامتنان ، فناسب الإسهاب ؛ وقوله «بإذني» حال : إمّا من الفاعل ، أو من المفعول.

قوله : (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي) قال الخليليّ : من ولد أعمى ، ومن ولد بصيرا ثمّ أعمي.

قوله تعالى : (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى) : من قبورهم أحياء «بإذني» ، أي : بفعلي ذلك عند دعائك ، أي : عند قولك للميّت : اخرج بإذن الله ، وذلك الإذن في هذه الأفاعيل ، إنّما هو على معنى إضافة حقيقة الفعل إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ كقوله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ١٤٥] أي : إلّا بخلق الله الموت فيها.

قوله تعالى : (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) يعني : الواضحة والمعجزات الظّاهرة ، وقيل : المراد بالبيّنات الظّاهرة هذه البيّنات التي تقدّم ذكرها ، فيكون الألف واللّام للمعهود.

روي أنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لمّا أظهر هذه المعجزات العجيبة ، قصد اليهود قتله ، فخلّصه الله تعالى منهم ، حيث رفعه إلى السّماء.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٨.

٦٠١

قوله : (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).

قرأ الأخوان (١) هنا وفي هود [الآية ٧] وفي الصّف [الآية ٦] «إلّا ساحر» اسم فاعل ، والباقون : «إلّا سحر» مصدرا في الجميع ، والرسم يحتمل القراءتين ، فأمّا قراءة الجماعة ، فتحتمل أن تكون الإشارة إلى ما جاء به من البيّنات ، أي : ما هذا الذي جاء به من الآيات الخوارق إلا سحر ، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ جعلوه نفس السحر مبالغة ؛ نحو : «رجل عدل» ، أو على حذف مضاف ، أي : إلّا ذو سحر ، وخصّ مكي (٢) ـ رحمه‌الله تعالى ـ هذا الوجه بكون المراد بالمشار إليه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ويجوز أن تكون إشارة إلى النبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تقدير حذف مضاف ، أي : إن هذا إلّا ذو سحر». قال شهاب الدين (٣) : وهذا غير جائز ، والمراد بالمشار إليه عيسى عليه‌السلام ، وكيف يكون المراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو لم يكن في زمن عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ والحواريّين ؛ حتى يشيروا إليه إلا بتأويل بعيد؟ وأمّا قراءة الأخوين ، فتحتمل أن يكون «ساحر» اسم فاعل ، والمشار إليه «عيسى» ، ويحتمل أن يكون المراد به المصدر ؛ كقولهم : عائذا بك وعائذا بالله من شرّها ، والمشار إليه ما جاء به عيسى من البيّنات والإنجيل ، ذكر ذلك مكي (٤) ، وتبعه أبو البقاء (٥) ، إلا أنّ الواحديّ منع من ذلك ؛ فقال ـ بعد أن حكى القراءتين ـ : وكلاهما حسن ؛ لاستواء كلّ واحد منهما في أنّ ذكره قد تقدّم ، غير أنّ الاختيار «سحر» ؛ لجواز وقوعه على الحدث والشّخص ، أمّا وقوعه على الحدث ، فسهل كثير ، ووقوعه على الشخص يريد ذو سحر ؛ كقوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ) [البقرة : ١٧٧] ، وقالوا : «إنما أنت سير» و «ما أنت إلا سير» ، و [البسيط]

٢٠٨٥ ـ ................

فإنّما هي إقبال وإدبار (٦)

قلت : وهذا يرجّح ما قدّمته من أنه أطلق المصدر على الشخص ؛ مبالغة ؛ نحو : «رجل عدل» ، ثم قال : «ولا يجوز أن يراد بساحر السّحر ، وقد جاء فاعل يراد به المصدر في حروف ليست بالكثير ، نحو : «عائذا بالله من شرّه» ، أي : عياذا ، ونحو «العافية» ولم تصر هذه الحروف من الكثرة بحيث يسوغ القياس عليها».

وإن قيل : إنّه ـ تعالى ـ عدّد هنا نعم الله تعالى على عيسى ـ عليه‌السلام ـ ، وقول الكفّار في حقه (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ، ليس من النّعم ، فكيف ذكره هنا؟.

فالجواب إنّ كلّ ذي نعمة محسود ، فطعن الكفّار في عيسى ـ عليه‌السلام ـ بهذ

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٤٩ ، والحجة ٣ / ٢٧٠ ، وحجة القراءات ٢٣٩ ، والعنوان ٨٨ ، وإعراب القراءات ١ / ١٥٠ ، وشرح شعلة ٣٥٦ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٣٨ ، ٢٣٩ ، وإتحاف ١ / ٥٤٥.

(٢) ينظر : المشكل ١ / ٢٥٣.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٤٧.

(٤) ينظر : المشكل ١ / ٢٥٣.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٢.

(٦) تقدم برقم (١٠٤٨ ب).

٦٠٢

الكلام ، يدلّ على أنّ نعمة الله كانت في حقّه عظيمة ، فحسن ذكره عند تعديد النّعم من هذا الوجه.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنامُسْلِمُونَ)(١١١)

من قال : إنهم كانوا أنبياء ، قال : المراد هذا الوحي الذي يوحى إلى الأنبياء ، ومن قال : إنّهم ما كانوا أنبياء ، قال : المراد بذلك : الوحي والإلهام ، كقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) وقوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل : ٦٨] ، وإنما ذكر هذا في معرض تعديد النّعم ؛ لأنّ صيرورة الإنسان مقبول القول عند النّاس ، محبوبا في قلوبهم من أعظم نعم الله ـ تبارك وتعالى ـ على الإنسان ، وذكر ـ تبارك وتعالى ـ إنّما ألقى ذلك الوحي في قلوبهم فآمنوا وأسلموا ، وإنّما قدّم ذكر الإيمان على الإسلام ؛ لأنّ الإيمان صفة القلب والإسلام عبارة عن الانقياد والخضوع في الظّاهر ، يعني : آمنوا بقلوبهم وانقادوا بظواهرهم.

فإن قيل : إنّه تعالى ذكر في الآية : (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) أنّ جميع ما ذكر الله ـ تعالى ـ من النّعم مختصّ بعيسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ، وليس لأمّه بشيء منها تعلّق.

فالجواب : كلّ ما حصل للولد من النّعم الجليلة ، والدّرجات العالية ، فهو حاصل للأمّ على سبيل التضمّن والتّبع ، قال ـ تبارك وتعالى ـ : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [المؤمنون : ٥٠] ، فجعلهما معا آية واحدة ؛ لشدّة اتّصال كلّ واحد منهما بالآخر.

روي أنّه ـ تعالى ـ لمّا قال لعيسى : (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) من لبس الشّعر وأكل الشّجر ، لم يدّخر شيئا لغد ، ويقول مع كل يوم رزقه ، ولم يكن له بيت فيخرّب ، ولا ولد فيموت ، أينما أمسى بات.

قوله تعالى : (أَنْ آمِنُوا بِي) : في «أن» وجهان :

أظهرهما : أنها تفسيرية ؛ لأنها وردت بعد ما هو بمعنى القول ، لا حروفه.

والثاني : أنها مصدريّة بتأويل متكلّف ، أي : أوجبت إليهم الأمر بالإيمان ، وهنا قالوا «آمنّا» ولم يذكر المؤمن به ، وهناك (آمَنَّا بِاللهِ) [آل عمران : ٥٢] فذكره ، والفرق أنّ هناك تقدّم ذكر الله تعالى فقط ، فأعيد المؤمن به ، فقيل : «بالله» وهنا ذكر شيئان قبل ذلك ، وهما : (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) ، فلم يذكر ؛ ليشمل المذكورين ، وفيه نظر ، وهنا قال «بأنّنا» وهناك قال «بأنّا» بحذف «نا» ، وقد تقدّم غيره مرة : أنّ هذا هو الأصل ، وإنما جيء هنا بالأصل ؛ لأنّ المؤمن به متعدّد ، فناسبه التأكيد.

قوله تعالى : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ

٦٠٣

عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(١١٢)

في «إذ» وجهان :

أحدهما : أوحيت إلى الحواريّين ، إذ قال الحواريّون.

