اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

البيان : أن يكون التابع والمتبوع متفقين في التعريف والتنكير ، على أنّ الجمهور على عدم جريانه في النكرة ؛ خلافا لأبي عليّ ، و «آخران» نكرة ، و «الأوليان» معرفة ، قلت : هذا سؤال صحيح ، ولكن يلزم الأخفش ، ويلزم الزمخشريّ جوازه : أمّا الأخفش (١) فإنه يجيز أن يكون «الأوليان» صفة ل «آخران» بما سأقرره عنه عند تعرّضي لهذا الوجه ، والنعت والمنعوت يشترط فيهما التوافق ، فإذا جاز في النعت ، جاز فيما هو شبيه به ؛ إذ لا فرق بينهما إلا اشتراط الاشتقاق في النعت ، وأمّا الزمخشريّ ، فإنه لا يشترط ذلك ـ أعني التوافق ـ وقد نصّ عليه هو في سورة آل عمران على أن قوله تعالى : (مَقامُ إِبْراهِيمَ) [آل عمران : ٩٧] عطف بيان ؛ لقوله (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) ، و (آياتٌ بَيِّناتٌ) نكرة ؛ لكنها لمّا تخصّصت بالوصف ، قربت من المعرفة ، كما تقدّم عنه في موضعه ، وكذا «آخران» قد وصف بصفتين ، فقربه من المعرفة أشدّ من (آياتٌ بَيِّناتٌ) ؛ من حيث وصفت بصفة واحدة.

الخامس : أنه بدل من فاعل «يقومان».

السادس : أنه صفة ل «آخران» ، أجاز ذلك الأخفش (٢) ، وقال أبو عليّ : «وأجاز أبو الحسن فيها شيئا آخر ، وهو أن يكون «الأوليان» صفة ل «آخران» ؛ لأنه لمّا وصف ، تخصّص ، فمن أجل وصفه وتخصيصه ، وصف بوصف المعارف» ، قال أبو حيان (٣) : «وهذا ضعيف ؛ لاستلزامه هدم ما كادوا أن يجمعوا عليه ؛ من أنّ النكرة لا توصف بالمعرفة ، ولا العكس» ، قلت : لا شكّ أن تخالفهما في التعريف والتنكير ضعيف ، وقد ارتكبوا ذلك في مواضع ، فمنها ما حكاه الخليل : «مررت بالرّجل خير منك» في أحد الأوجه في هذه المسألة ، ومنها (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٧] على القول بأنّ «غير» صفة (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ، وقوله : [الكامل]

٢٠٧٣ ـ ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني

فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني (٤)

وقوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧] ، على أنّ «يسبّني» و «نسلخ» صفتان لما قبلهما ؛ فإنّ الجمل نكرات ، وهذه المثل التي أوردتها عكس ما نحن فيه ، فإنها تؤوّل فيها المعرفة بالنكرة ، وما نحن فيه جعلنا النكرة فيه كالمعرفة ؛ إلّا أنّ الجامع بينهما التخالف ، ويجوز أن يكون ما نحن فيه من هذه المثل ؛ باعتبار أنّ «الأوليين» لمّا لم يقصد بهما شخصان معينان ، قربا من النكرة ، فوقعا صفة لها مع تخصّصها هي ؛ فصار في ذلك مسوّغان : قرب النكرة من المعرفة بالتخصيص ، وقرب المعرفة من النكرة بالإبهام ؛ ويدلّ لما قلته ما قال أبو البقاء (٥) : «والخامس أن يكون صفة

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ١ / ٢٦٦.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٩.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٠.

٥٨١

ل «آخران» ؛ لأنه وإن كان نكرة ، فقد وصف ، والأوليان لم يقصد بهما قصد اثنين بأعيانهما».

السابع : أنه مرفوع على ما لم يسمّ فاعله ب «استحقّ» ، إلّا أنّ كلّ من أعربه كذا ، قدّر قبله مضافا محذوفا ، واختلفت تقديرات المعربين ، فقال مكي (١) : «تقديره : استحقّ عليهم إثم الأوليين» ، وكذا أبو البقاء (٢) وقد سبقهما إلى هذا التقدير ابن جرير الطّبريّ ، وقدّره الزمخشريّ (٣) فقال : «من الّذين استحقّ عليهم انتداب الأوليين منهم للشّهادة لاطّلاعهم على حقيقة الحال» ، وممّن ذهب إلى ارتفاع «الأوليان» ب «استحقّ» أبو عليّ الفارسيّ ، ثم منعه ؛ قال : «لأنّ المستحقّ إنّما يكون الوصيّة أو شيئا منها ، وأمّا الأوليان بالميّت ، فلا يجوز أن يستحقّا ، فيسند استحقّ إليهما» ، قلت : إنما منع أبو عليّ ذلك على ظاهر اللفظ ؛ فإنّ الأوليين لم يستحقّهما أحد كما ذكر ، ولكن يجوز أن يسند «استحقّ» إليهما ؛ بتأويل حذف المضاف المتقدّم ، وهذا [الذي] منعه الفارسيّ ظاهرا هو الذي حمل النّاس على إضمار ذلك المضاف ، وتقدير الزمخشريّ ب «انتداب الأوليين» أحسن من تقدير غيره ؛ فإنّ المعنى يساعده ، وأمّا إضمار «الإثم» فلا يظهر إلا بتأويل بعيد.

وأجاز ابن عطيّة (٤) أن يرتفع «الأوليان» ب «استحقّ» أيضا ، ولكن ظاهر عبارته ؛ أنه لم يقدّر مضافا ؛ فإنه استشعر باستشكال الفارسيّ المتقدّم ، فاحتال في الجواب عنه ، وهذا نصّه ، قال ما ملخّصه : إنّه «حمل «استحقّ» هنا على الاستعارة ؛ فإنه ليس استحقاقا حقيقة ؛ لقوله : «استحقّا إثما» ، وإنما معناه أنّهم غلبوا على المال بحكم انفراد هذا الميّت وعدمه ؛ لقرابته أو أهل دينه ؛ فجعل تسوّرهم عليه استحقاقا ـ مجازا ، والمعنى : من الجماعة التي غابت ، وكان من حقّها أن تحضر وليّها ، فلمّا غابت وانفرد هذا الموصي ، استحقّت هذه الحال ، وهذان الشاهدان من غير أهل الدّين والولاية ، وأمر الأوليين على هذه الجماعة ، فبني الفعل للمفعول على هذا المعنى إيجازا ، ويقوّي هذا الفرض تعدّي الفعل ب «على» لمّا كان باقتدار وحمل ، هيّأته الحال ، ولا يقال : استحقّ منه أو فيه إلّا في الاستحقاق الحقيقيّ على وجهه ، وأمّ ا «استحق عليه» فبالحمل والغلبة والاستحقاق المستعار». انتهى ، فقد أسند «استحقّ» إلى «الأوليان» من غير تقدير مضاف متأوّلا له بما ذكر ، واحتملت طول عبارته ؛ لتتّضح.

واعلم أنّ مرفوع «استحقّ» في الأوجه المتقدّمة ـ أعني غير هذا الوجه ، وهو إسناده إلى «الأوليان» ـ ضمير يعود على ما تقدّم لفظا أو سياقا ، واختلفت عباراتهم فيه ، فقال الفارسيّ ، والحوفيّ ، وأبو البقاء (٥) والزمخشريّ : إنه ضمير الإثم ، والإثم قد تقدّم في

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ٢٥٢.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٠.

(٣) ينظر : الكشاف ١ / ٦٨٩.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٥.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٠.

٥٨٢

قوله : (اسْتَحَقَّا إِثْماً) ، وقال الفارسيّ والحوفيّ أيضا : «استحقّ هو الإيصاء أو الوصيّة» قال شهاب الدين (١) : إضمار الوصيّة مشكل ؛ لأنه إذا أسند الفعل إلى ضمير المؤنّث مطلقا ، وجبت التاء إلّا في ضرورة ، ويونس لا يخصّه بها ، ولا جائز أن يقال أضمرا لفظ الوصيّة ؛ لأنّ ذلك حذف ، والفاعل عندهما لا يحذف ، وقال النحّاس مستحسنا لإضمار الإيصاء : «وهذا أحسن ما قيل فيه ؛ لأنّه لم يجعل حرف بدلا من حرف» ، يعني أنه لا يقول : إنّ «على» بمعنى «في» ، ولا بمعنى «من» كما قيل بهما ، وسيأتي ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ.