الثاني : اذكر إذ قال الحواريّون.

قرأ الجمهور «يستطيع» بياء الغيبة «ربّك» مرفوعا بالفاعلية ، والكسائيّ (١) : «تستطيع» بتاء الخطاب لعيسى ، و «ربّك» بالنصب على التعظيم ، وقاعدته أنه يدغم لام «هل» [في أحرف منها هذا المكان ، وبقراءة الكسائيّ قرأت عائشة ، وكانت تقول : «الحواريّون أعرف بالله] من أن يقولوا : هل تستطيع ربّك» وإنما قالوا : هل تستطيع أن تسأل ربّك ؛ كأنها ـ رضي الله عنها ـ نزهتهم عن هذه المقالة الشنيعة أن تنسب إليهم ، وبها قرأ معاذ أيضا وعليّ وابن عبّاس وسعيد بن جبير قال معاذ رضي الله تعالى عنه : أقرأني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هل تستطيع ربك» بالتّاء.

وحينئذ فقد اختلفوا في هذه القراءة : هل تحتاج إلى حذف مضاف أم لا؟ فجمهور المعربين يقدّرون : هل تستطيع سؤال ربّك ، وقال الفارسيّ : «وقد يمكن أن يستغنى عن تقدير «سؤال» على أن يكون المعنى : هل تستطيع أن ينزّل ربّك بدعائك ، فيردّ المعنى ـ ولا بد ـ إلى مقدّر يدلّ عليه ما ذكر من اللفظ» ، قال أبو حيان (٢) : «وما قاله غير ظاهر ؛ لأنّ فعله تعالى ، وإن كان مسبّبا عن الدعاء ، فهو غير مقدور لعيسى». واختار أبو عبيد هذه القراءة ، قال : «لأنّ القراءة الأخرى تشبه أن يكون الحواريّون شاكّين ، وهذه لا توهم ذلك» ، قال شهاب الدين (٣) : وهذا بناء من الناس على أنهم كانوا مؤمنين ، وهذا هو الحقّ.

قال ابن الأنباري : «لا يجوز لأحد أن يتوهّم على الحواريّين ؛ أنهم شكّوا في قدرة الله تعالى» ، وبهذا يظهر أنّ قول الزمخشريّ أنهم ليسوا مؤمنين ليس بجيّد ، وكأنه خارق للإجماع ، قال ابن عطية (٤) : «ولا خلاف أحفظه أنّهم كانوا مؤمنين» ، فأمّا القراءة الأولى ، فلا تدلّ له ؛ لأن الناس أجابوا عن ذلك بأجوبة ، منها : أنّ معناه : هل يسهل عليك أن تسأل ربّك ؛ كقولك لآخر : هل تستطيع أن تقوم؟ وأنت تعلم استطاعته لذلك ، ومنها : أنهم سألوه سؤال مستخبر : هل ينزّل أم لا ، فإن كان ينزّل فاسأله لنا ، ومنها : أنّ المعنى هل يفعل ذلك ، وهل يقع منه إجابة لذلك؟ ومنه ما قيل لعبد الله بن زيد : هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضّأ؟ أي : هل تحبّ ذلك؟ وقيل : المعنى : هل يطلب ربّك الطاعة من نزول المائدة؟ قال أبو شامة : «مثل ذلك في الإشكال ما رواه الهيثم ـ

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٤٩ ، والحجة ٣ / ٢٧٣ ، وحجة القراءات ٢٤٠ ، ٢٤١ ، والعنوان ٨٨ ، وإعراب القراءات ١ / ١٥٠ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٣٩ ، وشرح شعلة ٣٥٦ ، وإتحاف ١ / ٥٤٥.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٧٥.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٤٩.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٦٠.

٦٠٤

وإن كان ضعيفا ـ عن ثابت عن أنس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاد أبا طالب في مرض ، فقال : يا ابن أخي ، ادع ربّك الذي تعبده فيعافيني ، فقال : اللهمّ اشف عمّي ، فقام أبو طالب ، كأنما نشط من عقال ، فقال : يا ابن أخي ، إنّ ربّك الذي تعبد ليطيعك ، قال : وأنت يا عمّاه ، لو أطعته ، أو : لئن أطعت الله ، ليطيعنّك ، أي : ليجيبنّك إلى مقصودك (١) ، قال شهاب الدين (٢) : والذي حسّن ذلك المقابلة منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم للفظ عمّه ، كقوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) [آل عمران : ٥٤] وقيل : التقدير : هل يطيع؟ فالسين زائدة ؛ كقولهم : استجاب وأجاب ، قال : [الطويل]

٢٠٨٦ ـ وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب (٣)

وبهذه الأجوبة يستغنى عن قول من قال : «إنّ «يستطيع» زائدة» ، والمعنى : هل ينزّل ربّك ؛ لأنّه لا يزاد من الأفعال إلّا [«كان» بشرطين ، وشذّ زيادة غيرها في مواضع عددتها في غير هذا الكتاب ، على أنّ الكوفيّين يجيزون زيادة بعض الأفعال] مطلقا ، حكوا : «قعد فلان يتهكّم بي» ؛ وأنشدوا : [الوافر]

٢٠٨٧ ـ على ما قام يشتمني لئيم

كخنزير تمرّغ في رماد (٤)

وحكى البصريّون على وجه الشّذوذ : «ما أصبح أبردها ، وما أمسى أدفأها» يعنون الدّنيا.

قال ابن الخطيب (٥) : وأمّا القراءة الثّانية ففيها إشكال ، وهو أنّه تعالى حكى عنهم أنّهم قالوا : «آمنا واشهد بأنا مسلمون» ، وبعد الإيمان كيف يجوز أن يقال : إنهم بقوا شاكّين في اقتدار الله على ذلك؟.

والجواب عنه من وجوه :

الأول : أنّه ـ تبارك وتعالى ـ ما وصفهم بالإيمان والإسلام ، بل حكى عنهم ادّعاءهم لهما ، ثمّ تبع ذلك بقوله ـ حكاية عنهم ـ «هل يستطيع ربّك أن ينزّل علينا مائدة من السّماء»؟ فدلّ ذلك على أنّهم كانوا شاكّين متوقّفين ، فإنّ هذا اللّفظ لا يصدر ممّن كان كاملا في الإيمان.

وقالوا : (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) ، وهذا يدلّ على مرض في القلب ، وكذا قول عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ لهم : (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، يدلّ على أنّهم ما كانوا كاملين في الإيمان.

__________________

(١) أخرجه الحاكم (١ / ٥٤٢) والخطيب (٨ / ٣٧٧) والبيهقي في دلائل النبوة (٦ / ١٨٤) من طريق الهيثم بن ثابت عن أنس وسكت عنه الحاكم وتعقبه الذهبي بقوله : قلت : الهيثم تركوه.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٤٩.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ١٢ / ١٠٧.

٦٠٥

الثاني : أنّهم كانوا مؤمنين إلّا أنّهم طلبوا هذه الآية ليحصل لهم مزيد الطمأنينة ، فلهذا السّبب قالوا : «وتطمئنّ قلوبنا».

الثالث : أنّ مرادهم استفهام أن ذلك هل هو كاف في الحكمة أم لا؟ وذلك لأنّ أفعال الله تعالى لمّا كانت موقوفة على رعاية وجوه الحكمة ، ففي الموضع الّذي لا يحصل فيه شيء من وجوه الحكمة يكون الفعل ممتنعا ، فإنّ المنافي من جهة الحكمة كالمنافي جهة القدرة ، وهذا الجواب يتمشّى على قول المعتزلة.

وأمّا على قولنا فهو محمول على أنّه تبارك وتعالى هل قضى بذلك؟ وهل علم وقوعه؟ فإن لم يقض به ، ولم يعلم وقوعه كان ذلك محالا غير مقدور ؛ لأن خلاف المعلوم غير مقدور.

الرابع : قال السديّ (١) : إن السّين زائدة ، على أنّ استطاع بمعنى أطاع كما تقدّم.