وقد جمع الزمخشريّ غالب ما قلته وحكيته من الإعراب والمعنى بأوجز عبارة ، فقال : «ف «آخران» ، أي : فشاهدان آخران يقومان مقامهما من الّذين استحقّ عليهم ، أي : استحقّ عليهم الإثم ، ومعناه : من الذين جني عليهم ، وهم أهل الميّت وعشيرته والأوليان الأحقّان بالشّهادة لقرابتهما ومعرفتهما ، وارتفاعهما على : «هما الأوليان» ؛ كأنه قيل : ومن هما؟ فقيل : الأوليان ، وقيل : هما بدل من الضّمير في «يقومان» أو من «آخران» ، ويجوز أن يرتفعا ب «استحقّ» ، أي : من الّذين استحقّ عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة ؛ لاطّلاعهم على حقيقة الحال».

وقوله «عليهم» : في «على» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها على بابها ، قال أبو البقاء (٢) : «كقولك : وجب عليهم الإثم» ، وقد تقدّم عن النحّاس ؛ أنه لمّا أضمر الإيصاء ، بقّاها على بابها ، واستحسن ذلك.

والثاني : أنها بمعنى «في» ، أي : استحقّ فيهم الإثم ، فوقعت «على» موقع «في» كما تقع «في» موقعها ؛ كقوله تعالى : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١] أي: على جذوع ، وكقوله : [الكامل]

٢٠٧٤ ـ بطل كأنّ ثيابه في سرحة

يحذى نعال السّبت ليس بتوءم (٣)

أي : على سرحة ، وقدّره أبو البقاء فقال (٤) : «أي : استحقّ فيهم الوصيّة».

والثالث : أنها بمعنى «من» أي : استحقّ منهم الإثم ؛ ومثله قوله تعالى : (إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ) [المطففين : ٢] أي : من الناس ، وقدّره أبو البقاء (٥) فقال : «أي : استحقّ منهم الأوليان» فحين جعلها بمعنى «في» قدّر «استحقّ» مسندا للوصية ، وحين جعلها بمعنى

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٣٦.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٠.

(٣) البيت لعنترة ينظر ديوانه ص (٢١٢) ، أدب الكاتب ص (٥٠٦) ، الأزهية ص (٢٦٧) ، جمهرة اللغة ص (٥١٢) ، خزانة الأدب ٩ / ٤٨٥ ، شرح شواهد المغني ١ / ٤٧٩ ، المنصف ٣ / ١٧ ، الخصائص ٢ / ٣١٢ ، رصف المباني ص (٣٨٩) ، شرح الأشموني ٢ / ٢٩٢ ، شرح المفصل ٨ / ٢١ ، مغني اللبيب ١ / ١٦٩ ، الدر المصون ٢ / ٦٣٧.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٠.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٠.

٥٨٣

«من» ، قدّره مسندا ل «الأوليان» ، وكان لمّا ذكر القائم مقام الفاعل ، لم يذكر إلا ضمير الإثم و «الأوليان» ، وأجاز بعضهم أن يسند «استحقّ» إلى ضمير المال ، أي : استحقّ عليهم المال الموروث ، وهو قريب.

فقد تقرّر أنّ في مرفوع «استحقّ» خمسة أوجه :

أحدها : «الأوليان».

والثاني : ضمير الإيصاء.

والثالث : ضمير الوصية ، وهو في المعنى كالذي قبله وتقدّم إشكاله.

والرابع : أنه ضمير الإثم.

والخامس : أنه ضمير المال ، ولم أرهم أجازوا أن يكون «عليهم» هو القائم مقام الفاعل ؛ نحو : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٧] كأنهم لم يروا فيه فائدة.

وأمّا قراءة حفص ف «الأوليان» مرفوع ب «استحقّ» ومفعوله محذوف ، قدّره بعضهم «وصيّتهما» ، وقدّره الزمخشريّ (١) ب «أن يجرّدوهما للقيام بالشّهادة» ؛ فإنه قال : «معناه من الورثة الذين استحقّ عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة : أن يجرّدوهما للقيام بالشّهادة ، ويظهروا بها كذب الكاذبين» ، وقال ابن عطيّة (٢) : «الأوليان» رفع ب «استحقّ» ، وذلك أن يكون المعنى : من الّذين استحقّ عليهم مالهم وتركتهم شاهدا الزّور ، فسمّيا أوليين ، أي : صيّرهما عدم الناس أوليين بالميّت وتركته ، فخانا ، وجارا فيها ، أو يكون المعنى : من الذين حقّ عليهم أن يكون الأوليان منهم ، فاستحقّ بمعنى : حقّ ، كاستعجب وعجب ، أو يكون استحقّ بمعنى : سعى واستوجب ، فالمعنى : من القوم الذين حضر أوليان منهم ، فاستحقّا عليهم ، أي : استحقّا لهم وسعيا فيه ، واستوجباه بأيمانهما وقربانهما» ، قال أبو حيان ـ بعد أن حكى عن الزمخشريّ ، وأبي محمّد ما قدّمته عنهما ـ : «وقال بعضهم : المفعول محذوف ، تقديره : الذين استحقّ عليهم الأوليان وصيّتهما» ، قال شهاب الدين : وكذا هو محذوف أيضا في قولي الزمخشريّ وابن عطيّة ، وقد بيّنتهما ما هما ، فهو عند الزمخشريّ قوله : «أن يجرّدوهما للقيام بالشّهادة» ، وعند ابن عطيّة هو قوله : «ما لهم وتركتهم» ، فقوله : «وقال بعضهم : المفعول محذوف» يوهم أنه لم يدر أنّه محذوف فيما تقدّم أيضا ، وممن ذهب إلى أن «استحقّ» بمعنى «حقّ» المجرّد ـ الواحديّ فإنه قال : «واستحقّ هنا بمعنى حقّ ، أي : وجب ، والمعنى : فآخران من الذين وجب عليهم الإيصاء بتوصيته بينهم ، وهم ورثته» وهذا التفسير الذي ذكره الواحديّ أوضح من المعنى الذي ذكره أبو محمّد على هذا الوجه ، وهو ظاهر.

وأمّا قراءة حمزة وأبي بكر ، فمرفوع «استحقّ» ضمير الإيصاء ، أو الوصية ، أو

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٨٩.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٥.

٥٨٤

المال ، أو الإثم ؛ حسبما تقدّم ، وأمّا «الأوّلين» فجمع «أوّل» المقابل ل «آخر» ، وفيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه مجرور صفة ل «الّذين».

الثاني : أنه بدل منه ، وهو قليل ؛ لكونه مشتقّا.

الثالث : أنه بدل من الضمير في «عليهم» ، وحسّنه هنا ، وإن كان مشتقّا عدم صلاحية ما قبله للوصف ، نقل هذين الوجهين الأخيرين مكيّ (١).

الرابع : أنه منصوب على المدح ، ذكره الزمخشريّ (٢) ، قال : «ومعنى الأوّليّة التقدّم على الأجانب في الشّهادة ؛ لكونهم أحقّ بها» ، وإنما فسّر الأوّليّة بالتقدّم على الأجانب ؛ جريا على ما مرّ في تفسيره : أو آخران من غيركم أنّهما من الأجانب لا من الكفّار.

وقال الواحديّ : «وتقديره من الأوّلين الّذين استحقّ عليهم الإيصاء أو الإثم ، وإنما قيل لهم «الأوّلين» من حيث كانوا أوّلين في الذّكر ؛ ألا ترى أنه قد تقدّم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) وكذلك (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) ذكرا في اللفظ قبل قوله : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) ، وكان ابن عباس يختار هذه القراءة ، ويقول : «أرايت إن كان الأوليان صغيرين ، كيف يقومان مقامهما»؟ أراد : أنهما إذا كانا صغيرين لم يقوما في اليمين مقام الحانثين ، ونحا ابن عطية (٣) هذا المنحى قال : «معناه : من القوم الذين استحقّ عليهم أمرهم ، أي : غلبوا عليه ، ثم وصفهم بأنهم أوّلون ، أي : في الذكر في هذه الآية».

وأمّا قراءة الحسن فالأوّلان مرفوعان ب «استحقّ» فإنه يقرؤه مبنيّا للفاعل ، قال الزمخشريّ (٤) : «ويحتجّ به من يرى ردّ اليمين على المدّعي» ، ولم يبيّن من هما الأوّلان ، والمراد بهما الاثنان المتقدّمان في الذكر ؛ وهذه القراءة حفص ، فيقدّر فيها ما ذكر ، ثم مما يليق من تقدير المفعول.

وأما قراءة ابن سيرين ، فانتصابها على المدح ، ولا يجوز فيها الجرّ ؛ لأنه : إمّا على البدل ، وإمّا على الوصف بجمع ، والأوليين في قراءته مثنّى ، فتعذر فيها ذلك ، وأمّا قراءة «الأولين» كالأعلين ، فحكاها أبو البقاء قراءة شاذّة لم يعزها ، قال (٥) : «ويقرأ «الأولين» جمع الأولى ، وإعرابه كإعراب الأوّلين» يعني في قراءة حمزة ، وقد تقدّم أن فيها أربعة أوجه ، وهي جارية هنا.

قوله : «فيقسمان» نسق على «يقومان» والسببيّة فيها ظاهرة ، و «لشهادتنا أحقّ» : هذه الجملة جواب القسم في قوله : «فيقسمان».

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ٢٥٢.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٦٨٩.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٥.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٦٨٩.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٠.

٥٨٥

فصل في معنى الآية

ومعنى الآية : فإن حصل العثور ، والوقوف على أنّهما أتيا بخيانة ، استحقّا الإثم بسبب اليمين الكاذبة ، أو خيانة في المال ، قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت ، فيحلفان بالله لقد ظهرنا على خبر الذّميّين ، وكذبهما وتبديلهما ، وما اعتدينا في ذلك وما كذبنا ، وهو المراد بقوله : «فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم» ، والمراد به موالي الميّت ، قال ابن الخطيب (١) : وقد أكثر النّاس في أنّه لم وصف موالي الميّت بهذا الوصف؟ والأصحّ عندي فيه وجه : وهو أنّهم إنّما وصفوا بذلك ؛ لأنّه لمّا أخذ منهم مالهم ، فقد استحقّ عليهم مالهم ، فإن أخذ مال غيره ، فقد حاول أن يكون تعلّقه بذلك المال مستعليا على تعلّق مالكه به ، فصحّ أن يوصف المالك (٢) بأنّه قد استحقّ عليه ذلك المال ، وإنما وصفهما بأنّهما أوليان لوجهين :

الأول : معنى الأوليان : الأقربان إلى الميّت.

الثاني : يجوز أن يكون المعنى الأوليان باليمين ؛ لأن الوصيّين قد ادّعيا أنّ الميّت قد باع الإناء الفضّة ، فانتقلت اليمين إلى موالي الميّت ؛ لأنّ الوصيّين قد ادّعيا أنّ مورثهما باع الإناء ، وهما أنكرا ذلك ، فكان اليمين حقّا لهما ؛ لأنّ الوصيّ إن أخذ شيئا من مال الميّت ، وقال : إنه أوصى لي به حلف للوارث إذا أنكر ذلك ، وكذا لو ادّعى رجل سلعة في يد رجل فاعترف ، ثمّ ادّعى أنّه اشتراها من المدّعي ، حلف المدّعي أنّه لم يبعها منه ، وهذا كما لو أنّ إنسانا أقرّ لآخر بدين ، ثم ادّعى أنه قضاه ، حكم بردّ اليمين إلى الذي ادّعى الدّين أوّلا ؛ لأنّه صار مدّعى عليه أنه قد استوفاه.

فصل

اختلفوا في كيفيّة ظهور الإناء ، فروى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس : أنه وجد بمكّة ، فقالوا : إنّا اشتريناه من تميم وعديّ ، وقيل : لما طالت المدّة أظهروه ، فبلغ ذلك بني سهم فطلبوهما ، فقالا : إنّا كنا قد اشتريناه منه ، فقالوا : ألم نقل لكم هل باع صاحبنا شيئا من متاعه ، فقلتمأ : لا ، قالا : لم يكن عندنا بيّنة ، فكرهنا أن نقرّ لكم به ، فكتمنا لذلك ، فرفعوهما إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما)(٣) الآية ، فقام عمرو بن العاص ، والمطّلب بن أبي وداعة السّهميّان ، فحلفا بالله بعد العصر ، فرفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإناء لهما ، وإلى أولياء الميّت ، فكان تميم الداري يقول بعد ما أسلم: صدق الله ورسوله أنا أخذت فأنا أتوب إلى الله تعالى.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٩٩.

(٢) في أ : المال.

(٣) تقدم.

٥٨٦

وعن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ أنّه بقيت تلك الواقعة مخفيّة إلى أن أسلم تميم الدّاري ، فلما أسلم أخبر بذلك ، فقال : حلفت كاذبا أنا وصاحبي ، بعنا الإناء بألف وقسّمنا الثّمن ، ثمّ دفع خمسمائة درهم من نفسه ، ونزع من صاحبه خمسمائة أخرى ، ودفع الألف إلى موالي الميّت (١) ، فكذلك قوله : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) ، أي : ذلك الذي حكمنا به من ردّ اليمين ، أجدر وأحرى أن يأتي الوصيّان بالشّهادة على وجهها ، وأدنى معناه : أقرب إلى الإتيان بالشّهادة على ما كانت (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) أي : أقرب إلى أن يخافوا ردّ اليمين بعد يمينهم على المدّعي ، فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم ، فيفتضحوا ويغرموا ، فلا يحلفون كاذبين إذا خافوا هذا الحكم ، (وَاتَّقُوا اللهَ) : أن تحلفوا أيمانا كاذبة ، أو تخونوا أمانة ، «واسمعوا» : الموعظة ، (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) ، وهذا تهديد ووعيد لمن يخالف حكم الله وأوامره.

روى الواحدي ـ رحمه‌الله ـ في «البسيط» (٢) ، عن عمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ أنّه قال : هذه الآية أعضل ما في هذه السّورة من الأحكام. ولنرجع إلى إعراب بقيّة الآية.

قوله (ذلِكَ أَدْنى) لا محلّ لهذه الجملة ؛ لاستئنافها ، والمشار إليه الحكم السابق بتفصيله ، أي : ما تقدّم ذكره من الأحكام أقرب إلى حصول إقامة الشّهادة على ما ينبغي ، وقيل : المشار إليه الحبس بعد الصلاة ، وقيل : تحليف الشاهدين ، و «أن يأتوا» أصله : «إلى أن يأتوا» ، وقدّره أبو البقاء (٣) ب «من» أيضا ، أي : أدنى من أن يأتوا ، وقدّره مكيّ (٤) بالباء ، أي : بأن يأتوا ، قال شهاب الدين (٥) : وليسا بواضحين ، ثم حذف حرف الجر ، فنشأ الخلاف المشهور ، و (عَلى وَجْهِها) متعلّق ب «يأتوا» ، وقيل : في محلّ نصب على الحال منها ، وقدّره أبو البقاء (٦) ب «محققة وصحيحة» ، وهو تفسير معنى ؛ لما عرفت غير مرة من أنّ الأكوان المقيّدة لا تقدّر في مثله.

قوله : «أو يخافوا» في نصبه وجهان :

أحدهما : أنه منصوب ؛ عطفا على «يأتوا» ، وفي «أو» على هذا تأويلان :

أحدهما : أنها على بابها من كونها لأحد الشيئين ، والمعنى : ذلك الحكم أقرب إلى حصول الشهادة على ما ينبغي ، أو خوف ردّ الأيمان إلى غيرهم ، فتسقط أيمانهم ، والتأويل الآخر : [أن] تكون بمعنى الواو ، أي : ذلك الحكم كله أقرب إلى أن يأتوا ، وأقرب إلى أن يخافوا ، وهذا مفهوم من قول ابن عبّاس.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ١٠١.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣١.

(٤) ينظر : المشكل ١ / ٢٥٣.

(٥) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٣٩.

(٦) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣١.

٥٨٧

الثاني من وجهي النصب : أنه منصوب بإضمار «أن» بعد «أو» ، ومعناها هنا «إلّا» ؛ كقولهم : «لألزمنك أو تقضيني حقي» ، تقديره : إلّا أن تقضيني ، ف «أو» حرف عطف على بابها ، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» وجوبا ، و «أن» وما في حيّزها مؤوّلة بمصدر ، ذلك المصدر معطوف على مصدر متوهّم من الفعل قبله ، فمعنى : «لألزمنك أو تقضيني حقي» : ليكوننّ منّي لزوم لك أو قضاؤك لحقّي ، وكذا المعنى هنا أي : ذلك أدنى بأن يأتوا بالشهادة على وجهها ؛ وإلّا خافوا ردّ الأيمان ، كذا قدّره ابن عطية (١) بواو قبل «إلّا» ، وهو خلاف تقدير النحاة ؛ فإنّهم لا يقدّرون «أو» إلا بلفظ «إلّا» وحدها دون واو ، وكأن «إلّا» في عبارته على ما فهمه أبو حيان (٢) ليست «إلّا» الاستئنائية ، بل أصلها «إن» شرطية دخلت على «لا» النافية فأدغمت فيها ، فإنه قال : «أو تكون «أو» بمعنى «إلّا إن» ، وهي التي عبّر عنها ابن عطيّة بتلك العبارة من تقديرها بشرط ـ محذوف فعله ـ وجزاء». انتهى ، وفيه نظر من وجهين :

أحدهما : أنه لم يقل بذلك أحد ، أعني كون «أو» بمعنى الشرط.