الخامس : لعل المراد بالرّبّ جبريل ؛ لأنّه كان يربّيه ويخصّه بأنواع الإعانة ، لقوله ـ تبارك وتعالى ـ في أوّل الآية (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) ، والمعنى : أنّك تدّعي أنه يربّيك ، ويخصّك بأنواع الكرامة ، فهل يقدر على إنزال مائدة من السّماء عليك؟.

السادس : ليس المقصود من هذا السّؤال كونهم شاكّين فيه ، بل المقصود تقرير أن ذلك في غاية الظّهور ، كمن يأخذ بيد ضعيف ، ويقول : هل يقدر السّلطان على إشباع هذا ، وبكون غرضه أنّ ذلك أمر واضح لا يجوز للعاقل أن يشكّ فيه.

قوله (أَنْ يُنَزِّلَ) في قراءة الجماعة في محلّ نصب مفعولا به ، أي : الإنزال ، وقال أبو البقاء (٢) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : والتقدير : على أن ينزّل ، أو في أن ينزّل ، ويجوز ألّا يحتاج إلى حرف جرّ على أن يكون «يستطيع» بمعنى «يطيق» [قلت : إنما احتاج إلى تقدير حرفي الجرّ في الأول ؛ لأنه حمل الاستطاعة على الإجابة ، وأمّا قوله أخيرا : إنّ «يستطيع» بمعنى «يطيق»] فإنما يظهر كلّ الظهور على رأي الزمخشريّ من كونهم ليسوا بمؤمنين ، وأمّا على قراءة الكسائيّ ، فقالوا : هي في محلّ نصب على المفعولية بالسؤال المقدّر ، أي : هل تستطيع أنت أن تسأل ربّك الإنزال ، فيكون المصدر المقدّر مضافا لمفعوله الأوّل ، وهو «ربّك» ، فلمّا حذف المصدر ، انتصب ، وفيه نظر ؛ من أنهم أعملوا المصدر مضمرا ، وهو لا يجوز عند البصريّين ، يؤوّلون ما ورد ظاهره ذلك ، ويجوز أن يكون (أَنْ يُنَزِّلَ) بدلا من «ربّك» بدل اشتمال ، والتقدير : هل تستطيع ، أي : هل تطيق إنزال الله تعالى مائدة بسبب دعائك؟ وهو وجه حسن.

و «مائدة» مفعول «ينزّل» ، والمائدة : الخوان عليه طعام ، فإن لم يكن عليه طعام

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ١٠٨.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٢.

٦٠٦

فليست بمائدة ، هذا هو المشهور ، إلا أن الراغب (١) قال : «والمائدة : الطبق الذي عليه طعام ، ويقال لكلّ واحد منها مائدة» ، وهو مخالف لما عليه المعظم ، وهذه المسألة لها نظائر في اللغة ، لا يقال للخوان مائدة إلا وعليه طعام ، وإلا فهو خوان ، ولا يقال كأس إلا وفيها خمر ، وإلا فهي قدح ، ولا يقال ذنوب وسجل إلا وفيه ماء ، وإلا فهو دلو ، ولا يقال جراب إلا وهو مدبوع وإلا فهو إهاب ، ولا قلم إلّا وهو مبريّ وإلا فهو أنبوب ، واختلف اللغويون في اشتقاقها ، فقال الزجّاج (٢) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : «هي من ماد يميد إذا تحرّك ، ومنه قوله : (رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) [الأنبياء : ٣١] ومنه : ميد البحر» ، وهو ما يصيب راكبه ، فكأنها تميد بما عليها من الطعام. وقال أهل الكوفة : لأنها تميد بالآكلين ، قال الزجّاج ـ رحمه‌الله تعالى ـ : «وهي فاعلة على الأصل» ، وقال أبو عبيد : «هي فاعلة بمعنى مفعولة مشتقّة من ماده بمعنى أعطاه ، وامتاده بمعنى استعطاه ، فهي بمعنى مفعولة» ، قال : «كعيشة راضية» وأصلها أنها ميد بها صاحبها ، أي : أعطيها ، والعرب تقول : مادني فلان يميدني ، إذا أدّى إليّ وأعطاني» وقال أبو بكر بن الأنباريّ : «سمّيت مائدة ؛ لأنها غياث وعطاء ، من قول العرب : ماد فلان فلانا إذا أحسن إليه» وأنشد : [السريع]

٢٠٨٨ ـ إلى أمير المؤمنين الممتاد (٣)

أي : المحسن لرعيّته ، وهي فاعلة من الميد بمعنى معطية ، فهو قريب من قول أبي عبيد في الاشتقاق ، إلا أنّها عنده بمعنى فاعلة على بابها ، وابن قتيبة وافق أبا عبيد في كونها بمعنى مفعولة ، قال : «لأنّها يماد بها الآكلون أي يعطونها» ، وقيل : هي من الميد ، وهو الميل ، وهذا هو معنى قول الزجّاج. قوله تعالى : (مِنَ السَّماءِ) يجوز أن يتعلّق بالفعل قبله ، وأن يتعلّق بمحذوف ؛ على أنه صفة ل «مائدة» ، أي : مائدة كائنة من السّماء ، أي : نازلة منها.

قوله تعالى : (قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) : فلا تشكّوا في قدرة الله ـ تعالى ـ.

وقيل : اتّقوا الله أن تسألوه شيئا لم تسأله الأمم السّابقة من قبلكم ، فنهاهم عن اقتراح الآيات بعد الإيمان.

وقيل : أمرهم بالتّقوى سببا لحصول هذا المطلوب ، كقوله ـ تبارك وتعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) [المائدة : ٣٥].

__________________

(١) ينظر : المفردات ٤٩٨.

(٢) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٢٤٣.

(٣) عجز بيت لرؤبة وصدره :

تهدي رؤوس المترفين الأنداد

ينظر : ديوانه (٤٠) ، الدر المصون ٢ / ٦٥٠ ، القرطبي ٦ / ٢٣٧ والمحرر الوجيز ٢ / ٢٦٠.

٦٠٧

قوله تعالى : (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ)(١١٣)

أي : أكل تبرّك ، لا أكل حاجة ، وقال الماوردي (١) : لأنّهم لما احتاجوا لم ينهوا عن السّؤال ، وقيل : أرادوا الأكل للحاجة.

وقوله : (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) أي : إنّا وإن علمنا قدرة الله تعالى بالدّليل ، ولكنّا إن شاهدنا نزول هذه المائدة ازداد اليقين ، وقويت الطّمأنينة.

وقيل : المعنى إنّا وإن علمنا صدقك بسائر المعجزات ، ولكن إذا شاهدنا هذه المعجزة ازداد اليقين والعرفان ، وهذا معنى قوله : (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) : أنّك رسول الله.

قيل : إنّ عيسى ابن مريم أمرهم أن يصوموا ثلاثين يوما ، فإذا أفطروا لا يسألون الله شيئا إلّا أعطاهم ، ففعلوا وسألوه المائدة ، وقالوا : (نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) في قولك : «إنّا إذا صمنا ثلاثين يوما لا نسأل الله شيئا إلّا أعطانا».

وقيل : إنّ جميع المعجزات التي أوردتها كانت معجزات أرضيّة ، وهذه سماويّة ، وهي أعجب وأعظم ، (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل ، ويكونوا شاهدين لله تعالى بكمال القدرة.

وقرأ الجمهور : «ونعلم» : و «نكون» بنون المتكلم مبنيّا للفاعل ، وقرأ (٢) ابن جبير ـ رضي الله عنه ـ فيما نقله عنه ابن عطيّة ـ «وتعلم» بضم التاء على أنه مبنيّ للمفعول ، والضمير عائد على القلوب ، أي : وتعلم قلوبنا ، ونقل عنه «ونعلم» بالنون مبنيّا للمفعول ، وقرىء (٣) : «ويعلم» بالياء مبنيّا للمفعول ، والقائم مقام الفاعل : (أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) أي : ويعلم صدقك لنا ، ولا يجوز أن يكون الفعل في هذه القراءة مسندا لضمير القلوب ؛ لأنه جار مجرى المؤنّث المجازيّ ، ولا يجوز تذكير فعل ضميره ، وقرأ الأعمش : [«وتعلم»] بتاء والفعل مبنيّ للفاعل ، وهو ضمير القلوب ، ولا يجوز أن تكون التاء للخطاب ؛ لفساد المعنى ، وروي (٤) : «وتعلم» بكسر حرف المضارعة ، والمعنى على ما تقدّم ، وقرىء (٥) : «وتكون» بالتاء والضمير للقلوب.