والثاني : أنه بعد أن حكم عليها بأنها بمعنى «إلّا إن» جعلها بمعنى شرط حذف فعله.

و «أن تردّ» في محلّ نصب على المفعول به ، أي : أو يخافوا ردّ أيمانهم. و (بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) : إمّا ظرف ل «تردّ» ، أو متعلّق بمحذوف ؛ على أنها صفة ل «أيمان» ، وجمع الضمير في قوله «يأتوا» وما بعده ، وإن كان عائدا في المعنى على مثنى ، وهو الشاهدان ، فقيل : هو عائد على صنفي الشاهدين ، وقيل : بل عائد على الشهود من الناس كلّهم ، معناه : ذلك أولى وأجدر أن يحذر الناس الخيانة ، فيتحرّوا في شهادتهم ؛ خوف الشناعة عليهم والفضيحة في ردّ اليمين على المدّعي ، وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) لم يذكر متعلّق التقوى : إمّا للعلم به ، أي : واتقوا الله في شهادتكم وفي الموصين عليهم بأن لا تختلسوا لهم شيئا ؛ لأن القصّة كانت بهذا السّبب ، وإمّا قصدا لإيقاع التقوى ، فيتناول كلّ ما يتّقى منه ، وكذا مفعول «اسمعوا» إن شئت حذفته اقتصارا أو اختصارا ، أي : اسمعوا أوامره من نواهيه من الأحكام المتقدّمة ، وما أفصح ما جيء بهاتين الجملتين الأمريتين ، فتبارك الله أصدق القائلين.

قوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)(١٠٩)

اعلم : أنّ عادة الله تعالى في هذا الكتاب الكريم ، أنّه إذا ذكر أنواعا من الشّرائع والتّكاليف والأحكام ، أتبعها إمّا بالإلهيّات ، وإمّا بشرح أحوال الأنبياء ، وإمّا بشرح أحوال

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٥١.

٥٨٨

القيامة ، ليصير ذلك مؤكدا لما ذكره من التّكاليف والشّرائع ، فلا جرم ذكر هنا بعد ما تقدّم من الشّرائع أحوال القيامة ، ثمّ ذكر أحوال عيسى ـ عليه‌السلام ـ.

فأمّا أحوال القيامة ، فهو قوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) : في نصب «يوم» أحد عشر وجها :

أحدها : أنه منصوب ب «اتّقوا» ، أي : اتّقوا الله في يوم جمعه الرّسل ، قاله الحوفيّ ، وهذا ينبغي ألّا يجوز ؛ لأنّ أمرهم بالتقوى في يوم القيامة لا يكون ؛ إذ ليس بيوم تكليف وابتلاء ، ولذلك قال الواحديّ : ولم ينصب اليوم على الظرف للاتّقاء ؛ لأنّهم لم يؤمروا بالتقوى في ذلك اليوم ، ولكن على المفعول به ؛ كقوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً) [البقرة : ٤٨].

الثاني : أنه منصوب ب «اتّقوا» مضمرا يدلّ عليه (وَاتَّقُوا اللهَ) ، قال الزّجّاج (١) : «وهو محمول على قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) ، ثم قال : (يَوْمَ يَجْمَعُ) ، أي : واتقوا ذلك اليوم» ، فدلّ ذكر الاتقاء في الأوّل على الاتقاء في هذه الآية ، ولا يكون منصوبا على الظّرف للاتقاء ؛ لأنهم لم يؤمروا بالاتقاء في ذلك اليوم ، ولكن على المفعول به ؛ كقوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) [البقرة : ٤٨].

الثالث : أنه منصوب بإضمار «اذكروا».

الرابع : بإضمار «احذروا».

الخامس : أنه بدل اشتمال من الجلالة ، قال الزمخشريّ (٢) : (يَوْمَ يَجْمَعُ) بدل من المنصوب في (وَاتَّقُوا اللهَ) ، وهو من بدل الاشتمال ، كأنه قيل : «واتقوا الله يوم جمعه». انتهى ، ولا بد من حذف مضاف على هذا الوجه ؛ حتى تصحّ له هذه العبارة التي ظاهرها ليس بجيد ؛ لأنّ الاشتمال لا يوصف به الباري تعالى على أيّ مذهب فسّرناه من مذاهب النحويين في الاشتمال ، والتقدير : واتقوا ـ عقاب الله ـ يوم يجمع رسله ، فإنّ العقاب مشتمل على زمانه ، أو زمانه مشتمل عليه ، أو عاملهما مشتمل عليهما على حسب الخلاف في تفسير البدل الاشتماليّ ، فقد تبيّن لك امتناع هذه العبارات بالنسبة إلى الجلالة الشريفة ، واستبعد أبو حيان هذا الوجه بطول الفصل بجملتين ، ولا بعد ؛ فإنّ هاتين الجملتين من تمام معنى الجملة الأولى.

السادس : أنه منصوب ب (لا يَهْدِي) قاله الزمخشريّ (٣) وأبو البقاء (٤) ؛ قال الزمخشريّ (٥) : «أي : لا يهديهم طريق الجنّة يومئذ كما يفعل بغيرهم» ، وقال أبو البقاء :

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٢٤٠.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٦٨٩.

(٣) ينظر : الكشاف ١ / ٦٩٠.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣١.

(٥) ينظر : الكشاف ١ / ٦٩٠.

٥٨٩

«أي : لا يهديهم في ذلك اليوم إلى حجّة ، أو إلى طريق الجنّة».

السابع : أنه مفعول به ، وناصبه «اسمعوا» ، ولا بد من حذف مضاف حينئذ ؛ لأنّ الزمان لا يسمع ، فقدّره أبو البقاء (١) : «واسمعوا خبر يوم يجمع» ، ولم يذكر أبو البقاء غير هذين الوجهين ، وبدأ بأولهما ، وفي نصبه ب «لا يهدي» نظر ؛ من حيث إنه لا يهديهم مطلقا ، لا في ذلك اليوم ولا في الدنيا ، أعني المحكوم عليهم بالفسق ، وفي تقدير الزمخشريّ «لا يهديهم إلى طريق الجنة» نحوّ إلى مذهبه من أنّ نفي الهداية المطلقة لا يجوز على الله تعالى ؛ ولذلك خصّص المهدى إليه ، ولم يذكر غيره ، والذي سهّل ذلك عنده أيضا كونه في يوم لا تكليف فيه ، وأما في دار التكليف فلا يجيز المعتزليّ أن ينسب إلى الله تعالى نفي الهداية مطلقا ألبتة.

الثامن : أنه منصوب ب «اسمعوا» قاله الحوفيّ ، وفيه نظر ؛ لأنهم ليسوا مكلّفين بالسّماع في ذلك اليوم ؛ إذ المراد بالسماع السماع التكليفيّ.

التاسع : أنه منصوب بإضمار فعل متأخّر ، أي : يوم يجمع الله الرسل كان كيت وكيت ، قاله الزمخشريّ (٢).

العاشر : قال شهاب الدين (٣) : يجوز أن تكون المسألة من باب الإعمال ؛ فإنّ كلّا من هذه العوامل الثلاثة المتقدّمة يصحّ تسلّطه عليه ؛ بدليل أنّ العلماء جوّزوا فيه ذلك ، وتكون المسألة ممّا تنازع فيها ثلاثة عوامل ، وهي «اتّقوا» ، و «اسمعوا» ، و «لا يهدي» ، ويكون من إعمال الأخير ؛ لأنه قد حذف من الأوّلين ولا مانع يمنع من الصناعة ، وأمّا المعنى فقد قدّمت أنه لا يظهر نصب «يوم» بشيء [من الثلاثة] ؛ لأنّ المعنى يأباه ، وإنما أجزت ذلك ؛ جريا على ما قالوه وجوّزوه ، وكذا الحوفيّ جوّز أن ينتصب ب «اتّقوا» وب «اسمعوا» أو ب «لا يهدي» ، وكذا الحوفيّ جوّز أن ينتصب ب «اتّقوا» وب «اسمعوا».