و «أن» في (أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) مخفّفة ، واسمها محذوف ، و «قد» فاصلة ؛ لأنّ الجملة الواقعة خبرا لها فعلية متصرّفة غير دعاء ، وقد عرف ذلك مما تقدّم في قوله : (أَلَّا تَكُونَ

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٢٣٦.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٦٠ ، والبحر المحيط ٤ / ٥٩ ، والدر المصون ٢ / ٦٥٣.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٥٩ ، والدر المصون ٢ / ٦٥٣.

(٤) قرأ بها الأعمش كما في مختصر ابن خالويه ٣٦ ، وينظر : التخريجات النحوية ٢٦٨ ، والدر المصون ٢ / ٦٥٣.

(٥) قرأ بها سنان وعيسى كما في البحر المحيط ٤ / ٥٩ ، وينظر : الدر المصون ٢ / ٦٥٣.

٦٠٨

فِتْنَةٌ) [المائدة : ٧١] ، و «أن» وما بعدها سادّة مسدّ المفعولين ، أو مسدّ الأول فقط ، والثاني محذوف ، و «عليها» متعلّق بمحذوف يدلّ عليه «الشّاهدين» ، ولا يتعلّق بما بعده ؛ لأن «أل» لا يعمل ما بعدها فيما قبلها عند الجمهور ، ومن يجيز ذلك يقول : «هو متعلّق بالشاهدين ، قدّم للفواصل». وأجاز الزمخشريّ أن تكون «عليها» حالا ؛ فإنه قال : «أو نكون من الشاهدين لله بالواحدانيّة ، ولك بالنبوّة عاكفين عليها ، على أن «عليها» في موضع الحال» فقوله «عاكفين» تفسير معنى ؛ لأنه لا يضمر في هذه الأماكن إلا الأكوان المطلقة. وقرأ اليمانيّ (١) : «وإنّه» ب «إنّ» المشدّدة ، والضمير : إما للعيد ، وإما للإنزال.

وبهذا لا يردّ عليه ما قاله أبو حيان ـ رحمه‌الله تعالى ـ فإنه غاب عليه ذلك ، وجعله متناقضا ؛ من حيث إنه لمّا علّقه ب «عاكفين» كان غير حال ؛ لأنه إذا كان حالا ، تعلّق بكون مطلق ، ولا أدري ما معنى التناقض.

قوله تعالى : (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(١١٤)

«اللهمّ ربّنا» تقدّم الكلام عليه ، قوله : «ربّنا» نداء ثاني.

قوله تعالى : (تَكُونُ لَنا عِيداً) : [في «تكون» ضمير يعود على «مائدة» هو اسمها ، وفي الخبر احتمالان :

أظهرهما : أنه عيد] ، و «لنا» فيه وجهان :

أحدهما : أنه حال من «عيدا» ؛ لأنها صفة له في الأصل.

والثاني : أنها حال من ضمير «تكون» عند من يجوّز إعمالها في الحال.

والوجه الثاني : أنّ «لنا» هو الخبر ، و «عيدا» حال : إمّا من ضمير «تكون» عند من يرى ذلك ، وإمّا من الضمير في «لنا» ، لأنه وقع خبرا فتحمّل ضميرا ، والجملة في محلّ نصب صفة لمائدة.

وقرأ عبد الله : «تكن» بالجزم على جواب الأمر في قوله : «أنزل» ، قال الزمخشري ـ رحمه‌الله ـ : «وهما نظير «يرثني [ويرث»] يريد قوله تعالى : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي) [مريم : ٥ ، ٦] بالرفع صفة ، وبالجزم جوابا ، ولكن القراءتان هناك متواترتان ، والجزم هنا في الشاذ.

والعيد هنا مشتقّ من العود ؛ لأنه يعود كلّ سنة ، قاله ثعلب عن ابن الأعرابيّ ، وقال ابن الأنباريّ : «النحويّون يقولون : يوم العيد ؛ لأنّه يعود بالفرح والسّرور فهو يوم سرور الخلق كلهم ، ألا ترى أنّ المسجونين في ذلك اليوم لا يطالبون ولا يعاقبون ، ولا يصاد

__________________

(١) ينظر : الشواذ ٤٢.

٦٠٩

الوحش ولا الطّيور ، ولا تغدو الصّبيان إلى المكاتب». وقيل : هو عيد ؛ لأنّ كلّ إنسان يعود إلى قدر منزلته ؛ ألا ترى إلى اختلاف ملابسهم وهيئاتهم ومآكلهم ، فمنهم من يضيف ومنهم من يضاف ، ومنهم من يرحم ومنهم من يرحم.

وقيل : سمّي بذلك ؛ لأنّه يوم شريف ، تشبيها بالعيد وهو فحل كريم مشهور عند العرب وينسبون إليه ، فيقال : إبل عيدية.

قال الشاعر : [البسيط]

٢٠٨٩ ـ ................

عيد بها أزهرت فيها الدّنانير (١)

وقال الخليل : العيد كل يوم يجمع ، كأنّهم عادوا إليه عند العرب ؛ لأنه يعود بالفرح والحزن ، وكلّ ما عاد إليك في وقت ، فهو عيد ؛ حتّى قالوا للطّيف عيد ؛ قال الأعشى : [الطويل]

٢٠٩٠ ـ فواكبدي من لاعج الحبّ والهوى

إذا اعتاد قلبي من أميمة عيدها (٢)

أي : طيفها ، وقال تأبّط شرّا : [البسيط]

٢٠٩١ ـ يا عيد ما لك من شوق وإيراق (٣)

وقال أيضا : [الخفيف]

٢٠٩٢ ـ عاد قلبي من الطّويلة عيد

 ................. (٤)

وقال الراغب (٥) : والعيد حالة تعاود الإنسان ، والعائدة : كلّ نفع يرجع إلى الإنسان بشيء ، ومنه «العود» للبعير المسنّ : إمّا لمعاودته السّير والعمل فهو بمعنى فاعل ، وإمّا

__________________

(١) عجز بيت لرذاذ الكلبي أو لشداد وصدره :

ظلت تجوب بها البلدان ناجية

 ................

ويروى :

يطوي ابن سلمى بها عن راكب بعدا

 ................

ويروى : «أمهرية» بدل «عيدية».

ينظر : اللسان (عود) ، والصحاح (رهن) ، وتهذيب اللغة ٦ / ٢٧٤ (رهن). وجمهرة اللغة ٢ / ٨٠٧ ، والمخصص ١٢ / ٢٥٣ ، ١٣ / ٢٢ ، والمقاييس (رهن) ٢ / ٤٥٢. والبحر ٢ / ٣٤٢ ، والقرطبي ٣ / ٤٠٩.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٥١.

(٣) صدر بيت وعجزه :

 .................

ومر طيف على الأهوال طراق

ينظر : المفضليات (٢٧) ، الدر المصون ٢ / ٦٥١.

(٤) صدر بيت وعجزه :

 .................

واعتراني من حبها تسهيد

اللسان (عود) ، الدر المصون ٢ / ٦٥١.

(٥) ينظر : المفردات ٣٦٤.

٦١٠

لمعاودة [السنين] إياه [ومرّها] عليه ، فهو بمعنى مفعول ، قال امرؤ القيس : [الطويل]

٢٠٩٣ ـ على لاحب لا يهتدى بمناره

إذا سافه العود النّباطيّ جرجرا (١)

وصغّروه على «عييد» وكسّروه على «أعياد» ، وكان القياس عويد وأعواد ؛ لزوال موجب قلب الواو ياء ؛ لأنها إنما قلبت لسكونها بعد كسرة ، ك «ميزان» ، وإنما فعلوا ذلك ؛ قالوا : فرقا بينه وبين عود الخشب.

قوله : (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق بمحذوف ؛ لأنه وقع صفة ل «عيدا».