الحادي عشر : أنه منصوب ب (قالُوا : لا عِلْمَ لَنا) أي : قال الرسل يوم جمعهم ، وقول الله لهم ماذا أجبتم ، واختاره أبو حيان (٤) على جميع ما تقدّم ، قال : وهو نظير ما قلناه في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ) [البقرة : ٣٠] ، وهو وجه حسن.

قوله : (ما ذا أُجِبْتُمْ) فيه أربعة أقوال :

أحدها : أنّ «ماذا» بمنزلة اسم واحد ، فغلب فيه جانب الاستفهام ، ومحلّه النصب على المصدر بما بعده ، والتقدير : أيّ إجابة أجبتم [قال الزمخشريّ (٥) : (ما ذا أُجِبْتُمْ)

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣١.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٦٩٠.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٤١.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٥٢.

(٥) ينظر : الكشاف ١ / ٦٩٠.

٥٩٠

منتصب انتصاب مصدره على معنى : أيّ إجابة أجبتم] ، ولو أريد الجواب ، لقيل : بماذا أجبتم» ، أي : لو أريد الكلام المجاب ، لقيل : بماذا ، ومن مجيء «ماذا» كلّه مصدرا قوله : [البسيط]

٢٠٧٥ ـ ماذا يغير ابنتي ربع عويلهما

لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا (١)

الثاني : أن «ما» استفهامية في محلّ رفع بالابتداء ، و «ذا» خبره ، وهي موصولة بمعنى «الّذي» ؛ لاستكمال الشرطين المذكورين ، و «أجبتم» صلتها ، والعائد محذوف ، أي : ما الّذي أجبتم به ، فحذف العائد ، قاله الحوفيّ ، وهذا لا يجوز ؛ لأنه لا يجوز حذف العائد المجرور ، إلا إذا جرّ الموصول بحرف مثل ذلك الحرف الجارّ للعائد ، وأن يتّحد متعلّقاهما ؛ نحو : «مررت بالّذي مررت» ، أي : به ، وهذا الموصول غير مجرور ، لو قلت : «رأيت الذي مررت» ، أي : مررت به ، لم يجز ، اللهم إلا أن يدّعى حذفه على التدريج بأن يحذف حرف الجرّ ، فيصل الفعل إلى الضمير ، فيحذف ؛ كقوله : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : ٦٩] ، أي : في أحد أوجهه ، وقوله : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [الحجر : ٩٤] في أحد وجهيه ، وعلى الجملة فهو ضعيف.

الثالث : أنّ «ما» مجرورة بحرف جرّ مقدّر ، لمّا حذف بقيت في محلّ نصب ، ذكره أبو البقاء (٢) وضعّف الوجه الذي قبله ـ أي كون ذا موصولة ـ فإنه قال : «ماذا في موضع نصب ب «أجبتم» ، وحرف الجرّ محذوف ، و «ما» و «ذا» هنا بمنزلة اسم واحد ، ويضعف أن تجعل «ما» بمعنى «الّذي» ؛ لأنه لا عائد هنا ، وحذف العائد مع حرف الجرّ ضعيف». قال شهاب الدين (٣) أمّا جعله حذف العائد المجرور ضعيفا ، فصحيح تقدّم شرحه والتنبيه عليه ، وأمّا حذف حرف الجر وانتصاب مجروره ، فهو ضعيف أيضا ، لا يجوز إلّا في ضرورة ؛ كقوله : [الطويل]

٢٠٧٦ ـ فبتّ كأنّ العائدات فرشنني

 ................. (٤)

وقوله : [الطويل]

٢٠٧٧ ـ ................

وأخفي الّذي لو لا الأسى لقضاني (٥)

__________________

(١) البيت لعبد مناف بن ربع.

ينظر : ديوان الهذليين ٢ / ٣٨ ، لسان العرب (عبد) ، شرح أشعار الهذليين ٢ / ٦٧١ ، البحر المحيط ٤ / ٥٢ ، التهذيب (غار) ٨ / ١٨٢ الدر المصون ٢ / ٦٤١.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣١.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٤٢.

(٤) البيت للنابغة ، وهو في ديوانه ص (١٧) ، تهذيب اللغة ٦ / ١٢٤. (هرس) لسان العرب (هرس) ، الدر المصون ٢ / ٦٤٢.

(٥) عجز بيت لعروة بن حزام العذري وصدره :

تحن فتبدي ما بها من صبابة

٥٩١

وقوله : [الوافر]

٢٠٧٨ ـ تمرّون الدّيار ولم تعوجوا

 ................. (١)

وقد تقدّم تحقيق ذلك ، واستثناء المطّرد منه ، فقد فرّ من ضعيف ، ووقع في أضعف منه.

الرابع : قال ابن عطيّة (٢) ـ رحمه‌الله ـ : «معناه : ماذا أجابت به الأمم» ، فجعل «ماذا» كناية عن المجاب به ، لا المصدر ، وبعد ذلك ، فهذا الكلام منه محتمل أن يكون مثل ما تقدّم حكايته عن الحوفيّ في جعله «ما» مبتدأ استفهامية ، و «ذا» خبره ؛ على أنها موصولة ، وقد تقدّم التنبيه على ضعفه ، ويحتمل أن يكون «ماذا» كلّه بمنزلة اسم استفهام في محلّ رفع بالابتداء ، و «أجبتم» خبره ، والعائد محذوف ؛ كما قدّره هو ، وهو أيضا ضعيف ؛ لأنه لا يحذف عائد المبتدأ ، وهو مجرور إلا في مواضع ليس هذا منها ، لو قلت : «زيد مررت» لم يجز ، وإذا تبيّن ضعف هذه الأوجه ، رجّح الأول.

والجمهور على «أجبتم» مبنيّا للمفعول ، وفي حذف الفاعل هنا ما لا يبلغ كنهه من الفصاحة والبلاغة ؛ حيث اقتصر على خطاب رسله غير مذكور معهم غيرهم ؛ رفعا من شأنهم وتشريفا واختصاصا ، وقرأ ابن عبّاس وأبو حيوة (٣) «أجبتم» مبنيّا للفاعل ، والمفعول محذوف ، أي : ماذا أجبتم أممكم حين كذّبوكم وآذوكم ، وفيه توبيخ للأمم ، وليست في البلاغة كالأولى.

فإن قيل : أيّ فائدة في هذا السّؤال ، فالجواب : توبيخ قولهم كقوله : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) [التكوير : ٨ ، ٩] ، المقصود منه توبيخ من فعل ذلك الفعل.

وقوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ، كقوله : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) في البقرة [٣٢]. والجمهور على رفع «علّام الغيوب» ، وقرىء (٤) بنصبه ، وفيه أوجه ذكرها الزمخشريّ وهي : الاختصاص ، والنداء ، وصفة لاسم «إنّ» ؛ قال : «وقرىء بالنصب على أنّ الكلام قد تمّ عند قوله «إنّك أنت» ، أي : إنّك الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره ، ثم انتصب (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) على الاختصاص ، أو على النداء ، أو هو صفة لاسم «إنّ» ، قال أبو حيان : «وهو على حذف الخبر لفهم المعنى ، فتمّ الكلام بالمقدّر في قوله (إِنَّكَ أَنْتَ) ، أي : إنّك الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره» ، ثم قال : «قال الزمخشريّ : ثم انتصب ، فذكره إلى آخره» فزعم أنّ الزمخشريّ قدّر ل «إنّك» خبرا

__________________

ـ ينظر : شرح الحماسة ١ / ٣٤٤ ، المغني ١ / ١٤٢ ، شرح الكافية الشافية ٢ / ٦٣٥ ، الكامل ١ / ٣٢ ، العيني ٢ / ٥٥٢ ، اللسان (غرض) ، خزانة الأدب ٨ / ١٣٠ ، الدرر ٤ / ١٣٦ ، المقاصد النحوية ٢ / ٥٥٢ ، تخليص الشواهد (٥٠٤) ، شرح شواهد الايضاح ص (١٣٨) ، الدر المصون ٢ / ٦٤٢ ، والبحر المحيط ٢ / ٥٣.

(١) تقدم.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٦.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٧ ، والبحر المحيط ٤ / ٥٤ ، والدر المصون ٢ / ٦٤٢ ، ٦٤٣.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٦٩٠ ، والبحر المحيط ٤ / ٥٤ ، والدر المصون ٢ / ٦٤٣.