الثاني : أنه بدل من «نا» في «لنا» ، قال الزمخشريّ (٢) : (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) بدل من «لنا» بتكرير العامل» ، ثم قال : «وقرأ زيد بن ثابت ، وابن محيصن والجحدريّ (٣) : «لأولانا وأخرانا» بدل «لنا» ، والتأنيث على معنى الأمّة» ، وخصّص أبو البقاء (٤) كلّ وجه بشيء ؛ وذلك أنه قال : «فأمّا (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) ، فإذا جعلت «لنا» خبرا أو حالا من فاعل «تكون» فهو صفة ل «عيدا» ، وإن جعلت «لنا» صفة ل «عيد» ، كان «لأوّلنا» بدلا من الضمير المجرور بإعادة الجارّ». قال شهاب الدين (٥) : إنما فعل ذلك ؛ لأنه إذا جعل «لنا» خبرا ، كان «عيدا» حالا ، وإن جعله حالا ، كان «عيدا» خبرا ؛ وعلى التقديرين لا يمكنه جعل «لأوّلنا» بدلا من «لنا» ؛ لئلا يلزم الفصل بين البدل والمبدل منه : إمّا بالحال ، وإما بالخبر ، وهو «عيد» ، بخلاف ما إذا جعل «لنا» صفة ل «عيد» ، [ولكن يقال : قوله : فإن جعلت «لنا» صفة ل «عيدا»] كان «لأوّلنا» بدلا مشكل أيضا ؛ لأنّ الفصل فيه موجود ، لا سيما أنّ قوله لا يحمل على ظاهره ؛ لأنّ «لنا» ليس صفة بل هو حال مقدمة ، ولكنه نظر إلى الأصل ، وأنّ التقدير : عيدا لنا لأوّلنا ؛ فكأنه لا فصل ، والظاهر جواز البدل ، والفصل بالخبر والحال لا يضرّ ؛ لأنه من تمامه ، فليس بأجنبيّ.

واعلم : أن البدل من ضمير الحاضر ، سواء كان متكلّما أم مخاطبا ، لا يجوز عند جمهور البصريّين في بدل الكلّ من الكلّ ، لو قلت : «قمت زيد» تعني نفسك ، و «ضربتك عمرا» ، لم يجز ، قالوا : لأنّ البدل إنما يؤتى به للبيان غالبا ، والحاضر متميّز بنفسه ؛ فلا فائدة في البدل منه ، وهذا يقرب من تعليلهم في منع وصفه ، وأجاز الأخفش ذلك مطلقا مستدلّا بظاهر هذه الآية الكريمة ؛ لقول القائل : [الوافر]

٢٠٩٤ ـ أنا سيف العشيرة فاعرفوني

حميدا قد تذرّيت السّناما (٦)

ف «حميدا» بدل من ياء «اعرفوني» ، وقول الآخر : [الطويل]

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٦٩٣.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٦١ ، والبحر المحيط ٤ / ٦٠ ، والدر المصون ٢ / ٦٥٢.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٢.

(٥) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٥٢.

(٦) تقدم.

٦١١

٢٠٩٥ ـ وشوهاء تغدو بي إلى صارخ الوغى

بمستلئم مثل الفنيق المدجّل (١)

وقول الآخر : [البسيط]

٢٠٩٦ ـ بكم قريش كفينا كلّ معضلة

وأمّ نهج الهدى من كان ضلّيلا (٢)

وفي الحديث : «أتينا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفر من الأشعريين» (٣) والبصريون يؤوّلون جميع ذلك ، أمّا الآية الكريمة فعلى ما تقدّم في الوجه الأول ، وأمّا «حميدا» ، فمنصوب على الاختصاص ، وأمّا «بمستلئم» ، فمن باب التجريد ، وهو شيء يعرفه أهل البيان ، يعني أنه جرّد من نفسه ذاتا متصفة بكذا ، وأمّا «قريش» فالرواية بالرفع على أنه منادى نوّن ضرورة ؛ كقوله : [الوافر]

٢٠٩٧ ـ سلام الله يا مطر عليها

وليس عليك يا مطر السّلام (٤)

وأمّا «نفر» ، فخبر مبتدأ مضمر ، أي : نحن ، ومنع ذلك بعضهم ، إلا أن يفيد البدل توكيدا ، وإحاطة شمول ، واستدلّ بهذه الآية ، وبقول الآخر : [الطويل]

٢٠٩٨ ـ فما برحت أقدامنا في مقامنا

ثلاثتنا حتّى أزيروا المنائيا (٥)

بجر «ثلاثتنا» بدلا من «نا» ، ولا حجّة فيه ؛ لأنّ «ثلاثتنا» توكيد جار مجرى «لّ».

قال القرطبي : وقرأ (٦) زيد بن ثابت : «لأولينا وأخرينا» على الجمع قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : يأكل منهما آخر النّاس كما يأكل أوّلهم.

قوله : «وآية» : عطف على «عيدا» ، و «منك».

فصل

روي أنّ عيسى ـ عليه‌السلام ـ اغتسل ولبس المسح ، وصلّى ركعتين ، فطأطأ رأسه ، وغضّ بصره وبكى وقال : «اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا» (٧) أي : عائدة من الله علينا حجّة وبرهانا ، والعيد يوم السّرور ، سمّي به

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه البخاري ٦ / ٣٦٥ (٣١٣٣).

(٤) البيت للأحوص. ينظر : ديوانه ص ١٨٩ ، الأغاني ١٥ / ٢٣٤ ، خزانة الأدب ٢ / ١٥٠ ، ١٥٢ ، ٦ / ٥٠٧ ، الدرر ٣ / ٢١ ، شرح أبيات سيبويه ٢ / ٦٠٥ ، ٢ / ٢٥ ، شرح التصريح ٢ / ١٧١ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٧٦٦ ، الكتاب ٢ / ٢٠٢ ، الأزهية ص ١٦٤ ، الأشباه والنظائر ٣ / ٢١٣ ، الإنصاف ١ / ٣١١ ، أوضع المسالك ٤ / ٢٨ ، الجنى الداني ص ١٤٩ ، رصف المباني ص ١٧٧ ، ٣٥٥ ، شرح الأشموني ٢ / ٤٤٨ ، شرح شذور الذهب ص ١٤٧ ، شرح ابن عقيل ص ٥١٧ ، مجالس ثعلب ص ٩٢ ، ٥٤٢ ، المحتسب ٢ / ٩٣ ، أمالي الزجاجي (٨١) ، ابن الشجري ١ / ٤٣١ ، الدر المصون ٢ / ٦٥٣.

(٥) تقدم.

(٦) ينظر : القرطبي ٦ / ٢٣٧.

(٧) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٦١٠) وعزاه للحكيم الترمذي وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في «العظمة» وأبي بكر الشافعي في «فوائده» عن سلمان الفارسي.

٦١٢

للعود من التّرح إلى الفرح ، وهو اسم لما اعتدته يعود إليك ، وقد تقدّم.

وقال السدي : معناه يتّخذ اليوم الذي أنزلت فيه عيدا لأوّلنا لأهل زماننا ، وآخرنا لمن يجيء بعدنا (١).

وقال ابن عباس : يأكل منها آخر النّاس كما أكل أوّلهم (٢).

قوله : (وَآيَةً مِنْكَ) دلالة وحجّة.

قيل : نزلت يوم الأحد ؛ فاتّخذه النّصارى عيدا. وقوله «وارزقنا» أي : طعاما نأكله (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

قوله تعالى : (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ)(١١٥)

قرأ نافع وابن عامر وعاصم (٣) : «منزّلها» : بالتشديد ، فقيل : إنّ أنزل ونزّل بمعنى ، وقد تقدّم تحقيق ذلك ، وقيل : التشديد للتكثير ، فإنها نزلت مرّات متعددة.

قوله : «بعد» : متعلّق ب «يكفر» ، وبني ؛ لقطعه عن الإضافة ؛ إذ الأصل : بعد الإنزال ، و «منكم» متعلّق بمحذوف ؛ لأنه حال من فاعل «يكفر» ، وقوله : «عذابا» فيه وجهان :

أظهرهما : أنه اسم مصدر بمعنى التعذيب ، أو مصدر على حذف الزوائد ؛ نحو : «عطاء ونبات» ل «أعطى» و «أنبت» ، وانتصابه على المصدريّة بالتقديرين المذكورين.