٥٩٢

محذوفا ، والزمخشريّ لا يريد ذلك ألبتة ولا يرتضيه ، وإنما يريد أنّ هذا الضمير بكونه لله تعالى هو الدالّ على تلك الصفات المذكورة ، لا انفكاك لها عنه ، وهذا المعنى هو الذي تقتضيه البلاغة ، والذي غاص [عليه] الزمخشريّ ـ رحمه‌الله ـ لا ما قدّره أبو حيان موهما أنه أتى به من عنده ، ويعني بالاختصاص النّصب على المدح ، لا الاختصاص الذي هو شبيه بالنداء ؛ فإنّ شرطه أن يكون حشوا ، ولكنّ أبا حيّان قد ردّ على أبي القاسم قوله «إنه يجوز أن يكون صفة لاسم إنّ» بأنّ اسمها هنا ضمير مخاطب ، والضمير لا يوصف مطلقا عند البصريّين ، ولا يوصف منه عند الكسائيّ إلا ضمير الغائب ؛ لإبهامه في قولهم «مررت به المسكين» ، مع إمكان تأويله بالبدل ، وهو ردّ واضح ، على أنه يمكن أن يقال : أراد بالصفة البدل ، وهي عبارة سيبويه ، [يطلق الصفة ويريد البدل (١) ، فله أسوة بإمامه ، واللازم مشترك ، فما كان جوابا عن سيبويه] ، كان جوابا له ، لكن يبقى فيه البدل بالمشتقّ ، وهو أسهل من الأول ، ولم أرهم خرّجوها على لغة من ينصب الجزأين ب «إنّ» وأخواتها ؛ كقوله في ذلك : [الرجز]

٢٠٧٩ ـ إنّ العجوز خبّة جروزا (٢)

وقوله : [الطويل]

٢٠٨٠ ـ ................

 ... إنّ حرّاسنا أسدا(٣)

وقوله : [الكامل]

٢٠٨١ ـ ليت الشّباب هو الرّجيع على الفتى

 ................. (٤)

وقول الآخر : [الرجز]

٢٠٨٢ ـ كأنّ أذنيه إذا تشوّفا

قادمة أو قلما محرّفا (٥)

ولو قيل به لكان صوابا.

__________________

(١) ينظر : الكتاب ١ / ٣٩٥.

(٢) ينظر : الهمع ١ / ١٣٤ ، الدرر ١ / ١١٢ ، النوادر ١٧٢ ، الدر المصون ٢ / ٦٤٣.

(٣) جزء بيت وهو لعمر بن أبي ربيعة ينظر الجنى الداني ص (٣٩٤) ، الدرر ٢ / ١٦٧ ، شرح شواهد المغني ص (١٢٢) ، خزانة الأدب ٤ / ١٦٧ ، ١٠ / ٢٤٢ ، شرح الأشموني ١ / ١٣٥ ، مغني اللبيب ص (٣٧) ، الهمع ١ / ١٣٤ ، الدر المصون ٢ / ٦٤٣.

(٤) صدر بيت وعجزه :

والشيب كان هو البديء الأول

ينظر : الجنى الداني ص (٤٩٣) ، ومعاني القرآن للفراء ٢ / ٣٥٢ ، الدر المصون ٢ / ٦٤٣.

(٥) البيت لمحمد بن ذؤيب.

ينظر : خزانة الأدب ١٠ / ٢٣٧ ، الدرر ٢ / ١٦٨ ، سمط اللآلي ص (٨٧٦) ، شرح شواهد المغني ص (٥١٥) ، تخليص الشواهد ص (١٧٣) ، الخصائص ٢ / ٤٣٠ ، ديوان المعاني ١ / ٣٦ ، شرح الأشموني ١ / ١٣٥ ، مغني اللبيب ١ / ١٩٣ ، همع الهوامع ١ / ١٣٤ ، الدر المصون ٢ / ٦٤٤.

٥٩٣

و «علّام» مثال مبالغة ، فهو ناصب لما بعده تقديرا ، وبهذا أيضا يردّ على الزمخشريّ على تقدير تسليم صحّة وصف الضمير من حيث إنه نكرة ؛ لأن إضافته غير محضة وموصوفه معرفة. والجمهور على ضمّ العين من «الغيوب» وهو الأصل ، وقرأ (١) حمزة وأبو بكر بكسرها ، والخلاف جار في ألفاظ أخر نحو : «البيوت والجيوب والعيون والشّيوخ» وقد تقدّم تحرير هذا كله في البقرة عند ذكر (الْبُيُوتَ) [البقرة : ١٨٩] ، وستأتي كلّ لفظة من هذه الألفاظ معزوّة لقارئها في سورها ـ إن شاء الله تعالى ـ وجمع الغيب هنا ، وإن كان مصدرا لاختلاف أنواعه ، وإن أريد به الشيء الغائب ، أو قلنا : إنه مخفّف من فيعل ؛ كما تقدم تحقيقه في البقرة [الآية ٣] ، فواضح.

فصل في معنى الآية

معنى الآية الكريمة : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) ، وهو يوم القيامة (فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) أممكم ، وما الذي ردّ عليكم قومكم حين دعوتموهم إلى توحيدي وطاعتي؟ فيقولون : (لا عِلْمَ لَنا) بوجه من الحكمة عن سؤالك إيّانا عن أمر أنت أعلم به منّا.

قال ابن جريج (٢) ـ رحمه‌الله ـ : «لا علم لنا بعاقبة أمرهم ، وبما أحدثوا من بعد يدلّ عليه قولهم : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي : أنت الذي تعلم ما غاب ، ونحن لا نعلم ما غاب إلّا ما نشاهد.

فإن قيل : ظاهر قولهم : (لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) يدلّ على أنّ الأنبياء لا يشهدون لأممهم ، والجمع بين هذا وبين قوله تعالى (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] مشكل ، وأيضا قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣] ، فإذا كانت أمّتنا تشهد لسائر الأمم ، فالأنبياء أولى بأن يشهدوا لأممهم.

فالجواب من وجوه :

أحدها : قال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والسدّيّ : إنّ القيامة زلازل وأهوال ، بحيث تزول القلوب عن مواضعها عند مشاهدتها ، والأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ عند مشاهدة تلك الأهوال ينسون أكثر الأمور ، فهنالك يقولون : لا علم لنا ، فإن عادت قلوبهم إليهم ، فعند ذلك يشهدون للأمم (٣).

قال ابن الخطيب (٤) : وهذا الجواب وإن ذهب إليه جمع عظيم من الأكابر فهو

__________________

(١) ينظر : السبعة ١٧٨. ١٧٩ ، والحجة ٢ / ٢٨٠. ٢٨٢ ، والعنوان ٧٣ ، وحجة القراءات ١٢٧ ، وشرح شعلة ٢٨٦ ، ٣٥٥ ، وشرح الطيبة ٤ / ٩٣ ، وإتحاف ١ / ٥٣٢.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٧٦.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ٢ / ١٠٧.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٠٢.

٥٩٤

عندي ضعيف ؛ لأنه تبارك وتعالى قال في صفة أهل الثّواب : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء : ١٠٣] ، وقال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) [عبس : ٣٨ ، ٣٩] ، بل إنّه تبارك وتعالى قال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ٦٢] ، فكيف يكون حال الأنبياء والرّسل أقلّ من ذلك ، ومعلوم أنّهم لو خافوا لكانوا أقلّ من منزلة هؤلاء الّذين أخبر الله عنهم أنّهم لا يخافون ألبتّة.

وثانيها : أنّ المراد منه المبالغة في تحقيق فضيحتهم ، كمن يقول لغيره : ما تقول في فلان؟ فيقول : أنت أعلم به منّي ، كأنّه قيل : لا يحتاج فيه إلى الشّهادة لظهوره ، وهذا أيضا ليس بقويّ ؛ لأنّ السّؤال إنّما وقع على كلّ الأمّة ، وكلّ الأمّة ما كانوا كافرين حتّى يريد الرّسول بالنفي تبكيتهم وفضيحتهم.

وثالثها : وهو الأصحّ ، وهو اختيار ابن عبّاس : أنّهم إنّما قالوا : لا علم لنا ؛ لأنّك تعلم ما أظهروا وما أضمروا ، ونحن لا نعلم إلّا ما أظهروا ، فعلمك فيهم أقوى من علمنا ؛ فلهذا المعنى نفوا العلم عن أنفسهم ؛ لأنّ علمهم عند الله تعالى كلا علم ، وهذا يروى عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ورابعها : ما تقدّم أنّ قولهم : لا علم لنا إلا أنّا علمنا جوابهم لنا وقت حياتنا ، ولا نعلم ما كان منهم بعد وفاتنا.