والثاني ـ أجازه أبو البقاء (٤) ـ : أن يكون مفعولا به على السّعة ، يعني : جعل الحدث مفعولا به على السّعة ؛ مبالغة ، وحينئذ يكون نصبه على التشبيه بالمفعول به ، والمنصوب على التشبيه بالمفعول به عند النحاة ثلاثة أنواع : معمول الصفة المشبهة ، والمصدر ، والظرف المتّسع فيهما :

أمّا المصدر ، فكما تقدّم ، وأمّا الظرف ، فنحو : «يوم الجمعة صمته» ، ومنه قوله في ذلك : [الطويل]

٢٠٩٩ ـ ويوم شهدناه سليما وعامرا

قليل سوى الطّعن النّهال نوافله (٥)

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٣٢) وذكره السيوطي في «الدر» (٢ / ٦١٠) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٣٢) عن ابن عباس.

(٣) ينظر : السبعة ٢٥٠ ، والحجة ٣ / ٢٨٢ ، وحجة القراءات ٢٤٢ ، وإعراب القراءات ١ / ١٥١ ، والعنوان ٨٨ ، وإتحاف ١ / ٥٤٦.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٣.

(٥) تقدم.

٦١٣

قال الزمخشريّ (١) : «ولو أريد بالعذاب ما يعذّب به ، لكان لا بدّ من الباء» قال شهاب الدين : إنما قال ذلك ؛ لأنّ إطلاق العذاب على ما يعذّب به كثير ، فخاف أن يتوهّم ذلك ، وليس لقائل أن يقول : كان الأصل : بعذاب ، ثم حذف الحرف ؛ فانتصب المجرور به ؛ لأنّ ذلك لم يطّرد إلّا مع «أن» و «أنّ» بشرط أمن اللّبس.

قوله : (لا أُعَذِّبُهُ) الهاء فيها ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنها عائدة على «عذاب» الذي تقدّم أنه بمعنى التعذيب ، والتقدير : فإنّي أعذّبه تعذيبا لا أعذّب مثل ذلك التّعذيب أحدا ، والجملة في محلّ نصب صفة ل «عذابا» ، وهذا وجه سالم من تكلّف ستراه في غيره ، ولمّا ذكر أبو البقاء (٢) هذا الوجه ـ أعني عودها على «عذابا» المتقدّم ـ قال : «وفيه على هذا وجهان :

أحدهما : على حذف حرف الجر ، أي : لا أعذّب به أحدا ، والثاني : أنه مفعول به على السّعة». قال شهاب الدين (٣) : أمّا قوله «حذف الحرف» ، فقد عرفت أنه لا يجوز إلا فيما استثني.

الثاني ـ من أوجه الهاء ـ : أنها تعود على «من» المتقدّمة في قوله : (فَمَنْ يَكْفُرْ) ، والمعنى : لا أعذّب مثل عذاب الكافر أحدا ، ولا بدّ من تقدير هذين المضافين ؛ ليصحّ المعنى ، قال أبو البقاء (٤) في هذا الوجه : «وفي الكلام حذف أي : لا أعذّب الكافر ، أي : مثل الكافر ، أي : مثل عذاب الكافر».

الثالث : أنها ضمير المصدر المؤكّد ؛ نحو : «ظننته زيدا قائما» ، ولمّا ذكر أبو البقاء (٥) هذا الوجه ، اعترض على نفسه ، فقال : «فإن قلت : (لا أُعَذِّبُهُ) صفة ل «عذاب» ، وعلى هذا التقدير لا يعود من الصفة على الموصوف شيء ، قيل : إنّ الثاني لما كان واقعا موقع المصدر والمصدر جنس ، و «عذابا» نكرة ، كان الأوّل داخلا في الثاني ، والثاني مشتمل على الأوّل ، وهو مثل : زيد نعم الرّجل». انتهى ، فجعل الرابط العموم ، وهذا الذي ذكره من أنّ الربط بالعموم ، إنما ذكره النحويّون في الجملة الواقعة خبرا لمبتدأ ، ولذلك نظّره أبو البقاء ب «زيد نعم الرّجل» ، وهذا لا ينبغي أن يقاس عليه ؛ لأن الربط يحصل في الخبر بأشياء لا تجوز في الجملة الواقعة صفة ، وهذا منها ، ثم هذا الاعتراض الذي ذكره وارد عليه في الوجه الثاني ؛ فإنّ الجملة صفة ل «عذابا» ، وليس فيها ضمير ، فإن قيل : ليست هناك بصفة ، قيل : يفسد المعنى بتقدير الاستئناف ، وعلى تقدير صحّته ، فلتكن هنا أيضا مستأنفة ، و «أحدا» منصوب على المفعول الصريح ، و (مِنَ الْعالَمِينَ) صفة ل «أحدا» فيتعلّق بمحذوف.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٩٣.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٣.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٥٤.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٣.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

٦١٤

فصل في معنى الآية

معنى الآية الكريمة (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) أي : بعد إنزال المائدة ، (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي : جنس عذاب لا أعذّبه أحدا من العالمين ـ يعني : على زمانه ـ فجحد القوم وكفروا بعد نزول المائدة.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : مسخوا خنازير ، وقيل : قردة ، وقيل : جنسا من العذاب ، لا يعذّب به غيرهم (١).

قال الزّجّاج (٢) : ويجوز أن يكون ذلك العذاب معجّلا في الدّنيا ، ويجوز أن يكون مؤخّرا في الآخرة.

قال عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ : «أنّ أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون» (٣).

واختلف العلماء ـ رضي الله تعالى عنهم ـ هل نزلت أم لا؟.

فقال مجاهد ، والحسن : لم تنزل ، فإنّ الله تعالى لمّا أوعد على كفرهم بعد نزول المائدة خافوا أن يكفر بعضهم ، فاستعفوا وقالوا : لا نريدها ؛ فلم تنزل. وقوله : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) ـ يعني : إن سألتم ، والصّحيح الذي عليه الأكثرون : أنّها نزلت لقوله تعالى : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) ولا خلف في خبره ، ولتواتر الأخبار فيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّها نزلت.

وقيل لهم : إنّها مقيمة لكم ما لم تخونوا وتخبؤوا ؛ فما مضى يومها حتّى خانوا وخبّئوا ، فمسخوا قردة وخنازير.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : إنّ عيسى ـ عليه‌السلام ـ قال لهم : صوموا ثلاثين يوما ، ثم سلوا الله ما شئتم يعطيكم ، فصاموا ، فلمّا فرغوا قالوا : يا عيسى : إنّا لو عملنا لأحد قضينا عمله لأطعمنا ، وسألوا الله المائدة ، فأقبلت الملائكة ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ بمائدة يحملونها ، عليها سبعة أرغفة وسبعة أخوان ، حتّى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر النّاس كما أكل أوّلهم.

قال كعب الأحبار : نزلت منكوسة تطير بها الملائكة بين السماء والأرض ، عليها كلّ الطّعام إلّا اللّحم (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٥ / ١٣٦) عن ابن عباس.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ١١٠.

(٣) أخرجه الطبري (٥ / ١٣٦) عن ابن عمرو وذكره السيوطي في «الدر» (٢ / ٦١٤) وزاد نسبته لعبد بن حميد وأبي الشيخ.

(٤) أخرجه ابن أبي حاتم وعبد بن حميد عن سعيد بن جبير كما في «الدر» (٢ / ٦١٣).

٦١٥

وقال سعيد بن جبير ـ رضي الله عنهما ـ ، عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : أنزل على المائدة كلّ شيء إلّا الخبز واللّحم (١).

قال قتادة : كان عليها ثمر من ثمار الجنّة.

وقال عطيّة العوفي (٢) : نزلت من السّماء سمكة فيها طعم كلّ شيء.

وقال الكلبيّ (٣) : كان عليها خبز رزّ ، وبقل.

وقال وهب بن منبّه (٤) : أنزل الله ـ تبارك وتعالى ـ قرصة من شعير وحيتانا ، فكان قوم يأكلون ثم يخرجون ، ثمّ يجيء آخرون فيأكلون ، حتّى أكل أجمعهم.

وقال الكلبيّ ومقاتل (٥) : أنزل الله سمكا وخمسة أرغفة ، فأكلوا ما شاء الله ، والنّاس ألف ونيف ، فلمّا رجعوا إلى قراهم ، ونشروا الحديث ، ضحك منهم من لم يشهد ؛ وقالوا : ويحكم ، إنّما سحر أعينكم ، فمن أراد الله به تعالى الخير ثبّته على بصيرته ، ومن أراد فتنته رجع إلى كفره ، فمسخوا خنازير ليس فيهم صبيّ ولا امرأة ، فمكثوا كذلك ثلاثة أيّام ، ثم هلكوا ، ولم يتوالدوا ، ولم يأكلوا ، ولم يشربوا ، وكذلك كلّ ممسوخ وقال قتادة : كانت تنزل عليهم بكرة وعشيّا ، كالمنّ والسّلوى لبني إسرائيل.

وروى عطاء بن أبي رباح ، عن سلمان الفارسيّ (٦) : لما سأل الحواريّون المائدة ، لبس عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ صوفا وبكى ، وقال : «اللهم أنزل علينا مائدة من السماء» ، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين ، غمامة من تحتها ، وغمامة من فوقها وهم ينظرون إليها ، وهي تهوي خافضة ، حتّى سقطت بين أيديهم ، فبكى عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقال : اللهمّ اجعلني من الشّاكرين ، اللهمّ اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة ، واليهود ينظرون إلى شيء لم يروا مثله قطّ ، ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحه ، فقال عيسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : ليقم أحسنكم عملا ، فيكشف عنها ، ويذكر اسم الله تعالى ، فقال شمعون الصّفّار رأس من الحواريّين أنت أولى بذلك منّا ، فقام عيسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ فتوضّأ وصلّى وبكى كثيرا ، ثم كشف المنديل ، وقال : بسم الله خير الرّازقين ، فإذا سمكة مشويّة ليس عليها فلوسها ولا شوك تسيل من دسمها ، وعند رأسها ملح وعند ذنبها خلّ ، وحولها من أنواع البقول ما خلا الكرّاث ، وإذا خمسة أرغفة على واحد زيتون ، وعلى الثّاني عسل ، وعلى الثّالث سمن ، وعلى الرّابع جبن ، وعلى الخامس : قديد ، فقال شمعون : يا روح الله أمن طعام الدّنيا هذا أو من طعام الآخرة؟ قال : ليس منهما ، ولكنّه شيء افتعله الله بالقدرة العالية ، كلوا ما سألتم واشكروا الله يمددكم ويزدكم من فضله.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٧٩.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) تقدم.

٦١٦

فقال الحواريّون : يا روح الله كن أوّل من يأكل منها ، فقال : معاذ الله أن آكل منها ، ولكن يأكل منها من سألها ، فخافوا أن يأكلوا منها ، فدعا أهل الفاقة والمرض وأهل البرص والجذام والمقعدين وقال : كلوا من رزق الله ـ عزوجل ـ لكم الهناء ، ولغيركم البلاء ، فأكلوا ، وصدر عنها ألف وثلثمائة رجل وامرأة من فقير ، وزمن ومريض ، ومبتلى كل منهم شبعان ، وإذا السّمكة كهيئتها حين نزلت ، ثمّ طارت المائدة صعدا وهم ينظرون إليها حتّى توارت ، فلم يأكل منها زمن ولا مريض ولا مبتلى إلّا عوفي ، ولا فقير إلّا استغنى ، وندم من لم يأكل فلبثت أربعين صباحا تنزل ضحى ، فإذا نزلت اجتمع الأغنياء والفقراء والصّغار والكبار والرّجال والنّساء ، ولا تزال منصوبة يؤكل منها حتّى إذا فاء الفيء طارت ، وهم ينظرون في ظلّها حتى توارت عنهم ، فكانت تنزل غبّا تنزل يوما ولا تنزل يوما كناقة ثمود ، فأوحى الله ـ تبارك وتعالى ـ إلى عيسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : اجعل مائدتي ورزقي للفقراء دون الأغنياء ، فعظم ذلك الأغنياء حتى شكّوا وشككوا النّاس فيها ، وقالوا : ترون المائدة حقا تنزل من السّماء؟ فأوحى الله ـ تبارك وتعالى ـ إلى عيسى : إنّي شرطت أنّ من كفر بعد نزولها ، عذّبته عذابا لا أعذّبه أحدا من العالمين ، فقال ـ عليه‌السلام ـ : «إن تعذّبهم فإنّهم عبادك ، وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم» فمسخ الله منهم ثلاثمائة وثلاثين رجلا من ليلتهم على فرشهم مع نسائهم ، فأصبحوا خنازير يسعون في الطّرقات والكنّاسات ، ويأكلون العذرة في الحشوش ، وعاشوا ثلاثة أيّام ثمّ هلكوا والعياذ بالله.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١١٧)

اختلفوا في هذا القول ، هل وقع وانقضى ، أو سيقع يوم القيامة؟ على قولين :

الأول : قال بعضهم : لمّا رفعه إليه ، قال له ذلك ، وعلى هذا ف «إذ» و «قال» على موضوعهما من المضيّ ، وهو الظاهر ، وقال بعضهم : سيقوله له يوم القيامة ؛ لقوله ـ تبارك وتعالى قبله (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) [الآية] ، وقوله بعد هذا : (يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) وعلى هذا ف «إذ» ، و «قال» بمعنى «يقول» ، وكونها بمعنى «إذا» أهون من قول أبي عبيد : إنها زائدة ؛ لأنّ زيادة الأسماء ليست بالسهلة.

قوله : «أأنت قلت» دخلت الهمزة على المبتدأ ؛ لفائدة ذكرها أهل البيان ، وهو : أن الفعل إذا علم وجوده ، وشكّ في نسبته إلى شخص ، أولي الاسم المشكوك في نسبة الفعل إليه للهمزة ، فيقال : «أأنت ضرب زيدا» ، فضرب زيد قد صدر في الوجود ، وإنما

٦١٧

شكّ في نسبته إلى المخاطب ، وإن شكّ في أصل وقوع الفعل ، أولي الفعل للهمزة ، فيقال : «أضربت زيدا» ، لم تقطع بوقوع الضرب ، بل شككت فيه ، والحاصل : أنّ الهمزة يليها المشكوك فيه ، فالاستفهام في الآية الكريمة يراد به التقريع والتوبيخ لغير عيسى ـ عليه‌السلام ـ وهم المتّخذون له ولأمّه إلهين ، دخل على المبتدأ لهذا المعنى الذي ذكرناه ؛ لأن الاتخاذ قد وقع ولا بدّ ، واللام في «للنّاس» للتبليغ فقط ، و «اتّخذوني» يجوز أن تكون بمعنى «صيّر» ، فتتعدّى لاثنين ، ثانيهما «إلهين» ، وأن تكون المتعدية لواحد ف «إلهين» حال ، و (مِنْ دُونِ اللهِ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنه متعلق بالاتخاذ ، وأجاز أبو البقاء (١) ـ رحمه‌الله تعالى ـ وبه بدأ ـ أن يكون متعلّقا بمحذوف ؛ على أنه صفة ل «إلهين».

فإن قيل : كيف يليق الاستفهام بعلّام الغيوب ؛ وأيضا النّصارى لا يقولون بإلهيّة عيسى[ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومريم].

فالجواب عن الأول : أنّه على سبيل الإنكار ، وقصد هذا السّؤال تعريفه أنّ قومه غيروا بعده ، وادّعوا عليه ما لم يقله.

والجواب عن الثّاني : أنّ النّصارى يعتقدون أنّ المعجزات الّتي ظهرت على يد عيسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ومريم ـ عليها‌السلام ـ لم يخلقها الله تعالى ، بل عيسى ابن مريم ـ عليهما الصّلاة والسّلام ـ ، فالله ليس خالقهما ، فصحّ أنهم أثبتوا في حقّ بعض الأشياء كون عيسى ـ عليه‌السلام ـ ومريم إلهين من دون الله ، [مع أنّ الله ليس إلها له](٢) ، فصحّ بهذا التّأويل هذه الحكاية.