وخامسها : قال ابن الخطيب (١) : ثبت في علم الأصول أنّ العلم غير ، والظّنّ غير ، فالحاصل أنّ عند كلّ أحد من حال الغير إنّما هو الظّنّ لا العلم ، وكذلك قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إنّكم تختصمون إليّ ، ولعلّ بعضكم ألحن بحجّته ، فمن حكمت له بغير حقّه فكأنّما قطعت له قطعة من النّار» ، والأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ قالوا : لا علم لنا ألبتّة بأحوالهم ، إنّما الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظّنّ ، والظّنّ كان معتبرا في الدّنيا لا في الآخرة ، لأنّ الأحكام في الآخرة مبنيّة على حقائق الأشياء وبواطن الأمور ، فلهذا السّبب قالوا : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) ولم يذكروا ألبتّة ما عندهم من الظّنّ ؛ لأنّ الظّنّ لا عبرة به في القيامة.

وسادسها : أنهم لمّا علموا أنّه تعالى عالم لا يجهل ، حكيم لا يسفه ، عادل لا يظلم ، علموا أنّ قولهم لا يفيد خيرا ولا يدفع شرا ، فرأوا أنّ الأدب في السكوت ، وفي تفويض الأمر إلى (٢) العدل الحي الذي لا يموت.

وسابعها : معناه : لا علم لنا إلّا ما علّمتنا فحذف ، وهذا مرويّ عن ابن عبّاس ، ومجاهد.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ١٠٣.

(٢) في أ : إلى أنى.

٥٩٥

فصل

دلّت الآية الكريمة على جواز إطلاق لفظ العلّام عليه ، كما جاز إطلاق لفظ الخلّاق عليه ، وأمّا العلّامة بالتاء فإنهم أجمعوا على أنّه لا يجوز إطلاقها في حقّه ، ولعلّ السّبب ما فيه من لفظ التّأنيث.

قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ)(١١٠)

قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ) فيها أوجه :

أحدها : أنه بدل من (يَوْمَ يَجْمَعُ) قال الزمخشريّ (١) : «والمعنى : أنه يوبّخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم ، وبتعديد ما أظهر على أيديهم من الآيات العظام ، فكذّبهم بعضهم وسمّوهم سحرة ، وتجاوز بعضهم الحدّ ، فجعله وأمّه إلهين» ، ولمّا ذكر أبو البقاء (٢) هذا الوجه ، تأوّل فيه «قال» ب «يقول» ، وأنّ «إذ» ، وإن كانت للماضي ، فإنما وقعت هنا [على] حكاية الحال.

يقول الرّجل لصاحبه : «كأنّك بنا وقد دخلنا بلدة كذا ، وصنعنا فيه كذا» ، قال ـ تبارك وتعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) [سبأ : ٥١] ، وقال غيره : معناه الدّلالة على قرب القيامة كأنّها قد قامت ، وكلّ ما هو آت آت ، كما يقال : الجيش قد أتى ، إذا قرب إتيانهم قال ـ تبارك وتعالى ـ : (أَتى أَمْرُ اللهِ).

الثاني : أنه منصوب ب «اذكر» مقدّرا ، قال أبو البقاء (٣) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : «ويجوز أن يكون التقدير : اذكر إذ يقول» ، يعني أنه لا بد من تأويل الماضي بالمستقبل ، وهذا كما تقرّر له في الوجه قبله ، وكذا ابن عطيّة تأوّله ب «يقول» ؛ فإنه قال : «تقديره : اذكر يا محمّد إذ» ، و «قال» هنا بمعنى «يقول» ؛ لأنّ ظاهر هذا القول ، إنما هو في يوم القيامة ؛ لقوله بعده (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ).

الثالث : أنه في محلّ رفع خبرا لمبتدأ مضمر ، أي : ذلك إذ قال ، ذكره الواحديّ ، وهذا ضعيف ؛ لأن «إذ» لا يتصرّف فيها ، وكذلك القول بأنها مفعول بها بإضمار «اذكر» ، وقد تقدّم تحقيق ذلك ، اللهم إلا أن يريد الواحديّ بكونه خبرا ؛ أنه ظرف قائم مقام خبر ، نحو : زيد عندك» فيجوز.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٩٠.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣١.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣١.

٥٩٦

قوله : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) تقدّم الكلام في اشتقاق هذه المفردات ومعانيها ، و (ابْنَ مَرْيَمَ) صفة ل «عيسى» نصب ؛ لأنه مضاف ، وهذه قاعدة كلية مفيدة ، وذلك أنّ المنادى المفرد المعرفة الظاهر الضّمّة ، إذا وصف ب «ابن» أو «ابنة» ، ووقع الابن أو الابنة بين علمين أو اسمين متفقين في اللفظ ، ولم يفصل بين الابن وبين موصوفه بشيء ، تثبت له أحكام منها : أنه يجوز إتباع المنادى المضموم لحركة نون «ابن» ؛ فيفتح ؛ نحو : «يا زيد ابن عمرو ، ويا هند ابنة بكر» بفتح الدال من «زيد» و «هند» وضمّها ، فلو كانت الضمة مقدّرة نحو ما نحن فيه ، فإنّ الضمة مقدّرة على ألف «عيسى» فهل يقدّر بناؤه على الفتح إتباعا كما في الضمّة الظاهرة؟ فيه خلاف : الجمهور على عدم جوازه ؛ إذ لا فائدة في ذلك ، فإنه إنما كان للإتباع ، وهذا المعنى مفقود في الضمّة المقدرة ، وأجاز الفراء (١) ذلك ؛ إجراء للمقدّر مجرى الظاهر ، وتبعه أبو البقاء (٢) ؛ فإنه قال : «يجوز أن يكون على الألف من «عيسى» فتحة ؛ لأنه قد وصف ب «ابن» وهو بين علمين ، وأن يكون عليها ضمّة ، وهو مثل قولك : «يا زيد بن عمرو» بفتح الدال وضمّها» ، وهذا الذي قالاه غير بعيد ، ويشهد له مسألة عند الجميع : وهو ما إذا كان المنادى مبنيّا على الكسر مثلا ؛ نحو : «يا هؤلاء» ، فإنهم أجازوا في صفته الوجهين : الرفع والنصب ، فيقولون : «يا هؤلاء العقلاء والعقلاء» بنصب العقلاء ورفعها ، قالوا : والرفع مراعاة لتلك الضمة المقدّرة على «هؤلاء» ، فإنه مفرد معرفة ، والنصب على محلّه ، فقد اعتبروا الضمة المقدّرة في الإتباع ، وإن كان ذلك فائتا في اللفظ ، وقد يفرّق بأنّ «هؤلاء» نحن مضطّرون فيه إلى تقدير تلك الحركة ؛ لأنه مفرد معرفة ، فكأنها ملفوظ بها بخلاف تقدير الفتحة هنا.

وقال الواحديّ في «يا عيسى» ويجوز أن [يكون] في محلّ النصب ؛ لأنه في نية الإضافة ، ثم جعل الابن توكيدا له ، وكل ما كان مثل هذا ؛ جاز فيه الوجهان ؛ نحو : «يا زيد بن عمرو» ؛ وأنشد : [الرجز]

٢٠٨٣ ـ يا حكم بن المنذر بن الجارود

أنت الجواد ابن الجواد ابن الجود

سرادق المجد عليك ممدود (٣)

بنصب الأول ورفعه على ما بيّنّا ، وقال التبريزيّ : الأظهر عندي أنّ موضع «عيسى» نصب ؛ لأنك تجعل الاسم مع نعته إذا أضفته إلى العلم كالشيء الواحد المضاف ، وهذا الذي قالاه لا يشبه كلام النحاة أصلا ، بل يقولون : الفتحة للإتباع ، ولم يعتدّ بالساكن ؛ لأنه حاجز غير حصين ، كذا قال أبو حيان. قال شهاب الدين (٤) : الذي قد قاله الزمخشريّ ـ وكونه ليس من النحاة مكابرة في الضّروريّات ـ عند قوله : «إذ قال

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٢٦.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣١.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٤٥.

٥٩٧

الحواريّون : يا عيسى ابن مريم» : «عيسى في محل النصب على إتباع حركته حركة الابن ؛ كقولك : «يا زيد بن عمرو» ، وهي اللغة الفاشية ، ويجوز أن يكون مضموما ؛ كقولك «يا زيد بن عمرو» ، والدليل عليه قوله : [المتقارب]

٢٠٨٤ ـ أحار بن عمرو كأنّي خمر

 ................. (١)

لأنّ الترخيم لا يكون إلا في المضموم». انتهى ، فاحتاج إلى الاعتذار عن تقدير الضمة ، واستشهد لها بالبيت ؛ لمخالفتها اللغة الشهيرة.

وقولنا : «المفرد» تحرّز من المطوّل ، وقولنا «المعرفة» تحرّز من النكرة ؛ نحو : [«يا رجلا ابن رجل» إذا لم تقصد به واحدا بعينه ، وقولنا : «الظاهر الضّمّة» تحرّز من نحو :] «يا موسى بن فلان» ، وكالآية الكريمة ، وقولنا ب «ابن» تحرّز من الوصف بغيره ؛ نحو : «يا زيد صاحبنا» ، وقولنا : «بين علمين أو اسمين متفقين لفظا» تحرّز من نحو : «يا زيد [بن أخينا»] ، وقولنا : «غير مفصول» تحرّز من نحو : «يا زيد العاقل ابن عمرو» ؛ فإنه لا يجوز في جميع ذلك إلا الضّمّ ، وقولنا : [«وصف»] تحرّز من أن يكون الابن خبرا ، لا صفة ؛ نحو : «زيد ابن عمرو» ، وهل يجوز إتباع «ابن» له فيضمّ نحو : «يا زيد بن عمرو» بضم «ابن»؟ فيه خلاف.

وقولنا : «أحكام» ، وقد تقدّم منها ما ذكرناه من جواز فتحه إتباعا ، ومنها : حذف ألفه خطّا ، ومنها : حذف تنوينه في غير النداء ؛ لأنّ المنادى لا تنوين فيه وفي قوله : (ابْنَ مَرْيَمَ) ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه صفة ؛ كما تقدّم ، والثاني : أنه بدل ، والثالث : أنه بيان ؛ وعلى الوجهين الأخيرين : لا يجوز تقدير الفتحة إتباعا ؛ إجماعا ؛ لأنّ الابن لم يقع صفة ، وقد تقدّم أنّ ذلك شرط.

وأراد بالنّعمة : الجمع كقوله : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [النحل : ١٨] ، وإنّما جاز ذلك ؛ لأنّه مضاف يصلح للجنس.

فصل

قال القرطبي (٢) : إنما ذكّر الله ـ تبارك وتعالى ـ عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ

__________________

(١) صدر بيت لامرىء القيس في ديوانه ص (١٥٤) ، وللنمر بن تولب في ملحق ديوانه ص (٤٠٤). خزانة الأدب ١ / ٣٧٤ ، الدرر ٥ / ١٧٩ ، لسان العرب (أمر) (خمر) (نفس) ، المقاصد النحوية ١ / ٩٥ ، وينظر : شرح الأشموني ١ / ١٢ ، المقتضب ٤ / ٢٣٤ ، همع الهوامع ٢ / ١٤٣ ، الدر المصون ٢ / ٦٤٦.

وعجزه : ويعدو على المرء ما يأتمر.

ينظر : ما كتبه الشيخ عضيمة في حواشيه على المقتضب في الموضع السابق.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ١٢ / ٢٣٤.

٥٩٨

نعمته عليه وعلى والدته ، وإن كان لهما ذاكرا لأمرين :

أحدهما : ليتلو على الأمم بما خصّصها به من الكرامة ، وميّزها به من علوّ المنزلة.

والثاني : ليؤكّد به حجّته ، ويردّ به جاحده ، وفسّر نعمته عليه بأمور :

أوّلها : قوله تعالى : (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) في «إذ» أربعة أوجه :

أحدها : أنه منصوب ب «نعمتي» ؛ كأنه قيل : اذكر إذ أنعمت عليك وعلى أمّك في وقت تأييدي لك.

والثاني : أنه بدل من «نعمتي» بدل اشتمال ، وكأنه في المعنى يفسّر النعمة.

والثالث : أنه حال من «نعمتي» ، قاله أبو البقاء (١).

والرابع : أن يكون مفعولا به على السّعة ، قاله أبو البقاء (٢) ـ رحمه‌الله تعالى ـ أيضا قال شهاب الدين (٣) : هذا هو الوجه الثاني ـ أعني البدلية ـ ، وقرأ الجمهور «أيّدتّك» بتشديد الياء ، وغيرهم «آيدتّك» وقد تقدّم الكلام على ذلك في سورة البقرة مشبعا ، ومعنى الآية الكريمة أي : قومك بما يجوز من الأيد ، وهو القوّة.

فصل

المراد بروح القدس : جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، والقدس : هو الله تعالى ، كأنّه أضافه إلى نفسه تعظيما ، وقيل : إنّ الأرواح مختلفة بالماهيّة : فمنها طاهرة نورانيّة ، ومنها خبيثة ظلمانيّة ، ومنها : مشرقة ومنها كدرة ، ومنها خيّرة ومنها نذلة ؛ ولهذا قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «الأرواح جنود مجنّدة» (٤) ، فالله تعالى خصّ عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالرّوح الطّاهرة النّورانيّة المشرقة العلويّة الخيّرة ، ولقائل أن يقول : لما دلّت هذه الآية على أنّ تأييد عيسى إنّما حصل من جبريل ، أو بسبب روحه المختصّة ، وهذا يقدح في دلالة المعجزات على صدق الرّسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ، ولم تعرف عصمة الرّسل ـ عليهم‌السلام ـ قبل العلم بعصمة جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيلزم الدّور.

فالجواب : قال ابن الخطيب (٥) : ثبت من أصلنا أنّ الخالق ليس إلّا الله ، وبه يندفع السّؤال.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣١.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٤٦.

(٤) أخرجه البخاري ٦ / ٤٢٦ كتاب الأنبياء : باب الأرواح جنود مجندة (٣٣٣٦) ومسلم ٤ / ٢٠٣١ كتاب البر والصلة : باب الأرواح جنود مجندة (١٥٩ ـ ٢٦٣٨).

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٠٤.

٥٩٩

قوله : (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) معناه : يكلّم النّاس في المهد صبيّا ، وكهلا نبيا.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : أرسله الله وهو ابن ثلاثين فمكث في رسالته ثلاثين شهرا ، ثمّ إنّ الله رفعه إليه (١).

قال المفسّرون : يكلّم النّاس في المهد وكهلا ، في موضع الحال ، والمعنى : يكلّم النّاس طفلا وكهلا من غير أن يتفاوت كلامه في هذين الوقتين ، وهذه خاصّة شريفة لم تحصل لأحد من الأنبياء ، وقد تقدّم الكلام في [الآية ٤٦] آل عمران ، ما فائدة قوله : (فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً).

قوله : (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) قيل : الكتاب : الشّريعة ، وقيل : الخطّ ، وأمّا الكلمة فقيل : هي العلم والفهم ، وذكر التّوراة والإنجيل بعد الكتاب على سبيل التّشريف ، كقوله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب : ٨] ، وقوله : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] ، فإنّما ذكر التّوراة والإنجيل بعد ذكر الكتاب ؛ لأنّ الاطّلاع على أسرار الكتب الإلهيّة لا يحصل إلّا لمن كان ثابتا في أصناف العلوم الشّرعيّة والفعليّة.

فقوله : (التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) : إشارة إلى الأسرار التي لا يطّلع عليها أحد إلّا الأكابر من الأنبياء.

قوله تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي).

قرأ ابن عبّاس (٢) ـ رضي الله عنهما ـ : «فتنفخها» بحذف حرف الجر اتساعا وقرأ الجمهور : «فتكون» بالتاء منقوطة فوق ، وأبو جعفر منقوطة تحت ، أي : فيكون المنفوخ فيه ، والضمير في «فيها» قال ابن عطيّة ـ رحمه‌الله (٣) ـ : «اضطربت فيه أقوال المفسّرين» ؛ قال مكيّ (٤) : «هو في آل عمران [الآية ٤٩] عائد على الطائر ، وفي المائدة عائد على الهيئة» ، قال : «ويصحّ عكس هذا» ، وقال غير مكيّ : «الضمير المذكور عائد على الطّين» ، قال ابن عطية (٥) : «ولا يصحّ عود هذا الضّمير على الطّير ، ولا على الطين ، ولا على الهيئة ؛ لأنّ الطير أو الطائر الذي يجيء الطّين على هيئته ، لا ينفخ فيه ألبتة ، وكذلك لا نفخ في هيئته الخاصّة به ، وكذلك الطين إنّما هو الطين العامّ ، ولا نفخ في ذلك» ، وقال الزمخشريّ رحمه‌الله (٦) : «ولا يرجع الضمير إلى الهيئة المضاف إليها ؛ لأنها ليست من خلقه ، ولا من نفخه في شيء ، وكذلك الضمير في فتكون» ، ثم قال ابن

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٥٥ ، الدر المصون ٢ / ٦٤٦.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٨.

(٤) ينظر : المشكل ١ / ١٤٢ ، ٢٥٣.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٨.

(٦) ينظر : الكشاف ١ / ٦٩١.

٦٠٠