وقال القرطبي (٣) ـ رحمه‌الله ـ : فإن قيل : النّصارى لم يتّخذوا مريم إلها ، فكيف قال ذلك فيهم؟.

فقيل : لمّا كان من قولهم أنّها لم تلد بشرا ، وإنّما ولدت إلها ، لزمهم أن يقولوا : إنّها لأجل البعضيّة بمثابة من ولدته ، فصاروا حين لزمهم ذلك بمثابة القائلين له.

فإن قيل : إنّه ـ تبارك وتعالى ـ إن كان عالما بعيسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لم يقل ذلك ، فلم خاطبه به؟ فإن قلتم : الغرض منه توبيخ النّصارى وتقريعهم ، فنقول : إنّ أحدا من النّصارى لم يذهب إلى القول بإلهيّة عيسى ومريم مع القول بنفي إلهيّة الله تعالى ، فكيف يجوز أن ينسب هذا القول إليهم ، مع أنّ أحدا منهم لم يقل به؟.

فالجواب : أنّ الله تعالى أراد أنّ عيسى يقرّ على نفسه بالعبوديّة فيسمع قومه ، ويظهر كذبهم عليه أنّه أمرهم بذلك.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٣.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : القرطبي ٦ / ٢٤١.

٦١٨

قوله : «سبحانك» أي : تنزيها لك ، وتقدّم الكلام عليه في البقرة [الآية : ٣٢] ، ومتعلّقه محذوف ، فقدّره الزمخشريّ (١) : «سبحانك من أن يكون لك شريك» ، وقدّره ابن عطية (٢) : «عن أن يقال هذا ، وينطق به» ورجّحه أبو حيان (٣) ـ رضي الله عنه ـ لقوله بعد : «ما يكون لي أن أقول». قوله : «أن أقول» في محلّ رفع ؛ لأنه اسم «يكون» ، والخبر في الجارّ قبله ، أي : ما ينبغي لي قول كذا ، و «ما» يجوز أن تكون موصولة أو نكرة موصوفة ، والجملة بعدها صلة ؛ فلا محلّ لها ، أو صفة ؛ فمحلّها النصب ، فإنّ «ما» منصوبة ب «أقول» نصب المفعول به ؛ لأنها متضمّنة لجملة ، فهو نظير «قلت كلاما» ، وعلى هذا فلا يحتاج أن يؤوّل «أقول» بمعنى «أدّعي» أو «أذكر» ، كما فعله أبو البقاء (٤) رحمه‌الله وفي «ليس» ضمير يعود على ما هو اسمها ، وفي خبرها وجهان :

أحدهما : أنه «لي» ، أي : ما ليس مستقرّا لي وثابتا ، وأمّا «بحقّ» على هذا ، ففيه ثلاثة أوجه ، ذكر أبو البقاء (٥) منها وجهين :

أحدهما : أنه حال من الضمير في «لي».

قال : والثاني : أن يكون مفعولا به ، تقديره : ما ليس يثبت لي بسبب حقّ ، والباء متعلّقة بالفعل المحذوف ، لا بنفس الجارّ ؛ لأنّ المعاني لا تعمل في المفعول به. قال شهاب الدين (٦) : وهذا ليس بجيّد ؛ لأنه قدّر متعلّق [الخبر كونا مقيّدا ، ثم حذفه ، وأبقى معموله.

الوجه الثالث : أنّ قوله «بحقّ» متعلق] بقوله : «علمته» ، ويكون الوقف على هذا على قوله «لي» ، والمعنى : فقد علمته بحقّ ، [وقد ردّ] هذا بأنّ الأصل عدم التقديم والتأخير ، وهذا لا ينبغي أن يكتفى به في ردّ هذا ، بل الذي منع من ذلك : أنّ معمول الشرط أو جوابه لا يتقدّم على أداة الشرط ، لا سيّما والمرويّ عن الأئمة القرّاء الوقف على «بحقّ» ، ويبتدئون ب (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ) ، وهذا مرويّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجب اتّباعه.

والوجه الثاني في خبر «ليس» : أنه «بحقّ» ، وعلى هذا ، ففي «لي» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه «يتبيّن» ؛ كما في قولهم : «سقيا له» ، أي : فيتعلّق بمحذوف.

والثاني : أنه حال من «بحقّ» ؛ لأنه لو تأخّر ، لكان صفة له ، قال أبو البقاء (٧) : «وهذا مخرّج على قول من يجوّز تقديم حال المجرور عليه» [قلت : قد تقدّم لك خلاف النّاس فيه] ، وما أوردوه من الشواهد ، وفيه أيضا تقديم الحال على عاملها المعنويّ ، فإنّ

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٩٤.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٦٢.

(٣) ينظر البحر ٤ / ٦٣.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٣.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٥٦.

(٧) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٢٣٣.

٦١٩

«بحقّ» هو العامل ؛ إذ «ليس» لا يجوز أن تعمل في شيء ، وإن قلنا : إنّ «كان» أختها قد تعمل لأن «ليس» لا حدث لها بالإجماع.

والثالث : أنه متعلّق بنفس «حقّ» ؛ لأنّ الباء زائدة ، و «حقّ» بمعنى «مستحقّ» ، أي : ما ليس مستحقّا لي.

فصل

اعلم : أنّه ـ تبارك وتعالى ـ لما سأل عيسى ـ عليه‌السلام ـ أنّك هل قلت للنّاس ذلك؟ لم يقل عيسى بأنّي قلت ، أو : ما قلت ، بل قال : ما يكون لي أن أقول هذا الكلام ، وبدأ بالتّسبيح قبل الجواب لأمرين :

أحدهما : تنزيها له على أن يضيف إليه.

والثاني : خضوعا لعزّته ، وخوفا من سطوته.

ثمّ قال : «ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ» أي : أن أدّعي لنفسي بما ليس من حقّها يعني : أنّي مربوب ولست بربّ ، وعابد ، ولست بمعبود ، ولمّا بيّن أنّه ليس له أن يقول هذا الكلام ، شرع في بيان أنّه هل وقع منه هذا القول أم لا؟ ولم يقل بأنّي ما قلته ، بل فوّضه إلى علمه تعالى المحيط بالكلّ ، فقال : «إن كنت قلته فقد علمته بعلمك» ، وهذا مبالغة في الأدب ، وفي إظهار الذّلّة والمسكنة في حضرة الخلّاق ، وتفويض الأمر بالكلّيّة إلى الحقّ ـ سبحانه وتعالى ـ.

قوله : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ) : «كنت» وإن كانت ماضية اللفظ فهي مستقبلة في المعنى ، والتقدير : إن تصحّ دعواي لما ذكر ، وقدّره الفارسي بقوله : «إن أكن الآن قلته فيما مضى» لأنّ الشرط والجزاء لا يقعان إلا في المستقبل. وقوله : (فَقَدْ عَلِمْتَهُ) أي : فقد تبيّن وظهر علمك به كقوله : (فَصَدَقَتْ) [يوسف : ٢٦] و (فَكَذَبَتْ) [يوسف : ٢٧] و (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) [النمل : ٩٠].

قوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).

قوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) هذه لا يجوز أن تكون عرفانية ، لأنّ العرفان كما تقدم يستدعي سبق جهل ، أو يقتصر به على معرفة الذات دون أحوالها حسب ما قاله الناس ، فالمفعول الثاني محذوف ، أي : تعلم ما في نفسي كائنا موجودا على حقيقته لا يخفى عليك منه شيء ، وأمّا : (وَلا أَعْلَمُ) فهي وإن كان يجوز أن تكون عرفانية ، إلا أنها لمّا صارت مقابلة لما قبلها ينبغي أن يكون مثلها ، والمراد بالنفس هنا ما قاله الزجاج (١) أنها تطلق ويراد بها حقيقة الشيء ، والمعنى في قوله (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) إلى آخره واضح.

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٢٤٥.

٦٢٠